تفسير سورة الرحمن

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

لم يقل فيها لأن عند الفناء ليس الحال حال القرار والتمكين.
وقال تعالى :﴿ وفرش مرفوعة ﴾ [ الواقعة : ٣٤ ].
فوصف الفرش بكونها مبطنة بالإستبرق. وهذا يدل على أمرين :
أحدهما : أن ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها. لأن بطائنها للأرض، وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة.
قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي هبيرة ابن يريم عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله :﴿ بطائنها من إستبرق ﴾ قال : هذه البطائن قد أخبرتم بها. فكيف بالظهائر ؟
الثاني : يدل على أنها فرش عالية، لها سمك وحشو بين البطانة والظهارة.
وقد روي في سمكها وارتفاعها آثار - إن كانت محفوظة – فالمرد : ارتفاع محلها، كما رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ وفرش مرفوعة ﴾ قال :«ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام » قال الترمذي : حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد.
قيل : ومعناه : أن الارتفاع المذكور للدرجات والفرش عليها.
قلت : رشدين بن سعد عنده مناكير. قال الدارقطني : ليس بالقوي. وقال أحمد : لا يبالي عمن يروى. وليس به بأس في الرقاق. وقال : أرجو أنه صالح الحديث. وقال يحيى بن معين : ليس بشيء. وقال زرعة : ضعيف. وقال الجوزجاني : عنده مناكير. ولا ريب أنه كان سيء الحفظ. فلا يعتمد على ما ينفرد به.
وقد قال أبن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث عن دَرَّاج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ وفرش مرفوعة ﴾ قال :«ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض ».
وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ. فالله أعلم.
وقال الطبراني : حدثنا المقدام بن داود حدثنا أسد بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن مُطَرِّف عن عبد الله بن الشِّخِّير عن كعب في قوله عز وجل :﴿ وفرش مرفوعة ﴾ قال :«مسيرة أربعين سنة ».
قال الطبراني : حدثنا إبراهيم بن نائلة حدثنا إسماعيل بن عمرو والبجلي حدثنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :«سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرش المرفوعة ؟ فقال :«لو طرح فراش من أعلاها إلى قرارها مائة خريف ».
وفي رفع هذا الحديث نظر. فقد قال أبن أبي الدنيا : حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا معاذ ابن هشام، قال : وجدت في كتاب أبي، القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه في قوله عز وجل :﴿ وفرش مرفوعة ﴾ قال :«لو أن أعلاها سقط ما بلغ أسفلها أربعين خريفا ».

فصل

وصفهن سبحانه بقصر الطرف في ثلاثة مواضع. أحدها : هذا.
والثاني : قوله تعالى في الصافات :﴿ وعندهم قاصرات الطرف عين ﴾ [ الصافات : ٤٨ ].
والثالث : قوله تعالى في ص :﴿ وعندهم قاصرات الطرف أتراب ﴾ [ ص : ٥٢ ].
وأجمع المفسرون كلهم على أن المعنى : أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يطمحن إلى غيرهم.
وقيل : قصرن طرف أزواجهن عليهن. فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن.
وهذا صحيح من جهة المعنى. وأما من جهة اللفظ : فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان الوجوه. واصله :«قاصر طرفهن »، أي : ليس بطامح متعد.
قال آدم : حدثنا ورقاء عن أبن نجيح عن مجاهد في قوله :﴿ قاصرات الطرف ﴾ قال : يقول قاصرات الطرف على أزواجهن، فلا يبغين غير أزواجهن.
وقال آدم : حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال :«قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يردن غيرهم. والله ما هن متبرجات، ولا متطلعات ».
وقال منصور عن مجاهد :«قصرن أبصارهن وقلوبهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم ».
وفي تفسير سعيد، عن قتادة، قال : قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم.
و أما «الأتراب »، فجمع «تِرْب »، وهو لذة الإنسان.
قال أبو عبيدة، وأبو إسحاق : أقران، أسنانهن واحدة، قال ابن عباس رضي الله عنه وسائر المفسرين : مستويات على سن واحد، وميلاد واحد، وبنات ثلاث وثلاثين سنة.
