تفسير سورة الحج

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الحج من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

فقال: ﴿يا أيها الناس﴾ أي الذين تقدم أول تلك أنه اقترب لهم حسابهم ﴿اتقوا ربكم﴾ أي احذروا عقاب المحسن إليكم بأنواع الإحسان بأن تجعلوا بينكم وبينه وقاية الطاعات.
1
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما افتتحت سورة الأنبياء بقوله تعالى: ﴿اقترب للناس حسابهم﴾ وكان وارداً في معرض التهديد، وتكرر في مواضع منها كقوله تعالى: ﴿إلينا ترجعون﴾ [الأنبياء: ٣٥] ﴿سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد﴾ [الأنبياء: ٣٧] ﴿لو يعلم الذين كفروا حين يكفون عن وجوههم النار﴾ [الأنبياء: ٣٩] ﴿ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك﴾ [الأنبياء: ٤٦] ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة﴾ [الأنبياء: ٤٧] ﴿وهم من الساعة مشفقون﴾ [الأنبياء: ٤٩] ﴿كل إلينا راجعون﴾ [الأنبياء: ٩٣] ﴿واقترب وعد الحق﴾ [الأنبياء: ٩٧] ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ [الأنبياء: ٩٨] ﴿يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب﴾ [الأنبياء: ١٠٤] إلى ما تخلل هذه الآي من التهديد، وشديد الوعيد، حتى لا تكاد تجد أمثال هذه الآي في الوعيد والإنذار بما في الساعة وما بعدها وما بين يديها في نظائر هذه السورة، وقد ختمت من ذلك بمثل ما به ابتدئت، اتصل بذلك ما يناسبه من الإعلام بهول الساعة وعظيم أمرها، فقال تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم﴾ - إلى قوله: ﴿ولكن عذاب الله شديد﴾ ثم اتبع ببسط الدلالات على البعث الأخير وإقامة البرهان ﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث﴾ الآيات، ثم قال ﴿ذلك بأن الله هو الحق﴾ أي اطرد هذا الحكم العجيب ووضح من تقلبكم من حالة إلى حالة في الأرحام وبعد خروجكم إلى
2
الدنيا وأنتم تعلمون ذلك من أنفسكم، وتشاهدون الأرض على صفة من الهمود والموت إلى حين نزول الماء فنحيي ونخرج أنواع النبات وضروب الثمرات ﴿يسقى بماء واحد ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى﴾ كما أحياكم أولاً وأخرجكم من العدم إلى الوجود وأحيا الأرض بعد موتها وهمودها، كذلك تأتي الساعة من غير ريب ولا شك، ويبعثكم لما وعدكم من حسابكم وجزائكم ﴿فريق في الجنة وفريق في السعير﴾ انتهى.
ولما أمرهم بالتقوى: علل ذلك مرهباً لهم بقوله: ﴿إن زلزلة الساعة﴾ أي التي تقدم التحذير منها في الأنبياء بدأ وختماً وما بين ذلك، أي شدة اضطرابها وتحركها العنيف المزيل للأشياء عن مقارها إزالة عظيمة، بما يحصل فيهما من الأصوات المختلفة، والحركات المزعجة المتصلة، من النفخ في الصور، وبعثرة القبور، وما يتسبب عن ذلك من عجائب المقدور، وقت القيام، واشتداد الزحام، وذلك لأن «زلزل» مضاعف زل - إذا زال عن مقره بسرعة، ضوعف لفظه لتضاعف معناه؛ قال البغوي: الزلزلة والزلزال: شدة الحركة على الحال الهائلة - انتهى. وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول فيه
3
﴿شيء عظيم*﴾ أي لا تحتمل العقول وصفه؛ قال ابن كثير: أي أمر كبير، وخطب جليل وطارق مفظع، وحادث هائل، وكائن عجيب - انتهى.
وهذا للزلزلة نفسها، فكيف بجميع ما يحدث في ذلك اليوم الذي لا بد لكم من الحشر فيه إلى الله ليجازيكم على ما كان منكم، لا ينسى منه نقير ولا قطمير، ولا يخفى قليل ولا كثير، مما تطير له القلوب، ولا تثبت له النفوس، فاعتدوا وجاهدوا أعداءكم من الأهواء والشياطين.
ولما كان المراد بالساعة القيام وما والاه، جعل مظروفاً لذلك اليوم الذي هو من ذلك الوقت إلى افتراق الفريقين إلى داري الإبعاد والإسعاد، والهوان والغفران، فقال تعالى: ﴿يوم ترونها﴾ أي الزلزلة أو كل مرضعة، أضمرها قبل الذكر، تهويلاً للأمر وترويعاً للنفس ﴿تذهل﴾ أي تنسى وتغفل حائرة مدهوشة، وهو العامل في «يوم» ويجوز أن يكون عامله معنى الكلام، أي تستعظمون جداً ذلك اليوم عند المعاينة وإن كنتم الآن تكذبون، ويكون ما بعده استئنافاً ودل بالسور على عموم تأثيره لشدة عظمته فقال: ﴿كل مرضعة﴾
4
أي بالفعل ﴿عما أرضعت﴾ من ولدها وغيره، وهي من ماتت مع أبنها رضيعاً، قال البغوي: يقال: مرضع، بلا هاء - إذا أريد به الصفة مثل حائض وحامل، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء - يعني: فيدل حينئذ أنها ملتبسة به ﴿وتضع كل ذات حمل حملها﴾ أي تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً، وهي من ماتت حاملاً - والله أعلم، فإن كل أحد يقوم على ما مات عليه، قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام - انتهى. ويؤيد أن هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما في الصحيحين وغيرهما: مسلم في الإيمان وهذا لفظه، والبخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رفعه: «يقول الله عز وجل: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك! والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها» الحديث والأحاديث في ذلك كثيرة، ومعارضها
5
ضعيف، والمناسب أيضاً لما في آخر تلك من قوله ﴿فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا﴾ [الأنبياء: ٩٧] وما تبعه أن هذه الزلزلة بعد القيام من القبور ﴿يوم نطوي السماء﴾ [الأنبياء: ١٠٤] ﴿إذا السماء انفطرت﴾ [الانفطار: ١] إلى قوله: ﴿علمت نفس ما قدمت وأخرت﴾ [الانفطار: ٥] ويمكن أن يكون المراد هذا وما قبله لأن يوم الساعة طويل، فنسبة الكل إليها على حد سواء.
ولما كان الناس كلهم يرون الزلزلة، ولا يرى الإنسان السكر - إلا من غيره قال في الزلزلة ﴿ترونها﴾ وقال في ﴿السكر﴾ :﴿وترى الناس سكارى﴾ أي لما هم فيه من الدهش والحيرة والبهت لما شاهدوا من حجاب العز وسلطان الجبروت وسرادق الكبرياء، ثم دل على أن ذلك ليس على حقيقته بقوله، نافياً لما يظن إثباته بالجملة الأولى: ﴿وما هم بسكارى﴾ أي من الخمر.
ولما نفى أن يكونوا سكارى من الخمر، أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة فقال: ﴿ولكن عذاب الله﴾ ذي العز والجبروت ﴿شديد*﴾ فهو الذي وجب أن يظن بهم السكر، لأنه أذهب خوفه حولهم، وطير هوله عقولهم.
ولما أفهم العطف الآتي أن الناس قسمان، وأن التقدير: فإن
6
منكم من يؤمن فبتقي فينجو من شر ذلك اليوم الذي اقتضت الحكمة إظهار العظمة فيه ليزداد حزب الله فرحاً، وحزب الشيطان غماً وترحاً، عطف عليه قوله: ﴿ومن الناس﴾ أي المذبذبين المضطربين ﴿من﴾ لا يسعى في إعلاء نفسه وتهذيبهاً فيكذب فيوبق بسوء أعماله، لأنه ﴿يجادل في الله﴾ أي في قدرة الملك الأعظم على ذلك اليوم وفي غير ذلك من شؤونه بعد أن جاءه العلم بها اجتراء على سلطانه العظيم ﴿بغير علم﴾ بل بالباطل الذي هو جهل صرف، فيترك اتباع الهداة النصحاء ﴿ويتبع﴾ بغاية جهده في جداله ﴿كل شيطان﴾ أي محترق بالشر مبعد باللعن.
ولما كان السياق لذم متبعه، أشار إلى أنه لا قصد له في اتباعه إلا الشر، لأنه لا لبس في أمره بصيغة المبالغة كما مضى في النساء ويأتي في الصافات، فقال: ﴿مريد*﴾ أي متجرد للفساد لا شغل له غيره، فهو في غاية الضراوة عليه، قال البيضاوي: وأصله العرى ﴿كتب﴾ أي قضى وقدر على سبيل الحتم الذي لا بد منه، تعبير باللازم عن الملزوم ﴿عليه﴾ أي على ذلك الشيطان
7
﴿أنه من تولاه﴾ أي فعل معه فعل الولي مع وليه، باتباعه والإقبال على ما يزينه ﴿فأنه يضله﴾ بما يبغض إليه من الطاعات فيخطىء سبيل الخير.
ولما نفّر عن توليه بإضلاله لأن الضلال مكروه إلى كل أحد، بين أنه إضلال لا هدى معه أصلاً فقال: ﴿ويهديه﴾ أي بما يزين له من الشهوات، الحاملة على الزلات، إعلاماً بأنه إن كان له هدى إلى شيء فهو ﴿إلى عذاب السعير*﴾. ولما حذر الناس من ذلك اليوم، وأخبر أن منهم من يكذب، وعرف بمآله، فأفهم ذلك أن منهم من يصدق به فيكون له ضد حاله، وكان كثير من المصدقين يعملون عمل المكذبين، أقبل عليهم سبحانه إقبالاً ثانياً رحمة لهم، منبهاً على أنه ينبغي أن لا يكون عندهم نوع من الشك في ذلك اليوم لما عليه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، فقال دالاً عليه بالأمرين: ﴿يا أيها الناس﴾ أي كافة، ويجوز أن يراد المنكر فقط، وعبر بالناس الذي هو من أسفل الأوصاف لذلك، وإشارة إلى أن المنكر والعامل عمله - وإن كان مصدقاً - هم أكثر الناس، وعبر بأداة الشك إشارة إلى أن الذي يقتضيه الحال جزمهم به فقال: ﴿إن﴾ وبين أنه ما
8
عبر به إلا للتوبيخ، لا للشك في أمرهم، بجعل الشرط ماضياً، ودل ب «كان» وبالظرف على ما تمكن الريب منهم فقال: ﴿كنتم في ريب﴾ أي شك وتهمة وحاجة إلى البيان ﴿من البعث﴾ وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتها سواء، استعظاماً لأن نقدر عليه ﴿فإنا خلقناكم﴾ بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء ﴿من تراب﴾ لم يسبق له اتصاف بالحياة ﴿ثم من نطفة﴾ حالها أبعد شيء عن حال التراب، فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال
﴿من ماء دافق﴾ [الطارق: ٦] وأصلها الماء القليل - قاله البغوي. وأصل النطف الصب - قاله البيضاوي. ﴿ثم من علقة﴾ أي قطعة دم حمراء جامدة، ليس فيها أهلية للسيلان ﴿ثم من مضغة﴾ أي قطعة لحم صغيرة جداً تطورت إليها النطفة ﴿مخلقة﴾ بخلقة الآدمي التمام ﴿وغير مخلقة﴾ أي أنشأناكم من تراب يكون هذا شأنه، وهو أنا ننقله في هذه الأطوار إلى أن يصير مضغة، فتارة يخلقها ويكون منها آدمياً، وتارة لا يخلقها بل يخرجها من الرحم فاسدة، أو تحرقها حرارته، أو غير مخلقة تخليقاً تاماً بل ناقصاً مع وجود الروح كشق الذي كان شق آدمي، وسطيح الذي كان علواً بلا سفل ونحوهما ﴿لنبين لكم﴾ كمال قدرتنا، وتمام حكمتنا، وأن
9
ذلك ليس كائناً عن الطبيعة، لأنه لو كان عنها لم يختلف، فدل اختلافه على أنه عن فاعل مختار، قادر قهار، وحذف المفعول إشارة إلى أنه يدخل فيه كل ما يمكن أن يحيط به العقول.
ولما كان التقدير: فنجهض منه ما لا نشاء إتمامه، عطف عليه قوله: ﴿ونقر في الأرحام﴾ أي من ذلك الذي خلقناه ﴿ما نشاء﴾ إتمامه ﴿إلى أجل مسمى﴾ قدرناه لإتمامه ما بين ستة أشهر إلى ما نريد من الزيادة على ذلك، بحسب قوة الأرحام وضعفها، وقوة المخلقات وضعفها وكثرة ما تغتذيه من الدماء وقلته، وزكائه وخبثه، إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا بارئها، جلت قدرته، وتعالت عظمته، وأما ما لم نشأ إتمامه فإن الأرحام تمجه بقدرتنا وتلقيه دون التمام أو تحرقه فيضمحل ﴿ثم نخرجكم﴾ بعد ذلك ﴿طفلاً﴾ أي في حال الطفولة من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر وجميع الحواس، لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم، وعظم أجسامكم، وهو يقع على جميع، وعبر به دونه للتساوي في ضعف الظاهر والباطن.
ولما ذكر أضعف الضعف ذكر أقوى القوة عاطفاً له
10
عليه لما بينهما من المهلة بأداة التراخي فقال: ﴿ثم﴾ أي نمد أجلكم ﴿لتبلغوا﴾ بالانتقال في أسنان الأجسام فيما بين الرضاع، إلى حال اليفاع، إلى زمان الاحتلام، وقوة الشباب والتمام ﴿أشدكم﴾ أي نهاية كل شدة قدرناها لكل واحد منكم ﴿ومنكم من يتوفى﴾ قبل ما بعد ذلك من سن الشيخوخة ﴿ومنكم من يرد﴾ بالشيخوخة، وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه مع استبعاده لولا تكرر المشاهدة عند الناظر لتلك القوة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط ﴿إلى أرذل العمر﴾ وهو سن الهرم فينقص جميع قواه ﴿لكيلا يعلم﴾.
ولما كان السياق للقدرة على البعث الذي هو التحويل من حال الجمادية إلى ضده بغاية السرعة، أثبت «من» الابتدائية للدلالة على قرب زمن الجهل من زمن العلم، فربما بات الإنسان في غاية الاستحضار لما يعلم والحذق فيه فعاد في صبيحة ليلته أو بعد أيام يسيرة جداً من غير كبير تدريج لا يعلم شيئاً، وأفهم إسقاط حرف الانتهاء أنه ربما عاد إليه علمه، وربما اتصل جهله بالموت بخلاف ما مضى في النحل فقال: ﴿من بعد علم﴾ كان أوتيه ﴿شيئاً﴾ بل يصير كما كان طفلاً في ضعف الجواهر والأعراض، لتعلموا أن ذلك كله فعل الإله الواحد المختار، وأنه لو كان فعل الطبيعة لازداد بطول البقاء نمواً في جميع ذلك، وقد علم - بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو
11
ما كان عليه في ابتداء الخلق - قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات، والكون على حال الرفات.
ولما تم هذا الدليل على الساعة محكم المقدمات واضح النتائج، وكان أول الإيجاد فيه غير مشاهد فعبر عنه بما يليق به، أتبعه دليلاً آخر محسوساً، وعطفه على ما أرشد إليه التقدير من نحو قوله: تجدون أيها الناس ما ذكرناه في أنفسكم، فقال: ﴿وترى﴾ فعبر بالرؤية ﴿الأرض﴾ ولما كان في سياق البعث، عبر بما هو أقرب إلى الموت فقال: ﴿هامدة﴾ أي يابسة مطمئنة ساكنة سكون الميت ليس بها شيء من نبت، ولعله أفرد الضمير توجيهاً إلى كل من يصلح أن يخاطب بذلك ﴿فإذا﴾ أي فننزل عليها ماء من مكان لا يوجد فيه ثم ينزل منه إلا بقدرة عظيمة وقهر باهر، فإذا ﴿أنزلنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿عليها الماء اهتزت﴾ أي تحركت بنجوم النبات اهتزاز الحي، وتأهلت لإخراجه؛ قال الرازي: والاهتزاز: شدة الحركة في الجهات المختلفة. ﴿وربت﴾ أي انتفخت، وذلك أول ما يظهر منها للعين وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشىء عن التراب والماء ﴿وأنبتت﴾ بتقديرنا ﴿من كل زوج﴾ أي صنف عادلناه بصنف
12
آخر جعلناه تمام نفعه به ﴿بهيج*﴾ أي مؤنق من أشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها، ومنافعها ومقاديرها رائقة المناظر، لائقة في العيون والبصائر، قال الرازي: فكما أن النبات يتوجه من نقص إلى كمال، فكذلك الآدمي يترقى من نقص إلى كمال، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعد له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود، أي السعيد منه في دار السلام مبراً عن عوارض هذا العالم - انتهى.
13
ولما قرر سبحانه هذين الدليلين، رتب عليهما ما هو مطلوب والنتيجة فقال على طريق التعليل: ﴿ذلك﴾ أي الذي تقدم من الأمر بالتقوى، والترهيب من جلال الله بالحشر، والاستدلال عليه بالتصرف في تطوير الإنسان والنبات إلى ما في تضاعيفه من أنواع الحكم وأصناف اللطائف ﴿بأن﴾ أي بسبب أن تعلموا أن ﴿الله﴾ أي الجامع لأوصاف الكمال ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الحق﴾ أي الثابت أتم الثبات، بحيث يقتضي ذلك أنه يكون كل ما يريد، فإنه لا ثبات مع العجز ﴿وأنه يحيي الموتى﴾ أي القادر على ذلك بأنه - كما سيأتي - هو العلي
13
الكبير ﴿وأنه على كل شيء﴾ من الخلق وغيره ﴿قدير*﴾ ﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ [يس: ٨٢] ﴿وأن الساعة﴾ التي تقدم التحذير منها، وهي وقت حشر الخلائق كلهم ﴿آتية لا ريب فيها﴾ بوجه من الوجوه لما دل عليها مما لا سبيل إلى إنكاره بقول من لا مرد لقوله، وهو حكيم فلا يخلف ميعاده، ولا يسوغ بوجه أن يترك عباده بغير حساب ﴿وأن الله﴾ لما له من الجلال والحكم ﴿يبعث﴾ بالإحياء ﴿من في القبور*﴾ لحضوره والفصل بينهم فيها في كل ما اختلفوا فيه لأن ذلك من العدل الذي أمر به، وبه يظهر كثير من صفاته سبحانه أتم الظهور، والحاصل أن المراد أنه سبحانه قال ما تقدم وفعل ما ذكر من إيجاد الإنسان والنبات في هذه الأطوار ليعلم أنه قادر على هذه الأمور وعلى كل شيء ﴿ومن﴾ أي فمن الناس الذين كانوا قد وقفوا عن الإيمان قبل هذا البيان من آمن عند سماع هذه القواطع، ومن ﴿الناس﴾ وهم ممن اشتد تكاثف طبعه ﴿من يجادل﴾ أي بغاية جهده ﴿في الله﴾ أي في قدرته وما
14
يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل لهه ولا خفاء فيه ﴿بغير علم﴾ أتاه عن الله على لسان أحد من أصفيائه أعم من أن يكون كتاباً أو غيره ﴿ولا هدى﴾ أرشده إليه من عقله أعم من كونه بضرورة أو استدلال ﴿ولا كتاب منير*﴾ صح لديه أنه من عند الله، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل ﴿ثاني عطفه﴾ أي رخي البال معرضاً متكبراً متماثلاً لاوياً عنقه لذلك كما قال تعالى ﴿وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً﴾ [لقمان: ٧] والعطف في الأصل الجانب وموضع الميل.
