تفسير سورة الحشر

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
أهداف سورة الحشر
( سورة الحشر مدنية، وآياتها ٢٤ آية، نزلت بعد سورة البينة )
وقد نزلت في بداية السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب، وهي تحكي قصة غزوة بني النضير، ولكنها على طريقة القرآن تحكي أحداث الغزوة وما صاحب هذه الأحداث، وتربي النفوس وتؤكد على معالم الإيمان، وبذلك يكون القصص هادفا، ورواية الأحداث وسيلة عملية لتقويمها، ومعرفة حكم الله فيها واستنباط العظة والعبرة منها.
والقرآن الكريم فيه القصة، وفيه أحداث التاريخ، وفيه العظة والعبرة، وفيه الحكم والتشريع، وفيه التهذيب والتربية، وقد استطاع أن يمزج ذلك كله بطريقته الخاصة، ليصل به إلى قلب المؤمن، وليسهم في بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح والأمة الصالحة.
قال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله... ( آل عمران : ١١٠ ).
غزوة بني النضيرi
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومعه رسالته الهادية، وقد آمن به جمع من المهاجرين والأنصار، ثم عقد معاهدات مع يهود المدينة على حرية الأديان، وعلى المعايشة السلمية في المدينة، وعلى ألا يكون اليهود عليه ولا له.
" وكان يهود بني النضير حلفاء الخزرج، وبينهم وبين المسلمين عهود خاصة يأمن بها كل منهم الآخر " ii، ولكن بني النضير لم يوفوا بهذه العهود حسدا منهم وبغيا، فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة من أصحابه إلى محلة بني النضير، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين، بحكم ما بينه وبينهم من عهود، فاستقبله زعماء اليهود بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم بينما كانوا يدبرون أمرا لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه. وكان صلى الله عليه وسلم جالسا إلى جدار من بيوتهم فقال بعضهم لبعض : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فهل من رجل منكم يعلو هذا البيت فيلقي صخرة عليه فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب، أنا لذلك، فصعد ليلقي صخرة على رسول الله، فاطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، فقام كأنما ليقضي أمرا، فلما غاب استبطأه منه معه، فخرجوا من المحلة يسألون عنه فعلموا أنه دخل المدينة.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم، وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف – من بني النضير – في هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قيل من أن كعبا ورهطا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف فقتله. ولما كان التبييت للغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم في محلة بني النضير، فلم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم.
ثم أرسل النبي إليهم محمد بن مسلمة ليقول لهم : اخرجوا من بلادي لقاء ما هممتم به من الغدر.
وتجهز الرسول لقتال بني النضير وحاصر محلتهم، وأمهلهم ثلاثة أيام – وقيل عشرة – ليفارقوا المدينة على أن يأخذوا أموالهم، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم.
وتهيأ بنو النضير للرحيل، ولكن المنافقين في المدينة أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة، وقالوا لهم : لا تخرجوا من دياركم، وتمنعوا في حصونكم ونحن معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجننا معكم، وقد حكى القرآن عمل المنافقين وشهّر بنفاقهم وكذبهم.
قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١١ ) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ( ١٢ ) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾. ( الحشر : ١١-١٣ ).
وقد طمع اليهود في معونة المنافقين ومؤازرتهم، فتحصنوا في حصونهم وتأخروا عن الجلاء، وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم وضيق عليهم الخناق، ثم أمر بقطع نخيلهم ليكون ذلك أدعى إلى تسليمهم، ثم قذف الله الرعب في قلوب اليهود، ولم يجدوا معونة من المنافقين، ويئسوا من صدق وعودهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، وأن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا آلة الحرب، فأجابهم النبي إلى طلبهم، وصار اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم كيلا يسكنها المسلمون.
ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر، ومن أكابرهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق. ومنهم من سار إلى أذرعات بالشام، وقد اسلم منهم اثنان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب.
وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله والرسول، ولم يوجفiii المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة، وكان المهاجرين قد تركوا بلادهم وأموالهم وهاجروا فرارا بدينهم إلى المدينة. وقد استقبلهم الأنصار بالبشر والترحاب والمعونة الصادقة والإيثار الكريم، فلما واتت الفرصة وزرع النبي الفيء على المهاجرين خاصة لتحسين أحوالهم المادية، ولكيلا يكون المال متداولا بين الأغنياء وحدهم.
قال تعالى :﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. ( الحشر : ٦ ).
تسلسل أفكار السورة
١- وصفت سورة الحشر حصار بني النضير، وعناية السماء بالمؤمنين، وانتهاء الحصار بجلاء اليهود وانتصار المؤمنين. ( الآيات : ١-٤ ).
٢- تحدثت عن قطع المسلمين للنخيل وبينت أن ذلك كان بأمر الله ليذل به اليهود ويخزي الفاسقين. ( الآية : ٥ ).
٣- ذكرت حكم الفيء والغنائم التي غنمها المسلمون من بني النضير، وبينت أنها توزع على المهاجرين لسد حاجاتهم، ولا يعطي منها شيئا للأنصار لأنها ليست غنيمة حرب استخدم فيها الكرّ والفرّ وركوب الإبل والخيل، ولكنها غنيمة حصار محدود انتهى بتسليم اليهود بعد أن ألقى الله الرعب في قلوبهم.
( الآيتان : ٦-٧ ).
٤- باركت السورة كفاح المهاجرين وخروجهم من مكة إلى المدينة حفاظا على الدين وفداء للعقيدة، كما باركت كرم الأنصار وأريحتهم، ووصفتهم بالسماحة والإيثار، والمحبة للبذل والعطاء.
