تفسير سورة التوبة

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
سورة التوبة- سورة براءة
عدد آياتها ثلاثون ومائة وهي مدنية
ولها أسماء كثيرة : منها الفاضحة لما تضمنته من ذكر أسرار المنافقين وأنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات، والمُدَمْدمة والمُخْزية.
وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك، وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ زمن العسرة، وفي أثنائها ظهر من علامات نفاق المنافقين ما كان خفيّا من قبل.
وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا ليقرأها على المشركين في الموسم.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ ( النساء : ١٧٦ ) وآخر سورة نزلت براءة.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها- أنها كالمتممة لها في معظم ما في أصول الدين وفروعه، وفي التشريع الذي جلُّه في أحكام القتال والاستعداد له، وأسباب النصر فيه، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي لذلك، وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض، والكافرين بعضهم مع بعض، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب، فما بُدِئ به في الأولى أُتم في الثانية.
وهاك أمثلة على ذلك :
تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب.
ذكر في الأولى صدّ المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه، وجاء في الثانية :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ ( التوبة : ١٧ ) إلى آخر الآيات.
ذكرت العهود في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها.
ذكر في سورة الأنفال الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء ذلك بأبلغ وجه في براءة.
جاء في الأولى ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض- وفصل ذلك في الثانية أتمّ تفصيل.
تنبيه : لم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة. وقيل لأنها جاءت لرفع الأمان والابتداء بالبسملة مذكورا فيها اسم الله موصوفا بالرحمة يوجبه.
﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ( ١ ) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( ٢ ) وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣ ) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ ( الأنفال : ١-٤ ).
المعنى الجملي : بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بالإسلام وأقام بناء دعوته على أساس البراهين المقنعة، ومنع الإكراه على الدخول فيه والحمل على قبوله بالقوة فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، ولم يكن أحدا يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب، فهاجر منهم عدد كثير إلى بلاد الحبشة وإلى جهات كثيرة مرة بعد أخرى، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول حتى ائتمروا في دار الندوة علنا على حبسه أو نفيه أو قتله، ورجحوا آخر الأمر قتله، فأمره الله بالهجرة إلى المدينة وصار يتبعه من قدر عليها، وقد وجدوا بها أنصارا يحبون الله ورسوله، ويحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم على أنفسهم، كانت الحال بينهم وبين المشركين حال حرب بطبيعة الحال ومقتضى المألوف في ذلك العصر، وعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى على السلم والتعاون بينهم، فخانوا ونقضوا العهد وظاهروا المشركين عليه وعاهد المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط كانت منتهى السخاء عن قوة وعزة، لا عن ضعف وقلة، حبّا للسلم ونشر الدعوة بالإقناع والحجة فدخلت خزاعة في عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بكر في عهد قريش، ثم عدت الثانية على الأولى وأعانتها قريش بالسلاح ناقضين العهد، فكان ذلك سبب عودة الحرب بينه وبينهم إلى أن كان فتح مكة، وبه خُضِدت شوكة الشرك وذل أهله، ولكنهم ما زالوا يحاربون حيث قدروا، ودلت التجارب أنه لا عهود لهم ولا يؤمن غدرهم في حالي القوة والضعف، ولا يستطيع المسلمون أن يعيشوا معهم بحكم المعاهدات ويأمن كل شر الآخر ما داموا على شركهم ولاسيما وقد سبقهم إلى نقض العهد من كانوا أجدر منهم بالوفاء وهم أهل الكتاب.
ومن جراء هذا : جاءت هذه السورة بنبذ عهودهم المطلقة وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها، فحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وتم له الغلب عليهم ومحا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ ( آل عمران : ١٩ ).
تفسير المفردات :
البراءة : من برئ من الدين إذا أسْقط عنه، ومن الذنب ونحوه : إذا تركه وتباعد عنه. والمعاهدة : عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها، وكان كل فريق يضع يمينه في يمين الآخر ويوثقونها بالإيمان، ومن جراء ذلك سميت إيمانا في قوله تعالى :
﴿ إنهم لا أيمان لهم ﴾ ( التوبة : ١٢ ) أي لا عهود لهم.
الإيضاح :
﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ أي هذه براءة آتية من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، كما يقال : هذا كتاب من فلان إلى فلان : نسبه إلى الله ورسوله من قبل أنه تشريع جديد شرعه الله وأمر رسوله بتنفيذه ونسب معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين وإن كان الرسول هو الذي عقد العهد لأنه عقده بوصف كونه الإمام والقائد لهم، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، وللقوّاد من أهل الحل والعقد الاجتهاد فيما لا نص فيه منها ومن أحكام الحرب والصلح ونحوها.
قال البغوي : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت من بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ﴾ ( الأنفال : ٥٨ ) ا ه. قال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون في هذه الآية اختلافا كثيرا، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، ومن له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت، لقوله تعالى :﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ ولما سيأتي في الحديث :( ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته ) وهذا أحسن الأقوال وأقواها واختاره ابن جرير رحمه الله ا ه.
﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ( ١ ) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( ٢ ) وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣ ) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ ( الأنفال : ١-٤ ).
المعنى الجملي : بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بالإسلام وأقام بناء دعوته على أساس البراهين المقنعة، ومنع الإكراه على الدخول فيه والحمل على قبوله بالقوة فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، ولم يكن أحدا يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب، فهاجر منهم عدد كثير إلى بلاد الحبشة وإلى جهات كثيرة مرة بعد أخرى، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول حتى ائتمروا في دار الندوة علنا على حبسه أو نفيه أو قتله، ورجحوا آخر الأمر قتله، فأمره الله بالهجرة إلى المدينة وصار يتبعه من قدر عليها، وقد وجدوا بها أنصارا يحبون الله ورسوله، ويحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم على أنفسهم، كانت الحال بينهم وبين المشركين حال حرب بطبيعة الحال ومقتضى المألوف في ذلك العصر، وعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى على السلم والتعاون بينهم، فخانوا ونقضوا العهد وظاهروا المشركين عليه وعاهد المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط كانت منتهى السخاء عن قوة وعزة، لا عن ضعف وقلة، حبّا للسلم ونشر الدعوة بالإقناع والحجة فدخلت خزاعة في عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بكر في عهد قريش، ثم عدت الثانية على الأولى وأعانتها قريش بالسلاح ناقضين العهد، فكان ذلك سبب عودة الحرب بينه وبينهم إلى أن كان فتح مكة، وبه خُضِدت شوكة الشرك وذل أهله، ولكنهم ما زالوا يحاربون حيث قدروا، ودلت التجارب أنه لا عهود لهم ولا يؤمن غدرهم في حالي القوة والضعف، ولا يستطيع المسلمون أن يعيشوا معهم بحكم المعاهدات ويأمن كل شر الآخر ما داموا على شركهم ولاسيما وقد سبقهم إلى نقض العهد من كانوا أجدر منهم بالوفاء وهم أهل الكتاب.
ومن جراء هذا : جاءت هذه السورة بنبذ عهودهم المطلقة وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها، فحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وتم له الغلب عليهم ومحا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ ( آل عمران : ١٩ ).
تفسير المفردات :
والسياحة في الأرض : الانتقال والتجوال فيها، ويراد بها هنا حرية الانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر لا يَعْرِض المسلمون لها فيها بقتال، وقوله : غير معجزي الله، أي لا تفوتونه بالهرب والتحصن. والخزي : الذل والفضيحة بما فيه عار.
الإيضاح :
﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ هذا خطاب من الله للمؤمنين مبيّن لما يجب أن يقولوه للمشركين الذين برئ الله ورسوله من عهودهم، أي قولوا لهم : سيروا في الأرض، وأنتم آمنون لا يتعرض لكم أحد من المسلمين بقتال مدة أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة من سنة تسع للهجرة وهو يوم النحر الذي بُلّغوا فيه هذه الدعوة، وتنتهي في عاشر شهر ربيع الآخر من سنة عشر.
والحكمة في تحديد هذه المدة : أن يكون لديهم فسحة من الوقت للنظر والتفكر في عاقبة أمرهم، والتخير بين الإسلام والاستعداد للقتال، إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم، وهذا منتهى ما يكون من السجاحة والرحمة والإعذار إلى أعدى أعدائه المحاربين، حتى لا يقال إنه أخذهم على غرة.
﴿ واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ﴾ أي واعلموا أنكم لن تعجزوا الله ولن تفوتوه فتجدوا مَهْربا منه إذا أنتم أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ورسوله، بل سيسلط المؤمنين عليكم ويؤيدكم بنصره الذي وعدهم به، والعاقبة للمتقين فقد جرت سنة الله بخزي الكافرين منكم ومن غيركم في معاداتهم وقتالهم لرسله في الدنيا والآخرة كما جاء في مشركي مكة ومن نحا نحوهم :﴿ كذب الذين من قبلهم فآتاهم العذاب من حيث لا يشعرون( ٢٥ ) فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾ ( الزمر : ٢٥-٢٦ ).
﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ( ١ ) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( ٢ ) وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣ ) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ ( الأنفال : ١-٤ ).
المعنى الجملي : بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بالإسلام وأقام بناء دعوته على أساس البراهين المقنعة، ومنع الإكراه على الدخول فيه والحمل على قبوله بالقوة فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، ولم يكن أحدا يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب، فهاجر منهم عدد كثير إلى بلاد الحبشة وإلى جهات كثيرة مرة بعد أخرى، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول حتى ائتمروا في دار الندوة علنا على حبسه أو نفيه أو قتله، ورجحوا آخر الأمر قتله، فأمره الله بالهجرة إلى المدينة وصار يتبعه من قدر عليها، وقد وجدوا بها أنصارا يحبون الله ورسوله، ويحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم على أنفسهم، كانت الحال بينهم وبين المشركين حال حرب بطبيعة الحال ومقتضى المألوف في ذلك العصر، وعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى على السلم والتعاون بينهم، فخانوا ونقضوا العهد وظاهروا المشركين عليه وعاهد المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط كانت منتهى السخاء عن قوة وعزة، لا عن ضعف وقلة، حبّا للسلم ونشر الدعوة بالإقناع والحجة فدخلت خزاعة في عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بكر في عهد قريش، ثم عدت الثانية على الأولى وأعانتها قريش بالسلاح ناقضين العهد، فكان ذلك سبب عودة الحرب بينه وبينهم إلى أن كان فتح مكة، وبه خُضِدت شوكة الشرك وذل أهله، ولكنهم ما زالوا يحاربون حيث قدروا، ودلت التجارب أنه لا عهود لهم ولا يؤمن غدرهم في حالي القوة والضعف، ولا يستطيع المسلمون أن يعيشوا معهم بحكم المعاهدات ويأمن كل شر الآخر ما داموا على شركهم ولاسيما وقد سبقهم إلى نقض العهد من كانوا أجدر منهم بالوفاء وهم أهل الكتاب.
ومن جراء هذا : جاءت هذه السورة بنبذ عهودهم المطلقة وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها، فحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وتم له الغلب عليهم ومحا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ ( آل عمران : ١٩ ).
تفسير المفردات :
والآذان : الإعلان بما ينبغي أن يُعْلم. ويوم الحج الأكبر : هو يوم النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج ويجتمع فيه الحاج لإتمام مناسكهم.
الإيضاح :
﴿ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ﴾ أي هذا إعلام من الله ورسوله بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافات شركهم وضلالهم في وقت يسهل فيه ذلك التبليغ والإعلام، وهو يوم الحج الأكبر يوم النحر الذي فيه تنتهي فرائض الحج، ويجتمع الحجاج لإتمام مناسكهم وسننهم في منى.
ثم أكد ما يجب أن يبلَّغوه بلا تأخير بقوله :
﴿ فإن تبتم فهو خير لكم ﴾ أي قولوا لهم : فإن تبتم ورجعتم عن شرككم وعن خيانتكم وغدركم بنقض العهد وقبلتم هدى الإسلام، فذلك خير لكم من الدنيا والآخرة، لأن في هدايته سعادتكم فيها.
﴿ وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ أي وإن أعرضتم عن إجابة الدعوة إلى التوبة فاعلموا أنكم غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه فلن تُفْلتوا من حكم سننه ووعده لرسله وللمؤمنين بالنصر والغلب كما قال :﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ ( الأعراف : ١٢٨ ).
﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾ أي وبشر أيها الرسول الكريم من جحد رسالتك ولم يؤمن بالله وملائكته واليوم الآخر بعذاب أليم في الآخرة.
وهذا من أنباء الغيب التي لا تعلم إلا بوحي من الله عز وجل، و استعمال البشارة فيما يسوء ويكره ضرب من التهكم كما لا يخفى.
﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ( ١ ) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( ٢ ) وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣ ) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ ( الأنفال : ١-٤ ).
المعنى الجملي : بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بالإسلام وأقام بناء دعوته على أساس البراهين المقنعة، ومنع الإكراه على الدخول فيه والحمل على قبوله بالقوة فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، ولم يكن أحدا يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب، فهاجر منهم عدد كثير إلى بلاد الحبشة وإلى جهات كثيرة مرة بعد أخرى، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول حتى ائتمروا في دار الندوة علنا على حبسه أو نفيه أو قتله، ورجحوا آخر الأمر قتله، فأمره الله بالهجرة إلى المدينة وصار يتبعه من قدر عليها، وقد وجدوا بها أنصارا يحبون الله ورسوله، ويحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم على أنفسهم، كانت الحال بينهم وبين المشركين حال حرب بطبيعة الحال ومقتضى المألوف في ذلك العصر، وعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى على السلم والتعاون بينهم، فخانوا ونقضوا العهد وظاهروا المشركين عليه وعاهد المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط كانت منتهى السخاء عن قوة وعزة، لا عن ضعف وقلة، حبّا للسلم ونشر الدعوة بالإقناع والحجة فدخلت خزاعة في عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بكر في عهد قريش، ثم عدت الثانية على الأولى وأعانتها قريش بالسلاح ناقضين العهد، فكان ذلك سبب عودة الحرب بينه وبينهم إلى أن كان فتح مكة، وبه خُضِدت شوكة الشرك وذل أهله، ولكنهم ما زالوا يحاربون حيث قدروا، ودلت التجارب أنه لا عهود لهم ولا يؤمن غدرهم في حالي القوة والضعف، ولا يستطيع المسلمون أن يعيشوا معهم بحكم المعاهدات ويأمن كل شر الآخر ما داموا على شركهم ولاسيما وقد سبقهم إلى نقض العهد من كانوا أجدر منهم بالوفاء وهم أهل الكتاب.
ومن جراء هذا : جاءت هذه السورة بنبذ عهودهم المطلقة وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها، فحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وتم له الغلب عليهم ومحا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ ( آل عمران : ١٩ ).
تفسير المفردات :
ثم لم ينقصوكم شيئا، أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا أحدا منكم ولم يضروكم. ولم يظاهروا : أي لم يعاونوا.
الإيضاح :
﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ أي لا تمهلوا الناكثين للعهود فوق أربعة أشهر، إلا الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم، فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم بشرط ألا ينقصوا شيئا من شروط الميثاق ولا يضاروكم، ولا يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم، كما عدت بنو بكر على خزاعة في غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهرتهم قريش بالسلاح.
وفي ذلك إيماء إلى أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهد معقودا، وإلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وإلى أن شروط وجوب الوفاء به محافظة العدو المعاهد لنا على ذلك العهد بحذافيره بنصه وفحواه، فإن نقص شيئا منه وأخلّ بغرض من أغراضه عدّ ناقضا له كما قال :﴿ ثم لم ينقصوكم شيئا ﴾ ويدخل في الإخلال مظاهرة أحد من الأعداء على المسلمين، لأن المقصد من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر وحرية التعامل بينهما.
﴿ وإن الله يحب المتقين ﴾ أي الذين يتقون نقض العهد وخَفْر الذمم وسائر المفاسد التي تخل بالنظام وتمنع جريان العدل بين الناس.
وفي ذلك إيماء إلى أن مراعاة حقوق العهد تدخل في حدود التقوى، وإلى أن التسوية بين الوفيّ والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.
وقد ورد في تنفيذ أمر الله بهذه البراءة والأذان بها- أي التبليغ العلني- أحاديث في الصحاح أشهرها : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج سنة تسع وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام، ثم أردفه بعليّ كرم الله وجهه ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا في أمرهم، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لنبذ العهود وما يتعلق لها من أول سورة براءة، وهي نحو أربعين آية.
وقد كان من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، وأن عليّا اختص بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر، وكان يساعده على ذلك بعض الصحابة كأبي هريرة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ ( التوبة : ٥-٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأذان العام بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافاتهم وضلالاتهم على الوجه الذي سبق تفصيله، قفّى على ذلك بذكر ما يجب أن يفعله المسلمون معهم حتى انقضاء الأجل المضروب لهم والأمان الذي أعطي لهم للضرب في الأرض.
تفسير المفردات :
انسلاخ الأشهر : انقضاؤها والخروج منها، يقال : سَلخ فلان الشهر وانسلخ منه، قال تعالى :﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ﴾ ( يس : ٣٧ ) وقال شاعرهم :
إذ ما سلخت الشهر أهلكت مثله كفى قاتلي سلخي الشهور وإهلالي
والحُرم : واحدها حرام، وهي الأشهر التي حرّم الله فيها قتالهم في الآذان والتبليغ بقوله :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ ( التوبة : ٢ ) وقوله : وخذوهم، أي : بالأسر، والأخيذ : الأسير. واحصروهم : أي امنعوهم من الخروج واحبسوهم. والمرصد : الموضع الذي يُرْقب فيه العدو، يقال رصدت فلانا أرصده : إذا ترقبته، أي اقعدوا لهم على كل مرصد.
الإيضاح :
﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ﴾ أي فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم الله عليكم فيها قتال المشركين، فافعلوا معهم كل ما ترونه موافقا للمصلحة من تدابير الحرب وشؤونها، لأن الحال بينكم وبينهم عادت إلى حال الحرب بانقضاء أجل التأمين الذي منحتموه، وذلك بعمل أحد الأمور الآتية :
قتلهم في أي مكان وجدوا فيه من حلّ وحرم.
أخذهم أسارى، وقد أبيح هنا الأسر الذي حُظر في سورة الأنفال بقوله :﴿ وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ ( الأنفال : ٦٧ ) لأن الإثخان هو الغلب والقوة والسيادة قد وُجد.
حصرهم وحبسهم حيث يعتصمون بمعقِلْ أو حصن، بأن يُحاط بهم ويمنعوا من الخروج والانفلات حتى يسلموا وينزلوا على حكمهم بشرط تَرْضونه أو بدون شرط.
القعود لهم كل مرصد : أي مراقبتهم في كل مكان يمكن الإشراف عليهم فيه، ورؤية تجوالهم وتقلبّهم في البلاد.
وهذه الآية تسمى آية السيف، إذ جاء الأمر فيها بالقتال وقد كان مؤجّلا ومُنْسا إلى أن يقْوَى المسلمون، وكان الواجب عليهم في حال الضعف الصبر على الأذى.
﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ﴾ أي فإن تابوا عن الشرك الذي يحملهم على عداوتكم وقتالكم ودخلوا في الإسلام بأن نطقوا بالشهادتين، وأقاموا الصلاة المفروضة كما تقيمونها في الأوقات الخمسة والصلاة مظهر الإيمان وأكبر أركانه، وهي مطلوبة من الغني والفقير والأمير والمأمور. وهي حق الله على عباده تزكّي أنفسهم وتهذب أخلاقهم وتؤهلهم للقيام بحقوق عباده ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ ( العنكبوت : ٤٥ ) وآتوا الزكاة المفروضة في أموال الأغنياء للفقراء وللمصالح العامة فخلّوا سبيلهم واتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم إذا كانوا مقاتلين، وبالكف عن حصرهم إذا كانوا محاصَرين، وبالكف عن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره إذا كانوا مراقَبين والله يغفر لهم ما سبق من الشرك وغيره من سيئاتهم ويرحمهم فيمن يرحم من عباده، وقد جاء في الأثر :( الإسلام يجب ما قبله ).
وفي الآية إيماء إلى أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يوجبان لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ الدم والمال إلا بما يوجب عليهم الشرع من جناية تقتضي حدا معلوما أو جريمة توجب تعزيرا أو تغريما.
روى الشيخان عن عبد الله ابن عمر مرفوعا :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابُهم على الله ).
والخلاصة إن اشتراط الأشياء الثلاثة للكف عن قتال المشركين للتحقق من دخولهم في جماعة المسلمين بالفعل، والتزامهم شرائع الإسلام وإقامة شعائره، إذ مقتضى الشهادة الأولى ترك عبادة غير الله، ومقتضى الشهادة الثانية طاعة الرسول فيما يبلغه عن الله تعالى، واكتفى من أركان الإسلام بالصلاة التي تجب في اليوم والليلة خمس مرات، لأنها الرابطة الدينية الروحية الاجتماعية بين المسلمين، وبالزكاة لأنها الرابطة المالية الاجتماعية، فمن أقامهما كان أجدر بإقامة غيرهما.
﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ ( التوبة : ٥-٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأذان العام بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافاتهم وضلالاتهم على الوجه الذي سبق تفصيله، قفّى على ذلك بذكر ما يجب أن يفعله المسلمون معهم حتى انقضاء الأجل المضروب لهم والأمان الذي أعطي لهم للضرب في الأرض.
تفسير المفردات :
واستجاره : طلب جواره، أي حمايته وأمانه، وقد كان من عادات العرب حماية الجار والدفاع عنه حتى يسمّون النصير : جارا. وأجره : أي أمّنه. ومأمنه : أي مسكنه الذي يأمن فيه، وهو دار قومه، وقوله : لا يعلمون : أي ما الإسلام وما حقيقته، فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة.
الإيضاح :
﴿ وإن أحدا من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ﴾ أي اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا ما طلب منكم الأمان ليعلم ما أنزل الله وأمر به من دعوة الإسلام، فإن بعض المشركين لم تبلغهم الدعوة بلاغا مقنعا ولم يسمعوا شيئا من القرآن، أو لم يسمعوا منه ما تقوم به الحجة عليهم، فأعرضوا وعادَوا الداعي وقاتلوه، لأنه جاء بتفنيد ما هم عليه من الشرك، وتسفيه ما كان عليه آباؤهم منه.
والخلاصة : وإن استأمنك أيها الرسول أحد من المشركين لكي يسمع كلام الله ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه، أو ليلقاك وإن لم يذكر سببا- فأجِرْه وأمّنه على نفسه وأمواله لكي يسمع أو لكي يراك، فإن هذه فرصة للتبليغ والاستماع، فإن اهتدى وآمن عن علم واقتناع فذاك، وإلا فالواجب أن تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه ويكون حرا في عقيدته، حيث لا يكون للمسلمين سلطان عليه، وتعود حال الحرب إلى ما كانت عليه من غير غدر.
والمراد بالسماع : أن يسمع المقدار الذي تقوم به الحجة ويتبين به بطلان الشرك وحقيقة التوحيد والبعث وصدق الرسول في تبليغه عن الله، فإنه إذا ألقي إليه السمع لا يلبث أن يظهر له الحق إذا لم تصده العصبيّة والعدوان للداعي، فإن لم يفعل ذلك كان له شأنه وكانت له حريته، ولكنه يمنع من مساكنة المسلمين في دار الإسلام وهو على هذه الحال.
﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ﴾ أي إن ما ذكر من إجارة المستجير من المشركين إلى أن يسمع كلام الله من جراء أنهم قوم جاهلون لا يدرون ما الكتاب وما الإيمان، وما أعرضوا إلا عن جهل وعصبية واغترار بالقوة وإصرار على الجفوة. فإذا هم شعروا بضعفهم وصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم، وأعدّهم ذلك للعلم بما كانوا يجهلون، وطلبوا الأمان لهذا السبب أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلام الله- أجيبوا إلى ذلك لأن هذه الطريق المثلى لتعليمهم وهدايتهم، والرسول صلوات الله عليه إنما أُرسل مبشرا ونذيرا.
وفي الآية إيماء إلى أن التقليد في الدين غير كاف، وأنه لا بد من النظر والاستدلال، لأنه لو كان كافيا لوجب ألا يهمل الكافر، بل يقال له : إما أن تؤمن وإما أن نقتلك، فأمهلناه ليحصل له النظر والاستدلال فإن ظهر على المشرك علامات القبول للحق ببحثه عن الدليل والتفكير فيه أُمْهل وتُرِك، وإن ظهر أنه مُعْرض عن الحق لم يُلْتفت إليه ووجب تبليغه إلى مأمنه.
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٧ ) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ( التوبة : ٧-٨ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر براءة الله ورسوله من المشركين وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض أحرارا، ثم ذكر دعوتهم إلى التوبة من الشرك وإنذارهم سوء العاقبة، ثم أمر بما يترتب على النبذ وهو عود حال الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وُقِّتَت بها، بمناجزة المشركين بكل أنواع القتال المعروفة في ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق الوصول عليهم، إلا من يستجير بالرسول ليسمع كلام الله فإنه يجار حتى يسمعه- قفّى على ذلك ببيان أن هذا النبذ وما يترتب عليه إنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنون أو دونه.
الإيضاح :
﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ المراد من المشركين : الناكثون للعهد، لأن البراءة إنما هي في شأنهم، أي بأي حال يكون لهؤلاء المشركين عهد معتدّ به عند الله وعند رسوله يستحق أن يراعي ويحافظ عليه إلى إتمام المدة بحيث لا يتعرض لهم على حسبه قتلا وأخذا، وحالهم ما بين في الآية التالية :﴿ إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ﴾.
﴿ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ﴾ أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهود إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام وهم بنو كنانة وبنو ضَمْرة، لأنهم ممن كان قد أقام على عهده ولم يدخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد.
﴿ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ﴾ أي فهؤلاء تربصوا بهم ولا تقتلوهم ما استقاموا لكم على العهد، إذ لا يجوز أن يكون نقضه من قبلكم.
﴿ إن الله يحب المتقين ﴾ أي الذين يتقون الغدر ونقض العهد، وهؤلاء المعاهدون المذكورون هنا : هم المذكورون أولا بقوله : إلا الذين عاهدتم من المشركين الخ، وإنما أعيد ذكرهم هنا لبيان أنه يجب أن تكون الاستقامة على العهد مرعيّة من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته، وبيان استباحة نبذ عهد الذين لا يستقيمون للمعاهد لهم إلا عند العجز عن الغدر حتى إذا ما قدروا عليه نقضوا عهده أو نقضوا منه كما فعلت قريش في نقض عهد الحديبية بمظاهرتهم لحلفائهم من بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٧ ) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ( التوبة : ٧-٨ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر براءة الله ورسوله من المشركين وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض أحرارا، ثم ذكر دعوتهم إلى التوبة من الشرك وإنذارهم سوء العاقبة، ثم أمر بما يترتب على النبذ وهو عود حال الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وُقِّتَت بها، بمناجزة المشركين بكل أنواع القتال المعروفة في ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق الوصول عليهم، إلا من يستجير بالرسول ليسمع كلام الله فإنه يجار حتى يسمعه- قفّى على ذلك ببيان أن هذا النبذ وما يترتب عليه إنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنون أو دونه.
تفسير المفردات :
ظهر عليه : غلبه وظفر به، ورقب الشيء : رعاه وحاذره لأن الخائف يرْقُب العقاب ويتوقعه، ومنه فلان لا يرْقُب الله في أموره : أي لا ينظر إلى عقابه، فيركب رأسه في المعصية، والإل : القرابة. قال بن مُقبل :
أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإل وأعراق الرحم
والذمة والذمام : العهد الذي يلزم من ضيّعه الذمّ، وكان خَفر الذمام ونقض العهد عندهم من العار، فاسقون : أي خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزون لحدود الصدق والوفاء، من قولهم : فسقت الرطْبة إذا خرجت من قشرتها.
الإيضاح :
﴿ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ﴾ أي كيف يكون للمشركين غير هؤلاء الذين جربتم وفاءهم- عهد مشروع عند الله مرعيُّ الوفاء عند رسوله- وحالهم المعروفة من أخلاقهم وأعمالهم أنهم إن يظهروا عليكم في القُوّة والغَلَب، لا يرقبوا الله ولا القرابة في نقض العهد والميثاق.
والخلاصة : إنه لا عهد لمن كان له عهد وغدر فيه، وكذا من لا عهد له منهم لأنهم لشدة عداوتهم للمؤمنين لم يقيّدوا أنفسهم معهم بعهد سلم مطلق ولا مؤقت.
ثم بيّن ما تنطوي عليه جوانحهم من الضغينة للمؤمنين فقال :
﴿ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ﴾ أي هم يخادعونكم حال الضعف بما يفوهون به من كلام معسول يرون أنه يرضيكم سواء أكان عهدا أم وعدا أم وأيمانا مؤكدة، وقلوبهم مملوءة ضغنا وحقدا ﴿ يقولون بألسنتهم ما ليس بقلوبهم ﴾ ( الفتح : ١١ ) فهم إن ظهروا عليكم نكثوا العهود وحنثوا بالإيمان وفتكوا بكم بقدر ما يستطيعون.
وإنما يفعلون ذلك لأن أكثرهم خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزين لحدود الصدق والوفاء، فليس لهم مُروءة رادعة ولا عقيدة وازعة، ولا يتعفّفون عن الغدر وعما يجر إلى سوء الأحدوثة وَثَلم العرض.
وإنما وصف الأكثر، لأنهم هم الناكثون الناقضون لعهودهم، وأقلهم الموفُون الذين استثناهم الله تعالى وأمر المؤمنين بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم.
﴿ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٩ ) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴾ ( التوبة : ٩-١٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر غلبة الفسق والخروج من الفضائل الفطرية والتقليدية على أكثرهم حتى مراعاة القرابة والوفاء ونحوهما مما يُمْدح عندهم أردف ذلك بذكر السبب في هاتين الآيتين.
الإيضاح :
﴿ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ أي استبدلوا آيات الله الدالة على توحيده بالعبادة، وعلى الوحي والرسالة وما فيها من الهداية للناس، وعلى البعث والجزاء على الأعمال ثمنا قليلا من حطام الدنيا، وهو ما هم فيه من رخاء العيش وكثرة الأموال، فصدوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإسلام وما يقتضيه من الوفاء وصدوا غيرهم أيضا، وجعله قليلا لأنه زائل غير باق وما عند الله باق دائم وهو خير وأبقى، لأن ما عندهم قليل بالنظر إلى ما عند غيرهم.
روي أن أبا سفيان لما أراد حمل قريش وحلفائها على نقض عهد الحديبية صنع لهم طعاما استمالهم به فأجابوه إلى ما طلب.
﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ أي قبح عملهم الذي يعملونه من اشتراء الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى، والصد عن دين الله وما جاء به رسوله من البينات والهدى.
﴿ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٩ ) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴾ ( التوبة : ٩-١٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر غلبة الفسق والخروج من الفضائل الفطرية والتقليدية على أكثرهم حتى مراعاة القرابة والوفاء ونحوهما مما يُمْدح عندهم أردف ذلك بذكر السبب في هاتين الآيتين.
الإيضاح :
﴿ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ﴾ أي ومن أجل هذا الكفر لا يرعَوْن في مؤمن يقدرون على الفتك به قرابة تقتضي الود، ولا ذمة توجب الوفاء بالعهد ولا ربّا يحرّم الخيانة والغدر، فذنب المؤمن عندهم أنه لا ينقض عهدا ولا يستحل غدرا ولا يقطع رحما.
﴿ وأولئك هم المعتدون ﴾ أي المتجاوزون لغاية القصوى من الظلم، والعلة في هذا رسوخهم في الشرك وكراهتهم للإيمان وأهله، فلا علاج لهم إلا الرجوع عن الكفر والاعتصام بالإيمان والتمسك بفضائل الأخلاق وما يقتضيه الإيمان من صالح الأعمال.
﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾ ( التوبة : ١١-١٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه عداوة المشركين للمؤمنين أردف ذلك بما سيكون من أمرهم بعد ذلك، وهو لا يعدو أحد أمرين فصّلهما في هاتين الآيتين :

الإيضاح :

( ١ ) ﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ﴾ أي فإن رجع هؤلاء المشركين الذين أمرتكم بقتالهم عن شركهم بالله، إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إليه وأطاعوه، فأقاموا الصلاة أي أدَّوْها بشروطها وأركانها، وآتوا الزكاة المفروضة فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم به، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وبهذه الأخوّة يزول كل ما كان بينكم من إحن وعداوات، ولا تعارف أجمل من التعارف في المساجد لإقامة الصلوات وأداء الصدقات بمواساة الغني للفقير، وهذه المزية الدنيوية كانوا محرومون منها، إذ كان بعضهم حربا لبعض إلا ما كان من عهد أو جوار.
﴿ ونفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ أي وإنا نبين حجج الله وأدلته على خلقه لقوم يعلمون ما نبين لهم بعد أن نشرحها مفصلة فيفقهونها، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته.
الإيضاح :
﴿ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة ﴾ أي قاتلوا هؤلاء المشركين لأسباب ثلاثة :
إنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ترك القتال عشر سنين يأمن فيها الفريقان على أنفسهم، ويكونون فيها أحرارا في دينهم، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ليلا بالقرب من مكة على ماء يسمى الهَجير، وكان هذا من أفظع أنواع الغدر، ولما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا نصرت إن لم أنصركم ) وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة.
( ٢ ) إنهم هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من وطنه أو حبسه حتى لا يبلغ رسالته، أو قتله بأيدي عُصبة من بطون قريش ليفترق دمه في القبائل، فتتعذر المطالبة به، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ ( الأنفال : ٣٠ ).
( ٣ ) إنهم بدؤوا بقتال المؤمنين في بدر حين قالوا بعد العلم بنجاة غيرهم : لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه ونقيم في بدر أياما نشرب الخمر وتعزف على رؤوسنا القيان، وكذا في أحد والخندق وغيرهما.
وبعد أن أورد البراهين والحجج الموجبة لقتالهم قال :
﴿ أتخشونهم ﴾ أي أبعد هذا كله تتركون قتالهم خوفا منكم وجبنا ؟
﴿ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ﴾ أي فالله أحق أن تخشوا مخالفة أمره وترك مخالفة عدوه، إذ المؤمن حق الإيمان لا يخشى إلا الله، لأنه يعلم أنه هو الذي بيده النفع والضر، ولا يقدر أحد على مضرة أو نفع إلا بمشيئته، فإن خشي غيره بمقتضى سننه تعالى في أسباب الضر والنفع، فلا ترْجُح خشيته على خشية الله، بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره، بل يرجّح خشيته تعالى على خشية غيره.
وهذا احتجاج آخر على جماعة المسلمين الذين لا يخلو أن يكون بينهم جماعة من المنافقين ومرضى القلوب الذين يكرهون القتال إذا لم توجبه الضرورة كما قال :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾ ( البقرة : ٢١٦ ) أو رجاء انتشار الإسلام بدونه بعد فتح مكة والطائف وهدم دولة الشرك.
وخلاصة ما سلف : إنه بعد تلك الحجج التي تقدم ذكرها، لم يبق من سبب يمنع قتالهم إلا الخشية لهم والخوف من قتالهم، وخشية الله أحق وأجدر إن كنتم مؤمنين حقا، كيف وقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة مع ضعفكم وقوتهم وقلّتكم وكثرة عديدهم.
وفي الآية إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون أشجع الناس وأعلاهم همة ولا يخشى إلا الله.
﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾ ( التوبة : ١١-١٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه عداوة المشركين للمؤمنين أردف ذلك بما سيكون من أمرهم بعد ذلك، وهو لا يعدو أحد أمرين فصّلهما في هاتين الآيتين :

الإيضاح :

( ١ ) ﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ﴾ أي فإن رجع هؤلاء المشركين الذين أمرتكم بقتالهم عن شركهم بالله، إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إليه وأطاعوه، فأقاموا الصلاة أي أدَّوْها بشروطها وأركانها، وآتوا الزكاة المفروضة فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم به، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وبهذه الأخوّة يزول كل ما كان بينكم من إحن وعداوات، ولا تعارف أجمل من التعارف في المساجد لإقامة الصلوات وأداء الصدقات بمواساة الغني للفقير، وهذه المزية الدنيوية كانوا محرومون منها، إذ كان بعضهم حربا لبعض إلا ما كان من عهد أو جوار.
﴿ ونفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ أي وإنا نبين حجج الله وأدلته على خلقه لقوم يعلمون ما نبين لهم بعد أن نشرحها مفصلة فيفقهونها، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته.
الإيضاح :
﴿ وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ﴾ يقال نكث الغزل والحبل : حلّ الخيوط التي تألف منها وأرجعها إلى أصلها، والإيمان العهود وقد كان كل من العاقِدْيَن للعهد يضع يمينه في يمين الآخر.
أي وإن نكث هؤلاء ما أبرمته أيمانهم من الوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم، وعابوا دينكم واستهزءوا به وصدّوا الناس عنه، ومن ذلك الطعن في القرآن وفي النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم فقاتلوهم فهم أئمة الكفر وحملة لوائه المقدّمون على غيرهم بزعمهم، فهم الأجدر بالقتل والقتال.
﴿ إنهم لا أيمان لهم ﴾ أي إن عهودهم لا قيمة لها. فهي مخادعة لسانية لا يقصد الوفاء بها كما قال سبحانه :﴿ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ﴾ ( الفتح : ١١ ) فما أسرع ما تُنْقَض إذا وجدت الفرصة سانحة.
﴿ لعلهم ينتهون ﴾ أي قاتلوهم رجاء أن ينتهوا بقتالكم إياهم عن الكفر ونكث الأيمان ونقض العهود والعودة إلى قتالكم كلما قدروا عليه.
وفي ذلك إيماء إلى أن القتال لا يكون إتباعا لهوى النفس، أو إرادة منافع الدنيا من السلب والنهب وإرادة الانتقام، وهذه ميزة الإسلام إذ جعل الحرب ضرورة لإرادة منع الباطل وتقرير الحق.
﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ( ١٣ ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٣-١٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه بقتال أئمة الكفر- ذكر السبب الذي يبعث على قتالهم، ولعل الله قد علم أن في نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم في إيمانهم، وعلم أنه يوجد من المنافقين من يزيّنون لهم ذلك، والله يريد أن تطهُر جزيرة العرب من خرافات الشرك وأدران الوثنية، ويمحّص المؤمنين من المنافق ومثالبه.
من جراء هذا أعاد الكرة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين عليهم بالحرب الذين بدءوهم بالقتال وهمّوا بإخراج الرسول أو حبسه أو قتله.
﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ( ١٣ ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٣-١٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه بقتال أئمة الكفر- ذكر السبب الذي يبعث على قتالهم، ولعل الله قد علم أن في نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم في إيمانهم، وعلم أنه يوجد من المنافقين من يزيّنون لهم ذلك، والله يريد أن تطهُر جزيرة العرب من خرافات الشرك وأدران الوثنية، ويمحّص المؤمنين من المنافق ومثالبه.
من جراء هذا أعاد الكرة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين عليهم بالحرب الذين بدءوهم بالقتال وهمّوا بإخراج الرسول أو حبسه أو قتله.
الإيضاح :
وبعد أن أقام الأدلة على وجوب قتالهم، وفنّد الشبه المانعة من ذلك أمرهم به أمرا صريحا مع وعده لهم بالنصر وإظهار المؤمنين عليهم، وهذه العِدَة من أخبار الغيب في وقعة معينة، وقد صدق الله وعده فقال :
﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ أي قاتلوهم كما أمرتكم، فإنكم إن فعلتم ذلك يعذبهم الله بأيديكم ويمكنكم من رقابهم قتلا، ومن صدورهم ونحورهم طعنا، ويخزهم بذُلّ الأسر والقهر والفقر لمن لم يقتل منهم، وينصركم عليهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد هذا، فلا يعودون إلى قتالكم كما كان شأنهم بعد وقعة بدر، ويشف صدوركم ما نالوا منكم من الأذى ولم تكونوا تستطيعون دفعه- وقد كان في صدورهم من موجدة القهر والذل ما لا شفاء له إلا بهذا النصر عليهم- وهؤلاء المؤمنون هم الذين غدر بهم المشركون كخزاعة وغيرها ممن كانوا في دار الشرك عاجزين عن الهجرة. وروي عن ابن عباس أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا إلى مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال صلى الله عليه وسلم :( أبشروا فإن الفرج قريب ).
﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ( ١٣ ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٣-١٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر سبحانه بقتال أئمة الكفر- ذكر السبب الذي يبعث على قتالهم، ولعل الله قد علم أن في نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم في إيمانهم، وعلم أنه يوجد من المنافقين من يزيّنون لهم ذلك، والله يريد أن تطهُر جزيرة العرب من خرافات الشرك وأدران الوثنية، ويمحّص المؤمنين من المنافق ومثالبه.
من جراء هذا أعاد الكرة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين عليهم بالحرب الذين بدءوهم بالقتال وهمّوا بإخراج الرسول أو حبسه أو قتله.
الإيضاح :
﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾ الذي كان قد وقر فيها من غدر المشركين وظلمهم، ومن طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه وأكملها فإنه يعظم سروره ويصير ذلك سببا لقوة النفس وصدق العزيمة.
وهذا الخزي والتعذيب الذي سينزله بهم لا يعمهم، بل هو خاص بمن استحوذ عليهم الكفر، فلم يبق فيهم استعداد للإيمان.
