ﰡ
﴿ وَهُوَ ٱلْحَقُّ ﴾؛ أي الصدقُ.
﴿ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾؛ أي غفَرَها لهم فلا يُحاسَبون عليها.
﴿ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾؛ أي حالَهم، قال المبرِّدُ: (الْبَالُ: الْحَالُ). وقال ابنُ عبَّاس: (عَصَمَهُمْ أيَّامَ حَيَاتِهِمْ حَتَّى لَمْ يُمْنَعُوا). وَقِيْلَ: معناهُ: وأظهرَهم على أعدائِهم وقوَّاهم من ضَعفِهم، قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (الَّذِينَ كَفَرُواْ صَدُّواْ عَنْ سَبيلِ اللهِ أهْلُ مَكَّةَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِلأَنْصَار).
﴿ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾؛ واتِّباعُ المؤمنين التوحيدَ والقرآن، فالشِّركُ هو الباطلُ، والتوحيدُ هو الحقُّ والقرآن. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾؛ معنى أنَّ مَن كان كَافراً أضلَّ اللهُ عملَهُ، ومَن كان مُؤمناً كفَّرَ اللهُ سيِّئاته وأصلحَ بالَهُ.
﴿ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾؛ ولكن يأمُركم بالحرب ليَبلُوَ بعضَكم بعضاً، قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيدُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ صَارَ إلَى الثَّوَابِ، وَمَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ صَارَ إلَى الْعَذاب)، يعني: ولكن ليتَعَبَّدَكم بالقتالِ تَعوِيضاً للثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ قرأ العامَّةُ (وَالَّذِينَ قَاتَلَوا فِي سَبيلِ اللهِ) وقرأ أبو عمرٍو (قُتِلُوا) بضمِّ القاف وكسرِ التاء مخفَّفاً، وقرأ الحسنُ بضمِّ القاف وكسرِ التاء مشدَّداً وقرأ عاصم والجَحْدَريِّ: (قَتَلُوا) بفتحِ القاف والتاء، والوجهُ قراءة العامَّة لأنَّها تشملُ مَن قاتلَ قُتِلَ أو لَمْ يُقْتَلْ، وقراءة أبي عمرو تخصُّ المقتُولِينَ، ولأنَّه تعالى قال ﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ قال ابنُ عباس: (سَيَهْدِيهِمْ إلَى أرْشَدِ الأُمُور، وَيَعْصِمُهُمْ أيَّامَ حَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا)، وهذا لا يُحسَنُ في وصفِ المقتُولِين. ومعنى الآيةِ: والذين قُتِلُوا في سبيلِ الله يومَ بدرٍ فلَنْ يُبطِلَ اللهُ ثوابَ أعمالِهم كما أبطلَ ثوابَ أعمال الكفَّار؛ و ﴿ سَيَهْدِيهِمْ ﴾ إلى ثوابهِ وجنَّتهِ.
﴿ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾؛ في النَّعيمِ.
﴿ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾؛ عندَ القتالِ بتقوِيَةِ قُلوبكم.
﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ ﴾؛ أي فمَكرُوهاً لهم وسوءاً، والتَّعْسُ في اللغة: الانحطاطُ والعثُورُ، يقال: تَعَسَ يَتْعَسُ إذا انْكَبَّ وعَثَرَ، قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيدُ: فِي الدُّنْيَا الْعَثْرَةُ، وَفِي الآخِرَةِ التَّرَدِّي فِي النَّار). وانتصبَ قولهُ ﴿ فَتَعْساً لَّهُمْ ﴾ على الدُّعاء؛ أي أتْعَسَهُمُ اللهُ تَعْساً، قال الفرَّاءُ: (هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَر)، وأصلُ التَّعْسِ في الدوَاب والناسِ، وهو أن يُقالَ للعاثرِ: تَعْساً؛ إذا لَمْ يُرِيدُوا قِيَامَهُ، وضِدُّهُ لَعَّا إذا أرَادُوا قِيامَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ أي أبْطَلَها وأحبَطَها لأنَّها كانت في طاعةِ الشيطان. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي ذلك التَّعْسُ والإضلالُ بأنَّهم كَرِهُوا ما أنزلَ اللهُ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم وبيَّن من الفرائضِ من الصَّلاة والزكاةِ.
﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ ﴾؛ لأنَّها لم تكن في إيمانٍ.
﴿ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ من الأُمم المكذِّبة.
﴿ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾؛ منازَلهم وأهلكَهم بالعذاب، والتدميرُ: الهلاكُ، ثم يوعِدُ مشركِي مكَّة فقال: ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾؛ إنْ لم يُؤمِنُوا؛ أي أمثالُ عقُوبَتِهم وأشباهُ عقوباتِ مَن كان قبلَهم.
﴿ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ ﴾؛ أي ليس لَهم ولِيٌّ يُعِينُهم ولا ناصرَ يُنْجِيهم من العذاب.
﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ ﴾؛ في الدُّنيا.
﴿ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ ﴾؛ تأكلُ وتشرَبُ ولا تدري ما في غدٍ، كذلك الكفارُ لا يلتَفِتُونَ إلى الآخرة.
﴿ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴾؛ أي منْزِلُهم ومُقَامُهم ومصيرُهم. وأرادَ بالتمتُّعِ التعيُّشَ في الدنيا في الجهلِ، وشبَّهَ أكلَ الكافرِ بأكلِ الأنعام لأنَّهم يأكلُون للشَّبَعِ لا يَهمُّهم ما في غدٍ، والمؤمنُ هِمَّتُهُ مصروفةٌ إلى أمرِ دينه يأكلُ للقيامِ بعبادة اللهِ لا للشَّبع، ويكون قصدهُ من التَّمتُّع إعفافَ نفسه وزوجتهِ، وابتغاءَ ما كُتِبَ من الولدِ. وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ، فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ: فَثُلُثاً لِلطَّعَامِ وَثُلُثاً لِلشَّرَاب وَثُلُثاً لِلنَّفَسِ "وقال الحسنُ: (وَهُوَ أنَّكُمْ إذا أشْبعْتُمْ عَصَيْتُمْ شِئْتُمْ أوْ أبَيْتُمْ).
﴿ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ﴾؛ فلم يكن لَهم ناصرٌ يُنجِيهم من عذاب الله، فحَذِّرْ قومَكَ يا مُحَمَّدُ مثلَ حالَتِهم.
﴿ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾؛ في عبادتِها.
﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾؛ أي مُتغيِّر طَعمهُ وريحهُ، يقالُ: آسَنَ الماءُ يَأْسَنُ أُسُونَا وَأسَناً إذا تغيَّرَ، وهو الذي لا يشتهيه مِن نَتَنِهِ فهو آسِنٌ وأسِنٌ، مثلُ حَاذِرٍ وحَذِرٍ. وَقِيْلَ: إن الآسِنَ ما يعرَضُ أن يتغيَّر، والأَسِنُ بالقَصْرِ، ما تغيَّرَ في الحالِ، وقرأ ابنُ كثير (آسِنٍ) بالقصرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ﴾؛ أي لم يَحْمَضْ كما تَحْمَضُ وتتغيَّرُ ألبانُ الدُّنيا؛ لأنه لم يخرُجْ من ضُروعِ الأنعامِ.
﴿ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾؛ بخلاف خمرِ الدُّنيا؛ فإنَّها لا تخلُو من المرارةِ، وعن ما يحدثُ فيها من أنواعِ المرضِ ومن العقوبةِ في الدُّنيا والآخرةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ﴾؛ أي مُصَفَّى من الأقذار، من العِكْرِ والكَدَر، بخلافِ عسلِ الدُّنيا الذي يكون من بطونِ النَّحل، فإنه لا يخلُو من الشَّعرِ وغيرهِ. قال مقاتلُ: (أنْهَارُ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةُ تَتَفَجَّرُ مِنَ الْكَوْثَرِ إلَى الْجَنَّةِ). ويقالُ: إنَّها تتفجرُ من تحتِ شجرة طُوبَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾؛ أي ولَهم في الجنَّة من جميعِ أنواع الثَّمرَاتِ والفواكهِ مما عَلِموهُ وما لَمْ يعلموهُ، ومما سَمعوهُ وما لَمْ يسمعوهُ، ظاهرُها مثلُ باطِنها، لا يخالِطُها قشرٌ ولا رذالٌ ولا نَوَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾؛ أي ولَهم مع ذلك النعيمِ المقيم مغفرةٌ مِن ربهم لذُنوبهم، فلا يُذكَرُ شيءٌ من معاريضِهم في الجنَّة؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد ستَرَها عليهم فهي بمنْزِلة ما لَمْ يُعمَلْ.
﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾؛ أي مَن كان في هذا النعيمِ كمَنْ هو خالدٌ في النار ﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً ﴾ شَديدَ الحرِّ تسْتَعرُ عليه جهنَّم منذُ خُلِقت ﴿ فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ في الجوفِ من شدَّة الحرِّ، والأمعاءُ: جميعُ ما في البطنِ من الحوايَا، واحدُها مِعَاءٌ، كما قالَ تعالى في آيةٍ أُخرى:﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ ﴾[الحج: ٢٠].
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" إذا شَرِبَهُ صَاحِبُهُ قَطَّعَ أمْعَاءَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ "وعن محمَّد بن عبدِالله الكاتب قال: قَدِمْتُ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا صِرْتُ إلَى طِيزنَابَاذ ذكَرْتُ بَيْتَ أبي نُؤَاسٍ: بطِيزْنابَاذ كَرْمٌ مَا مَرَرْتُ بهِ إلاَّ تَعَجَّبْتُ مِمَّنْ شَرِبَ الْمَاءَفَهَتَفَ بهِ هَاتِفٌ أسْمَعُهُ وَلاَ أرَاهُ: فِي الْجَحِيمِ حَمِيمٌ مَا تَجَرَّعَهُ خَلْـ قٌ إلاَّ مَا بَقِيَ لَهُ بَطْنُ أمْعَاءِ
﴿ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾؛ في الكفرِ والنِّفاقِ.
﴿ فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا ﴾؛ أي علاَماتُها، ومِن أشراطِها خروجُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فإنَّهَا تَأتِيهِمْ بَغْتَةً في آخرِ الزمان، قالَ صلى الله عليه وسلم:" بُعِثْتُ أنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنٍ "، ومِن أشراطِها أيضاً بيعُ الْحُكْمِ وقطيعةُ الرَّحمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ ﴾؛ أي مِن أين لَهم التوبةُ؟ ومِن أين لَهم أن يتذكَّروا أو يتُوبُوا إذا جاءَتْهم الساعةُ حين لا ينفَعُهم ذلكَ.
﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾؛ واستغفِرْ لذُنوب المؤمنين والمؤمناتِ، وهذا إكرامٌ من اللهِ لهذه الأُمة حين أمرَ نبيَّهم أنْ يستغفرَ لهم وهو الشفيعُ الْمُجَابُ فيهم. وقوله تعالى: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾؛ أي مُتصرَّفَاتِكم في الدُّنيا من أوَّلِ ما ينقلِبُون من ظهرٍ إلى بطنٍ إلى أن تَخرُجوا من دُنياكم إلى قُبوركم، ويعلمُ أينَ مَثْوَاكُمْ في الآخرةِ، قال عكرمةُ: (مَعْنَاهُ: واللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ مِنَ أصْلاَب الآبَاءِ إلَى أرْحَامِ الأُمَّهَاتِ، وَمَثْوَاكُمْ مَقَامَكُمْ فِي الأَرْضِ). وقال مقاتلُ: (وَاللهُ يَعْلَمُ مُنْتَشَرَكُمْ بالنَّهَار وَمَأْوَاكُمْ باللَّيْلِ). والمعنى: إنَّهُ عالِمٌ بجميعِ أحوالِكم، لا يخفَى عليه شيءٌ منها.
﴿ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾؛ وهم المنافِقُون.