كما باركت الأجيال اللاحقة التي وُلدت في محاضن الدعوة، وكانت ثمرة كريمة لترابط المهاجرين والأنصار. ( الآيات : ٨-١٠ ).
٥- حملت السورة على المنافقين، وكشفت نفاقهم وكيدهم، واتهمتهم بالجبن والصغار. ( الآيات : ١١-١٣ ).
٦- بينت أن اللقاء بين المنافقين وأهل الكتاب لقاء في الظاهر فقط، وبينهم من العداوة والإحن ما يظهر في الشدائد :﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى... ﴾ ( الحشر : ١٤ ).
١- أشارت إلى قصة الشيطان مع عابد يسمى برصيصا، حين أغراه الشيطان بارتكاب الفاحشة ثم استدرجه إلى الكفر ثم تولى عنه وخذله، ومثله كمثل المنافقين، زينوا لليهود المقاومة والتحصن ضد المسلمين ثم خذلوهم. ( الآية : ١٦ ).
٢- في الجزء الأخير من السورة تلتفت الآيات إلى المؤمنين فتأمرهم بالتقوى والعمل الصالح، وتبين فضل القرآن وأثره في هداية القلوب. ( الآيات : ١٨-٢١ ).
٣- تختم السورة بذكر أسماء اله الحسنى فهو سبحانه مالك الملك ( القدوس ) تقدست أسماؤه وتنزهت عن النقص، ( السلام ) الذي يشمل عباده بالأمان والطمأنينة ويمنحهم السلامة والراحة، ( المؤمن ) واهب الأمن وواهب الإيمان، ( المهيمن ) الرقيب على كل شيء، ( العزيز ) الغالب، ( الجبار )، القاهر، ( المتكبر ) البليغ الكبرياء والعظمة، ( البارئ ) الموجد، ( المصور ) خالق الصور للكائنات، ومن معناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة، ( له الأسماء الحسنى ) الدالة على الصفة العالية والكمال المطلق، فهو سبحانه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص.
المقصد الإجمالي للسورة
قال الفيروزبادي :
معظم مقصود سورة الحشر هو : الخبر عن جلاء بني النضير، وقسم الغنائم، وتفصيل حال المهاجرين والأنصار، والشكاية من المنافقين في واقعة بني قريظة، وذكر برصيصاiv، والنظر إلى العواقب، وتأثير نزول القرآن، وذكر أسماء الحق تعالى وصفاته، وبيان أن جميع المخلوقات تدل على عظمته وكماله وتنزيهه، في قوله سبحانه :﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾. ( الحشر : ٢٤ ).
النظام الاقتصادي في الإسلام
أشارت الآية السابعة من سورة الحشر إلى الحكمة من توزيع الفيء على المهاجرين وحدهم دون الأغنياء من أهل المدينة فقال تعالى :﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ... ﴾( الحشر : ٧ ). أي : كيلا كون الفيء – أي الغنيمة – متداولا بين الأغنياء دون الفقراء، وهذه قاعدة هامة من قواعد النظام الاقتصادي في الإسلام.
وقد احترم الإسلام الملكية الفردية لأنها حافز طبيعي للعمل والإنتاج، ولكنه قلم أظفار هذه الملكية، وحارب جبروت المال وطغيانه بما يأتي :
١- فرض الإسلام الزكاة وجعلها نسبة متفاوتة حسب التعب في كسب المال : فزكاة المال نسبتها ٢. ٥% وكذلك زكاة التجارة ٢. ٥% من رأس المال، وزكاة الزراعة ٥% أو ١٠%، وقريب منها زكاة الماشية، وزكاة الركاز وهو المال أو البترول أو المعادن أو الكنوز التي توجد في باطن الأرض نسبتها ٢٠%.
وهكذا كلما كان عمل العبد أظهر كانت نسبة الزكاة أقل، وكلما كان عمل القدرة الإلهية أظهر كانت نسبة الزكاة أكثر، لأن الفضل لله في ظهور الكنز أو البترول فكانت النسبة ٢٠%، والجهد ظاهر من العبد في التجارة والعمل في الحياة فنسبة الزكاة فيها٢. ٥%.
٢- حرم الإسلام الربا والاحتكار، وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء، أي يتداوله الأغنياء ولا يصل إليه الفقراء.
٣- جعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء، وأن يفرض الضرائب في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال.
٤- جعل هناك صدقات موسمية مثل : صدقة الفطر، والأضحية، والهدي في الحج، والكفارات مثل : كفارة اليمين، والظهار، والفطر في رمضان، وكلها تنتهي إلى إطعام المساكين أو كسوتهم والتوسعة عليهم.
٥- حث الإسلام على الصدقة والتراحم والتكافل والمودة والتعاطف بين الناس، وبذلك نجد أن النظام الاقتصادي في الإسلام نظام متميز ليس فيه مساوئ الرأسمالية أو الشيوعية، بل فيه محاسنهما مع التجرد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١ ) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ( ٢ ) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( ٣ ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٤ ) ﴾
المفردات :
سبح لله : نزه ومجده وعظمه، بدلالته على قدرة خالقه وعلمه وإتقان مخلوقاته.
العزيز : القادر الغالب، الذي لا ينازعه أحد.
الحكيم : الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب، أو الذي يُتقن خلق الأشياء ويحكمها.
التفسير :
١- ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
كل شيء في الأرض أو في السماوات يسبح لله وينزهه ويعظمه، إما بلسان الحال وإما بلسان المقال. أما لسان الحال فإن السماء العالية والجبال الراسية والبحار الجارية والليل المظلم والنهار المضيء، والقمر الباهر والكوكب الزاهر والنبات والفضاء والهواء، وما في الكون من تكامل وإبداع يدل دلالة واضحة على أن وراء هذا الكون البديع يدا حانية تمسك نظامه وتحفظ توازنه وتدبّر شؤونه، وكل ما نراه في الكون من جمال وإبداع وتناسق، هو من أثر هذه القدرة العليا.