ولما دل السياق على أنه أكثف الأقسام طبعاً، عبر عن قصده بقوله: ﴿ليضل﴾ أي غيره ﴿عن سبيل الله﴾ إفهاماً لذلك، لأن هذا لا يقصده عاقل، فالقسم الأول تابع ضال، وهذا داع لأهل الضلال، هذا على قراءة الضم للجمهور، وعلى قراءة الفتح لابن كثير وأبي عمرو ورويس عن يعقوب بخلاف عنه من ضل، تكون من باب التهكم كما تقدم غير مرة، أي إنه من الحذق بحيث لا يذهب عليه أن هذا ضلال، فما وصل إليه إلا بقصده له.
ولما ذكر فعله وثمرته، ذكر ما أعد له عليه فقال: ﴿له في الدنيا خزي﴾ اي إهانة وذل وإن طال زمن استدراجه
15
بتنعيمه «حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه» ﴿ونذيقه﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿يوم القيامة﴾ الذي يجمع فيه الخلائق بالإحياء بعد الموت ﴿عذاب الحريق*﴾ أي بجعله يحس بألم العذاب بالحريق كما يحس الذائق بالشيء كما أحرق قلوب المهتدين بجداله بالباطل، ويقال حقيقة أو مجازاً: ﴿ذلك﴾ أي العذاب العظيم ﴿بما﴾ أي بسبب ما ﴿قدمت يداك﴾ أي بعملك، ولكنه جرت عادة العرب أن تضيف الأعمال إلى اليد لأنها آلة أكثر العمل، وإضافة ما يؤدي إليهما أنكأ ﴿وأن﴾ أي وبسبب أن ﴿الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿ليس بظلام﴾ أي بذي ظلم ما ﴿للعبيد*﴾ ولو ترككم بغير ذلك لكان في مجاري عاداتكم ظلماً أولاً بتسوية المحسن بالمسيء، وثانياً بترك الانتصار للذين عادوك فيه وأذيتهم من أجله، ويجوز أن تكون الصيغة للمبالغة لتفهم أنه لو تركه لكان الظلم، وذلك في غاية البعد عن حكمته و... نفي أصل الظلم من آياته الباهرة.
16
ولما بين قسمي المصارحين بالكفر الكثيف والأكثف صريحاً. وأفهم المؤمن المخلص، عطف على ذلك المذبذب فقال: ﴿ومن الناس﴾
16
ولذلك عبر بالناس الذي مدلولة الاضطراب والتردد دون أن يضمر ﴿من يعبد الله﴾ أي يعمل على سبيل الاستمرار والتجدد بما أمر به الإله الأعظم من طاعته ﴿على حرف﴾ فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره، لا استقرار له، وكالذي على طرف من العسكر، فإن رأى غنيمة قر، وإن توهم خوفاً طار وفر، وذلك معنى قوله: ﴿فإن أصابه خير﴾ أي من الدنيا ﴿اطمأن به﴾ أي بسببه، وثبت على ما هو عليه ﴿وإن أصابته فتنة﴾ أي مصبية ولو قلت - بما يشير إليه التأنيث - في جسده أو معيشته يختبر بها ويظهر خبأة للناس ﴿انقلب على وجهه﴾ لتهيئه للانقلاب بكونه على شفا جرف فسقط عن ذلك الطرف من الدين سقوطاً لا رجوع له بعد إليه ولا حركة له معه، فإن الإنسان مطبوع على المدافعة بكل عضو من أعضائه عن وجهه فلا يمكن منه إلا بعد نهاية العجز، والمعنى أنه رجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر أو الشك رجوعاً متمكناً، وهذا بخلاف الراسخ في إيمانه، فإنه إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء حمد وصبر، فكل قضاء الله له خير.
ولما كان انقلاب هذا مفسداً لآخرته بما ناله من الوزر، وغير نافع له في استدراك ما فاته من الدنيا، كانت فذلكة ذلك قوله:
17
﴿خسر الدنيا﴾ أي بسبب أن ذلك لا يرد ما فاته منها ويكون سبب التقتير عليه وذهاب بركته ﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ [المائدة: ٦٦] «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» ﴿والآخرة﴾ بفوات أجر الصبر وحصول إثم الجزع: ثم عظم مصيبته بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم ﴿هو﴾ أي لا غير ﴿الخسران المبين*﴾ ورى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء ثم بين هذا الخسران الذي رده إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفي بقوله: ﴿يدعوا﴾ أي يعبد حقيقة أومجازاً مع التجدد والاستمرار بالاعتماد على غير الله ومنابذة ﴿وإياك نستعين﴾ [الفاتحة: ٥]. ولما كان كل ما سوى الله دونه، نبه على ذلك بقوله: ﴿من دون الله﴾ أي عن أدنى رتبة من رتب المستجمع لصفات الكمال.
ولما كان المتضي للعبادة إنما هو الفعل بالاختيار، وأما الفعل الذي يقتضيه الطبع والقسر عليه فلا عبرة به في ذلك، فإنه لا قدرة على الانفكاك عنه فلا حمد لفاعله، نبه على ذلك بقوله: ﴿ما لا يضره﴾ أي بوجه
18
من الوجوه حتى ولا بقطع النفع إن كان يتصور منه.
ولما قدم الضر لأنه من الأعذار المقبوله في ارتكاب الخطأ، أتبعه النفع قطعاً لكل مقال فقال: ﴿وما لا ينفعه﴾ بوجه من الوجوه ولا بترك الضر إن وجد منه، ولو أسقطت «ما» من الثاني لظن أن الذم يشترط فيه انتفاء الضر والنفع معاً حتى أن من ادعى ما انتفى عنه أحدهما لم يذم ﴿ذلك﴾ أي الفعل الدال على أعظم السفه وهو دعاء شيء انتفى عنه القدرة على النفع، أو شيء انتفى عنه القدرة على الضر ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الضلال البعيد*﴾ عن الحق والرشاد الذي أوصل إلى فياف مجاهل لا يتأتى الرجوع منها، وذلك لأن الأول لو ترك عبادته ما قدر على منع إحسانه، والثاني لو تقاداه ما وصل إلى نفعه ولا يترك ضره، فعبادتهما عبث، لأنه استوى فعلها وتركها.
ولما كان الإحسان جالباً للانسان، من غير نظر إلى مورده، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، بين أن ما قيل في جانب النفع إنما هو على سبيل الفرض فقال: ﴿يدعوا﴾ ولما كان ما فرض أولاً فيما عبر عنه ب «ما» قد يكون غير عاقل، فيكون ما صدر منه لعدمه
19
العقل، أزال هذا الإبهام بقوله: ﴿لمن﴾ أي زاعماً أن من ﴿ضره﴾ ولو بعبادته الموجبة لأعظم الشقاء ﴿أقرب من نفعه﴾ الذي يتوقع منه - إله.
ولما كانت الولاية الكاملة لا تنبغي إلا لمن يكون توقع النفع منه والضر على حد سواء، لقدرته على كل منهما باختياره، وكان العشير لا يصلح إلا إن كان مأمون العاقبة، وكان هذا المدعو إن نظر إليه في جانب الضر وجد غير قادر عليه، أو في جانب النفع فكذلك، وإن فرض توقع نفعه أو ضره كان خوف ضره أقرب من رجاء نفعه، استحق غاية الذم فلذلك استأنف تعالى وصفه بقوله معبراً في ذمه بالأداة الموضوعة لمجامع الذم: ﴿لبئس المولى﴾ لكونه ليس مرجو النفع كما هو مخشي الضر ﴿ولبئس العشير*﴾ لكونه ليس مأمون الضر فهو غير صالح لولاية ولا لعشرة بوجه.
ولما أفهم ما تقدم أن هذا الإله المدعو إليه قادر على كل من النفع والضر بالاختبار، وأن تجويز الوقوع لكل منهما منه على حد سواء، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: ﴿إن الله﴾ أي الحائز لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص ﴿يدخل الذين آمنوا﴾ برسله وما دعت إليه من شأنه ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ الخالصة
20
الشاهدة بثباتهم في الإيمان بعد ما ضرهم في الدنيا بأنواع المعايب، تطهيراً لهم مما اقترفوه من الزلات، وأهوتهم إليه الهفوات ﴿جنات تجري من تحتها﴾ أي من أيّ مكان أردت من أرضها ﴿الأنهار﴾ ولما كان هذا أمراً باهراً دل على سهولته بقوله: تصريحاً بما أفهمه السياق من وصف الاختيار: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿يفعل ما يريد*﴾ من كل نفع وضر.
21
ولما أتم الدليل على خسران هذا المنقلب وربح الثابت، وكان هذا مفهماً لأن من رجاه لما وعد به بادر الإقبال عليه ولم ينفع إلا نفسه، ومن لا يرج ذلك أعرض عن الله سبحانه منقلباً على جهه فلم يضر إلا نفسه، ترجم عن حال هذا الثاني العابد على حرف بقوله: ﴿من كان يظن﴾ أي ممن أصابته فتنة ﴿أن لن ينصره الله﴾ ذو الجلال والإكرام في حال من أحواله ﴿في الدنيا والآخرة﴾ فأعرض عنه انقلاباً على وجهه فإنه لا يضر إلا نفسه وإن ظن أنه لا يضرها ﴿فليمدد بسبب﴾ أي حبل أو شيء من الأشياء الموصلة له ﴿إلى السماء﴾ التي يريدها من سقف أو سحاب أو غيرهما.
ولما كان مده ذلك متعسراً أو متعذراً، عبر عما يتفرع عليه بأداة
21
التراخي فقال: ﴿ثم ليقطع﴾ أي ليوجد منه وصل وقطع، أي ليبذل جهده في دفع القضاء والقدر عنه، وهي لام أمر عند من حركها بالكسر إفهاماً لشدة الحركة في المزاولة للذهاب إلى السفل الدال على عدم العقل، وهم أبو عمرو وابن عامر وورش عن نافع ورويس عن يعقوب، أو أسكنها وهم الباقون ﴿فلينظر﴾ ببصره وبصيرته ﴿هل يذهبن﴾ وإن اجتهد ﴿كيده ما يغيظ*﴾ أي شيئاً يحصل له منه غيظ، أو يكون المعنى: فليفعل ما يفعله من بلغ منه الغيظ بأن يربط حبلاً بسقف بيته ثم ليربطه في عنقه ثم ليقطع ما بين رجليه وبين الأرض ليختنق، وهذا كما يقال لمن أدبر عنه أمر فجزع: اضرب برأسك الجدار إن لم ترض هذا، مت غيظاً - ونحو ذلك، والحاصل أنه إن لم يصبر على المصائب لله طوعاً صبر عليها كرهاً مع ما ناله من أسباب الشقاء.
ولما بين سبحانه هذه الآيات المرئية، في هذه الأساليب العلية، هذا البيان الشافي الهادي بإعجاز حكمه، بين أنه معجز أيضاً بنظمه، فقال: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل ما بينا هذه الآيات المرئية التي أنزلنا كلامنا لبيان حكمها وإظهار أسرارها ﴿أنزلناه﴾ أي الكلام كله بما لنا
22
من العظمة الباهرة ﴿آيات بينات﴾ معجزاً نظمها، كما كان معجزاً حكمها.
ولما كان الكلام بيناً في أن التقدير: ليعلم إذا ضل ضال مع هذا البيان أن الله يضل من يريد، عطف عليه قوله: ﴿وأن﴾ أي وليعلم أن ﴿الله﴾ أي الموصوف بالإكرام، كما هو موصوف بالانتقام ﴿يهدي﴾ أي بآياته ﴿من يريد*﴾ أي لتبين قدرته واختياره إزاحة لغم من يقول: إذا كانت الآيات المرئية والمسموعة في هذا الحد من البيان فما لأكثر الناس على ضلالهم يتخلف فيهم المسببات عن أسبابها.
ولما كان ذلك موجباً للسؤال، عن حال الفريقين: المهدي والضال، أجاب عن ذلك ببيان جميع فرق الضلال، لأن لهذه السورة أتم نظر إلى يوم الجمع الذي هو مقصود السورة التي قبلها، فقصد إلى استيعاب الفرق تصويراً لذلك اليوم بأليق صورة، وقرن بكل من فريقي أهل الكتاب موافقة في معناه فقال: ﴿إن الذين ءامنوا﴾ أي من أيّ فرقة كانوا، وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان، الذي هو أدنى وجوه الإيمان ﴿والذين هادوا﴾ أي انتحلوا اليهودية، على أيّ حال كانوا من إيمان أو كفران.
ولما كان اليهود عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم
23
كما مضى في المائدة، أتبعهم من شابهوه فقال: ﴿والصابئين﴾ ثم تلا بثاني فريقي أهل الكتاب فقال: ﴿والنصارى﴾ ثم أتبعهم من أشبهه بعض فرقهم في قولهم بإلهين اثنين فقال: ﴿والمجوس﴾ وهم عبدة النار؛ ثم ختم بأعم الكل في الضلال كما فتح بأعمهم في الهدى فقال: ﴿والذين أشركوا﴾ لشموله كل شرك حتى الأصغر من الربا وغيره ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الملك كله وهو أحكم الحاكمين ﴿يفصل بينهم يوم القيامة﴾ فيجازي كلاًَّ بعمله على ما يقتضيه في مجاري عاداتكم، ويقتص لبعضهم من بعض، ويميز الخبيث منهم من الطيب؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الجامع لجميع صفات الكمال ﴿على كل شيء﴾ من الأشياء كلها ﴿شهيد*﴾ فلا شيء إلا وهو به عليم، فهو لذلك على كل شيء قدير، كما مضى بيانه في ﴿وسع كل شيء علماً﴾ [طه: ٩٨] في طه، وقال الحرالي في شرح الأسماء الحسنى: الشهادة رؤية خبرة بطية الشيء ودخلته ممن له غنى في أمره، فلا شهادة إلا بخبرة وغنى ممن له اعتدال في نفسه بأن لا يحيف على غيره، فيكون ميزان عدل بينه وبين غيره، فيحق له أن يكون ميزاناً بين كل متداعيين ممن يحيط بخبرة أمرهما ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً﴾ [البقرة: ١٤٣] وبحسب إحاطة علم الشهيد
24
ترهب شهادته، ولذلك أرهب شهادة شهادة الله على خلقه ﴿قل أي شيء أكبر شهادة قل الله﴾ [الأنعام: ١٩] ولما كان أيّما الإحاطة والخبرة والرقبة لله كان بالحقيقة لا شهيد إلا هو - انتهى.
25
ولما كان جميع ما تقدم في هذه السورة دالاً على أنه على كل شيء قدير، وأنه يفعل ما يريد، وختم ذلك بأنه بكل شيء عليم لم يغب ولا يغيب شيء عنه، فاقتضى ذلك قيوميته، وكان بحيث يستعظم لكثرة الخلائق فكيف بأحوالهم، قرر ذلك في جواب من كأنه سأل فهي في معنى العلة، فقال: ﴿ألم تر أن الله﴾ أي الحائز لجميع الكمال المبرأ عن كل نقص ﴿يسجد له﴾ أي يخضع منقاداً لأمره مسخراً لما يريد منه تسخير من هو في غاية الاجتهاد في العبادة والإخلاص فيها ﴿من في السماوات﴾.
ولما كان في السياق مقتضياً للإبلاغ في صفة القيومية بشهادة ذكر الفصل بين جميع الفرق، أكد بإعادة الموصول فقال: ﴿ومن في الأرض﴾ إن أخلت غير العاقل فبالتغليب، وإن خصصت فبالعاقل أفهم خضوع غيره من باب الأولى. ولما ذكر ما يعم العاقل وغيره، أتبعه بأشرف
25
ما ذكر مما لا يعقل لأن كلاًّ منهما عبد من دون الله أو عبد شيء منه فقال: ﴿والشمس والقمر والنجوم﴾ من الأجرام العلوية فعبد الشمس حمير، والقمر كنانة، والدبران تميم، والشعرى لخم، والثريا طيىء وعطارداً أسداً، والمرزم ربيعة - قاله أبو حيان. ثم أتبع ذلك أعلام الذوات السفلية فقال: ﴿والجبال﴾ أي التي تنحت منها الأصنام ﴿والشجر﴾ التي عبد بعضها ﴿والدواب﴾ التي عبد منها البقر، كل هذه الأشياء تنقاد لأمر الله، ومن المعلوم لكون هذه لا تعقل - أن أمره لها هو مراده منها.
ولما كان العقلاء من المكلفين قد دخلوا في قوله ﴿ومن في الأرض﴾ دخولاً أولياً، وكان السجود الممدوحون عليه إنما هو الموافق للأمر، لا الموافق للإرادة المجردة عن الأمر، قال دالاً على إرادته هنا بتكريرهم وتقسيمهم بعد إدخالهم في السجود الإدارة وتعميمهم: ﴿وكثير من الناس﴾ أي يسجد سجوداً هو منه عبادة شرعية فحق له الثواب ﴿وكثير﴾ أي منهم ﴿حق عليه العذاب﴾ بقيام الحجة عليه بكون لم يسجد، فجحد الأمر الذي من جحده كان كافراً وإن كان ساجداً عابداً بالمعنى اللغوي الذي هو الجري مع المراد، وعلى القول بأن
26
هذا في تقدير عامل من لفظ الأول بغير معناه هو قريب من الاستخدام الذي يعلو فيه ضمير على لفظ مراد منه معنى آخر، والآية من الاحتباك: إثبات السجود في الأول دليل على انتفائه في الثاني، وذكر العذاب في الثاني دليل على حذف الثواب في الأول.
ولما علم بهذا أن الكل جارون مع الإرادة منقادون أتم انقياد تحت طوع المشيئة، وأنه إنما جعل الأمر والنهي للمكلفين سبباً لإسعاد السعيد منهم وإشقاء الشقي، لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه من أحوالهم فيما بينهم، كان المعنى: فمن يكرم الله بتوفيقه لا متثال أمره فما له من مهين، فعطف عليه: ﴿ومن يهن الله﴾ أي الذي له الأمر كله بمنابذة أمره ﴿فما له من مكرم﴾ لأنه لا قدرة لغيره أصلاً، ولعله إنما ذكره وطوى الأول لأن السياق لإظهار القدرة، وإظهارها في الإهانة أتم، مع أن أصل السياق للتهديد؛ ثم علل أن الفعل له لا لغيره بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿يفعل ما يشاء*﴾ أي كله، فلو جاز أن يمانعه غيره ولو في لحظة لم يكن فاعلاً لما يشاء، فصح أنه لا فعل لغيره، قال ابن كثير: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن شيبان الرملي ن القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه
27
أنه قيل له: إن ههنا رجلاً يتكلم في المشيئة، فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله كما شاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، وقد مر في سورة يوسف عند
﴿إن الحكم إلا لله عليه توكلت﴾ [يوسف: ٦٧] ما ينفع هنا.
ولما قسم الناس إلى مخالف ومؤالف، أتبعه جزاءهم بما يرغب المؤالف ويرهب المخالف على وجه موجب للأمر بالمعروف الذي من جملته الجهاد لوجهه خالصاً فقال: ﴿هذان﴾ أي الساجد والجاحد من جميع الفرق ﴿خصمان﴾ لا يمكن منهما المسالمة الكاملة إذ كل منهما في طرف.