وقال مجاهد :﴿ أتراب ﴾ أمثال. وقال أبو إسحاق : هن في غاية الشباب والحسن، وسمي ندّ الإنسان وقرنه :«تِرْبَه ». لأنه مس تراب الأرض معه في وقت واحد.
المعنى من الأخبار باستواء أسنانهن : أنهن ليس فيهن عجائز. قد فات حسنهن، ولا ولائد لا يقطن الوطء، بخلاف الذكور، فان فيهم الولدان، وهم الخدم.
وقد اختلف في مفسر الضمير في قوله :﴿ فيهن ﴾.
فقالت طائفة : مفسره الجنتان، وما حوتاه من القصور والغرف والخيام.
وقالت طائفة : مفسره الفرش المذكورة في قوله :﴿ متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ﴾ و«في » هنا بمعنى «على ».
وقوله تعالى :﴿ لم يطمثهن إنس قبلهن ولا جان ﴾.
قال أبو عبيدة : لم يمسهن، يقال :«ما طمث هذا البعير حبل قط »، أي : ما مسّه.
وقال يونس : تقول العرب :«هذا جمل ما طمثه حبل قط »، أي : ما مسه.
وقال الفراء : الطمث : الافتضاض، وهو النكاح بالتدمية. والطمث هو الدم. وفيه لغات. طمث : يطمث، ويطمث.
قال الليث : طمث الجارية، إذا افترعتها، والطامث في لغتهم هي الحائض.
قال أبو الهيثم : يقال للمرأة طمثت تطمث، إذا أدميت بالافتضاض. وطمثت عليَّ فعلت – تطمث، إذا حاضت أول ما تحيض، فهي طامث. وقال في قول الفرزدق.
خرجن إليَّ لم يطمثن قبلي وهن أصح من بيض النعام
أي لم يمسسن. قال المفسرون : لم يطأهن ولم يغشهن يجامعهن. هذه ألفاظهم.
وهم مختلفون في هؤلاء. فبعضهم يقول : هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها.
وبعضهم يقول : يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا. كما وصفن.
قال الشعبي : نساء من نساء الدنيا، لم يمسسن منذ أنشئن خلقا.
وقال مقاتل : لأنهن خلقن في الجنة. وقال عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنه : هن الآدميات اللاتي متن أبكارا، وقال الكلبي : لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان.
قلت : ظاهر القرآن. أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا، وإنما هن من الحور العين. وأما نساء الدنيا فنساء الإنس قد طمثهن الإنس، ونساء الجن قد طمثهن الجن. والآية تدل على ذلك.
قال أبو إسحاق : وفي هذه الآية دليل على أن الجني يغشي كما أن الإنسي يغشى.
ويدل على أنهن الحور اللاتي خلقن في الجنة : أنه سبحانه جعلهن مما أعده الله في الجنة لأهلها، من الفاكهة والثمار والأنهار والملابس وغيرها.
ويدل عليه أيضا الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى :﴿ حور مقصورات في الخيام ﴾ ثم قال :﴿ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ﴾ قال الإمام أحمد : والحور العين لا يمتن عند النفخ في الصور، لأنهن خلقن للبقاء.
وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور : أن مؤمني الجن في الجنة، كما أن كافرهم في النار. وبوب عليه البخاري في «صحيحه » فقال :«باب ثواب الجن وعقابهم » ونص عليه غير واحد من السلف. قال ضمرة بن حبيب - وقد سئل : هل للجن ثواب ؟ فقال : نعم. وقرأ هذه الآية. ثم قال : الإنسيات للإنس، والجنيات للجن. وقال مجاهد في هذه الآية : إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه.
والضمير في قوله ﴿ قبلهم ﴾ للمعنيين بقوله ﴿ متكئين ﴾ وهم أزواج هؤلاء النسوة.
وقوله ﴿ كأنهم الياقوت والمرجان ﴾.