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد.
وهذه الآثار المتعددة تشهد بتنزيه الله عن الشريك والنظير، وتقول بلسان الحال : سبحان الله العزيز الحكيم، القوي القدير الذي يحكم الصنعة ويدبر الأمر، وهو على كل شيء قدير.
وأما لسان المقال، فكما تسبح الإنس، والملائكة والجن، يقول الله تعالى : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم... ( الإسراء : ٤٤ ).
المفردات :
الذين كفروا من أهل الكتاب : هم يهود بني النضير وكانت منازلهم قرب المدينة.
لأول الحشر : كانوا أول من أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ديارهم في جزيرة العرب، والحشر : الإجلاء والإخراج، ثم أُجلي سائر اليهود والنصارى في أيام عمر بن الخطاب، وهو الحشر الثاني.
ما ظننتم أن يخرجوا : لأنهم كانوا أهل حصون مانعة، وأهل عدد وعدة.
أنهم مانعتهم حصونهم من الله : ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله.
من حيث لم يحتسبوا : أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم من تلك الجهة، وذلك غزو لهم، لإخراجهم من بلاد العرب.
التفسير :
٢- ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب – وهم يهود بني النضير – من ديارهم عند أول إخراج لهم من جزيرة العرب، وما كنتم تظنون أن يخرجوا، لأنهم كانوا أهل عدد وعدة، وقد ظنوا في أنفسهم أن حصونهم المنيعة تصدّ عنهم بأس الله إذا نزل بهم، فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤاخذوا من جهته، وألقى في قلوبهم الفزع الشديد، وصار اليهود يخرجون بيوتهم بأيديهم ليتركوها خاوية، وأيدي المؤمنين ليقضوا على تحصنهم، فاتعظوا بما نزل بهم يا أصحاب العقول.
٣- ﴿ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ﴾.
وهؤلاء اليهود الأغرار لو لم يكتب عليهم الجلاء إلى الشام وبقوا في ديارهم لعذبهم الله في الدنيا بالقتل والأسر، كما فعل بالمشركين في غزوة بدر الكبرى، هذا إلى ما أعده الله لهم من العذاب والنكال يوم القيامة.
٤- ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
وإنما استحق يهود المدينة ما فعله بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحشر والإخراج عن ديارهم، بما كانوا يشاقون الله ورسوله، من نقض عهودهم للرسول بعد وقعة بدر، ثم كذّبوا ما أنزله الله على رسله المتقدمين من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
﴿ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
أي : ومن يعاد الله فإن الله يعاقبه أشد العقاب، وينزل به الخزي والهوان في الدنيا، والنكال السرمدي في الآخرة.
توزيع الفيء والغنائم
﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ( ٥ ) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٦ ) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٧ ) ﴾
المفردات :
من لينة : هي النخلة تحمل البلح أيّا كان لونه، وقيل : هي نخلة العجوة، وهي من كرائم النخل عندهم، وجمعها : لين.
فبإذن الله : فالله أذن لكم فيه، فلا لوم عليكم.
وليخزي الفاسقين : ليغيظ أصحاب النخل من اليهود ويذلهم.
التفسير :
٥- ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
كانت غزوة بني النضير في السنة الرابعة، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان نخيلهم ومنازلهم في ناحية المدينة على ميلين منها، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضوا بالجلاء، وفي أثناء الحصار هجم بعض المهاجرين على نخيلهم، يستأصلونه أو يحرقونه إغاظة لهم، فنهاهم بعض المهاجرين عن ذلك، وقالوا : إنما النخل من غنائم المسلمين، فصاح اليهود منكرين على العرب قطع نخيلهم وإحراقه، ولم يكن العرب قطعوا من النخيل إلا شيئا قليلا لا يجاوز نخلة أو ست نخلات على الأكثر، وعلم النبي بما كان، وشق ذلك عليه وعلى بقية المسلمين، ولكن الله سبحانه أنزل في ذلك قوله : ما قطعتم من لينة... ورفع اللوم عن قاطعي النخل، لأن كل فريق مجتهد فيما ذهب إليه.
المفردات :
وما أفاء الله على رسوله : من أموال بني النضير، أي : رده على رسول الله.
فما أوجفتم عليه : يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجفا : أسرع في سيره، وأوجفه صاحبه إيجافا : إذا حمله على السير السريع.
من خيل ولا ركاب : من : زائدة، والركاب : ما يركب من الإبل، واحده : ناقة.
يسلط رسله على من يشاء : من أعدائه، أي : يبعثه عليهم لتأديبهم والانتقام منهم.
التفسير :
٦- ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
وأما أموال بني النضير فقد جعلها الله تعالى لرسوله خاصة، لأن المسلمين لم يبذلوا فيها جهدا ولا مئونة، ولم يحركوا إليها خيلا ولا إبلا، لأن الجلاء قد اتفق عليه صلحا فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن للمسلمين حق في تلك الأموال التي آلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون حرب، والله تعالى يسلط بعض رسله لإذلال بعض أعدائه، كما أذل بني النضير إذ غدروا بالنبي، وحالفوا عليه مشركي مكة.
المفردات :
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم : حتى لا يكون الفيء مقصورا على الأغنياء، يتداولونه بينهم، يأخذه هذا مرة، ويأخذه هذا أخرى، ولا يأخذ الفقراء منه شيئا.
