تفسير سورة الجاثية

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

٤٥ شرح إعراب سورة الجاثية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)
تَنْزِيلُ مرفوع بالابتداء وخبره مِنَ اللَّهِ، ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه خبر ابتداء محذوف أي هذا تنزيل الكتاب، ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه خبر عن «حم»، الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نعت وفيه معنى المدح.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٣]
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣)
لَآياتٍ في موضع نصب، وكسرت التاء لأنه جمع مسلّم ليوافق المؤنّث المذكّر في استواء النصب والخفض. والتاء عند سيبويه «١» بمنزلة الياء والواو، وعند غيره الكسرة بمنزلة الياء، وقيل: التاء والكسرة بمنزلة الياء فأما الألف فزائدة للفرق بين الواحد والجمع.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٤ الى ٥]
وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥)
وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ هذه قراءة المدنيين أبي عمرو، وكذا التي بعدها. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي آيات «٢» مخفوضة في موضع نصب، وكذا التي بعدها. واحتج الكسائي لهذه القراءة بأنه في حرف أبيّ لآيات «٣» فيهن كلّهنّ باللام فاستدلّ بهذا على أنه معطوف على ما قبله.
قال الفرّاء «٤» : وفي قراءة عبد الله وفي اختلاف اللّيل والنّهار على أن فيها
(١) انظر الكتاب ١/ ٤٥.
(٢) انظر تيسير الداني ١٦١.
(٣) انظر معاني الفراء ٣/ ٤٥، والبحر المحيط ٨/ ٤٣.
(٤) انظر معاني الفراء ٣/ ٤٥. [.....]
«في» واختيار أبي عبيد ما اختاره الكسائي. قال أبو جعفر: أما قوله جلّ وعزّ: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ فلا اختلاف بين النحويين فيه أنّ النصب والرفع جيدان فالنصب على العطف أي وإنّ في خلقكم. والرفع من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معطوفا على الموضع مثل وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها. والوجه الثاني: الرفع بالابتداء وخبره وعطفت جملة على جملة منقطعة من الأول كما تقول: إنّ زيدا خارج وأنا أجيئك غدا. والوجه الثالث: أن تكون الجملة في موضع الحال مثل يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [ال عمران: ١٥٤] فأما قوله جلّ وعزّ: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ فقد اختلف النحويون فيه فقال بعضهم: النصب فيه جائز وأجاز العطف على عاملين فممن قال هذا سيبويه والأخفش والكسائي والفرّاء، وأنشد سيبويه:
[المتقارب] ٤١٦-
أكلّ امرئ تحسبين امرأ ونار توقّد باللّيل نارا
«١» وردّ هذا بعضهم ولم يجز العطف على عاملين وقال: من عطف على عاملين أجاز: في الدار زيد والحجرة عمرو. وقائل هذا القول ينشد «ونارا» بالنصب. ويقول من قرأ الثالثة «آيات» فقد لحن. وممن قال هذا محمد بن يزيد. وكان أبو إسحاق يحتجّ لسيبويه في العطف على عاملين بأن من قرأ «آيات» بالرفع فقد عطف أيضا على عاملين لأنه عطف «واختلاف» على «وفي خلقكم» وعطف «آيات» على الموضع فقد صار العطف على عاملين إجماعا. والقراءة بالرفع بيّنة لا تحتاج إلى احتجاج ولا احتيال. وقد حكى الفرّاء «٢» في الآية غير ما ذكرناه، وذلك أنه أجاز «واختلاف الليل والنهار» بالرفع فيه وفي «آيات» يجعل الاختلاف هو الآيات. وقد كفي المؤونة فيه بأن قال: ولم أسمع أحدا قرأ به.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٦]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبره، ويجوز أن يكون آيات الله بدلا من تلك ويكون
(١) الشاهد لأبي دؤاد في ديوانه ص ٣٥٣، والكتاب ١/ ١١٠، والأصمعيات ١٩١، وأمالي ابن الحاجب ١/ ١٣٤، وخزانة الأدب ٩/ ٥٩٢، والدرر ٥/ ٣٩، وشرح التصريح ٢/ ٥٦، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٩٩، وشرح شواهد المغني ٢/ ٧٠٠، وشرح عمدة الحافظ ٥٠٠، وشرح المفصل ٣/ ٢٦، والمقاصد النحوية ٣/ ٤٤٥، ولعدي بن زيد في ملحق ديوانه ١٩٩، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨/ ٤٩، والإنصاف ٢/ ٤٧٣، وخزانة الأدب ٤/ ٤١٧، ورصف المباني ص/ ٣٤٨، وشرح الأشموني ٢/ ٣٢٥، وشرح ابن عقيل ٣٩٩، وشرح المفصل ٣/ ٧٩، والمحتسب ١/ ٢٨١، ومغني اللبيب ١/ ٢٩٠، والمقرب ١/ ٢٣٧، وهمع الهوامع ٢/ ٥٢.