﴿ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ ﴾؛ عندَ ذكرِ القتالِ كنظَرِ الذي هو في غَشَيَانٍِ من الموتِ، كراهةً منهم للقتالِ مخافةَ أن يُقتَلوا في الحرب. قال الزجَّاجُ: مَعْنَاهُ: رَأيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَشْخَصُونَ نَحْوَكَ بأَبْصَارهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَراً شَدِيداً، شَزِراً بتَحْدِيقٍ شَدِيدٍ كَرَاهَةً مِنْهُمْ لِلْجِهَادِ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ﴾؛ كلمةُ وعيدٍ لهم، ومعناهُ: وَلِيَهُم المكروهُ والعقابُ أولَى لهم، وهذا كما قالَ تعالى:﴿ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ﴾[القيامة: ٣٤]، قال الأصمعيُّ: (مَعْنَى قَوْلِهِ: أوْلَى لَكَ فَأَوْلَى؛ أيْ وَلِيَكَ وَقَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ).
﴿ فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾؛ أي لو صدَّقوا اللهَ في إيمانِهم وجِهَادِهم لكان خيراً لَهم من المعصيةِ والكراهة والمخالفةِ.
﴿ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ ﴾؛ بالبغْيِ، فيقتلُ قريشٌ بني هاشِمَ، وبنو هاشمٍ قُريشاً. وذهبَ كثيرٌ من الناسِ إلى أنَّ هؤلاءِ بنُو أُميَّة، والمعنى: فلعلَّكم إنْ أعرَضتُم عن الإيمانِ والقرآن، وفارَقتم أحكامَهُ أن تُفسِدُوا في الأرضِ فتَعُودُوا إلى ما كُنتم عليه في الجاهليَّة من الفسادِ وقتلِ بعضكم بعضاً، وتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ بسَفكِ الدماءِ بعد ما جَمَعكم اللهُ بالاسلامِ والأُلفة، فتَعُودوا إلى ما كُنتم عليه في جاهلِيَّتكم من القتلِ والبغيِ وقطيعة الرَّحم. وقال المسيَّب بن شُريك: (مَعْنَاهُ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أمْرَ النَّاسِ أنْ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بالظُّلْمِ، نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَفِي بَنِي هَاشِمٍ). قرأ يعقوبُ وأبو حاتمٍ: (وَتَقْطَعُوا) مُخفَّفاً من القطعِ اعتباراً بقولهِ﴿ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾[البقرة: ٢٧]، وقولُ الحسن (وَتَقَطَّعُواْ) بفتح الحروف المشدَّدة اعتباراً بقوله﴿ فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾[المؤمنون: ٥٣]، وقرأ الكافَّة (وَتُقَطِّعُواْ) بضمِّ التاء وتشديدِ الطاء وكسرِها من القطعِ على التكثيرِ لأجل الأرحامِ. ثم ذمَّ اللهُ تعالى مَن يريدُ ذلك فقالَ تعالى: ﴿ أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ﴾؛ فلاَ يَسمعون الحقَّ ولا يهتَدون للرُّشدِ، يعني المنافقِين الذين يُفسِدون في الأرضِ، ويُقطِّعون أرحامَهم، ونسَبَهم اللهُ تعالى إلى الصَّمَمِ والعمَى لإعراضِهم عن أمرِ الله تعالى، وأمَّا في مُشاهدَتِهم فإنَّهم لا يكونون صُمّاً ولا عُمياناً، ومثلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾[الأحقاف: ٢٦].
﴿ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ﴾؛ يعني الطَّبْعَ على القلب، وهذا استعارةٌ لإغلاقِ القلب عن معرفةِ الإسلامِ والقرآن، وكأنَّ على قُلوبهم أقفَالاً تَمْنَعُهُمْ مِن الاستدلالِ.
﴿ ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ﴾؛ أي زَيَّنَ لهم القبيحَ.