وما آتاكم الرسول فخذوه : ما أعطاكم الرسول مما أفاء الله عليه من أهل القرى فخذوه.
التفسير :
٧- ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
أما الأموال والغنائم التي استولى عليها المسلمون في حرب بني قريظة، فإنها قسمت بين المحاربين لأن بني قريظة لم يُحشروا ولم يخرجوا عن أوطانهم وإنما قتلهم المسلمون بسيوفهم. وقرى اليهود : أشهرها قرية بني النضير، وقريظة، وفدك، وخيبر، وقد تبين الحكم في أموال بني النضير في الآية السابقة، ومثلها ما فتح صلحا مثل فدك، وأما غنائم سائر القرى مما فتح عنوة، فإن خمسه لله والرسول، وأربعة أخماسه تقسم بين المقاتلين.
قال تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل... ﴾( الأنفال : ٤١ ).
وقد بين الله في الآية الحكمة في إعطاء الفقراء والمساكين نصيبا من أموال الغنائم ولو لم يحاربوا، إن ذلك لمنع كثرة الأموال في أيدي الأغنياء الذين يشهدون المعارك، وحرمان الفقراء الذين لا يقوون على أن يشهدوا الحرب.
فضائل المهاجرين والأنصار
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ٨ ) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٩ ) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٠ ) ﴾
تمهيد :
لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في اختزان الأموال لنفسه وأسرته وأهله، ومال الفيء الذي أفاءه الله عليه من بني النضير وخيبر وفدك وغيرها، لم يكن يأخذ منه إلا نفقة عياله لسنة، ثم يرد ما يبقى بعد ذلك على فقراء المهاجرين والأنصار، ومن لا مال له من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل المنقطعين عن أموالهم وبلادهم وأهليهم، وقد بينت الآيات الثلاث ( ٨-١٠ ) ثلاثة أصناف من الذين كان يعطيهم من فيئه، أو من الخمس الذي كان لله ورسوله من غنائم الحروب.
المفردات :
المهاجرين : الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الدين ونصرة له، وتركوا ديارهم وأهليهم وأموالهم.
التفسير :
٨- ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾.
الصنف الأول : فقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من مكة إلى المدينة، وتركوا أموالهم بها مؤثرين الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة لدين الله، وهم صادقو النية في ذلك.
تمهيد :
لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في اختزان الأموال لنفسه وأسرته وأهله، ومال الفيء الذي أفاءه الله عليه من بني النضير وخيبر وفدك وغيرها، لم يكن يأخذ منه إلا نفقة عياله لسنة، ثم يرد ما يبقى بعد ذلك على فقراء المهاجرين والأنصار، ومن لا مال له من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل المنقطعين عن أموالهم وبلادهم وأهليهم، وقد بينت الآيات الثلاث ( ٨-١٠ ) ثلاثة أصناف من الذين كان يعطيهم من فيئه، أو من الخمس الذي كان لله ورسوله من غنائم الحروب.
المفردات :
تبوأوا الدار والإيمان : المراد بالدار : دار الهجرة، وهي المدينة، أي : تمكنوا منها تمكنا شديدا ولازموهما.
يحبون من هاجر إليهم : فقد آمنوا بالله ورسوله، وأحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم معهم في أموالهم ومساكنهم.
ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا : لا يجد الأنصار في نفوسهم حسدا ولا غيظا مما أوتي المهاجرون من الفيء، وإشراكهم في أموالهم.
ويؤثرون على أنفسهم : الإيثار : تقديم غيرك على نفسك في حظ من حظوظ الدنيا، رغبة في حظوظ الآخرة.
ولو كان بهم خصاصة : أي : حاجة إلى المال الذي آتوه المهاجرين.
ومن يوق شح نفسه : الشح : البخل مع حرص، ويوق : يحفظه الله من شح نفسه.
التفسير :
٩- ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
والصنف الثاني : أهل المدينة الذين سكنوها، وبادروا إلى الإيمان بالله ورسوله، وأحبوا من هاجر إليهم مع النبي من المهاجرين، وقاسموهم أموالهم ومساكنهم، وكانوا لا يجدون في نفوسهم حسدا على ما أوتوا من الفيء أو من أموالهم الخاصة، وكانوا يؤثرون المهاجرين بما في أيديهم ولو كانوا محتاجين إليه.
تمهيد :
لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في اختزان الأموال لنفسه وأسرته وأهله، ومال الفيء الذي أفاءه الله عليه من بني النضير وخيبر وفدك وغيرها، لم يكن يأخذ منه إلا نفقة عياله لسنة، ثم يرد ما يبقى بعد ذلك على فقراء المهاجرين والأنصار، ومن لا مال له من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل المنقطعين عن أموالهم وبلادهم وأهليهم، وقد بينت الآيات الثلاث ( ٨-١٠ ) ثلاثة أصناف من الذين كان يعطيهم من فيئه، أو من الخمس الذي كان لله ورسوله من غنائم الحروب.
المفردات :
والذين جاءوا من بعدهم : الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام، ويشمل جميع المؤيدين لدعوة الإسلام حتى آخر الزمان.
غلاّ : غشا وبغضا وحسدا.
التفسير :
١٠- ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.
والصنف الثالث : فقراء المهاجرين إلى المدينة في أزمنة متلاحقة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها.
فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أولى الناس بأن يرعى النبي مصالحهم ويعطيهم من فيئه الخاص، ومن الخمس الذي جعله الله لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وعلى هذا التصرف نشأ المجتمع الإسلامي في المدينة نشأة مثالية، جعلت كل فرد فيه يبحث عن مصلحة إخوانه في هذا المجتمع قبل أن يفكر في مصلحة نفسه، وفي مصلحة الدين الجديد قبل أن يبحث عن مصالح أهله وعياله، وبهذه الروح العالية أقدموا على الحروب والفتوح في خلافة الراشدين، فدان لهم العالم، ونشروا رسالة الإسلام ومحاسنه في دنيا المادة والظلم والغش، وحرمان الفقراء، وأثرة الأقوياء، فطهروا العالم القديم من أبشع جرائمه، وأنشئوا روحا من الأخوة الإسلامية بين الأجناس والأقوام الذين كانوا على طول الدهر متعادين متخاصمين، وبهذا تسنّى لهم أن يجمعوا تراث العالم القديم من المعرفة، وعصارة حضارته المتعاقبة ومزجوا كل ذلك بتراث الإسلام، فأخرجوا لأنفسهم حضارة جديدة قوامها العلم والدين، وقد نعم بها العالم عدة قرون، ولا يزال كثير من أمم الشرق يعيشون في ضوء هذه الحضارة، حتى يوم الناس هذا. فأين ذلك كله من حال المجتمع المكي في بدء عصر الرسالة المحمدية، وقد وبخهم الله بقوله :﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم*ولا تحاضون على طعام المسكين*وتأكلون التراث أكلا لما*وتحبون المال حبا جما ﴾. ( الفجر : ١٧-٢٠ ).
المنافقين واليهود
﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١١ ) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ( ١٢ ) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ( ١٣ ) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ( ١٤ ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١٥ ) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ١٦ ) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ( ١٧ ) ﴾
تمهيد :
بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت – أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين – عبد الله بن أُبي بن سلول ورفقته – لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم، ومحاربتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما قصه الله علينا وفصّله أتم تفصيل، ليكون في ذلك عبرة لنا، وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركوهم في حيرة من أمرهم لا يجدون لهما مخلصا مما وقعوا فيه.
أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم، عن ابن عباس : أنها نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد الله بن أُبي بن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما قصه الله علينا في كتابه.
المفردات :
نافقوا : أظهروا غير ما أضمروا، وبالغوا في إخفاء عقائدهم.
الإخوان : الأصدقاء، واحدهم أخ، والأخ من النسب جمعه إخوة.
التفسير :
١١- ﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾.
ألم تر : أسلوب يراد به التعجب من حال المتحدث عنه، وبيان أن أمره غاية في الغرابة، وموضع للدهشة والحيرة.
فهؤلاء قوم من منافقي المدينة لهم أقوال تخالف ما يبطنون، منهم عبد الله بن أُبيّ وشيعته، رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع يحاصر بني النضير ويقاتلهم، فأرسلوا إليهم يقولون لهم : إنا قادمون لمساعدتكم بخيلنا ورجلنا ولا نسلمكم لمحمد أبدا، فجِدّوا في قتالهم، ولا تهنوا في الدفاع عن دياركم وأموالكم، حتى إذا اشتد الحصار، وأوغل المسلمون في الدخول في ديارهم، وتحريق نخيلهم، وهدم بيوتهم، رأى بنو النضير أن تلك الوعود كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وأنهم بين أمرين :
١- الاستسلام وقبول حكم محمد صلى الله عليه وسلم فيهم.
٢- إفناؤهم وتخريب ديارهم.
وقد أدخل الله الرعب في قلوبهم، فاختاروا الدنيّة، وقبلوا الجلاء عن الديار، واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لهم ولا وعود، كما هو دأبهم في كل زمان ومكان.
تمهيد :
بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت – أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين – عبد الله بن أُبي بن سلول ورفقته – لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم، ومحاربتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما قصه الله علينا وفصّله أتم تفصيل، ليكون في ذلك عبرة لنا، وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركوهم في حيرة من أمرهم لا يجدون لهما مخلصا مما وقعوا فيه.
أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم، عن ابن عباس : أنها نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد الله بن أُبي بن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما قصه الله علينا في كتابه.
التفسير :
وبعد أن كذّبهم على سبيل الإجمال كذبهم تفصيلا ليزيد تعجيب المخاطبين من حالهم، وليبين له مبلغ خبث طويتهم، وشدة جبنهم وفزعهم من القتال، وأن هذه الوعود أقوال كاذبة لاكتها ألسنتهم، وقلوبهم منها براء، فقال :
١٢- ﴿ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾.
أي : لئن أُخرج بنو النضير من ديارهم فأُجلوا عنها : لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم بالخروج من ديارهم، ولئن قاتلهم محمد صلى الله عليه وسلم لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الأدبار منهزمين عن محمد وأصحابه، وهاربين منهم خاذلين لهم، ثم لا ينصر الله بني النضير.
وهذا إخبار بالغيب، ودليل من دلائل النبوة، ووجه من وجوه الإعجاز، فإنه قد كان الأمر كما أخبر الله قبل وقوعه.
والخلاصة : أن بني النضير أُخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فما نصروهم، ولو كانوا قد نصروهم لتركوا النصرة وانهزموا وتركوا أولئك اليهود في أيدي الأعداء.
تمهيد :
بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت – أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين – عبد الله بن أُبي بن سلول ورفقته – لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم، ومحاربتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما قصه الله علينا وفصّله أتم تفصيل، ليكون في ذلك عبرة لنا، وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركوهم في حيرة من أمرهم لا يجدون لهما مخلصا مما وقعوا فيه.
أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم، عن ابن عباس : أنها نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد الله بن أُبي بن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما قصه الله علينا في كتابه.
المفردات :
أشد رهبة : أي : إنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله.
لا يفقهون : لا يعلمون عظمته تعالى حتى يخشوه حق خشيته.