ولما أشار بالتثنية إلى كل فرقة منهم صارت - مع كثرتها وانتشارها باتحاد الكلمة في العقيدة - كالجسد الواحد، صرح بكثرتهم بالتعبير بالجمع فقال: ﴿اختصموا﴾ أي أوقعوا الخصومة بغاية الجهد، ولما كانت الفرق المذكورة كلها مثبتة وقد جحد أكثرهم
28
النعمة، قال: ﴿في ربهم﴾ أي الذي هم بإحسانه إليهم معترفون، لم يختصموا بسبب غيره أصلاً، وحمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب - الذين هم أول من برز للمخاصمة بحضرة رسول الله - صلى الله عليه ورضي عنهم - للكفرة من بني عمهم: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، في غزوة بدر - أولى الناس بهذه الآية لما روي في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه «أنه كان يقسم أنها نزلت فيهم، ولذلك قال رضي الله عنه: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن عز وجل يوم القيامة للخصومة» أخرجه البخاري في صحيحه، ولعله رضي الله عنه أول الثلاثة، قام لمنابذتهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كان أشبّهم.
ولما ذكر خصومتهم وشرطها، ذكر جزاءهم عليها في فصل الأمر الذي قدم ذكره، وبدأ بالترهيب لأن الإنسان إليه أحوج فقال: ﴿فالذين كفروا﴾ منابذين لأمر ربهم ﴿قطعت﴾ تقطيعاً لا يعلم كثرته إلا الله، بأيسر أمر ممن لا أمر لغيره ﴿لهم﴾ الآن وهيئت وإن وافقوا مراد ربهم بمخالفتهم أمره ﴿ثياب من نار﴾ تحيط بهم وهي على مقاديرهم سابغة عليهم كما كانوا يسلبون الثياب في الدنيا
29
تعاظماً وتكبراً حال كونهم ﴿يصب﴾ إذا دخلوها ﴿من فوق رؤوسهم الحميم*﴾ أي الماء الحار حرارة لا يدري مقدارها إلا بالذوق - أعاذنا الله منه، واستأنف الإخبار عنه بقوله: ﴿يصهر﴾ أي يذاب، وأصله المخالطة الشديدة ﴿به﴾ من شدة حرارته ﴿ما في بطونهم﴾ من شحم وغيره ﴿والجلود*﴾ فيكون أثره في البطن والظاهر سواء ﴿ولهم مقامع﴾ جمع مقمعة بكسر ثم فتح، وهي عمود حديد يضرب به الرأس والوجه ليرد المضروب عن مراده رداً عنيفاً، ثم نفى المجاز بقوله: ﴿من حديد*﴾ أي يقمعون بها ﴿كلما أرادوا﴾ أي كلهم فالبعض بطريق الأولى ﴿أن يخرجوا منها﴾ أي من تلك الثياب أو من النار.
ولما كان السياق لخصومة أولياء الله المتصفين بما هو مقصود السورة من التقوى للكفار، المنابذين لها بكل اعتبار، اقتضى ذلك بشارة للأولياء ونذارة للأعداء - قوله زيادة على ما في السجدة: ﴿من غم﴾ عظيم لا يعلم قدر عظمه إلا الله ﴿أعيدوا﴾، كل من ﴿فيها﴾ كأنهم يضربون بلهيب النار فيرفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً - قاله الحسن، أو أنهم يضطربون في تلك الثياب المقطعة من النار إلى أن يكادوا
30
أن ينفصلوا منها وهم في النار ثم يردون كما كانوا، وذلك أشد في العذاب، مقولاً لهم: ارجعوا صاغرين مقاسين لغمومها ﴿وذوقوا عذاب الحريق*﴾ أي العذاب البالغ في الإحراق.
31
ولما ذكر ما لأحد الخصمين وهم الكافرون، أتبعه ما للآخر وهم المؤمنون، وغير السياق بالتأكيد لمن كأنه سأل عنه، معظماً له بإثبات الاسم العلم الجامع إيذاناً بالاهتمام فقال: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿يدخل الذين آمنوا﴾ عبر في الإيمان بالماضي ترغيباً في المبادرة إلى إيقاعه ﴿وعملوا الصالحات﴾ تصديقاً لإيمانهم، وعبر بالماضي إشارة إلى أن من عمل الصالح انكشف له ما كان محجوباً عنه من حسنه فأحبه ولم ينفك عنه ﴿جنات تجري﴾ أي دائماً ﴿من تحتها الأنهار﴾ أي المياه الواسعة، أينما أردت من أرضها جرى لك نهر في مقابلة ما يجري من فوق رؤوس أهل النار ﴿يحلون فيها﴾ في مقابلة ما يزال من بواطن الكفرة وظواهرهم ﴿من أساور﴾.
ولما كان مقصودها الحث على التقوى المعلية إلى الإنعام بالفضل، شوّق إليه بأغلى ما نعرف من الحلية فقال: ﴿من ذهب ولؤلؤاً﴾ وقراءة نافع وعاصم بنصبه دليل على عطفه بالجر على «أساور» ﴿ولباسهم فيها حرير*﴾ في مقابلة ثياب الكفار كما كان لباس الكفار
31
في الدنيا حريراً، ولباس المؤمنين دون ذلك، وقد رود في الصححين عن عبد الله بن الزبير عن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه السلام قال: «لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» قال ابن كثير: قال عبد الله بن الزبير «ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة» قال تعالى: ﴿ولباسهم فيها حرير﴾ انتهى «وذلك أن في الصحيحين وغيرهما عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله قال:» إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة «» فيوشك لتشبهه بالكفار في لباسهم - أن يلحقه الله بهم فلا يموت مسلماً - والله الهادي ﴿وهدوا﴾ أي بأسهل أمر بهداية الله أعم من أن يكون السبب القريب لذلك العقل وحده أو مع الرسول أو الكتاب أو غير ذلك وهو حال من ﴿الذين آمنوا﴾، وما بعدها ختم به لئلا يطول الفصل بين الفعل ومفعوله ولتكون محاسنهم محيطة بذكر دخولهم الجنة إشارة إلى دوامها ﴿إلى الطيب من القول﴾ فلم يزالوا في حال حسن ﴿وهدوا﴾ وبنى الفعل أيضاً للمفعول إشارة إلى سهولة الهداية لهم وللأتقياء منهم، ولذلك لم يذكر العزة، واكتفى بذكر الحمد فقيل: ﴿إلى صراط الحميد*﴾ الذي وفقهم لسلوك ما يحمدون عليه
32
فيحمدون عاقبة، فكان فعلهم حسناً كما كان قولهم حسناً، فدخلوا الجنة التي هي أشرف دار عند خير جار وحلوا فيها أشرف الحلي كما تحلوا في الدنيا بأشرف. الطرائق، هذا بعد أن حازوا أشرف الذكر في الدنيا عكس حال الكفار في اقتراف ما أدخلهم ما كلما أرادوا الخروج منه اعيدوا فيه، مع ما نالهم من سوء الذكر، بإقبالهم كالبهائم على الفاني مع خسته لحضوره، وإعراضهم عن الباقي مع شرفه لغيابه.
ولما بين ما للفريقين، وتضمن ما للفريق الثاني بيان أعمالهم الدالة على صدق إيمانهم، كرر ذكر الفريق الأول لبيان ما يدل على استمرار كفرهم، ويؤكد بيان جزائهم، فقال: ﴿إن الذين كفروا﴾ أي أوقعوا هذا الفعل الخبيث. ولما مان المضارع قد لا يلحظ منه زمان معين من حال أو استقبال، بل يكون المقصود منه الدلالة على مجرد الاستمرار كقولهم: فلان يعطي ويمنع، قال عاطفاً له على الماضي: ﴿ويصدون﴾ أي ويديمون الصد ﴿عن سبيل الله﴾ أي الملك الأعظم، باقتسامهم طرق مكة، وقول بعضهم لمن يمر به: خرج فينا ساحر، وآخر يقول شاعر، وآخر: كاهن، فلا تسمعوا منه، فإنه يريد أن يردكم عن دينكم؛ قال بعض من أسلم: لم يزالوا بي حتى جعلت في أدنى الكرسف مخافة أن أسمع شيئاً من كلامهم. وكانوا يؤذون من أسلم - إلى غير ذلك من أعمالهم، ولعله إنما عبر بالمضارع رحمة منه لهم ليكون كالشرط في الكفر فيدل على
33
أن من ترك الصد زال عنه الكفر وإن طال ذلك منه ﴿و﴾ يصدون عن ﴿المسجد الحرام﴾ أن تقام شعائره من الطواف فيه بالبيت والصلاة والحج والاعتمار ممن هو أهل ذلك من أوليائنا. ثم وصفه بما يبين شديد ظلمهم في الصد عنه فقال: ﴿الذي جعلناه﴾ بما لنا من العظمة ﴿للناس﴾ أي كلهم؛ ثم بين جعله لهم بقوله: ﴿سواء العاكف فيه﴾ أي المقيم ﴿والباد﴾ أي الزائر له من البادية؛ قال الرازي في اللوامع: ﴿سواء﴾ رفع بالابتداء، و ﴿العاكف﴾ خبره، وصلح من تنكيره للابتداء، لأنه كالجنس في إفادة العموم الذي هو أحسن العهد.
ولما ذكر الكفار ودليل كفرهم بما استعطفهم، وزاد في الاستعطاف بحذف الخبر عنهم، ودل آخر الآية هلى أنه يذيقهم العذاب الأليم، عطف عليه ما ينفر عن وصفهم فقال: ﴿ومن يرد فيه﴾ أي شيئاً من أفعال الكفار من الصد المذكور وغيره، أي يقع منه إرادة لشيء من ذلك ﴿بإلحاد﴾ أي مصاحبة تلك الإرادة وملتبسة بجور عن الأمر المعروف وميل واعوجاج. ولما كان ذلك يقع على مطلق هذا المعنى، بين المراد بقوله: ﴿بظلم﴾ أي في غير موضعه، وأما صد الكفار عنه فإنه بحق، لأنهم نجس لا ينبغي قربانهم المحال المقدسة، وكذا صد الحائض والجنب والخائن ﴿نذقه﴾ ولما كان المشروط نوعاً من الإلحاد، لا الإلحاد الكامل، عبر بقوله
34
﴿من عذاب أليم*﴾ ودل هذا الخبر عمن أراد شيئاً مما فعله الكفار أن الخبر عن الكفار الفاعلين لما رتب هذا الجزاء على إرادته ما قدرته.
35
ولما ذكر الفريقين وجزاء كل وختمه بذكر البيت، أتبعه التذكير به وبحجه، لما فيه من التذكير بالقيامة الحاملة على التقوى التي هي مقصد السورة، بما فيه من الوفادة على الله، مع التجرد من المحيط، والخضوع للرب، والاجتماع في المشاعر موقفاً في أثر موقف، ولما فيه من الحث على التسنن بأبيهم الأعظم إبراهيم عليه السلام فقال، مقرعاً وموبخاً لمن أشرك في نفعه «أسست على التوحيد من أول يوم» عطفاً على قوله أول السورة ﴿اتقوا﴾ ﴿وإذ﴾ أي واذكروا إذ ﴿بوأنا﴾ بما لنا من العظمة، ولما لم يجعله سبحانه سكنه بنفسه، قصر الفعل عن التعدية إلى مفعوله الأول فقال: ﴿لإبراهيم﴾ أي قدرنا له ﴿مكان البيت﴾ أي الكعبة وجعلناه له مباءة، أي منزلاً يبوء إليه أي يرجع، لأنه - لما نودعه فيه من اللطائف - أهل لأن يرجع إليه من فارقه ويحن إليه، ويشتاق من باعده وينقطع إليه بعض ذريته، من
35
المباءة بمعنى المنزل، وبوأه إياه وبوأه له، أي أنزله، قال في ترتيب المحكم: وقيل: هيأته ومكنت له فيه. ويدل على أن إبراهيم عليه السلام أول بان للبيت ما في الصحيح «عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: بيت المقدس، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة» ولما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام نبياً، كان من المعلوم أن نبوته له لأجل العبادة، فكان المعنى: قلنا له: أنزل أهلك هاهنا وتردد إلى هذا المكان للعبادة، فذلك فسره بقوله: ﴿أن لا تشرك بي شيئاً﴾ فابتدأ بأسّ العبادة ورأسها، وعطف على النهي قوله: ﴿وطهر بيتي﴾ عن كل ما لا يليق به من قذر حسي ومعنوي من شرك ووثن وطواف عريان به، كما كانت العرب تفعل ﴿للطائفين﴾ به.
ولما تقدم العكوف فاستغنى عن إعادته، قال: ﴿والقائمين﴾ أي حوله تعظيماً لي كما يفعل حول عرشي، أو في الصلاة، ولأن العكوف بالقيام أقرب إلى مقصود السورة. ﴿والركع﴾ ولما كان كل من الطواف والقيام عبادة برأسه، ولم يكن الركوع والسجود كذلك، عطف ذاك، واتبع هذا لما بينهما من كمال الاتصال، إذ
36
لا ينفك أحدهما عن الآخر في الصلاة فقال: ﴿السجود*﴾ أي المصلين صلاة أهل الإسلام الأكمل ﴿وأذن في الناس﴾ أي أعلمهم وناد فيهم ﴿بالحج﴾ وهو قصد البيت على سبيل التكرار لعبادة المخصوصة بالمشاعر المنصوصة ﴿يأتوك﴾ أي يأتوا بيتك الذي بنيته لذلك، مجيبين لصوتك بإذننا سامعين طائعين مخبتين خاشعين من أقطار الأرض كما يجيبون صوت الداعي من قبلنا إذا دعاهم بمثل ذلك بعذ الموت ﴿رجالاً﴾ أي مشاة على أرجلهم ﴿وعلى كل ضامر﴾ أي هزيل من طول السير من الإبل لبعد الشقة وعظم المشقة.
ولما كان الضامر يطلق على كل من الذكر والأنثى من الجمال، وكانت الأنثى أضعف النوعين، فكان الحكم عليها بالإتيان المذكور حكماً على الذكر الذي هو أشد بطريق الأولى، أسند إلى ضميرها فقال معبراً بما يدل على التجدد والاستمرار، واصفاً الضوامر التي أفهمتها «كل» ﴿يأتين﴾ أي الضوامر ﴿من كل فج﴾ أي طريق واسع بين جبلين ﴿عميق*﴾ أي بعيد منخفض بالنسبة إلى علو جباله. قال أبو حيان: أصله البعد سفلاً - انتهى. حفاة عراة، ينتقلون من مشعر من مشاعر
37
الحج إلى معشر، ومن مشهد إلى مشهد، مجموعين بالدعوة، خاشعين للهيبة، خائفين من السطوة، راجين للمغفرة، ثم يتفرقون إلى مواطنهم، ويتوجهون إلى مساكنهم، كالسائرين إلى مواقف الحشر، يوم البعث والنشر، المتفرقين إلى داري النعيم والجحيم، في أيها المصدقون بأن خليلنا إبراهيم عليه السلام نادى بالحج فأجابه بقدرتنا كرامة له من أراد الله حجة على بعد أقطارهم، وتنائي ديارهم، ممن كان موجوداً في ذلك الزمان، وممن كان في ظهور الآباء الأقربين أو الأبعدين! صدقوا أن الداعي من قبلنا بالنفخ في الصور يجيبه كل من كان على ظهرها ممن حفظنا له جسده، أو سلطنا عليه الأرض فمزقناه حتى صار تراباً، وما بين ذلك، لأن الكل علينا يسير.
ولما كان الإنسان ميالاً إلى الفوائد، مستشرقاً إلى جميل العوائد، علل الإتيان بما يرغبه مبيحاً من فضله ما يقصده من أمر المعاش فقال: ﴿ليشهدوا﴾ أي يحضروا حضوراً تاماً ﴿منافع لهم﴾ أي لا للمعبود، دينية ودنيوية، فإنه كما جعل سبحانه تلك المواطن ماحية للذنوب، جالبة للقلوب، جعلها جالبة للفوائد، جارية على أحسن العوائد، سالمة للفقر جابرة للكسر، ولما كانت المنافع لا تطيب وتثمر إلا بالتقوى كان الحامل على التقوى لذكر قال: ﴿ويذكروا اسم الله﴾ أي الجامع لجميع الكمالات بالتكبير وغيره عند الذبح وغيره، إعلاماً
38
بأنه المقصود الذي يتبعه جميع المقاصد لأنه ما جمعهم على ما فيه من تلك الأرض الغراء والأماكن الغبراء إلا هو بقدرته الكاملة، وقوته الشاملة، لا اسم شيء من الأصنام كما كانت الجاهلية تفعل ﴿في أيام معلومات﴾ أي علم أنها أول عشر في ذي الحجة الذي يوافق اسمه مسماه، لا ما سموه به ومسماه غيره على ما حكم به النسيء، وفي هذا إشارة إلى أن المراد به الإكثار إذ مطلق الذكر مندوب إليه في كل وقت، وفي التعبير بالعلم إشارة إلى وجوب استفراغ الجهد بعد القطع بأن الشهر ذو الحجة اسماً ومسمى في تحرير أوله، وأما أيام التشريق فإنها لما كانت مبنية على العلم بأمر الشهر الذي أمر به هنا، فأنتج العلم بيوم العيد، لم يحتج في أمرها إلى غير العد فلذا عبر عنها به دون العلم.
ولما كانت النعم أجل أموالهم، قال تعالى مرغباً لهم ومرهباً: ﴿على﴾ أي مبركين بذكره وحامدين على ﴿ما رزقهم﴾ ولو شاء محقه ﴿من بهيمة﴾ ولما كانت البهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، بينها بقوله: ﴿الأنعام﴾ من الإبل والبقر والغنم بالتكبير عند رؤيته، ثم عند ذبحه، وفيه حث على التقرب بالضحايا، والهدايا، ولذلك التفت إلى الإقبال عليهم، وتركيب «لهم» يدور على الاستعجام والخفاء والانغلاق وعدم التمييز، وتركيب «نعم» على الرفاهية والخفض والدعة.
39
ولما ذكر سبحانه العبادة فخاطب بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، تنبيهاً على أنها لعظم المعبود لا يقوم بها على وجهها إلا الخلص، أقبل على العابدين كلهم بالإذن في ما يسرهم من منحة التمتيع، تنبيهاً على النعمة، حثاً على الشكر، فقال مبيناً عما اندرج في ذلك من الذبح: ﴿فكلوا منها﴾ أي إن شئتم إذا تطوعتم بها ولا تمتنعوا كأهل الجاهلية، فالأكل من المتطوع به لا يخرجه عن كونه قرباناً في هذه الحنيفية السمحة منة على أهلها، تشريفاً لنبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأكل من الواجب لا يجوز لمن وجب عليه، لأنه إذا أكل منه ولم يكن مخرجاً لما وجب عليه بكماله ﴿وأطعموا البائس﴾ أي الذي اشتدت حاجته، من بئس كسمع إذا ساءت حاله وافتقر، وبين أنه من ذلك، لا من بؤس - ككرم الذي معناه: اشتد في الحرب، بقوله: ﴿الفقير*﴾ وأكد هذا الحث ونفى عنه الريب بعوده إلى الأسلوب الأول في قوله: ﴿ثم ليقضوا﴾ أي يقطعوا وينهوا يوم النحر بعد طول الإحرام ﴿تفثهم﴾ أي شعثهم بالغسل وقص الأظفار والشارب وحلق العانة ونحو ذلك ﴿وليوفوا نذورهم﴾ أخذاً من الفراغ من الأمر والخروج من كل واجب ﴿وليطوفوا﴾ فيكون ذلك آخر أعمالهم، وحث
40
على الإكثار منه والاجتهاد فيه بصيغة التفعل، وعلى الإخلاص بالإخفاء بحسب الطاقة بالإدغام، واللام إن كسرت - كما هي قراءة أبي عمرو وابن عامر وورش عن نافع وقنبل عن ابن كثير ورويس عن يعقوب في ﴿ليقضوا﴾ وقراءة ابن ذكوان عن ابن عامر وحده في ﴿ليوفوا.. وليطوفوا﴾ يصح أن تكون للعلة عطفاً على ﴿ليشهدوا﴾ ويكون عطفها بأداة التراخي لطول المدة على ما هو مفهومها مع الإشارة إلى التعظيم في الرتبة، ويصح أن تكون للأمر كقراءة الباقين بالإسكان، وقوله: ﴿بالبيت﴾ أي من ورائه، لعلم الحجر، ومتى نقص عن إكمال الدوران حوله أدنى جزء لم يصح لأنه لم يوقع مسمى الطواف، فلا تعلق بالباء في التبعيض ووصفه بقوله: ﴿العتيق*﴾ إشارة إلى استحقاقه للتعظيم بالقدم والعتق من كل سوء، ثم أشار إلى تعظيم الحج وأفعاله هذه بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر الجليل العظيم الكبير المنافع دنيا وأخرى ذلك. ولما كان التقدير: فمن فعله سعد، ومن انتهك شيئاً منه شقي، عطف عليه قوله: ﴿ومن يعظم﴾ أي بغاية جهده ﴿حرمات الله﴾ أي ذي الجلال والإكرام كلها من هذا ومن غيره، وهي الأمور التي جعلها له فحث على فعلها أو تركها ﴿فهو﴾
41
أي التعظيم الحامل له على امتثال الأمر فيها على وجهه واجتناب المنهي عنه كالطواف عرياناً والذبح بذكر اسم غير الله ﴿خير﴾ كائن ﴿له عند ربه﴾ الذي أسدى إليه كل ما هو فيه من النعم فوجب عليه شكره فإن ذلك يدل على تقوى قلبه، لأن تعظيمها من تقوى القلوب، وتعظيمها لجلال الله، وانتهاكها شر عليه عند ربه.