قال الحسن وعامة المفسرين : أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان، شبههن في صفاء اللون وبياضه وبالياقوت والمرجان، ويدل عليه ما قاله عبد الله ( إن المرأة من نساء أهل الجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير، فيرى بياض ساقيها من ورائهن،
ذلك بأن الله يقول ﴿ كأنهن الياقوت والمرجان ﴾ ألا وإن الياقوت حجر، لو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته لنظرت إلى السلك من وراء الحجر ).
فالخيرات : جمع «خيرة »، وهي مخففة، من خيرة ؛ كسيدة، ولينة.
و﴿ حسان ﴾ جمع «حسنة ». فهن ﴿ خيرات ﴾ الصفات والأخلاق والشيم، ﴿ حسان ﴾ الوجوه.
قال وكيع : حدثنا سفيان عن جابر عن القاسم عن أبي برزة عن أبي عبيدة عن مسروق عن عبد الله رضي الله عنه قال :«لكل مسلم خَيِّرَة، ولكل خَيِّرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، يدخل عليها في كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة، لم تكن قبل ذلك. لا ترحات ولا ذفرات، ولا بخرات ولا طماحات ».
( المقصورات ) : المحبوسات. قال أبو عبيدة : خدرن في الخيام، وكذلك قال مقاتل في الخيام. وفيه معنى آخر : وهو أن يكون المراد أنهنّ محبوسات على أزواجهن لا يرين غيرهم، وهم في الخيام. وهذا معنى قول من قال : قصرن على أزواجهن، فلا يرين غيرهم، ولا يطمحن إلى من سواهم، وذكره الفراء.
قلت : وهذا معنى ﴿ قاصرات الطرف ﴾ لكن أولئك قاصرات بأنفسهن، وهؤلاء مقصورات، وقوله :﴿ في الخيام ﴾ على هذا القول : صفة لحور. أي هن في الخيام. وليس معمولا لمقصورات، وكأن أرباب هذا القول فسروه بأن يكن محبوسات في الخيام ويفارقنها إلى الغرف والبساتين.
وأصحاب القول الأول : يجيبون عن هذا : بأن الله سبحانه وصفهن بصفات النساء المخدرات المصونات. وذلك أجمل في الوصف. ولا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين، كما أن نساء الملوك ومن دونهن من النساء المخدرات المصونات لا يمنعن أن يخرجن في سفر وغيره إلى متنزه وبستان ونحوه فوصفهن اللازم لهن : هو القصر في البيت، وإن كان يعرض لهن مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها.
وأما مجاهد فقال : مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ.
وقد تقدم وصف النسوة الأول. بكونهن قاصرات الطرف، وهؤلاء بكونهن مقصورات. والوصفان لكلا النوعين، فإنهما صفتا كمال. فتلك الصفة قصر الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج، وهذه الصفة قصرهن عن التبرج والبروز والظهور للرجال.
وقال تعالى :﴿ فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة * ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة ﴾ [ الغاشية : ١٣. ١٦ ].
وذكر هشام عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : الرفرف رياض الجنة، والعبقري : عتاق الزرابي. وذكر إسماعيل بن عُلَيَّة عن أبي رجاء عن الحسن. في قوله تعالى :﴿ متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ﴾ قال : هي البسط. قال : وأهل المدينة يقولون : هي البسط.
وأما النمارق فقال الواحدي : هي الوسائد في قول الجميع، واحدتها :«نُمْرُقَة » بضم النون. وحكى الفراء «نمرقة » بكسرها، وأنشد أبو عبيدة :
إذا ما بساط اللهو مد وقربت *** للذاته أنماطه ونمارقه
قال الكلبي : وسائد مصفوفة بعضها إلي بعض.
وقال مقاتل : هي الوسائد مصفوفة على الطنافس.
والزرابي بمعنى البسط، والطنافس. واحدتها : زربية. في قول جميع أهل اللغة والتعبير.
و﴿ مبثوثة ﴾ مبسوطة منشورة.

فصل


وأما «الرفرف » فقال الليث : هو ضرب من الثياب خضر تبسط. الواحد رفرفة. وقال أبو عبيدة : الرفارف : البسط، وأنشد لابن مقبل :
وإنا لنزالون تغشى نعالنا *** سواقط من أصناف رَيْط ورفرف
وقال أبو إسحاق، قالوا : الرفرف هاهنا رياض الجنة. وقالوا : الرفرف الوسائل. وقالوا : الرفرف المحابس. وقالوا، فضول المحابس للفرش.