﴿ ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ﴾ أي وأما غيرهم فسيتوب الله عليهم من شركهم ويوفقهم للإيمان ويتقبله منهم، وهو العليم بما لا تعلمون من استعدادهم في الحال والاستقبال، الحكيم فيما يشرع لهم من الأحكام لإقامة دينه وإظهاره على الدين كله.
ومن سننه تعالى تفاوت البشر في العقائد والأخلاق والأعمال، وقابلية التحول من حال إلى حال بما يطرأ عليهم من الأسباب والمؤثرات بحسب المقادير الإلهية الثابتة بآيات التنزيل ونُظُم الاجتماع.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ( التوبة : ١٦ ).
المعنى الجملي : كان الكلام في الآيات التي قبل هذه بيان حال المشركين من مواصلتهم ما بدؤوا به من قتال المؤمنين لأجل دينهم، وقتال المؤمنين لهم على الوجه الذي قامت به الحجج الناصعة على كون المؤمنين على الحق في هذا القتال، والكلام الآن في بيان حال جماعة المسلمين وشأنهم في الجهاد الحق الذي يتوقف على تمحيصهم من ضعف الإيمان والهوادة في حقوق الإسلام.
تفسير المفردات :
الوليجة : ما يلج في الأمر أو القوم مما ليس منه أو منهم كالدّخيلة، ويطلق على الواحد والكثير، ويراد بها هنا بطانة السوء من المنافقين والمشركين.
الإيضاح :
﴿ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ﴾ الخطاب هنا لجماعة المسلمين الذين من بينهم منافقون ومرضى القلوب يثبّطون عن القتال.
والمعنى : هل جاهدتم المشركين حق الجهاد، وأمنتم عودتهم إلى قتالكم كما بدؤوكم أول مرة، وأمنتم نكث من عاهدتم منهم لأيمانهم كما نكثوا من قبل ؟ وهل علمتم أنهم تركوا الطعن في دينكم وصدّ الناس عنه كما هو دأبهم منذ ظهور الإسلام ؛ وهل نسيتم ما اعتذر به المنافقون الذي تخلّفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من أعذار ملفّقة كاذبة، وما كان من تثبيط من خرج منهم معكم عن القتال ؟ أم حسبتم أن تتركوا وشأنكم بغير فتنة ولا امتحان، ولم يتبين الخّلص من المجاهدين منكم الذين لم يتخذوا لأنفسهم بطانة من المشركين الذين يحادون الله تعالى بالشرك به، ويحادون الرسول بالصد عن دعوته، ويقاتلون المؤمنين أنصار الله ورسوله- من المنافقين الذين يُطْلِعون أولئك الولائج على أسرار الملة ويقفونهم على سياسة الأمة كما يفعل المنافقون في كل زمان.
ونحو الآية قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دينكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ﴾ ( آل عمران : ١١٨ ).
وقد عبر سبحانه عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين وتميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان- بعدم علمه بهم، لأن عدم علمه بالشيء دليل على عدم وجوده.
ولا يظهر هؤلاء الممتازون إلا بالابتلاء بالشدائد كما جاء في قوله :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون( ٢ ) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾ ( العنكبوت : ٢-٣ ).
﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ الآن وبعد ذلك وقبله، محيط بكل شيء علما، وقد مضت سنته تعالى بأن التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحّص ما في القلوب ويطهّر السرائر بقدر ما فيها من حسن الاستعداد، ويبرز السرائر الخبيثة ويظهر سوء استعدادها.
وخلاصة المعنى : أظننتم أن تتركوا قبل أن يتم التمحيص والتمييز بين الصادقين في جهادهم والكاذبين فاسدي السريرة ومتّخذي الوليجة، وهو لم يعلم الصادقين في الجهاد لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل، وما لا يعلم الله وجوده فلا وجود له، إذ لا يخفى عليه شيء من أمركم، وهو الخبير بكل ما تعملون.
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ ( التوبة : ١٧-١٨ ).
المعنى الجملي : بعد أن فتح المسلون مكة وأدال الله للتوحيد من الشرك وللحق من الباطل، وزالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام وطهّره الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان فيه من الأصنام، بقي عليه أن يطهره من العبادات الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه ويبين لهم أن المسلمين أحق به منهم، ومن ثم آذنهم بنبذ عهودهم وأمر عليّا أن يتلو عليهم أوائل سورة براءة على مسامع وفودهم يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة، وكان مما يتضمنه هذا البلاغ العام أن يعملوا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام، فنادى عليّ وأعوانه في يوم النحر بمنى :( لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان ).
وإنما أمهلهم هذا العام من قبل أن فيهم أرباب عهد مع المسلمين، وكان من شروطه ألا يمنع أحد الفريقين الآخر من دخول المسجد الحرام- إلا أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم بدون قتال في أرض الحرم، إذ لا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم ولا المعاهد من غيره إلى بعد وصولهم إلى البيت وشروعهم في الطواف فيه.
لهذا كله ناسب أن يذكر بعد نبذ العهود وإعلام جماهيرهم به قبل تنفيذه بزمن منع عبادة الشرك من المسجد الحرام وإبطال ما كان المشركون يدّعونه ويفخرون به من حق عمارته، مع تيئيسهم من الاشتراك فيها، وهذا هو ما تضمنته الآيتان الكريمتان المذكورتان هنا.
روي عن ابن عباس أنه قال : لما أُسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ له علي في القول، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ! فقال عليّ كرّم الله وجهه : ألكم محاسن ؟ فقال نعم : إننا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج فأنزل الله :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ الآية.
تفسير المفردات :
المساجد : واحدها مسجد، وهو مكان السجود ثم صار اسما للبيت الذي يُعبد فيه الله وحده كما قال :﴿ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ ( الجن : ١٨ ) وعمارة المسجد : تطلق تارة على لزومه والإقامة فيه للعبادة، أو لخدمته بتنظيفه أو ترميمه أو نحو ذلك، وتطلق أخرى على زيارته للعبادة فيه، ومنها النسك المخصوص المسمى بالعُمرة.
الإيضاح :
﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ أي ما كان من شأن المشركين ولا مما ينبغي لهم أن يعمروا مساجد الله التي منها المسجد الأعظم وهو بيته الحرام بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين، وقد شهدوا على أنفسهم بالكفر قولا وعملا بعبادتهم للأصنام والاستشفاع بها والسجود لما وضعوه منها في البيت عقب كل شوط من طوافهم، وقولهم حينئذ : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
إذ في عملهم هذا جمع بين الضدين، فإن عمارة البيت الحسية إنما تكون لعمارته المعنوية بعبادته تعالى وحده، وذلك لا يقع إلا من المؤمن الموحّد لكنهم يشركون به غيره ويساوونه ببعض خلقه في العبادة.
وخلاصة ذلك : إنهم يجمعون بين أمرين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح، عمارة البيت الحرام بزيارته للحج أو للعمرة، والكفر بربه بمساواته ببعض خلقه من الأصنام والأوثان.
وقوله :﴿ شاهدين على أنفسهم ﴾، أي إنهم كفروا كفرا صريحا معترفا به لا تُمْكِن المكابرة فيه.
والمراد : بالعمارة الممنوعة عن المشركين للمساجد، الولاية عليها والاستقلال بالقيام بمصالحها كأن يكون الكافر ناظرا للمسجد وأوقافه، وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه كنحت الحجارة والبناء والنجارة فلا يدخل في ذلك.
وللمسلمين أن يقبلوا من الكافر مسجدا بناه كافر أو أوصى ببنائه أو ترميمه إذا لم يكن في ذلك ضرر ديني ولا سياسي، كما لو عرض اليهود الآن على المسلمين أن يعْمُروا المسجد الأقصى بترميم ما كان قد تداعى من بنائه، أو بذلوا لذلك مالا لم يقبل منهم، لأنهم يطمعون في الاستيلاء على هذا المسجد، فربما جعلوا ذلك ذريعة لادعاء حق لهم فيه.
﴿ أولئك حبطت أعمالهم ﴾ أي أولئك المشركون الكافرون بالله وبما جاء به رسوله قد بطلت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وقِرى الضيف وصلة الرحم ونحو ذلك مما كانوا يعملونه في دنياهم، فلم يبق له أثر مّا في صلاح أنفسهم ما داموا مقيمين على الشرك ومفاسده.
ونحو الآية قوله :﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ ( الأنعام : ٨٨ ) وقوله :﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ﴾ ( الزمر : ٦٥ ).
﴿ وفي النار هم خالدون ﴾ أي وهم مقيمون في دار العذاب إقامة خلود وبقاء لكفرهم الذي أحبط أحسن أعمالهم ودسّى أنفسهم حتى لم يبق لها أدنى استعداد لجوار ربهم في دار الكرامة والنعيم.
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ ( التوبة : ١٧-١٨ ).
المعنى الجملي : بعد أن فتح المسلون مكة وأدال الله للتوحيد من الشرك وللحق من الباطل، وزالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام وطهّره الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان فيه من الأصنام، بقي عليه أن يطهره من العبادات الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه ويبين لهم أن المسلمين أحق به منهم، ومن ثم آذنهم بنبذ عهودهم وأمر عليّا أن يتلو عليهم أوائل سورة براءة على مسامع وفودهم يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة، وكان مما يتضمنه هذا البلاغ العام أن يعملوا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام، فنادى عليّ وأعوانه في يوم النحر بمنى :( لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان ).
وإنما أمهلهم هذا العام من قبل أن فيهم أرباب عهد مع المسلمين، وكان من شروطه ألا يمنع أحد الفريقين الآخر من دخول المسجد الحرام- إلا أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم بدون قتال في أرض الحرم، إذ لا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم ولا المعاهد من غيره إلى بعد وصولهم إلى البيت وشروعهم في الطواف فيه.
لهذا كله ناسب أن يذكر بعد نبذ العهود وإعلام جماهيرهم به قبل تنفيذه بزمن منع عبادة الشرك من المسجد الحرام وإبطال ما كان المشركون يدّعونه ويفخرون به من حق عمارته، مع تيئيسهم من الاشتراك فيها، وهذا هو ما تضمنته الآيتان الكريمتان المذكورتان هنا.
روي عن ابن عباس أنه قال : لما أُسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ له علي في القول، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ! فقال عليّ كرّم الله وجهه : ألكم محاسن ؟ فقال نعم : إننا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج فأنزل الله :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ الآية.
الإيضاح :
﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ﴾ أي إن المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الذي بيّنه في كتابه من توحيده واختصاصه بالعبادة والتوكل عليه، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه عباده ويجزي كل نفس مع كسبت، مع إقامة الصلاة المفروضة على وجه جامع أركانها وآدابها، وتدبر تلاوتها وأذكارها، وبذا تُكسب من يقيمها مراقبة ربه وخشيته والخشوع إليه، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها من الفقراء والمساكين، وخشية الله دون غيره مما لا ينفع ولا يضر كالأصنام وغيرها مما عبد من دون الله خوفا من ضرره أو رجاء نفسه.
﴿ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾ أي فأولئك الذين يجمعون بين الأركان الهامة من أركان الإسلام هم الذين يرجون أن يكونوا من المهتدين إلى ما يحب الله ويرضيه من عمارة المساجد حسا ومعنى بحسب سننه تعالى في أعمال البشر وتأثيرها في نفوسهم، وبذا يستحقون عليها الجزاء في جنات النعيم، لا أولئك المشركون الذين يجمعون بين أضدادها من الإيمان بالطاغوت والشرك بالله والكفر بما جاء به رسوله، وينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإسلام.
هذا : وقد ورد في عمارة المساجد أحاديث كثيرة، فقد روى الشيخان والترمذي عن عثمان رضي الله عنه أنه لما بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامه الناس قال : إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة ).
وروى أحمد عن ابن عباس مرفوعا :( من بنى لله مسجدا ولو كمَفْحَص- الموضع الذي تفحص التراب عنه وتكشفه لتبيض فيه- قطاة لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة ).
وروى الشيخان وأبو داود وابن ماجة : أن امرأة كانت تقُمُّ المسجد- تكنسه- فماتت، فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له ماتت، فقال :( أفلا كنتم آذنتموني بها لأصلي عليها دُلوني على قبرها ) فأتى قبرها فصلى عليها.
وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) وتلا ﴿ إنما يعمر مساجد الله ﴾ الآية.
﴿ *أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٩- ٢٢ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات مكملة لما قبلها مبينة أن عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه.
روى مسلم وأبو داود عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي ألا أعمل لله بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه فأنزل الله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ إلى قوله ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾.
تفسير المفردات :
السقاية : الموضع الذي يُسقى فيه الماء في المواسم وغيرها، وسقاية العباس : موضع بالمسجد الحرام يستقي فيه الناس، وهو حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم لا تزال ماثلة إلى الآن، وقد يراد بالسقاية الحرفة كالحجابة وهي سِدانة البيت، والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش وقد أقرّهما الإسلام وفي الحديث :( كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدميّ إلا سقاية الحاج وسدانة البيت ).
وقد كانت قريش تسقي الحاج الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية.
الإيضاح :
﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ﴾ الخطاب في الآية للمؤمنين الذين تنازعوا- أيُّ الأعمال أفضل- والمراد : إنه لا ينبغي أن تجعلوا أهل السقاية والعمارة في الفضيلة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، فإن السقاية والعمارة وإن كانتا من أعمال البر والخير فأصحابهما لا يدانون أهل الإيمان والجهاد في علو المرتبة وشرف المقدار، وقد صرح بهذا في قوله :
﴿ لا يستوون عند الله ﴾ أي لا يساوي الفريق الأول والفريق الثاني لا في صفته ولا في عمله في حكم الله ولا في مثوبته وجزائه عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فضلا عن أن يفْضُلَه كما يزعم كبراء مشركي قريش الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت ويستكبرون على الناس بها.
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي لا يهديهم إلى الحق في أعماله ولا إلى الحكم العدل في أعمال غيرهم، إذ ليس من سننه تعالى في أخلاق البشر وأعمالهم أن يهدي الظالم على شيء من ذلك، ومن أقبح الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت وحفظ مفتاحه وسقاية الحاج على الإيمان بالله وحده، إذ به تطْهُر الأنفس من أدناس الشرك وخرافاته، وعلى الإيمان باليوم الآخر الذي يزع النفس عن البغي والظلم ويحبب إليها الحق والعدل، ويرغّبها في الخير وعمل البر ابتغاء مرضاة الله لا الفخر والرياء، وعلى الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
﴿ *أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٩- ٢٢ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات مكملة لما قبلها مبينة أن عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه.
روى مسلم وأبو داود عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي ألا أعمل لله بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه فأنزل الله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ إلى قوله ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾.
الإيضاح :
ثم بيّن سبحانه مراتب فضلهم إثر بيان عدم استوائهم هم والمشركين الظالمين فقال :
﴿ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ﴾ أي هم أعظم درجة وأعلى مقاما في مراتب الفضل والكمال في حكم الله وأكبر مثوبة من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الذين رأى بعض المسلمين أن عملهم إياهما من أفضل القُرُبات بعد الإسلام.
فالذين نالوا فضل الهجرة والجهاد بنوعيه النفسي والمالي أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائنا من كان، ويدخل في ذلك أهل السقاية والعمارة.
﴿ وأولئك هم الفائزون ﴾ أي وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله وكرامته دون من لم يكن مستجمعا لهذه الصفات الثلاث وإن سقى الحاج وَعَمَر المسجد الحرام، فإن ثواب المؤمن على هذين العملين دون ثوابه على الهجرة والجهاد، ولا ثواب للكافر عليهما في الآخرة، فإن الكفر بالله ورسله واليوم الآخر يُحْبِط الأعمال البدنية وإن فرض فيها حسن النية.
ثم فصل سبحانه ذلك الفوز العظيم وبينه بقوله :﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم* خالدين فيها أبدا ﴾.
﴿ *أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٩- ٢٢ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات مكملة لما قبلها مبينة أن عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه.
روى مسلم وأبو داود عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي ألا أعمل لله بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه فأنزل الله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ إلى قوله ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾.
الإيضاح :
﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم* خالدين فيها أبدا ﴾ أي يبشرهم ربهم في كتابه على لسان رسوله، وعلى لسان ملائكته حين الموت، برحمة منه ورضوان كامل من لدنه لا يشوبه سخط، وجنات تجري من تحتها الأنهار، ولهم فيها نعيم مقيم لا يزول على عُظْمه وكماله حال كونهم خالدين فيها أبدا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:﴿ *أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( ١٩ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٩- ٢٢ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات مكملة لما قبلها مبينة أن عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه.
روى مسلم وأبو داود عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي ألا أعمل لله بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه فأنزل الله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ إلى قوله ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾.

الإيضاح :

﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم* خالدين فيها أبدا ﴾ أي يبشرهم ربهم في كتابه على لسان رسوله، وعلى لسان ملائكته حين الموت، برحمة منه ورضوان كامل من لدنه لا يشوبه سخط، وجنات تجري من تحتها الأنهار، ولهم فيها نعيم مقيم لا يزول على عُظْمه وكماله حال كونهم خالدين فيها أبدا.


الإيضاح :
﴿ إن الله عنده أجر عظيم ﴾ أي إن ما عند الله من الأجر على الإيمان وصالح العمل الذي من أشقه الهجرة والجهاد عظيم لا يقدِر قدره إلا الله الذي تفضل به ومنحه لعباده المكرمين، ولاسيما على الإيمان الكامل الباعث على هجر الوطن ومفارقة الأهل والسكن، وعلى إنفاق المال الذي هو أحب شيء إلى النفس، وعلى بذل النفس التي هي أعز شيء على الإنسان.
فما أجدرهم أن يبشرهم بأنواع من الأجر والجزاء ما بين روحي وجسماني ؛ فالأول : الرحمة والرضوان. والرضوان هو نهاية الإحسان وهو أعلى النعيم وأكمل الجزاء كما يدل على ذلك قوله :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ﴾ ( التوبة : ٧٢ ).
وما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ؟ فيقولون، لبيك ربنا وسعديك، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون ربّنا وأيّ شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ).
والثاني : هو النعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبناؤكم وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( التوبة : ٢٣- ٢٤ ).
المعنى الجملي : لما أعلن الله براءته وبراءة رسوله من المشركين وآذنهم بنبذ عهودهم بعد أن ثبت أنه لا عهد لهم- عزّ ذلك على بعض المسلمين، وتبرّم به ضعفاء الإيمان وكان أكثرهم من الطُّلقاء الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وكان موضع الضعف نصرة القرابة وعصبية النسب، إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قرابة من المشركين يكرهون قتالهم ويتمنّوْن إيمانهم، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان وليجة وبطانة منهم.
من أجل هذا بيّن الله في هاتين الآيتين أن فضل الإيمان والهجرة والجهاد ونيل ما بشر الله به أهله من رحمته ورضوانه ودخول جناته لا يكمل إلا بترك ولاية الكافرين وإيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد والأخ والزوج والعشيرة والمال والسكن.
تفسير المفردات :
استحب كذا وأحبه : بمعنى. والظلم : وضع الشيء في غير موضعه.
الإيضاح :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباؤكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ﴾ أي لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال وتظاهرون لأجلهم الكفار أو تُطْلِعونهم على أسرار المؤمنين وما يستعدون به لقتال المشركين إن أصرّوا على الكفر وآثروه على الإيمان، فإن في ذلك قوة للمشركين على قتال المؤمنين وحَصْدا لشوكتهم ؛ وقد حدث ذلك منذ ظهور الإسلام إلى نزول هذه السورة، فقد كتب حاطب بن أبي بَلْتَعة وهو من أهل بدر وقد استخفّته نُعَرَة القرابة إلى مشركي مكة خفية يعلمهم بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قتالهم، ليتخذ له بذلك يدا عندهم يكافؤونه عليها بحماية ما كان له عندهم من قرابة، وفي ذلك نزلت سورة الممتحنة للنهي عن موالاة أعداء الله وأعدائهم.
﴿ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ﴾ أي ومن يتولهم وهم على تلك الحال فأولئك المتولون لهم هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم بوضعهم الموالاة في غير موضعها، فهم قد وضعوا الولاية في موضع البراءة، والمودّة في محل العداوة، وقد حملهم على هذا الظلم نُعَرَة القرابة وَحمِيّة الجاهلية.
ونحو الآية قوله في سورة الممتحنة :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ( ٨ ) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ ( الممتحنة : ٨-٩ ).
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبناؤكم وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( التوبة : ٢٣- ٢٤ ).
المعنى الجملي : لما أعلن الله براءته وبراءة رسوله من المشركين وآذنهم بنبذ عهودهم بعد أن ثبت أنه لا عهد لهم- عزّ ذلك على بعض المسلمين، وتبرّم به ضعفاء الإيمان وكان أكثرهم من الطُّلقاء الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وكان موضع الضعف نصرة القرابة وعصبية النسب، إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قرابة من المشركين يكرهون قتالهم ويتمنّوْن إيمانهم، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان وليجة وبطانة منهم.
من أجل هذا بيّن الله في هاتين الآيتين أن فضل الإيمان والهجرة والجهاد ونيل ما بشر الله به أهله من رحمته ورضوانه ودخول جناته لا يكمل إلا بترك ولاية الكافرين وإيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد والأخ والزوج والعشيرة والمال والسكن.
تفسير المفردات :
العشيرة : ذوو القربة الأدنَوْن الذين من شأنهم التعاون والتناصر. والاقتراف : الاكتساب، وكساد التجارة : ضد رواجها. والتربص : الانتظار. وأمره : عقوبته إن عاجلا أو آجلا.
الإيضاح :
وبعد أن بيّن ما وصل إليه حالهم من الإخلال بالإيمان انتقل إلى بيان سبب ذلك فقال :
﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ أي قل لهم وإن كنتم تفضّلون حظوظ الدنيا وشهواتها من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله الذي وُعدتم عليه أنواع السعادة الأبدية في الآخرة، فانتظروا حتى يأتي أمر الله : أي عقوبته التي تحل بكم عاجلا أو آجلا.
وقد ذكر سبحانه الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وحصرها في أربعة :
مخالطة الأقارب وذكر منهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، ثم ذكر الباقي بلفظ العشيرة.
الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة.
الرغبة في تحصيل الأموال وتثميرها بالتجارة.
الرغبة في الأوطان والدور التي بنيت للسكنى.
وخلاصة ذلك : إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيله، فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بعقوبة من عنده عاجلة أو آجلة.
ولا يخفى ما في ذلك من الوعيد والتهديد، ومن الإيماء إلى أنه إذا وقع التعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم نبذ الثانية وإلقاؤها وراءه ظهريا.
وبتفصيل ما تقدم في الآية نجد أنها حوت أمورا ثمانية من أفضل ما يحب :
حب الأبناء للآباء : وهو غريزي في النفوس فالولد بَضْعة من أبيه يرث بعض صفاته وطبائعه من جسمية وخلقية، وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم وفي معاهد الحج كما قال تعالى حاثا على ذكره :﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ﴾ ( البقرة : ٢٠٠ ).
حب الآباء للأبناء : وهو غريزي أيضا، وحب الوالد للولد أقوى وأبقى من عكسه، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه أو أشد، ويحرم نفسه كثرا من الطيبات إيثارا له بها في حاضر أمره ومستقبله، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب، ويقوم بتربيته وتعليمه، إذ هو مناط الآمال وزينة الحياة كما قال تعالى :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا ﴾ ( الكهف : ٤٦ ).
حب الإخوة : وهو يلي في المرتبة حب البنوة والأبوة، وهو حب يقتضيه التناصر والتعاون في الكفاح في الحياة، والبيوت التي سلمت فطرة أهلها وكرمت أخلاقهم يحبون إخوتهم كأنفسهم وأولادهم، ويوقّرون كبيرهم، ويرحمون صغيرهم، ويكفلون من يتركه أبوه صغيرا فيتربى مع أولادهم كأحدهم.
حب الزوجة : وبالزوجية يتحد بشران يتمم وجود كل منهما وجود الآخر وَيُنْتِجان بشرا مثلهما، ومن تم امتن الله علينا به فقال :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ ( الروم : ٢١ ).
( ه ) حب العشيرة : وهو حب عصبية وتعاون وولاية ونصر في مواطن القتال والنزال والذَّوْد عن الحِمى والحَرِيم، وهو يكون على أشده في أهل البداوة ومن على مقربة منهم من أهل الحضر.
حب الأموال المقترفة : أي المكتسبة، وهو أقوى من حب الأموال الموروثة، لأن عناء النفس في جمعها يجعل لها في قبله منزلة لا تكون لما يجيء من المال عفوا.
( ز ) حب التجارة : التي يخشى كسادها في حال الحرب، وقد كان لبعض المسلمين من أهل مكة يخشون كسادها في ذلك الحين، لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين، وكانت أسواقها تنصب في موسم الحج، وقد منع منه المشركون بنص الآيات السابقة واللاحقة.
( ح ) حب المساكن : الطيبة المرضية، وقد كان لبعض المسلمين دور حسنة في مكة كانوا يتمتعون فيها بالإقامة والسكنى لما فيها من المرافق وأسباب الراحة.
فهذه الثمانية الأنواع من الحب تجعل القتال مكروها مبغوضا لدى النفوس فوق ما له من بغض بمقتضى ذاته كما قال تعالى :﴿ كتب عليكم القتال وهو كرة لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ﴾ ( البقرة : ٢١٦ ).
أما حبه تعالى فيجب أن يكون فوق هذه الأنواع لفضله وإحسانه بالإيجاد والإعدام وتسخير منافع الدنيا للناس، وهو يتفاوت بتفاوت معارف الإنسان في آلاء الله في خلقه وإدراك ما فيها من الإبداع والإتقان :﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾ ( آل عمران : ٣١ ).
وكذلك حب رسوله يجب أن يكون فوق هذه أيضا، فإنه صلى الله عليه وسلم كان المثل الأعلى في أخلاقه وآدابه، وقد أرسله الله هداية للعالمين إلى يوم الدين.
﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ أي الخارجين من حدود الدين والشريعة ومن سلامة الفطرة فساد الطباع، ومن نور العقل إلى ظلمه الجهل والتقليد.
وقد جرت سنته تعالى أن يكون الفاسقون محرومين من الهداية الفطرية التي يهتدي إلى معرفتها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح، ومن ثم فهم يؤثرون حب القرابة والمنفعة الطارئة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله.
هذا وقد جاءت أحاديث كثيرة في فضل حب الله ورسوله، منها ما رواه الشيخان من حديث أنس مرفوعا :( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) وعنه أيضا :( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين ) وما رواه البخاري عن عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر : لأنت أحبُّ إليّ من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبيّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبُّ إليك من نفسك التي بين جنبيك ). فقال عمر : فإنه الآن، والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :( الآن يا عمر ).
والوسيلة إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر وتدبر القرآن والتزام أحكام الشرع.
والذكر الحق هو ذكر القلب مع حسن النية وصحة القصد وتأمل سنن الله وآياته في الخلق وأن تذكر حين رؤية كل شيء من صنع الله، وسماع كل صوت من مخلوقات الله، أنه يسبح بحمده تعالى ويدل على قدرته وحكمته ورحمته.
ومن أقام فرائض الله كما أمر، وترك معاصيه كما نهى، فإنه يصل بفضل الله إلى المقام الذي أشار إليه في الحديث القدسي :( وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ) رواه البخاري.
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( ٢٥ ) ثمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( ٢٦ ) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٢٥-٢٧ ).
المعنى الجملي : جاءت في هذه الآيات لإقامة الحجة على صدق ما قبلها من النهي والوعيد وأن الخير والمصلحة للمؤمنين في ترك ولاية أولي القربى من الكافرين، وهي في إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب أولي القربى والعشيرة والمال والسكن ونحوها مما يحب إذ أبان فيها أن نصر الله للمؤمنين في المواطن الكثيرة لم يكن بقوة العصبية ولا بقوة المال ولا بما يُشْتًرى به من الزاد والعتاد، بل كان بفضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بذلك الدين القويم، وأن هزيمتهم وتوليهم يوم حنين كان ابتلاء لهم على عُجْبِهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك كان بعناية خاصة من لدنه، ليتذكروا أن عنايته تعالى للمؤمنين بالقوة المعنوية لا بالكثرة العددية وما يتعلق لها.
تفسير المفردات :
المواطن : واحدها مَوْطِن وهو مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن ؛ والمراد بالموطن هنا مشاهد الحرب ومواقعها. وحنين : واد على ثلاثة أميال من الطائف، وغزوته تسمى غزوة أوطاس وغزوة هوازن. والإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة. والرُّحب : السعة، ومدبرين : أي هاربين لا تلوون على شيء.
الإيضاح :
﴿ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ﴾ أي لقد نصركم الله أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم في صعيد واحد للطعان والنزال إحقاقا للحق وإظهار لدينه.
روى أبو يعلى عن جابر أن عدد غزواته صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرون، قاتل بنفسه ثمان : بدر وأحد والأحزاب والمُصْطَلِق وخيبر ومكة وحُنَين والطائف.
وبعوثه وسراياه ست وثلاثون، واختار جمع من العلماء أن المغازي والسرايا كلها ثمانون ولم يقع في بعضها قتال، ونصرهم في كل قتال، إما نصرا كاملا وهم الأكثر وإما نصرا مشوبا بشيء من التربية على ذنوب اقترفوها كما في أحد، إذ نصرهم أولا ثم أظهر عليهم العدو لمخالفتهم أمر القائد الأعظم في أهم أوامر الحرب وهو في حماية الرماة لظهورهم، وكما في حنين من الهزيمة في أثناء المعركة والنصر التام في آخرها.
﴿ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ﴾ أي ونصركم أيضا في يوم حنين وهو اليوم الذي أعجبتكم فيه كثرتكم إذ كنتم اثني عشر ألفا وكان الكافرون أربعة آلاف فقط، فقال قائل منكم : لن نُغْلَب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة : أي فكانت الهزيمة عقوبة على هذا الغرور والعُجْب وتربية للمؤمنين حتى لا يغتروا بالكثرة مرة أخرى، فإنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة المؤدية للنصر.
ومعنى قوله :﴿ فلم تغن عنكم شيئا ﴾ الخ- أن تلك الكثرة التي غرتكم ولم تكن بكافية لانتصاركم ولم تدفع عنكم شيئا من عار الغلب والهزيمة، وضاقت عليكم الأرض على رُحْبِها وسعتها، فلم تجدوا وسيلة للنجاة إلا الهرب والفرار من العدو فولّيتموه ظهوركم منهزمين لا تلوون على شيء.
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( ٢٥ ) ثمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( ٢٦ ) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٢٥-٢٧ ).
المعنى الجملي : جاءت في هذه الآيات لإقامة الحجة على صدق ما قبلها من النهي والوعيد وأن الخير والمصلحة للمؤمنين في ترك ولاية أولي القربى من الكافرين، وهي في إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب أولي القربى والعشيرة والمال والسكن ونحوها مما يحب إذ أبان فيها أن نصر الله للمؤمنين في المواطن الكثيرة لم يكن بقوة العصبية ولا بقوة المال ولا بما يُشْتًرى به من الزاد والعتاد، بل كان بفضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بذلك الدين القويم، وأن هزيمتهم وتوليهم يوم حنين كان ابتلاء لهم على عُجْبِهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك كان بعناية خاصة من لدنه، ليتذكروا أن عنايته تعالى للمؤمنين بالقوة المعنوية لا بالكثرة العددية وما يتعلق لها.
تفسير المفردات :
والسكينة : الهيئة النفسية التي تحصل من سكون النفس واطمئنانها، وهي ضد الانزعاج، وقد تطلق الرزانة والوقار.
الإيضاح :
﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ﴾ أي ثم أفرغ الله سكينة من لدنه على رسوله بعد أن عرض له الأسف والحزن على أصحابه حين وقوع الهزيمة لهم، فما ازداد إلا ثباتا وشجاعة وإقداما- وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه وأحاطوا ببغلته الشهباء- وعلى سائر المؤمنين الصادقين فأذهب رَوْعهم وأزال حَيْرتهم وأعاد إليهم ما كان قد زلزل من ثباتهم وشجاعتهم، وخصوصا حين سمعوا نداءه ونداء عمه العباس إذ دعاهم بأمره- وأنزل مع هذه السكينة جنودا من الملائكة لم تروها بأبصاركم، بل وجدتم أثرها في قلوبكم بما عاد إليها من رباطة الجأش وشدة البأس- وعذب الذين كفروا بالقتل والسبي والأسر، وذلك هو جزاء الكافرين في الدنيا ما داموا يستحبون الكفر على الإيمان ويعادون أهله ويقاتلونهم عليه.
ونحو الآية قوله :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ ( التوبة : ١٤ ).
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( ٢٥ ) ثمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( ٢٦ ) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٢٥-٢٧ ).
المعنى الجملي : جاءت في هذه الآيات لإقامة الحجة على صدق ما قبلها من النهي والوعيد وأن الخير والمصلحة للمؤمنين في ترك ولاية أولي القربى من الكافرين، وهي في إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب أولي القربى والعشيرة والمال والسكن ونحوها مما يحب إذ أبان فيها أن نصر الله للمؤمنين في المواطن الكثيرة لم يكن بقوة العصبية ولا بقوة المال ولا بما يُشْتًرى به من الزاد والعتاد، بل كان بفضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بذلك الدين القويم، وأن هزيمتهم وتوليهم يوم حنين كان ابتلاء لهم على عُجْبِهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك كان بعناية خاصة من لدنه، ليتذكروا أن عنايته تعالى للمؤمنين بالقوة المعنوية لا بالكثرة العددية وما يتعلق لها.
الإيضاح :
﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ﴾ أي يثوب الله بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام إذا لم تحط بهم خطيئات الشرك وخرافاته، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب، وهو غفور لهم يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي، رحيم بهم يتفضل عليهم ويثيبهم بالأجر والجزاء.
وفد هوازن وإسلامهم وغنائمهم : روى البخاري عن المِسْوَر بن مَخْرَمة أن ناسا منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سُبِي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وقد سبى يومئذ ستة آلاف وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال عليه الصلاة والسلام :( إن عندي من ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم ) قالوا : ما كنا نعْدِل بالأحساب شيئا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( هؤلاء جاؤونا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده شيء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه )، قالوا : رضينا وسلّمنا، فقال صلى الله عليه وسلم :( إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضُوا ).
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٢٨ ).
المعنى الجملي : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر حين أمّره على الحج سنة تسع من الهجرة أن يبلّغ الناس أنه لا يحج بعد هذا العام مشرك، ثم أمر عليا أن يتبع أبا بكر فيقرأ على الناس أول سورة براءة في يوم الحج الأكبر وينبذ إليهم عهدهم، وأن الله بريء من المشركين ورسوله- قال ناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحَمولات فنزلت هذه الآية لدفع تلك الشبهة فقال سبحانه :﴿ وإن خفتم عبلة فسوف يغنيكم الله من فضله ﴾.
قال ابن عباس : كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم، بالطعام يتّجرون فيه، فلما نُهُوا أن يأتوا البيت قال المسلمون : فمن أين لنا الطعام ؟ فأنزل الله ﴿ وإن خفتم عيلة ﴾ الآية. قال : فأنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم في حين ذهب المشركون عنهم، وأسلم أهل اليمن وجاءهم الناس من كل فجّ.
تفسير المفردات : النجس : من نَجِس الشيء إذا كان قذرا غير نظيف والاسم النجاسة، وقال الراغب النجاسة : القذارة، وهي ضربان : ضرب يدرك بالحاسة، وضرب يدرك بالبصيرة، وهذا ما وصف الله به المشركين فقال إنما المشركين نجس، ويقال نجّسه، إذا جعله نجسا، ونجّسه : أزال نجسه من تنجيس العرب، وهو شيء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبي ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان، والناجس النجيس : داء خبيث لا دواء له ا ه.
والعيلة : الفقر، يقال عال الرجل يعيل عيلا وعيلة إذا افتقر فهو عائل، وأعال : كثر عياله، وهو يَعُول عيالا كثيرين : أي يَمونهم ويكفيهم أمر معاشهم. والفضل : العطاء والتفضل.
الإيضاح :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ أي إن المشركين أنجاس فاسدو الاعتقاد يشركون بالله ما لا يضر ولا ينفع، فيعبدون الرجس من الأوثان، والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ويأكلون الميتة والدم وهي أقذار حسية ويستحلون القمار والزنا ويستبيحون الأشهر الحرم وهي أرجاس معنوية- من أجل هذا لا تمكنوهم بعد هذا العام أن يدخلوا المسجد الحرام بدخول أرض الحرم، فضلا عن دخول البيت نفسه وطوافهم فيه عراة يشركون بربهم في التلبية، وإذا صلوا لم تكن صلاتهم إلا مُكَاء وتَصْدية.
وبلاد الإسلام في حق الكفار أقسام ثلاثة :
الحرم، ولا يجوز لكافر أن يدخله بحال لظاهر الآية، وبذلك قال الشافعي وأحمد ومالك : فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم لا يأذن له في دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وأبو حنيفة- يجيز للمعاهد دخول الحرم بإذن الخليفة أو نائبه.
الحجاز : وهو ما بين عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جُدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا، ويجوز للكافر دخولها بالإذن. ولكن لا يقيمون فيها أكثر من ثلاثة أيام.
روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما ) وفي رواية لمسلم، وأوصى فقال :( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته، وأخرج مالك في الموطأ :( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ).
وعن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم ).
سائر بلاد الإسلام، ويجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم.
﴿ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ﴾ أي وإن خفتم فقرأ بسبب قلة جلب الأقوات، وضروب التجارات التي كان يجلبها المشركون من أرباب المزارع في الشعاب والوديان من البلاد ذات البساتين والمزارع كالطائف وأرباب المتاجر فسوف يغنيكم الله من فضله، وفضله كثير، فقد صاروا بعد الإسلام ومنع المشركين من الحرم أغنى مما كانوا قبل ذلك، فقد تعددت وسائل الغني فيما بعد، وصدق الله وعده فأسلم أهل اليمن وصاروا يجلبون لهم الطعام، وأسلم أولئك المشركون ولم يبق أحد منهم يمنع من الحرم، ثم جاءتهم الثروة من كل جانب بما فتح الله عليهم من البلاد فكثرت الغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج، ومهد الله لهم سبل الرزق من إمارة وتجارة وزراعة وصناعة، وكان نصيب مكة من ذلك عظيما بكثرة الحاج وأمن طرق التجارة.
وقيد هذا الغنى بمشيئته التي لا يشك مؤمن في حصول ما تتعلق به، لتقوية إيمانهم بربهم واتكالهم عليه دون كسبهم وحده وإن كانوا مأمورين به، لأنه من سننه في خلقه، ولكن لا يجوز أن ينْسَوْا توفيقه وتأييده لهم فهو الذي نصرهم وأغناهم وسيزيدهم نصرا وغنى.
﴿ إن الله عليم حكيم ﴾ أي إنه عليم بما يكون من مستقبل أمركم في الغنى والفقر، حكيم فيما يشرعه لكم من أمر ونهي كأمركم بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم، ونهيكم عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد هذا العام، ونهيكم عن اتخاذ آبائكم وإخوانكم منهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان.
﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ ( التوبة : ٢٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحكام المشركين في إظهار البراءة من عهودهم، وفي إظهار البراءة منهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم وإبعادهم عن المسجد الحرام- قفّى على ذلك بحكم قتال أهل الكتاب وبيان الغاية منه، وفي ذلك توطئة للكلام في غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب والخروج إليها في زمن العُسْرة والقَيْظ، وما يتعلق بها في فضيحة المنافقين وهتك حُجُب كفرهم وتمحيص المؤمنين، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل فيها الروم لما سيأتي بعد.
روى ابن المنذر عن ابن شهاب قال : أنزلت في كفار قريش والعرب :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾ ( الأنفال : ٣٩ ) ونزلت في أهل الكتاب :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ إلى قوله ﴿ حتى يعطوا الجزية ﴾ فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.
روى ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن الحسن قال :( قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد على هذه الآية في شأن الكتاب ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ﴾ الآية. وعلى الجملة فالقتال الواجب في الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، ومن ثم اشترط أن تقدم عليه الدعوة إلى الإسلام.
والناظر إلى غزواته صلى الله عليه وسلم يرى أنها كلها كانت دفاعا عن الدعوة، وكذلك كانت حروب الصحابة في الصدر الأول ثم كان القتال بعد ذلك ضرورة من ضرورات الملك والدولة، ومع ذلك فقد كان الإسلام فيها مثال الرأفة والرحمة والعدل.
تفسير المفردات :
يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينا وعقيدة، ودين الحق : هو الدين الذي أنزله الله على أنبيائه، والجزية : ضرب من الخراج يُضْرب على الأشخاص لا على الأرض، وجمعها جزّى بالكسر. واليد : السعة والقدرة. والصّغار والصِغَر : ضد الكبر ويكون في الأمور الحسية والمعنوية، والمراد به هنا الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي بها تصغر أنفسهم لديهم بفقد الملك وعجزهم عن مقاومة الحكم.