ولما كان التقدير: فقد حرمت عليكم أشياء أن تفعلوها، وأشياء أن تتركوها، عطف عليه قوله بياناً أن الإحرام لم يؤثر فيها كما أثر في الصيد: ﴿وأحلت لكم الأنعام﴾ وهي الإبل والبقر والغنم كلها ﴿إلا ما يتلى﴾ أي على سبيل التجديد مستمراً ﴿عليكم﴾ تحريمه من الميتة والدم وما أهل لغير الله به، خلافاً للكفار في افترائهم على الله بالتعبد بتحريم الوصيلة والبحيرة والسائبة والحامي وإحلال الميتة والدم.
ولما أفهم ذلك حل السوائب وما معها وتحريم المذبوح للأنصاب، وكان سبب ذلك كله الأوثان، سبب عنه قوله: ﴿فاجتنبوا﴾ أي بغاية الجهد اقتداء بالأب الأعظم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم الإيصاء له بمثل ذلك عند جعل البيت له مباءة ﴿الرجس﴾ أي القذر الذي من حقه أن يجتنب من غير أمر؛ ثم بينه وميزه بقوله: ﴿من الأوثان﴾ أي القذر الذي من حقه أن يحتنب من غير أمر، فإنه إذا اجتنب السبب اجتنب المسبب.
42
ولما كان ذلك كله من الزور، أتبعه النهي عن جميع الزور، وزاد في تبشيعه وتغليظه إذ عدله - كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشرك فقال: ﴿واجتنبوا﴾ أي بكل اعتبار ﴿قول الزور*﴾ أي جميعه، وهو الانحراف عن الدليل كالشرك المؤدي إلى لزوم عجز الإله وتحريم ما لم ينزل الله به سلطاناً من السائبة وما معها، وتحليل الميتة ونحوها مما قام الدليل السمعي على تحريمه كما أن الحنف الميل مع الدليل، ولذلك أتبعه قوله: ﴿حنفاء لله﴾ الذي له الكمال كله، فلا ميل في شيء من فعله، وإنما كانا كذلك مع اجتماعهما في مطلق الميل، لأن الزور تدور مادته على القوة والوعورة، والحنف - كما مضى في البقرة - على الرقة والسهوله، فكان ذو الزور معرضاً عن الدليل بما فيه من الكثافة والحنيف مقبلاً على الدليل بما له من الاطافة.
ولما أفهم ذلك التوحيد، أكده بقوله: ﴿غير مشركين به﴾ أي شيئاً من إشراك، بل مخلصين له الدين، ودل على عظمة التوحيد وعلوه، وفظاعة الشرك وسفوله، بقوله زاجراً عنه عاطفاً على ما تقديره: فمن امتثل ذلك أعلاه اعتداله إلى الرفيق الأعلى: ﴿ومن يشرك﴾ أي يوقع شيئاً من الشرك ﴿بالله﴾ أي الذي له العظمة كلها، لشيء
43
من الأشياء في وقت من الأوقات ﴿فكأنما خرّ من السماء﴾ لعلو ما كان فيه من أوج التوحيد وسفول ما انحط إليه من حضيض الإشراك.
ولما كان الساقط من هذا العلو متقطعاً لا محالة إما بسباع الطير أو بالوقوع على جلد، عبر عن ذلك بقوله: ﴿فتخطفه الطير﴾ أي قطعاً بينها، وهو نازل في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض ﴿أو تهوي به الريح﴾ أي حيث لم يجد في الهواء ما يهلكه ﴿في مكان﴾ من الأرض ﴿سحيق*﴾ أي بعيد في السفول، فيتقطع حال وصوله إلى الأرض بقوة السقطة وشدة الضغطة لبعد المحل الذي خر منه وزل عنه، فالآية من الاحتباك: خطف الطير الملزوم للتقطع أولاً دال على حذف التقطع ثانياً، والمكان السحيق الملزوم لبلوغ الأرض ثانياً دليل على حذف ضده أولاً؛ ثم عظم ما تقدم من التوحيد وما هو مسبب عنه بالإشارة بأداة البعد.
44
﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الكبير ذلك، فمن راعاه فاز، ومن حاد عنه خاب؛ ثم عطف عليه ما هو أعم من هذا المقدر فقال: ﴿ومن﴾ ويجوز أن يكون حالاً، أي أشير إلى الأمر العظيم والحال أنه من ﴿يعظم شعائر الله﴾ أي معالم دين الملك
44
الأعظم التي ندب إليها وأمر بالقيام بها في الحج، جمع شعيرة وهي المنسك والعلامة في الحج، والشعيرة أيضاً: البدنة المهداة إلى البيت الحرام، قال البغوي: وأصلها من الإشعار وهو إعلامها ليعرف أنها هدي - انتهى. ولعله مأخوذ من الشعر لأنها إذا جرحت قطع شيء من شعرها أو أزيل عن محل الجرح، فيكون من الإزالة، وتعظيمها استحسانها، فتعظيمها خير له لدلالته على تقوى قلبه ﴿فإنها﴾ أي تعظيمها ﴿من﴾ أي مبتدىء من ﴿تقوى القلوب*﴾ التي من شأنها الشعور بما هو أهل لأن يعظم، فمعظمها متق، وقد علم بما ذكرته أنه حذف من هذه جملة الخير ومن قوله ﴿ومن يعظم حرمات الله﴾ سبب كونه خيراً له، وهو التقوى، ودل على إرادته هناك بذكره هنا، وحذف هنا كون التعظيم خيراً، ودل عليه بذكره هناك، فقد ذكر في كل جملة ما دل على ما حذف من الأخرى كما تقدم في ﴿قد كان لكم آية في فئتين﴾ [آل عمران: ١٣] في آل عمران، وأنه يسمى الاحتباك، وتفسيري للشعائر بما بما ذكرته من الأمر العام جائز الإرادة، ويكون إعادة الضمير على نوع منه نوعاً من الاستخدام، فقوله: ﴿لكم فيها﴾ معناه: البدن أو النعم المهداة أو مطلقاً ﴿منافع﴾ بالدر والنسل والظهر ونحوه
45
فكلما كانت سمينة حسنة كانت منافعها أكثر ديناً ودنيا ﴿إلى أجل مسمى﴾ وهو الموت الذي قدرناه على كل نفس، أو النحر إن كانت مهداة، أو غير ذلك، وهذا تعليل للجملة التي قبله، فإن المنافع حاملة لذوي البصائر على التفكر فيها لا سيما مع تفاوتها، والتفكر فيها موصل إلى التقوى بمعرفة أنها من الله، وأنه قادر على ما يريد. وأنه لا شريك له.
ولما كانت هذه المنافع دنيوية، وكانت منفعة نحرها إذا أهديت دينية، أشار إلى تعظيم الثاني بأداة التراخي فقال: ﴿ثم محلها﴾ أي وقت حلول نحرها بانتهائكم بها ﴿إلى البيت العتيق*﴾ أي إلى فنائه وهو الحرم كما قال تعالى ﴿هدياً بالغ الكعبة﴾ [المائدة: ٩٥].
ولما كان التقدير: جعل لكم سبحانه هذه الأشياء مناسك، عطف عليه قوله: ﴿ولكل أمة﴾ أي من الأمم السالفة وغيرها ﴿جعلنا﴾ بعظمتنا التي لا يصح أن تخالف ﴿منسكاً﴾ أي عبادة أو موضع عبادة أو قرباناً، فإنه يكون مصدر نسك - كنصر وكرم - نسكاً ومنسكاً، ويكون بمعنى الموضع الذي يعبد فيه، والذي يذبح فيه النسك وهو الهدي، وقال ابن كثير: ولم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء
46
على اسم الله مشروعاً في جميع الملل.
ثم أتبع هذا الجعل عتله بياناً لأنه ليس مقصوداً في نفسه فقال: ﴿ليذكروا﴾ ولما كان الدين سهلاً سمحاً ذا يسر، رضي بالدخول فيه بالظاهر فقال: ﴿اسم الله﴾ أي الملك الأعلى وحده، على ذبائحهم وقرابينهم وعبادتهم كلها، لأنه الرزاق لهم وحده؛ ثم علل الذكر بالنعمة تنبيهاً على التفكر فيها فقال: ﴿على ما رزقهم﴾ فوجب شكره به عليهم ﴿من بهيمة الأنعام﴾.
ولما علم أن الشارع لجميع الشرائع الحقة واحد، وأن علة نصبه لها ذكره وحده، تسبب عنه قوله: ﴿فإلهكم﴾ أي الذي شرع هذه المناسك كلها. ولما كان الإله ما يحق له الإلهية بما تقرر من أوصافه، لا ما سمي إلهاً، قال: ﴿إله﴾ ووصفه بقوله: ﴿واحد﴾ أي وإن اختلفت فروع شرائعه ونسخ بعضها بعضاً، ولو اقتصر على «واحد» لربما قال متعنتهم: إن المراد اقتصارنا على واحد مما نعبده. والتفت إلى الخطاب لأنه أصرح وأجدر بالقبول.
ولما ثبت كونه واحداً، وجب اختصاصه بالعبادة، فلذا قال: ﴿فله﴾ أي وحده ﴿أسلموا﴾ أي انقادوا بجميع ظواهركم وبواطنكم
47
في كل ما أمر به أو نهى عنه ناسخاً كان أو لا وإن لم تفهموا معناه كغالب مناسك الحج.
ولما أمر بالإسلام من يحتاج إلى ذلك إيجاداً أو تكميلاً أو إدامة، وكان الإسلام هو سهولة الانقياد من غير كبر ولا شماخة، وكان منشأ الطمأنينة والتواضع اللذين هما أنسب شيء لحال الحجاج المتجرد من المخيط المكشوف الرأس الطالب لوضع أوزاره، وتخفيف آصاره لستر عوراه، أقبل سبحانه وتعالى على الرأس من المأمورين، الحائز لما يمكن المخلوقين أن يصلوا إليه من رتب الكمال، وخلال الجمال والجلال، إشارة إلى أنه لا يلحقه أحد في ذلك فقال: ﴿وبشر المخبتين*﴾ أي المتواضعين، المنكسرين، من الخبت - للأرض المنخفضة الصالحة للاستطراق وغيره من المنافع؛ ثم بين علاماتهم فقال: ﴿الذين إذا ذكر الله﴾ أي الذي له الجلال والجمال ﴿وجلت﴾ أي خافت خوفاً مزعجاً ﴿قلوبهم﴾.
ولما كان في ذكر الحج، وكان ذلك مظنة لكثرة الخلطة الموجبة لكثرة الأنكاد ولا سيما وقد كان أكثر المخالطين مشركين، لأن السورة مكية، قال عاطفاً غير مُتبع، إيذاناً بالرسوخ في الأوصاف: ﴿والصابرين﴾ الذين صار الصبر عادتهم ﴿على ما أصابهم﴾
48
كائناً ما كان.
ولما كان ذلك شاغلاً عن الصلاة، قال: ﴿والمقيمي الصلاة﴾ أي وإن حصل لهم من المشاق بأفعال الحج وغيره ما عسى أن يحصل، ولذلك عبر بالوصف دون الفعل إشارة إلى أنه لا يقيمها على الوجه المشروع مع ذلك المشاق والشواغل إلا الأراسخ في حبها، فهم - لما تمكن من حبها في قلوبهم والخوف من الغفلة عنها - كأنهم دائماً في صلاة.
ولما كان ما يحصل فيه من زيادة النفقة ربما كان مقعداً عنه، رغب فيه بقوله: ﴿ومما رزقناهم﴾ فهم لكونه نعمة منا لا يبخلون به، ولأجل عظمتنا يحسنون ظن الخلف ﴿ينفقون*﴾ أي يجددون بذله على الاستمرار، بالهدايا التي يغالون في أثمانها وغير ذلك، إحساناً إلى خلق الله، امتثالاً لأمره كالخبت الباذل لما يودعه تعالى فيه من الماء والمرعى.
49
ولما قدم سبحانه الحث على التقرب بالأنعام كلها، وكانت الإبل أعظمها خلقاً، وأجلها في أنفسهم أمراً، خصها بالذكر في سياق تكون فيه مذكورة مرتين معبراً بالاسم الدال على عظمها، أو أنه خصها لأنه خص العرب بها دون الأمم الماضية، فقال عاطفاً على قوله ﴿جعلنا منسكاً﴾ أو يكون التقدير والله أعلم: فأشركناكم مع الأمم الماضية
49
في البقر والغنم ﴿والبدن﴾ أي الإبل أي المعروفة بعظم الأبدان - ﴿جعلناها﴾ أي بعظمتنا، وزاد في التذكير بالعظمة بذكر الاسم العلم فقال: ﴿لكم من شعائر الله﴾ أي أعلام دين الملك الأعظم ومناسكه التي شرعها لكم وشرع فيها الإشعار، وهو أن يطعن بحديدة في سنامها، تمييزاً لما يكون منها هدياً عن غيره.
ولما نبه على ما فيها من النفع الديني، نبه على ما هو أعم منه فقال: ﴿لكم فيها خير﴾ بالتسخير الذي هو من منافع الدنيا، والتقريب الذي هو من منافع الآخرة؛ روى الترميذي وحسنه وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله علية وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً» والدارقطني في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد «
ولما ذكر ما فيها، سبب عنه الشكر فقال: ﴿فاذكروا اسم الله﴾ أي الذي لا سمي له ﴿عليها﴾ أي على ذبحها بالتكبير، حال كونها
50
﴿صواف﴾ قياماً معقلة الأيدي اليسرى، فلولا تعظيمه بامتثال شرائعه، ما شرع لكم ذبحها وسلطكم عليها مع أنها أعظم منكم جرماً وأقوى ﴿فإذا وجبت جنوبها﴾ أي سقطت سقوطاً بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلاً، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع» ولا تعجلوا النفس أن تزهق «وقد وراه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن فرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ذلك.
ولما كان ربما ظن أنه يحرم الأكل ممنها للأمر بتقريبها لله تعالى، قال نافياً لذلك: ﴿فكلوا منها﴾ إذا كانت تطوعاً إن شئتم الأكل، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها قرباناً ﴿وأطعموا القانع﴾ أي المتعرض للسؤال بخضوع وانكسار ﴿والمعتر﴾ أي السائل، وقيل: بالعكس، وهو قول الشافعي رحمه الله، قال في كتاب اختلاف الحديث: والقانع هو السائل، والمعتر هو الزائر والمار، قال الرازي في اللوامع: وأصله في اللغة أن القاف والنون والعين تدل على الإقبال على الشيء، ثم تختلف معانيه مع اتفاق القياس، فالقانع: السائل، لإقباله على من يساله، والقانع: الراضي الذي لا يسأل، كأنه مقبل على الشيء الذي هو راض به.
ولما كان تسخيرها لمثل هذا القتل على هذه الكيفية مع قوتها
51
وكبرها أمراً باهراً للعقل عند التأمل، نبه عليه بالتحريك للسؤال عما هو أعظم منه فقال: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا التسخير العظيم المقدار ﴿سخرناها﴾ بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك ﴿لكم﴾ وذللناها ليلاً ونهاراً مع عظمها وقوتها، ولو شئنا جعلناها وحشية ﴿لعلكم تشكرون*﴾ أي لتتأملوا ذلك فتعرفوا أنه ما قادها لكم إلا الله فيكون حالكم حال من يرجى شكره، فتوقعوا الشكر بأن لا تحرموا منها إلا ما حرم، ولا تحلوا إلا ما أحل، وتشهدوا منها ما حث على إهدائه، وتتصرفوا فيها بحسب ما أمركم.
ولما حث على التقرب بها مذكوراً اسمه عليها، وكان من مكارم الأخلاق، وكان أكثرهم يفعله، وكانوا ينضحون البيت ونحوه بدماء قرابينهم، ويشرحون اللحم، ويضعونه حوله، زاعمين أن ذلك قربة، وقد كان بعض ذلك شرعاً قديماً، نبه سبحانه على نسخ ذلك بأن نبه على أن المقصود منه روحه لا صورته فقال: ﴿لن ينال﴾ أي يصيب ويبلغ ويدرك.
ولما كان السياق للحث على التقريب له سبحانه، كان تقديم اسمه على الفاعل أنسب للإسراع بنفي ما قد يتوهم من لحاق نفع أو ضر،
52
فقال معبراً بالاسم العلم الذي حمى عن الشركة بكل اعتبار: ﴿الله﴾ أي رضا الملك الذي له صفات الكمال فلا يلحقه نفع ولا ضر ﴿لحومها﴾ المأكوله ﴿ولا دماؤها﴾ المهراقة ﴿ولكن يناله التقوى﴾ أي عمل القلب وهي الصفة المقصود بها أن تقي صاحبها سخط الله، وهي التي استولت على قلبه حتى حملته على امتثال اموامر التي هي نهايات لذلك، الكائنة ﴿منكم﴾ الحاملة على التقرب التي بها يكون له روح القبول، المحصلة للمأمول؛ قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن النية الخالصة خير من الأعمال الموظفة - انتهى. فإذا نالته سبحانه النية قبل العمل فتلقى اللقمة «فرباها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل جبل» «ووقع الدم منه بمكان» فالنفي لصورة لا روح لها والإثبات لذات الروح، فقد تفيد النية من غير عمل كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك ما معناه. «إن بالمدينة رجالاً ما نزلنا منزلاً ولا قطعنا وادياً إلا كانوا فيه حبسهم العذر» ولا يفيد العمل بغير نية، والنية هي التي تفيد الجزاء سرمداً والله الموفق؛ ثم كرر التنبيه على عظيم تسخيرها منبهاً على ما أوجب عليهم به فقال: ﴿كذلك﴾ أي التسخير العظيم ﴿سخرها﴾ أي الله الجامع لصفات الكمال ﴿لكم﴾ بعظمته وغناه عنكم ﴿لتكبروا﴾.
ولما ذكر التكبير، صوره بالاسم الأعظم فقال: ﴿الله﴾ وضمن التكبير فعل الشكر، فكان التقدير: شاكرين له ﴿على ما هداكم﴾
53
أي على هدايتكم له والأمور العظيمة التي هداكم إليها.