وقال المبرد : هو فضول الثياب التي تتخذ الملوك في الفرش وغيره.
وقال الواحدي : وكأن الأقرب هذا. لأن الغرب تسمى كسر الخباء والخرقة التي تخلط في أسفل الخباء رفرفا. ومنه الحديث في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم «فرفع الرفرف، فرأينا وجهه كأنه ورقة ».
قال ابن الأعرابي : الرفرف هاهنا طرف الفسطاط. فشبه ما فضل من المحابس عما تحته بطرف الفسطاط، فسمى رفرفا.
قلت : أصل هذه الكلمة من الطرف أو الجانب، فمنه الرفرف في الحائط، ومنه الرفرف، وهو كسر الخباء، وجوانب الدرع، وما تدلى منها، الواحدة رفرفة. ومنه :«رفرف الطير » إذا حرك جناحه حول الشيء، يريد أن يقع عليه. والرفرف : ثياب خضر يتخذ منها المحابس. الواحدة «رفرفة »، وكل ما فضل من شيء فثُنِيَ وعُطف : فهو رفرف، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قول الله عز وجل :﴿ لقد رأى من آيات ربه الكبرى ﴾ [ النجم : ١٨ ] قال :«رأى رفرفا أخضر [ قد ] سَدَّ الأفق » وهو في «الصحيحين ».

فصل


وأما «العبقري » فقال أبو عبيدة : كل شيء من البُسُط «عبقري ». قال : ويرون أنها أرض توشَّى البسط فيها، وقال الليث : عبقر : موضع بالبادية كثير الجن، يقال : كأنه جن عبقر.
قال أبو عبيدة، في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، حين ذكر عمر رضي الله عنه «فلم أر عبقريا يَفْرِي فَرْيه ».
وإنما أصل هذا، فيما يقال : أنه نسب إلى «عبقر »، وهي أرض يسكنها الجن، فصار مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع، وأنشد لزهير :
تخيل عليها جنة عبقرية *** جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
وقال أبو الحسن الواحدي : وهذا القول هو الصحيح في «العبقري ». وذلك أن العرب إذا بالغت في وصف شيء نسبته إلى الجن، أو شبهته بهم، ومنه قول لبيد :
جن الردى رواسيا أقدامها ***. . .
وقال آخر يصف امرأة :
جنية، ولها جن يعلمها *** رمى القلوب بقوس ما لها وتر
وذلك أنهم يعتقدون في الجن كل صفة عجيبة، وأنهم يأتون بكل أمر عجيب، ولما كان «عبقر » معروفا بسكناهم نسبوا كل شيء يبالغ فيه إليه، يريدون بذلك أنه من عملهم وصنعهم، هذا هو الأصل، ثم صار العبقري نعتا لكل ما بولغ في صفته.
ويشهد لما ذكرنا : بيت زهير، فإنه نسب الجن إلى «عبقر ».
ثم رأينا أشياء كثيرة نسبت إلى «عبقر » غير البسط والثياب، كقوله صلى الله عليه وسلم في صفة عمر رضي الله عنه :«عبقريا » وروي عن الفراء قال : العبقري : الرشيد من الرجال، وهو الفاخر من الحيوان والجوهر، فلو كانت «عبقر » مخصوصة بالوشى، لما نسب إليها غير الموشَّى وإنما ينسب إليها البسط الموشاة العجيبة الصنعة، كما ذكرنا، كما نسب إليها كل ما بولغ في وصفه.
قال ابن عباس رضي الله عنه : وعبقري، يريد البسط والطنافس، وقال الكلبي : هي الطنافس المجمَّلة، وقال قتادة : هي عتاق الزرابي، وقال مجاهد : الديباج الغليظ. وعبقري، جمع، واحده «عبقرية »، ولهذا وصف بالجمع.