التفسير :
ثم ذكر السبب في عدم نصرتهم لليهود والدخول مع المؤمنين في قتال، فقال :
١٣- ﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾.
أي : إنهم يخافونكم أشد مما يخافون الله، ومن ثم لم يجرءوا على الدخول معكم في قتال، وتركوا اليهود يحكم عليهم الرسول بما شاء.
ثم ذكر سبب الرهبة لهم من دون الله، فقال :
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾.
أي : وكانت هذه الرهبة لكم في صدورهم أشد من رهبتهم لله من أجل أنهم لا يفقهون قدر عظمته تعالى، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه ولا يرهبون عقابه قدر رهبتهم لكم.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية... ﴾( النساء : ٧٧ ).
تمهيد :
بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت – أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين – عبد الله بن أُبي بن سلول ورفقته – لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم، ومحاربتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما قصه الله علينا وفصّله أتم تفصيل، ليكون في ذلك عبرة لنا، وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركوهم في حيرة من أمرهم لا يجدون لهما مخلصا مما وقعوا فيه.
أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم، عن ابن عباس : أنها نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد الله بن أُبي بن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما قصه الله علينا في كتابه.
المفردات :
جميعا : أي : مجتمعين.
محصنة : أي : بالدروب والخنادق وغيرها.
جدر : حيطان، واحدها جدار.
بأسهم : أي : الخلاف بينهم دائم.
شتى : متفرقة، واحدها شتيت.
التفسير :
١٤- ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾.
أي : إن هؤلاء اليهود والمنافقون قد ألقي الرعب في قلوبهم، فلا يواجهونكم بقتال مجتمعين، لأن الخوف والهلع بلغا منهم كل مبلغ، بل يقاتلونكم في قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها، ومن وراء الجدر والحيطان وهم محاصرون.
ثم بين أن من أسباب هذا الجبن والخوف والتخاذل وعدم الاتحاد حين اشتداد الخطوب، فقال :
﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ... ﴾
أي : بعضهم عدو لبعض، فلا يمكن أن يقاتلوا عدوا لهم وهم في تخاذل وانحلال، ومن ثم استكانوا وذلوا.
وفي هذا عبرة للمسلمين في كل زمان ومكان، فإن الدول الإسلامية ما هدّ كيانها، وأضعفها أمام أعدائها إلا تخاذلها أفرادا وجماعات.
﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.... ﴾
أي : إنك أيها الرسول إذا رأيتهم مجتمعين خِلْتهم متفقين، وهم مختلفون غاية الاختلاف لما بينهم من إحن وعداوات، فهم لا يتعاضدون ولا يتساندون ولا يرمون عن قوس واحدة.
وفي هذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم، وحث للعزائم الصادقة على حربهم، فإن المقاتل متى عرف ضعف خصمه ازداد نشاطا، وازدادت حميته، وكان ذلك من أسباب نصرته عليه.
ثم بيّن أسباب التفرق وانحلال الوحدة، فقال :
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾.
أي : ذلك التفرق من جراء أن أفئدتهم هواء، فهم قوم لا يفقهون سر نظم هذه الحياة، ولا يعلمون أن الوحدة هي سر النجاح، ومن ثم تخاذلوا وتفرقت كلمتهم، واختلف جمعهم، واستهان بهم عدوهم، ودارت عليهم الدائرة.
تمهيد :
بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت – أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين – عبد الله بن أُبي بن سلول ورفقته – لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم، ومحاربتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما قصه الله علينا وفصّله أتم تفصيل، ليكون في ذلك عبرة لنا، وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركوهم في حيرة من أمرهم لا يجدون لهما مخلصا مما وقعوا فيه.
أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم، عن ابن عباس : أنها نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد الله بن أُبي بن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما قصه الله علينا في كتابه.
المفردات :
وبال أمرهم : سوء عاقبتهم، من قولهم : كلأ وبيل، أي : وخيم سيئ العاقبة.
التفسير :
١٥- ﴿ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.. ﴾
أي : مثل بني النضير مثل اليهود مثل بني قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم السبت في شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وأجلاهم إلى أذرعات بالشام، وذاقوا سوء عاقبة كفرهم إثر عصيانهم قبل وقعة بني النضير التي كانت سنة أربع للهجرة.
والخلاصة : إنهم قد كانت لهم أسوة ببني قينقاع، فجروحهم لا تزال دامية، وآثار خذلانهم لا تزال بادية للعيان، وقد كان من حق ذلك أن يكون عبرة ماثلة لهم، ولكنهم قوم لا يفقهون ولا يعتبرون بالمثلات التي يرونها رأي العين، وكانت لهم عبرة في معركة بدر حيث هزم الكافرون.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
لا يقدرون قدره ولا يعرف كنهه سوى علام الغيوب.
تمهيد :
بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت – أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين – عبد الله بن أُبي بن سلول ورفقته – لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم، ومحاربتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما قصه الله علينا وفصّله أتم تفصيل، ليكون في ذلك عبرة لنا، وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركوهم في حيرة من أمرهم لا يجدون لهما مخلصا مما وقعوا فيه.
أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم، عن ابن عباس : أنها نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد الله بن أُبي بن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما قصه الله علينا في كتابه.
١٦- ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾.
أي : مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من بني النضير بالنصرة إن قوتلوا، أو الخروج معهم إن أُخرجوا، ومثل بني النضير في غرورهم بوعودهم وإسلامهم إياهم في أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم – كمثل الشيطان الذي غرّ إنسانا ووعده بالنصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر بالله واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه، وقال : إني أخاف الله رب العالمين إذا أنا نصرتك، لئلا يشركني معك في العذاب.