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ٤٥.
الخبر نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون تؤمنون بالتاء ورد أبو عبيد قولهم بأن قبله إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وكذا «لقوم يوقنون» و «لقوم يعقلون» فوجب على هذا عنده أن يكون فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ وردّ عليهم أيضا بأن قبله تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ فكيف يكون بعده «فبأيّ حديث بعد الله تؤمنون» قال أبو جعفر:
وهذا الردّ لا يلزم لأن قوله جلّ وعزّ: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وإن كان مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإنه مبلّغ عن الله عزّ وجلّ كل ما أنزل إليه، فلما كان ذلك كذلك كان المعنى قل لهم «فبأيّ حديث بعد الله وآياته تؤمنون»، فهذا المعنى صحيح قال الله جلّ وعزّ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٢٣] أي يقولون.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠)
روي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في النّضر بن كلدة «ويل» مرفوع بالابتداء.
وقد شرحناه فيما تقدم «١».
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ١١]
هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)
وقرأ أهل مكة وعيسى بن عمر عذاب من رجز أليم «٢» بالرفع على أنه نعت لعذاب. قال محمد بن يزيد: الرّجز أغلظ العذاب وأشده وأنشد لرؤبة: [الرجز] ٤١٧-
كم رامنا من ذي عديد مبزي حتّى وقمنا كيده بالرّجز
«٣»
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ١٢]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ مبتدأ وخبره.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ١٣]
وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)
جَمِيعاً نصب على الحال وروي عن ابن عباس أنه قرأ جَمِيعاً مِنْهُ «٤» نصب على المصدر. وأجاز أبو حاتم جَمِيعاً مِنْهُ «٥» بفتح الميم والإضافة على المصدر
(١) تقدّم في إعراب الآية ٧٩ من سورة البقرة.
(٢) انظر البحر المحيط ٨/ ٤٥، وفيه: (قرأ طلحة وابن محيصن وأهل مكة وابن كثير وحفص أليم بالرفع نعتا لعذاب، والحسن وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وباقي السبعة بالجر نعتا لرجز).
(٣) الرجز لرؤية بن العجاج في ديوانه ٦٤، وتهذيب اللغة ١٠/ ٦٠٨، وتفسير الطبري ٨/ ٢٢٣، وبعده:
«والصّقع من قاذفة وجرز»
(٤) انظر مختصر ابن خالويه ١٣٨، والبحر المحيط ٨/ ٤٥.
(٥) انظر المحتسب ٢/ ٢٦٢.
أيضا بمعنى منّا منّه. ويروى عن مسلمة أنه قرأ جَمِيعاً مِنْهُ بالرفع على إضمار مبتدأ.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)
يَغْفِرُوا في موضع جزم. قال الفرّاء «١» : هذا مجزوم بالتشبيه بالجزم والشرط كأنه كقولك: قم تصب خيرا. وليس كذلك. قال أبو جعفر: يذهب إلى أنه لما وقع في جواب الأمر كان مجزوما وإن لم يكن جوابا. وهذا غير محصّل والأولى فيه ما سمعت عليّ بن سليمان يحكيه عن محمد بن يزيد عن أبي عثمان المازني قال: التقدير قل للّذين آمنوا اغفروا يغفروا. وهذا قول محصّل لا إشكال فيه، وهو جواب كما تقول:
أكرم زيدا يكرمك. وتقديره: إن تكرمه يكرمك. وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم لِيَجْزِيَ قَوْماً «٢» وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي لنجزي قوما بالنون.
وقرأ أبو جعفر القارئ لِيَجْزِيَ قَوْماً. قال أبو جعفر: القراءة الأولى والثانية حسنتان معناهما واحد، وإن كان أبو عبيد يختار الأولى ويحتجّ بأن قبله قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ فيختار «ليجزي قوما» ليعود الضمير على اسم الله جلّ وعزّ.