فتأمل كيف وصف الله سبحانه وتعالى «الفرش » بأنها مرفوعة، و«الزرابي » أنها مبثوثة، و«النمارق » بأنها مصفوفة، فرفع الفرش دال على سمكها ولينها. وبث الزرابي دال على كثرتها، وأنها في كل موضع، لا يختص بها صدر المجلس دون مؤخره، ووصف المساند يدل على أنها مهيأة للاستناد إليها دائما، ليست مخبأة تصف في وقت دون وقت.
[ أسماء الجنة ]
وللجنة عدة أسماء، باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار الذات. فهي مترادفة من هذا الوجه، وتختلف باعتبار الصفات. فهي متباينة من هذا الوجه. وهكذا أسماء الرب سبحانه وتعالى، وأسماء كتابه، وأسماء رسله، وأسماء اليوم الآخر. وأسماء النار.
فالاسم الأول :( الجنة ) وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة، والبهجة والسرور، وقرة الأعين.
واصل اشتقاق هذه اللفظة : من «الستر » و«التغطية ». ومنه «الجنين » : لاستتاره في البطن، و«الجان » : لاستتاره عن العيون، و«المجنُّ » : لستره ووقايته الوجه. و«المجنون » : لاستتار عقله وتواريه عنه. و«الجان » : هي الحية الصغيرة الرقيقة. ومنه قول الشاعر :
فذقَّت وجلت واسْبَكَرّت وأكملت *** فلو جُنَّ إنسان من الحسن جُنت
أي لو غطى وستر عن العيون لفعل بها ذلك. ومنه سمى «البستان » : جنة. لأنه يستر داخله بالأشجار ويغطيه. ولا يستحق هذا الاسم إلا موضع الكثير الأشجار المختلفة الأنواع.
والجنة - بالضم - ما يستجن به، من ترس أو غيره. ومنه قوله تعالى :﴿ اتخذوا أيمانهم جنة ﴾ [ المجادلة : ١٦ ] يستترون بها من إنكار المؤمنين عليهم.
ومنه الجنة - بالكسر – وهم الجن، كما قال تعالى :﴿ من الجنة والناس ﴾ [ الناس : ٦ ].
وذهبت طائفة من المفسرين إلى أن الملائكة يسمون جنة. واحتجوا بقوله تعالى :﴿ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ﴾ [ الصافات : ١٥٨ ] قالوا : وهذا النسب قولهم : الملائكة بنات الله. ورجحوا هذا القول بوجهين :
أحدهما : أن النسب الذي جعلوه إنما زعموا أنه بين الملائكة وبينه ولا بين الجن وبينه.
الثاني : قوله تعالى :﴿ ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ﴾ [ الصافات : ١٥٨ ] أي قد علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا القول محضرون للعذاب.
والصحيح : خلاف ما ذهب إليه هؤلاء، وإن الجنة هم الجن أنفسهم، كما قال تعالى :﴿ من الجنة والناس ﴾ وعلى هذا ففي الآية قولان :
أحدهما : قول مجاهد. قال : قالت كفار قريش : الملائكة بنات الله. فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه فمن أمهاتهم ؟ قالوا : سروات الجن. وقال الكلبي. قالوا تزوج من الجن، فخرج من بينهما الملائكة. وقال قتادة، قالوا : صاهر الجن.
والقول الثاني : هو قول الحسن. قال : أشركوا الشياطين في عبادة الله. فهو النسب الذي جعلوه.
والصحيح : قول مجاهد وغيره.
وما احتج به أصحاب القول الأول ليس بمستلزم لصحة قولهم، فإنهم لما قالوا : الملائكة بنات الله، وهم من الجن، عقدوا بينه وبين الجنة نسبا بهذا الإيلاد وجعلوا هذا النسب متولدا بينه وبين الجن.
وأما قوله ﴿ ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون ﴾ فالضمير يرجع إلى الجنة، أي قد علمت الجنة أنهم محضرون الحساب. قاله مجاهد، أي لو كان بينه وبينهم نسب لم يحضروا الحساب، كما قال تعالى :﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ﴾ [ المائدة : ١٨ ] فجعل سبحانه عقوبتهم بذنوبهم وإحضارهم للعذاب مبطلا لدعواهم الكاذبة.
وهذا التقدير في الآية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأول فتأمله.