الإيضاح :
﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ﴾ أي قاتلوا أهل الكتاب، إذ هم جمعوا أربع صفات : هي العلة في عداوتهم للإسلام، ووجوب خضوعهم لحكمه ما داموا في داره إذ لو أجيز لهم حمل السلاح لأفضى ذلك إلى قتال المسلمين في دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها كان فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وجعلهم حلفاء له، وأجار لهم الحكم فيما بينهم بشرعهم، وسمح لهم بالعبادة على النحو الذي يريدون، وكذلك فعل مع نصارى الروم في حدود البلاد العربية.
وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها في أصول كل دين إلهي ومن ثم أمر بقتال الذين لا يقيمونها وهي :
إنهم لا يؤمنون بالله، وقد شهد القرآن بأن اليهود والنصارى فقدوه بهدم أساسه وهو التوحيد، إذ هم قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، يشَرّعون لهم العبادات ويحرمون ويحللون فيتبعونهم، وبذا أشركوهم في الربوبية، ومنهم من أشرك به في الألوهية كالذين قالوا عزير ابن الله، والذين قالوا : المسيح ابن الله، أو هو الله.
إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، إذ هم يقولون إن حياة الآخرة حياة روحانية محضة يكون فيها الناس كالملائكة، لكنا نؤمن بأن الإنسان لا تنقلب حقيقته، بل يبقى مؤلفا من جسد وروح، ويتمتع بنعيم الأرواح والأجساد.
ولا يوجد فيما بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة نصوص صريحة في البعث والجزاء بعد الموت، بل فيها إشارات غير صريحة في ذلك.
إنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فاليهود لا يحرمون ما حرم في شرعهم الذي جاء به موسى ونسخ بعضه عيسى، ولا يلتزمون العمل بما حُرِّم فقد استحلوا أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره، واتبعوا عادات المشركين في القتال والنفي ومفاداة الأسرى، والنصارى استباحوا ما حُرِّم عليهم في التوراة مما لم ينسخه الإنجيل، فأباحوا جميع محرمات الطعام والشراب إلا ما ذبح للأصنام، فقد ثبت في كتبهم أن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوا وأكلوا أثمانها، وحرَّم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها.
إنهم لا يدينون دين الحق، إذ ما يتقلدونه إنما هو دين تقليدي وضعه لهم أساقفتهم وأحبارهم بآرائهم الاجتهادية وأهوائهم المذهبية لا دين الحق الذي أوحاه الله إلى عيسى وموسى عليهما السلام.
فاليهود لم يحفظوا ما استحْفِظوا من التوراة التي كتبها موسى وكان يحكم بها هو والنبيون من بعده، إلى أن عقابهم الله بتسليط البابليين عليهم فجاسوا خلال الديار وأحرقوا الهيكل وما فيه من الأسفار وسبَوِا بقية السيف منهم وأجلَوْهم عن وطنهم إلى أرض من استعبدهم فدانوا لشريعة غير شريعتهم.
ولما عادوهم إلى أوطانهم كانوا قد فقدوا نصوص التوراة وحفظوا بعضها دون بعض- كتبوا ما حفظوا من شريعة الرب ممزوجا بما دانوا به من شريعة ملك بابل كما أمرهم كاهنهم عزرا ( عزير ) ثم هم بعد ذلك حرَّفوا وبدلوا ولم يقيموها كما أمِروا، والنصارى لم يحفظوا كل ما بلّغهم عيسى عليه السلام من العقائد والوصايا والأحكام القليلة الناسخة لبعض أحكام التوراة الشديدة، وذلك هو دين الله الحق.
وكتب كثير منهم تواريخ أودعوا فيها ما عرفوه من ذلك ومن غيره، وجاءت المجامع الرسمية بعد ثلاثة قرون فاعتمدت أربعة أناجيل من نحو نيّف وسبعين إنجيلا رفضتها وجعلتها غير قانونية.
وإلى ما تقدم في أهل الملتين الإشارة بقوله :﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( ١٣ ) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾( المائدة : ١٣-١٤ ).
من هذا النص : يعلم أن كلا من اليهود والنصارى نسي حظا مما ذكرهم به نبيهم، ولم يعملوا بالبعض الآخر، فأكثر عباداتهم من وضع أحبارهم.
ولقب أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب- وإن كان عاما- خص به اليهود والنصارى، لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين لديها كما قال تعالى مخاطبا مشركي العرب :﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا من دراستهم لغافلين ﴾ ( الأنعام : ١٥٦ ).
﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ أي قاتلوا من ذكروا حين وجود ما يقتضي القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد منكم وسلامتكم كما فعل بكم الروم وكان ذلك سببا لغزوة تبوك- على أن تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية بشرط أن تكون صادرة عن يد أي من قدرة واسعة فلا يُظَْلموا ولا يُرْهقوا، وأن يخضعوا لسيادتكم وحكمكم، وبذا يسهل السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يشاهدون من عدلكم وفضائلكم التي يرونها رأي العين.
فإن أسلموا عمّ الهدى والعدل، وإن لم يُسْلِموا وأعطَوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم وإعطاؤهم حريتهم في دينهم ومعاملتهم بالعدل والمساواة كالمسلمين ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ).
ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون، ويُسَمّوْن حينئذ أهل الذمة، إذ كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله.
أما الذين يُعَْقَد بيننا وبينهم صلح بعهد وميثاق يعترف به الطوفان فيُسَمَّوْن المعاهَدين أو أهل العهد.
وأول من سن الجزية كسرى أنو شَرْوان، قال أبو حنيفة الدّينَوَري : إنه وظّف الجزية على أربع طبقات وأسقطها من أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتّاب ومن كان في خدمة الملك، ولم يبق يلزم أحدا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين.
وقد اقتدى به عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس ولم يكن هو بأول واضع لها.
وهاك عهدا كتبه أحد قواد عمر بن الخطاب لرُزْبان وأهل دَهِسْتان :
( هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة وعلينا المنعَة. على أن عليكم من الجزاء في كل سنة قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه، ولكم الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يُغَيّر شيء من ذلك. شهد بذلك سواد ابن قُطْبة وهند بن عمر وسماك بن مَخْرَمة وعُتيبة بن النهاس ).
وكتب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر ابن الخطاب قال :( هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين لأهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حُشِر منهم من سنة ( أرسل لميدان القتال ) وُضِع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك ).
والجزية التي وضعها عمر على الفقراء من أهل الذمة اثنا عشر درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرون، وعلى أهل الثروة ثمان وأربعون.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ ( التوبة : ٣٠-٣٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح- قفّى على ذلك بشرح ذلك المجمل في هذه الآيات، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، وهذا بمنزلة الشرك بالله فإن طرق الشرك مختلفة، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا يحرّمون ويحللون، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله وصحة دينه.
تفسير المفردات :
عزير : هو الذي يسميه أهل الكتاب عِزْرا، وينتهي نسبه إلى العازار بن هارون عليه السلام. ويضاهئون : أي يشابهون ويحاكون. وقاتلهم الله : جملة أصلها الدعاء ثم كثر استعمالها حتى قيلت على وجه التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء : والإفك : صرف الشيء عن وجهه يقال : أفك فلان أي صرف عقله عن إدراك الحقائق، ورجل مأفوك العقل.
الإيضاح :
﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾ عزير : كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل حوالي سنة ٤٥٧ ق. م. أسس المجمع الكبير وجمع أسفار الكتاب المقدس وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا من العبرانية القديمة، وألف أسفار الأيام، وعزرا، ونحميا ؛ وعلى الجملة فعصره هو ربيع الدين اليهودي، وهو جدير أن يكون ناشر الشريعة اليهودية، فقد أحياها بعد أن نُسِيت ومن أجل هذا فاليهود يقدّسونه حتى إن بعض يهود المدينة أطلق عليه لقب ابن الله.
وإسناد هذا القول إليهم جملة وإن كان قد صدر من بعضهم مبني على أن الأمة تعدّ متكافلة في شؤونها العامة، فما يفعله بعض الفرق أو الجماعات يكون له تأثير في جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم كما قال تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ﴾ ( الأنفال : ٢٥ ).
وما مثل ذلك إلا مثل الأوبئة التي تحدث في الشعب بكثرة الأقذار وإهمال مراعاة القواعد الصحية لا يُعدَى بها من تلبس بها فحسب، بل تنتشر العدوى في الشَّعْب جميعه.
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟
والمشهور عند المؤرخين حتى مؤرخي أهل الكتاب أن التوراة التي كتبها موسى ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه قد فُقِدَت قبل عهد سليمان عليه السلام، فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيها غير اللوحين الذين كتبت بهما الوصايا العشر كما جاء في سفر الملوك الأول، وأن عزرا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية ممزوجة ببقايا اللغة العبرانية التي نسي اليهود معظمها، ويقول أهل الكتاب : إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله.
وخلاصة ما سلف : إن جميع أهل الكتاب يدينون لعزير في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم، وإن كان هذا المستند ضعيفا، فقد جاء في ترجمة عزرا من دائرة المعارف البريطانية : إنه لم يُعِد إليهم الشريعة التي أحرقت فحسب، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت وأعاد سبعين سفرا غير قانونية ( أبو كريف ) ثم قال كاتب الترجمة : وإذا كانت هذه الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر، فكتاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقا ا ه.
﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾ وهذا قول للقدماء منهم كانوا يريدون به المحبوب أو المكرَّم ثم سرت إليهم وثنية الهنود فاتفقت كلمتهم على أنه ابن الله حقيقة وعلى أن ابن الله بمعنى الله وبمعنى روح القدس، إذ هذه الثلاثة عندهم واحد حقيقة وهذا تعليم الكنائس الذي قررته المجامع الرسمية بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون- وقد خالف في ذلك خلق كثير منهم يسمَّوْن الموحدين أو العقليين، ولكن الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية لا تعتدّ بنصرانيتهم ولا بدينهم.
وكلمة ثالوث تطلق عندهم على وجود أقانيم ثلاثة معا في اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس، وهذا هو تعليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية والبروتستانتية وهو المطابق لنصوص الكتاب المقدس.
وعقيدة التثليث وألوهية المسيح مع مخالفتهما للعقل ليس لهما أصل في كتب الأنبياء لا قطعي ولا ظني، وكتب العهد الجديد كذلك ليست نصا فيهما ؛ على أن هذه لا يوثق بها، فإن النصارى قد أضاعوا أكثر ما كتب من إنجيل المسيح في عصره، ثم رفضت مجامعهم الرسمية بعد دخول التعاليم الوثنية فيهم من قبل الرومانيين أكثر ما وجد عندهم من الأناجيل التي كانت تعد بالعشرات واعتمدت أربعا منها فحسب، وهذا مصداق قوله تعالى :﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ ( المائدة : ١٣ ).
﴿ ذلك قولهم بأفواههم ﴾ أي هذا الذي قالوه في عزير والمسيح قول تلوكه الألسنة في الأفواه، لا يؤيده برهان ولا يتجاوز حركة اللسان، بل البرهان دالّ على عكسه لاستحالة إثبات الولد لمن هو بريء عن الحاجة واتخاذ الصاحبة.
وفي معنى الآية قوله :﴿ وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا( ٤ ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ﴾ ( الكهف : ٤-٥ ).
﴿ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ﴾ أي يشابهون فيها قول الذين كفروا من قبلهم وهم مشركو العرب الذين قالوا مثل هذا القول، إذ قالوا : الملائكة بنات الله.
وقد علم من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة والبوذيين في الهند والصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومانيين، فبيان القرآن الكريم لهذه الحقيقة التي لم يكن أحد من العرب ولا ممن حولها يعرفها- بل لم تظهروا إلا في هذا الزمان- معجزة من معجزاته الكثيرة التي تظهر على مر الزمان، وتصدّقها المشاهدة والعِيان.
﴿ قاتلهم الله ﴾ تعجب من شناعة قولهم، وقد شاع استعمالها في ذلك، وتستعمل في المدح أيضا فيقال : قاتله الله ما أفصحه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن المراد لعنهم الله.
﴿ أنى يؤفكون ﴾ أي كيف يُصْرَفون توحيد الله وتنزيهه، وبه تجزم العقول، وبلّغه عن الله كل رسول- إلى قول- لا يقبله عقل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان من مخلوقات الله الذي خلق هذا الكون العظيم ودبّر أمره، ولا ينبغي لواحد من هذه المخلوقات أن يجعل لخالقه ومدبر شؤونه ولدا من جنسه، مع علمه بأنه كان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم ﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ﴾ ( الأنبياء : ٢٦ ).
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ ( التوبة : ٣٠-٣٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح- قفّى على ذلك بشرح ذلك المجمل في هذه الآيات، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، وهذا بمنزلة الشرك بالله فإن طرق الشرك مختلفة، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا يحرّمون ويحللون، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله وصحة دينه.
تفسير المفردات :
والأحبار : واحدهم حبر بالفتح والكسر وهو العالم من أهل الكتاب، والرهبان : واحدهم راهب، وهو لغة الخائف وعند النصارى هو المتبتل المنقطع للعبادة.
الإيضاح :
ثم فصل قوله قبل يضاهئون قول الذين كفروا من قبل بقوله :
﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ﴾ أي اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أربابا، فاليهود اتخذوا أحبارهم وهم علماء الدين أربابا بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وإطاعتهم فيه، والنصارى اتخذوا قساوستهم ورهبانهم : أي عبّادهم الذين يخضع لهم العوام أربابا كذلك.
والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين، فاتخاذهم أربابا يقتضي بالأولى أن يتخذوا من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطاركة، إذ الرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء مدونا كان أو غير مدون، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان ولو غير مدون، سواء قالوه تبعا لمن فوقهم أو من تلقاء أنفسهم لثقتهم بدينهم.
وانفرد النصارى باتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه، ومنهم من يعبد أمه عبادة حقيقية ويصرحون بذلك، وجميع الكاثوليك والأرثوذكس يعبدون تلاميذه ورسله وغيرهم من القديسين في عرفهم، ويتوسلون بهم، ويتخذون لهم الصور والتماثيل في كنائسهم، ولكنهم لا يسمون هذا عبادة.
واليهود لم يقتصروا دينهم على أحكام التوراة، بل أضافوا إليها من الشرائع ما سمعوه من رؤسائهم من قبل أن يدوّنوه في المَشْنة والتُلْمود ثم دونوه فكان هو الشرع العام وعليه العمل عندهم.
والنصارى غير رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية واستبدلوا بها شرائع أخرى في العبادات والمعاملات جميعا، وزادوا حق مغفرة الذنوب لمن شاءوا وحرمان من شاءوا من رحمة الله وملكوته، والله يقول :﴿ ومن يغفر الذنوب إلى الله ﴾ ( آل عمران : ١٣٥ ) وزادوا القول بعصمة البابا في تفسير الكتب الإلهية، ووجوب طاعته في كل ما يأمر به من الطاعات، وينهى عنه من المحرمات.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فرّ إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قوم ثم منّ رسول الله عليها وأعطاها فرجعت إلى أخيها ورغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة وكان رئيسا في قومه طيء وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال :( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عديّ ما تقول ؟ أيضرك أن يقال الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؛ ما يضرك ؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم إلها غير الله ؟ ) ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق فقال فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال :( إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ).
﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ﴾ أي اتخذوا رؤساءهم أربابا من دون الله، والربوبية تستلزم الألوهية، إذ الرب هو الذي يجب أن يعبد وحده، والحال : أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى ومن اتبعهما فيما جاءا به من عند الله، إلا أن يعبدوا ويطيعوا في الدين إلها واحدا بما شرعه لهم وهو ربهم ورب كل شيء ومليكه.
ثم علل الأمر بعبادة إله واحد فقال :
﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي لا إله غيره في حكم الشرع وفي نظر العقل، وإنما اتخذ المشركون آلهة من دونه بالرأي والهوى جهلا بصفات الألوهية، إذ ظنوا أن لبعض المخلوقات سلطانا غيبيا وقدرة على الضر والنفع من غير طريق الأسباب المسخرة للخلق مثل ما لله إما بالذات وإما بالوساطة والشفاعة لديه.
﴿ سبحانه عما يشركون ﴾ أي تنزيها له عن شركهم في ألوهيته بدعاء غيره معه أو من دونه، وفي ربوبيته بطاعة الرؤساء في التشريع الديني بدون إذنه.
وأمره تعالى بعبادته وحده على لسان موسى عليه السلام جاء في مواضع من التوراة، منها أول الوصايا العشر التي جاءت في سفر الخروج : أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورا مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض من تحت، ولا مما في الماء تحت الأرض، لا تسجد لهن، ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك له غيور الخ.
وأمره بعبادته وعلى لسان عيسى كثيرا أيضا، من ذلك ما رواه يوحنا في إنجيله : وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ ( التوبة : ٣٠-٣٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح- قفّى على ذلك بشرح ذلك المجمل في هذه الآيات، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، وهذا بمنزلة الشرك بالله فإن طرق الشرك مختلفة، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا يحرّمون ويحللون، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله وصحة دينه.
تفسير المفردات :
والإرادة : القصد إلى الشيء، وقد تطلق على ما يفضي إليه وإن لم يرده فاعله فيقال في الرجل المسرف المبذّر : يريد أن يخرب بيته أي أن تبذيره يفضي على ذلك فكأنه يقصده، لأن فعله فعل من يقصد ذلك. ونور الله : هو دين الإسلام.
الإيضاح :
﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ﴾ أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله وهو دين الإسلام الذي أرسل به جميع رسله، وأفاضه على البشر بما أوحاه على موسى وعيسى وغيرهما من رسله، وأتمه وأكمله ببعثه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم- بالطعن في الإسلام والصد عنه بالباطل بمثل تلك الأقوال في عزير والمسيح، وبما ابتدعه لهم الرؤساء من التشريع حتى صار التوحيد الذي به وهو محض الشرك عندهم، وصار المربوب ربا على تفاوت بين فرقهم في ذلك.
وهكذا عادى أهل الكتاب الإسلام منذ البعثة المحمدية، وقصدوا إبطاله والقضاء عليه بالحرب والقتال ناحية، وبالطعن وإفساد العقائد من ناحية أخرى، وكل من الأمرين أرادوه لإطفاء نوره.
﴿ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ﴾ ببعثة محمد خاتم النبيين الذي أرسله إلى الخلق أجمعين وجعل آيته الكبرى وهي القرآن علمية عقلية وكفل حفظها إلى آخر الزمان، وبين لهم فيه ما يحتاجون إليه من عقائد يؤيدها البرهان، وتبطل بها عبادة الإنسان للإنسان، فضلا عن الأصنام والأوثان، وعبادات تتزكى بها النفس وتطهر من كل رجس، وتجعل كفاية الأغنياء للفقراء حقوقا إلهية ويُبْطل ثوابها المنُّ والأذى، وآداب تطبع في الأنفس الفضائل، وتشريع يجمع بين الرحمة والعدل والمساواة بين جميع الناس في الحق.
وخلاصة ما سلف : إنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده وركنه الركنين، وأساسه المتين توحيد الربوبية والألوهية، فتحولوا عنه إلى الشرك والوثنية، والله لا يريد إلا أن يتم هذا النور الذي هو كنور القمر فيجعله بدرا كاملا يعم نوره الأرض كلها.
﴿ ولو كره الكافرون ﴾ ذلك بعد تمامه كما كانوا يكرهونه من قبل حين بدء ظهوره، فهم يكيدون له ويفترون عليه ويطعنون فيه، وفيمن جاء به ويحاولون إخفاءه.
أما اليهود فكانوا في أول الإسلام أشد الناس عداوة لأهله، فهم في ذلك كمشركي العرب سواء.
ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم قصدوا إطفاء نوره ببثّ البدع فيه وتفريق كلمة أهله كما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيّع لعلي كرّم الله وجهه والغلوّ في ذلك وإلقاء الشقاق بين المسلمين، ثم في الفتنة بين عليّ ومعاوية، ولولا ذلك لما قتل أولئك الألوف من صناديد المسلمين، ثم ما كان من منافقيهم من الإسرائيليات الكاذبة التي لا تزال مبثوثة في تضاعيف كتب التفسير والحديث والتاريخ.
وأما النصارى فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم، وأكرم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم، ومنعهم من تعدي المشركين عليهم، ثم انقلب الأمر بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب، فتودد اليهود للمسلمين لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستعبادهم، وصار نصارى أوروبا المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين يقاتلون المسلمين ويعادونهم دون نصارى هذه البلاد، لأنهم رأوا من عدل المسلمين ما فضّلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم- إلى أن جاءت الحروب الصليبية فغلا نصارى أوربا في عداوة المسلمين ولا يزال الأمر كذلك في هذا العصر كما هو مشاهد معروف.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ ( التوبة : ٣٠-٣٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح- قفّى على ذلك بشرح ذلك المجمل في هذه الآيات، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، وهذا بمنزلة الشرك بالله فإن طرق الشرك مختلفة، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا يحرّمون ويحللون، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله وصحة دينه.
تفسير المفردات :
وأظهره على الشيء : جعله فوقه مستعليا عليه.
الإيضاح :
ثم بيّن إتمام نوره فقال :
﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾ أي إنه تعالى كفل إتمام هذا النور بإرسال رسوله الأكمل بالهدى والدين الحق لا يغيّره دين آخر ولا يبطله شيء آخر.
ثم ذكر الغاية من إرسال محمد خاتم النبيين بدين الحق فقال :
﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ أي ليعلي هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان، والهداية والعرفان، والسيادة والسلطان، ولم يكن لدين من الأديان مثل ما للإسلام من التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي.
روى أحمد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( يا عدي أسْلم تَسْلم ). قلت : إني من أهل دين، قال :( أنا أعلم بدينك منك ). فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال ( نعم، ألست من الرّكوسية- دين بين الصائبة والنصرانية- وأنت تأكل مرباع قومك ) - والمرباع ما قال كان يأخذه رئيس القوم من الغنائم وهو من عادات الجاهلية-. قلت : بلى : قال :( فإن هذا لا يحل بذلك في دينك ). قال : فلم يعْدُ أن قالها فتواضعت لها، قال :( أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ؟ تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة ؟ ) قلت : لم أرها ولكن سمعت بها. قال :( فوالذي نفسي بيده ليتمّن الله هذا الدين حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز ). قلت : كسرى ابن هرمز ؟ قال :( نعم كسرى ابن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد ).
قال عديّ : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها.
﴿ ولو كره المشركون ﴾ ذلك بالإظهار، وقد وصفهم بالشرك بعد أن وصفهم بالكفر للدلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرسول وتكذيبه والشرك بالله.
وفي الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه وإظهاره وجميع الأديان سيكون بالرغم من جميع الكفار المشركين منهم وغير المشركين.
﴿ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ ( التوبة : ٣٤-٣٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه في الآيات السالفة أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأنهم ما أمِروا إلا ليعبدوا إلها واحدا فعبدوا غيره من دونه- قفّى على ذلك بذكر سيرة جمهرة هؤلاء الرؤساء الدينيين في معاملاتهم مع الناس، ليعرف المسلمون حقيقة أحوالهم والدواعي التي تحملهم على إطفاء نور الله، ببيان أن أكثرهم عباد شهوات وأرباب أهواء وذوو أطماع وحرص على أموال الناس بالباطل، وأنه ما حملهم على مقاومة الإسلام إلا خوف ضياع تلك اللذات، وفوات تلك الشهوات. ثم أوعد الباخلين الذين يكنزون الذهب والفضة في صناديقهم ولا ينفقونها في سبل البر والخير- بالعذاب الأليم في نار جهنم يوم يحمي على تلك الأموال المكنوزة فتصير كالنار التهابا ثم تكوى بها الجباه والجنوب والظهور ويقال لهم : هذا جزاء صنيعكم في الدنيا، منعتموه البائس الفقير لتتمتعوا به فكان جزاؤكم أن صار وبالا عليكم وميسما تَكْتَوون به على جنوبكم وظهوركم فلم تنتفعوا به في دين ولا دنيا.
تفسير المفردات :
أكل الأموال : يراد به أخذها والتصرف فيها بسائر وجوه الانتفاع. والصد : المنع. وسبيل الله : هي طريق معرفته الصحيحة وعبادته القويمة، وأساس ذلك التوحيد والتنزيه. والكنز هنا : خزن الدنانير والدراهم في الصناديق، أو دفنها في التراب مع الامتناع عن الإنفاق فيما شرعه الله من البر والخير.
الإيضاح :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾ أي إن كثيرا من الأحبار والرهبان أشْرِبت قلوبهم حبَّ المال والجاه، فمن أجل حب الأول أكلوا أموال الناس بالباطل، ومن أجل حب الثاني صدوا عن سبيل الله، فإنهم لو أقروا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة دينه لزمهم أن يتابعوه فيبطل حكمهم وتزول حرمتهم، ومن ثم كانوا يبالغون في المنع من متابعته وصد الناس عنه.
وأكل الأموال بالباطل : أخذها بغير حق شرعي، ويقع ذلك على صور مختلفة منها :
أخذها رِشْوة لأجل الحكم أو المساعدة على إبطال الحق وإحقاق باطل، ويقوم به صاحب السلطة الدينية أو المدنية، رسمية كانت أو غير رسمية.
أخذها بالربا وهو فاش عند اليهود. ، ومنه ما يُحِلُّه رجال الدين، وإن كانوا يحرمونه في الفتوى وكتب التشريع وأحبارهم يفتونهم بأكل الربا من غير الإسرائيليين ويأكلونه معهم مستحلين له بنص توراتهم المحرفة بدلا من نهيهم عنه وهو : لا تُقْرِض أخاك بربا فضة أو ربا شيء مما يقرض بربا، للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرضه بربا، لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها.
وكذلك عند النصارى، وقد وضع لهم الأساقفة أحكاما للربا والقروض فيما يسمونه اللاهوت الأدبي، فأباحوا فيه بعض الربا دون بعض.
أخذ سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم- هدايا ونذورا، والوقف على الدير أو الكنيسة قربة عندهم كالوقف على المسجد عندنا، فأخذ المال وإعطاؤه لبناء المعابد مشروع في كل دين، لكن البدعة الوثنية أن يوضع في المعبد قبر أو صورة أو تمثال فيه صاحبه مع الله تارة ومن دونه أخرى، وينذر له وحده حينا ومع الله آخر، فهذه بدع تتبرأ منها أديان الأنبياء جميعا، والنفقة فيها من الباطل، وآكلوها من رؤساء الدين وسدنة المعابد من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.
بذلها لمن يعتقدون فيهم الصلاح والزهد في الدنيا ليدعوا لهم ويشفعون عند الله في قضاء حاجاتهم وشفاء مرضاهم، اعتقادا منهم أن الله يستجيب دعاءهم ولا يردّ شفاعتهم، أو لظنهم أن الله قد أعطاهم تصرفا في الكون يقضون به الحاجات من دفع الضر عمن شاءوا وجلب الخير لمن أحبوا، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون الضالون وقالوا إنها لا تنافي التوحيد الذي جاء به الرسل.
أخذها جُعْلا على مغفرة الذنوب، ويتوسلون إلى ذلك بما يسمونه سر الاعتراف، فيأتي الرجل والمرأة لدى القسيس أو الراهب الذي يأذن له الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب، فيخلو به أو بها فيقص عليه الخاطئ ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها لأجل أن يغفرها له، وهم يعتقدون أن ما يغفره هؤلاء يغفره الله.
وهذا الجعل يتفاوت ثروة المشترين من الملوك والأمراء وكبار الأغنياء فمن دونهم، ويعطون بالمغفرة صكوكا يحملونها ليلقَوِا بها الله تعالى.
وتلك الطقوس خاصة بالأرثوذكس والكاثوليك، وكانت هذه الأسباب التي أدت إلى الانقلاب الكبير الذي يسمونه الإصلاح ( البروتستانت ) إذ ترتب على هذه العقيدة فساد كبير في استباحة الفواحش والمعاصي، وقد كان الاعتراف أولا بلا ثمن، ولكن رجال الدين جعلوه وسيلة لسلب الأموال والغنى بغير وجه صحيح.
أخذهم للأموال على فتاوى لتحليل الحرام والحلال إرضاء لشهوات الملوك وكبار الأغنياء، أو الانتقام من أعدائهم، أو بظلم رعاياهم، فهم يعملون ضروبا من الحيل والتأويلات يصورون بها الوقائع بغير صورها ومن ثم خاطب الله أحبار اليهود خطاب احتجاج وتوبيخ بقوله :﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ ﴾ ( الأنعام : ٩١ ).
أخذها من أموال مخالفيهم في الجنس أو الدين خيانة وسرقة ونحو ذلك كما قال تعالى :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ ( آل عمران : ٧٥ ).
وفي سرد ما خالف اليهود فيه الحق وادعوا أنه مشروع لهم يقول البوصيري :
وبأن أموال الطوائف حلّلت لهم ربا وخيانة وغلوّا
وصدهم عن سبيل الله هو منعهم الناس عن معرفة الله معرفة صحيحة، وعبادته على الوجه الذي يرضيه، ولا عجب فهم مشركون غير موحدين كما علمت مما سلف، فهم لا يعبدون الله بما شرعه الله، بل بما شرعه البشر، واليهود قد كفروا بالمسيح وهو المصلح الأكبر في شريعتهم، والنصارى يعبدون المسيح وأمه والقديسين، وجلّ عبادتهم من صلاة وصيام لم تكن في عهد المسيح.
ومن أنكى طرقهم في الصد الطعن في النبي الأعظم والكتاب الكريم، وإفسادهم عقائد النشء في المدارس التي يتعلمون فيها، ولا يخفى ما لذلك من سوء الأثر في الدين والأخلاق والاجتماع.
﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ أي وكل من يكنز الذهب والفضة، ولا يخرج منهما الحقوق الواجبة، سواء أكان من الأحبار والرهبان أم كان من المسلمين ويؤيد هذا أن يزيد بن وهب قال : مررت بأبي ذر بالرّبذة- موضع بين مكة والمدينة- فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد، فقال : كنت بالشام فقرأت :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ فقال معاوية : هذه الآية نزلت في أهل الكتاب، فقلت : إنها فينا وفيهم، فصار ذلك سببا للوحشة بيني وبينه، فكتب إليّ عثمان أن أقْبِل إليّ، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لا تنحَّ قريبا، فقلت : إني والله لن أدع ما كنت أقول.
ومعنى قوله :﴿ ولا ينفقونها في سبيل الله ﴾ أي ولا يؤدون زكاتها، فقد أخرج مالك والشافعي عن ابن عمر قال : ما أُدِّي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تُؤد زكاتُه فهو كنز وإن كان ظاهرا. أخرج ابن عدي والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )أي مال أديت زكاته فليس بكنز( وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال :)لما نزلت هذه الآية ﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ كبُر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا ألا يُبْقِي لولده مالا بعده، فقال عمر : أنا أُفَرِّج عنكم، فانطلق وتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إنه قد كَبُر على أصحابك هذه الآية فقال :)إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليُطيِّب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم ). فكبر عمر رضي الله عنه، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم :( ألا أخبرك بخير ما يُكْنَز ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها الرجل سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته ).
﴿ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ ( التوبة : ٣٤-٣٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه في الآيات السالفة أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأنهم ما أمِروا إلا ليعبدوا إلها واحدا فعبدوا غيره من دونه- قفّى على ذلك بذكر سيرة جمهرة هؤلاء الرؤساء الدينيين في معاملاتهم مع الناس، ليعرف المسلمون حقيقة أحوالهم والدواعي التي تحملهم على إطفاء نور الله، ببيان أن أكثرهم عباد شهوات وأرباب أهواء وذوو أطماع وحرص على أموال الناس بالباطل، وأنه ما حملهم على مقاومة الإسلام إلا خوف ضياع تلك اللذات، وفوات تلك الشهوات. ثم أوعد الباخلين الذين يكنزون الذهب والفضة في صناديقهم ولا ينفقونها في سبل البر والخير- بالعذاب الأليم في نار جهنم يوم يحمي على تلك الأموال المكنوزة فتصير كالنار التهابا ثم تكوى بها الجباه والجنوب والظهور ويقال لهم : هذا جزاء صنيعكم في الدنيا، منعتموه البائس الفقير لتتمتعوا به فكان جزاؤكم أن صار وبالا عليكم وميسما تَكْتَوون به على جنوبكم وظهوركم فلم تنتفعوا به في دين ولا دنيا.
تفسير المفردات :
ويحمى عليها : أي تضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها.
الإيضاح :
﴿ يوم يحمى عليها في نار جهنم ﴾ أي أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم في ذلك اليوم الذي يحمى فيه تلك الأموال المكنوزة في نار جهنم، أي بأن توضع وتضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها.
وفي الآية إيماء إلى أنه يحمى عليها بأعيانها، والله قادر على إعادتها وأمور الآخرة من عالم الغيب فلا ندرك كنهها ولا صفتها، فنفوض الأمر فيها إلى عالم الغيب وعلينا الاعتبار بما فيها من إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق.
روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا :( ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جُعِل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره ) وروي عنه :( من آتاه مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له شجاع -ذكر الحيات- أقرع له زبيبتان يُطَوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه- العظمان الناتئان تحت الأذن- يقول : أنا مالك وأنا كنزك )، ثم تلا صلى الله عليه وسلم :﴿ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ ( آل عمران : ١٨٠ ).
﴿ فتكوى بها جباههم وظهورهم ﴾ وخصت هذه الأعضاء دون بقية الجسد، لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس وأساريرهم منبسطة غبطة لعظم الثروة، ويستقبلون الفقراء، ووجوههم منقبضة من العُبوس، لينْفِروا ويُحْجِموا عن السؤال ولأن الجنوب والظهور كانوا يتقبلون به على سرر النعمة اضطجاعا واستلقاء ويُعْرضون بها عن لقاء المساكين وطلاب الحاجات، فلا يكون لهم في جهنم استراحة فيما سوى الوقوف إلا بالانكباب على الوجوه كما قال تعالى :﴿ يوم يسحبون في النار وعلى وجوههم ذوقوا مس سقر ﴾ ( القمر : ٤٨ ).
﴿ هذا ما كنزتم لأنفسكم ﴾ أي تقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم : هذا ما كنزتم لمنفعة أنفسكم فكان سبب مضرتها وتعذيبها، أو هذا الميسم الذي تُكْوَوْن به هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم لتنفردوا بالتمتع به.
﴿ فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾ أي فذوقوا وبال كنزكم له وإمساككم إياه عن النفقة في سبيل الله.
وخلاصة هذا : إن ما كنتم تظنونه من منفعة كنزه لأنفسكم لا يشارككم فيها أحد، قد كان لكم ضرا وعليكم ضدا، فقد صار في الدنيا لغيركم، وعذابه في الآخرة لأحقابكم.
وإن من أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي نراه في المسلمين عامة حتى تمكن أعداؤهم من سلب ملكهم ويحاولون صدهم عن دينهم- بُخْل أغنيائهم، إذ لو وجهوا همهم لإنشاء المدارس والمصانع والمعامل لتعليم النشء والعلوم الدينية والدنيوية من فنون الحرب وصنع الأسلحة لأمكنهم أن يخرجوا للأمة رجلا يحفظون الدين والملك ويعيدون إليها مجدها الزائل، ويجذبون المعتدين عليها إلى الإسلام ويدخلونهم فيه أفواجا أفواجا.
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( ٣٦ ) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ ( التوبة : ٣٦-٣٧ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات عود على بدء إلى الكلام في أحوال المشركين، وقد كان الكلام في قتال أهل الكتاب حيث يعطوا الجزية من قبيل الاستطراد اقتضاه ما قبله، وهو حكم قتال المشركين ومعاملتهم.
تفسير المفردات :
الشهور : واحدها شهر، وهو اسم للهلال سميت به الأيام، والكتاب : هو اللوح المحفوظ كما قال تعالى :﴿ عِلْمُهَا عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ ( طه : ٥٢ ). والحرم : واحدها حرام، من الحرية بمعنى التعظيم. والدين : الشرع. والقيم : أي الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه، وكافة : أي جميعا.
الإيضاح :
﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ﴾ أي إن مبلغ عدة الشهور اثنا عشر شهرا فيما كتبه الله وأثبته من نظام سير القمر وتقديره منازل منذ خلق السماوات والأرض على هذا الوضع المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن.
والمراد بقوله : يوم خلق السماوات والأرض، الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه ونهايته في جملته وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله وخلق كل منهما وما فيهما.
وقوله :﴿ في كتاب الله ﴾، أي نظام الخلق والتقدير والسنن الإلهية فيه، أو في حكمه التشريعي كحرمة الأشهر الحرم، وكون الحج أشهر معلومات، وكون ما يتعلق بالشهور من الفرائض والسنن : كالحج والصيام وعدة المطلقات والرضاع، فالمعتبر فيه الأشهر القمرية، ومن حكمة ذلك : أنه يجعل الصيام والحج يدور في جميع أجزاء السنة، ومنها ما يشقّ فيه أداؤهما، ومنها ما يسهل ذلك.
﴿ منها أربعة حرم ﴾ أي منها أربعة فرض الله احترامها وحرّم فيها القتال على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولي والعلمي وإن كانت قد أخلت بذلك أحيانا إتباعا لأهواها، وهذه الأشهر منها ثلاثة متواليات، وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، وواحد فرد وهو رجب.
روى أحمد عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق قال :( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان )، ثم قال :( ألا أيُّ يوم هذا ؟ ) قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال :( أليس يوم النحر )، قلنا : بلى. ثم قال :( أي شهر هذا ) قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، ثم قال :( أليس ذا الحجة ؟ ) قلنا : بلى ثم قال :( أيُّ بلد هذا ؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال ( أليست البلدة ؟ ) قلنا بلى ؛ قال :( فإن دماءكم وأموالكم- وأحسبه قال- وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستَلْقَون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ؛ ألا لا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ؛ ألا هل بلّغت ؟ ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه ).
﴿ ذلك الدين القيم ﴾ أي ما ذكر من عدة الشهور وتقسيمها إلى حرم وغيرها وعدد الحرم منها- هو الحق الذي يدان الله تعالى به النسيء.
وقد يكون المعنى : ذلك هو الشرع الصحيح الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في الحج وغيره، وما يتعلق بالأشهر من الأحكام، وقد تمسكت العرب به وراثة منهما حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه أو أخيه فلا يعْرِض بسوء على شدتهم في أخذ الثأر وضراوتهم بسفك الدماء.
﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾ أي فلا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظّمها وعظم حرمتها.
وقد خُصّ بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تقتضي ترك المحرمات فيها تنشيطا للنفوس على زيادة العناية بما يزكّيها ويطهرها، فقد جرت عادة الإنسان أن يسأم الاستمرار على حال واحدة تشق عليه، ومن ثم جعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة في أدائها كالصلوات الخمس، وخُصّ يوم الجمعة بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين تذكيرا وموعظة حسنة تُقَوّي في المؤمن حب الخير والتعاون على البر والتقوى، وخص رمضان بوجوب صيامه في كل سنة، وخص أياما معدودات من ذي الحجة بأداء مناسك الحج، وجعل ما قبلها وما بعدها من الأيام الحرام استعدادا للسفر لأداء النسك، وحرم مكة وما حولها في جميع السنة لتأمين الحج والعمرة التي تؤدّى في كل وقت، وحرم رجب في وسط السنة لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه.
﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ أي قاتلوهم جميعا وكونوا يدا واحدة على دفع عدوانهم وكفّ أذاهم كما يقاتلونكم كذلك أنهم إنما يقاتلونكم لدينكم وإطفاء نوره لا للانتقام لا للعصبية ولا لكسب المال كما هو دأبهم في قتال قويّهم لضعيفهم، فأنتم حينئذ أجدر وأولى بالاتحاد لدفع العدوان وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى، والله عزيز حكيم.
﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ بنصرهم ومعونتهم وتوفيقهم لما فيه خيرهم وصلاحهم، فمن يتق الظلم والعدوان في الأرض وأسباب الفشل والخذلان في القتال من تفرق الكلمة واختلاف الأهواء ومخالفة سنن الله في الاجتماع- يكن الله معه، ومن كان الله معه فلا يغلبه أحد.
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( ٣٦ ) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ ( التوبة : ٣٦-٣٧ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات عود على بدء إلى الكلام في أحوال المشركين، وقد كان الكلام في قتال أهل الكتاب حيث يعطوا الجزية من قبيل الاستطراد اقتضاه ما قبله، وهو حكم قتال المشركين ومعاملتهم.
تفسير المفردات :
والنسيء : من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة : إذا أخره، أي الشهر الذي أنسئ تحريمه : أي أخر عن موضعه.
الإيضاح :
﴿ إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ﴾ المراد بالنسيء تأخير حرمة شهر إلى آخر.
بيان هذا : أن العرب ورثت من ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه، ولما طال عليهم الأمد غيروا وبدلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر ولا سيما المحرم، إذ كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارة ثلاثة أشهر متواليات فأحلوا شهر المحرم وأنسئوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة كما كانت، وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم.
وقد كان من عادتهم في ذلك أن يقوم رجل من كنانة في أيام منى حيث يجتمع الحجيج فيقول : أنا الذي لا يُرَدّ لي قضاء، فيقولون صدقت، فأخِّرْ عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالا، ثم صاروا ينسئون غير المحرم ويسمون النسيء باسم الأصل، فتتغير أسماء الشهور كلها.