وهذا لا يوجب اختيارا لأنه كلام الله جلّ وعزّ ووحيه فقوله جلّ ثناؤه لنجزي إخبارا عنه جلّ وعزّ فأما لِيَجْزِيَ قَوْماً فقال أبو إسحاق: هو لحن عند الخليل وسيبويه وجميع البصريين وقال الفرّاء «٣» : هو لحن في الظاهر، وهو عند البصريين لحن في الظاهر والباطن، وإنما أجازه الكسائي على شذوذ بمعنى: ليجزي الجزاء قوما فأضمر الجزاء ولو أظهره ما جاز فكيف وقد أضمره؟ وقد أجمع النحويون على أنه لا يجوز.
ضرب الضرب زيدا، حتّى أنه قال بعضهم: لا يجوز: ضرب زيدا سوطا لأن سوطا مصدر، وإنما يقام المصدر مقام الفاعل مع حروف الخفض «٤» «٥» إذا نعت فإذا لم يكن منعوتا لم يجز. وهذا أعجب أن يقام المصدر مقام الفاعل غير منعوت مع اسم غير مصدر، وفيه أيضا علة أخرى أنه أضمر الجزاء ولم يتقدم له ذكر على أن «يجزي» يدلّ عليه. وهذا، وإن كان يجوز فإنه مجاز فأما إنشادهم: [الوافر] ٤١٨-
ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسبّ بذلك الجرو الكلابا
فلا حجة فيه، ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن تقديره: ولو ولدت قفيرة الكلاب، و «جرو كلب» منصوب على النداء.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨)
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ٤٥.
(٢) انظر البحر المحيط ٨/ ٤٥.
(٣) انظر البحر المحيط ٨/ ٤٥.
(٤) انظر تيسير الداني ١٦٠، قال: (حمزة وحفص والكسائي بالنصب والباقون بالرفع).
(٥) انظر معاني الفراء ٣/ ٤٧.
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ قال مالك بن دينار: سألت مجاهدا عن الحكم فقال: اللبّ. قال محمد بن يزيد: الشريعة المنهاج والقصد. ومنه شريعة النهر، وطريق شارع أي واضح بيّن. وشرائع الدّين التي شرّعها الله جلّ وعزّ لعباده ليعرفوها. وجمع شريعة شرائع، وحكي أنه يقال: شرع، وحقيقته أن شرعا جمع شرعة.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
بَعْضُهُمْ مرفوع بالابتداء وأولياء خبره والجملة خبر «إنّ» ويجوز نصب بعضهم على البدل من الظالمين وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ مبتدأ وخبره، ويجوز النصب بعطفه على «إنّ» قال الكسائي: قال هذا بَصائِرُ ولم يقل: هذه بصائر لأنه أراد القرآن والوعظ.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٢١]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١)
الَّذِينَ
في موضع رفع بحسب. أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
أن وصلتها بمعنى المفعولين، والهاء والميم في موضع نصب مفعول أول لنجعلهم، كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
في موضع المفعول الثاني. سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
مبتدأ وخبره. هذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
بنصب سواء. قال أبو عبيد: وكذلك يقرؤها نصبا بوقوع «نجعلهم» عليها. قال أبو إسحاق: وأجاز بعض النحويين سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
«١» وقد قرئ به. قال أبو جعفر: القراءة الأولى سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
هي التي اجتمعت عليها الحجّة من الصحابة والتابعين والنحويين، كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق عن مسدّد عن يحيى عن عبد الملك عن قيس عن مجاهد في قوله جلّ وعزّ: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
قال: المؤمن يموت على إيمانه ويبعث عليه، والكافر يموت على كفره ويبعث عليه. وعن أبي الدرداء قال:
يبعث النّاس على ما ماتوا عليه ونحو هذا عن تميم وحذيفة فاجتمعت الحجة على أنه لا
(١) انظر البحر المحيط ٨/ ٤٧، وتيسير الداني ١٦١.