﴿ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ﴾؛ اللهُ تعالى؛ أي أمْهَلَهُمْ مَوَسِّعاً عليهم ليتَمَادَوا في طُغيانِهم، ولم يُعجِّلْ عليهم بالعقوبةِ. ويُحْسَنُ الوقوفُ على قولِ: ﴿ سَوَّلَ لَهُمْ ﴾ لأنه فِعلُ الشيطانِ، والإملاءُ فعلُ اللهِ تعالى، على قولِ الحسنِ: لاَ يُحْسَنُ الْوُقُوفُ؛ لأنَّهُ يُقَالُ فِي تَفْسِيرِهِ: ﴿ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ﴾: مَدَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي الْعَمَلِ. وقرأ أبو عمرٍو (وَأُمْلِي لَهُمْ) على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ، وهو حسنٌ للفصلِ بين فعلِ الشَّيطان وفعلِ الله تعالى، ونعلمُ يقيناً أنَّهُ لا يُؤَخِّرُ أحدٌ مدَّة أحدٍ ولاَ يُوَسِّعُ فيها إلاَّ اللهُ تعالى. وقرأ مجاهدُ (وَأُمْلِي) بضمِّ الهمزةِ وإسكانِ الياء على معنى: وأنَا أُمْلِي لَهم.
﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾؛ وظُهورَهم بمَقَامِعِ الحديدِ عند قبضِ الأرواح. ثم ذكرَ سببَ ذلك الضَّرب: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ ﴾؛ بما كتَمُوا من التوراةِ، وكفَرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وكَرِهُوا ما فيهِ رضوانُ اللهِ وهو الطاعةُ والإيمانُ ﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ ﴾، معنى ما كان من برٍّ وصلةٍ وخير عَمِلوهُ في غيرِ الإيمان بكُفرِهم.
﴿ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾؛ أي بالعلامةِ القبيحةِ التي نظهرها عليهم، قال الزجَّاجُ: (مَعْنَاهُ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا عَلَى الْمُنَافِقِينَ عَلاَمَةً؛ وَهِيَ السِّيمَاءُ؛ فَلَعَرَفْتَهُمْ بتِلْكَ الْعَلاَمَةِ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ ﴾؛ أعلمَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُطلِعَهُ على نفاقِهم في فَحْوَى كلامِهم، فكان لا يتكلَّمُ بعدَ نُزولِ الآية منافقٌ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ عُرِفَ بكلامهِ وبما يعتذرون إليه به مِن المعاذيرِ الكاذبة. قال المفسِّرون معنى قولهِ ﴿ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ ﴾ أي في فَحْوَى القولِ، ومعناهُ: ومَقْصَدِهِ، ويقالُ: فلانٌ لَحَنَ بحُجَّتهِ ولاَحَنَ في كلامهِ، وفي الحديث:" لَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَنُ بحُجَّتِهِ "أي أذْهَبُ بها في الجهاتِ لقوَّتهِ على تصريفِ الكلام، وإذا قِيْلَ: لَحَنَ في كلامهِ أو ألْحَنَ؛ فمعناهُ: ذهبَ بالكلامِ إلى خلافِ جهة الصَّواب. ولَحَنَ القارئُ إذا تركَ الإعرابَ الصَّوابَ وعدلَ عنه. وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾؛ أي يعلمُ ظَواهِرَها وبوَاطِنَها.
﴿ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ ﴾؛ في التوراةِ.
﴿ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً ﴾؛ بتَركِهم الهدَى، إنما يضُرُّون أنفُسَهم.
﴿ وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ فلا يُرِيدُونَ لها في الآخرةِ ثوَاباً.
﴿ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ بالشِّركِ والربا، فإن الشركَ يُبطِلُ العملَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾[الزمر: ٦٥]، والرِّياءُ يُحبطُ العملَ بالمعصيةِ، وَقِيْلَ: بالْعُجْب، وقال عطاءُ: (بالشَّكِّ وَالنِّفَاقِ)، قال الحسنُ: (بالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ). ويستدلُّ بظاهرِ هذه الآيةِ: على أنَّ مَنْ شَرَعَ في قُربَةٍ نحوَ الصلاةِ والصومِ والحجِّ، لم يَجُزْ له الخروجُ منها قبلَ إتْمَامِها؛ لِمَا فيه من إبطالِ عَمَلِها.