وبذلك يعلم أن النسيء تشريع ديني ملتزم غيَّروا به ملة إبراهيم إتباعا للهوى وسوء التأويل، ومن ثم سماه الله زيادة في الكفر، أي إنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله زائد على شركهم بالله وكفرهم به، إذ حق التشريع له وحده، فمنازعته في ذلك شرك في ربوبيته، وهم يضلون به سائر الكفار الذين يتبعونهم فيه ويظنون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم، إذ واطئوا عدة ما حرم الله من الشهور في ملته ولم يزيدوا ولم ينقصوا وإن قدموا وأخروا مع أن المقصد في ذلك العدد والتخصيص لا مجرد العدد، وإذ لم يفعلوا ذلك فقد استحلوا ما حرم الله.
﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ أي زين لهم الشيطان أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة، إذ اكتفوا بالعدد ولم ينقصوا منه شيئا ولم يدركوا حكمة التخصيص بالأشهر المعينة.
﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ إلى الحكمة في أحكام شرعه وجعلها مبنية على مصالح الناس في دينهم ودنياهم أفرادا وجماعات، فالهداية الموصلة إلى سعادة الدارين من آثار الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم الله بإيمانهم ﴾ ( يونس : ٩ ).
وأما الكافرون فيتبعون أهواءهم وما يوسوس لهم به الشيطان فيوقعهم في الشقاء والخسران.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ( ٣٨ ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٣٩ ) ِإلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٣٨-٤٠ ).
المعنى الجملي : الكلام من هنا إلى آخر السورة كلام في غزوة تبوك وما لابسها من هتك ستر المنافقين وضعفاء الإيمان وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق، إلا آيتين جاءتا في آخرها وإلا ما جاء في أثنائها من بعض الحكم والأحكام جريا على سنة القرآن في أسلوبه الذي اختص به.
ومناسبة الآيات لما قبلها أن الكلام السابق كان في حكم القتال مع اليهود وبيان حقيقة أحوالهم من خروجهم من هداية الدين في العقائد والأعمال والفضائل التي تهذب النفوس وتزكيها، والكلام هنا في غزوة تبوك والمراد بها قتال الروم وأتباعهم من عرب الشام وجميعهم نصارى، وبهذا استبان ارتباط الآيات بما قبلها.
وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، فهي تبعد عن الأولى ٦١٠ كلم وعن الثانية ٦٩٢ كلم وكان السبب في هذه الغزوة ما بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة من أن الروم جمعت جموعا معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب حتى وصلت طلائعهم إلى البلقان بإمرة قائد عظيم منهم يدعي قباذ وعدد جنده أربعون ألفا، فندب النبي صلى الله عليه وسلم للخروج لقتالهم وأعلمهم الجهة التي يغزونها.
وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة، فقال : يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية من الفضة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يضر عثمان ما عمل بعدها ) ثم خرج لمقابلتهم، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان كذلك في رجب سنة تسع.
تفسير المفردات :
النفر والنفور : الفرار من الشيء أو الإقدام عليه بخفة ونشاط، يقال : نفرت الدابة الغزال نفورا، ونفر الحجيج من عرفات نفرا، واستنفر الملك العسكر إلى القتال وأعلن النفير العام فنفرا خفافا وثقالا. والتثاقل : التباطؤ، وهو من الثقل المقتضي للبطء. والمتاع : ما يتمتع به من لذات الدنيا.
الإيضاح :
﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ﴾ الخطاب للمؤمنين في جملتهم تربية لهم بما لعله وقع من منافقيهم وضعفائهم- أي يا أيها الذين آمنوا ما الذي عرض لكم ما يُخِل بالإيمان أو بكماله من التثاقل والتباطؤ عن النهوض بما طلب منكم، وإخلادكم إلى الراحة واللذة، حين قال لكم الرسول : انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق الذي هو سبيل سعادتكم ؟
فآية صدق الإيمان بذل النفس والمال في سبيل الله كما قال :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ﴾ ( الحجرات : ١٥ ).
وكان من أسباب تثاقلهم أمور :
إن الزمن كان وقت حر شديد.
إنهم كانوا قريبي عهد بالرجوع إلى غزوتي الطائف وحُنَين.
إنهم كانوا في عسرة شديدة وجهد جهيد من قلة الطعام.
إن موسم الرطب بالمدينة قد تم صلاحه، وآن وقت تلطف الحر، لأن رجبا وافق أكتوبر في تلك السنة.
روى ابن جرير عن مجاهد قال : أُمِروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حنين وبعد الطائف، أمروا بالنفير في الصيف حين اخترفت النخل- اجتُني ثمرها- وطابت الثمار واشتهُوا الظلال وشق عليهم المَخْرَج فقالوا منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره في ذلك كله.
وكان من دأب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أن يورّي بغيرها لما تقتضيه المصلحة من الكتمان إلا في هذه الغزوة فقد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبُعْد الشقة وقلة الزاد والظهر.
وكانت حكمة الله في إخراجهم- وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالا- تمحيص المؤمنين وخزي المنافقين وفضيحتهم فيما كانوا يُسِرّون من الكفر وتربص الدوائر بالمؤمنين.
﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ﴾ أي أرضيتم بلذات الدنيا الناقصة الفانية بدلا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية ؟ ومن يفعل ذلك فقد استبدل هو أدنى بالذي هو خير.
﴿ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ﴾ أي فما هذا الذي تتمتعون به في الدنيا مشوبا بالمنغصات والآلام إذا قيس بما في الآخرة من النعيم المقيم، والرضوان من المولى إلا شيء قليل لا يرضى عاقل أن يتقبله بدلا منه.
روى أحمد ومسلم والترمذي عن المسور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( والله ما في الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها، فلينظر بما يرجع ؟ ) أي إن نعيم الدنيا في قلته وقلة زمنه إذا قيس إلى نعيم الآخرة الطويل الأمد كانت تلك حاله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ( ٣٨ ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٣٩ ) ِإلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٣٨-٤٠ ).
المعنى الجملي : الكلام من هنا إلى آخر السورة كلام في غزوة تبوك وما لابسها من هتك ستر المنافقين وضعفاء الإيمان وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق، إلا آيتين جاءتا في آخرها وإلا ما جاء في أثنائها من بعض الحكم والأحكام جريا على سنة القرآن في أسلوبه الذي اختص به.
ومناسبة الآيات لما قبلها أن الكلام السابق كان في حكم القتال مع اليهود وبيان حقيقة أحوالهم من خروجهم من هداية الدين في العقائد والأعمال والفضائل التي تهذب النفوس وتزكيها، والكلام هنا في غزوة تبوك والمراد بها قتال الروم وأتباعهم من عرب الشام وجميعهم نصارى، وبهذا استبان ارتباط الآيات بما قبلها.
وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، فهي تبعد عن الأولى ٦١٠ كلم وعن الثانية ٦٩٢ كلم وكان السبب في هذه الغزوة ما بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة من أن الروم جمعت جموعا معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب حتى وصلت طلائعهم إلى البلقان بإمرة قائد عظيم منهم يدعي قباذ وعدد جنده أربعون ألفا، فندب النبي صلى الله عليه وسلم للخروج لقتالهم وأعلمهم الجهة التي يغزونها.
وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة، فقال : يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية من الفضة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يضر عثمان ما عمل بعدها ) ثم خرج لمقابلتهم، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان كذلك في رجب سنة تسع.
الإيضاح :
﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ﴾ أي إن لم تخرجوا إلى ما دعاكم الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج إليه- يعذبكم عذابا أليما في الدنيا يهلككم به كقحط وغلبة عدو، ويستبدل بكم قوما غيركم يطيعونه ويطيعون رسله، لأنه قد وعد بنصره، وإظهار دينه على الدين كله ﴿ ولن يخلف الله وعده ﴾ ( الحج : ٤٧ ).
وقد جرت سنته بأن الأمم التي لا تدافع عن نفسها ولا تحمي ذمارها، لا بقاء لها، وتكون طعاما للآكلين، وغذاء شهيا للمستعمرين.
﴿ ولا تضروه شيئا ﴾ أي ولا تضروا الله شيئا من الضرر في تثاقلكم عن طاعته ونصرة دينه، فهو الغني عنكم في كل أمر، وهو القاهر فوق عباده، وكل من في السماوات والأرض مسخرا بأمره، ولكن قد جعل للبشر شيئا من الاختيار ليكون حجة عليهم فيما سيلقون من الجزاء على أعمالهم.
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ أي والله قادر على كل شيء، فهو يقدر على إهلاككم والإتيان بغيركم- إن أصررتم على عصيان رسوله وتثاقلتم عن الدفاع عن حوزة دينه- ممن يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ولا يخشون في الحق لومة اللائمين كما قال :﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ ( محمد : ٣٨ ).
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ( ٣٨ ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٣٩ ) ِإلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٣٨-٤٠ ).
المعنى الجملي : الكلام من هنا إلى آخر السورة كلام في غزوة تبوك وما لابسها من هتك ستر المنافقين وضعفاء الإيمان وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق، إلا آيتين جاءتا في آخرها وإلا ما جاء في أثنائها من بعض الحكم والأحكام جريا على سنة القرآن في أسلوبه الذي اختص به.
ومناسبة الآيات لما قبلها أن الكلام السابق كان في حكم القتال مع اليهود وبيان حقيقة أحوالهم من خروجهم من هداية الدين في العقائد والأعمال والفضائل التي تهذب النفوس وتزكيها، والكلام هنا في غزوة تبوك والمراد بها قتال الروم وأتباعهم من عرب الشام وجميعهم نصارى، وبهذا استبان ارتباط الآيات بما قبلها.
وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، فهي تبعد عن الأولى ٦١٠ كلم وعن الثانية ٦٩٢ كلم وكان السبب في هذه الغزوة ما بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة من أن الروم جمعت جموعا معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب حتى وصلت طلائعهم إلى البلقان بإمرة قائد عظيم منهم يدعي قباذ وعدد جنده أربعون ألفا، فندب النبي صلى الله عليه وسلم للخروج لقتالهم وأعلمهم الجهة التي يغزونها.
وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة، فقال : يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية من الفضة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يضر عثمان ما عمل بعدها ) ثم خرج لمقابلتهم، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان كذلك في رجب سنة تسع.
تفسير المفردات :
والغار : النقب العظيم في الجبل والمراد به هنا غار جبل ثور. والصاحب : هو أبو بكر رضي الله عنه. والسكينة : سكون النفس واطمئنانها وهو ضد الانزعاج والاضطراب. وكلمة الله : هي التوحيد. وكلمة الذين كفروا : هي الشرك والكفر.
الإيضاح :
ثم رغبهم ثانية في الجهاد فأبان لهم أنه تعالى المتوكل بنصره- على أعداء دينه- أعانوه أو لم يعينوه وهو قد فعل ذلك به وهو في قلة من العدد والعدو في كثرة، فكيف وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة فقال :
﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ﴾ أي إن لم تنصروا الرسول الذي استنصركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أعداء الله وأعداء رسوله فسينصره الله بقدرته وتأييده. كما نصره حين أجمع المشركون على الفتك به واضطروه إلى الخروج والهجرة حال كونه أحد اثنين وثانيهما أبو بكر في غار جبل ثور حين كان يقول لصاحبه إذ رأى منه أمارة الحزن : ولا تخف ولا تحزن إن الله معنا بنصره ومعونته وحفظه وتأييده فلن يعلم بنا المشركون ولن يصلوا إلينا.
روى البخاري ومسلم من حديث أنس قال : حدثني أبو بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه، فقال عليه الصلاة والسلام :( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ).
وخلاصة ذلك : إلا تنصروه بالنّفر لما استنفركم له، فإن الله قد ضمن له النصر فهو ينصره كما نصره في الوقت الذي اضطره المشركون إلى الهجرة، حين كان ثاني اثنين في الغاز وكان صاحبه قد ساوره في الحزن فقال له : لا تحزن إن الله معنا، ونحن لا نكلّف أكثر مما فعلنا من الاستخفاء.
﴿ فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ﴾ أي فأنزل الله طمأنينته التي يسكن عندها القلب على رسوله وقوّاه بجنود من عنده وهم الملائكة الذين أنزلهم يوم بدر والأحزاب واحد، وقيل بل هم ملائكة أيده بهم في حال الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما، فقد خرج والشبان المتواطؤون على قتله وقوف ولم ينظروه.
﴿ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ﴾أي وجعل كلمة الشرك والكفر هي السفلى، وكلمة الله وهي دينه المبني على أساس توحيده تعالى والمشتمل على الأحكام والآداب الفاضلة، والخالي من شوائب الشرك وخرافات الوثنية- هي العليا بظهور نور الإسلام وإزالة سيادة المشركين في تلك الجزيرة بعد كفاح طويل دارت فيه الدائرة عليهم :﴿ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ﴾ ( الأنعام : ١١٥ ).
﴿ والله عزيز حكيم ﴾ أي والله غالب على أمره، حكيم إذ يضع الأشياء في مواضعها وقد نصر رسوله بعزته وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته، وأذل من ناوأه من المشركين.
﴿ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ( التوبة : ٤١ ).
المعنى الجملي : بعد أن توعد من لم ينفروا مع الرسول وتثاقلوا حين استنفرهم- أتبعه بالأمر الجزم الذي لا هوادة فيه، فأوجب النفير العام على كل فرد، فلا عذر لأحد في التخلف وترك الطاعة.
الإيضاح :
﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ الخفاف واحدها خفيف، والثقال واحدها ثقيل، وهما يكونان في الأجسام وصفاتها من صحة ومرض ونحافة وسمن ونشاط وكسل، وشباب وكبر، ويكونان في الأسباب والأحوال كالقلة والكثرة في المال، ووجود الراحة وعدم وجودها الراحلة وجودها، ووجود الشواغل أو انتفائها.
أي انفروا على كل حال من يسر أو عسر وصحة أو مرض وغنى أو فقر وقلة العيال أو كثرتهم أو غير ذلك مما ينتظم في مساعدة الأسباب أو عدم مساعدتها بعد الإمكان والقدرة في الجملة.
فإذا أُعْلن النفير العام وجب الامتثال إلى حال العجز التام، وهو ما بينه الله تعالى في قوله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ( التوبة : ٩١ ).
ويؤيد هذا التعميم في عموم الأحوال قول أبي أيوب الأنصاري وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة : قال الله :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا، وروي عن أبي راشد الحرّاني قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحِمْص- وقد فضل عنها من عُظْمِه- يريد الغزو، فقلت قد أعذر الله إليك، فقال أبت علينا سورة البعوث يريد براءة ﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾.
وقد فهم سلفنا الصالح القرآن على هدى النبي وعمله ففتحوا البلاد وسادوا العباد، لكن بعد أن انحرفوا عن هديه وتدبر معانيه واكتفوا بتلاوته والتغني بألفاظه ذلوا وضعفوا واستكانوا وسادتهم الشعوب الأخرى وتقوض ملكهم من أطرافه وأصبحوا من المستضعفين وصاروا عبيدا لأعدائهم.
﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ﴾ أي وجاهدوا أعداءكم الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت ويفسدون في الأرض، وابذلوا أموالكم وأنفسكم في إقامة ميزان العدل وإعلاء كلمة الحق.
فمن استطاع منكم الجهاد بماله ونفسه وجب عليه ذلك، ومن قدر على أحدهما وجب عليه ما كان في مقدرته.
وقد كان المسلمون في الصدر الأول ينفقون على أنفسهم من أموال ويبذلونها لغيرهم إن استطاعوا كما فعل عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة في هذه الغزوة، وكما فعل غيره من ذوي اليسار من الصحابة.
ولما أصبح في بيت المال فضلة من المال بكثرة الغنائم صار الملوك والسلاطين يجهزون الجيوش من بيت المال، وكذلك تفعل الآن الدول المتمدنة، فتخصص جزءا من المال كل عام للنفقات الحربية من برية وبحرية، ويزداد هذا المال إذا دعت الحاجة إلى زيادته، بل قد يجعلون أموال الدولة كلها ومرافقها وقفا على المصالح الحربية، وقد كان المسلمون أحق منهم بذلك وأجدر.
﴿ ذلكم خير لكم ﴾ أي ذلكم الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو الوسيلة في حفظ كيان الأمم وعلو كلمتها- خير لكم في دينكم ودنياكم ؛ أما في الدين فلا سعادة إلا لمن ينصر الحق ويقيم العدل بإتباع هدى الدين والعمل بالشرع الحكيم.
وأما في الدنيا فإنه لا عز للأمم ولا سيادة لها إلا بالقوة الحربية التي هي وسيلة لدفاع العدو وكبح جماحه.
﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي إن كنتم تعلمون ذلك علما يبعث على العمل، فانفروا وجاهدوا، وقد علم فضل ذلك المؤمنون الصادقون فامتثلوا أمره واهتدوا بهديه.
ولما أمرهم بالنفر تخلف بعض المنافقين لأعذار ضعيفة، وتخلف ناس آخرون من المؤمنين فأنزل الله في أثناء السفر قوله :
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ ( التوبة : ٤٢-٤٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن رغبهم سبحانه في الجهاد في سبيل الله، وبين أن فريقا منهم تباطؤوا وتثاقلوا قفّى على ذلك ببيان أن فريقا منهم تخلفوا عنه مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية، ويستأذنونه صلى الله عليه وسلم في القعود والتخلف ليأذن لهم.
تفسير المفردات :
العرض : ما يعرض للمرء من منفعة ومتاع مما لا ثبات له ولا بقاء وليس في الوصول إليه كبير عناء، ويقال سير قاصد وسفر قاصد : أي هين لا مشقة فيه من القصد وهو الاعتدال. والشقة : الطريق لا تقطع إلا بعناء ومشقة.
الإيضاح :
﴿ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ﴾ أي لو كان ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال ليس في الوصول إليها كبير عناء، وسفرا هينا لا تعب فيه، لاتبعوك وأسرعوا بالنفر إليه، إذ حب المنافع المادية والرغبة فيها طبيعي في الإنسان، ولاسيما إذا كانت سهلة المأخذ قريبة المنال وكان من يسعى إليها ممن لا يوقنون باليوم الآخر وما فيه من الثواب المقيم والأجر العظيم كأولئك المنافقين.
﴿ ولكن بعدت عليهم الشقة ﴾ أي ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد وكفلتهم سفرا شاقا، لأنك استنهضتهم وقت الحر وزمن القيظ، وحين الحاجة إلى الكِنّ، فتخلفوا جبنا وحبّا للراحة والسلامة.
﴿ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ﴾ أي وسيحلفون لك عند رجوعك من غزوة تبوك كما قال :﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ﴾ ( التوبة : ٩٤ ) قائلين : لو استطعنا الخروج إلى الجهاد وانتفت الأعذار المانعة منه لخرجنا معكم، فما كان تخلفنا إلا اضطرارا.
﴿ يهلكون أنفسهم ﴾ أي يهلكون أنفسهم بإيقاعهم في العذاب بامتهان اسم الله بالحلف الكاذب لستر نفاقهم وإخفائه، تأييدا للباطل بالباطل، وتقوية للإجرام بالإجرام، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع ).
﴿ والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾ في حلفهم بالله وقولهم لو استطعنا لخرجنا معكم، فهم كانوا للخروج مطيقين، إذ كانوا أصحاء الأبدان أقوياء الأجسام ذوي يُسْرة في المال.
ولما أمرهم بالنفر تخلف بعض المنافقين لأعذار ضعيفة، وتخلف ناس آخرون من المؤمنين فأنزل الله في أثناء السفر قوله :
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ ( التوبة : ٤٢-٤٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن رغبهم سبحانه في الجهاد في سبيل الله، وبين أن فريقا منهم تباطؤوا وتثاقلوا قفّى على ذلك ببيان أن فريقا منهم تخلفوا عنه مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية، ويستأذنونه صلى الله عليه وسلم في القعود والتخلف ليأذن لهم.
تفسير المفردات :
والعفو : التجاوز عن التقصير وترك المؤاخذة عليه.
الإيضاح :
ثم عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن تخلف عنه من المنافقين حين شخص إلى تبوك لغزو الروم فقال :
﴿ عفا الله عنك ﴾ أي عفا عنك ما أدى إليه اجتهادك من الإذن لهم حين استأذنوك وكذبوا عليك في الاعتذار.
﴿ لم أذنت لهم ﴾ أي لأي شيء أذنت لهم بالقعود والتخلف كما أرادوا، وهلا تريثت في الإذن لهم وتوقفت عنه حتى ينجلي أمرهم وينكشف حالهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله :
﴿ حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ﴾ أي حتى يتبين لك الفريقان، فتعامل كلاّ بما ينبغي أن يعامل به، فإن الكاذبين لا يخرجون، أذنت لهم أو لم تأذن، فكان من الأجدر بك أن تتلبّث في الإذن أو تمسك عنه اختبارا لحالهم.
روي عن مجاهد في قوله :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ هم ناس قالوا استأذنوا رسول الله، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وعن قتادة في قوله :﴿ والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾ لقد كانوا يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد.
﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) *وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ ( التوبة : ٤٤-٤٦ ).
المعنى الجملي : تقدم أن قلنا إن هذه السورة تسمى الفاضحة، لأنها فضحت أنواع النفاق وكشفت أحوال المنافقين، ومن ثم نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شؤونهم بهذا التفصيل حتى نزلت.
وهذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال.
الإيضاح :
﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾ أي ليس من شأن المؤمنين بالله الذين كتب عليهم القتال، وباليوم الآخر الذي يوفى فيه كل عامل جزاء ما عمل، أن يستأذنوك أيها الرسول في أمر الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم إذا جدّ ما يدعو إلى ذلك، بل يُقْدِمون عليه عند وجوبه من غير استئذان كما قال :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ﴾ ( الحجرات : ١٥ ). بل هم يستعدون له وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل.
وهم بالأولى لا يستأذنوك في التخلف عنه بعد إعلان النفر العام، وأقصى ما قد يقع من فريق منهم هو التثاقل والتباطؤ إذا كان النصر بعيدا.
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيْعة أو فزعا طار على متنه يبتغي القتل والموت في مظانّه الخ ). والمراد أن خير أعمال الرجل أن يُعِدّ فرسه رباطا في سبيل الله، كلما سمع صيحة لقتال، أو فزعة- أي دعوة للإغاثة- طار على فرسه يبتغي القتل والموت في مظانه- أي المواضع التي يظن أنه يلقى القتل فيها.
﴿ والله عليم بالمتقين ﴾ أي والله عليم بمن خافه فاتقاه باجتناب ما يسخطه وفعل ما يرضيه بالمسارعة إلى طاعته في غزو عدوه وجهادهم بماله ونفسه، وليس من دأبهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهة للقتال.
وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات ولا فضائل العادات كقِرى الضيف وإغاثة الملهوف وسائر أعمال المعروف.
﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) *وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ ( التوبة : ٤٤-٤٦ ).
المعنى الجملي : تقدم أن قلنا إن هذه السورة تسمى الفاضحة، لأنها فضحت أنواع النفاق وكشفت أحوال المنافقين، ومن ثم نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شؤونهم بهذا التفصيل حتى نزلت.
وهذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال.
الإيضاح :
ثم صرح بما فهم من الكلام السابق زيادة في التوكيد والتقرير فقال :
﴿ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ﴾ أي إنما يستأذنك في التخلف عن الجهاد معك في غير عذر من لا يصدقون بالله ولا يقرّون بتوحيده ولا باليوم الآخر، فهؤلاء يرون بذل المال مَغْرَما يفوّت عليهم بعض المنافع، وهم لا يرجون ثوابا عليه كما يرجو المؤمنون، ويرون الجهاد بالنفس آلاما ومتاعب، وقد وقع لهم الريب والشك في الدين من قبل، فلم تطمئن به قلوبهم، ولم تذعن له نفوسهم، فهم متحيّرون في أمرهم مذبذبون في عملهم، يوافقون المؤمنين فيما يسهل أداؤه من عبادات الإسلام من صلاة وصيام، ويلتمسون الخلاص فيما يشق عليهم من تكاليفه، ويعتذرون بالمعاذير الكاذبة للهرب من القيام بشيء منها.
وقد جاء في بعض الروايات أن عدد هؤلاء كان تسعة وثلاثين رجلا.
﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( ٤٥ ) *وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ ( التوبة : ٤٤-٤٦ ).
المعنى الجملي : تقدم أن قلنا إن هذه السورة تسمى الفاضحة، لأنها فضحت أنواع النفاق وكشفت أحوال المنافقين، ومن ثم نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شؤونهم بهذا التفصيل حتى نزلت.
وهذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال.
الإيضاح :
﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدة ﴾ أي ولو صحت نيتهم للخروج لاستعدوا له وأخذوا الأهبة من زاد وراحلة ونحو ذلك مما يحتاج إليه المسافر لمثل هذا السفر البعيد وقد كانوا مستطيعين لذلك ولم يفعلوا.
﴿ ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم ﴾ الانبعاث : توجيه الإنسان أو الحيوان إلى الشيء بقوة كبعث الرسل وبعث الموتى، والتثبيط : التعويق عن الأمر والمنع منه.
أي كره الله نَفْرهم وخروجهم مع المؤمنين لما فيه من الضرر العائق لهم عما أحبه من نصرهم، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من المخاوف التي هي مقتضى سننه من تأثير النفاق فيها، ومن ثم لم يُعِدّوا للخروج عدته، لأنهم لم يريدوه، وإنما أرادوا بالاستئذان ستر ما عزموا عليه من المخالفة والعصيان.
﴿ وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾ أي وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بعبارة تدل على السخط لا على الرضا، أي اقعدوا مع الأطفال والزّمْنَى والعجزة والنساء وهم قد حملوه على ظاهره لموافقته لما يريدون.
﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ ( التوبة : ٤٧-٤٨ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن استئذانهم في التخلف عن القتال إنما كان سترا لنفاقهم وتغطية لعصيانهم- قفّى على ذلك ببيان المفاسد التي كانت تنجُم من خروجهم لو خرجوا، وحصرها في أمور ثلاثة :
الاضطراب في الرأي وفساد النظام.
تفريق الكلمة بالسعي فيما بينكم بالنميمة.
إن فيكم ناسا من ضعفاء الإيمان يسمعون كلامهم ويقبلون قولهم.
تفسير المفردات :
الخبال : الاضطراب في الرأي والفساد في العمل، كضعف القتال والخلل في النظام، ويقال وضع الرجل إذا عدا مسرعا وأوضع راحلته إذا حملها على الإسراع. وخلال الأشياء : ما يفصل بينها من فروج ونحوها. والفتنة : التشكيك في الدين والتخويف من الأعداء. وسماعون لهم : أي ضعفاء العزيمة يسمعون
الإيضاح :
( ١ ) ﴿ ولو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ﴾ أي لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود معكم، ما زادوكم قوة ومَنَعة وإقداما كما هو الشأن في القوى المتحدة في العقيدة والمصلحة، بل زادوكم اضطرابا في الرأي وضعفا في القتال ومفسدة للنظام، كما حدث مثل ذلك في غزوة حنين، فقد ولّى المنافقون الأدبار في أول المعركة وولى على إثرهم ضعفاء الإيمان من طلقاء فتح مكة، ومن ثم اضطرب نظام الجيش، فولّى أكثر المؤمنين معهم بلا تدبر ولا تفكير كما هو الشأن في مثل هذه الأحوال.
( ٢ ) ﴿ ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ﴾ أي ولأسرعوا في الدخول فيما بينكم سعيا في النميمة وتفريق الكلمة، يبغون بذلك تثبيطكم عن القتال وتهويل أمر العدو وإيقاع الرعب في قلوبكم.
( ٣ ) ﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾ أي وفيكم ناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم يسمعون كلامهم، فإذا ألقوا إليهم شيئا مما يوجب ضعف العزائم قبلوه وفتروا بسببه عن القيام بأمر الجهاد ما ينبغي.
ووجه العتاب على الإذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى من المفاسد التي تترتب على خروجهم- أنهم لو قعدوا بغير إذن منه لظهر نفاقهم بين المسلمين بادئ ذي بدء، فلم يستطيعوا مخالطتهم ولا السعي فيما بينهم من الأراجيف وقالة السوء التي يقبح أثرها، وتسوء عاقبتها.
﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ علما يحيط بظواهرهم وبواطنهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر، وبما هم مستعدون له في كل حال مما وقع ومما لم يقع، فأحكامه فيهم على علم تام لا ظن فيه ولا اجتهاد كاجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم، والذي تثبت هذه الآية أنه شر لا خير فيه وهو ضعف لا قوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم، فهذا من أخبار الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وهو لم يعلمه قبل نزول هذه الآيات.
وقد كان من حكمة الله في تربية رسوله وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده فيها لتكون أوقع في نفسه ونفس أتباعه فيحرصوا على العمل بها، ولا يحَكموا أهواءهم فيها، وكذلك كان السلف الصالح يسيرون على نهجه، ويهتدون بهديه.
سورة التوبة- سورة براءة
عدد آياتها ثلاثون ومائة وهي مدنية
ولها أسماء كثيرة : منها الفاضحة لما تضمنته من ذكر أسرار المنافقين وأنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات، والمُدَمْدمة والمُخْزية.
وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك، وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ زمن العسرة، وفي أثنائها ظهر من علامات نفاق المنافقين ما كان خفيّا من قبل.
وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا ليقرأها على المشركين في الموسم.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ ( النساء : ١٧٦ ) وآخر سورة نزلت براءة.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها- أنها كالمتممة لها في معظم ما في أصول الدين وفروعه، وفي التشريع الذي جلُّه في أحكام القتال والاستعداد له، وأسباب النصر فيه، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي لذلك، وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض، والكافرين بعضهم مع بعض، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب، فما بُدِئ به في الأولى أُتم في الثانية.

وهاك أمثلة على ذلك :

تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب.
ذكر في الأولى صدّ المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه، وجاء في الثانية :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ ( التوبة : ١٧ ) إلى آخر الآيات.
ذكرت العهود في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها.
ذكر في سورة الأنفال الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء ذلك بأبلغ وجه في براءة.
جاء في الأولى ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض- وفصل ذلك في الثانية أتمّ تفصيل.
تنبيه : لم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة. وقيل لأنها جاءت لرفع الأمان والابتداء بالبسملة مذكورا فيها اسم الله موصوفا بالرحمة يوجبه.
تفسير المفردات :
قولهم. وتقليب الشيء : تصريفه في كل وجه وجوهه والنظر في كل ناحية من أنحائه ؛ والمراد : أنهم دبروا الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في كل وجه لإبطال دينك.
الإيضاح :
﴿ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ﴾ أي ولقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة في المسلمين وتفريق شملهم من قبل هذه الغزوة في غزوة أحد حين اعتزلهم عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش في موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد، وطفق يقول للناس : أطاع النبي الولدان ومن لا رأي له، فعلام نقتل أنفسنا ؟ وكان من رأيه عدم الخروج إلى أحد فرجع بمن اتبعه من المنافقين، وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة فيرجعون ولكن عصمهما الله من الفتنة.
وكان دأب المنافقين أن يدبروا له الحيل والمكايد ليبطلوا أمره، فكان لهم ضَلْع مع اليهود وضلع مع المشركين في كل ما فعلا من عداوته وقتال المؤمنين- حتى جاء النصر الذي وعده ربه وظهر دين الله وعلا شرعه بالتنكيل باليهود الغادرين الناكثين للعهود، والنصر على المشركين بفتح مكة ودخول الناس في الإسلام أفواجا وهم كارهون لذلك، حتى لقد كانوا يُمنون أنفسهم بظهور المشركين على المؤمنين في حنين وعودة الشرك إلى قوته.
وفي الآيتين تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المنافقين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله، وفيه هتك أستارهم وإزاحة أعذارهم.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ( ٤٩ ) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ( ٥٠ ) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ٥١ ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ﴾ ( التوبة : ٤٩-٥٢ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات سيقت لبيان أقوال قالها المنافقون، بعضها قيلت جهرا، وبعضها أكنّوه في أنفسهم، وأعذار سيعتذرون بها غير ما سبق منهم، وشؤون أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب.
الإيضاح :
﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ﴾ أي ومن المنافقين ناس يستأذنوك في التخلف عن القتال حتى لا يفتتنوا بنساء الروم.
روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لجَدّ بن قيس ( يا جدّ هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ ) قال جدّ- وكان من شيوخ المنافقين- : أتأذن لي يا رسول الله فإني رجل أحب النساء وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنه :( قد أذنت لك ) فنزلت الآية.
وقد ردّ الله شبهته وشبهة من وافقه عليها بقوله :
﴿ ألا في الفتنة سقطوا ﴾ أي فليعلموا أنهم بمقالتهم هذه سقطوا وتردَّوْا في هاوية الفتنة، حين اعتذروا بالمعاذير الكاذبة، من حيث يزعمون اتقاء التعرض للإثم بالنظر إلى جمال نساء الروم، وشغل القلب بمحاسنهم.
﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾ أي وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذّب رسله، جامعة لهم يوم القيامة، وكفى بها نكالا ووبالا.
وهذا وعيد لهم على الفتنة التي تردَّوْا فيها، وبيان لأن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار، وإنما تحيط النار بمن أحاطت بهم خطاياهم حتى لا رجاء في توبتهم منها كما قال تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ ( البقرة : ٨١ ).
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ( ٤٩ ) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ( ٥٠ ) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ٥١ ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ﴾ ( التوبة : ٤٩-٥٢ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات سيقت لبيان أقوال قالها المنافقون، بعضها قيلت جهرا، وبعضها أكنّوه في أنفسهم، وأعذار سيعتذرون بها غير ما سبق منهم، وشؤون أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب.
الإيضاح :
﴿ إن تصبك حسنة تسوءهم ﴾ الحسنة ما يسّر النفس حصولُه من غنيمة ونصر ونحوهما : أي إن كل ما يسرك من النصر والغنيمة كما حدث يوم بدر- يورثهم كآبة وحزنا لفرط حسدهم وعداوتهم.
﴿ وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ﴾ أي وإن تصبك شدة كانكسار جيش كما حدث يوم أحد- يقولوا مُعْجَبين بآرائهم حامدين ما صنعوا، قد تلافينا ما يهمنا من الأمر بالحذر والحزم كما هو دأبنا، إذ تخلفنا عن القتال ولم نُلق بأيدينا إلى الهلاك، وينصرفوا عن الموضع الذي يقولون فيه هذا القول وهم فرحون فرح البطر والشماتة.
روى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة يُشيعون أخبار السوء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويقولون إنهم جَهِدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم بعد ذلك كذب خبرهم وعافية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فساءهم ذلك فأنزل الله ﴿ إن تصبك حسنة تسوءهم ﴾ الآية.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ( ٤٩ ) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ( ٥٠ ) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ٥١ ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ﴾ ( التوبة : ٤٩-٥٢ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات سيقت لبيان أقوال قالها المنافقون، بعضها قيلت جهرا، وبعضها أكنّوه في أنفسهم، وأعذار سيعتذرون بها غير ما سبق منهم، وشؤون أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب.
الإيضاح :
﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾ أي قل أيها الرسول لأولئك المنافقين الذين يفرحون بمصابك وتسوءهم نعمتك : لن يصيبنا إلا ما خُطّ لنا وكتب في اللوح المحفوظ بحسب سننه تعالى في خلقه من نصر وغنيمة أو تمحيص وشهادة، ولا يتغير ذلك بموافقتكم أو مخالفتكم، فالأمور كلها بقضائه تعالى.
﴿ هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أي هو ناصرنا ومتولي أمورنا بتوفيقنا ونصرنا، ونحن نلجأ إليه ونتوكل عليه، فلا نيأس عند شدة، ولا نبطر عند نعمة، كما قال سبحانه في بيان سننه تعالى في خلقه ﴿ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها( ١٠ ) ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾ ( محمد : ١٠-١١ ).
ومن حق المتوكل على الله وحده أن يقوم بما أوجبه عليه في شرعه، ويهتدي بسننه في خلقه، من الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية كإعداد العُدّة واتقاء التنازع الذي يولد الفشل ويفرّق الكلمة، ثم بعد ذلك يكل الأمر إليه فيما لا تصل إليه الأيدي من الأسباب ويتوقف عليه حصول النجاح.
ويقابل التوكل بهذا المعنى اتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها، حتى إذا أدركهم العجز خانهم الصبر وأدركهم اليأس حين حلول البأس، واتكال ذوي الأوهام الذين يتعلقون بالأماني والأحلام، حتى إذا ما استبان لهم فساد أوهامهم نكصوا على أعقابهم وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين، وهو إنما وعد أولياءه لا أولياء الشيطان، وذوي الخرافات والأوهام.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ( ٤٩ ) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ( ٥٠ ) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ٥١ ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ﴾ ( التوبة : ٤٩-٥٢ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات سيقت لبيان أقوال قالها المنافقون، بعضها قيلت جهرا، وبعضها أكنّوه في أنفسهم، وأعذار سيعتذرون بها غير ما سبق منهم، وشؤون أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب.
الإيضاح :
﴿ قل هل تربصون بنا إلى إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ﴾ أي قل لهم : أيها الجاهلون، هل تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين النصر أو الشهادة، ونحن نتربص لكم إحدى السّوءيين أن يصيبكم ربكم بقارعة سماوية لا كسب لنا فيها، كما فعل بالأمم المكذّبة لرسلها، أو أن يأذن لنا بقتالكم إن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم، فتربصوا بنا إنا معكم متربصون من عاقبتنا وعاقبتكم إن أصررتم على كفركم وظهر أمركم، فنحن على بيّنة من ربنا ولا بينة لكم، فإذا لقي كل منا ومنكم ما يتربصه، لا نشاهد إلا ما يسوءكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا.
والدين لا يأمر بقتل المنافق ما دام يظهر الإسلام ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة.
﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ( ٥٣ ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٥٤ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ ( التوبة : ٥٣-٥٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة، وتعللاتهم الباطلة في التخلف عن القتال، وذكر ما يجول في نفوسهم من كراهتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر- قفّى على ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد في هذه الحال طوعا أو كرها لن يتقبلها الله ولا ثواب لهم عليها، لما يبطنونه في صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر الله، فهم إن فعلوا شيئا من أركان الدين فإنما يفعلونه رئاء للناس وخوفا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها، وأن أموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدنيا والآخرة.
الإيضاح :
﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين : أنفقوا من أموالكم ما شئتم في الجهاد أو في غيره من النفقات التي أمر الله بها وحث في شرعه عليها حال الطوع تقية وحفظا للنفس، وكرها وخوفا من العقوبة، فمهما أنفقتم فلن يُتقبّل منكم ما دمتم في شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة، لأنهم قوم فاسقون، أي خارجون من دائرة الإيمان، والله إنما يتقبل من المؤمنين.
﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ( ٥٣ ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٥٤ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ ( التوبة : ٥٣-٥٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة، وتعللاتهم الباطلة في التخلف عن القتال، وذكر ما يجول في نفوسهم من كراهتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر- قفّى على ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد في هذه الحال طوعا أو كرها لن يتقبلها الله ولا ثواب لهم عليها، لما يبطنونه في صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر الله، فهم إن فعلوا شيئا من أركان الدين فإنما يفعلونه رئاء للناس وخوفا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها، وأن أموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدنيا والآخرة.
الإيضاح :
﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ أي وما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق، وكفرهم برسالة رسوله وما جاء به من هدى والبينات.
﴿ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ﴾ أي ولا يصلون إلا رياء وتَقِيّة، لا إيمانا بوجوبها، ولا قصدا إلى ثوابها واحتسابا لأجرها، ولا تكميلا لأنفسهم بما شرعه الله لأجلها، لأنهم لا يأتونها إلا وهم متثاقلون كسالى لا تنشرح لها نفوسهم ولا تنشط لها أبدانهم.
﴿ ولا ينفقون إلا وهم كارهون ﴾ أي ولا ينفقون أموالهم في مصالح الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لذلك غير طيبة به أنفسهم، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم تضرب عليهم ينتفع بها المؤمنون وهم ليسوا منهم، فلا نفع لهم بما أنفقوا لا في الدنيا وهو واضح ولا في الآخرة، إذ لا يؤمنون بها.
﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ( ٥٣ ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٥٤ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ ( التوبة : ٥٣-٥٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة، وتعللاتهم الباطلة في التخلف عن القتال، وذكر ما يجول في نفوسهم من كراهتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر- قفّى على ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد في هذه الحال طوعا أو كرها لن يتقبلها الله ولا ثواب لهم عليها، لما يبطنونه في صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر الله، فهم إن فعلوا شيئا من أركان الدين فإنما يفعلونه رئاء للناس وخوفا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها، وأن أموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدنيا والآخرة.
الإيضاح :
ولما كان من أقوى أسباب إعراضهم عن آيات الله كثرة المال وطغيان الغنى بيّن سبحانه سوء عاقبة المال لهم فقال :
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ﴾ الإعجاب بالشيء السرور به مع الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، والخطاب لكل من سمع القول أو بلغه.
أي فلا تعجبك أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هي من أكبر النعم وأجلها، ولا يجولنّ بخاطرك أنهم- وقد حرموا ثوابها في الآخرة- صفا لهم نعيمها في الدنيا، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه :
﴿ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ﴾ بما ينالهم بسببها من التنغيص والحسرة.