يجوز القراءة إلا بالرفع، وأنّ من نصب فقد خرج من هذه التأويلات وسَواءً
مرفوع بالابتداء على هذا لا وجه لنصبه لأن المعنى أنّ المؤمنين مستوون في محياهم ومماتهم، والكافرون مستوون في محياهم ومماتهم، ثم يرجع إلى النصب فهو يكون من غير هذه الجهة وذلك من جهة ذكرها الأخفش سعيد، قال: يكون المعنى: أم حسب الذين اجترحوا السيّئات أن نجعل محياهم ومماتهم مستويا كمحيا المؤمنين ومماتهم. فعلى هذا الوجه يجوز النصب، وعلى هذا الوجه الاختيار عند الخليل وسيبويه رحمهما الله الرفع أيضا، ومسائل النحويين جميعا على الرفع كلهم. تقول ظننت زيدا سواء أبوه وأمّه، ويجيزون النصب ومسائلهم على الرفع. وأعجب ما في هذا إذا كانت مسائل النحويين كذا فكيف قرأ به الكسائي واختاره أبو عبيد؟ فأما القراءة بالنصب «سواء محياهم ومماتهم» ففيها وجهان. قال الفرّاء «١» : المعنى في محياهم وفي مماتهم ثم حذفت «في» يذهب إلى أنه منصوب على الوقت، والوجه الآخر أن يكون «محياهم ومماتهم» بدلا من الهاء والميم التي في «نجعلهم» بمعنى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كالذين آمنوا وعملوا الصّالحات أي كمحيا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ومماتهم. ساءَ ما يَحْكُمُونَ
إن جعلت «ما» معرفة فموضعها رفع وإن جعلتها نكرة فموضعها نصب على البيان.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٢٢]
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢)
لام كي لا بدّ من أن تكون متعلّقة بفعل إما مضمر وإما مظهر، وهو هاهنا مضمر أي ولتجزى كلّ نفس بما كسبت فعل ذلك.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٢٣]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)
مَنِ في موضع نصب. وللعلماء في معناها ثلاثة أقوال فمن أجلها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قال: الكافر اتّخذ دينه بغير هدى من الله جلّ وعزّ ولا برهان. وقال الحسن: هو الذي كلما اشتهى شيئا لم يمتنع منه. وقال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الشيء فإذا رأى غيره أحسن منه عبده وترك الآخر. قال أبو جعفر: قول الحسن على التشبيه كما قال جلّ وعزّ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: ٣١] والأشبه بنسق الآية أن يكون
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ٤٧. [.....]
للكفار. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ فيه ثلاثة أقوال: منها أن المعنى أضلّه عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه، والقول الثاني أن المعنى على علم منه بأنّ عبادته لا تنفعه. وهذان القولان لم يقلهما متقدّم وأولى ما قيل في الآية ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ قال: في سابق علمه. قال سعيد بن جبير: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي على علم قد علمه منه وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ قال أبو جعفر: قد ذكرناه «١» في سورة «البقرة». وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «٢» وفي قراءة عبد الله وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً مروية بفتح الغين، وهي لغة ربيعة فيما يظنّ الفرّاء. وقراءة عكرمة: غشاوة بضم الغين، وهي لغة عكل. قال أبو الحسن بن كيسان: ويحذف الألف منها فيكون فيها إذا حذفت الألف ثلاث لغات: غشوة وغشوة وغشوة. وأما المعنى فمتقارب، إنما هو تمثيل أي لا يبصر الحقّ فهو بمنزلة من على بصره غشاوة إلّا أن الأكثر في كلام العرب في مثل هذا أن يكون على فعالة وذلك في كل ما كان مشتملا على الشيء نحو عمامة وكذا ولاية.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٢٤]
وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)
وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا قد ذكرناه إلّا أن علي بن سليمان قال: المعنى ما هي إلّا حياتنا الدنيا نموت ونحيا على قولكم، واستبعد أن يكون المعنى نحيا ونموت على التقديم والتأخير، وقال: إنما يجوز هذا فيما يعرف معناه نحو وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [ال عمران: ٤٣]. قال أبو جعفر: وأهل العربية يخالفونه في هذا، ويجيزون في الواو التقديم والتأخير في كل موضع. قال الفرّاء «٣» : معنى وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي طول الدهر ومرّ الأيام والليالي والشهور والسنين وتكلّم جماعة في معنى الآية فقال بعضهم: هؤلاء قوم لم يكونوا يعرفون الله جلّ وعزّ ولو عرفوه لعلموا أنه يهلكهم ويميتهم. وقال قوم: يجوز أن يكونوا يعرفون الله جلّ وعزّ وعندهم أنّ هذه الآفات التي تلحقهم إنّما هي بعلل ودوران فلك، يقولون هذا بغير حجّة ولا علم. وقال قوم:
هؤلاء جماعة من العرب يعرفون الله جلّ وعزّ يدلّ على قولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] وفيهم من يؤمن بالبعث. قال زهير: [الطويل] ٤١٩-
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر ليوم الحساب أو يعجّل فينقم
«٤»
(١) مرّ في إعراب الآية ٧- البقرة.