الاسم الثاني :( دار السلام )، وقد سماها الله تعالى بهذا الاسم في قوله :﴿ لهم دار السلام عند ربهم ﴾ [ الأنعام : ١٢٧ ] وقوله :﴿ والله يدعوا إلى دار السلام ﴾ [ يونس : ٢٥ ] وهي أحق بهذا الاسم. فإنها دار السلامة من كل بلية وآفة ومكروه. وهي دار الله. واسمه سبحانه وتعالى :( السلام ) الذي سلمها وسلم أهلها، وتحيتهم فيها سلام :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم ﴾ [ الرعد : ٢٣. ٢٤ ] والرب تعالى يسلم عليكم من فوقهم، كما قال تعالى :﴿ لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون * سلام قولا من رب رحيم ﴾ [ يس : ٥٧. ٥٨ ] وحديث جابر رضي الله عنه في سلام الرب تبارك وتعالى على أهل الجنة. وكلامهم كلهم فيها سلام، أي لا لغو فيها، ولا فحش ولا باطل، كما قال تعالى :﴿ لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ﴾ [ مريم : ٦٢ ].
وأما قوله تعالى :﴿ وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين ﴾ [ الواقعة : ٩٠. ٩١ ] فأكثر المفسرون حاموا حول المعنى، وما وردوه، وقالوا أقوالا لا يخفى بعدها عن المقصود.
وإنما معنى الآية - والله أعلم - فسلام لك أيها الراحل عن الدنيا حال كونك من أصحاب اليمين، أي فسلامه لك كائنا من أصحاب اليمين الذين سلموا من الدنيا وأنكادها، ومن النار وعذابها، فبشر بالسلامة عند ارتحاله من الدنيا وقدومه على الله، كما يبشر الملك روحه عند أخذها، بقوله :«أبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ».
وهذا أول البشرى التي للؤمن في الآخرة.
الاسم الثالث :( دار الخلد ). . . وسميت بذلك. لأن أهلها، لا يظعنون عنها أبدا كما قال تعالى :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾ [ هود : ١٠٨ ] وقال :﴿ إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ ﴾ [ ص : ٥٤ ] وقال :﴿ أكلها دائم وظلها ﴾ [ الرعد : ٣٥ ] وقال :﴿ وما هم منها بمخرجين ﴾ [ الحجر : ٤٨ ].
الاسم الرابع :( دار المقامة ). قال تعالى حكاية عن أهلها :﴿ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ﴾ [ فاطر : ٣٤. ٣٥ ] قال مقاتل : أنزلنا دار الخلود، أقاموا فيها أبدا، لا يموتون ولا يتحولون منها أبدا.
قال الفراء والزجاج : المقامة مثل الإقامة. يقال أقمت بالمكان إقامة، ومقامة، ومقاما.
الاسم الخامس :( جنة المأوى ). قال تعالى :﴿ عندها جنة المأوى ﴾ [ النجم : ١٥ ].
الاسم السادس :( جنات عدن ). فقيل : هي اسم لجنة من الجنان : والصحيح أنه اسم لجملة الجنان، وكلها جنات عدن. قال تعالى :﴿ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب ﴾ [ مريم : ٦١ ] وقال تعالى :﴿ جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ﴾ [ فاطر : ٣٣ ] وقال تعالى :﴿ ومساكن طيبة في جنات عدن ﴾ [ التوبة : ٧٢ ].
والاشتقاق يدل على أن جميعها جنات عدن. فإنه من الإقامة والدوام. يقال : عدن بالمكان : إذا أقام، وعدنتُ البلد : توطنته. وعدَنَتُ الإبل بمكان كذا : لزمته فلم تبرح منه.
وقال الجوهري : ومنه جنات عدن، أي إقامة، ومنه سمى المعدن - بكسر الدال - لأن الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء. ومركزه كل شيء : معدنه. والعادن : الناقة المقيمة في المرعى.
الاسم السابع :( دار الحيوان ). قال تعالى :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ﴾ [ العنكبوت : ٦٤ ].
والمراد : الجنة عند أهل التفسير. قالوا :﴿ وإن الدار الآخرة ﴾. يعني الجنة، { ل
Icon