أما الأموال فلأنهم يلاقون النّصَب والتعب في جمعها واكتسابها، ويلاقون ما هو أشد من ذلك في حفظها وصَوْنها من الهلاك، فالمشغوف بالمال يكون أبدا في تعب الحفظ والصون وهو مع ذلك لا ينتفع إلا بالقليل منها كما قال عليه الصلاة والسلام :( مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ).
وأما الأولاد فإنهم يرون أنهم قد نشأوا في الإسلام واطمأنت به قلوبهم، فهم يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، وربما ماتوا في الغزو- فيجزعون أشد الجزع، إذ لا يعتقدون شهاداتهم، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأن الاجتماع بهم قريب كما يعتقد المؤمنون.
﴿ وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾ أي ويموتون ويهْلِكون وهم كافرون، فيعذبون بها في الآخرة إثر ما عُذّبوا بها في الدنيا، لموتهم على الكفر الذي يحبط أعمالهم.
﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ( ٥٦ ) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ ( التوبة : ٥٦-٥٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن سبحانه أن المنافقين يُظهرون غير ما يضمرون، فإذا هم طلبوا الإذن خوف الفتنة كانوا كاذبين، وذكر أنهم يتمنّوْن أن تدور الدوائر على المؤمنين، قفّى على ذلك بذكر غلوّهم في النفاق وأنهم لا يتحرّجون أن يحلفوا الأيمان الفاجرة لستر نفاقهم خوف الفضيحة، وأنهم يتمنون أن يجدوا أي السبل للعبد عن المؤمنين، فيلجأوا إليها مسرعين.
تفسير المفردات :
الفرق : بالتحريك الخوف الشديد الذي يَفْرِق بين القلب وإدراكه.
الإيضاح :
﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ﴾ أي ويحلفون بالله لكم كذبا إنهم منكم في الدين والملة وهم ليسوا من أهل دينكم وملتكم بل هم أهل شك ونفاق، ولكنهم يخافونكم فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ( ٥٦ ) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ ( التوبة : ٥٦-٥٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن سبحانه أن المنافقين يُظهرون غير ما يضمرون، فإذا هم طلبوا الإذن خوف الفتنة كانوا كاذبين، وذكر أنهم يتمنّوْن أن تدور الدوائر على المؤمنين، قفّى على ذلك بذكر غلوّهم في النفاق وأنهم لا يتحرّجون أن يحلفوا الأيمان الفاجرة لستر نفاقهم خوف الفضيحة، وأنهم يتمنون أن يجدوا أي السبل للعبد عن المؤمنين، فيلجأوا إليها مسرعين.
تفسير المفردات :
والملجأ : المكان الذي يلجأ إليه الخائف ليعتصم به كحصن أو قلعة أو جزيرة في بحر أو قُنّة في جبل. والمغارات : واحدها مغارة وهي الكهف في الجبل يغور فيه الإنسان ويستتر. والمُدّخَل : بالتشديد السرب في الأرض يدخله الإنسان بمشقة. والجماح : السرعة التي تتعذر مقاومتها.
الإيضاح :
﴿ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ﴾ أي إنهم لشدة كرههم للقتال معكم، ولبغض معاشرتهم إياكم، ولعظيم الخوف من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والعيش في مكان يعتصمون به من انتقامكم منهم، فلو استطاعوا السكنى في الحصون والقلاع، أو في كهوف الجبال ومغاراتها، أو في أنفاق الأرض وأسرابها- لولّوْا إليه مسرعين كالفرس الجموح لا يردّهم شيء.
وإنما وصفهم الله سبحانه بتلك الأوصاف، لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم، لأنهم كانوا بين عشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، ولم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بإخفاء الكفر ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأهل الإيمان به وبالغ الحقد عليهم.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( ٥٨ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ﴾ ( التوبة : ٥٨-٥٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه أن المنافقين لا يتحرجون عن كاذب الأيمان إذا وجدوا في ذلك طريقا لخِدْعة المؤمنين في تصديقهم بأنهم مؤمنون كما هم مؤمنون كي يأمنوا جانبهم، وأنهم يجدّون في البعد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا- أردف ذلك بذكر سوأة أخرى من سوءاتهم وهي أنهم يتمنَّوْن الفرص للطعن على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يوقعوا الريب في قلوب ضعفاء الإيمان من المسلك الذي يوافق أهواءهم، وقد وجدوا من ذلك قسمة الصدقات والمغانم، فولَجوا هذا الباب وقالوا ما شاؤوا أن يقولوا.
روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قَسْما إذ جاءه ذو الخُوَيْصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله، فقال :( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ ). فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يَمْرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرمِيّة ) فنزلت فيهم :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾ الآية.
وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال : أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت ورأى ذلك رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية.
ومجموع الروايات يدل على أن أشخاصا من منافقي المدينة قالوا ذلك لحرمانهم من العطية، ولم يقله أحد من المهاجرين ولا من الأنصار الأولين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في منى.
تفسير المفردات :
اللمز : العيب والطعن في الوجه. والهمز : الطعن في الغيبة.
الإيضاح :
﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾ أي ومن المنافقين من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وهي أموال الزكاة المفروضة، إذ يزعمون أنك تحابي فيها وتؤتي من تشاء من الأقارب وأهل المودة ولا تراعي العدل في ذلك.
ثم بيّن سبحانه أسباب هذا اللمز وأن منشأه حرصهم على حطام الدنيا فقال :
﴿ فإن أعطوا منها رضوا ﴾ أي فإن أعطوا ولو بغير حق كأن أظهروا الفقر كذبا واحتيالا، أو أعطوا لتأليف قلوبهم رضوا بهذه القسمة واستحسنوا فعلك.
﴿ وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ﴾ أي وإن لم يعطوا منها فاجؤوك بالسخط وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء، إذ لا همّ لهم إلا المنفعة الدنيوية ونيل حطام الدنيا.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( ٥٨ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ﴾ ( التوبة : ٥٨-٥٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه أن المنافقين لا يتحرجون عن كاذب الأيمان إذا وجدوا في ذلك طريقا لخِدْعة المؤمنين في تصديقهم بأنهم مؤمنون كما هم مؤمنون كي يأمنوا جانبهم، وأنهم يجدّون في البعد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا- أردف ذلك بذكر سوأة أخرى من سوءاتهم وهي أنهم يتمنَّوْن الفرص للطعن على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يوقعوا الريب في قلوب ضعفاء الإيمان من المسلك الذي يوافق أهواءهم، وقد وجدوا من ذلك قسمة الصدقات والمغانم، فولَجوا هذا الباب وقالوا ما شاؤوا أن يقولوا.
روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قَسْما إذ جاءه ذو الخُوَيْصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله، فقال :( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ ). فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يَمْرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرمِيّة ) فنزلت فيهم :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾ الآية.
وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال : أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت ورأى ذلك رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية.
ومجموع الروايات يدل على أن أشخاصا من منافقي المدينة قالوا ذلك لحرمانهم من العطية، ولم يقله أحد من المهاجرين ولا من الأنصار الأولين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في منى.
تفسير المفردات :
ورغبه ورغب فيه : أحبه، ورغب عنه : كرهه، ورغب إليه : طلبه وتوجه إليه.
الإيضاح :
﴿ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ﴾ أي ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الله من الغنائم وغيرها وأعطاهم رسوله بقسمة الغنائم والصدقات كما أمره الله، وقالوا الله يكفينا في كل حال، وسيعطينا من فضله بما يرد علينا من الغنائم والصدقات، لأن فضله لا ينقطع، ورسوله لا يبخس أحدا منا شيئا يستحقه في شرع الله، وقالوا إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم من الطمع في غير مَطْمَع ومن هَمْز الرسول ولَمْزِه.
والخلاصة : إنهم لو رضوا من الله بنعمته، ومن الرسول بقسمته، وعلّقوا أملهم بفضل الله وكفايته، بما سينعم به عليهم في مستأنف الأيام، وبأن الرسول يعدل في القسمة لكان في ذلك الخير كل الخير لهم.
وفي ذلك إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون قانعا بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها مع توجيه قلبه إلى ربه، ولا يرغب إلا إليه في الحصول على رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية.
﴿ *إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٦٠ ).
تفسير المفردات :
الصدقة : هي الزكاة الواجبة على النقد والأنعام والزرع والتجارة. والفقير : من له مال قليل دون النصاب- أقل من اثني عشر جنيها. والمسكين : من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقُوتِه وكسوته. والعامل عليها : هو الذي يولّيه السلطان أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء. والمؤلفة قلوبهم : هم الذين يراد استمالة قلوبهم إلى الإسلام أو التثبيت فيه. وفي الرقاب : أي وللإنفاق في إعانة الأرقاء لفكاكهم من الرق. والغارمين : أي الذين عليهم غرامة من المال تعذر عليهم أداؤها. وفي سبيل الله : أي وفي الطريق الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته، والمراد بهم : كل من سعى في طاعة الله وسبل الخيرات كالغُزاة والحجاج الذين انقطعت بهم السبل ولا مورد لهم من المال وطلبة العلم الفقراء. وابن السبيل : هو المسافر الذي بَعُد عن بلده ولا يتيسر له إحضار شيء من ماله فهو غني في بلده، فقير في سفره. فريضة من الله : أي فرض الله ذلك فريضة ليس لأحد فيها رأي.
الإيضاح :
مصارف الزكاة والأشخاص الذين تُعْطَى لهم أصناف ثمانية.
﴿ إنما الصدقات للفقراء ﴾ أي إنما تعطى زكاة النقد أو النَّعَم أو التجارة أو الزرع للفقراء الذين يحتاجون إلى مواساة الأغنياء لعدم وجود ما يكفيهم من المال بحسب حالهم.
﴿ والمساكين ﴾ وهو أسوأ حالا من الفقراء لقوله تعالى :﴿ أو مسكينا ذا متربة ﴾ ( البلد : ١٦ ) أي ألصق جلده بالتراب في حفرة استتر بها مكان الإزار، وبطنه به ولشدة الجوع وذلك منتهى الضر والشدة.
﴿ والعاملين عليها ﴾ وهم الذين يبعثهم السلطان لجبايتها أو حفظها، فيشمل الجُباة- المحصِّلين- وخزنة المال- مديري الخزائن- وهم يأخذون منها عُمالتهم على عملهم لا على فقرهم.
روى أحمد والشيخان أن ابن السعدي المالكي قال : استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعُمالة، فقلت إنما عملت لله، فقال : خذ ما أُعطيت فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمّلني- أعطاني العُمالة- فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أعطيت من غير أن تسأل فكُل وتصدّق ).
﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾ وهم قوم يراد استمالتهم إلى الإسلام، أو تثبتهم فيه، أو كفّ شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم أو نصرهم على عدوّ لهم، وهم أصناف ثلاثة :
صنف من الكفار يرجى إيمانهم بتأليف قلوبهم كصفوان بن أمية الذي وهب له النبي صلى الله عليه وسلم الأمان يوم فتح مكة وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره وأعطاه إبلا محمّلة فقال : هذا عطاء من لا يخشى الفقر، وروي أنه قال : والله لقد أعطاني وهو أبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليّ، وقد حسن إسلامه.
صنف أسلم على ضعف، ويرجى بإعطائه تثبيته وقوة إيمانه ومناصحته في الجهاد كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم وهوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا وكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.
صنف من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء يُعْطَوْن لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
ويرى أبو حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز الله بالإسلام، واحتج بأن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه وقال :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ ( الكهف : ٢٩ ) وبأنه لم ينقل أن عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا النوع.
﴿ وفي الرقاب ﴾ أي وللإنفاق في فك الرقاب بإعانة المكاتبين من الأرقاء في فك رقابهم من الرق، أو لشراء العبيد وإعتاقهم، وهذا من أكبر الإصلاح البشري الذي هو المقصود من رحمة الإسلام وعدله.
روى أحمد والبخاري عن البراء بن عازب قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : دلني على عمل يقربني من الجنة ويبعدني من النار، فقال :( أعتق النّسمة وفكّ الرقبة )، فقال يا رسول الله أو ليس واحدا ؟ قال :( لا : عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها ).
﴿ والغارمين ﴾ وهم الذين عليهم ديون ركبتهم وتعذر عليهم أداؤها. وقد كان العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، وكانوا إذا علموا أن واحدا منهم التزم غرامة أو تحمل حَمَالة بادروا إلى معونته على أدائها وإن لم يسأل، وكانوا يعدون سؤال المساعدة على ذلك فخرا لا ذلا.
فعن قَبِيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حَمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال :( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها )، ثم قال :( يا قبيصة : إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمّل حمالة فحلت له المسالة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من أهل الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، فما سواها من المسألة يا قبيصة فسُحْت يأكلها صاحبها سحتا ) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود.
﴿ وفي سبيل الله ﴾ وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك.
والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة التي بها قِوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مَصْرِف آخر، وليس منها حج الأفراد لأنه واجب على المستطيع فحسب.
﴿ وابن السبيل ﴾ وهو المنقطع عن بلده في سفر لا يتيسر له فيه شيء من ماله إن كان له مال، فهو غني في بلده، فقير في سفره، فيعْطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده.
وفي ذلك عناية بالسياحة وتشجيع عليها على شرط أن يكون سفره في غير معصية، ويكون هذا من أسباب التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان.
وسهولة طرق الوصول في العصر الحاضر ونقل الأخبار في الزمن القليل جعلت نقل المال من بلد إلى آخر ميسورا بلا كلفة، فيسهل على الغني أن يجلب ماله في أي وقت أراد، وإلى أي مكان طلب.
﴿ فريضة من الله ﴾ أي إنما الصدقات لمن ذكر من أصناف المحتاجين، وفيما ذكر من مصالح الأمة فريضة من الله لهم أوجبها عليكم.
﴿ والله عليم حكيم ﴾ أي والله عليم بأحوال الناس ومقدار حاجتهم، حكيم فيما يشْرعه لهم تطهيرا لأنفسهم وتزكية لها، وشكرا لخالقهم على ما أنعم به عليهم كما قال :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ ( التوبة : ١٠٣ ).
﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٦١ ).
تفسير المفردات : الأذى : ما يؤلم الحي المدرك في بدنه أو في نفسه ولو ألما خفيفا، يقال : أُذِي بكذا أذى وتأذى تأذيا إذا أصابه مكروه يسير. والأذن : هو الذي يسمع من كل أحد ما يقوله فيقبله ويُصَدّقه، ويقولون رجل أذن : أي يسرع الاستماع والقبول. ويؤمن للمؤمنين : أي يصدقهم لما علم فيهم من علامات الإيمان الذي يوجب عليهم الصدق.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن من دلائل نفاقهم الطعن في أفعاله صلى الله عليه وسلم كإيذاء الذين لمزوه في قسمة الصدقات- قفى على ذلك بذكر من طعن في أخلاقه وشمائله الكريمة بقولهم : إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا.
روى ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس قال : كان نَبْتَلُ بن الحارث يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه الله فأنزل الله الآية.
وروي أنه اجتمعت ناس من المنافقين فيهم جُلاس بن سُوََيد بن صامت ومِخَشَّ بن حِمْير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم، وقال بعضهم : إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا فنزل :﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ﴾ الآية.
الإيضاح :
﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ﴾ أي ومن المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه ويقولون هو أذن سامعة : أي يسمع من كل أحد ما يقوله ويقبله ويصدقه، وهم يريدون بذلك أنه سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع دون أن يتدبر فيه ويميز بين ما هو جدير بالقبول لوجود أمارات الصدق فيه، وما لا ينبغي قبوله، وهذا عيب في الملوك والرؤساء لما يترتب عليه من تقريب المنافقين وإبعاد الناصحين، وإنما قالوا ذلك لأنه كان عليه الصلاة والسلام يعاملهم بأحكام الشريعة كما يعامل عامة المؤمنين بالبناء على الظاهر، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له.
﴿ قل أذن خير لكم ﴾ أي إنه أذن ولكنه نعم الأذن، لأنه أذن خير لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا ما يعتقد أنه الحق وما فيه المصلحة للخلق، وليس بأذن في سماع الباطل كالكذب والنميمة والجدل والمراء، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه كما هو شأن الملوك والزعماء الذين يتقرب إليهم أهل الأهواء بالسعاية لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم، وحملهم على إيذاء من يبتغون إيذاءه.
ثم بيّن سبحانه المراد من أذن الخير بقوله :
﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾ أي يصدق بالله وبما يوحى إليه مما فيه خيركم وخير غيركم، ويصدق المؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار، لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق فيما يحدثونه به.
وفي هذا إيماء إلى أنه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم ولا يصدقهم في أخبارهم وإن وكدوها بالأيمان اغترارا بلطفه وأدبه صلى الله عليه وسلم، إذ كان لا يواجه أحدا بما يكره، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه.
﴿ ورحمة للذين آمنوا منكم ﴾ أي وهو رحمة للذين آمنوا منكم إيمانا صحيحا صادقا، إذ كان سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لمن أظهر الإسلام وأسرّ الكفر نفاقا، إذ هو نقمة عليه في الدارين.
﴿ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ﴾ أي والذين يؤذون الرسول بالقول أو بالفعل فجزاؤهم العذاب الشديد الإيلام.
وفي هذه الآية وما في معناها دليل على أن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كفر إذا كان فيما يتعلق برسالته، لأن ذلك لا ينافي الإيمان، وأما إيذاؤه في شؤونه البشرية والعادات الدنيوية فحرام لا كفر كإيذاء الذين كانوا يطيلون المكث في بيوته لدى نسائه بعد الطعام وفيهم نزل :﴿ إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم ﴾ ( الأحزاب : ٥٣ ) وإيذاء الذين كانوا يرفعون أصواتهم في ندائه ويسمونه باسمه كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ﴾ ( الحجرات : ٢ ).
وإيذاؤه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كإيذائه في حال حياته كالخوض في أبويه وآل بيته بما يعلم أنه يؤذيه لو كان حيا، فالإيمان به صلى الله عليه وسلم مانع من تصدي المؤمن لما يعلم أو يظن أنه يؤذيه صلوات الله عليه إيذاء ما، فهذا الذنب من أكبر الذنوب ومعصية من أعظم المعاصي.
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴾ ( التوبة : ٦٢-٦٣ ).
المعنى الجملي : روى ابن المنذر عن قتادة قال :( ذُكِر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمر، فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من الحمار، وسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال :( ما حملك على الذي قلت ؟ ) فجعل يتلعن- يلعن نفسه- ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله ﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾ الآية.
الإيضاح :
﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾ هذا خطاب للمؤمنين أي يحلفون لكم إنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلى الله عليه وسلم ليرضوكم، وقد كان من دأبهم أن يتكلموا بما لا ينبغي أن يقال ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليَعْذروهم ويرضَوْا عنهم.
وفي كثرة الاعتذار والحلف للمؤمنين في كل ما يعلمون أنهم متهمون به من قول أو فعل ليرضُوهم فلا يخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم- دليل على أنهم شعروا بظهور نفاقهم وافتضاح أمرهم.
﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ أي والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهرا معلوما باليقين، ولكن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ويعلم خائنة العين وما تخفي الصدور، فيوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب ما فيه المصلحة للمؤمنين.
وفي التعبير ب :﴿ يرضوه ﴾ دون يرضوهما إشعار بأن إرضاء رسوله هو عين إرضائه تعالى، لأنه إرضاء له في اتباع ما أرسله به.
﴿ إن كانوا مؤمنين ﴾ أي إن كانوا مؤمنين كما يدّعون ويحلفون- فليرضوا الله ورسوله وإلا كانوا كاذبين.
وفي الآية عبرة للمنافقين في زماننا وفي كل زمان، إذ يحلفون حين الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما يحاولون به إرضاء الناس، وبخاصة الملوك والوزراء الذين يتقربون إليهم فيما لا يُرْضي ربهم، بل فيما يسخطه بأخس الوسائل وأقذر السبل.
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴾ ( التوبة : ٦٢-٦٣ ).
المعنى الجملي : روى ابن المنذر عن قتادة قال :( ذُكِر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمر، فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من الحمار، وسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال :( ما حملك على الذي قلت ؟ ) فجعل يتلعن- يلعن نفسه- ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله ﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾ الآية.
تفسير المفردات :
المحادّة : من الحد، وهو طرف الشيء كالمشاقة من الشق- بالكسر- وهو الجانب، ونصف الشيء المنشق منه، وهما بمعنى المعاداة من العدوة- بالضم- وهي جانب الوادي لأن العدو يكون في غاية البعد عمن يعاديه عداء البغض بحيث لا يتزاوران ولا يتعاونان فكأن كلا منهما في شق وعدوة غير التي فيها الآخر، إذ هما على طرفي نقيض، وهكذا المنافقون يكونون في لجانب المقابل للجانب الذي يحب الله لعباده والرسول لأمته من الحق والخير والعمل الصالح.
الإيضاح :
ثم وبخهم على ما أقدموا عليه مع علمهم بوخامة عاقبته بقوله :
﴿ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ﴾ أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الأمر الحق الذي لا شك فيه أن من يحادد الله ورسوله بتعدي حدوده أو يلمز الرسول في أعماله كقسمة الصدقات أو في أخلاقه وشمائله كقولهم هو أذن فجزاؤه جهنم يصلاها يوم القيامة خالدا فيها أبدا لا مخْلََص له منها.
﴿ ذلك الخزي العظيم ﴾ أي ذلك العذاب هو الذل والهوان العظيم الذي يصْغُر دونه كل خزي وفي ذل في الحياة الدنيا.
﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( ٦٤ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تستهزئون( ٦٥ ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ ( التوبة : ٦٤-٦٦ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات لبيان حال من أحوال المنافقين كشفت عنها غزوة تبوك، أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن مجاهد أن المنافقين كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى ألا يُفْشَى علينا هذا. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنْبِئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.
تفسير المفردات :
الحذر : الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه. والإخراج : إظهار الشيء الخفي المستتر كإخراج الحب والنبات من الأرض.
الإيضاح :
﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ﴾ أي يحذر المنافقون أن تنزّل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوبهم أي قلوب المنافقين وتهْتِك عليهم أستارهم وتُفْشي أسرارهم.
وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعي للشك والارتياب، إذ هم كانوا شاكين مرتابين في الوحي ورسالة الرسول ولم يكونوا موقنين بشيء من الإيمان ولا من الكفر، فهم مذبذبون لا هم بالمؤمنين الموقنين، ولا بالكافرين الجازمين بالكفر، ولو كانوا على واحد منهما لما خطر لهم الخوف على بال، إذ تكون قلوبهم مطمئنة بأحد الأمرين.
والخلاصة : إنهم يحذرون أن تنزل سورة في شأنهم وبيان حالهم، فتكون في ذلك فضيحتهم وكشف عوراتهم وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم.
﴿ قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون ﴾ أي قل لهم : استهزئوا فإن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبيّن أمركم.
ونحو الآية قوله :﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ﴾ ( محمد : ٢٩ ).
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد على فعلهم، وكونه سببا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهور من مخبئات سرائرهم.
﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( ٦٤ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تستهزئون( ٦٥ ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ ( التوبة : ٦٤-٦٦ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات لبيان حال من أحوال المنافقين كشفت عنها غزوة تبوك، أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن مجاهد أن المنافقين كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى ألا يُفْشَى علينا هذا. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنْبِئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.
تفسير المفردات :
الخوض : الدخول في البحر أو في الوحل، وكثر استعماله في الباطل لما فيه من التعرض للأخطار.
الإيضاح :
﴿ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ﴾ أي إنك إن سألتهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادّين ولا منكرين، بل هازلين لاعبين للتسلي والتلهي، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول لجهلهم أن اتخاذ الدين هُزُوا ولعبا كفر محض كما قال تعالى :﴿ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ ( الزخرف : ٨٣ ) وقال :﴿ فويل يومئذ للمكذبين ( ١١ ) الذين هم في خوض يلعبون ﴾ ( الطور : ١١-١٢ ).
ويدخل في عموم الآية المبتدعون في الدين، والذين يخوضون في الداعين إلى الكتاب والسنة ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال :( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك، إذ نظر إلى أناس بين يديه يقولون : أيرجو هذا الرجل أن تُفتح له قصور الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال :( احبسوا على هؤلاء الركب ) فأتاهم فقال قلتم كذا وقلتم كذا. قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون ).
﴿ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ﴾ أي قل لهم : إن الخوض واللعب في صفات الله وشرعه وآياته المنزلة استهزاء بها. إذ كل ما يلعب به فهو مستخف به، وكل مستخف به فهو مستهزأ به.
وقصارى ذلك : ألم تجدوا ما تستهزئون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصَرْتم ذلك عليهما، فهل ضاقت عليكم سُبُل القول، فلم تجدوا ما تخوضون فيه وتلعبون غير هذا، ثم بعدئذ تظنون أن معاذيركم بمثل هذا تقبل وتُدْلون بها بلا خوف ولا خجل.
﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( ٦٤ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تستهزئون( ٦٥ ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ ( التوبة : ٦٤-٦٦ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات لبيان حال من أحوال المنافقين كشفت عنها غزوة تبوك، أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن مجاهد أن المنافقين كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى ألا يُفْشَى علينا هذا. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنْبِئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.
تفسير المفردات :
الاعتذار : الإدلاء بالعذر، وهو ما يراد به محو أثر الذنب وترك المؤاخذة عليه من عذر الصبي يعْذِره أي ختنه تطهيرا له بقطع عَذِرته أي قَلَفَته. والطائفة : الجماعة من الناس والقطعة من الشيء : يقال ذهبت طائفة من الليل ومن العمر، وأعطاه طائفة من ماله.
الإيضاح :
﴿ ولا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾ أي لا تذكروا هذا العذر لدفع هذا الجُرْم، لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغي أن يكون، فاعتذاركم إقرار بذنبكم فهو كما قال : عذر أقبح من الذنب.
﴿ إن تعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ﴾ أي إن نعف عن بعضكم لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم كمِخَشّ بن حُمَيْر نعذب بعضا آخر لإجرامهم وإصرارهم عليه.
وخلاصة ذلك : إن من تاب من كفره ونفاقه عُفِي عنه، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به.
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٦٧ ) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٦٨ ) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ ( التوبة : ٦٧-٧٠ ).
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في هذه الآيات أنواعا وضروبا من قبائح المنافقين كان ذكرانهم وإناثهم يفعلونها، وقرنها بالوعيد الشديد بما أعد لهم من الجزاء في زمرة إخوانهم الكفرة الذين من قبلهم على ما كانوا يقترفون من الفساد والإفساد، وتلاه بضرب المثل الذي يشرح حالهم لبيان السنن العامة في روابط الاجتماع وآثار الأخلاق في تلك الروابط.
تفسير المفردات :
بعضهم من بعض : أي متشابهون فيه وصفا وعملا كما تقول أنت مني وأنا منك أي أمرنا واحد لا افتراق بيننا. والمنكر : إما شرعي وهو ما يستقبحه الشرع وينكره، وإما فطري : وهو ما تستنكره العقول الراجحة والفطر السليمة لمنافاته للفضائل والمنافع الفردية والمصالح العامة، وضده المعروف في كل ذلك. وقبض الأيدي : يراد به الكف عن البذل، وضده بسط اليد. نسوا الله : أي تركوا أوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ. فنسيهم : أي فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم من الثواب على ذلك في الآخرة. والفاسقون : أي الخارجون عن الطاعة، المنسلخون عن فضائل الإيمان.
الإيضاح :
﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾ أي إن أهل النفاق رجالا ونساء يتشابهون في صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم كما قال تعالى في آل إبراهيم وآل عمران :﴿ ذرية بعضها من بعض ﴾ ( آل عمران : ٣٤ ) وقال الشاعر :
تلك العصا من هذه العُصية هل تلد الحية إلا حية
ثم بيّن ذلك التشابه فقال :
﴿ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ﴾ أي إن بعضهم يأمر بعضا بالمنكر كالكذب والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد كما جاء في الحديث :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ) رواه الشيخان عن أبي هريرة.
وينهون عن المعروف كالجهاد وبذل المال في سبيل الله للقتال كما حكى الله عنهم بقوله :﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ﴾ ( المنافقون : ٧ ).
واقتصر من منكراتهم الفعلية على الامتناع عن البذل، لأنه شرها وأضرها وأقواها دلالة على النفاق كما أن الإنفاق في سبيل الله أقوى دلائل الإيمان.
﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾ أي نسوا أن يتقربوا إليه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ولم يعد يخطر ببالهم أن له عليهم حق الطاعة والشكر، واتبعوا أهواءهم ووساوس الشيطان، فجازاهم على ما فعلوا بحرمانهم من لطفه وتوفيقه في الدنيا، ومن الثواب في الآخرة.
﴿ إن المنافقين هم الفاسقون ﴾ أي إن المنافقين الناكبين عن الصراط المستقيم إلى سبل الشيطان هم أكثر الناس فسوقا وخروجا من جميع الفضائل، حتى الكفار الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة، فهم لا يبلغون مبلغهم في الفسوق والخروج من طاعة الله والانسلاخ من فضائل الفطر السليمة.
ثم بين سبحانه ما أعدّ لهم ولأمثالهم من العقاب جزاء لهم على أعمالهم فقال :
﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ﴾
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٦٧ ) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٦٨ ) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ ( التوبة : ٦٧-٧٠ ).
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في هذه الآيات أنواعا وضروبا من قبائح المنافقين كان ذكرانهم وإناثهم يفعلونها، وقرنها بالوعيد الشديد بما أعد لهم من الجزاء في زمرة إخوانهم الكفرة الذين من قبلهم على ما كانوا يقترفون من الفساد والإفساد، وتلاه بضرب المثل الذي يشرح حالهم لبيان السنن العامة في روابط الاجتماع وآثار الأخلاق في تلك الروابط.
تفسير المفردات :
والوعد : يستعمل في إعطاء الخير والشر والنافع والضار، والوعيد خاص بالبشر. واللعن : الإبعاد عن الرحمة والإهانة والمذل. والمقيم : الثابت الذي لا يتحول.
الإيضاح :
﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ﴾ أي وعد الله هؤلاء جميعا نار جهنم يصلونها ماكثين فيها أبدا.
وقدم المنافقين في الوعيد على الكفار للإيذان بأنهم وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام- شر من الكفار، ولا سيما المتدينين منهم بأديان محرّفة أو منسوخة كأهل الكتاب.
﴿ هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ﴾ أي إن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم عقابا لهم في الآخرة على أعمالهم، وعليهم لعنة الله في الدنيا والآخرة بحرمانهم من رحمته التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون، ولهم عذاب مقيم غير عذاب جهنم كالسُّموم الذي يلفح وجوههم، والحميم الذي يصهر ما في بطونهم، والضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وحرمانهم من لقاء الله وكرامته والحجاب دون رؤيته كما قال :﴿ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون( ١٥ ) ثم إنهم لصالوا الجحيم ﴾ ( المطففين : ١٥-١٦ ).
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٦٧ ) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٦٨ ) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ ( التوبة : ٦٧-٧٠ ).
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في هذه الآيات أنواعا وضروبا من قبائح المنافقين كان ذكرانهم وإناثهم يفعلونها، وقرنها بالوعيد الشديد بما أعد لهم من الجزاء في زمرة إخوانهم الكفرة الذين من قبلهم على ما كانوا يقترفون من الفساد والإفساد، وتلاه بضرب المثل الذي يشرح حالهم لبيان السنن العامة في روابط الاجتماع وآثار الأخلاق في تلك الروابط.
تفسير المفردات :
بخلاقهم : أي بنصيبهم من ملاذ الدنيا. وخضتم : أي دخلتم في الباطل. وحبط العمل : فسد وذهبت فائدته. والخسارة في التجارة تقابل الربح فيها.
الإيضاح :
﴿ كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم ﴾ أي أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خَلوْا من قبلكم في أقوام الأنبياء فُتِنْتم بأموالكم وأولادكم وغُرِرْتم بدنياكم كما فُتِنوا وغُرّوا بها، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالا وأولادا، وقد كان جلّ مطلبهم وسعيهم هو التمتع بنصيبهم وحفظهم الدنيوي من الأموال والأولاد، فأطغتهم الدنيا وأغرتهم لذاتها، ولم يكن لهم مقاصد شريفة من الحياة كالتي يقصدها أهل الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق وإقامة ميزان العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
﴿ فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ﴾ أي وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم، فأنتم فعلتم بدينكم ودنياكم كما فعل الذين كانوا من قبلكم، ولم تَفْضُلوا عليهم بشيء من الاسترشاد بكلام الله وهدى ورسوله، إذ لم تعملوا شيئا من الفضائل التي تزكي النفوس وتجعلها أهلا للسعادة، فكنتم أجدر بالعقاب منهم، لأنهم أوتوا من القوة والأموال فوق ما أوتيتم، ولم يروا من آيات الله ما رأيتم.
والخلاصة : إنكم حذوتم حذوهم وسلكتم سبيلهم في توافر الدواعي على فعل ضد ما تعملون.
﴿ وخضتم كالذي خاضوا ﴾ أي ودخلتم في الباطل كما دخلوا على ما بين حالكم وحالهم من الفوارق التي كانت تقتضي أن تكونوا أهدى منهم سبيلا.
﴿ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ﴾ أي إن أولئك المستمتعين بخلاقهم وحظهم والخائضين في الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية فكان ضررها أكبر من نفعها لهم، لإسرافهم وإفسادهم في الأرض، وكذلك أعمالهم الدينية في الآخرة من عبادات وصلة رحم وصدقة وقرى ضيف، فلم يكن لهم أجر عليها ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة، إذ شرط قبولها في الآخرة الإيمان والإخلاص، فهم خسروا في مظنة الربح والمنفعة.
ونحو الآية قوله :﴿ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا( ١٠٣ ) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾ ( الكهف : ١٠٣-١٠٤ ).
ثم نبههم وحذرهم سوء عاقبة أعمالهم فقال :﴿ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٦٧ ) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٦٨ ) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ ( التوبة : ٦٧-٧٠ ).
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في هذه الآيات أنواعا وضروبا من قبائح المنافقين كان ذكرانهم وإناثهم يفعلونها، وقرنها بالوعيد الشديد بما أعد لهم من الجزاء في زمرة إخوانهم الكفرة الذين من قبلهم على ما كانوا يقترفون من الفساد والإفساد، وتلاه بضرب المثل الذي يشرح حالهم لبيان السنن العامة في روابط الاجتماع وآثار الأخلاق في تلك الروابط.
تفسير المفردات :
وأصحاب مدين : قوم شعيب، والمؤتفكات واحدها مؤتفكة من الائتفاك : وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفله بالخسف، وهي قرى قوم لوط.
الإيضاح :
﴿ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ أي ألم يأت أولئك المنافقين والكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عَصَوْا رسله وخالفوا أمر ربهم فأخذهم العذاب كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح العقيم التي أهلكت عادا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والعذاب الذي هلك به النُّمْرود الذي حاول إحراق إبراهيم، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها.
وما كان من سنة الله ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب، وقد أعذرهم وأنذرهم ليجتنبوه، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بجحودهم وعنادهم وعدم مبالاتهم بإنذار رسلهم.
وقد ضرب هذا المثل للكافرين برسالته صلى الله عليه وسلم والمنافقين، ليبين لهم أن سنة الله في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة، فلا بد أن يحُلّ بهم العذاب مثل ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل الذي إن لم يتوبوا.
وقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم في أول غزوة وهي غزوة بدر، ثم خذل من بعدهم في سائر الغزوات، وما زال المنافقون يكيدون له في السر حتى فضحهم الله بهذه السورة، فتاب أكثره ومات زعيمهم عبد الله بن أبيّ بغيظه وكفره ولم تقم للنفاق قائمة من بعده.
وبهذا التمحيص كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس. نشر الله بها أعلام دينه حتى سادت العالم جميعه.
﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم( ٧١ ) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ﴾ ( التوبة : ٧١-٧٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه أفعال المنافقين الخبيثة وذكر ما أعده لهم من العذاب في الدنيا والآخرة- قفّى على ذلك بذكر صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهُرت سرائرهم وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.
الإيضاح :
﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ الولاية ضد العداوة، وتشمل ولاية النصرة وولاية الأخوة والمودة، ونصرة النساء تكون فيما دون القتال من الأعمال المتعلقة بتعبئة الجيوش من الأمور المالية والبدنية، وكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء أصحابه يخرجن مع الجيش يسقين الماء ويجهزن الطعام ويحرضن على القتال ويرددن المنهزم من الرجال قال حسان :
تظلّ جيادنا متمطّرات تُلطِّمهن بالخُمُر النساء
وقال في وصف المؤمنين : بعضهم أولياء بعض، وفي صف المنافقين : بعضهم من بعض- لأن المؤمنين بينهم أخوة ومودة وتعاون وتراحم حتى شبه النبي صلى الله عليه وسلم جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشد بعضه بعضا، وبينهم ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل وإعلاء كلمة الله.
أما المنافقون فيشبه بعضهم بعضا في الشكوك والذبذبة وما يتبعها من الجبن والبخل وهما يمنعان من التناصر ببذل النفس والمال، وقصارى أمرهم التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال، ومن ثم أكذب الله منافقي المدينة في وعدهم لليهود حلفائهم بنصرهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذ قاتلوهم في قوله :﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون( ١١ ) لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ﴾ ( الحشر : ١١-١٢ ).
﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ﴾ وصف الله المؤمنين في هذه الآية بصفات خمس تضادّ مثلها في المنافقين :
إنهم يأمرون بالمعروف والمنافقون يأمرون بالمنكر.
إنهم ينهون عن المنكر والمنافقون ينهون عن المعروف، وهاتان الخصلتان هما سياج الفضائل ومنع فُشُوّ الرذائل.
( ج )إنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات لله وحضور القلب في مناجاته، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا وهم كسالى يراؤون الناس.
( د )إنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم وما وُفّقوا له من التطوع، والمنافقون يقبضون أيديهم، والمنافقون إذ كانوا يصلون، لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون ولكن خوفا أو رياء لا طاعة لله تعالى كما قال سبحانه :﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ ( التوبة : ٥٤ ).
( ه ) إنهم يستمرون على الطاعة بترك ما نُهوا عنه وفعل ما أُمِروا به بقدر الطاقة، وبضد ذلك المنافقون فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة كما تقدم.
ثم ذكر ما يكون لهم من حسن العاقبة وعظيم الجزاء على جميل أعمالهم فقال :
﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾ أي إنه تعالى يتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته وطاعة رسوله، ويقابل هذا نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه إياهم.
﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ أي إنه تعالى عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعده ولا وعيده حكيم لا يضع شيئا منهما في غير موضعه.
﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم( ٧١ ) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ﴾ ( التوبة : ٧١-٧٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه أفعال المنافقين الخبيثة وذكر ما أعده لهم من العذاب في الدنيا والآخرة- قفّى على ذلك بذكر صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهُرت سرائرهم وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.
وبعد أن بيّن صفاته ورحمته لهم إجمالا- بين ما وعدهم به من الجزاء المفسّر لرحمته تفصيلا فقال :
﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ﴾ الجنات : البساتين الملتفة الأشجار التي تجنّ ما تحتها : أي تغطيه وتستره، وجريان الأنهار من تحت أشجارها مما يزيد جمالها، والمساكن الطيبة في جنات عدن : هي الدور والخيام التي يطيب لساكنيها المقام فيها لاحتوائها على ما يطلبون من الأثاث والرياش والزينة التي بها تتم راحة المقيم فيها وسروره، والعدن : الإقامة والاستقرار، يقال عدَن في مكان كذا إذا أقام فيه وثبت، فجنات عدن هي جنات الإقامة والخلود كقوله :( جنّة الخلد- جنّة المأوى ) وقيل إنه منزل من منازل دار النعيم كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها.
روى عن أبي هريرة :( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن ).
﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾ رضوان الله هو مقام رؤيته تعالى التي تكمل بها معرفته والإنسان جسد وروح، ففي الجنات ومساكنها أعلى النعيم الجسماني، ورضوان الله هو أعلى النعيم الروحاني.
﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾ أي ذلك الوعد بالنعيم الجسماني، والروحاني فهو الفوز العظيم الذي يُجزى به المؤمنين المخلصون، لا غيره من حظوظ الدنيا الفانية التي يتكالب عليها الكفار والمنافقون.
وقد ورد في صف الجنة ودرجاتها أحاديث بعضها موضوع، وبعضها منكر، ومن ذلك ما روي عن ابن أبي هريرة وعمران بن حصين أنهما قالا لمن سألهما : على الخبير سقطت، وأنهما سألا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرا وصفا طويلا، منه أنه يوجد هناك ألوف من البيوت في كل منها ألوف من الحور العين، وهو حديث منكر من دسائس الوضاعين ككعب الأحبار وغيره. قال ابن القيم : لم يثبت في نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجين لكل رجل.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٧٣ ) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ( التوبة : ٧٣-٧٤ ).
المعنى الجملي : بعد أن وصف الله تعالى المؤمنين بشريف الصفات، ووعدهم بأجزل الثواب وأرفع الدرجات- أعاد الكرّة إلى تهديد المنافقين وإنذارهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفرهم إذا هم استرسلوا في إظهار ما ينافي الإسلام من الأقوال والأفعال كالقول الذي قالوه وأنكروه بعد أن أظهره الله عليهم وكذبهم في إنكارهم.