(٢) انظر البحر المحيط ٨/ ٤٩، وتيسير الداني ١٦١، ومختصر ابن خالويه ١٣٨.
(٣) انظر معاني الفراء ٣/ ٤٨.
(٤) الشاهد لزهير في ديوانه ص ١٨.
غير أنهم كانوا جهلة لا يعلمون أن الآفات مقدّرة من الله عزّ وجلّ. وهذا أصحّ ما روي في الآية وأشبه بنسقها، وقد قامت به الحجة بالظاهر ولأنه مرويّ عن ابن عباس أنّه قال في قوله جلّ وعزّ: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ قال: قالوا: لا نبعث، بغير علم فقال الله جلّ وعزّ: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦)
ما كانَ حُجَّتَهُمْ خبر كان. إِلَّا أَنْ قالُوا اسمها، ويجوز «ما كان حجّتهم» بالرفع على أنه اسم كان لأن الحجّة والاحتجاج واحد، ويكون الخبر إِلَّا أَنْ قالُوا أي إلّا مقالتهم.
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ حذفت الضمة من الياء لثقلها. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عطف عليه وكذا ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قيل: أي بمنزلة من لا يعلم، وقيل: عليهم أن يعلموا.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٢٧]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فهو قادر على أن يحييكم. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف منصوب بيخسر.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٢٨]
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ على الابتداء، وأجاز الكسائي «كلّ أمة» على التكرير على كلّ الأولى. وقد ذكرنا معنى تُدْعى إِلى كِتابِهَا وإنّ أولى ما قيل فيه أنه إلى ما كتب عليها من خير وشر، كما روي عن ابن عباس: يعرض من خميس إلى خميس ما كتبته الملائكة عليهم السلام على بني أدم فينسخ منه ما يجزى عليه من الخير والشر ويلغى سائره. فالمعنى على هذا كلّ أمة تدعى إلى ما كتب عليها وحصّل فتلزمه من طاعة أو معصية، وإن كان كفرا أوقف عليه وأتبع ما كان يعبد، كما قرئ على إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله هل نرى ربّنا جلّ وعزّ يوم القيامة فقال:
«هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب» قالوا: لا. قال: «فهل تضارّون في الظّهيرة ليس دونها سحاب» قالوا: لا. قال: «فو الذي نفس محمّد بيده لترونّه كما ترونها»، قال: «ويلقى العبد ربّه يوم القيامة، فيقول: أي قل ألم أكرمك وأسودك وأزوّجك وأسخّر لك الخيل والإبل وأدرك ترأس وتربع فيقول: بل أي ربّ، قال: فيقول هل كنت تعلم أنك ملاقيّ فيقول: لا يا ربّ فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يقول للثاني مثل ذلك فيقول له مثل ذلك ويردّ عليه مثل ذلك، ثم يقول للثالث مثل ذلك فيقول: أي ربّ أمنت بك
99
وبكتابك وصمت وصلّيت وتصدّقت. قال: فيقول: أفلا تبعث شاهدنا عليك قال: فيكفر في نفسه فيقول: من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم الله جلّ وعزّ على فيه ويقول لفخذه: انطقي فتنطق فخذه وعظامه ولحمه بما كان، وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي يسخط عليه وذلك المنافق. قال: ثم ينادي مناد ألا اتّبعت كلّ أمّة ما كانت تعبد فيتبع الشياطين والصّلب أولياؤهما، وبقينا أيّها المؤمنون. قال: فيأتينا ربّنا جلّ وعزّ فيقول: من هؤلاء؟ فيقولون:
عبادك المؤمنون آمنّا بك ولم نشرك بك شيئا، وهذا مقامنا حتّى يأتينا ربنا جلّ وعزّ فيثيبنا.