ولما كان الدين لا يقوم إلا بالنذارة والبشارة، وكان السياق لأجل ما تقدم من شعائر الحج، ومعالم العج والثج - بالبشارة أليق، ذكرها مشيراً إلى النذارة بواو العطف ليؤذن أن التقدير: فأنذر أيها الداعي المسيئين: ﴿وبشر المحسنين*﴾ أي الذين أوجدوا الإحسان لأفعالهم صورة ومعنى.
ولما ذكر سبحانه الحج المذكر للمهاجرين بأوطانهم المخاصمة التي أنزلت في غزوة بدر، وذكر ما يفعل فيه من القربات، عظم اشتياق النفوس إلى ذلك وتذكرت علو المشركين الذي يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام وظهورهم ومنعهم لمن أراد هذه الأفعال، على هذه الأوصاف الخالصة، والأحوال الصالحة، وفتنتهم له، فأجابها سبحانه عن هذا السؤال بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي لا كفوء له ﴿يدافع عن الذين آمنوا﴾ لأنهم بدخولهم في الإيمان لم يكونوا مبالغين في الخيانة ولا في الكفر فهو يحبهم، فكيف بالمحسنين الذين ختمت بهم الآية السالفة، أي فيظهرهم على عدوهم - هذا في قراءة ابن كثير
54
وأبي عمرو ويعقوب بغير ألف، وفي قراءة الباقين مبالغة بإخراج الفعل على المغالبة، فكأنه قال: بشرهم بأن الله يدفع عنهم، ولكنه تعالى أظهر الأوصاف ليفهم أنها مناط الأحكام والتعبير، فعبر بالفعل الماضي ترغيباً، أي لكل من أوقع هذا الوصف في الخارج إقياعاً ما دفع عنه؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿لا يحب﴾ أي لا يكرم كما يفعل المحب ﴿كل خوان﴾ في أمانته، مانع لعباده من بيته الذي هو للناس سواء العاكف فيه والبادي ﴿كفور﴾ لنعمته بالتقرب إلى غيره، فهو يفعل مكارم الأخلاق صورة ليس فيها معنى أصلاً، لا يصححها بذكر الله وحده، ولا يجملها بالإحسان، وأتى بالصفتين على صيغة المبالغة لأن نقائص الإنسان لا يمكنه أن يفعلها خالية عن المبالغة، لأنه يخون نفسه بالعزم أولاً، والفعل ثانياً وغيره من الخلق ثالثاً، وكذا يخون نفسه ربه سبحانه وهكذا في الكفر وغيره، ولما كانت الخيانة منبع النقائص، كانت المبالغة فيها أكثر.
55
ولما كان كأنه قد قيل: كيف تكون المدافعة وبمن؟
55
فقيل: بعباده المؤمنين، عبر عن ذلك بقوله: ﴿أذن﴾ وأشار بقراءة من بناه للمجهول إلى سهولة ذلك عليه سبخانه ﴿للذين يقاتلون﴾ أي للذين فيهم قوة المدافعة، في المدافعة بالقتلا بعد أن كانوا يمنعون منه بمكة ويؤمرون بالصفح؛ ثم ذكر سبب الإذن فقال ﴿بأنهم ظلموا﴾ أي وقع ظلم الظالمين لهم بالإخراج من الديار، والأذى بغير حق.
ولما كان التقدير: فأن الله أراد إظهار دينه بهم، عطف عليه قوله: ﴿وإن الله﴾ أي الذي هو الملك الأعلى، وكل شيء في قبضته، ويجوز عطفه على قوله ﴿إن الله يدفع﴾ أي بإذنه لهم في القتال وأنه ﴿على نصرهم﴾ وأبلغ في التأكيد لا ستبعاد النصرة إذ ذاك بالكفار من الكثرة والقوة، وللمؤمنين من الضعف والقلة، فقال: ﴿لقدير*﴾ ثم وصفهم بما يبين مظلوميتهم على وجه يجمعهم ويوثقهم بالله فقال: ﴿الذين أخرجوا من ديارهم﴾ إلى الشعب والحبشة والمدينة ﴿بغير حق﴾ أوجب ذلك ﴿إلا أن يقولوا﴾ أي غير قولهم، أو ألا قولهم: ﴿ربنا الله﴾ المحيط بصفات الكمال، الموجب لإقرارهم في ديارهم، وحبهم ومدحهم واقتفاء آثارهم، فهو من باب:
56
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وفي سوق ذلك المساق الاستثناء عند من يجعله منقطعاً إشارة إلى أن من أخلص لله، صوب الناس إليه سهام مكرهم، ولم يدعوا في أذاه شيئاً من جهدهم.
ولما ذكر مدافعته، وذكر أنها بالمؤمنين، بين سرها عموماً ليفهم منها هذا الخاص، وصورها تقريباً لفهمها، فقال عاطفاً على ما تقديره: فلولا إذن الله لهم لاستمر الشرك ظاهراً، والباطل - باستيلاء الجهلة على مواطن الحج - قاهراً: ﴿ولولا دفع الله﴾ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة في كل شريعة، وفي زمن كل نبي أرسله ﴿الناس﴾ أي عموماً ﴿بعضهم ببعض﴾ أي بتسليط بعضهم على بعض ﴿لهدمت صوامع﴾ وهي معابد صغار مرتفعة للرهبان ﴿وبيع﴾ للنصارى ﴿وصلوات﴾ أي كنائس اليهود ﴿ومساجد﴾ أي للمسلمين، أخرها لتكون بعيدة من الهدم قريبة من الذكر ﴿يذكر فيها اسم الله﴾ أي الملك الذي لا ملك غيره، ولعل العدول عن الإضمار إلى الإظهار للإشارة إلى اختلاف ذكره تعالى في الأماكن المذكورة بالإخلاص وغيره ﴿كثيراً﴾ لأن كل فرقة تريد هدم ما للأخرى، بل ربما أراد بعض أهل ملة إخراب
57
بعض معابد أهل ملته، لا فبدفعه الله بمن يريد من عباده، وإذا تأملت ذلك وجدت فيه من الأسرار، ما يدق عن الأفكار، فإنه تعالى لما أراد بأكثر الناس الفساد، نصب لهم من الأضداد، ما يخفف كثيراً من العناد.
ولما كان لتقدير: ولكن لم تهدم المذكورات، لأن الله دفع بعضهم ببعض، وجعل بعضهم في نحور بعض، عطف عليه أو على قوله ﴿أذن﴾ قوله: ﴿ولينصرن الله﴾ أي الملك الأعظم، وأظهر ولم يضمر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: ﴿من ينصره﴾ كائناً كم كان منهم ومن غيرهم، بما يهيىء له من الأسباب، إجراءً له على الأمر المعتاد، وبغير أسباب خرقاً للعادة، كما وقع في كثير من الفتوحات، كخوض العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر الملح إلى جواثاء بالبحرين، واقتحام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الدجلة مع عظمها في ذلك العام وطموها، وزيادتها وعلوها، وزلزلة أسوار حمص بالتكبير وتهدّم كثيراً من بيوتها، عن إتقان بنيانها، وإحكام قواعدها وأركانها
58
ونحو ذلك؛ ثم علل نصره وإن ضعف المنصور، بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي لا كفوء له ﴿لقوي*﴾ أي على ما يريد ﴿عزيز*﴾ لا يقدر أحد على مغالبته، ومن كان ناصره فهو المنصور، وعدوه المقهور، ولقد صدق سبحانه فيما وعد به، فأذل بأنصار دينه رضي الله عنهم - جبابرة أهل الأرض وملوكهم، ومن أصدق من الله حديثاً.
ولما وصف نفسه سبحانه بما يقتضي تمكين منصوره الذي ينصره، وصفهم بما يبين أن قتالهم له، لا لهم، بعد أن وصفهم بأنهم أوذوا بالإخراج من الديار الذي يعادل القتل، فقال: ﴿الذين﴾ ولما كان وقت النصرة مبهماً آخره يوم الفصل، عبر بأداة الشك ليكون ذلك أدل على إخلاص المخلص في القتال: ﴿إن مكناهم﴾ بما لنا من العظمة ﴿في الأرض﴾ بإعلائهم على أضدادهم ﴿أقاموا الصلاة﴾ أي التي هي عماد الدين، الدالة على المراقبة والإعراض عن تحصيل الفاني ﴿وآتوا الزكاة﴾ المؤذنة بالزهذ في الحاصل منه، المؤذن بعمل النفس للرحيل ﴿وأمروا بالمعروف﴾ وهو ما عرفه الشرع وأجاره ﴿ونهوا عن المنكر﴾ المعرف بأنه لا أنس لهم إلا به سبحانه، ولا خوف لهم إلا منه، ولا رجاء فيه والآية دالة على صحة خلافة الأئمة الأربعة.
59
ولما كان هذا ابتداء الأمر بالجهاد، وكان عقب ما آذى أعداؤه أولياءه، فطال أذاهم لهم، فكان التقدير كما أرشد إليه العطف على غير مذكور، عطفاً على ﴿ولولا دفع﴾ فلله بادئة الأمور، عطف عليه قوله: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء ﴿عاقبة الأمور*﴾ فتمكينهم كائن لا محالة، لكن ذكره للعاقبة وطيه للبادئة منبه على أنه تعالى يجعل للشيطان - كما هو المشاهد في الأغلب - حظاً في البادئة، ليتبين الصادق من الكاذب، والمزلزل من الثابت، وأما العاقبة فهي متمحضة له إلى أن يكون آخر ذلك القيامة التي لا يكون لأحد فيها أمر، حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن خاص. ولما كان في ترغيب هذه الآيات وترهيبها ما يعطف العاقل، ويقصف الجاهل، طوي حكم العاقل لفهمه ما سبق، وهو: فإن يؤمنوا بك مكناهم في الأرض، ودل عليه بعطف حكم الجاهل على غير مذكور في سياق يسلي به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعزيه، ويؤنسه ويواسيه، فقال ﴿وإن يكذبوك﴾ أي أخذتهم وإن كانوا أمكن الناس، فقد فعلت بمن قبلهم ذلك، فلا يحزنك أمرهم ﴿فقد كذبت﴾ وأتى سبحانه بتاء التأنيث تحقيراً للمكذبين في قدرته وإن كانوا أشد الناس.
ولما كانت هذه الأمم لعظمهم وتمادي أزمانهم كأنهم قد استغرقوا الزمان كله، لم يأت بالجار فقال: ﴿قبلهم قوم نوح﴾ وكانوا
60
أطول الناس أعماراً، وأشدهم اقتداراً؛ ولما لم يتعلق في هذا السياق غرض بالمخالفة في ترتيبهم، ساقهم على حسب ترتبيهم في الوجود فقال: ﴿وعاد﴾ أي ذوو الأبدان الشداد ﴿وثمود*﴾ أولو الأبنية الطوال، في السهول والجبال ﴿وقوم إبراهيم﴾ المتجبرون المتكبرون ﴿وقوم لوط*﴾ الأنجاس، بما لم يسبقهم إليه أحد من الناس ﴿وأصحاب مدين﴾ أرباب الأموال، المجموعة من خزائن الضلال.
ولما كان موسى عليه السلام قد أتى من الآيات المرئية ثم المسموعة بما لم يأت بمثله أحد ممن تقدمه، فكان تكذيبه في غاية من البعد، غير سبحانه الأسلوب تنبيهاً على ذلك، وعلى أن الذين أطبقوا على تكذيبه القبط، وأما قومه فما كذبه منهم إلا ناس يسير، فقال: ﴿وكذب موسى﴾ وفي ذلك أيضاً تعظيم للتأسية وتفخيم للتسلية ﴿فأمليت للكافرين﴾ أي فتعقب عن تكذيبهم أني أمهلتهم بتأخير عقوبتهم إلى الوقت الذي ضربته لهم، وعبر عن طول الإملاء بأداة التراخي لزيادة التأسية فقال: ﴿ثم أخذتهم﴾ ونبه سبحانه وتعالى على أنه كان في أخذهم عبر وعجائب، وأهوال وغرائب، بالاستفهام في قوله: ﴿فكيف كان نكير*﴾ أي إنكاري لأفعالهم، فليحذر هؤلاء الذين أتيتهم بأعظم ما أتى به رسول قومه مثل ذلك.
61
ولما كانت هذه الأمم السبعة أكثر أهل الأرض، بل كانت أمة
61
منهم أهل الأرض كما مضى بيانه في الأعراف، فكيف بمن عداهم ممن كان في أزمانهم وبعدهم، وأخبر سبحانه وتعالى أن عادته فيهم الإملاء ثم الإهلاك، تسبب عن ذلك تهويل الإخبارعنهم وتكثيرهم، فقال تعالى شارحاً للأخذ والإمهال على طريق النشر المشوش: ﴿فكأين من قرية أهلكناها﴾ كهؤلاء المذكورين وغيرهم، وفي قراءة الجماعة غير أبي عمرو بالنون إظهاراً للعظمة ﴿وهي﴾ أي والحال أنها ﴿ظالمة فهي﴾ أي فتسبب عن إهلاكها أنها ﴿خاوية﴾ أي متهدمة ساقطة أي جدرانها ﴿على عروشها﴾ أي سقوفها، بأن تقصفت الأخشاب ولا من كثرة الأمطار، وغير ذلك من الأسرار، فسقطت ثم سقطت عليها الجدران. أو المعنى: خالية، قد ذهبت أرواحها بذهاب سكانها على البقاء سقوفها، ليست محتاجة إلىغير السكان ﴿و﴾ كم من ﴿بئر معطلة﴾ من أهلها مع بقاء بنائها، وفوران مائها ﴿وقصر مشيد*﴾ أي عال متقن مجصص لأنه لا يشيد - أي يجصص - إلا الذي يقصد رفعه، فحلت القصور من أربابها، وأقفرت موحشة من جميع أصاحبها، بعد كثرة التضام في نواديها، وعطلت الآبار من ورَّادها
62
بعد الازدحام بين رائحها وغاديها، دانية ونائية، حاضرة وبادية؛ ولما كان خراب المشيد يوهى من أركانه، ويخلق من جدارنه، لم يحس التشديد في وصف القصر، كما حسن في وصف البئر.
ولما كان هذا واعظاً لمن له استبصار، وعاطفاً له إلى العزيز الغفار، تسبب عنه الإنكار عليهم في عدم الاعتبار، فعد أسفارهم - التي كانوا يرون فيها هذه القرى على الوجه الذي أخر به سبحانه لما كانت على ذلك الوجه - عدماً، فقال تعالى: ﴿أفلم يسيروا في الأرض﴾ أي وهم بصراء ينظرون بأعينهم ما يمرون عليه، من الآيات المرئية من القرى الظالمة المهلكة وغيرها، وقرينة الحث على السير دل على البصر.
ولما كان الجواب منصوباً، علم أنه منفي لأنه مسبب عن همزة الإنكار التي معناها النفي، وقد دخلت على النفي السير فنفته، فأثبتت السير عرياً عما أفاده الجواب، وهو قوله ﴿فتكون﴾ أي فيتسبب عن سيرهم أن تكون ﴿لهم قلوب﴾ واعية ﴿يعقلون بها﴾ ما رأوه بأبصارهم في الآيات المرئيات من الدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته على الإحياء والإماتة متى أراد فيعتبروا به، فانتفاء القلوب الموصوفة متوقف على نفي السير الذي هو إثبات السير، وكذا الكلام في الآذان من قوله ﴿أو﴾ أي أو تكون لهم إن كانوا عمي الأبصار
63
كما دل عليه جعل هذا قسيماً ﴿آذان يسمعون بها﴾ الآيات المسموعة المترجمة عن تلك القرى وغيرها سواء ساروا أو لم يسيروا، إن كانت بصائرهم غير نافذة الفهم بمجرد الرؤية فيتدبروها بقلوبهم، فإنه لا يضرهم فقد الأبصار عند وجود البصائر.
ولما كان الضار للإنسان إنما هو عمى البصائر دون الأبصار، نفى العمى أصلاً عن الأبصار لعدم ضرورة مع إنارة البصائر، وخصه بالبصئر لوجود الضرر به ولو وجدت الأبصار، مسبباً عما مضى مع ما أرشد إليه من التقدير، فقال: ﴿فإنها لا تعمى الأبصار﴾ أي لعدم الضرر بعماها المستنير البصيرة ﴿ولكن تعمى القلوب﴾ وأكد المعنى بقوله: ﴿التي في الصدور*﴾ لوجود الضرر بعماها المبطل لمنفعة صاحبها وإن كان البصر موجداً، فاحتيج في تصوير عماها إلى زيادة تعيين لما تعورف من أن العمى إنما هو للبصر، إعلاماً بأن القلوب ما ذكرت غلطاً، بل عمداً، تنبيهاً على أن عمى البصر عدم بالنسبة لى عماها، والمراد بالقلب لطيفة ربانية روحانية مودعة في اللحم الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر، لديه تعلق... عقول الأكثر في أنه يضاهي تعلق العرض بالجسم، أو الصفة بالموصوف، أو المتمكن بمكان
64
وهذه اللطيفة على حقيقة الإنسان سميت قلباً للمجاورة والتعلق، وهي كالفارس والبدن كله كالفرس، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس، بل لا نسبة لأحد الضررين بالآخرة، فلذلك نفى عمى الأبصار أصلاً
65
ورأساً، فلا شيء ضرره بالنسبة إلى عمى البصائر.
ولما قدم سبحانه أن الضال المضل له خزي في الدنيا، وقدم أنه يدفع عن الذين آمنوا وينصرهم، وساق الدليل الشهودي على ذلك لمن كان جامد الفهم، مقيداً بالوهم، بالقرى الظالمة التي أنجز هلاكها، وختم بإنكار عماهم عن ظاهر الآيات البينات، قال عاطفاً على ﴿ومن الناس من يجادل﴾ معجباً منهم وموضحاً لعماهم: ﴿ويستعجلونك﴾ ويجوز وهو أحسن أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل ﴿يسيروا﴾ فيكون مما أنكر عليهم ﴿بالعذاب﴾ الذي تتوعدهم به تكذيباً واستهزاء، ﴿و﴾ الحال أنه ﴿لن يخلف الله﴾ الذي لا كفوء له ﴿وعده﴾ فلا بد من وقوعه لكن الطويل عندهم من الزمن قصير عنده، وقد ينجز الوعد وقد يؤخره بعد الوعيد إلى حين يوم أو أقل أو أكثر، لأن قضاءه سبق أنه لا يكون إلا فيه لحكم يظهرها لمن يشاء من عباده ﴿وإن يوماً﴾ أي واحداً ﴿عند ربك﴾ أي المحسن إليك بتأخير
66
العذاب عنهم إكراماً لك ﴿كألف سنة﴾ ولما كان المقصود هنا التطويل، فعبر بالسنة تنبيهاً عليه؛ ولما كانت السنون قد تختلف قال: ﴿مما تعدون*﴾ لأن أيامكم تناسب أوهامكم، وأزمانكم تناسب شأنكم، وهو حليم لا يستطيل الزمان، وقادر لا يخاف الفوت.