وجهادهم ألا يعاملوا معاملة المؤمنين الصادقين، فيقابلون بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر إلى نحو ذلك مما سيذكر بعد.
تفسير المفردات :
الجهاد والمجاهدة : استفراغ الجهد والوسع في مدافعة العدو، وهو ثلاثة أضرب : مجاهدة العدو الظاهرة. مجاهدة الشيطان. مجاهدة النفس والهوى، ويشير إلى هذه كلها قوله تعالى :﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده ﴾ ( الحج : ٧٨ ) وقال :﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ﴾ ( التوبة : ٤١ ) وقال صلى الله عليه وسلم :( جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم ) وقال :( جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم ) والجهاد باللسان : إقامة الحجة والبرهان، والجهاد باليد : الجهاد بالسيف وكل الوسائل الحربية. والغلظة : الخشونة والشدة في المعاملة، وهي ضد اللين.
الإيضاح :
﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾ أي ابذل أيها النبي جهدك في مقاومة هاتين الطائفتين اللتين تعيشان بين ظهرانَيْك بمثل ما يبذلان من جهد في عداوتك، وعاملهما بالغلظة والشدة التي توافق سوء حالهما.
وقد اتفق الأئمة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين، فلا يقاتلون إلا إذا ارتدوا أو بغَوْا على جماعة المسلمين بالقوة أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان : أي بالحجة والرهان.
وكان كفار اليهود يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم حتى بتحريف السلام عليه بقولهم : السام عليكم، والسام الموت فيقول : وعليكم، ثم تكرر نقضهم للعهد حتى كان من أمرهم ما تقدم ذكره، وكان يعامل المنافقين باللطف واللين بناء على حكم الإسلام الظاهر. فجرّأهم هذا على أذاه بنحو قولهم هو أذن، فأمره الله في هذه الآية بالغلظة على الفريقين في جهاده التأديبي لهم، لأن أمثالهم لا علاج له إلا هذا كما قال :
ووضع النّدى في موضع السيف بالعلا مُضرّ كوضع السيف في موضع الندى
وهو جهاد فيه مشقة عظيمة، لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين، وشدته في قتاله لأعدائه المحاربين، يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم، وأثر عن عمر أنه قال : أذلّوهم ولا تظلموهم.
وفي هذه الغلظة تربية للمنافقين وعقوبة لهم يرجى أن تكون سببا في هداية من لم يُطْبَع الكفر على قبله وتحط به خطايا نفاقه، فتقطيب وجهه صلى الله عليه وسلم في وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون، ومن ير أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه من الرئيس وغيره يضق صدره، ويحاسب نفسه ويثب إلى رشده ويتب إلى ربه.
وهذه السياسة الحكيمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين وإسلام ألوف الألوف من الكافرين.
﴿ ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾ أي لا مأوى لهم يلجؤون إليه إلا دار العذاب التي لا يموت من أوى إليها، ولا يحيا حياة طيبة، وبئس المصير هي :﴿ إنها ساءت مستقرا ومقاما ﴾ ( الفرقان : ٦٦ ).
والخلاصة : إنهم قد اجتمع لهم عذابان : عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة، وعذاب الآخرة بأن تكون جهنم مأواهم.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٧٣ ) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ( التوبة : ٧٣-٧٤ ).
المعنى الجملي : بعد أن وصف الله تعالى المؤمنين بشريف الصفات، ووعدهم بأجزل الثواب وأرفع الدرجات- أعاد الكرّة إلى تهديد المنافقين وإنذارهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفرهم إذا هم استرسلوا في إظهار ما ينافي الإسلام من الأقوال والأفعال كالقول الذي قالوه وأنكروه بعد أن أظهره الله عليهم وكذبهم في إنكارهم.
وجهادهم ألا يعاملوا معاملة المؤمنين الصادقين، فيقابلون بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر إلى نحو ذلك مما سيذكر بعد.
تفسير المفردات :
ونقم منه الشيء : أنكره وعابه عليه.
الإيضاح :
ثم ذكر سبحانه الجرائم الموجبة لجهادهم كالكفار، وهي أنهم أظهروا الكفر بالقول وهموا بشرّ ما يُغْرَى به من الفعل، وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أظهره الله عليه وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم ويحلفون على إنكارهم ليصدقهم كدأبهم من قبل، فقد كانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم كما قال تعالى :﴿ اتخذوا أيمانهم جنة ﴾ ( المجادلة : ١٦ ) ويخوضون في آيات الله وفي رسوله استهزاء خرجوا به من الإيمان الذي يدّعونه إلى الكفر الذي يكتمونه فقال :
﴿ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ﴾ أي يحلفون بالله إنهم ما قالوا تلك الكلمة التي نسبت إليهم، والله يكذبهم ويثبت أنهم قد قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم يذكر القرآن هذه الكلمة لأنه لا ينبغي ذكرها، ولئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها، وأصح ما قيل فيها ما رواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال :( إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعينيْ شيطان، فإذا جاء فلا تكلّموا )، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله فقال له :( علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ ) فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا، فتجاوز عنهم فأنزل الله :﴿ يحلفون بالله ما قالوا ﴾ الآية.
أما همّهم بما لم ينالوا فهو اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة منصرَفه من تبوك- ذاك أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من المنافقين فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق، فلما بلغوا العقبة وأرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشِيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر خبرهم فقال :( من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم ) وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثّموا وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة أن يسقوها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكرة القوم من ورائهم قد غَشُوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع ومعه مِحْجَن، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم الله سبحانه حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظُهِر عليه فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركه قال :( اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار وراءها ) فأسرعوا حتى استووا بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة ( هل عرفت من هؤلاء الركب أحدا ؟ ) قال حذيفة عرفت راحلة فلان وفلان، وقال : كانت ظلمة الليل وغشيتُهم وهم متلثمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا ؟ ) قالوا : لا والله يا رسول الله، قال :( فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا طلعتُ في العقبة طرحوني منها ) قالوا : أولا تأمر بهم يا رسول الله إذا فنضرب أعناقهم ؟ قال :( أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمدا قد وضع يده في أصحابه ) فسماهم لهما وقال :" كتماهم ".
والصحيح في عددهم ما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( في أمتي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدّبيْلة- خرّاج ودُمّل كبير يظهر في الجوف يقتل صاحبه كثيرا- سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم ) أي كأنه سراج من النار.
﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ أي وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم شيئا يقتضي الكراهة والهم بالانتقام- إلا إغناء الله تعالى إياهم ورسوله من فضله بالغنائم التي هي عندهم أحب الأشياء لديهم في هذه الحياة، وكانوا كسائر الأنصار فقراء فأغناهم الله ببعثة الرسول ونصره وبما آتاه من الغنائم كما وعده، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم للأنصار :( كنتم عالة فأغناكم الله بي ).
﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾ أي فإن يتوبوا من النفاق وما يصدر عنه من مساوئ الأقوال والأفعال، يكن ذلك المتاب خيرا لهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والعمل لما فيه السعادة في الآخرة ومعاشرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاهدة فضائله وأخوّة المؤمنين بعضهم لبعض وما فيها من الودّ والوفاء الكامل والإيثار على النفس إلى نحو ذلك.
وأما في الآخرة فبما علمتَ مما وعد الله به المؤمنين من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار والمساكن الطيبة.
﴿ وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ﴾ أي وإن أعرضوا عما دُعُوا إليه من التوبة وأصروا على النفاق وما ينشأ منه من المساوي الخلقية والنفسية- يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بما يلازم قلوبهم من الخوف والهلع كما قال سبحانه :﴿ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ﴾ ( التوبة : ٥٧ ) وقال :﴿ يحسبون كل صيحة عليهم ﴾ ( المنافقون : ٤ ) فهم في جزع دائم وهمّ ملازم.
وأما في الآخرة فحسبك ما تقدم من وعيدهم بتلك النار التي تطلع على الأفئدة.
﴿ وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾ أي وما لهم في الأرض كلها من يتولى أمورهم ولا من ينصرهم ويدافع عنهم، إذ من خذله الله فلا يقدر أحد أن يجيره.
أما في الدنيا فقد أغلقت في وجوههم الأبواب، فقد خص الله ولاية الأخوة والمودة والنصرة المؤمنين والمؤمنات دون المنافقين والمنافقات، وقد قضى الإسلام على جوار الجاهلية وعلى أحلافهم من أهل الكتاب في الحجاز بالقتل والجلاء.
وأما في الآخرة فقد تظاهرت النصوص على أنه لا وليّ ولا ظهير للكفار والمنافقين.
﴿ *وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( ٧٦ ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ( ٧٧ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ ( التوبة : ٧٥-٧٨ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى من المنافقين أغناهم الله بعد فقر وإملاق، وقد كانوا يلجؤون إلى الله وقت البأساء والضراء فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له والطاعة لشرعه إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم، فلما استجاب دعاءهم نكصوا على أعقابهم وكفروا النعمة وهضموا حقوق الخلق- ومثل هؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان.
الإيضاح :
﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ﴾أي ومن المنافقين من أعطى لله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله مالا وثروة ليشكُرَنّ له نعمته بالصدقة منها، وليعملنّ عمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به والإنفاق في سبيل الله : كإعداد العُدة للجهاد وبذل المستطاع لخير الأمة وسعادتها بما يَرْقى بها في مختلف شؤونها.
﴿ *وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( ٧٦ ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ( ٧٧ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ ( التوبة : ٧٥-٧٨ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى من المنافقين أغناهم الله بعد فقر وإملاق، وقد كانوا يلجؤون إلى الله وقت البأساء والضراء فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له والطاعة لشرعه إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم، فلما استجاب دعاءهم نكصوا على أعقابهم وكفروا النعمة وهضموا حقوق الخلق- ومثل هؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان.
الإيضاح :
﴿ فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ﴾ أي فلما رزقهم وأعطاهم ما طلبوا- بخلوا بما آتاهم وأمسكوه فلم يتصدقوا منه بشيء وتولوْا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة، وإصلاح الهم وحال أمتهم كما عاهدوا الله عليه، ولم يكن ذلك التولي عارضا طارئا، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة بحافز نفسيّ مَلك عليهم أمرهم ومنعهم عن التصدق، بحيث إذا ذُكِّروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دُعُوا لا يستجيبون.
﴿ *وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( ٧٦ ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ( ٧٧ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ ( التوبة : ٧٥-٧٨ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى من المنافقين أغناهم الله بعد فقر وإملاق، وقد كانوا يلجؤون إلى الله وقت البأساء والضراء فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له والطاعة لشرعه إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم، فلما استجاب دعاءهم نكصوا على أعقابهم وكفروا النعمة وهضموا حقوق الخلق- ومثل هؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان.
الإيضاح :
﴿ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ﴾ قال الليث : يقال أعقبتُ فلانا ندامة إذا صبرت عاقبة أمره كذلك كما قال الهذلي :
أودى بني وأعقبوني حسرة بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
أي أعقبهم ذلك البخل والتولي بعد العهد الموثَّق بأوكد الأيمان نفاقا في قلوبهم متمكنا منها وملازما لها إلى يوم الحساب في الآخرة لأنه لا رجاء معه في التوبة.
ثم ذكر سببين هما من أخص أوصاف المنافقين- إخلاف الوعد والكذب فقال :
﴿ بما أخلفوا الله وعدوه وبما كانوا يكذبون ﴾ أي إن سنة الله في البشر قد جرت بأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكّن النفاق في القلب ويقويه، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيد الإيمان قوة ورسوخا في النفس، وهكذا جميع الأخلاق والعقائد تقوي وترسخ بالعمل الذي يصدر منها.
فهؤلاء لما كان قد رسخ في نفوسهم خلف الوعد واستمرار الكذب- مكّن ذلك النفاق في قلوبهم بمقتضى سننه وتقديره.
أخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله :﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ الآية : أن رجلا من الأنصار يقال له ثعلبة أتى مجلسا فأشهدهم قال : لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه وتصدقت وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، قفص الله شأنه في القرآن ا ه.
﴿ *وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( ٧٦ ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ( ٧٧ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ ( التوبة : ٧٥-٧٨ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى من المنافقين أغناهم الله بعد فقر وإملاق، وقد كانوا يلجؤون إلى الله وقت البأساء والضراء فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له والطاعة لشرعه إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم، فلما استجاب دعاءهم نكصوا على أعقابهم وكفروا النعمة وهضموا حقوق الخلق- ومثل هؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان.
الإيضاح :
﴿ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ﴾ أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يُسِرّون، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ولمز الرسول- أن الله يعلم السر الكامن في أعماق نفوسهم الذين يخصون به من يثقون به ممن هو مشارك لهم في النفاق، وأن الله يعلم الغيوب كلها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه.
﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٧٩ ) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( التوبة : ٧٩-٨٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه بُخل المنافقين وشحهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا الله على الصدقة إذا آتاهم من فضله- أردف ذلك ببيان أنهم لم يقتصروا في جُرمهم على هذا الحد، بل جاوزوا ذلك إلى لمز المؤمنين وذمهم في صدقاتهم غنيهم وفقيرهم، وأنهم لهذا قد وصلوا إلى حد لم يعد لهم فيه أدنى حظ من الإسلام، ولا أدنى نفع من استغفار الرسول ودعائه لهم لرسوخهم في الكفر بالله ورسوله وعدم الرجاء في إيمانهم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود البدري قال : لما أُمِرنا بالصدقة كنا نتحامل- يحمل بعضنا لبعض بالأجر- فجاء أبو عقيل- اسمه الحجاج- بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون : إن الله غني عن صدقة هذا، وما فعل الآخر هذا إلا رياء. فنزلت :﴿ الذين يلمزون ﴾ الآية.
وروى ابن جرير عن عكرمة قال : حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة في غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها فقال :( بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ) وتصدق يومئذ عاصم بن عدي بمائة وَسْق- ثلثمائة وعشرين رطلا- من تمر وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، الحديث.
تفسير المفردات :
لمزه : عابه. والمطوّع : أي المتطوع، وهو من يؤدي ما يزيد على الفريضة. والصدقات : واحدها صدقة. والجهد بالضم والفتح : الطاقة وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان. وسخر منه : استهزأ به احتقارا.
الإيضاح :
﴿ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ﴾ أي أولئك هم الذين يلمزون المتطوعين من المؤمنين ويعيبونهم في أمر الصدقات التي هي أظهر آيات الإيمان، ويذمونهم في أكمل فضائلهم ويقولون ما فعلوها لوجه الله وإنما فعلوها رئاء الناس.
فلمزهم هنا في مقدارها وصفة أدائها لا فيها نفسها، واللمز هناك في قسمتها، وقد جاء بعض الروايات ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عمر بصدقة، وجاء عثمان بصدقة عظيمة وكثير من أصحابه بصدقات، فقال المنافقون : ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليُذَكّر بنفسه ).
﴿ والذين لا يجدون إلا جهدهم فسيخرون منهم ﴾ أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم : أي الفقراء الذي تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم، فيستهزئون بهم احتقارا لما جاؤوا به وعدّا له من الحماقة والجنون.
وخص هؤلاء بالذكر وإن كانوا داخلين في المتطوعين، لأن مجال لمزهم عند المنافقين أوسع، والسخرية منهم أشد، وهم أهل الإجلال والإكبار والأحق بالثناء عند المؤمنين.
﴿ سخر الله منهم ﴾ أي فجازاهم الله بمثل ذنبهم، فجعلهم سخرية للمؤمنين وللناس أجمعين بفضيحتهم في هذه السورة ببيان مخازيهم وعيوبهم.
﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ تقدم بيانه في هذه السورة بهذا اللفظ وغيره.
ثم بين سبحانه عقابهم وسواهم بالكافرين فقال :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾.
﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٧٩ ) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( التوبة : ٧٩-٨٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه بُخل المنافقين وشحهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا الله على الصدقة إذا آتاهم من فضله- أردف ذلك ببيان أنهم لم يقتصروا في جُرمهم على هذا الحد، بل جاوزوا ذلك إلى لمز المؤمنين وذمهم في صدقاتهم غنيهم وفقيرهم، وأنهم لهذا قد وصلوا إلى حد لم يعد لهم فيه أدنى حظ من الإسلام، ولا أدنى نفع من استغفار الرسول ودعائه لهم لرسوخهم في الكفر بالله ورسوله وعدم الرجاء في إيمانهم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود البدري قال : لما أُمِرنا بالصدقة كنا نتحامل- يحمل بعضنا لبعض بالأجر- فجاء أبو عقيل- اسمه الحجاج- بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون : إن الله غني عن صدقة هذا، وما فعل الآخر هذا إلا رياء. فنزلت :﴿ الذين يلمزون ﴾ الآية.
وروى ابن جرير عن عكرمة قال : حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة في غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها فقال :( بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ) وتصدق يومئذ عاصم بن عدي بمائة وَسْق- ثلثمائة وعشرين رطلا- من تمر وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، الحديث.
الإيضاح :
﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾ أي وإن تدعُ لهؤلاء المنافقين وتسأل الله أن يستر عليهم ذنوبهم بالعفو عنها وترك فضيحتهم بها أو لا تدع فلن يستر الله عليهم ولن يعفو عنهم، ولكنه يفضحهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
ويراد بالسبعين في مثل هذا الأسلوب الكثرة لا العدد المعين، فالمراد أنك مهما أكثرت من الاستغفار لهم فلن يستجاب لك فيهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله فيتوب عليهم ويغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له ويقول :( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) رواه ابن ماجه.
﴿ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ﴾ أي من أجل جحودهم وحدانية الله وعدم إيقافهم بما وصف به تعالى نفسه من العلم بالسر والنجوى وسائر الغيوب، وجحودهم وحيه لرسوله صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه من أتباعه، وجحودهم بعثته للموتى وجزاءهم على أعمالهم لم يعف عن ذنوبهم ولا عما دسّوا به أنفسهم من الآثام والمعاصي.
﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ أي إن سنة الله قد جرت فيمن أصروا على فسوقهم وتمردوا في نفاقهم وأحاطت بهم خطاياهم- أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان فلا يهتدون إليهما سبيلا.
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( ٨١ ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٨٢ ) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ ( التوبة : ٨١-٨٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر بعض سوءات المنافقين ممن اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال ولمزهم في قسمة الصدقات وفي إعطائها، عاد الكلام في ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال في غزوة تبوك وظلّوا في المدينة، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها، وقد نزل ذلك أثناء السفر.
تفسير المفردات :
الفرح : الشعور بارتياح النفس وسرورها، والخلاف والمخالفة بمعنى، ويستعمل خلافه بمعنى بعده، يقال جلست خلاف فلان وخلفه : أي بعده، ومنه :﴿ وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ﴾ ( الإسراء : ٧٦ ) والمخلّفون من خلّف فلانا : أي تركه خلفه. ويفقهون : أي يعقلون.
الإيضاح :
﴿ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ﴾ أي فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك بقعودهم في بيوتهم مخالفين الله ورسوله، وإنما فرحوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بما في الخروج معه من أجر عظيم لا تُذكر معه من أجر عظيم لا تُذكر معه راحة القعود في البيوت شيئا.
﴿ وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ﴾ أي وقالوا لإخوانهم في النفاق إغراء لهم بالثبات على المنكر وتثبيطا لعزائم المؤمنين : لا تنفروا في الحر، قل لهم أيها الرسول مفنّدا آراءهم ومسفّها أحلامهم : نار جهنم التي أعدها الله لمن عصاه وعصى رسوله أشد حرا من تلك الأيام في أوائل فصل الخريف، إذ هذا الحر مما تحتمله الجسوم ولا يلبث أن يخفّ ويزول، ونار جهنم حرها شديد دائم يلفح الوجوه ويُنَضِج الجلود، فهم لو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به لما خالفوا وقعدوا ولما فرحوا بقعودهم بل لحزنوا وبكَوْا كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا.
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( ٨١ ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٨٢ ) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ ( التوبة : ٨١-٨٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر بعض سوءات المنافقين ممن اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال ولمزهم في قسمة الصدقات وفي إعطائها، عاد الكلام في ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال في غزوة تبوك وظلّوا في المدينة، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها، وقد نزل ذلك أثناء السفر.
الإيضاح :
﴿ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ أي إن الأجدر بهم بحسب ما تقتضيه حالهم وتستوجبه جريمتهم أن يضحكوا قليلا ويبكوا كثيرا لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف من أجر، وما سيحملونه في الآخرة من وِزْر، وما يلاقونه في الدنيا من خزي وضرّ، جزاء لهم على ما اجترحوا من العصيان، وارتكبوا من الإثم والبهتان، وكما يدين الفتى يدان.
ونحو الآية قوله صلى الله عليه وسلم :( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا : يظهر النفاق، وترتفع الأمانة، وتُقبض الرحمة، ويُتّهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، وأناخ بكم الشرف الجون- الشرف بضمتين جمع أشارف وهي الناقة الكبيرة السن، والجون : السود- الفتن كأمثال الليل المظلم ).
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( ٨١ ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٨٢ ) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ ( التوبة : ٨١-٨٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر بعض سوءات المنافقين ممن اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال ولمزهم في قسمة الصدقات وفي إعطائها، عاد الكلام في ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال في غزوة تبوك وظلّوا في المدينة، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها، وقد نزل ذلك أثناء السفر.
تفسير المفردات :
والخالف : المتخلف.
الإيضاح :
ثم بين ما يجب أن يعاملوا به في الدنيا قبل الآخرة، مما يقتضي تركهم للفرح والغبطة في دنياهم بالتمتع بأحكام الإسلام فقال :
﴿ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقتلوا معي عدوا ﴾ أي فإن ردك الله من سفرك هذا إلى طائفة من المنافقين المتخلفين، فاستأذنوك ليخرجوا معك في غزاة أو غيرها مما تخرج لأجله، فقل لهم : لن تخرجوا معي أبدا ولن يكون لكم أبدا شرف الصحبة بالخروج معي للجهاد في سبيل الله ما دمت ودمتم، ولن تقاتلوا معي عدوا لا بالخروج والسفر إليهم ولا بغير ذلك كأن يهاجم المؤمنون في عُقْر دارهم كما حدث يوم وقعة الأحزاب.
ثم بين سبب النهي عن صحبتهم فقال :
﴿ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ﴾ أي إنكم رضيتم لأنفسكم بخزي القعود أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج، إذا طلب إليكم أن تنفروا فلن تنفروا وعصيتم الله ورسوله، فاقعدوا أبدا مع الذين تخلفوا عن النّفر من الأشرار المفسدين الذين خرجوا عن سبيل المهتدين، وربما كان المراد بالخالفين الصبيان والعجزة والنساء الذين لا يكلفون القيام بشرف الجهاد دفاعا عن الحق وإعلاء لكلمة الله.
﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨٤ ) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ ( التوبة : ٨٤-٨٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله رسوله بإهانة المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات- قفّى على ذلك بذكر إهانة أخرى لهم وهي منع الرسول أن يصلي على من مات منهم بعد إعلامه بحقيقة أمرهم، وفي مقدمتهم زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبيّ والاثنا عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح :
﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ﴾ أي ولا تصلّ أيها الرسول بعد الآن على أحد من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك، ولا تتولّ دفنه والدعاء له بالتثبيت كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم.
روى أبو داود والحاكم والبراز عن عثمان رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال :( استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل ).
ثم بيّن سبب نهيه عن الصلاة عليهم فقال :
﴿ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾ أي لأنهم كفروا وماتوا وهم خارجون من حظيرة الإسلام مفارقون أمر الله ونهيه.
روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول لما تُوُفّي عبد الله بن أبيّ : دُعِي رسول صلى الله عليه وسلم للصلاة فقام عليه فلما وقف قلت : أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبيّ القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا ؟ أعدّد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت قال :( يا عمر أخّر عني، إني قد خيّرت : قد قيل لي- استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم- فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ) ثم صلى عليه ومشى معه حتى قام على قبره إلى أن فرغ منه فعجبت لي ولجراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان ﴿ ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ﴾ فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل.
وقد حكم كثير من العلماء كالقاضي أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي، وغيرهم بعدم صحة هذا الحديث لمخالفته للآية من وجوه :
جعل الصلاة على ابن أبيّ سببا لنزول الآية، وسياق القرآن صريح في أنها نزلت في سفر غزوة تبوك سنة ثمان، وابن أبيّ مات في السنة التي بعدها.
قول عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : وقد نهاك ربك أن تصلي عليه- يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبيّ- وقوله بعده- فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تصلّ على أحد منهم ﴾ الآية- صريح في أنه نزل بعد موته والصلاة عليه.
قوله إنه صلى الله عليه وسلم قال : إن الله خيره في الاستغفار لهم وعدمه، إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كالحديث ولم يكن فيها التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم، فأوفيها للتسوية لا للتخيير.
وهناك روايات أخرى في الصلاة على ابن أبيّ من طريق ابن عمرو ومن طريق جابر.
وإنما ذكرنا هذا الحديث مع ما علمت من رأي أئمة الحديث فيه وحكمهم بأنه لا يُقْبل لما ذكروا من الأسباب- لأنه قلما يخلو تفسيره من ذكره، وقل أن تجد من يشير إلى شيء مما يدل على ضعفه واضطرابه لمخالفته لظاهر الآية، فرأينا أن نجعلك على بينة من أمره إذا أنت قرأته.
ثم أكد ما تقدم من النهي عن الاغترار بالأموال والأولاد ؛ لأن الأمر جِدّ خطير يحتاج إلى التوكيد ؛ إذا هما أعظم الأشياء جذبا للقلوب، وجلبا للخواطر للاشتغال بالدنيا، فيجب التحذير منهما مرة بعد أخرى فقال :﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾.
﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨٤ ) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ ( التوبة : ٨٤-٨٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله رسوله بإهانة المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات- قفّى على ذلك بذكر إهانة أخرى لهم وهي منع الرسول أن يصلي على من مات منهم بعد إعلامه بحقيقة أمرهم، وفي مقدمتهم زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبيّ والاثنا عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح :
﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾ قد جاء مثل هذا النص فيما سبق إلا أن زيادة ﴿ لا ﴾ في الآية السابقة للنهي عن الإعجاب بكل من الأموال والأولاد على حدته، وهو شامل لمن كانت له إحدى المزيتين أو كلاهما، والنهي في هذه الآية عن الإعجاب بها مجتمعين وهذا أدعى إلى الإعجاب بهما.
﴿ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ( ٨٦ ) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ( ٨٧ ) لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٨٨ ) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ( التوبة : ٨٦-٨٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن المنافقين عملوا الحيل والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو- قفّى على ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دعنا نكن مع الضعفاء والزمْنَى العاجزين عن القتال.
تفسير المفردات :
الطّول بالفتح : الغنى والثروة، وقد يراد به الفضل والمنة : وذرنا : أي دعنا واتركنا.
الإيضاح :
﴿ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ﴾ أي إنه كلما أنزلت سورة تدعو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم-استأذنك أولو المقدرة على الجهاد المفروض عليهم بأموالهم وأنفسهم- في التخلف عن الجهاد وقالوا دعنا نكن مع القاعدين في بيوتهم من الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال والصبيان والنساء غير المخاطبين به.
ونحو الآية قوله :﴿ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ﴾ ( محمد : ٢٠ ).
وفي هذا تصريح بجبنهم ورضاهم لأنفسهم بالمذلة والهوان.
﴿ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ( ٨٦ ) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ( ٨٧ ) لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٨٨ ) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ( التوبة : ٨٦-٨٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن المنافقين عملوا الحيل والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو- قفّى على ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دعنا نكن مع الضعفاء والزمْنَى العاجزين عن القتال.
تفسير المفردات :
والخوالف : واحدها خالفة ومثله خالف، وهو من لا خير فيه ولا غناء عنده. والطبع على القلوب : الختم عليها وعدم قبولها لشيء جديد.
الإيضاح :
﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾ أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء اللواتي ليس عليهن فرض الجهاد، وهذا منتهى الجبن وتعافه النفس التي لا ترضى بالمذلة.
ثم بيّن العلة في قبولهم هذا الذل فقال :
﴿ وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ﴾ أي إن الله قد ختم على قلوبهم فلا تقبل جديدا من العلم والموعظة غير ما استقر فيها استحوذ عليها وصار وصفا لازما لها، لأن النفاق قد أثر فيها بحسب سنة الله في الارتباط بين العقائد والأعمال، فهم لا يفهمون ما أمروا به، فهم تدبر واعتبار فيعملوا به.
﴿ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ( ٨٦ ) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ( ٨٧ ) لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٨٨ ) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ( التوبة : ٨٦-٨٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن المنافقين عملوا الحيل والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو- قفّى على ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دعنا نكن مع الضعفاء والزمْنَى العاجزين عن القتال.
الإيضاح :
﴿ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾ أي ولكن الرسول والذين آمنوا به وكانوا معه في كل المهام الدينية لا يفارقونه- جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وقاموا بالواجب خير قيام عملا بداعي الإيمان وأمر الله في القرآن.
﴿ وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ﴾ أي وأولئك المجاهدون في سبيل الله لهم الخيرات التي هي ثمرات الإيمان والجهاد من شرف النصر ومحو كلمة الكفر وإعلاء كلمة الله وإقامة الحق والعدل والتمتع بالمغانم والسيادة في الأرض، دون المنافقين الجبناء الذين ألِفوا الذلة والهوان ولم يكونوا أهلا للقيام بهذه الأعباء، وأولئك هم الفائزون بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة دون المنافقين الذين حرموا منها بنفاقهم بما له من الأثر في أخلاقهم وأعمالهم.
﴿ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ( ٨٦ ) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ( ٨٧ ) لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٨٨ ) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ( التوبة : ٨٦-٨٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن المنافقين عملوا الحيل والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو- قفّى على ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دعنا نكن مع الضعفاء والزمْنَى العاجزين عن القتال.
الإيضاح :
﴿ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ﴾ تقدم شرح هذا في آيات سابقة.
﴿ وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٩٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن بيّن حال منافقي الحضر في المدينة- أردف ذلك ذكر حال الأعراب من البدو الذين طلبوا الإذن بالتخلف والذين تخلفوا بغير إذن.
تفسير المفردات :
المعذّر : من عذّر في الأمر إذا قصّر فيه وتوانى ولم يجدّ وهو يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له، وقد يكون أصله المعتذرون من اعتذر، والمعذر إما صادق أو كاذب، والأعراب : هم سكان البدو، وكذبوا الله ورسوله : أي أظهروا الإيمان بهما كذبا، يقال : كذَبَتْه نفسه إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها، وكذبته عينه إذا رأته ما لا حقيقة له.
الإيضاح :﴿ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم ﴾ أي وجاء الذين يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام من أولي التعذير.
قال الضحاك : هم رهط عامر بن الطُّفَيل جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه فقالوا يا نبي الله : إنا إن غزونا معك أغارت طيئ على نسائنا وأولادنا وأنعامنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم ).
واختلفت الروايات بين قائل بصدقهم في الاعتذار، وقائل بكذبهم فيه، وظاهر كلام ابن عباس أنهم صادقون في اعتذارهم، وعليه يكون المراد بالذين كذبوا الله ورسوله جماعة غيرهم من المنافقين.
﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾ أي وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما على غير اعتقاد صادق، قال أبو عمرو بن العلاء : كان كلا الفريقين مسيئا، قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله بقوله :﴿ وجاء المعذرون ﴾ وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى، فأوعد المكذبين وبعض المعتذرين بقوله :
﴿ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾ أي سيصيب الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين والكاذبين من المعتذرين الذين في قلوبهم مرض- عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ( ٩٢ ) إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾ ( التوبة : ٩١-٩٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكّر المعذرين والذين كذبوا الله ورسوله، وذكر وعيدهم على سوى صنيعهم قفّى على ذلك بذكر أصناف ثلاثة أعذارها مقبولة، ثم أردف هذا بذكر شر الأعذار وهو استئذان الأغنياء.
الإيضاح :
﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ﴾ أي إن التكليف بالغزو ساقط عن أصناف ثلاثة :
الضعفاء وهم من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان وذوي العاهات التي لا تزول كالكساح والعمى والعرج.
المرضى وهم من عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد، وعذرهم ينتهي إذا شُفوا منها.
الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا ما خرجوا، ولا ما يكفي عيالهم.
وقد كان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال، فالفقير ينفق على نفسه، والغني ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته كما فعلوا في غزوة تبوك.
والخلاصة : إن هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم : أي لا ضيق عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب على شرط أن ينصحوا لله ورسوله : أي يخلصوا لله في الإيمان وللرسول في الطاعة بعمل كل ما فيه مصلحة للأمة الإسلامية ولا سيما المجاهدين منها من كتمان السر والحث على البر ومقاومة الخائنين في السر والجهر.
روى مسلم عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الدين النصيحة " قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال :( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ).
وروى البخاري ومسلم عن جابر قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾ السبيل : الطريق أي ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذتهم، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليهم.
وقد جاء هذا الأسلوب كثيرا في الكتاب الكريم، وهو عام في كل من أحسن عملا من أعمال البر والتقوى كما قال تعالى :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ﴾ ( البقرة : ١١٢ ).
وقد تفضل الشارع الحكيم فجازى المحسن بأضعاف إحسانه ولم يؤاخذ المسيء إلا بقدر إساءته.
والخلاصة : إن كل ناصح لله ورسوله فهو محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج.
ثم قفّى ذلك بذكر الصفح عنهم والتجاوز عن سيئاتهم فقال :
﴿ والله غفور رحيم ﴾ أي وهو سبحانه كثير المغفرة واسع الرحمة يستر على المقصرين ضعفهم في أداء الواجبات ما داموا مخلصين النصح لله ورسوله، ويدخلهم في زمرة الصالحين من عباده.
أما المنافقون المسيئون فلا يغفر لهم ولا يرحمهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن النفاق الذي كان سببا في ارتكاب هذه الآثام.
﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ( ٩٢ ) إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾ ( التوبة : ٩١-٩٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكّر المعذرين والذين كذبوا الله ورسوله، وذكر وعيدهم على سوى صنيعهم قفّى على ذلك بذكر أصناف ثلاثة أعذارها مقبولة، ثم أردف هذا بذكر شر الأعذار وهو استئذان الأغنياء.
الإيضاح :
﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ﴾ يقال حمله على البعير أو غيره : أركبه إياه أو أعطاه إياه ليركبه، وكأنّ الطالب لظهر يركبه يقول لمن يطلب منه : احملني.
أي لا حرج على من ذكروا أولا ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل فيخرجوا معك، فلم تجد ما تحملهم عليه، وهؤلاء وإن دخلوا في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد لفقدهم الرواحل- قد خصوا بالذكر اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم قسم مستقل.
﴿ تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ﴾ أي انصرفوا من مجلسك وهم يبكون بكاء شديدا يصحبه حزن عميق، فكانت أعينهم تمتلئ دمعا يتدفق من جوانبها حزنا وأسفا على أنهم لا يجدون ما ينفقون ولا ما يركبون في خروجهم معك للجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال :( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مُغْفل المزني فقالوا يا رسول الله احملنا فقال :( والله لا أجد ما أحملكم عليه ) فأنزل الله :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾ وكانوا يسمون البكائين.
وفي رواية أنهم ما سألوه إلا الحملان على البغال، وفي رواية أنهم سألوه الزاد والماء، ولا مانع من وقوع كل هذا في هذه الغزوة الكبيرة، ولكن الذين في الآية هم طلاب الرواحل.
وعدم وجود ما يحملون عليه يدخل فيه مراكب النقل البرية والبحرية والهوائية في هذا العصر، ويتحقق العذر بفقد ما يحتاج إليه منها في كل سفر بحسبه، ويفقد العذر بوجوده.
﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ( ٩٢ ) إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾ ( التوبة : ٩١-٩٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكّر المعذرين والذين كذبوا الله ورسوله، وذكر وعيدهم على سوى صنيعهم قفّى على ذلك بذكر أصناف ثلاثة أعذارها مقبولة، ثم أردف هذا بذكر شر الأعذار وهو استئذان الأغنياء.
الإيضاح :
ولما بين من لا سبيل عليهم في تلك الحال -ذكر من عليهم السبيل فقال :
﴿ إنما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء ﴾ أي إنما الطريق الموصل للمؤاخذة والمعاقبة بالحق على من يطلبون الإذن في القعود عن الجهاد والتخلف عن الغزو وهم أغنياء يستطيعون إعداد العدة من زاد وراحلة ونحو ذلك.
ثم ذكر السبب في استحقاقهم المؤاخذة فقال :
﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾ أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف والخالفين من النساء والأطفال والمعذرين من المفسدين.
﴿ وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾ أي وأحاطت بهم خطاياهم وذنوبهم بحسب سنن الله في أمثالهم، فهم لا يعلمون حقيقة أمرهم ولا سوء عاقبتهم، وما هو سبب ذلك من أعمالهم، فهم قد رضُوا بالمهانة في الدنيا بانتظامهم في سلك النساء والأطفال- إلا أن تخلف الأفراد عن القتال الذي تسعى إليه الشعوب والأمم يعد من مظاهر الخزي والعار، وقد جعله الدين من أقوى آيات الكفر والنفاق.
وأما سوء عاقبتهم فيكفي فيهم فضيحتهم في هذه السورة كفاء إحجامهم عن الجهاد في سبيله، وما أعده لهم من العذاب العظيم والخزي والنكال في نار الجحيم.
اللهم يا مُقَلِّب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا لدى هول الموقف والحساب، واجعلنا ممن أخلصوا العمل في السر والنجوى، واحشرنا في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وقد كان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء في الحادي عشر من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة، وله الحمد أولا وآخرا.
الجزء الحادي عشر


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٤ ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٩٥ ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( التوبة : ٩٤-٩٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عزّ اسمه من يستحقون اللوم والمؤاخذة من المعذّرين، ومن لا سبيل إلى مؤاخذتهم وعدم الحرج عليهم- ذكر في هذه الآيات ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودتهم.
تفسير المفردات :
الغيب : ما غاب عنك علمه. والشهادة : ما تشهده وتعرفه.
الإيضاح :
﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ﴾ أي سيعتذر إليكم أيها المؤمنون أولئك الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وهم أغنياء أصحاء لا عذر لهم عن التخلف عن الغزو وغيره من سيئاتهم عند رجوعكم من السفر.
﴿ قل لا تعتذروا لا نؤمن لكم ﴾ أي قل لهم أيها الرسول : لا تعتذروا إنا لن نصّدقكم في معاذيركم أبدا ولن نطمئن إليكم.
ثم بين السبب في عدم تصديقهم فقال :
﴿ قد نبأنا الله من أخباركم ﴾ أي قد أنبأنا الله بوحيه إلى رسوله بعض أخباركم التي تُسِرّونها في ضمائركم وهي مخالفة لظواهركم التي تعتذرون بها، ونبأ الله هو الحق الذي لا شك فيه، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل ولا يصدّق الكاذب.
وإنما قال : نبأنا ولم يقل نبأني إيماء إلى أنه أمره ينبّئ بذلك أصحابه ولم يكن هذا النبأ خاصا به، كما أن اعتذارهم للجميع يقتضي أن يكونوا كلهم عالمين بما فضحهم الله به، وفي هذا من التشهير بهم والخزي لهم ما لا خفاء فيه.
﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾ أي وسيرى الله عملكم ورسوله فيما بعد، وهو الذي سيدلّ : إما على إصراركم على النفاق أو على التوبة والإنابة إلى ربكم، وأما أقوالكم فلا يعتدّ بها مهما وكدتموها بالأيمان، فإن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وشهد لكم عملكم بصلاح طويّتكم، فإن الله يتقبل منكم توبتكم، ويغفر لكم حَوْبَتكم، ويعاملكم الرسول بما يعامل به المؤمنين الذين أخلصوا وصدقوا وشهدت لهم أعمالهم بذلك، وإن أنتم أبيتم إلا الإصرار على النفاق وإلا الاعتماد على رواج سوق الكذب بتلك الأيمان التي تحلفونها فسيعاملكم الرسول بما أمره الله به من جهادكم والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهرين.
وفي هذا إيماء إلى الرغبة في توبتهم حين سنوح الفرصة.
﴿ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ أي ثم تردون يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم ما تكتمون وما تظهرون، فينبئكم حينئذ بما كنتم تعملون ويجازيكم عليه بما تستحقون وهو ما أوعدكم به في كتابه الكريم في هذه السورة وفي غيرها ﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ ( النساء : ١٤٥ ).
وفي الآية إيماء إلى أنه ينبغي تحامي كل ما يُعْتَذر منه من ذنب أو تقصير، وقد ورد في الحديث :( إياك وما يُعْتذر منه ).
ثم أكد ما سبق من نفاقهم بقوله :﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ﴾.
الجزء الحادي عشر


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٤ ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٩٥ ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( التوبة : ٩٤-٩٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عزّ اسمه من يستحقون اللوم والمؤاخذة من المعذّرين، ومن لا سبيل إلى مؤاخذتهم وعدم الحرج عليهم- ذكر في هذه الآيات ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودتهم.
تفسير المفردات :
الانقلاب : الرجوع. رجس : أي قذر يجب الإعراض عنه.
الإيضاح :
﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ﴾ أي سيؤكدون لكم اعتذارهم بما يحلفون به من كاذب الأيمان إذا انقلبتم من سفركم ورجعتم إليهم لتعرضوا عن العتب عليهم والتوبيخ لهم على قعودهم مع الخالفين من العجزة والنساء والأطفال وعلى البخل بالنفقة والمال.