قال: فينطلقون حتّى يأتوا الجسر وعليه كلاليب من نار تخطف الناس فهناك حلّت الشفاعة أي اللهمّ سلّم فإذا جاوزوا الجسر فكلّ من أنفق زوجا مما يملك من المال في سبيل الله فكلّ خزنة الجنّة تدعوه يا عبد الله يا مسلم. هذا خير، فتعال. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنّ هذا العبد لا ترى عليه يدع بابا ويلج من أخر قال: فضرب كتفه وقال: «والذي نفسي بيده إنّي لأرجو أن تكون منهم» «١» وقرئ على أحمد بن شعيب بن عيسى بن حماد قال: أخبرنا الليث بن سعد عن إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة قال:
«قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا جلّ وعزّ يوم القيامة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل تضارّون في الشّمس ليس دونها سحاب؟ وهل تضارّون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا. قال:
فكذلك ترونه»
قال: يجمع الله جلّ وعزّ النّاس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتّبعه فيتبع من يعبد الشمس الشمس، ويتبع من يعبد القمر القمر، ويتبع من يعبد الطّواغيت الطّواغيت وتبقى هذه الأمة بمنافقيها فيأتيهم الله جلّ وعزّ في الصور التي يعرفون فيقول: أنا ربّكم فيقولون: أنت ربّنا فيتّبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنّم فأكون أنا وأمّتي أول من يجيز ولا يتكلّم إلّا الرسل عليهم السلام. ودعوة الرسل يومئذ اللهمّ سلّم سلّم، وفي جهنم كلاليب كشوك السّعدان هل رأيتم السعدان؟ فإنه مثل شوك السعدان غير أنه لا يدري ما قدر عظمها إلا الله عزّ وجلّ، فيخطف الناس بأعمالهم، فإذا أراد الله جلّ وعزّ أن يخرج من النار برحمته من شاء أمر الملائكة أن يخرجوا من كان لا يشرك بالله شيئا. فمن يقول لا إله إلّا الله ممن أراد أن يرحمه فيعرفونهم في النار بآثار السجود حرّم الله عزّ وجلّ النار على ابن أدم أن تأكل اثار السجود، فيخرجونهم من النار، وقد امتحشوا فيصبّ عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السّيل» قال أبو جعفر: فأمّا تفسير «تضارّون» فنمليه مما أخذناه عن أبي إسحاق بشرح كل فيه مما لا يحتاج إلى زيادة. قال: والذي جاء في الحديث مخفّف «تضارون وتضامون» وله وجه حسن في العربية. وهذا موضع يحتاج أن يستقصى تفسيره فإنه أصل في السّنّة والجماعة. ومعناه لا ينالكم ضير ولا ضيم في رؤيته أي ترونه حتّى تستووا في الرؤية فلا يضير بعضكم بعضا. قال: وقال أهل اللغة قولين
(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢/ ٢٧٥، ٢٩٣، ٥٣٤، وذكره ابن حجر في فتح الباري ١١/ ٤٤٥.
100
آخرين قالوا: لا تضارّون بتشديد الراء ولا تضامّون بتشديد الميم مع ضم التاء. قال: وقال بعضهم بفتح التاء وبتشديد الراء والميم على معنى تتضارّون وتتضامّون. وتفسير هذا أنّه لا يضارّ بعضكم بعضا أي لا يخالف بعضكم بعضا في ذلك. يقال: ضاررت الرجل أضارّه مضارّة وضرارا إذا خالفته. ومعنى لا تضامّون في رؤيته، لا ينضمّ بعضكم إلى بعض فيقول واحد للآخر أرينه، كما يفعلون عند النظر إلى الهلال.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٢٩]
هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)
هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «ينطق» في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر هذا و «كتابنا» بدل من هذا.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٣٠]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠)
الَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء وخبره فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٣١]
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ في موضع رفع أيضا، وحذف القول كما يحذف في كلام العرب كثيرا، فلما حذف حذفت الفاء معه لأنها تابعة له فَاسْتَكْبَرْتُمْ الاستكبار في اللغة الأنفة من اتّباع الحقّ وقد بيّن الله جلّ وعزّ على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم حين سئل ما الكبر؟ كما قرئ على إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب عن هشام عن محمد عن أبي هريرة «أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان رجلا جميلا فقال: يا رسول الله حبّب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتّى ما أحبّ أن يفوقني أحد. إما قال: بشراك نعل وإمّا قال:
بشسع أفمن الكبر ذلك؟ قال: لا ولكن الكبر من بطر الحقّ وغمص الناس»
«١» قال إسحاق:
وحدّثنا الوليد بن شجاع قال: حدّثنا عطاء بن مسلم الخفّاف عن محمد عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر المتكبّرون- أحسبه قال- في صور الذرّ» ؟ «٢» قال إسحاق: وحدّثنا محمد بن بكار قال: حدّثنا إسماعيل- يعني ابن عليّة- عن عطاء بن السائب عن الأغرّ عن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال جلّ وعزّ: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنّم» «٣».