67
ولما دل على نصر أوليائه، وقسر أعدائه، بشهادة تلك القرى، وختم بالتعجيب من استعجالهم مع ما شاهدوا من إهلاك أمثالهم، وأعلمهم ما هو عليه من الأناة، واتساع العظمة، وكبر المقدار، عطف على ﴿فكأين﴾ محذراً من نكاله، بعد طويل إمهاله، قوله: ﴿وكأين من قرية﴾ أي من أهلها ﴿أمليت لها﴾ أي أمهلتها كما أمهلتكم ﴿وهي ظالمة﴾ كظلمكم بالاستعجال وغيره ﴿ثم أخذتها﴾ أي بالعذاب ﴿وإليّ المصير*﴾ بانقطاع كل حكم دون حكمي، كما كان مني البدء، فلم يقدر أحد أن يمنع من خلق ما أردت خلقه، ولا أن يخلق ما لم أرد خلقه، فلا تغتروا بالإمهال، وإن تمادت الأيام والليالي، واحذروا عواقب الوبال، وإن بلغتم ما أردتم من الآمال، ولعله إنما طوى ذكر البدء، لأنه احتجب فيه بالأسباب فغلب فيه اسمه الباطن، ولذلك ضل في هذه الدار أكثر الخلق وقوفاً مع الأسباب.
ولما كان الاستعجال بالأفعال لا يطلب من الرسول، وكان الإخبار باستهزائهم وشدة عماهم ربما أفهم الإذن في الإعراض عنهم أصلاً ورأساً قال سبحانه وتعالى مزيلاً لذلك منبهاً على أن مثله إنما يطلب من المرسل، لا من الرسول: ﴿قل﴾ أي لهم، ولا يصدنك عن دعائهم ما أخبرناك به من عماهم ﴿يا أيها الناس﴾ أي جميعاً من قومي وغيرهم ﴿إنما أنا لكم نذير﴾ أي وبشير، وإنما طواه لأن المقام للتخويف، ويلزم منه الأمن للمنتهى فتأتي البشارة، ولأن النذارة هي المقصود الأعظم من الدعوة، لأنه لا يقدم عليها إلا المؤيدون بروح من الله ﴿مبين*﴾ أي لكل ما ينفعكم لتلزموه. ويضركم فتتركوه لا إله، أعجل لكم العذاب؛ ثم تسبب عن كونه مبيناً العلم بأن وصف البشارة مراد وإن طوي، فدل عليه سبحانه بقوله تفضيلاً لأهل البشارة والنذارة: ﴿فالذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان ﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً لدعواهم ذلك ﴿الصالحات لهم مغفرة﴾ لما فرط منهم من التقصير لأنه لن يقد أحد أن يقدر الله حق قدره.
ولما كان هذا أول الإذن في القتال، الموجب لمنابذة الكفار، ومهاجرة الأهل والأموال والديار، وكان ذلك - مع كونه في غاية الشدة - موجباً للفقر عادة، قال محققاً له ومنبهاً على أنه سبب الرزق: ﴿ورزق﴾ أي في الدنيا بالغنائم وغيرها، والآخرة بما
67
لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿كريم*﴾ لا خسة فيه ولا دناءة بانقطاع ولا غيره أصلاً ما داموا على الاتصاف بذلك، هذا فعل ربهم بهم عكس ما وصف به مدعو الكفار من أن ضره أقرب من نفعه.
ولما كان في سياق الإنذار، قال معبراً بالماضي زيادة في التخويف: ﴿والذين سعوا﴾ أي أوقعوا السعي ولو مرة واحدة بشبهة من الشبه ونحوها ﴿في آياتنا﴾ أي التي نصبناها للدلالة علينا مرئية أو مسموعة ﴿معاجزين﴾ أي مبالغين في فعل ما يلزم - في زعمهم - منه عجزنا، ومعجزين، أي مقدرين أنهم يعجزوننا بإخفائهم آياتنا، وإضلال الناس وصدهم عهنا بألقاء الشبه والجدال، اتباعاً للشيطان المريد، من غير علم ولا هدى ولا كتب منير كشبه الاتحادية الذين راج أمرهم على كثير من الناس مع أنه لا شيء أوهى من شبههم ولا أظهر بطلاناً، ولذلك راج أمرها على أهل الغباوة، فإن الداعية منهم يقول لمن يغره: هذا الظاهر من الكلام لا يقول به عاقل، فالمراد به أسرار دقيقة، وراء طور العقل، لا يوصل إليه إلا بالرياضة والكشف، وما درى المغرور أن أبا طالب كان أعقل من هذا الذي ينسب إليه ذلك الكفر الظاهر،
68
فإن شعره أحسن من شعره، وبديهته أعظم من بديهته، ورؤيته أحكم من رؤيته، وقد رأى من الآيات من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا مزيد عليه، مع أن له من القرابة ما هو معروف، ومن المحبة ما يفوت الحصر، ومع ذلك فقد أصرّ من الضلال ما لا يرضاه حمار لو نطق، على أن هذا المغرور قد لزمه - بتحسين الظن بهؤلاء الكفرة - إساءة الظن بأشرف الخلق: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله
«من رأى منكم منكراً» - الحديث الذي في بعض رواياته: «وليس وراء ذلك أي الإنكار بالقلب - مثقال حبة من إيمان» وقد أفردت لبيان ضلالهم كتباً لما استطار من شرهم، ومس من ضرهم، منها المطول والمختصر، لا مزيد على بيانها وظهور سلطانها ﴿أولئك﴾ البعداء البغضاء ﴿أصحاب الجحيم*﴾ أي استحقاقاً بما سعوا، فإن شاء تاب عليهم، وإن شاء كبهم فيها، ليعلموا أنهم هم العاجزون، هذا في الآخرة، وسيظهر سبحانه في الدنيا أيضاً عجزهم، بكشف شبههم ومج القلوب النيرة لها، مع ذلهم وانكسارهم، وهوانهم وصغارهم، حتى لا يقدروا أن ينطقوا من ذلك ببنت شفة، علماً منهم أن مثلها لا يقوله عاقل.
ولما لاح من ذلك أن الشيطان ألقى للكفار شبهاً، يعاجزون بها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإظهاره،
69
وتقرير وإشهاره، عطف عليه تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: ﴿وما أرسلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿من قبلك﴾ ثم أكد الاستغراق بقوله: ﴿من رسول﴾ أي من ملك أو بشر بشريعة جديدة يدعو إليها ﴿ولا نبي﴾ سواء كان رسولاً أو لا، مقرر بالحفظ لشريعة سابقة - كذا قال البيضاوي وغيره في الرسول وهو منقوص بأنبياء بني أسرائيل الذين بين موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فإن الله تعالى سماهم رسلاً في غير آية منها ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل﴾ [البقرة: ٨٧] فالصواب أن يقال: النبي إنسان أوحي إليه بشرع جديد أو مقرر، فإن أمر بالتبليغ فرسول أيضاً، والتقييد بشرع لإخراج مريم وغيرها من الأولياء ﴿إلا إذا تمنى﴾ أي تلا على الناس ما أمره الله به أو حدثهم به واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم ﴿ألقى الشيطان في أمنيته﴾ أي ما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل، من الشبه والتخيلات ما يتلقفه منه أولياءه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم
﴿وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم﴾ [الأنعام: ١٢١] ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً﴾ [الأنعام: ١١٢] كما يفعل هؤلاء فيما
70
يغيرون به في وجه الشريعة أصولاً وفروعاً من قولهم: إن القرآن شعر وسحر وكهانة، وقولهم ﴿لو شاء الله ما أشركنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] وقولهم ﴿هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾ [يونس: ١٨] وقولهم: إن ما قلته الله بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح، وقولهم: نحن أهل الله وسكان حرمه، لا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمعشر الحرام ويقف الناس بعرفة، ونحن نطوف قي ثيابنا وكذا من ولدناه، وأما غيرنا فلا يطوف إلا عرياناً ذكراً ان أو أنثى إلا أن يعطيه أحد منا ما يلبسه، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية وأنظارهم التي ألحدوا فيها، يضل بها من يشاء الله ثم يمحوها من أراد من عباده وما أراد من أمره ﴿فينسخ﴾ أي فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ ﴿الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ما يلقي الشيطان﴾ فيبطله بإيضاح أمره ومج القلوب له.
ولما كان إبطاله سبحانه للشبه إبطالاً محكماً، لا يتطرق إليه لعلو رتبة بيانه - شبهة أصلاً، عبر بأداة التراخي فقال: ﴿ثم يحكم الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له ﴿آياته﴾ أي يجعلها جلية فيما أريد منها، وأدل دليل على أن هذا هو المراد مع الافتتاح بالمعاجزة في الآيات - الختام بقوله عطفاً على ما تقديره: فالله على ما يشاء قدير:
71
﴿والله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿عليم﴾ أي بنفي الشبه ﴿حكيم*﴾ بإيراد الكلام على وجه لا تؤثر فيه عند من له أدنى بصيرة، وكذا ما مضى في السورة ويأتي من ذكر الجدال.
72
ولما ذكر سبحانه ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء، ذكر العلة في ذلك فقال: ﴿ليجعل ما يلقي الشيطان﴾ أي في المتلو أو المحدث به من تلك الشبه في قلوب أوليائه ﴿فتنة﴾ أي اختباراً وامتحاناً ﴿للذين في قلوبهم مرض﴾ لسفولها عن حد الاعتدال من اللين حتى صارت مائيته تقبل كل صورة ولا يثبت فيها صورة، وهم أهل النفاق المتلقفون للشبه الملقون لها ﴿والقاسية قلوبهم﴾ عن فهم الآيات، وهم من علت قلوبهم عن ذلك الجدال أن صارت حجرية، وهم المصارحون بالعداوة، فهم في ريب من أمرهم وجدال للمؤمنين، قد انتقشت فيها الشبه، فصارت أبعد شيء عن الزوال. ولما كان التقدير: فإنهم حزب الشيطان، وأعداء الرحمن، عطف عليه قوله. وإنهم هكذا الأصل، ولكنه أظهر تنبيهاً على وصفهم فقال: ﴿وإن الظالمين﴾ أي الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في غير مواضعها كفعل من هو في الظلام ﴿لفي شقاق﴾ أي خلاف بكونهم في شق
72
غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك الشبه التي تلقوها من الشيطان، وجادلوا بها أولياء الرحمن ﴿بعيد*﴾ عن الصواب ﴿ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون﴾ [الأنعام: ١١٣] ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم﴾ بإتقان حججه، وإحكام براهينه، وضعف شبه المعاجزين، وبني فعله للمجهول تعظيماً لثمرته في حد ذاته لا بالنسبة إلى معط معين ﴿أنه﴾ أي الشيء الذي تلوته أو حدثت به ﴿الحق﴾ أي الثابت الذي لا يمكن زواله ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بتعليمك إياه، فإن الحق كلما جودل أهله ظهرت حججه، وأسفرت وجوهه، ووضحت براهينه، وغمرت لججه، كما قال تعالى ﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ [البقرة: ٢٦] ﴿فيؤمنوا به﴾ لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبه ﴿فتخبت﴾ أي تطمئن وتخضع ﴿له قلوبهم﴾ وتسكن به قلوبهم، فإن الله جعل فيها السكينة فجعلها زجاجية صلبة صافية رقيقة بين المائية والحجرية، نافعة بفهم العلم وحفظه والهداية به لمن يقبل عنهم من الضالين كما ينفع الخبث بقبول طائفة منه لطائفة من الماء، وإنبات ما يقدره الله من الكلاء وغيره وحفظ طائفة أخرى لطائفة أخرى منه لشرب الحيوان ﴿وإن الله﴾ بجلاله وعظمته لهاديهم، ولكنه أظهر تنبيهاً على سبب العلم فقال: ﴿لهاد الذين آمنوا﴾ في
73
جميع ما يلقيه أولياء الشيطان ﴿إلى صراط مستقيم*﴾ يصلون به إلى معرفة بطلانه، فيوصلهم ذلك إلى سعادة الدارين ﴿ولا يزال الذين كفروا﴾ أي وجد منهم الكفر وطبعوا عليه ﴿في مرية﴾ أي شك يطلبون السكون إليه ﴿منه﴾ أي من أجل إلقاء الشيطان وما ألقاه، أو مبتدىء منه ﴿حتى تأتيهم الساعة﴾ أي الموت أو القيامة ﴿بغتة﴾ أي فجأة بموتهم حتف الأنف ﴿أو يأتيهم عذاب يوم عقيم*﴾ يقتل فيه جميع أبنائهم منهم ولا يكون لهم فيه شيء مما يترجونه من نصر أو غيره كما سعوا بجدلهم وإلقاء الضلالات في إعقام الآيات، فإذا انكشف لهم الغطاء بالساعة أو العذاب الموصل إلى حد الغرغرة آمنوا دأب البهائم التي لا ترى إلا الجزئيات، فلم ينفعهم ذلك لفوات شرطه، وقد زالت بحمد الله عن هذه الآية - بما قررته الشكوك، وانفضحت مخيلات الشبه، وانقمعت مضلات الفتن، من قصة الغرانيق وما شاكلها مما يتعالى عنه ذلك الجناب الرفيع، والحمى العظيم المنيع، ولم يصح شيء من ذلك كما صرح به الحافظ عماد الدين ابن كثير وغيره كيف وقد منع الشيطان من مثاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام،
74
كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه
«من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي» وقد تولى الله سبحانه حفظ الذكر الحكيم بحراسة السماوات وغيرها ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ ﴿إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم﴾ [الجن: ٢٧].
ولما كانوا من الكثرة والقوة بمكان كان كأنه قيل: كيف يغلبون؟ فقال جواباً عن ذلك: ﴿الملك يومئذ﴾ أي يوم إذ يأتيهم ذلك إما في القيامة أو في الدنيا ﴿لله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال وحد بتغليب اسمه الظاهر، بأن يجري أمره فيه على غير الأسباب التي تعرفونها.
ولما كان كأنه قيل: ما معنى اختصاصه به وكل الأيام له؟ قيل: ﴿يحكم بينهم﴾ أي بين المؤمنين والكافرين بالأمر الفيصل، لا حكم فيه ظاهراً ولا باطناً لغيره، كما ترونه الآن، بل يمشي فيه الأمر على أتم قوانين العدل، ولذلك سبب ظهور العدل عنه قوله مفصلاً بادئاً. إظهاراً لتفرده بالحكم بإكرام من كانوا قاطعين بهوانهم في الدارين
75
مع أن تقديمهم أوفق لمقصود السورة: ﴿فالذين آمنوا وعملوا﴾ أي وصدقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا ﴿الصالحات﴾ وهي ما أمرهم الله به.
ولما كانت إثابته تعالى لأهل طاعته تفضلاً منه، نبه على ذلك بإعراء الخبر عن الفاء السببية بخلاف ما يأتي في حق الكفار فقال: ﴿في جنات النعيم*﴾ في الدنيا مجازاً، لمآلهم إليهم مع ما يجدونه من لذة المناجاة واستشعار القرب وفي الآخرة حقيقة بما رحمهم الله به من توفيقهم للأعمال الصالحة ﴿والذين كفروا﴾ أي غطوا ما أعطيناهم من المعرفة بالأدلة على وحدانيتنا ﴿وكذبوا بآياتنا﴾ ساعين - بما أعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه، وقرن الخبر بالفاء إيذاناً بأنه مسبب عن كفرهم فقال: ﴿فأولئك﴾ أي البعداء عن أسباب الكرم ﴿لهم عذاب مهين*﴾ بسبب ما سعوا في إهانة آياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتها والتكبر عن اتباعها.
ولما كان المشركون يمنعون بهذ الشبه وغيرها كثيراً من الناس الإيمان، وكانوا لا يتمكنون بها إلا ممن يخالطهم، رغب سبحانه في الهجرة فقال: ﴿والذين هاجروا﴾ أي أوقعوا هجرة ديارهم وأهليهم ﴿في سبيل الله﴾ أي طريق ذي الجلال والإكرام التي شرعها، فكانت
76
ظرفاً لمهاجرتهم، فلم يكن لهم بها غرض آخر. ولما كان أكثر ما يخاف من الهجرة القتل. لقصد الأعداء للمهاجر بالمصادمة، عند تحقق المصارمة، قال معبراً بأداة التراخي إشارة إلى طول العمر وعلو الرتبة بسبب الهجرة: ﴿ثم قتلوا﴾ أي بعد الهجرة، وألحق به مطلق الموت فضلاً منه فقال: ﴿أو ماتوا﴾ أي من غير قتل ﴿ليرزقنهم الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿رزقاً حسناً﴾ من حين تفارق أرواحهم أشباحهم لأنهم أحياء عند ربهم، وذلك لأنهم أرضوا الله بما انخلعوا منه مما أثلوه طول أعمارهم. وأثله آباؤهم من قبلهم، وأموالهم وأهليهم وديارهم.
ولما كان التقدير: فإن الله فعال ما يريد من إحيائهم ورزقهم وغيره، عطف عليه قوله: ﴿وإن الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال بعظمته وقدرته على الإحياء كما قدر على الإماتة ﴿لهو خير الرازقين*﴾ يرزق الخلق عامة البر منهم والفاجر، فكيف بمن هاجر إليه! ويعطي عطاء لا يدخله عد، ولا يحويه حد، وكما دلت الآية على تسوية من مات في سبيل الله برباط أو غيره في الرزق بالشهيد، دلت السنة أيضاً من حديث سلمان وغيره رضي الله عنهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من مات مرابطاً أجري عليه الرزق وأمن الفتانين».
77
ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار، وكان ذلك من أفضل
77
الرزق، قال دالاً على ختام التي قبل: ﴿ليدخلنهم مدخلاً﴾ أي دخولاً ومكان دخول قراءة نافع وأبي جعفر بفتح الميم، وإدخالاً ومكان إدخال على قراءة الباقين ﴿يرضونه﴾ لا يبغون به بدلاً، بما أرضوه به بما خرجوا منه.
ولما كان التقدير: فإن الله لشكور حميد، وكان من المعلوم قطعاً أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره وإن اجتهد، لأن الإنسان محل الخطأ والنسيان، فلو أوخذ بذلك هلك، وكان ربما ظن ظان أنه لو علم ما قصروا فيه لغضب عليهم، عطف على ما قدرته قوله: ﴿وإن الله﴾ أي الذي عمت رحمته وتمت عظمته ﴿لعليم﴾ أي بمقاصدهم وما علموا مما يرضيه وغيره ﴿حليم*﴾ عما قصروا فيه من طاعته، وما فرطوا في جنبه سبحانه.
ولما ختم هذه الآيات - التي الإذن للمظلومين في القتال للظالمين - بصفة الحلم، فكان ذلك مخيلة لوجوب العفو عن حقوق العباد كما في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، نفى ذلك بقوله إذناً للمجهارين فيمن أخرجهم من ديارهم أن يخرجوه من دياره ويذيقوه بعض ما توعده الله به من العذاب المهين: ﴿ذلك﴾ أي الأمر المقرر من صفة الله تعالى ذلك ﴿ومن عاقب﴾ من العباد بأن
78
أصاب خصمه، لمصيبة يرجو فيها العاقبة ﴿بمثل ما عوقب﴾ أي عولج علاج من يطلب حسن العاقبة ﴿به﴾ من أي معاقب كان فلم يتجاوز إلى ظلم ﴿ثم بغي﴾ أي من أيّ باغ كان ﴿عليه﴾ بالعود إلى خصومته لأخذه حقه.
ولما كان ما يحصل للمبغي عليه بالكسر عوداً على بدء من الذل والهوان مبعداً لأن ينجبر، أكد وعده فقال: ﴿لينصرنه الله﴾ أي الذي لا كفوء له.
ولما قيد ذلك بالمثلية، وكان أمراً خفياً، لا يكاد يوقف عليه، فكان ربما وقعت المجاوزة خطأ، فظن عدم النصرة لذلك، أفهم تعالى أن المؤاخذة إنما هي بالعمد، بقوله؛ ويجوز أن يكون التقدير ندباً إلى العفو بعد ضمان النصر: إن الله لعزيز حكيم، ومن عفا وأصلح فقد تعرض لعفو الله عن تقصيره، ومغفرته لذنوبه، فهو احتباك: ذكر النصرة دليل العزة والحكمة، وذكر العفو منه سبحانه دليل حذف العفو من العبد ﴿إن الله﴾ أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿لعفو﴾ أي عمن اقتص ممن ظلمه أول مرة ﴿غفور*﴾ لمن اقتص ممن بغى عليه.