﴿ فأعرضوا عنهم ﴾ أي فأعرضوا عنهم إعراض الإهانة والتحقير، لا إعراض الصفح وقبول العذر. روى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين قدم المدينة :( لا تجالسوهم ولا تكلموهم ).
ثم علل هذا بقوله :
﴿ إنهم رجس ﴾ أي إن في نفوسهم قدرا معنويا يجب الاحتراس منه خوف سريان عدواه، وميل النفوس إليه، كما يحترز صاحب الثوب النظيف من الأقذار الحسّية التي ربما تصيبه إذا لم يحتط لها.
﴿ ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ أي وملجؤهم الأخير نار جهنم جزاء لهم بما كسبوا في الدنيا من أعمال النفاق وغيرها مما دنس نفوسهم، وزادهم رجسا على رجسهم.
ثم زاد في تأكيد نفاقهم فقال :﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم ﴾.
الجزء الحادي عشر


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٤ ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ٩٥ ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( التوبة : ٩٤-٩٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عزّ اسمه من يستحقون اللوم والمؤاخذة من المعذّرين، ومن لا سبيل إلى مؤاخذتهم وعدم الحرج عليهم- ذكر في هذه الآيات ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودتهم.
الإيضاح :
﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم ﴾ أي يحلفون لكم لتستديموا معاملتهم بظاهر إسلامهم، وهذا أهمّ الأغراض لديهم، فلا حظّ لهم من إظهار الإسلام سواه، ولو كان إسلامهم عن يقين واعتقاد لكان غرضهم الأول إرضاء الله ورسوله.
﴿ فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ﴾ أي فإن ترضوا عنهم كما أرادوا، وساعدتموهم على ما طلبوا فإن رضاكم عنهم لا يجديهم نفعا، فإن الله ساخط عليهم بسبب فسوقهم وخروجهم عن أمره ونهيه.
وفي هذا إيماء إلى نهي المخاطبين عن الرضا عنهم الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة وأن من يرضى عنهم من المؤمنين يكون فاسقا مثلهم محروما من رضوان الله، وأن من يتوب منهم ويرضى الله ورسوله يخرج من حدود سخطه ويدخل في حظيرة مرضاته ولا يعدّ حينئذ فاسقا.
روي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في الجَدّ بن قيس ومُعَتّب بن قُشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا، أمر النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا إلى المدينة بألا يجالسوهم ولا يكلموهم.
وقال قتادة : إنها نزلت في عبد الله بن أبيّ فإنه حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بعد عودته ألا يتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى عنه فلم يفعل.
﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٩٧ ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٩٨ ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٩٧-٩٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم، بيّن في هذه الآيات الثلاث أحوال الأعراب مؤمنيهم ومنافقيهم كذلك.
تفسير المفردات :
الأعراب : اسم لبدو العرب : واحد أعرابي والأنثى أعرابية، والعرب اسم لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة بدوه وحضره : واحده عربي.
الإيضاح :
﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ﴾ أي إن طبيعة البداوة اقتضت أمرين :
إن كفارهم ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم من أهل الحضر، ولا سيما من يقيم منهم في المدينة، فهم أغلظ طباعا وأقسى قلوبا، لأنهم يقضون جُلّ أعمارهم في رعي الأنعام وحمايتها من ضواري الوحوش- على أنهم محرومون من العلوم الكسبية والآداب الاجتماعية.
إنهم أحق وأحرى من أهل الحضر بألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من الهدى والبينات في كتابه ؛ وما آتاه من الحكمة التي بيّن بها تلك الحدود تارة بالقول وأخرى بالفعل.
وكان صحابته في المدينة وما حولها يتلقّوْن عنه الكتاب حين نزوله ويشهدونه سنته في العمل به، ويرسل عمّاله إلى البلاد التي افتُتِحت يبلغون الناس القرآن ويحكمون به وبسنة رسوله المبيّنة له- وكل هذا لم يكن مستطاعا لأهل البوادي، ومن ثم كان الجهل فيهم أكثر لحال المعيشة البدوية.
روى أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا :( من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا ) ذاك أن السلاطين قلما يرضون عمن يصارحهم القول ويؤْثِرهم بالنصح ولا يزداد قربا منهم على المرائين الذين يعينونهم على الظلم ويثنون عليهم بالباطل.
﴿ والله عليم حكيم ﴾ أي واسع العلم بشؤون عباده وأحوالهم من إيمان وكفر وإخلاص ونفاق، تام الحكمة فيما شرعه لهم، وفي جزائهم من نعيم مقيم، أو عذاب أليم.
﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٩٧ ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٩٨ ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٩٧-٩٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم، بيّن في هذه الآيات الثلاث أحوال الأعراب مؤمنيهم ومنافقيهم كذلك.
تفسير المفردات :
والمغرم : الغرامة والخسران، من الغرام بمعنى الهلاك. والدائرة : ما يحيط بالشيء والمراد بها ما لا محيص منه من تصاريف الأيام ونوائبها التي تحيط شرورها بالناس. والدائرة أيضا : النائبة والمصيبة. والسوء : اسم لما يسوء ويضر.
الإيضاح :
﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ﴾ أي ومن الأعراب ناس كانوا ينفقون أموالهم في الجهاد رياء وتُقِيّة، ويعدّون ذاك من المغارم التي يجب على المرء أداؤها طوعا أو كرها لدفع المكروه عن أنفسهم أو عن قومهم ولا منفعة لهم فيها لا في الدنيا وهو واضح، ولا في الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قال الضحاك : وهو بنو أسد وغطفان.
﴿ ويتربص بكم الدوائر ﴾ أي وينتظرون أن تحل بكم نوائب الزمان وأحداثه التي تدور بالناس وتحيط بهم، فتبدّل قوتكم ضعفا وانتصاركم هزيمة، فيستريحوا من أداء هذه المغارم لكم، إذ يستغنون عن إظهار الإسلام نفاقا، وقد كانوا يتوقعون ظهور المشركين واليهود على المؤمنين، فلما أعيتهم الحيل صاروا ينتظرون موت النبي صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أن الإسلام يموت بموته.
﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ هذا دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به المؤمنين، أي عليهم وحدهم الدائرة السوءى تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم وليس للمؤمنين عاقبة إلا ما يسرهم من نصر الله وتوفيقه لهم، وما يسوء أعداءهم من خذلان وخيبة وتعذيب لهم في الدنيا قبل الآخرة.
﴿ والله سميع عليم ﴾ أي والله سميع لما يقولونه مما يعبر عن شعورهم واعتقادهم في نفقاتهم إذا تحدثوا بذلك فيما بينهم، عليم بما يضمرونه في سرائرهم، وسيحاسبهم على ما يسمع ويعلم من قول وفعل ويجزيهم به.
وبعد أن بيّن حال المنافقين من الأعراب- ذكر حال المؤمنين الصادقين منهم فقال :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾
﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٩٧ ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٩٨ ) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ٩٧-٩٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم، بيّن في هذه الآيات الثلاث أحوال الأعراب مؤمنيهم ومنافقيهم كذلك.
تفسير المفردات :
والقربات : واحدها قربة، وهي في المنزلة والمكان كالقرب في المكان والقرابة في الرحم. والصلوات : واحدها صلاة، ويراد بها الدعاء.
الإيضاح :
﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ أي ومن الأعراب من يؤمن بالله ويثبت له القدرة وكمال التصرف في الكون، واليوم الآخر الذي تجازي فيه كل نفس بما كسبت، قال مجاهد : هم بنو مُقَرِّن من مُزَينة، وهم الذين قال الله فيهم :﴿ ولا على الذين إذا ما آتوك لتحملهم ﴾ ( التوبة : ٩٢ ).
﴿ يتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾ أي ويتخذ ما ينفقه وسيلة لأمرين :
القربات والزلفى عند الله تعالى جدّه.
صلوات الرسول أي أدعيته، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم، ولم يجيء في نصوص الدين انتفاع أحد بعمل غيره إلا الدعاء وما يكون المرء سببا فيه كالولد الصالح والسنة الحسنة يُتّبَع فيها.
وسميت الصلوات الشرعية بهذا الاسم من قِبَل أن الدعاء- وهو المعنى اللغوي لها- هو روحها ومخها وسرها الذي به تتحقق العبودية على أتمّ وجوهها.
وقد بين الله جزاءهم على ما انطوت عليه نفوسهم من صدق الإيمان وإخلاص النية في الإنفاق في سبيل الله فأخبر بقبول نفقتهم وإثابتهم عليها فقال :
﴿ لا إنها قربة لهم ﴾ أي ألا إن تلك النفقة التي اتخذت قد تقبلها الله وأثاب عليها بما وعد به في قوله :
﴿ سيدخلهم الله في رحمة ﴾ أي سيحرمهم الله برحمته الخاصة بمن رضي عنهم، وهي هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذين يوصلهم إلى جنات النعيم، والمراد بإدخالهم في الرحمة أن تكون محيطة بهم شاملة لهم وهم مغمورون فيها، وهذا أبلغ في إثباتها لهم من مثل قوله :﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ﴾ ( التوبة : ٢١ ).
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي إنه واسع المغفرة والرحمة لمن يخلصون في أعمالهم، فهو يغفر لهم ما فرط منهم من ذنب أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم إلى خير العمل وحسن المصير.
﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٠٠ ) وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم( ١٠١ ) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٠٠-١٠٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات- قفّى على ذلك بذكر منازل أعلى من منازلهم، وهي منازل السابقين من المهاجرين والأنصار ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هي شر الجميع مرنت على النفاق وحذقت فنونه، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيء العمل بأحسنه، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم.
تفسير المفردات :
رضي الله عنهم : أي قبل طاعتهم. ورضوا عنه : أي بما أسبغ عليهم من النعم الدنيوية والدينية.
الإيضاح :
﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ﴾ ذكر الله في هذه الآية ثلاث طبقات من الأمة هي خيرها :
السابقون الأولون من المهاجرين، وهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، وقد كان المشركون يضطهدون المؤمنين ويقاتلونهم في دار الهجرة وما حولها ولا يمكّنون أحدا من الهجرة متى كان ذلك في طاقتهم، ولا مَنْجاة للمؤمنين من شرهم إلا بالفرار أو الجِوار، فالذين هاجروا في ذلك الحين كانوا من المؤمنين الصادقين، وأفضل هؤلاء الخلفاء الأربعة ثم العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
السابقون الأولون من الأنصار، وهم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة في مِنى في المرة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة، وكانوا سبعة، وفي المرة الثانية، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين.
الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الهجرة والنصرة حال كونهم محسنين في أفعالهم وأقوالهم، فإذا اتبعوهم في ظاهر الإسلام كانوا منافقين مسيئين غير محسنين في هذا الاتباع، وإذا اتبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض كانوا مذنبين.
﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ أي هؤلاء جميعا رضي الله عنهم في إيمانهم وإسلامهم، فقبل طاعتهم وتجاوز عن زلاّتهم، وبهم أعز الإسلام ونكّل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية فأنقذهم من الشرك، وهداهم من الضلال، وأعزهم بعد الذل، وأغناهم بعد الفقر.
﴿ وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ﴾ هذا الوعد الكريم تقدم في آيات سابقة في هذه السورة وغيرها، ولا شك أن نعيم الجنة الخالد بين روحاني وبدنيّ فوز أيُّما فوز.
والخلاصة : إن هذه الطبقات الثلاث قد استبق أفرادها الصراط، وشهد لهم ربُّهم بالمغفرة والتجاوز عن كل ذنب، وما عاد يؤثر في كمال إيمانهم شيء، لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب.
﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٠٠ ) وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم( ١٠١ ) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٠٠-١٠٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات- قفّى على ذلك بذكر منازل أعلى من منازلهم، وهي منازل السابقين من المهاجرين والأنصار ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هي شر الجميع مرنت على النفاق وحذقت فنونه، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيء العمل بأحسنه، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم.
تفسير المفردات :
ومردوا : أي مرنوا وحذقوا.
الإيضاح :
وبعد أن بّين كمال إيمان تلك الطبقات الثلاث ورضاه عنهم- بين حال منافقي أهل المدينة ومن حولها فقال :
﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ﴾ أي إن بعض الأعراب الذين حولكم منافقون.
قال البغوي والواحدي : هم من قبائل جُهَيِْنة ومُزَيْنة وأشجع وأسلم وغفار، وكانت منازلهم حول المدينة، وذلك لا يمنع أن يكون فيهم مؤمنون صادقون دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ومدحهم فقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره )، وعنه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال :( أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما إني لم أقلها، لكن قالها الله تعالى ).
وكذلك من أهل المدينة نفسها ناس منافقون، من الأوس والخزرج سوى من أعلم الله رسوله بهم في هذه السورة بما صدر منهم من أقوال وأفعال تنافي الإيمان.
هؤلاء وهؤلاء مرنوا على النفاق وحذقوه حتى بلغوا الغاية في إتقانه، فلا يشعر أحد به، إذ هم يتقون جميع الأمارات والشبه التي تدل عليه.
﴿ لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ أي لا تعرفهم أيها الرسول الكريم بفطنتك ودقيق فراستك لحذقهم في التقيّة وتباعدهم عن مثار الشبهات، بل نحن نعلمهم بأعيانهم، وهؤلاء أخفى نفاقا ممن قال الله فيهم :﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ( ٢٩ ) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ﴾ ( محمد : ٢٩-٣٠ ).
وهؤلاء لم يعلمه الله أعيانهم ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم في هذه السورة لأنهم يتحامَوْن ما يكون شبهة في إيمانهم، وضررهم مقصور عليهم لا يعْدوهم إلى سواهم.
والحكمة في إخبارنا بحالهم أن يعلموا هم أنفسهم أن الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم الله كما فضح سواهم، وليتوب منهم من يتوب قبل أن يحل بهم ما أوعدهم به ربهم بقوله :
﴿ سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾ أي سنعذبهم في الحياة الدنيا مرتين : أولاهما ما يصيبهم به من المصايب وانتظار الفضيحة بهتك أستارهم. وثانيتهما آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم في تلك الحين، ثم يردون يوم القيامة إلى عذاب جهنم وبئس المصير.
والخلاصة إنهم يعذبون في الدنيا بالعذاب الباطن بتوبيخ الضمائر وعذاب الخوف من الفضيحة على رءوس الأشهاد في الظاهر، ثم عذاب النار وبئس القرار.
وجملة القول : إن المنافقين فريقان : فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى لا يشعر أحد بشيء يستنكره منهم.
وهذان الفريقان يوجدان في كل عصر، فما من قطر من الأقطار إلا مُنِي أهله بأعوان وأنصار منهم يزعمون أنهم يخْدُمون أمتهم من طريق استمالة الغاصب واسترضائه، وأنه لولاهم لتمادى في ظلمه وهضم حقوق الأمة ولم يقف عند حد، ومنهم من يخدمون المستعمرين خدمة خفية لا تشعر بها الأمة لأنهم مرنوا على النفاق.
وأشد المنافقين مرودا على النفاق أعوان الملوك المستبدين الذين يُلبسون الباطل لباس الحق ويروجونه في أعين الجماهير خدمة لأولئك الملوك.
﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٠٠ ) وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم( ١٠١ ) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٠٠-١٠٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عز اسمه فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات- قفّى على ذلك بذكر منازل أعلى من منازلهم، وهي منازل السابقين من المهاجرين والأنصار ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هي شر الجميع مرنت على النفاق وحذقت فنونه، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيء العمل بأحسنه، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم.
الإيضاح :
﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخرا سيئا ﴾ أي وهناك فريق آخر ممن حولكم من الأعوان ومن أهل المدينة ليسوا منافقين ولا من السابقين الأولين، بل من المذنبين الذين خلطوا الصالح من العمل بالسيء منه، والسيء بالصالح، فلم يكونوا من الصالحين الخلص ولا من الفاسقين، فهم قد آمنوا وعملوا الصالحات واقترفوا بعض السيئات كالذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح ؛ ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين ولم يعتذروا بالكذب كالمنافقين، ثم كانوا حين قعودهم ناصحين لله ورسوله بذنوبهم خائفين من ربهم.
وقد بين سبحانه حالهم بقوله :
﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ أي إنهم محل الرجاء لقبول الله توبتهم بتوفيقهم للتوبة الصحيحة التي هي سبب المغفرة والرحمة- وإنما يكون ذلك بالعلم بقبح الذنب وسوء عاقبته، وتوبيخ الضمير حين تصور سخط الله والخوف من عقابه- ثم الإقلاع عنه بباعث هذا الألم، والعزم على عدم العود إلى اقترافه، والعزم على العمل بضده ليمحو أثره من نفسه.
ثم علل هذا بقوله :
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي إنه تعالى يقبل توبتهم، لأنه كثير المغفرة للتائبين، واسع الرحمة للمحسنين.
وفي معنى الآية قوله :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ ( طه : ٨٢ ) وقوله :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ ( الأعراف : ٥٦ ).
قال جماعة من العلماء : إن هذه الآية أرجى آية في القرآن في توقع رحمة الله للمذنبين الذين يجترحون السيئات ثم يتوبون إلى ربهم ويُقْلِعون عن ذنوبهم.
روى البخاري عن سمرة بن جُندُب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أتاني الليلة- أي في المنام- ملكان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك، قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا لقد تجاوز الله عنهم ).
ولا شك أن هذا تمثيل في الرؤيا لتجميل العمل الصالح للنفس ؛ وتشويه العمل القبيح لها، ولتطهيرها بالتوبة وصالح العمل حتى تكون كلها جميلة وأهلا للكرامة بعد أن تبعث كلها في الصورة التي كانت عليها قبل التوبة، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بنهر جار يفيض على عتبة الإنسان كل يوم خمس مرات فهل يُبْقي عليها وسخا أو قذرا ؟
وفي الحديث :( أتبع السيئة الحسنة تمحها ).
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ١٠٣ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ١٠٤ ) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ( التوبة : ١٠٣-١٠٥ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات في بيان فوائد صدقة الأموال والحث عليها وقبول التوبة لمن قصّر في الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه.
روى ابن جرير أن أبا لُبابة وأصحابه- ممن تخلفوا وتابوا وسيأتي ذكرهم- جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أطلقوا فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال :( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ) فأنزل الله ﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ فلما نزلت أخذ الثلث من أموالهم فتصدق به عنهم.
وهذا النص- وإن كان سببه خاصا- عام في الأخذ، يشمل خلفاء الرسول من بعده ومن بعدهم من أئمة المسلمين ؛ وفي المأخوذ منهم وهم المسلمون الموسرون، ومن ثم قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعي الزكاة من أحياء العرب حتى أدَّوْا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله، وقال : والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه ).
تفسير المفردات :
الصدقة : ما ينفقه المؤمن قربة لله. والتزكية : من قولهم رجل زكيّ : أي زائد الخير والفضل قاله في الأساس. والصلاة : الدعاء. والسكن : ما تسكن إليه النفس وترتاح من أهل ومال ومتاع ودعاء وثناء.
الإيضاح :
﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ أي خذ أيها الرسول من أموال هؤلاء ومن غيرهم من سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها من نقد وأنعام وأموال تجارة، صدقة بمقدار معين في الزكاة المفروضة أو بمقدار غير معين في زكاة التطوع تطهرهم بها من دنس البخل والطمع والقسوة على الفقراء البائسين، وتزكي أنفسهم بها وترفعهم إلى منازل الأبرار بفعل الخيرات حتى يكونوا أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية.
وقد نسبت التزكية إلى الله في قوله :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ﴾ ( النور : ٢١ ) لأنه الخالق الموفق للعبد لفعل ما تزكو به نفسه وتصلح.
ونسبت إلى رسول الله في قوله :﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾ ( الجمعة : ٢ ) لأنه هو المربي للمؤمنين على ما تزكو به نفوسهم، ويعلو قدرها بإتباعهم سنته العملية والقولية وبيانه لكتاب الله، فهو القدوة الحسنة لهم.
ونسبت إلى الفاعل لها في نحو قوله :﴿ قد أفلح من زكاها ( ٩ ) وقد خاب من دساها ﴾ ( الشمس : ٩-١٠ ) وقوله :﴿ قد أفلح من تزكى( ١٤ ) وذكر اسم ربه فصلى ﴾ ( الأعلى : ١٤-١٥ ) لأنه قد فعل ما كان سببا في طهارة نفسه وزكاتها من صدقات ونحوها من أعمال البر.
وأما النهي عن تزكية النفس في قوله :﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ﴾ ( النجم : ٣٢ ) وقوله :﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ﴾ ( النساء : ٤٩ ) فذاك في تزكية النفس بدعوى اللسان فقط دون عمل يؤيدها.
﴿ وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ﴾ أي وادع أيها الرسول للمتصدقين واستغفر لهم، فإن دعائك واستغفارك سكن لهم يذهب به اضطراب نفوسهم ؛ وتطمئن قلوبهم بقبول توبتهم، ويرتاحون إلى قبول الله صدقاتهم بأخذك لها ووضعها في مواضعها.
والصلاة من الله على عباده رحمته لهم، ومن ملائكته استغفارهم كما قال تعالى :﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ﴾ ( الأحزاب : ٥٦ ) ومن المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم دعاؤهم له بما أمرهم به في الصلاة بعد التشهد الأخير كالدعاء المأثور ( اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد ).
﴿ والله سميع عليم ﴾ أي والله سميع لاعترافهم بذنوبهم، وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة، عليهم بندمهم وتوبتهم منها وإخلاصهم في صدقاتهم وطيب أنفسهم بها، عليم بما فيه الخير والمصلحة لهم وهو الذي يثيبهم عليها.
وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه بصدقتهم قال :( اللهم صلّ على فلان ) فأتاه بصدقته فقال :( اللهم صلّ على آل أبي أوفى ).
وفي هذا إيماء إلى أن المراد بالصدقة ما يعمّ الفريضة وغيرها، وإلى أنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على هذا الدعاء، ومن ثم قيل إن هذا الأمر للوجوب وهو خاصّ به صلى الله عليه وسلم به.
فوائد الصدقات في إصلاح المجتمع الإسلامي :
الصدقات تطهّر أنفس الأفراد من أرجاس البخل، والدناءة والأثرة، والطمع والجشع، وتبعدهم عن أكل أموال الناس بالباطل من خيانة وسرقة وغضب وربا، وغير ذلك : فإن من يتعود بذل بعض ما في يده أو ما أودعه في خزائنه في سبيل الله ابتغاء مرضاته ومغفرة ذنوبه- يكن أرفع نفسا من أن يأخذ مال غيره بغير حق، وإذا طهرت أنفس الأفراد وزكت بالعلم والتقوى وهما ثمرة الإيمان طهرت جماعة المؤمنين من أرجاس الرذائل الاجتماعية التي هي مثار التحاسد والتعادي والبغي والعدوان والفتن والحروب، فإن الأموال قوام الحياة المعيشية للفرد والمجتمع، فهي مثار التنازع والتخاصم، ومن ثم أوجب الدين على أصحاب الأموال من النفقات والصدقات ما يجعل الثورات وسيلة للسلام لا إلى الخصام.
وقد جمع الإسلام بين مصالح الروح والجسد للوصول إلى السيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة، فهو وسط بين اليهودية المفرطة في حب المال، والنصرانية الروحانية الزاهدة، فمن أهمّ مقاصده الإصلاحية في الاجتماع البشري هداية الناس إلى العدل في أمر المال ليبتعدوا عن شر طغيان الأغنياء على الفقراء، ونصوص الدين في هذا الباب هي الغاية التي لا يطمح مصلح في التطلع إلى ما بعدها، وهي هادمة لمزاعم من يفتات على الإسلام من أرباب الجهل والهوى.
وقد فرضت الزكاة المطلقة في أول الإسلام وكانت اشتراكية، والباعث عليها القلوب والضمائر لا إكراه الحكام، ثم جعلت معينة محدودة عندما صار للإسلام دولة.
وسر الوضع الأول أن جماعة المسلمين في مكة قبل الهجرة كانوا محصورين، ومنهم الموسر والمعسر وصاحب الثروة وذو الفقر المدْقِع، فوجب أن يقوم أغنياؤهم بكفالة فقرائهم وجوبا دينيا إذا كانت الزكاة المعينة لا تكفيهم.
ولا شك أن الأسس الإصلاحية للمال التي وضعها الإسلام لا يتسنى لأقدر الأمم المالية في العصر الحاضر أن تضع خيرا منها، انظر إليه تره حرّم الربا والقمار، لما أنهما يوجدان التنازع والتخاصم بين الناس وإن كان فيهما بعض المكاسب، وأوجب الحجر على السفهاء في أموالهم صيانة لها عن الضياع فيما يضرهم ويضر أمتهم، وفرض النفقة الزوجية والنفقة على ذوي القرابة من ذوي الحاجة، وذم الإسراف والتبذير والبخل والجشع والتقتير ومدح القصد والاعتدال في النفقة على النفس والعيال، وأباح الزينة والطيبات من الرزق بشرط اجتناب الإسراف حفظا للثروة من الضياع وبُعدا عن الأمراض والأدواء البدنية، وجعل زكاة النقدين الواجبة هي ربع العشر أي ١/٤٠% وهو أوسط ربح تدفعه المصارف المالية لمودعي نقودهم فيها للاستغلال.
انظر إلى الثروة في مصر نقدا وتجارة وتأمل مقدار ربع العشر الواجب فيها في كل عام لفقرائها ومرافقها العامة، ثم قدّر في نفسك إذا هي قامت بالواجب الديني عليها في الزكاة، هل يكون فيها فقر أو شقاء بين أفراد الأمة، هل تتصور أن تنتشر فيها الأمراض المعدية أو يُخَيم على أفرادها الجهل، أو ترتكب فيها جنايات السرّاق وقطاع الطرقات وذوي الخيانة والغدر، أظن أن الجواب على ذلك : لا.
وقد جاء في الكتاب والسنة : الترغيب في بذل المال في سبيل البر وجعله علامة من علامات الإيمان الموجبة لثواب الرحمن والدخول في غرفات الجنان، ولم يجيء مثل ذلك في أي نوع من أنواع البر وضروب الإحسان.
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ١٠٣ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ١٠٤ ) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ( التوبة : ١٠٣-١٠٥ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات في بيان فوائد صدقة الأموال والحث عليها وقبول التوبة لمن قصّر في الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه.
روى ابن جرير أن أبا لُبابة وأصحابه- ممن تخلفوا وتابوا وسيأتي ذكرهم- جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أطلقوا فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال :( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ) فأنزل الله ﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ فلما نزلت أخذ الثلث من أموالهم فتصدق به عنهم.
وهذا النص- وإن كان سببه خاصا- عام في الأخذ، يشمل خلفاء الرسول من بعده ومن بعدهم من أئمة المسلمين ؛ وفي المأخوذ منهم وهم المسلمون الموسرون، ومن ثم قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعي الزكاة من أحياء العرب حتى أدَّوْا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله، وقال : والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه ).
الإيضاح :
﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ﴾ أي ألم يعلم أولئك التائبون من ذنوبهم أن الله هو الذي يقبل توبة التائبين من عباده، ولم يجعل ذلك لأحد من خلقه لا رسول ولا مَن دونه.
وفي الآية حضّ على التوبة والصدقة والترغيب فيهما :
﴿ ويأخذ الصدقات ﴾ أي يتقبلها ويثيب عليها ويضاعف ثوابها كما وعد بذلك في قوله :﴿ إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم ﴾ ( التغابن : ١٧ ).
﴿ وأن الله هو التواب الرحيم ﴾ أي إنه تعالى هو الذي يقبل التوبة إثر التوبة من المذنبين الذين ينيبون إلى ربهم، وأنه هو الرحيم بالتائبين الذين يثيبهم على ما قدموا من عمل، ويمنعهم الخوف أن يصِرّوا على ذنب كما قال تعالى في وصف المتقين :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ ( آل عمران : ١٣٥ ) وجاء في الحديث :( ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ) رواه الترمذي، وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب- ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمان بيمينه وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربّي أحدكم فُلُوّه أو فصيله ) والحديث تمثيل لحال الصدقة المقبولة عند الله.
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ١٠٣ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( ١٠٤ ) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ( التوبة : ١٠٣-١٠٥ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات في بيان فوائد صدقة الأموال والحث عليها وقبول التوبة لمن قصّر في الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه.
روى ابن جرير أن أبا لُبابة وأصحابه- ممن تخلفوا وتابوا وسيأتي ذكرهم- جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أطلقوا فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال :( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ) فأنزل الله ﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ فلما نزلت أخذ الثلث من أموالهم فتصدق به عنهم.
وهذا النص- وإن كان سببه خاصا- عام في الأخذ، يشمل خلفاء الرسول من بعده ومن بعدهم من أئمة المسلمين ؛ وفي المأخوذ منهم وهم المسلمون الموسرون، ومن ثم قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعي الزكاة من أحياء العرب حتى أدَّوْا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله، وقال : والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه ).
الإيضاح :
﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ أي وقل لهم أيها الرسول اعملوا لدنياكم وآخرتكم، لأنفسكم وأمتكم، فالعمل هنا مناط السعادة، لا الاعتذار عن التقصير ولا دعوى الجدّ والتشمير، وسيرى الله عملكم خيرا كان أو شرا، فيجب عليكم أن تراقبوه في أعمالكم وتتذكروا أنه عليم بمقاصدكم ونياتكم، فجدير بمن يؤمن به أن يتقيه في السر والعلن ويقف عند حدود شرعه، وسيراه رسوله والمؤمنون ويزنونه بميزان الإيمان الذي يفرق بين الإخلاص والنفاق، وهم شهداء على الناس.
روى أحمد والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان ).
وفي الآية إيماء إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان تلي مرضاة الله ورسوله، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال : مَرّوا بجنازة فأثنَوْا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" وجبت "، ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال :" وجبت " فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال :( هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض ).
وقال ابن عباس ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
﴿ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ أي وستدّون يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم، ومن لا يخفي عليه شيء من بواطن أموركم وظواهرها فيعرفكم أعمالكم ثم يجازيكم عليها بحسن الثواب أو سوء العذاب.
﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٠٦ ).
المعنى الجملي : كان المتخلفون عن الجهاد في غزوة تبوك أقساما ثلاثة :
المنافقون الذين مردوا على النفاق، وهم أكثر المتخلفين.
المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا وزكَّوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول واستغفاره فتاب الله عليهم.
المؤمنون الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم لا عذر لهم، وأرجأوا توبتهم فأرجأ الله الحكم القاطع في أمرهم لأسباب ستذكر بعد.
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : هم الثلاثة الذين خُلِّفوا عن التوبة، وهم مرارة ابن الربيع، وكعب ابن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والتمتع بطيب الثمار، والتفيؤ بالظلال لا شكا ونفاقا، وكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورين فنزلت توبة الأولين قبل توبة هؤلاء وأرجئت توبة هؤلاء حتى نزلت آية التوبة ﴿ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين ﴾ الخ.
تفسير المفردات :
مرجون ومرجئون وبهما قرئ : أي مؤخرون، يقال أرجأت الأمر وأرجيته : أي أخرته.
الإيضاح :﴿ وآخرون مرجون لأمر الله ﴾ أي ومن المتخلفين ناس آخرون مؤخرون لحكم الله في أمرهم، وهم أولئك النفر الذين سبق ذكرهم وكانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الهمّ باللحاق به ولم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلى الله عليه وسلم كما فعل أبو لبابة وأصحابه من الذين ربطوا أنفسهم في سواري المسجد فنزل فيهم قوله تعالى.
﴿ وآخرون مرجون ﴾ الآية فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مجالسهم وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن إلى أن نزل قوله :﴿ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ﴾ ( التوبة : ١١٧ ) الآية.
﴿ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ﴾ أي إن أمرهم دائر بين هذين : التعذيب والتوبة وقد أُبْهِم الأمر عليهم وعلى الناس فلا يدرون ماذا ينزل بهم ؟ هل تنفع توبتهم فيتوب الله عليهم كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم، أو يحكم بعذابهم في الدنيا والآخرة كما حكم على الخالفين من المنافقين ؟.
وحكمة إبهام الأمر : إثارة الغم والحزن في قلوبهم لتصحّ توبتهم.
وحكمة إبهامه على الرسول والمؤمنين : تركهم مكالمتهم ومخالطتهم، تربية للفريقين على ما يجب أن يعامل به أمثالهم ممن يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة الله ورسوله والجهاد لإعلاء كلمة الحق ودفع عدوان أهل الباطل عن المؤمنين.
﴿ والله عليم حكيم ﴾ أي والله عليم بما يصلح حال عباده ويربّيهم ويزكيهم أفرادا وجماعات، حكيم فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح إذا علموا بها :
ومن هذه الحكمة : إرجاء النص على توبتهم في كتابه، كما أن تكرار تلاوتها في مختلف الأوقات مما يوقع في قلوب المؤمنين الرهبة والخوف ويفيدهم عظة وتهذيبا.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٠٧-١١٠ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات نزلت في بيان مكيدة من مكايد المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وذكرت هنا لما فيها من العبرة والعظة والذكرى بإيهام عطفها على من أرجأ الله الحكم في أمرهم ليتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم ولو بصلاتهم معهم في مسجدهم.
روي في سبب نزول الآيات أنه كان بالمدينة قبل مَقْدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، كان قد تنصّر وقرأ علم أهل الكتاب وكان له منزلة كبيرة فيهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا واجتمع عليه المسلمون وعلت كلمة الإسلام وأظهره الله على أهل الشرك خرج فارّا إلى مكة وألّب المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أُحد وخاطب قومه الأنصار ليستميلهم إلى نصره فسبوه وردوه أقبح رد، ولما فرغ الناس من الموقعة فر إلى هرقل ملك الروم يستنصره فوعده وحباه وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتخذوا له معْقِلا يأوي إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قُباء فبنَوْه وأحكموا بناءه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوه أن يصلي في مسجدهم ليكون ذلك ذريعة إلى تقريره لإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال :( إنا على جناح سفر، ولكن رجعنا إن شاء الله ).
ولما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم- مسجد قباء- الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من يهدمه قبل مقدمه المدينة وأمر أن يُتّخذ كُناسة تلقى فيها القُمامة إهانة لأهله.
تفسير المفردات :
تفسير المفردات : الضرار والمضارّة : محاولة إيقاع الضرر. والإرصاد : الانتظار والترقب مع العداوة يقال رصدته : أي قعدت له على طريقه أترقبه، وأرصدت هذا الجيش للقتال، وهذا الفرس للطراد.
الإيضاح :
﴿ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ﴾
روي أن الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج، وقد بين الله الأغراض التي لأجلها بُني، وهي :
مضارة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْدَمه من مكة مهاجرا قبل وصوله إلى المدينة.
تقوية الكفر وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هناك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد، والتشاور فيما بينهم في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيه إلى نحو أولئك من مقاصد المنافقين.
التفريق بين المؤمنين المقيمين هنالك، فإنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء، وفي ذلك حصول التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة وهي أهم مقاصد الإسلام الاجتماعية، ومن ثم كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيا لأغراض الدين ومراميه، ومن الواجب أن يصلي المسلمون الجمعة في مسجد واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فإن تفرقوا عمدا كانوا آثمين.
ومن هذا يعلم أن بناء المساجد لا يكون قربة يتقبلها الله إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولم يكن سببا لتفريق جماعتهم، فكثير من المساجد المتقاربة في القاهرة وغيرها من الأمصار الأخرى لم تُبْن لوجه الله بل كان الباعث على بنائها الرياء وإتباع الأهواء من جهلة الأفراد والأثرياء وعدم نصح العلماء لهم.
الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجيء محاربا فيجد مكانا مرصدا له، وقوما راصدين مستعدين للحرب معه، وهم أولئك المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدا لذلك.
﴿ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾ أي وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الخصلة التي تفوق غيرها في الحسن، وهي الرفق بالمسلمين وتيسير صلاة الجماعة على أولى العجز والضعف ومن يحبسهم المطر منهم، ليصدقهم الرسول صلى الله عليه وسلم وليصلي معهم، والله يعلم إنهم لكاذبون في إيمانهم لأنهم ما بنوه إلا للسوءى وضرار مسجد قباء.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٠٧-١١٠ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات نزلت في بيان مكيدة من مكايد المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وذكرت هنا لما فيها من العبرة والعظة والذكرى بإيهام عطفها على من أرجأ الله الحكم في أمرهم ليتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم ولو بصلاتهم معهم في مسجدهم.
روي في سبب نزول الآيات أنه كان بالمدينة قبل مَقْدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، كان قد تنصّر وقرأ علم أهل الكتاب وكان له منزلة كبيرة فيهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا واجتمع عليه المسلمون وعلت كلمة الإسلام وأظهره الله على أهل الشرك خرج فارّا إلى مكة وألّب المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أُحد وخاطب قومه الأنصار ليستميلهم إلى نصره فسبوه وردوه أقبح رد، ولما فرغ الناس من الموقعة فر إلى هرقل ملك الروم يستنصره فوعده وحباه وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتخذوا له معْقِلا يأوي إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قُباء فبنَوْه وأحكموا بناءه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوه أن يصلي في مسجدهم ليكون ذلك ذريعة إلى تقريره لإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال :( إنا على جناح سفر، ولكن رجعنا إن شاء الله ).
ولما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم- مسجد قباء- الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من يهدمه قبل مقدمه المدينة وأمر أن يُتّخذ كُناسة تلقى فيها القُمامة إهانة لأهله.
تفسير المفردات :
ولا تقم : أي لا تصلّ. والتأسيس : وضع الأساس للبناء ليقوم عليه ويرفع. والتقوى : اسم لما يرضى الله ويقي من سخطه.
الإيضاح :
﴿ لا تقم فيه أبدا ﴾ أي لا تقم في هذا المسجد للصلاة أبدا.
﴿ لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ﴾ أي إن مسجدا قصد ببنائه منذ وضع أساسه في أول يوم تقوى الله بإخلاص العبادة له وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى- هو أحق من غيره أن تقوم فيه أيها الرسول مصليا بالمؤمنين.
والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، ولكن روى أحمد ومسلم والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنه فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة، والآية لا تمنع إرادة كل من المسجدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بني كلا من المسجدين ووضع أساسه على التقوى من أول يوم شرع فيه ببنائه.
﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾ أي فيه رجال يَعْمُرونه بإقامة الصلاة وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال، ويحبون أن يتطهروا بذلك مما يعْلَق بأنفسهم من أوضار الذنوب والآثام، كما تطهر المتخلفون منهم من غزوة تبوك بالتوبة والصدقات، ويتبع العمارة المعنوية بالعكوف فيه للصلاة وغيرها- الطهارة الحسية للثوب والبدن، وطهارة الوضوء والاغتسال.
والخلاصة : إن التطهر يشمل الطهارتين النفسية والبدنية، والروايات وردت بكل منهما، والأولى إرادتهما معا.
﴿ والله يحب المطهرين ﴾ أي الذين يبالغون في طهارة الروح والجسد لحبهم إياهما، لأنهم يرون فيهما الكمال الإنساني، فمن ثم يبغضون نجاسة البدن والثوب، وأشد منهما بغضا لهم نجاسة النفس وخبثها بالإصرار على فعل المعاصي والتخلق بذميم الأخلاق كالرياء في الأعمال إذ هو فعل المنافقين، والشح بالأموال أو بالأنفس في سبيل الله ابتغاء لمرضاته.
وحب الله إياهم من صفات كماله، إذ العالم بتفاوت الأشياء في الحسن والقبح والكمال والنقص يكون من صفاته حب الكمال والحق والخير وبغض أضدادها.
وحبه تعالى منزه عن مشابهته حبنا كتنزه ذاته وسائر صفاته عن متشابهة ذواتنا وصفاتنا، ويظهر أثر حبه لعباده في أخلاقهم وأعمالهم ومعارفهم وآدابهم كما أشار إليه الحديث القدسي الذي رواه البخاري ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ) الحديث.
وفي معنى الآية ما جاء في عظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهن بإتباع أوامره ونواهيه بما يليق بما لهن من مكانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم ذلك بقوله :﴿ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ﴾ ( الأحزاب : ٣٣ ).
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٠٧-١١٠ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات نزلت في بيان مكيدة من مكايد المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وذكرت هنا لما فيها من العبرة والعظة والذكرى بإيهام عطفها على من أرجأ الله الحكم في أمرهم ليتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم ولو بصلاتهم معهم في مسجدهم.
روي في سبب نزول الآيات أنه كان بالمدينة قبل مَقْدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، كان قد تنصّر وقرأ علم أهل الكتاب وكان له منزلة كبيرة فيهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا واجتمع عليه المسلمون وعلت كلمة الإسلام وأظهره الله على أهل الشرك خرج فارّا إلى مكة وألّب المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أُحد وخاطب قومه الأنصار ليستميلهم إلى نصره فسبوه وردوه أقبح رد، ولما فرغ الناس من الموقعة فر إلى هرقل ملك الروم يستنصره فوعده وحباه وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتخذوا له معْقِلا يأوي إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قُباء فبنَوْه وأحكموا بناءه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوه أن يصلي في مسجدهم ليكون ذلك ذريعة إلى تقريره لإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال :( إنا على جناح سفر، ولكن رجعنا إن شاء الله ).