والخلاصة :
أن مثل اليهود في اغترارهم بمن وعدهم بالنصرة من المنافقين بقولهم لهم : لئن قوتلتم لننصرنكم، ولما جد الجد واشتد الحصار والقتال تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة – كمثل الشيطان إذ سول للإنسان الكفر والعصيان، فلما دخل تبرأ منه وتنصل، وقال : إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس، ولا أنكى جرحا في القلوب من هذا المثل، لمن اعتبر وادّكر، ولكنهم قوم لا يعقلون.
تمهيد :
بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت – أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين – عبد الله بن أُبي بن سلول ورفقته – لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم، ومحاربتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما قصه الله علينا وفصّله أتم تفصيل، ليكون في ذلك عبرة لنا، وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركوهم في حيرة من أمرهم لا يجدون لهما مخلصا مما وقعوا فيه.
أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم، عن ابن عباس : أنها نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد الله بن أُبي بن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما قصه الله علينا في كتابه.
١٧- ﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾.
أي : فكان عاقبة الآمر بالكفر والداخل فيه الخلود في النار أبدا، وهكذا جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر كيهود بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم بالنصرة.
تقوى الله
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ١٩ ) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) ﴾
المفردات :
ما قدمت : أي شيء قدمت.
غد : هو يوم القيامة، سمي بذلك لقربه، فكل آت قريب، كما قيل : وإن غدا لناظره قريب.
التفسير :
١٨- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
فافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى وزجر.
﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ... ﴾
أي : ولتنظروا ماذا قدمتم لآخرتكم مما ينفعكم يوم الحساب والجزاء، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من توقع العذاب حيارى.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ... ﴾
تكرير للتوكيد، لما يستدعيه الحال من التنبيه والحث على التقوى التي هي الزاد في الميعاد.
ثم وعد وأوعد، وبشر وأنذر، فقال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
أي أنه تعالى عليم بأحوالكم لا يخفى عليه شيء من شئونكم، فراقبوه في جليل أعمالكم وحقيرها، واعلموا أنه سبحانه سيحاسبكم على النقير والقطمير، والقليل والكثير، ولا يفوته شيء من ذلك.
المفردات :
نسوا الله : أي : نسوا حقه، فتركوا أوامره، ولم ينتهوا عن نواهيه.
فأنساهم أنفسهم : أي : أنساهم حظوظ أنفسهم، فلم يقدموا لها خيرا ينفعها.
التفسير :
١٩- ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
أي : ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق الله التي أوجبها على عباده فزان على قلوبهم وأنساهم العمل الصالح الذي ينجيهم من عقابه، فضلوا ضلالا بعيدا فجازاهم بما هم له أهل، وما هم مستحقون، جزاء وفاقا لما دسوا به أنفسهم وأوقعوها في المعاصي والآثام، ومن ثم حكم عليهم بالهلاك قائلا :
﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
أي : أولئك هم الذين خرجوا على طاعة الله فاستحقوا عقابه يوم القيامة.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ﴾. ( المنافقون : ٩ ).
خطب أبو بكر فقال : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ؟ فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عز وجل فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بتوفيق الله عز وجل، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم، فقال :﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ... ﴾أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن، وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه، إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال تعالى :﴿ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ﴾. ( الأنبياء : ٩٠ ). لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.
٢٠- ﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾.
أي : لا يستوي الذين : إن نسوا الله فاستحقوا الخلود في النار، والذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ﴾. ( الجاثية : ٢١ ).
وقوله تعالى :﴿ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ﴾. ( ص : ٢٨ ).
ثم بيّن عدم استوائهما، فقال :
﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾.
أي : أصحاب الجنة هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.
وفي هذا تنبيه إلى أن الناس لفرط غفلتهم وقلة تفكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة، واتباعهم للشهوات الفانية، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، وشاسع البون بين أصحابهما، وأن الفوز لأصحاب الجنة، فمن حقهم أن يعلموا ذلك بعد أن نبهوا له، كما تقول لمن عق أباه : هو أبوك، تجعله كأنه لا يعرف ذلك فتنبهه إلى حق الأبوة الذي يقتضي البر والعطف.
لله الأسماء الحسنى
﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( ٢١ ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( ٢٢ ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٢٣ ) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٢٤ ) ﴾
تمهيد :
بعد أن ذكر فرق المضلين من المنافقين، والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى استعدادا ليوم القيامة – ذكر هنا أن لهم مرشدا عظيما، وإماما هاديا هو القرآن، الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة، لما فيه من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلا، وفهمه وتدبّر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف بكم أيها البشر لا تلين قلوبكم ولا تخشع، ولا تتصدع من خشيته، وقد فهمتم من الله أمره، وتدبرتم كتابه ؟
وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المُنزل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما في السماوات والأرض، وينقادون لحكمه وأمره ونهيه.
المفردات :
خاشعا : منقادا متذللا.
متصدعا : متشققا.
خشية الله : خوفه وشديد عقابه.
التفسير :
٢١- ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
أي : لو جعل في الجبل عقل كما جُعل فيكم أيها البشر، ثم أُنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله.
وهذا تمثيل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، وفيه توبيخ للإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه حين قراءة القرآن، وتدبر ما فيه من القوارع التي تذل لها الجبال الراسيات.
﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
أي : وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن وذكرناها في مواضعها التي ضربت لأجلها، واقتضاها الحال من نحو قوله تعالى :﴿ وإنّ من الحجارة لَما يتفجّر من الأنهار وإن منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية الله... ﴾( البقرة : ٧٤ ). وقوله تعالى :﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة... ﴾( البقرة : ٧٤ ). وقوله تعالى :﴿ ولو أنّ قرآنا سُيِّرت به الجبال أو قُطِّعت به الأرض أو كُلِّم به الموتى... ﴾( الرعد : ٣١ ). هذه الأمثال جعلناها تبصرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمن الناس من وفقه الله واهتدى بها إلى سواء السبيل، وفاز بما يرضي ربه عنه، ومنهم من أعرض عنها ونأى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأدخله في سقر، وما أدراك ما سقر، لا تُبقى ولا تذر.
تمهيد :
بعد أن ذكر فرق المضلين من المنافقين، والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى استعدادا ليوم القيامة – ذكر هنا أن لهم مرشدا عظيما، وإماما هاديا هو القرآن، الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة، لما فيه من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلا، وفهمه وتدبّر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف بكم أيها البشر لا تلين قلوبكم ولا تخشع، ولا تتصدع من خشيته، وقد فهمتم من الله أمره، وتدبرتم كتابه ؟
وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المُنزل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما في السماوات والأرض، وينقادون لحكمه وأمره ونهيه.
المفردات :
الغيب : ما غاب عن الحس من العوالم التي لا نراها.
والشهادة : ما حضر من الأجرام المادية التي نشاهدها.
التفسير :
٢٢- ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾.
في هذه الآيات إلى آخر السورة ذكر القرآن طائفة من أسماء الله الحسنى تتضمن صفاته العلى، التي جلّت أن يشاركه فيها المخلوقون.
منها : اللهُ. وهو عَلَم على رب الأرباب، المتفرد باستحقاق العبادة، دون غيره من كل من سُمي إلها أو ربا، وعُبد من غير أن يكون مستحقا لأن يعبد.
وقد أحاط علم الله بجميع الأشياء، فهو يعلم ما غاب عنا، وما حضر وشوهد وتحققت معرفته.
﴿ هُوَ الرَّحْمَنُ ﴾. المبالغ في رحمة عباده، ﴿ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾. صفتا مبالغة من الرحمة، وهي الإنعام والتفضل على المحتاج.
تمهيد :
بعد أن ذكر فرق المضلين من المنافقين، والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى استعدادا ليوم القيامة – ذكر هنا أن لهم مرشدا عظيما، وإماما هاديا هو القرآن، الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة، لما فيه من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلا، وفهمه وتدبّر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف بكم أيها البشر لا تلين قلوبكم ولا تخشع، ولا تتصدع من خشيته، وقد فهمتم من الله أمره، وتدبرتم كتابه ؟
وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المُنزل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما في السماوات والأرض، وينقادون لحكمه وأمره ونهيه.
المفردات :
القدوس : المنزه عن النقص.
السلام : الذي سلم الخلق من ظلمه إذ جعلهم على نظم كفيلة برقيهم.
المؤمن : أي : واهب الأمن، فكل مخلوق يعيش في أمن، فالطائر في جوه، والحية في وكرها، والسمك في البحر تعيش كذلك، ولا يعيش قوم على الأرض ما لم يكن هناك حراس يحرسون قراهم وإلا هلكوا.
العزيز : الغالب على أمره.
الجبار : الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه.
المتكبر : البليغ الكبرياء والعظمة.
سبحان الله عما يشركون : أي : تنزه ربنا عما يصفه به المشركون.
التفسير :
٢٣- ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
وكرر قوله :﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾. تثبيت لمعنى الجملة، وتقريرا له في النفوس.
هو المَلِكُ : الحاكم بأمره في الدنيا والآخرة، لا يشاركه في ملكه شيء.
وهو الْقُدُّوسُ : أي الطاهر، أو المنزه عن كل نقص.
وهو السَّلَامُ : الذي يمنح عباده الأمن من عذابه.
الْمُهَيْمِنُ : الشهيد على عباده، يراقب أعمالهم، ويجازيهم عليها.
الْعَزِيزُ : القوي الغالب، الذي لا يغلبه ولا يقهره شيء.
الْجَبَّارُ : صاحب الجبروت والقدرة العالية.
الْمُتَكَبِّرُ : الذي ترفّع عن كل نقص، وتعظم عما لا يليق به.
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ : أسبح الله وأنزهه عما يشركون معه من الأوثان.
تمهيد :
بعد أن ذكر فرق المضلين من المنافقين، والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى استعدادا ليوم القيامة – ذكر هنا أن لهم مرشدا عظيما، وإماما هاديا هو القرآن، الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة، لما فيه من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلا، وفهمه وتدبّر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف بكم أيها البشر لا تلين قلوبكم ولا تخشع، ولا تتصدع من خشيته، وقد فهمتم من الله أمره، وتدبرتم كتابه ؟
وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المُنزل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما في السماوات والأرض، وينقادون لحكمه وأمره ونهيه.
المفردات :
الخالق : المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة.
البارئ : أي : المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها، والغرض الذي خلقت له.
المصور : أي : الموجد للأشياء على صورها ومختلف أشكالها كما أراد.
الأسماء الحسنى : أي : الأسماء الدالة على محاسن المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود، فنظم هذه الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته، وكمال الصفة يرشد إلى كمال الموصوف.
التفسير :
٢٤- ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
هو المعبود الخالق، المبدع للأشياء على غير مثال سابق، والذي يصور المخلوقات في أحسن الصور. وهذه بعض أسمائه الحسنى التي سمى بها نفسه، وكل شيء في السماوات والأرض يسبح له وينزهه، مفصحا بلسان مقاله أو مشيرا بلسان حاله : وإن مِّن شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم... ( الإسراء : ٤٤ ).
Icon