79
ولما ختم بهذين الوصفينن ذكر من الدليل عليهما أمراً جامعاً للمصالح، عاماً للخلائق، يكون فيه وبه الإحسان بالخلق والرزق فقال: ﴿ذلك﴾ أي معرفة اتصافه سبحانه بهذين الوصفين ﴿بأن الله﴾ المتصف بجميع صفات الكمال ﴿يولج﴾ لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن ﴿الليل في النهار﴾ فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار ﴿ويولج النهار في الليل﴾ فينسخ ضياءه بظلامه، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو يطول أحدهما حيث يراد استيلاء ما طبع عليه على ضد ما طبع عليه آخر لما يراد من المصالح التي جعل ذلك لأجلها ﴿وأن الله﴾ بجلاله وعظمته ﴿سميع﴾ لما يمكن أن يسمع ﴿بصير*﴾ أي مبصر عالم لما يمكن أن يبصر دائم الاتصاف بذلك فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر، لأنه منزه عن الأعراض، وهو لتمام قدرته وعلمه لا يخاف في عفوه غائلة، ولا يمكن أن يفوته أمر، أو يكون التقدير: ذلك النصر والعفو بأنه قادر وبأنه عالم.
ولما وصف نفسه سبحانه بما ليس لغيره فبان بذلك نقير ما سواه بفعله علله بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم ﴿بأن الله﴾ الحاوي لصفات الكمال، القادر على إخراج المعدوم
80
ولما ختم بهذين الوصفينن ذكر من الدليل عليهما أمراً جامعاً للمصالح، عاماً للخلائق، يكون فيه وبه الإحسان بالخلق والرزق فقال: ﴿ذلك﴾ أي معرفة اتصافه سبحانه بهذين الوصفين ﴿بأن الله﴾ المتصف بجميع صفات الكمال ﴿يولج﴾ لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن ﴿الليل في النهار﴾ فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار ﴿ويولج النهار في الليل﴾ فينسخ ضياءه بظلامه، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو يطول أحدهما حيث يراد استيلاء ما طبع عليه على ضد ما طبع عليه آخر لما يراد من المصالح التي جعل ذلك لأجلها ﴿وأن الله﴾ بجلاله وعظمته ﴿سميع﴾ لما يمكن أن يسمع ﴿بصير*﴾ أي مبصر عالم لما يمكن أن يبصر دائم الاتصاف بذلك فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر، لأنه منزه عن الأعراض، وهو لتمام قدرته وعلمه لا يخاف في عفوه غائلة، ولا يمكن أن يفوته أمر، أو يكون التقدير: ذلك النصر والعفو بأنه قادر وبأنه عالم.
ولما وصف نفسه سبحانه بما ليس لغيره فبان بذلك نقير ما سواه بفعله علله بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم ﴿بأن الله﴾ الحاوي لصفات الكمال، القادر على إخراج المعدوم
81
وتجديد ما فات، من نشر الأموات وغيره ﴿هو﴾ وحده ﴿الحق﴾ أي الواجب الوجود ﴿وأن ما يدعون﴾ أي دعاء عبادة وهم لا يسمعون.
ولما كان سبحانه فوق كل شيء بقهره وسلطانه، قال محقراً لهم: ﴿من دونه﴾ أي من هذه الأصنام وغيرها، ولم يتقدم هنا من الدليل على بطلان الأوثان مثل ما ذكره في لقمان الداعي الحال إلى التأكيد بضمير الفصل فقال: ﴿هو الباطل﴾ لأنه ممكن وجوده وعدمه، فليس له من ذاته إلا العدم كغيره من الممكنات ﴿وأن الله﴾ لكونه هو الحق الذي لا كفوء له ﴿هو﴾ وحده ﴿العلي الكبير*﴾ وكل ما سواه سافل حقير، تحت قهره وأمره، فهو يحيي الموتى كما تقدم أول السورة.
ولما دل ما تضمنه رزقه سبحانه للميت في سبيله بقتل أو غيره على إحيائه له، ودل سبحانه على ذلك وعلى أنه خير الرازقين بما له من العظمة، وختم بهذين الوصفين، أتبعه دليلاً آخر على ذلك كله بآية مشاهدة جامعة بين العالم العلوي والسفلي قاضية بعلوه وكبره، فقال: ﴿ألم تر﴾ أي أيها المخاطب ﴿أن الله﴾ أي المحيط قدرة وعلماً ﴿أنزل من السماء ماء﴾ بأن يرسل رياحاً فتثير سحاباً فيمطر على الأرض الملساء.
ولما كان هذا الاستفهام المتلو بالنفي في معنى الإثبات لرؤية الإنزال لكونه فيه معنى الإنكار، عطف على ﴿أنزل﴾ معقباً له على حسب العادة قوله، معبراً بالمضارع تنبيهاً على عظمة النعمة بطول زمان أثر المطر وتجدد نفعه: ﴿فتصبح الأرض﴾ أي بعد أن كانت مسودة يابسة، ميتة هامدة ﴿مخضرة﴾ حية يانعة، مهتزة نامية، بما فيه رزق العبادة، وعمار البلاد، ولم ينصب على أنه جوابه لئلا يفيد نفي الاخضرار، وذلك لأن الاستفهام من حيث فيه معنى الإنكار نفي لنفي رؤية الإنزال الذي هو إثبات الرؤية، فيكون ما جعل جواباً له منفياً، لأن الجواب متوقف على ما هو جوابه، فإذا نفى ما عليه التوقف انتفى المتوقف عليه، أي إذا نفى الملزوم انتفى اللازم، وإذا نفي السبب انتفى المسبب - كما تقدم «فتكون لهم قلوب» فلو نصب «يصبح» على أنه جواب الاستفهام لكان المعنى أن عدم الاخضرار متوقف على نفي النفي للإنزال الذي هو إثبات الإنزال، وهو واضح الفساد - أفاده شيخنا الإمام أبو الفضل رحمه الله.
ولما كان هذا إنتاجاً للأشياء من أضدادها، لأن كلاًّ من الماء في
82
رقته وميوعه والتراب في كثافته، وجموده في غاية البعد عن النبات في تنوعه وخضرته، ونموه وبهجته، قال سبحانه وتعالى منبهاً على ذلك: ﴿إن الله﴾ أي الذي له تمام العز وكمال العلم ﴿لطيف﴾ أي يسبب الأشياء عن أضدادها ﴿خبير*﴾ أي مطلع على السرائر وإن دقت، فلا يستبعد عليه إحياء من أراد بعد موته، والإحسان في رزقه.
83
ولما اقتضى ذلك أنهى التصرف، لأنه لا بد بعد اختلاط الماء بالتراب من أمور ينشأ عنها النبات، على تلك الهيئات الغريبة المختلفة، فأوجب ذلك أن يكون هو المالك المطلق، قال: ﴿له ما في السماوات﴾ أي التي أنزل منها الماء، ولما كان السباق لإثبات البعث والانفراد بالملك والدلالة على ذلك، اقتضى الحال التأكيد بإعادة الموصول فقال: ﴿وما في الأرض﴾ أي التي استقر فيها، وذلك يقتضي ملك السماوات والأرضين، فإن كل واحدة منها في التي فوقها حتى ينتهي الأمر إلى عرشه سبحانه الذي لا يجوز أصلاً أن يكون لغيره.
ولما كان من المألوف عندنا أن المالك فقير إلى ما في يده؛ مذموم على إمساكه بالتقتير، وعلى بذله بالتبذير، بين أنه بخلاف ذلك فقال: ﴿وإن الله﴾ أي الذي له الإحاطة التامة ﴿لهو﴾ أي وحده ﴿الغني﴾ أي عنهما وعما فيهما، ما خلق شيئاً منهما أو فيهما لحاجة له إليه بل لحاجتكم أنتم إليه ﴿الحميد*﴾ في كل ما يعطيه أو يمنعه، لما في
83
ذلك من الحكم الخفية والجلية؛ ثم استدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿ألم تر﴾ أي أيها المخاطب ﴿أن الله﴾ أي الحائز لصقفات الكمال، من الجلال والجمال ﴿سخّر لكم﴾ فضلاً منه ﴿ما في الأرض﴾ كله من مسالكها وفجاجها وما فيها من حيوان وجماد، وزروع وثمار، فعلم أنه غير محتاج إلى شيء منه
ولما كان تسخير السلوك في البحر من أعجب العجب، قال: ﴿والفلك﴾ أي وسخرها لكم موسقة بما تريدون من البضائع. ثم بين تسخيرها بقوله: ﴿تجري في البحر﴾ أي العجاج، المتلاطم بالأمواج، بريح طيبة على لطف وتؤدة.
ولما كان الراكب فيها - مع حثيث السير وسرعة المر - مستقراً كأنه على الأرض، عظم الشأن في سيرها بقوله: ﴿بأمره﴾ ولما كان إمساكها على وجه الماء مع لطافته عن الغرق أمراً غريباً كإمساك السماء على متن الهواء عن الوقوع، أتبعه قوله: ﴿ويمسك السماء﴾ ثم فسر ذلك بقوله مبدلاً: ﴿أن تقع﴾ أي مع علوها وعظمها وكونها بغير عماد ﴿على الأرض﴾ التي هي تحتها.
ولما اقتضى السياق أنه لا بد أن تقع لانحلاله إلى أن يمنع
84
وقوعها لأنها جسم كثيف عظيم، ليس له من طبعه إلا السفول، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿إلا بإذنه﴾ أي فيقع إذا أذن في وقوعها حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء. ولما كان هذا الجود الأعظم والتدبير المحكم محض كرم من غير حاجة أصلاً، أشار إليه بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الخلق والأمر.
ولما كان الجماد كله متاعاً للحيوان، اقتضى تقديم قوله: ﴿بالناس﴾ أي على ظلمهم ﴿لرؤوف﴾ أي بما يحفظ من سرائرهم عن الزيغ بإرسال الرسل، وإنزال الكتب ونصب المناسك، التي يجمع معظمها البيت الذي بوأه لإبراهيم عليه السلام، وهو التوحيد والصلاة والحج الحامل على التقوى التي بنيت عليها السورة، فإن الرأفة كما قال الحرالي: ألطف الرحمة وأبلغها، فالمرؤوف به تقيمه عناية الرأفة حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو، وتارة يكن هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب، وهذا خاص بمن له بالمنعم نوع وصلة.
﴿رحيم*﴾ بما يثبت لهم عموماً من الدرجات على ما منحهم به من ثمرات
85
ذلك الحفظ من الأعمال المرضية لما تقدم في الفاتحة من أن الرحيم خاص الرحمة بما ترضاه الإلهية، وتقدم في البقرة تحقيق هذا الموضع.
ولما بين سبحانه جملاً من أمهات الدين، وأتبعها الإعانة لأهله على المعتدين، وختم بما بعد الموت للمهاجرين، ترغيباً في منابذة الكافرين، وعرّف بما له من تمام العلم وشمول القدرة، ومثل ذلك بأنواع من التصرف في خلق السماوات والأرضين، وأنهاه بالدلالة على أنه كله لنفع الآدميين نعمة منه، تلا ذلك بما هو أكبر منه نعمة عليهم فقال: ﴿وهو﴾ أي وحده ﴿الذي أحياكم﴾ أي عن الجمادية بعد أن أوجدكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً، منة منه عليكم مستقلة، لزم منها المنة بما تقدم ذكره من المنافع الدنيوية لتستمر حياتكم أولاً، الدينية لتنتفعوا بالبقاء ثانياً ﴿ثم يميتكم﴾ ليكون الموت واعظاً لأولي البصائر منكم، وزاجراً لهم عما طبعوا عليه من الأخلاق المذمومة ﴿ثم يحييكم﴾ للتحلي بفصل القضاء وإظهار العدل في الجزاء.
ولما علم أن كل ما في الوجود من جوهر وعرض نعمة على
86
الإنسان حتى الحياة والموت، وكان من أجلى الأشياء، وكانت أفعاله معرضة عن الرب هذه النعم بالعبادة لغيره، أو التقصير في حقه على عموم فضله وخيره، ختم الآية سبحانه بقوله: ﴿إن الإنسان لكفور*﴾ أي بليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به.
ولما تقدم ذكر المناسك، وكان لكثرة الكفار قد يقع في النفس أن إقامتها معجوز عنها، وكشف سبحانه غمة هذا السؤال بآية ﴿إن الله يدافع عن الذين آمنوا﴾ وما بعدها، فأنتج ذلك علمنا بتصرفه التام بقدرته الباهرة، وعلمه الشامل المقتضي لإقبال العباد إليه، واجتماعهم كلهم عليه، فمن شك في قدرته على إظهار دينه بمدافعته عن أهله، أو نازع فيه فهو كفور، ذكر بإظهار أول هذا الخطاب بآخر ذلك الخطاب مؤكداً لما أجاب به عن ذلك السؤال من تمام القدرة وشمول العلم أنه هو الذي مكن لكل قوم ما هم فيه من المناسك التي بها انتظام الحياة، فإن وافقت الأمر الإلهي كانت سبباً للحياة الأبدية، وإلا كانت سبباً للهلاك الدائم، وهو سبحانه الذي نصب من الشرائع لكل قوم ما يلائمهم، لأنه بتغيير الزمان بإيلاج الليل في النهار على مر الأيام وتوالي الشهور والأعوام، بسبب من الأسباب - لأجل امتحان العباد، وإظهار ما خبأ في جبلة كل منهم من طاعة وعصيان، وشكر وكفران -
87
ما يصير الفعل مصلحة بما يقتضيه من الأسباب بعد أن كان مفسدة وبالعكس، لاقتداره على كل شيء وإظهار اقتداره كما قال تعالى عند أول ذكره للنسخ
﴿ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ [البقرة: ١٠٦] الآيات، فعلم أن منازعتهم فيه كفر، فلذلك أتبع هذا قوله من غير عاطف لما بينهما من تمام الاتصال: ﴿لكل أمة﴾ أي في كل زمان ﴿جعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿منسكاً﴾ أي شرعاً لاجتماعهم به على خالقهم حيث وافق أمره، ولاجتماعهم على أهوائهم إذا لم يوافقه، وعن ابن جرير أن أصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو لشر.
ولما كان بحيث إن ما أراده سبحانه كان لا محالة، قال: ﴿هم ناسكوه﴾ أي متعبدون به، لأنا ندافع عنهم من يعاديهم فيه حتى يستقيم لهم أمره، لإسعادهم به أو إشقائهم، فمن شك في قدرتنا على تمكينهم منه فهو كفور، فإن وافق الأمر كان ربحاً وإيماناً، وإن خالفه كان كفراً وخسراناً.
ولما كان قد حكم بإظهار دينه على الدين كله، وبأن الكفار على كثرتهم يغلبون بعد ما هم فيه من البطر، أعلم بذلك بالتعبير بصيغة الزجر لهم بقوله مسبباً عن هذه العظمة: ﴿فلا ينازعنك في الأمر﴾
88
أي بما يلقيه الشيطان إليهم من الشبه ليجادلوا به، من طعنهم في دينك بالنسخ بقولهم: لو كان من عند الله لما أمر اليوم بشيء ونهي عنه غداً. لأنه يلزم منه البدء، فليس الأمر كما زعموا، بل هو دال على العم بالعواقب والاقتدار التام على شرع المذاهب، وغير ذلك من الشبه كما مضت الإشارة إليه، فلا يلتفت إليهم في شيء نازعوا فيه كائناً ما كان، وروي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح، وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم، ولا تأكلون ما قتل الله - يعنون الميتة.
ولما كان النهي عن المنازعة في الحقيقة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلهاباً وتهييجاً إلى الإعراض عنهم لأنهم أهل لذلك، لأن كيدهم في تضليل، والإقبال على شأنه، وكان التعبير بما تقدم من تحويله إليهم لتأكيد الأمر مع دلالته على إجلاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المواجهة بالنهي، عطف عليه قوله: ﴿وادع﴾ أي أوقع الدعوة لجميع الخلق ﴿إلى ربك﴾ أي المحسن إليك بإرسالك، بالحمل لهم على كل ما أمرك به متى ما أمرك، ولا يهولنك قولهم، فإنهم مغلوبون لا محالة، ولا تتأمل عاقبة من العواقب، بل أقدم على الأمر وإن ظن
89
أن فيه الهلاك، فإنه ليس عليك إلا ذلك. وأما نظم الأمور على نهج السداد في إظهار الدين، وقهر المعاندين، فإلى الذي أمرك بتلك الأوامر، وأحكم الشأن في جميع الزواجر؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنك﴾ مؤكداً له بحسب ما عندهم من الإنكار ﴿لعلى هدى مستقيم*﴾ فإنه تأصيل العليم القدير وإن طرقه التغيير.
90
ولما أمره بالإقبال على ما يهمه، والإعراض عن منازعتهم، في صيغة نهيهم عن منازعته، علمه الجواب إن ارتكبوا منهيه بعد الاحتهاد في دفعهم، لما لهم من اللجاج والعتو، فقال: ﴿وإن جادلوك﴾ أي في شيء من دينك بشيء مما تقدم من أقوالهم السفسافة أو بغيره ﴿فقل﴾ معرضاً عن عيب دينهم الذي لا أبين فساداً منه: ﴿الله﴾ أي الملك المحيط بالعز والعلم ﴿أعلم بما تعملون*﴾ مهدداً لهم بذلك، مذكراً لنفسك بقدرة ربك، قاطعاً بذلك المنازعة من حيث رقّب، متوكلاً على الذي أمرك بذلك في حسن تدبيرك والمدافعة عنك ومجازاتهم بما سبق علمه به مما يستحقونه؛ قال الرازي في اللوامع: وينبغي أن يتأدب بهذا كل أحد، فإن أهل الجدل قوم جاوزوا حد العوام بتحذلقهم، ولم يبلغوا درجة الخواص الذين عرفوا الأشياء على ما هي عليه، فالعوام منقادون للشريعة، والخواص يغرفون أسرارها وحقائقها، وأهل الجدل قوم في قلوبهم اضطراب وانزعاج.
90
ولما أمره بالإعراض عنهم، وكان ذلك شديداً على النفس لتشوفها إلى النصرة، رجاه في ذلك بقوله: مستأنفاً مبدلاً من مقول الجزاء تحذيراً لهم: ﴿الله﴾ أي الذي لا كفوء له ﴿يحكم بينكم﴾ أي بينك مع أتباعك وبينهم ﴿يوم القيامة﴾ الذي هو يوم التغابن ﴿فيما كنتم﴾ أي بما هو لكم كالجبلة ﴿فيه﴾ أي خاصة ﴿تختلفون*﴾ في أمر الدين، ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حل به قبله ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾ [الشعراء: ٢٢٧] قال البغوي: والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.
ولما كان حفظ ما يقع بينهم على كثرتهم في طول الأزمان أمراً هائلاً، أتبعه قوله: ﴿ألم تعلم أن الله﴾ بجلال عزه وعظيم سلطانه ﴿يعلم ما في﴾ ولما كان السياق لحفظ أحوال الثقلين للحكم بينهم، وكان أكثر ما يتخيل أن بعض الجن يبلغ استراق السمع من السماء الدنيا، لم تدع حاجة إلى ذكر أكثر منها، فأفرد معبراً بما يشمل لكونه جنساً - الكثير أيضاً فقال: ﴿السماء والأرض﴾ مما يتفق
91
منهم ومن غيرهم من جميع الخلائق الحيوانات وغيرها.