﴿ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾؛ أي لن يَنْقِصَكم شيئاً من ثواب أعمالكم، وفي الآيةِ دلالةٌ على أنَّهُ لا يجوزُ للإمامِ أن يدعُوا الكفارَ إلى الصُّلحِ، ولا أنْ يُجِيبَهم إلى الصُّلح في حالِ ما تكون الغَلَبَةُ للمسلمين، فإنَّ الواوَ في قولهِ: ﴿ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ ﴾ واوُ الحالِ، كما يقالُ: لا تُسَلِّمْ على فُلانٍ وأنتَ راكبٌ؛ أي في حالِ ما كُنتَ راكباً.
﴿ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ ﴾؛ كلَّها في الإنفاقِ في سَبيلهِ، بل يأمرُكم بالإيمانِ والطاعة ليُثِيبَكم الجنَّةَ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾[الذاريات: ٥٧].
وَقِيْلَ: معناهُ: ولا يسأَلُكم مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أموالَكم، وَقِيْلَ: معناهُ: ولا يسأَلُكم اللهُ ورسولهُ أموالَكم كلَّها، إنما يسألُكم رُبُعَ العُشرِ، فطِيبُوا نَفْساً، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ﴾؛ معناهُ: إنْ يُجهِدْكُم في المسألةِ، ويُلِحَّ عليكم ويسألُكم جميعَ أموالِكم، فبَخِلُوا بها ويمنَعُوا الواجبَ. وقوله: ﴿ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ﴾ التي تحدثُ في القلوب بسبب البُخلِ، قال قتادةُ: (قَدْ عَلِمَ اللهُ أنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَالِ خُرُوجَ الأَضْغَانِ). وقوله ﴿ أَضْغَانَكُمْ ﴾ أي بَغضَكم وعداوَتَكم للهِ ولرسوله، ولكن فَرَضَ عليكم يَسِيراً وهو رُبُعُ العُشرِ. والإحْفَاءُ في المسألةِ: هو الإْلحَاحُ والتشديدُ. وَقِيْلَ: معنى الآيةِ: ولا يسألُكم أموالَكم لنفسهِ، بل يسألُكم ليُؤتِكُمْ أجُورَكم.
﴿ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ﴾؛ بذلك.
﴿ وَمَن يَبْخَلْ ﴾؛ بذلكَ.
﴿ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ﴾؛ عاقبةُ بُخلِهِ تعودُ عليه في العقاب، فيصيرُ بُخلهُ على نفسهِ.
﴿ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ ﴾؛ عن ما عندَكم من الأموالِ وعن أعمالِكم.
﴿ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ ﴾؛ وأنتم مُحتَاجُونَ إلى اللهِ وإلى ما عندهِ من الجزاءِ والرَّحمةِ والمغفرة، ثم يأمرُكم بالإنفاقِ لحاجتهِ ولا لِجَرِّ منفعةٍ ولا لدفعِ مضَرَّة، وإنما أمرُكم بذلك لمصالِحكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾؛ أي وإنْ تُعرِضُوا عن طاعةِ الله يَسْتَبْدِلْ قَوماً لا يَعْصُونَ ويفعلون ما يُؤمَرون، وَقِيْلَ: معناهُ: وإنْ تُعرِضُوا عن الإسلامِ وعمَّا افتَرَضَ عليكم من حقٍّ يستبدِلْ قوماً غيرَكم أطوعَ للهِ منكم.
﴿ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم ﴾؛ بل يكون أمثلَ منكم وأطوعَ. قال الكلبيُّ: (هُمْ كِنْدَةُ وَالنَّخْعُ)، وقال الحسنُ: (هُمُ الْعَجَمُ)، قال عكرمةُ: (هُمْ فَارسُ وَالرُّومُ). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم" أنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ؛ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ إنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُواْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أمْثَالَنَا؟ فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ فِي صَدْر سَلْمَانَ الْفَارسِيَّ - وَقِيلَ: عَلَى فَخِذِهِ - وَقَالَ: " هَذا وَأصْحَابُهُ ". وَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَوْ كَانَ الإيْمَانُ مُعَلَّقاً بالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رجَالٌ مِنْ أبْنَاءِ فَارسَ " "قال الكلبيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ قَالَ: (لَمْ يَتَوَلَّوْا وَلَمْ يَسْتَبْدِلْ بهِمْ).