(١) أخرجه أبو داود في سننه الحديث رقم ٤٠٩٢، وذكره الحاكم في المستدرك ٤/ ١٨١، ١٨٢.
(٢) ذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١/ ٣٠٩، و ١٠/ ٤٥٣، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥١١٢، والعجلوني في كشف الخفاء ٢/ ٥٥١.
(٣) أخرجه أحمد في مسنده ٢/ ٣٧٦، وذكره الحاكم في المستدرك ١/ ٦١، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨/ ٣٣٦، والبخاري في الأدب المفرد ٢٥٣، والألباني في السلسلة الصحيحة ٤٥٠، وأبو حنيفة في جامع المسانيد ١/ ٨٨، والعجلوني في كشف الخفاء ٢/ ١٥١.

[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٣٢]

وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢)
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها وقرأ الأعمش وحمزة السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها «١» عطفا بمعنى وأنّ الساعة لا ريب فيها. والرفع بالابتداء، ويجوز أن يكون معطوفا على الموضع أي وقيل السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها، ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال. وزعم أبو عبيد أنه يلزم من قرأ بالرفع هاهنا أن يقرأ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة: ٤٥] وفي هذا طعن على جماع الحجّة لأنه قد قرأها هنا بالرفع وثم بالنصب من يقوم بقراءتهم الحجّة منهم نافع وعاصم قرا وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها وقرا «والعين بالعين» بالنصب، وكذا ما بعده. وفيه أيضا طعن على عبد الله بن كثير وأبي عمرو بن العلاء وأبي جعفر القارئ وعبد الله بن عامر لأنهم قرءوا «والساعة لا ريب فيها» وقرءوا وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ بالنصب، وكذا ما بعده إلّا «والجروح قصاص» والحديث المرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ «والعين بالعين» لا يجوز أن يكون في موضع الحال. وقد ذكر أبو عبيد أنّ مثله وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ [لقمان: ٢٧] وهو مخالف له لأنّ والبحر أولى الأشياء به عند النحويين أن يكون في موضع الحال وأبعد الأشياء في «الساعة لا ريب فيها» أن يكون في موضع الحال. قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وهذا من مشكل الإعراب وغامضه لأنه لا يقال: ما ضربت إلّا ضربا، وما ظننت إلّا ظنّا، لأنه لا فائدة فيه أن يقع بعد حرف الإيجاب لأنّ معنى المصدر كمعنى الفعل. فالجواب عن الآية عن محمد بن يزيد على معنيين: أحدهما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي إن نحن إلّا نظنّ ظنّا، وزعم أنّ نظيره من كلام العرب حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه «٢» : ليس الطّيب إلّا المسك أي ليس إلّا الطّيب المسك، والجواب الآخر أن يكون التقدير: إن نظنّ إلّا أنّكم تظنّون ظنّا.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥)
قال أبو العباس وَحاقَ بِهِمْ نزل بهم.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الْيَوْمَ نَنْساكُمْ قال: نترككم كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يكون من النسيان أي تشاغلتم عن يوم القيامة بلذاتكم وأمور دنياكم فوبّخهم
(١) انظر تيسير الداني ١٦١، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٩٥.
(٢) انظر الكتاب ١/ ٢٠١.
الله عزّ وجلّ على ذلك. ويجوز أن يكون المعنى كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا.
وحقيقته في العربية كما تركتم عمل لقاء يومكم مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢].
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٣٦]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦)
على البدل، ويجوز أن يكون نعتا.
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٣٧]
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال محمد بن يزيد: الكبرياء الجلال والعظمة وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مبتدأ وخبر.
Icon