ولما كان الإنسان محل النسيان، لا يحفظ الأمور إلا بالكتاب، خاطبه بما يعرف، مع ما فيه من عجيب القدرة، فقال: ﴿إن ذلك﴾ أي الأمرالعظيم ﴿في كتاب﴾ كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه وكتب جزاءه؛ ولما كان جمع ذلك في كتاب أمراً بالنسبة إلى الإنسان متعذراً، أتبعه التعريف بسهولته عنده فقال: ﴿إن ذلك﴾ أي علم ذلك الأمر العظيم بلا كتاب، وجمعه في كتاب قبل كونه وبعده ﴿على الله﴾ أي الذي لا حد لعظمته، وحده ﴿يسير*﴾.
ولما أخبر سبحانه أن الشك لا يزال ظرفاً لهم - لما يلقى الشيطان من شبهه في قلوبهم القابلة لذلك بما لها من المرض وما فيها من الفساد إلى إتيان الساعة، وعقب ذلك بما ذكر من الحكم المفصلة، والأحكام المشرفة المفضلة، إلى أن ختم بأنه وحده الحكم في الساعة، مرهباً من تمام علمه وشمول قدرته، قال معجباً ممن لا ينفعه الموعظة ولا يجوز الواجب وهو يوجب المحال، عاطفاً على ﴿ولا يزال﴾ :﴿ويعبدون﴾ أي على سبيل التجديد والاستمرار ﴿من دون الله﴾ أي من أدنى رتبة من رتب الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال، وتنزهه عن شوائب النقص ﴿ما لم ينزل به سلطاناً﴾
92
أي حجة واحدة من الحجج.
ولما كان قد يتوهم أن عدم إنزال السلطان لا ينفيه، قال مزيلاً لهذا الوهم: ﴿وما ليس لهم به علم﴾ أي أصلاً ﴿وما﴾ أي والحال أنهم ما لهم، ولكنه أظهر إشارة إلى الوصف الذي استحقوا به الهلاك فقال: ﴿للظالمين﴾ أي الذين وضعوا التعبد في غير موضعه بارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر؛ وأكد النفي واستغرق المنفي بإثبات الجار فقال: ﴿من نصير*﴾ أي ينصرهم من الله، لا مما أشركوه به ولا من غيره، لا في مدافعة عنهم ولا في إثبات حجة لمذاهبهم، فنفى أن يكون أحد يمكنه أن يأتي بنصرة تبلغ القصد بأن يغلب المنصور عليه، وأما مطلق نصر لا يفيد بما تقدم من شبه الشيطان فلا.
ولما ذكر اعترافهم بما لا يعرف بنقل ولا عقل، ذكر إنكارهم لما لا يصح أن ينكر فقال: ﴿وإذا تتلى﴾ أي على سبيل التجديد والمتابعة من أيّ تالٍ كان ﴿عليهم آياتنا﴾ أي المسموعة على ما لها من العظمة والعلو، حال كونها ﴿بينات﴾ لا خفاء بها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع ﴿تعرف﴾ بالفراسة في وجوههم - هكذا كان الأصل، ولكنه أبدل الضمير بظاهر يدل على عنادهم فقال: ﴿في وجوه الذين كفروا﴾ أي تلبسوا بالكفر ﴿المنكر﴾ أي الإنكار الذي هو منكر في نفسه لما حصل لهم من
93
الغيظ؛ ثم بين ما لاح في وجوههم فقال: ﴿يكادون يسطون﴾ أي يوقعون السطوة بالبطش والعنف ﴿بالذين يتلون عليهم آياتنا﴾ أي الدالة على أسمائنا الحسنى، وصفاتنا العلى، القاضية بوحدانيتنا، مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا، لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها.
ولما استحقوا - بإنكارهم وما أرادوه من الأذى لأولياء الله - النكال، تسبب عنه إعلامهم بما استحقوه، فقال مؤذناً بالغضب بالإعراض عنهم، آمراً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتهديدهم: ﴿قل أفأنبئكم﴾ أي أتعون فأخبركم خبراً عظيماً ﴿بشر من ذلكم﴾ الأمر الكبير من الشر الذي أردتموه بعباد الله التالين عليكم للآيات وما حصل لكم من الضجر من ذلك، فكأنه قيلك ما هو؟ فقيل: ﴿النار﴾ ثم استأنف قوله متهكماً بهم بذكر الوعد: ﴿وعدها الله﴾ العظيم الجليل ﴿الذين كفروا﴾ جزاء لهم على همهم هذا، فبئس الموعد هي ﴿وبئس المصير*﴾.
94
ولما أخبر تعالى عن أنه لا حجة لعابد غيره، وهدد من عاند، أتبعه بأن الحجة قائمة على أن ذلك الغير في غاية الحقارة، ولا قدرة
94
له على دفع ما هدد به عابدوه ولا على غيره، فكيف بالصلاحية لتلك الرتبة الشريفة، والخطة العالية المنيفة، فقال منادياً أهل العقل منبهاً تنبيهاً عاماً: ﴿يا أيها الناس﴾.
ولما كان المقصود من المثل تعقله لا قائله، بني للمفعول قوله: ﴿ضرب مثل﴾ حاصله أن من عبدتموه أمثالكم، بل هم أحقر منكم ﴿فاستمعوا﴾ أي أنصتوا متدبرين ﴿له﴾ ثم فسره بقوله: ﴿إن الذين تدعون﴾ أي في حوائجكم، وتجعلونهم آلهة ﴿من دون الله﴾ أي الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترون، ولما تدعون فيها مفترون، لأن سلب القدرة عنها يبين أنها في أدنى المراتب ﴿لن يخلقوا ذباباً﴾ أي لا قدرة لهم على ذلك الآن، ولا يتجدد لهم هذا الوصف أصلاً في شيء من الأزمان، على حال من الأحوال، مع صغره، فكيف بما هو أكبر منه ﴿ولو اجتمعوا﴾ أي الذين زعموهم شركاء ﴿له﴾ أي الخلق، فهم في هذا أمثالكم ﴿وإن﴾ أي وأبلغ من هذا أنهم عاجزون عن مقاومة الذباب فإنه إن ﴿يسلبهم الذباب﴾ أي الذي تقدم أنه لا قدرة لهم على خلقه وهو في غاية الحقارة
95
﴿شيئاً﴾ من الأشياء جل أو قل مما تطلونهم به من الطيب أو تضعونه بين أيديهم من الأكل أوغيره ﴿لا يستنقذوه﴾ أي يوجدوا خلاصه أو يطلبوه ﴿منه﴾ فهم في هذا أحقر منكم، وجهة التمثيل به في الاستلاب الوقاحة، ولهذا يجوز عند الإبلاغ في الذب، فلو كانت وقاحته في الأسد لم ينج منه أحد، ولكن اقتضت الحكمة أن تصحب قوة الأسد النفرة، ووقاحة الذباب الضعف، وهو واحد لا جمع، ففي الجمع بين العباب والمحكم أن ابن عبيدة قال: إنه الصواب، ثم قال: وفي «كتاب ما تلحن فيه العامة» لأبي عثمان المازني: ويقال: هذا ذباب واحد، وثلاثة أذّبة، لأقل العدد ولأكثره ذباب، وقول الناس: ذبابة - خطأ، فلا تقله -.
ولما كان هذا ربما أفهم قوة الذباب، عرف أن المقصود غير ذلك بقوله، فذلكة للكلام من أوله: ﴿ضعف الطالب﴾ أي للاستنقاذ من الذباب، وهو الأصنام وعابدوها ﴿والمطلوب*﴾ أي الذباب والأصنام، اجتمعوا في الضعف وإن كان الأصنام أضعف بدرجات.
96
ولما أنتج هذا جهلهم بالله، عبر عنه بقوله: ﴿ما قدروا الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿حق قدره﴾ في وصفهم بصفته غيره كائناً من كان، فكيف وهو أحقر الأشياء. ولما كان كأنه قيل: ما قدره؟ قال: ﴿إن الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال ﴿لقوي﴾ على خلق كل ممكن ﴿عزيز*﴾ لا يغلبه شيء، وهو يغلب كل شيء بخلاف أصنامهم وغيرها.
ولما نصب الدليل على أن ما دعوه لا يصلح أن يكون شيء منه إلهاً بعد أن أخبر أنه لم ينزل إليهم حجة بعبادتهم لهم، وختم بما له سبحانه من وصفي القوة والعزة بعد أن أثبت أن له الملك كله، تلا ذلك بدليله الذي تقتضيه سعة الملك وقوة السلطان من إنزال الحجج على ألسنة الرسل بأوامره ونواهيه الموجب لإخلاص العبادة له المقتضي لتعذيب تاركها، فقال: ﴿الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿يصطفي﴾ أي يختار ويخلص ﴿من الملائكة رسلاً﴾ إلى ما ينبغي الإرسال فيه من العذاب والرحمة، فلا يقدر أحد على صدهم عما أرسلوا له، ولا شك أن قوة الرسول من قوة المرسل ﴿ومن الناس﴾ أيضاً رسلاً يأتون عن الله بما يشرعونه لعباده، لتقوم عليهم بذلك حجة النقل، مضمومة إلى سلطان العقل، فمن عاداهم خسر وإن طال استدراجه. ولما كان ذلك لا يكون إلا بالعلم، قال: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الجلال والجمال
97
﴿سميع﴾ أي لما يمكن أن يسمع من الرسول وغيره ﴿بصير*﴾ أي مبصر عالم بكل ما يمكن عقلاً أن يبصر ويعلم، بخلاف أصنامهم.
ولما كان المتصف بذلك قد يكون وصفه مقصوراً على بعض الأشياء، أخبر أن صفاته محيطة فقال: ﴿يعلم ما بين أيديهم﴾ أي الرسل ﴿وما خلفهم﴾ أي علمه محيط بما هم مطلعون عليه وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه، فإنه يسلك من بين أيديهم ومن خلفهم رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وإن ظن الجاهلون غير ذلك، لاحتجابه سبحانه وتعالى في الأسباب، فلا يقع في فكر أصلاً أن المحيط علماً بكل شيء الشامل القدرة لكل شيء يكل رسولاً من رسله إلى نفسه، فيتكلم بشيء لم يرسله به، ولا أنه يمكن شيطاناً أو غيره أن يتكلم على لسانه بشيء، بل كل منهم محفوظ في نفسه ﴿لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾ [النجم: ٣، ٤] محفوظ عن تلبيس غيره ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ [الحجر: ٩] ﴿وإلى الله﴾ أي الذي لا كفوء له، وحده ﴿ترجع﴾ أي بغاية السهولة بوعد فصل لا بد منه ﴿الأمور*﴾ يوم يتجلى لفصل القضاء، فكيون أمره ظاهراً لاخفاء فيه، ولا يصدر
98
شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد أنه منه. ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، والذي هو بهذه الصفة له أن يشرع ما يشاء، وينسخ من الشروع ما يشاء، ويحكم بما يريد.
99
ولما أثبت سبحانه أن الملك والأمر له وحده، وأنه قد أحكم شرعه، وحفظ رسله، وأنه يمكن لمن يشاء أيّ دين شاء، وختم ذلك بما يصلح للترغيب والترهيب، وكانت العادة جارية بأن الملك إذا برزت أوامره وانبثت دعاته، أقبل إليه مقبلون، خاطب المقبلين إلى دينه، وهم الخلص من الناس، فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي قالوا: آمنا ﴿اركعوا﴾ تصديقاً لقولكم ﴿واسجدوا﴾ أي صلوا الصلاة التي شرعتها للآدميين، فإنها رأس العبادة، لتكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان، وخص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة بهما، لأنهما - لمخالفتهما الهيئات المعتادة - هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما عنها جداً في السورة التي جمعت جميع الفرق الذين فيهم من يستقبح - لما غلب عليه من العتو - بعض الهيئات الدالة على ذل.
ولما خص أشرف العبادة، عم بقوله: ﴿واعبدوا﴾ أي بأنواع
99
العبادة ﴿ربكم﴾ المحسن إليكم بكل نعمة دنيوية ودينية. ولما ذكر عموم العبادة، أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، وقد يكون بلا نية، فقال: ﴿وافعلوا الخير﴾ أي كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المرضى ونحو ذلك، من معالي الأخلاق بنية وبغير نية، حتى يكون ذلك لكم عادة فيخف عليكم عمله لله، وهو قريب من «ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» قال أبو حيان: بدأ بخاص ثم بأعم. ﴿لعلكم تفلحون*﴾ أي ليكون حالكم حال من يرجو الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب؛ قال ابن القطاع: أفلح الرجل: فاز بنعيم الآخرة، وفلح أيضاً لغة فيه. وفي الجمع بين العباب والمحكم: الفلح والفلاح: الفوز والبقاء وفي التنزيل ﴿قد أفلح المؤمنون﴾ [المؤمنون: ١] أي نالوا البقاء الدائم، وفي الخبر: أفلح الرجل: ظفر. ويقال لكل من أصاب خيراً: مفلح.
ولما كان الجهاد أساس العبادة، وهو - مع كونه حقيقة في قتال الكفار - صالح لأن يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل بالسيف وغيره، وكل اجتهاد في تهذيب
100
النفس وإخلاص العمل، ختم به فقال: ﴿وجاهدوا في الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له في كل ما ينسب إليه سبحانه، لا يخرج منه شيء عنه كما لا يخرج شيء من المظروف عن الظرف ﴿حق جهاده﴾ باستفراغ الطاقة في إيقاع كل ما أمر به من الجهاد العدو والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما جهاداً يليق بما أفهمته الإضافة إلى ضميره سبحانه من الإخلاص والقوة، فإنه يهلك جميع من يصدكم عن شيء منه.
ولما أمر سبحانه بهذه الأوامر، أتبعها بعض ما يجب به شكره، وهو كالتعليل لما قبله، فقال: ﴿هو اجتباكم﴾ أي اختاركم لجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل، ودينه أكرم الأديان، وكتابه أعظم الكتب، وجعلكم - لكونكم أتباعه - خير الأمم ﴿وما جعل عليكم في الدين﴾ الذي اختاره لكم ﴿من حرج﴾ أي ضيق يكون به نوع عذر لمن توانى في الجهاد الأصغر والأكبر كما جعل على من كان قبلكم كما تقدم ذكره بعضه في البقرة وغيرها، أعني ﴿ملة﴾.
101
ولما كان أول مخاطب بهذا قريشاً، ثم مضر، وكانوا كلهم أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام حقيقة، قال: ﴿أبيكم إبراهيم﴾ أي الذي ترك عبادة الأصنام ونهى عنها، ووحد الله وأمر بتوحيده، يا من تقيدوا بتقليد الآباء! فالزموا دينه لكونه اباً، ولكوني أمرت به، وهو أب لبعض المخاطبين من الأمة حقيقة، ولبعضهم مجازاً بالاحترام والتعظيم، فيعم الخطاب الجميع، ولذلك حثهم على ملته بالتعليل بقوله: ﴿هو﴾ أي إبراهيم عليه السلام ﴿سمّاكم المسلمين*﴾ في الأزمان المتقدمة ﴿من قبل﴾ أي قبل إنزال هذا القرآن، فنوّه بذكركم والثناء عليكم في سالف الدهر وقديم الزمان فكتب ثناءه في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، وسماكم أيضاً مسلمين ﴿وفي هذا﴾ الكتاب الذي أنزل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب كما أخبرتكم عن دعوته في قوله ﴿ومن ذريتنا أمة مسلمة لك﴾ [البقرة: ١٢٨] لأنه بانتفاء الحرج يطابق الاسم المسمى، ويجوز - ولعله أحسن - أن يكون ﴿هو سمّاكم﴾ تعليلاً للأمر بحق الجهاد بعد تعليله بقوله ﴿هو اجتباكم﴾ فيكون الضمير لله تعالى، ويشهد له بالحسن قراءة أبي رضي الله عنه بالجلالة عوضاً عن الضمير، أي أن كل أمة تسمت باسم من تلقاء نفسها، والله تعالى خصكم باسم الإسلام مشتقاً له من اسمه ﴿السلام﴾ [الحشر: ٣] مع ما خصكم به من
102
اسم الإيمان اشتقاقاً له من اسمه المؤمن، فأثبت لكم هذا الاسم في كتبه، واجتباكم لاتباع رسوله.
ولما كان الاسم إذا كان ناشئاً عن الله تعالى سواء كان بواسطة نبي من أنبيائه أو بغير واسطة يكن مخبراً عن كيان المسمى، وكان التقدير: رفع عنكم الحرج وسماكم بالإسلام لتكونوا أشد الأمم انقياداً لتكونوا خيرهم، علل هذا المعنى بقوله: ﴿ليكون الرسول﴾ يوم القيامة ﴿شهيداً عليكم﴾ لأنه خيركم، والشهيد يكون خيراً ولكون السياق لإثبات مطلق وصف الإسلام فقط، لم يقتض الحال تقديم الظرف بخلاف آية البقرة، فإنها لإثبات ما هو أخص منه ﴿وتكونوا﴾ بما في جبلاتكم من الخير ﴿شهداء على الناس﴾ بأن رسلهم بلغتهم رسالات ربهم، لأنكم قدرتم الرسل حق قدرهم، ولم تفرقوا بين أحد منهم، وعلمتم أخبارهم من كتابكم على لسان رسولكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبذلك كله صرتم خيرهم، فأهلتم للشهادة وصحت شهادتكم وقبلكم الحكم العدل، وقد دل هذا على أن الشهادة غير المسلم ليست مقبولة.
ولما ندبهم لأن يكونوا خير الناس، تسبب عنه قوله: ﴿فأقيموا﴾
103
أي فتسبب عن إنعامي عليكم بهذه النعم وإقامتي لكم في هذا المقام الشريف أني أقول لكم: أقيموا ﴿الصلاة﴾ التي هي زكاة قلوبكم، وصلة ما بينكم وبين ربكم ﴿وآتوا الزكاة﴾ التي هي طهرة أبدانكم، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم ﴿واعتصموا بالله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال.
في جميع ما أمركم به، من المناسك التي تقدمت وغيرها لتكونوا متقين، فيذب عنكم من يريد أن يحول بينكم وبين شيء منها ويقيكم هول الساعة؛ ثم علل أهليته لاعتصامهم به بقوله: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿مولاكم﴾ أي المتولي لجميع أموركم، فهو ينصركم على كل من يعاديكم، بحيث تتمكنون من إظهار هذا الدين من مناسك الحج وغيرها؛ ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله: ﴿فنعم المولى﴾ أي هو ﴿ونعم النصير*﴾ لأنه إذا تولى أحداً كفاه كل ما أهمه، وإذا نصر أحداً أعلاه على كل من خاصمه «ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته» - الحديث، «إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت» وهذا نتيجة التقوى، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها. فقد انطبق آخر السورة على أولها. ورد مقطعها على مطلعها - والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وهو الهادي للصواب.
104
مقصودها اختصاص المؤمنين بالفلاح، وتسمها واضح الدلالة على ذلك) بسم الله (الذي له الأمر كله، فلا راد لأمره) الرحمن (الذي من عموم رحمته الإبلاغ في البيان) الرحيم (الذي خص من أراد بالإيمان.
لما ختمت الحج بناء الذين آمنوا وأمرهم بأمور الدين خاصة وعامة، وختم بالصلاة والزكاة والعصمة به سبحانه موصفاً بما ذمر، أوجب ذلك توقع المادين كل خير، فابتدأت هذهه بما يثمر الاعتصام به سبحانه في الصلاة وغيرها من خلال الدين في الدارين، فقال تعالى مفتتحاً بحرف التوقع
105
Icon