ولما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم- مسجد قباء- الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من يهدمه قبل مقدمه المدينة وأمر أن يُتّخذ كُناسة تلقى فيها القُمامة إهانة لأهله.
تفسير المفردات :
وشفا : أي حرف. والجرف بضمتين : جانب الوادي ونحوه. والهار والهائر : كالشاك والشائك : الضعيف المتداعي للسقوط، وانهار سقط.
الإيضاح :
﴿ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ﴾ هذا بيان مستأنف للفرق بين مقاصد أهل مسجد التقوى وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنصاره، ومقاصد أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسا إلى رجسهم.
والأساس على شفا الجرف الهاري، مثل يضرب لما يكون في منتهى الوهي والانحلال والإشراف على الزوال، أي أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه موطنا لراحته وهناء معيشته ويتقي به العوامل الجوية، وعدوان الكائنات الحية على أمتن الأسس وأقواها على مصابرة العواصف والسيول وصد الهوامّ والوحوش- خير بنيانا، أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاء واستمساكا فكانت عرضة للانهيار في كل حين من ليل أو نهار ؟
وقد ضرب الله مثل البنيان على تينك الصفتين لبيان حال الفريقين المتقدمين من صدق الإيمان، والنفاق والارتياب، أي أفمن كان مؤمنا صادقا يتقي الله في جميع أحواله ويبتغي مرضاته في جميع أعماله، قاصدا تزكية نفسه وإصلاح سريرته- خير أم من هو منافق مرتاب، يبتغي بأعماله الضرر والضرار وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار وتفريق جماعة المؤمنين والإرصاد لمساعدة من حارب الله ورسوله مع ما يكون لعمله في الدنيا من العار والفضيحة والخزي والبوار، وفي الآخرة من الانهيار في النار.
وخلاصة المثل : بيان ثبات الإسلام وقوته وسعادة أهله به وثمرته في أعمالهم وجزائهم عليه برضوان الله عنهم، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله ووهيه وقرب زواله وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله، وبيان أن شر أعمال أهله المنافقين، ما اتخذوه من مسجد الضرار لمفاسده الأربع المتقدمة.
فالإيمان وما يلزمه من صالح العمل هو الثابت، والنفاق وما يستلزمه من فاسد العمل هو الباطل الزاهق بحكم ناموس الاجتماع وبقاء الأصلح في الوجود، وقد صدق الله وعده وثبّت المؤمنين بالقول الثابت، وهداهم إلى العمل الصالح ففتحوا البلاد وأقاموا سبل الحق والعدل، وأهلك المنافقين، وقد جرت سنته في كل زمان ومكان أن يكون الفوز حليف أهل الحق، والخيبة لأهل الباطل ما استمسكوا به، ولم يقلعوا عنه.
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي مضت سنته تعالى ألا يكون الظالم مهتديا في أعماله إلى الحق والعدل ولا إلى الرحمة والفضل.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٠٧ ) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ( ١٠٨ ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠٩ ) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( التوبة : ١٠٧-١١٠ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات نزلت في بيان مكيدة من مكايد المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وذكرت هنا لما فيها من العبرة والعظة والذكرى بإيهام عطفها على من أرجأ الله الحكم في أمرهم ليتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم ولو بصلاتهم معهم في مسجدهم.
روي في سبب نزول الآيات أنه كان بالمدينة قبل مَقْدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، كان قد تنصّر وقرأ علم أهل الكتاب وكان له منزلة كبيرة فيهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا واجتمع عليه المسلمون وعلت كلمة الإسلام وأظهره الله على أهل الشرك خرج فارّا إلى مكة وألّب المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أُحد وخاطب قومه الأنصار ليستميلهم إلى نصره فسبوه وردوه أقبح رد، ولما فرغ الناس من الموقعة فر إلى هرقل ملك الروم يستنصره فوعده وحباه وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتخذوا له معْقِلا يأوي إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قُباء فبنَوْه وأحكموا بناءه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوه أن يصلي في مسجدهم ليكون ذلك ذريعة إلى تقريره لإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال :( إنا على جناح سفر، ولكن رجعنا إن شاء الله ).
ولما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم- مسجد قباء- الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من يهدمه قبل مقدمه المدينة وأمر أن يُتّخذ كُناسة تلقى فيها القُمامة إهانة لأهله.
تفسير المفردات :
والريبة : من الرَّيْب، وهو اضطراب النفس وتردد الوهم والحيرة. وتقطع : أي تفرق أجزاء.
الإيضاح :
﴿ ولا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم ﴾ أي لا يزال بنيانهم سبب ريبة وشك في الدين، لأنهم يُظْهرون فيه حال قيامه ما في قلوبهم من آثار الكفر والنفاق ويدبرون أمورهم ويتشاورون في ذلك، ويلقى بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكا في الدين، وحين أمر صلى الله عليه وسلم بتخريبه وهدمه ثقل ذلك عليهم وعظم خوفهم وارتابوا في أمرهم : أيُتْركون على حالهم أم يؤمر بهم فيُقْتلون وتنهب أموالهم، إلى أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء، فلما أمر بتخريبه أصبحوا شاكين في أمره، ولأي سبب كان ذلك.
ولا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا حال تقطع القلوب أفلاذا وصيرورتها جذاذا، فتكون غير قابلة لإدراك.
وفي هذا إيماء إلى أن تمكن الريبة في قلوبهم وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ما داموا أحياء.
والخلاصة : إنه لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق واضطراب النفس وإن ذلك لا يزول ما دامت القلوب سالمة- أما إذا تفرقت قطعا وتقطعت أجزاء بقتلهم فحينئذ يسْلون عنه.
وقد يكون المراد : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم.
﴿ والله عليم حكيم ﴾ أي والله عليم بكل شيء، حكيم في أفعاله، ومن حكمته أن بيّن حال المنافقين وأظهر ما خفى من أمرهم لتعرفوا كنه الحقيقة في ذلك.
﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١١ ) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ( التوبة : ١١١-١١٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فضائح المنافقين بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأصناف المقصّرين من المؤمنين، أردف ذلك بذكر حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم البالغين فيه حد الكمال، وبذا تمّ معرفة جميع أحوال المؤمنين.
الإيضاح :
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ هذا ترغيب في الجهاد على أبلغ وجه وأحسن صورة، فقد مثل الله إثابة المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بتمليكهم الجنة التي هي دار النعيم والرضوان الدائم السرمدي تفضلا منه تعالى وكرما- بصورة من باع شيئا هو له لآخر- وعاقِد عقد البيع هو رب العزة والمبيع هو بذل الأنفس والأموال، والثمن هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجعل هذا العقد مسجلا في الكتب السماوية، وناهيك به من صك لا يقبل التحلل والفسخ، وفي هذا منتهى الربح والفوز العظيم، وكل هذا لطف منه تعالى تكريم لعباده المؤمنين، فهو المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها، ولأموالهم إذ هو الذي رزقها، ولهذا قال الحسن : اشترى أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها، إلا أنه تعالى غني عن أنفسهم وأموالهم، والمبيع والثمن له وقد جعله بفضله وكرمه لهم.
روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فكبّر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله أنزلت فينا هذه الآية، قال :" نعم " فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نُقيل ولا نستقيل.
وأخرج ابن جرير أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة اشترط لنفسك ولربك فقال :( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم )، قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال :" الجنة "، قال ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت الآية.
وأخرج ابن سعد في طبقاته عن عُباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت، أن سعد بن زُرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فقال : يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدا ؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس كافة. فقالوا نحن حرب لمن حارب، وسلم لمن سالم.
فقال يا رسول الله اشترط عليّ فقال :( تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا تنازعوا الأمر أهله، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم ) قالوا نعم. قال قائل الأنصار : نعم هذا لك يا رسول الله، فلما لنا ؟ قال :( الجنة والنصر ).
وأخرج ابن سعد عن الشّعبي قال :( انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بالعباس بن عبد المطلب وكان ذا رأي إلى السبعين من الأنصار عند العقبة، فقال العباس : ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم للمشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم، فقال قائلهم : يا محمد سل لربك ما شئت، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخْبِرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك ؟ فقال :( أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم )، قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال :" الجنة " فكان الشعبي إذا حدّث هذا الحديث قال : ما سمع الشّيب والشباب بخطبة أقصر ولا أبلغ منها.
وروى ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا :( من سل سيفا في سبيل الله فقد بايع الله ) وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال :( ما على ظهر الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة ) وفي رواية ( اسعوا إلى بيعة بايع الله بها كل مؤمن ) ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ﴾.
ثم بين صفة تسليم البيع فقال :
﴿ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون ﴾ أي إنهم يقاتلون في سبيل الله الحق والعدل التي توصل إلى مرضاة الله تعالى ببذل أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله، وإما مقتولين شهداء في هذه السبيل، ولا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل والمثوبة عند الله، فكل منهما كان في سبيله ولم يكن رغبة في سفك الدماء، ولا حبّا للأموال ولا توسلا إلى ظلم العباد كما يفعل الذين يقاتلون لأغراض الدنيا من الملوك والأمراء.
﴿ وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ﴾ أي وعدهم وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا وأثبته في التوراة والإنجيل، وضياعه منهما في النسخ التي بين يدي أهل الكتاب لا يضير في ذلك ؛ لأنه قد ضاع منهما كثير وحُرِّف بعضهما لفظا ومعنى، ويكفي إثبات القرآن لذلك وهو المهيمن عليهما.
﴿ ومن أوفى بعهده من الله ﴾ أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق إنجاز وعده من الله، إذ لا يمنعه من ذلك عجز عن الوفاء ولا يعرض له تردد ولا رجوع عما يريد إمضاءه من شأنه.
﴿ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ﴾ أي فإذا كان الأمر على هذه الحال فأظهروا السرور على ما فزتم به من الجنة.
﴿ وذلك هو الفوز العظيم ﴾ أي وذلك الفوز الذي لا فوز أعظم منه، وما يتقدمه من النصر والسيادة والملك لا يعد فوزا إلى بكونه وسيلة لإقامة الحق والعدل.
وفي هذا الأسلوب من التأكيد واستحقاق المجاهدين للثواب ما لا يخفى، إذ جعلهم مالكين معه ومبايعين له ومستحقين الثمن الذي بايعهم به، وأكد لهم أمر الوفاء وإنجاز وعده.
وعن جعفر الصادق أنه قال : ليس لأبدانكم ثمنا إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها. يريد أن الذي يقتل أو يموت في سبيل الله بذل بدنه الفاني، لا روحه الباقي.
﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١١ ) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ( التوبة : ١١١-١١٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فضائح المنافقين بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأصناف المقصّرين من المؤمنين، أردف ذلك بذكر حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم البالغين فيه حد الكمال، وبذا تمّ معرفة جميع أحوال المؤمنين.
الإيضاح :
ثم وصف الله هؤلاء الكملة من المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم بجنته بصفات هي :
( ١ ) ﴿ التائبون ﴾ : أي هم الراجعون إلى الله بتركهم كل ما يبعد عن مرضاته، وتوبة الكفار هي رجوعهم عن الكفر الذي كانوا عليه كما قال :﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ ( التوبة : ١١ ) وتوبة المنافق تكون بترك نفاقه، وتوبة العاصي من معصيته تكون بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله كتوبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين، وتوبة المقصّر في شيء من البر وعمل الخير تكون بالاستزادة منه، وتوبة من يغْفَل عن ربه تكون بالإكثار من ذكره وشكره.
( ٢ ) ﴿ العابدون ﴾ : لله المخلصون في جميع عباداتهم، فلا يتوجهون إلى سواه بدعاء ولا استغاثة ولا يتقربون إلى غيره بعمل قربان ولا طلب مثوبة في الآخرة.
( ٣ ) ﴿ الحامدون ﴾ : لله في السراء والضراء، روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يَسُرُّه قال :( الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ) وإذا أتاه الأمر يكرهه قال :( الحمد لله على كل حال ).
( ٤ ) ﴿ السائحون ﴾ في الأرض لغرض صحيح كعلم نافع للسائح في دينه أو دنياه، أو نافع لقومه وأمته، أو النظر في خلق الله وأحوال الأمم والشعوب للاعتبار والاستبصار وقد حث الله كثيرا على السير في الأرض والضرب فيها كما قال :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ ﴾ ( الأنعام : ٦ ).
وعلى السفر والسياحة لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها.
والإسلام الذي يجيز سفر النساء في الغزوات- وهن غير مكلّفات- بالقتال للمساعدة عليه بتهيئة الطعام والشراب وتضميد الجراح فهو بالأولى يجيز صحبتهن في سائر الأسفار، وفي ذلك إحصان لكل من الزوجين ومنع لهما عن التطلع إلى الأجنبي.
وفسر بعضهم السياحة بالصيام لما روي عن عائشة :( سياحة هذه الأمة الصيام ) لأن الصوم يعوق عن اللذات كما أن السياحة كذلك غالبا.
( ٥، ٦ ) ﴿ الراكعون الساجدون ﴾ في صلواتهم المفروضة، وخصا بالذكر لما فيهما من الدلالة على التواضع والعبودية والتذلل لله سبحانه.
( ٧، ٨ ) ﴿ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ﴾ أي الداعون إلى الإيمان وما يتبعه من أعمال البر والخير، والناهون عن الشرك وما بسبيله من المعاصي والسيئات.
( ٩ ) ﴿ والحافظون لحدود الله ﴾ أي الحافظون لشرائعه وأحكامه التي بيّن فيها ما يجب على المؤمنين إتباعه وما يحظر عليهم فعله منها، وكذا ما يجب على أئمة المسلمين وأولى الأمور منهم إقامته وتنفيذه بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلّوا بما يجب عليهم حفظه منها.
ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال :
﴿ وبشر المؤمنين ﴾ أي وبشر أيها الرسول المؤمنين المتصفين بهذه الصفات بخيري الدنيا والآخرة.
وخصت تلك الخلال بالذكر لأن بها تكون المحافظة على حدود الله.
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١١٣ ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ( ١١٤ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ ) إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ( التوبة ١١٣-١١٦ ).
المعنى الجملي : كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال، وهنا بين أنه يجب البراءة من أمواتهم وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه وهو وعده بالاستغفار بقوله :﴿ لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ﴾ ( الممتحنة : ٤ ) فلما أصرّ على كفره تبرأ منه، وبعدئذ بين رحمته بعباده وأنه لا يعاقبهم على شيء إلا بعد بيان شاف لما يعاقبون عليه.
أخرج أحمد وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن المسَيّب عن أبيه قال ( لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال :( أي عمِّ قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فأنزل الله ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم :( إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء ) وقد كان موت أبي طالب بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، ومن ثم استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت في أبي طالب، وأجاب آخرون بأن الذي حصل قد يكون أحد أمرين :
إنها نزلت عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين.
إنها نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية يستغفر لأبي طالب، فإن التشديد على الكفار، والبراءة منهم إنما جاء في هذه السورة.
وفي الآية إيماء إلى تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك كقولهم المغفور له والمرحوم فلان، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكي من حوله، ثم قال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت ).
الإيضاح :
﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ أي ما كان من شأن النبي ولا مما ينبغي أن يصدر منه من حيث هو نبيّ، ولا من شأن المؤمنين، ولا مما يجوز أن يقع منهم أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين.
﴿ ولو كانوا أولي قربى ﴾ أي ولو كان لهم حق البر وصلة الرحم، وكانت عاطفة القرابة تقتضي الحَدَب والإشفاق عليهم.
﴿ من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾ أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار، بأن ماتوا على الكفر، أو بأن نزل وحي يسجل عليهم ذلك كإخباره تعالى عن بعض الجاحدين المعاندين بنحو قوله :﴿ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ ( البقرة : ٦ ).
وخلاصة ذلك : أن النبوة والإيمان الصادق لا يبيحان الاستغفار للمشركين في كل حال، حتى ولو كانوا أولي قربى إذا ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب الجحيم.
ثم أجاب عن سؤال قد يختلج بالخاطر مما تقدم، فيقال، كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم وقد استغفر إبراهيم لأبيه فقال :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه ﴾.
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١١٣ ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ( ١١٤ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ ) إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ( التوبة ١١٣-١١٦ ).
المعنى الجملي : كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال، وهنا بين أنه يجب البراءة من أمواتهم وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه وهو وعده بالاستغفار بقوله :﴿ لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ﴾ ( الممتحنة : ٤ ) فلما أصرّ على كفره تبرأ منه، وبعدئذ بين رحمته بعباده وأنه لا يعاقبهم على شيء إلا بعد بيان شاف لما يعاقبون عليه.
أخرج أحمد وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن المسَيّب عن أبيه قال ( لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال :( أي عمِّ قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فأنزل الله ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم :( إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء ) وقد كان موت أبي طالب بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، ومن ثم استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت في أبي طالب، وأجاب آخرون بأن الذي حصل قد يكون أحد أمرين :
إنها نزلت عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين.
إنها نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية يستغفر لأبي طالب، فإن التشديد على الكفار، والبراءة منهم إنما جاء في هذه السورة.
وفي الآية إيماء إلى تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك كقولهم المغفور له والمرحوم فلان، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكي من حوله، ثم قال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت ).
تفسير المفردات :
الأوّاه : الكثير التأوّه والتحسر، أو الخاشع الكثير الدعاء والتضرع إلى ربه، وقيل إنها كلمة حبشية الأصل، ومعناها المؤمن أو الموقن، وأصل التأوه : قول أوه أو آه أو نحوهما ما يقوله الحزين أو أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها، وآه بالكسر منونا وغير منون. والحليم : الذي لا يستفزه الغضب ولا يعبث به الطيش ولا يستخفه هوى النفس، ومن لوازم ذلك : الصبر والثبات والصفح والتأني في الأمور واتقاء العجلة في الرغبة والرهبة.
الإيضاح :
﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه ﴾ أي وما استغفر إبراهيم لأبيه آزر بقوله :﴿ واغفر لأبي إنه كان من الضالين ﴾ ( الشعراء : ٨٦ ) أي وفِّقْه للإيمان واهده إلى سبيله- إلا عن موعدة وعدها إياه بقوله :﴿ سأستغفر لك ربي ﴾ ( مريم : ٤٧ ) أي لا أملك لك هداية ولا نجاة، وإنما أملك أن أدعو الله لك.
وقد وفّى إبراهيم بما وعد، ولم يكن إلا وافيا كما شهد الله له بقوله :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾ ( النجم : ٣٧ ).
﴿ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ﴾ أي لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه، قال ابن عباس : وقيل تبين له ذلك بوحي من الله فتبرأ منه ومن قرابته وترك الاستغفار له، إذ هذا مقتضى الإيمان كما قال تعالى :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم ﴾ ( المجادلة : ٢٢ ) الآية.
ثم بين السبب الذي حمل إبراهيم على الوعد بالاستغفار لأبيه شكاسته له وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله :﴿ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ﴾ ( مريم : ٤٦ ) فقال :
﴿ إن إبراهيم لأواه حليم ﴾ أي إن إبراهيم لكثير المبالغة في خشية الله والخضوع له، صبور على الأذى والصفح عن زلات غيره عليه.
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١١٣ ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ( ١١٤ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ ) إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ( التوبة ١١٣-١١٦ ).
المعنى الجملي : كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال، وهنا بين أنه يجب البراءة من أمواتهم وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه وهو وعده بالاستغفار بقوله :﴿ لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ﴾ ( الممتحنة : ٤ ) فلما أصرّ على كفره تبرأ منه، وبعدئذ بين رحمته بعباده وأنه لا يعاقبهم على شيء إلا بعد بيان شاف لما يعاقبون عليه.
أخرج أحمد وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن المسَيّب عن أبيه قال ( لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال :( أي عمِّ قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فأنزل الله ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم :( إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء ) وقد كان موت أبي طالب بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، ومن ثم استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت في أبي طالب، وأجاب آخرون بأن الذي حصل قد يكون أحد أمرين :
إنها نزلت عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين.
إنها نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية يستغفر لأبي طالب، فإن التشديد على الكفار، والبراءة منهم إنما جاء في هذه السورة.
وفي الآية إيماء إلى تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك كقولهم المغفور له والمرحوم فلان، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكي من حوله، ثم قال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت ).
الإيضاح :
﴿ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم ﴾ أي وما كان من سنن الله في خلقه ولا من رحمته أن يصف قوما بالضلال ويجري عليهم أحكامه بالذم والعقاب بعد إذ هداهم إلى الإيمان، وشرح صدورهم للإسلام- بقول يصدر منهم عن غير قصد أو عمل يحدث منهم باجتهاد خاطئ.
﴿ حتى يبين لهم ما يتقون ﴾ من الأقوال والأفعال بيانا واضحا بوحي صراحة أو دلالة.
﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ أي إنه تعالى عليم بجميع الأشياء، ومن جملتها حاجة الناس إلى البيان، فهو يبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع، حتى لا يظل فيه اجتهادهم بأهواء أنفسهم، ومن أجل هذا لم يؤاخذ إبراهيم في استغفاره لأبيه قبل أن تتبين له حاله، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولي القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله تعالى.
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ١١٣ ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ( ١١٤ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ ) إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ( التوبة ١١٣-١١٦ ).
المعنى الجملي : كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال، وهنا بين أنه يجب البراءة من أمواتهم وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه وهو وعده بالاستغفار بقوله :﴿ لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ﴾ ( الممتحنة : ٤ ) فلما أصرّ على كفره تبرأ منه، وبعدئذ بين رحمته بعباده وأنه لا يعاقبهم على شيء إلا بعد بيان شاف لما يعاقبون عليه.
أخرج أحمد وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن المسَيّب عن أبيه قال ( لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال :( أي عمِّ قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فأنزل الله ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم :( إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء ) وقد كان موت أبي طالب بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، ومن ثم استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت في أبي طالب، وأجاب آخرون بأن الذي حصل قد يكون أحد أمرين :
إنها نزلت عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين.
إنها نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية يستغفر لأبي طالب، فإن التشديد على الكفار، والبراءة منهم إنما جاء في هذه السورة.
وفي الآية إيماء إلى تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك كقولهم المغفور له والمرحوم فلان، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكي من حوله، ثم قال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت ).
الإيضاح :
ولما منعهم من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولى قربى، وذلك يستدعي التبرؤ منهم وعدم انتظار النصرة من أحد- بين أن النصر لا يكون إلا من جهته تعالى فقال :
﴿ إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ أي إنه تعالى مالك كل موجود، ومتولي أمره في السماوات، والأرض، وهو الذي يهب الحياة بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه في التكوين، ويميت من يشاء حين انقضاء أجله، وليس لكم أيها المؤمنون من يتولى أموركم، ولا من ينصروكم على عدوكم غير الله تعالى، فلا تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولي القربى الذين هم أهل الولاية والنصرة من ذوي الأرحام، ولا في غير ذلك من أوامره ونواهيه.
﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١١٧ ) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١١٨ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ( التوبة : ١١٧-١١٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن استقصى سبحانه أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف- عاد مرة أخرى إلى الكلام في توبتهم جريا على سنة القرآن الكريم في تفريق الآيات في الموضوع الواحد، لأنه أفعل في النفس وأشد تأثيرا في القلب وأجدى في تجديد الذكرى وأدنى ألا يسأم التالي لها في الصلاة وغيرها. إلا أنه مناسب لما قبله من النهي عن الاستغفار للمشركين، إذ كلّ مما يتاب منه، وكلّ عَثرة يُطْلب منها الصفح والعفو.
تفسير المفردات :
العسرة : الشدة والضيق. وزاغ : مال.
الإيضاح :
﴿ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ﴾ أي لقد تفضل سبحانه وعطف على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار فتجاوز عن هفوات صدرت منهم في هذه الغزوة وغيرها لبلائهم الحسن فيها، ولأنهم لم يصروا على شيء منها.
وقد كانت هفواتهم على سنن الطباع البشرية واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله بيانا قطعيا بحيث يعد مخالفه عاصيا، وقد فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله في سياق هذه الغزوة ( عفا الله عنك- لِمَ أذنت لهم ؟ ) أي إن التوبة كانت من اجتهاد لم يقره الله عليه إذ غيره كان خيرا منه، وتوبة المهاجرين والأنصار، وهم خلّص المؤمنين كانت من تثاقلهم في الخروج حتى ورد الأمر الحتم والتوبيخ على التثاقل إلى الأرض، ومنهم من كان ذنبه السماع للمنافقين فيما كانوا يبتغون من فتنة المؤمنين.
وتوبة الله على عباده توفيقهم للتوبة وقبولها منهم، وإنما يتوبون من ذنب، وما كل ذنب معصية لله عز وجل.
﴿ الذين اتبعوه في ساعة العسرة ﴾ أي الذين اتبعوه ولم يتخلفوا عنه وقت الشدة والضيق، وكانت عسرة في الزاد إذ كان الوقت نهاية فصل الصيف الذي نفدت فيه مؤونتهم من التمر، وأول فصل الخريف الذي بدأ فيه إرطاب الموسم الجديد، ولا يمكن حمل شيء منه، فكان يكتفي الواحد منهم أو الاثنان بالتمرة الواحدة من التمر القديم ومنه المدودّ واليابس، ومنهم من تزوّد بالشعير المسوّس والإهالة- الشحم المذاب- الزنخة المتغيرة الرائحة- وعسرة في الماء حتى كانوا ينحرون البعير على قلة الرواحل ليعتصروا الفرث الذي في كَرِشه ويبلّوا به ألسنتهم- وعسرة في الظهر- في الإبل- حتى كان العشرة يتعقبون بعيرا واحدا- وعسرة في الزمن إذ كان في حرارة القيظ- شدة الحر-.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه في ساعة العسرة : عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء، وقال ابن عباس لعمر رضي الله عنهم : حدِّثْنا من شأن ساعة العسرة، فقال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش شديد، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل ليَنْحر بعيره ليعصر فَرْثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادفع لنا، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
﴿ من بعد ما كاد يزيغ قلوب فؤيق منهم ﴾ أي إنه تاب على المؤمنين كافة من بعد ما كاد يزيغ بعضهم عن الإيمان وهم الذين تخلفوا لغير علة النفاق، وهم الذين وصفهم الله بأنهم عملوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم، فقبل الله توبتهم كما ذكر فيما سلف.
﴿ ثم تاب عليهم ﴾ هذا تكرير للتوكيد كما يقال عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، فيدل ذلك على أنه عفو متأكد بلغ الغاية القصوى من القدرة والكمال.
ثم علل قبول توبتهم بقوله :
﴿ إنه بهم رؤوف رحيم ﴾ أي إن ربهم رءوف رحيم بهم، فلا يهملهم بأن ينزع الإيمان منهم بعد ما أبلَوُا في الله وأبَلوْا مع رسوله وصبروا في البأساء والضراء.
﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١١٧ ) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١١٨ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ( التوبة : ١١٧-١١٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن استقصى سبحانه أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف- عاد مرة أخرى إلى الكلام في توبتهم جريا على سنة القرآن الكريم في تفريق الآيات في الموضوع الواحد، لأنه أفعل في النفس وأشد تأثيرا في القلب وأجدى في تجديد الذكرى وأدنى ألا يسأم التالي لها في الصلاة وغيرها. إلا أنه مناسب لما قبله من النهي عن الاستغفار للمشركين، إذ كلّ مما يتاب منه، وكلّ عَثرة يُطْلب منها الصفح والعفو.
تفسير المفردات :
الرُّحْب : السعة، ولجأ إلى الحصن وغيره : لاذ إليه واعتصم به. الرأفة : العناية بالضعيف والرفق به. والرحمة : السعي في إيصال المنفعة.
الإيضاح :
﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا ﴾ أي ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خُلّفُوا عن الخروج إلى تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المرجَوْن لأمر الله، وتقدم أنهم ثلاثة : كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.
﴿ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ﴾ أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم رُحْبِها وسعتها بالخلق جميعا خوفا من العاقبة وجزعا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنهم، وهجرهم إياهم في المجالسة والمحادثة. وهذا مثل للحيرة في الأمر، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يَقّْرون فيه قلقا وجزعا مما هم فيه، قال قائلهم :
كأن فِجاج الأرض وهي فسيحة على الخائف المطلوب كفّة حابل
ثم ترقى وانتقل من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم في أنفسهم فقال :
﴿ وضاقت عليهم أنفسهم ﴾ أي وضاقت أنفسهم على أنفسهم، لِما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم بامتلائها بالهمّ والغم حتى لا متسع فيها لشيء من البسط والسرور، فكأنهم لا يجدون لأنفسهم مكانا ترتاح إليه وتطمئن به.
﴿ وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ﴾ أي واعتقدوا أنه لا ملجأ من غضب الله ورسوله، إلا إليه تعالى بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته، وقد أعرض عنهم رسول البَرُّ الرحيم بأصحابه، فلم يكونوا يستطيعون أن يطلبوا دعاءه واستغفاره- إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع في الدنيا، ولا في الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يُشْفع لهم.
﴿ ثم تاب عليهم ﴾ أي ثم عطف عليهم وأنزل قبول توبتهم.
﴿ ليتوبوا ﴾ ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته، وإتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿ إن الله هو التواب الرحيم ﴾ أي إنه تعالى كثير القبول لتوبة التائبين، الواسع الرحمة للمحسنين، المتفضل عليهم بضروب النعم مع استحقاقهم لأعظم أنواع العقاب.
وكان من حديث هؤلاء الثلاثة ما حدثه كعب قال : لما قَفَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّمت عليه فرد عليّ كالمغضَب بعد ما ذكَرني وقال :( ليت شعري ما خلّف كعبا ) فقيل له : ما خلّفه إلا حسن بُرْديْه والنظر في عِطْفيْه فقال :( معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما ) ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب أو بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أُمِرْنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذِرْوة سلع- جبل بالمدينة- أبْشر يا كعبُ بن مالك فخررت ساجدا، وكنت كما وصفني ربي ﴿ وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ﴾ وتتابعت البشارة، فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام إليّ طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحني وقال : لتَهْنِك توبة الله، فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يستنير استنارة القمر :( أبْشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ) ثم تلا علينا الآية.
وفي هذه القصة عبرة للمؤمنين تخشع لها قلوبهم وتفيض لها عبراتهم، وقد كان الإمام أحمد لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات.
انظر إلى هذا وتأمل قسوة قلوب الجاهلين المغرورين، الذين يقترفون الفواحش والمنكرات، ويتركون الفرائض ويصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ولا يتوبون إلى الله ولا هم يذّكرون، وإذا وعظهم الواعظ وجدهم بين جازم بالمغفرة والعفو عنه، ومتكل على شفاعة الشافعين له، ومنهم من يحفظ من أخبار مكفرات الذنوب مما لا أصل له في الدين، أو له أصل يراد به تكفير الصغائر بشرط اجتناب الكبائر، كما قال تعالى :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ ( النساء : ٣١ ).
﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١١٧ ) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١١٨ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ( التوبة : ١١٧-١١٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن استقصى سبحانه أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف- عاد مرة أخرى إلى الكلام في توبتهم جريا على سنة القرآن الكريم في تفريق الآيات في الموضوع الواحد، لأنه أفعل في النفس وأشد تأثيرا في القلب وأجدى في تجديد الذكرى وأدنى ألا يسأم التالي لها في الصلاة وغيرها. إلا أنه مناسب لما قبله من النهي عن الاستغفار للمشركين، إذ كلّ مما يتاب منه، وكلّ عَثرة يُطْلب منها الصفح والعفو.
الإيضاح :
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ﴾ أي يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله اتقوا الله وراقبوه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه، وكونوا في الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا في الآخرة مع الصادقين في الجنة، ولا تكونوا مع المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب ويؤيدونه بالحلف.
أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعِدِ الرجل ابنه ثم لا يُنْجز له، اقرءوا إن شئتم :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ﴾، وأخرج البيهقي مرفوعا :( إن الصدق يهدي إلى البِرّ، وإن البِرّ يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، إنه يقال للصادق : صدق وبَرّ، ويقال للكاذب : كذب وفَجَر، وإن الرجل ليصْدُق حتى يكتب عند الله صدّيقا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا ).
ولا رخصة في الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب، أو إصلاح بين اثنين، أو رجل يحدّث امرأته ليرضيها، أي في التحبب إليها بوصف محاسنها ورضاه عنها، لا في مصالح الدار والعيال وغيرها.
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب في خديعة حرب أو صلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها ).
ولا شك أن في المعاريض ما يغني العاقل عن الكذب كما جاء في الحديث :( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ).
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( ١٢٠ ) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ( التوبة : ١٢٠-١٢١ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عزّ اسمه توبته على المتخلفين الذين حسنت نياتهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون- أكد هنا وجوب متابعة الرسول والغزو معه لما فيه من الأجر العظيم، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه.
تفسير المفردات :
رغب في الشيء : أحبه وآثره. ورغب عنه : كرهه، وقد جمع بينهما في الآية. والظمأ : شدة العطش. والنصب : الإعياء والتعب. والمخمصة : الجوع الشديد. والغيظ : الغضب. ونيلا : أي أسرا وقتلا وهزيمة.
الإيضاح :
﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ﴾ أي لا ينبغي لأهل المدينة حاضرة الإسلام ومقر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من حولهم من الأعراب كمُزينة وجُهَيْنة وأشْجع وغِفار وأسْلم- أن يتخلفوا عن رسول الله، في غزو في سبيل الله كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، ولا في غيره من شؤون الأمة ومصالح الملة، ولا أن يفضّلوا أنفسهم على نفسه فيرغبوا في الراحة والسلامة ولا يبذلوها فيما يبذل فيها نفسه الشريفة، بل عليهم أن يصحبوه في البأساء والضراء وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها، ويضِنّوا بها على ما سَمَح بنفسه عليه.
والخلاصة : إن المتخلّف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه.
وفي ذلك : نهي شديد عن عملهم، وتوبيخ لهم عليه، ونهي لمتابعته صلى الله عليه وسلم بأنفة وحمّية.
﴿ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ﴾ أي لم يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الإتباع بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم من أذى وإن كان قليلا كظما لقلة الماء، أو نصب لبعد الشّقة، أو لقلة الظهر، أو مجاعة لقلة الزاد، ومن إيذاء للعدو وإن صغُر كوطء أرضه الذي يعده استهانة بقوته فيغيظه أن تمسّه أقدام المؤمنين أو حوافر خيولهم، أو النيل منه بجُرْح أو قتل أو أسْر أو هزيمة أو غنيمة- إلا كُتِب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح يُجْزَى عليه بالثواب العظيم، وما أكثر هذه الأعمال الصالحات التي تشمل كل حركة من بطشة يد أو وطأة قدم أو عروض جوع أو عطش أو نحو ذلك.
وفي الآية إيماء إلى أن من قصد خيرا كان سعيه فيه من قيام أو قعود أو مشي أو كلام أو نحو ذلك مشكورا مثابا عليه، وإلى أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم، ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر وقد قدما بعد تقضّي الحرب.
ثم علل هذا الأجر العظيم بقوله :
﴿ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ أي إن الله لا يدع محسنا أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه- أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله، ومن ثم كتب لمن أطاعه من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب الثواب على كل ما فعلوا فلم يُضِع لهم أجرا على عمل عملوه.
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( ١٢٠ ) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ( التوبة : ١٢٠-١٢١ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر عزّ اسمه توبته على المتخلفين الذين حسنت نياتهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون- أكد هنا وجوب متابعة الرسول والغزو معه لما فيه من الأجر العظيم، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه.
تفسير المفردات :
والوادي : كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل.
الإيضاح :
﴿ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ﴾ أي كذلك شأنهم فيما ينفقون في سبيل الله صغر أو كبر، قلّ أو كَثُر، وفي كل واد يقطعونه في سيرهم غادين أو رائحين- إلا كتب لهم أجرهم على ذلك جزاء لهم على عملهم ولا يترك شيء منه أو ينسى.
﴿ ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ﴾ أي ليجزيهم بكتابته في صحف أعمالهم كأحسن ما يجزيهم على خير أعمالهم التي كانوا يعملونها، وهم مقيمون في منازلهم.
وخلاصة ذلك : إنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر جزاء أحسن من جزائهم على أعمالهم الجليلة في غير الجهاد بالمال والنفس، بأن تكون النفقة الصغيرة فيه كالنفقة الكبيرة في غيره من أنواع المبرات، والمشقة القليلة فيه كالمشقة الكبيرة فيما عداه من الأعمال الصالحات.
﴿ *وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ ( التوبة : ١٢٢ ).
المعنى الجملي : هذه الآية جاءت متممة لأحكام الجهاد مع بيان حكم العلم والتفقه في الدين من قِبَل أنه وسيلة للجهاد بالحجة والبرهان، وهو الركن الركين في الدعوة إلى الإيمان وإقامة دعائم الإسلام، ولم يشرع جهاد السيف إلا ليكون حماية وسياجا لتلك الدعوة من أن تلعب بها أيدي المعتدين من الكافرين والمنافقين.
روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما شدّد الله على المتخلفين قالوا لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ففعلوا ذلك وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فنزل ﴿ وما كان المؤمنون ﴾ الآية.
تفسير المفردات : نفر : خرج للقتال : ولولا : كلمة تفيد الحضّ والحث على ما يدخل عليها إذا كان مستقبلا، واللوم على تركه إذا كان ماضيا، فإن كان مما يمكن تلافيه فربما فاد الأمر به، والفرقة : الجماعة الكثيرة. والطائفة : الجماعة القليلة. وتفقه : تكلف الفقاهة والفهم وتجشم مشاق تحصيلها. وأنذره : خوّفه. وحذر : تحرز منه.
الإيضاح :
﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ أي و ما كان شأن المؤمنين ولا مما يطلب منهم أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد، فإنه فرض كفاية متى قام به بعض من سقط عن الباقين، لا فرض عين كل شخص، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للجهاد.
﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾ أي فهلا نفر للقتال من كل فرقة كبيرة منهم، كأهل بلد أو قبيلة طائفة وجماعة ليتسنى لهم : أي للمؤمنين في جملتهم التفقه في الدين، بأن يتكلف الباقون في المدينة الفقاهة في الدين بما يتجدد نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات وما يكون منه صلى الله عليه وسلم من بيانها بالقول والعلم، فيعرف الحكم مع حكمته، ويوضح المجمل بالعمل به، ولينذروا قومهم الذين نفروا للقاء العدو إذا رجعوا إليهم : أي ليجعلوا أهمّ قصد لهم من الفقاهة إرشاد هؤلاء وتعليمهم، وإنذارهم عاقبة الجهل وترك العمل بما علموا، رجاء أن يخافوا الله ويحذروا عاقبة عصيانه، وأن يكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته والحِجاج عنه وبيان أسراره للناس، لا أن يوجهوا أنظارهم إلى الرياسات والمناصب العالية والترفع عن سواد الناس وكسب المال والتشبه بالظلمة والجبارين في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا.
وفي الآية إشارة إلى وجوب التفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه بالمقدار الذي تصلح به حالهم فلا يجهلون الأحكام الدينية العامة التي يجب على كل مؤمن أن يتعرفها، والناصبون أنفسهم لهذا التفقه على هذا القصد لهم عند الله من سامي المراتب ما لا يقل في الدرجة عن المجاهد بالمال والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله والذود عن الدين والملة، بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع واجبا عينيا على كل شخص.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ( التوبة : ١٢٣ ).
المعنى الجملي : لما أمر سبحانه فيما سبق بقتال المشركين كافة- أرشدهم في هذه الآية إلى طريق السداد في هذا الباب، وهو أن يبدءوا بقتال من يليهم ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد وهكذا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كذلك، فقد حارب قومه ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ثم إلى غزو الشام، ولما فرغ صحابته من الشام دخلوا العراق ؛ وكذلك في أمر الدعوة فقد قال تعالى :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ ( الشعراء : ٢١٤ ) ثم أُمِر بالدعوة العامة وقتال من يقف في طريقها من المشركين فقال :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ ( التوبة : ٢٩ )
الإيضاح :
﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾ أي قاتلوا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ذاك أن القتال إنما شرع لتأمين الدعوة إلى الدين والدفاع عن أهله، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار كما قال تعالى لرسوله :﴿ لتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ ( الشورى : ٧ ).
وهذا الترتيب أولى لوجوه كثيرة : منها قلة النفقات، والحاجة فيه إلى الدواب والآلات، وسهولة معرفة حال الأقرب من الأسلحة والعسكر، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بالأبعد لا يؤمن معه من هجوم العدو على الذراري والضعفاء، ومن ثم كان هذا هو الطريق المتبع في الدعوة والنفقات والصدقات وما يدار في المجالس من شراب ونحوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي من على يمينه وإن لم يكن أفضل الجالسين ثم الذي يليه ثم الذي يليه، وقال للأعرابي الذي كان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من المائدة " كل مما يليك ".
﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ الغلظة- مثلثة- : الشدة والخشونة، أي وليجدوا فيكم جرأة وصبرا على القتال وعنفا في القتل والأسر ونحو ذلك كما قال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ ( التوبة : ٧٣ ).
والغلظة في زمن الحرب مما تقتضيه الطبيعة والمصلحة، لما فيها من شدة الزجر والمنع عن القبيح.
وفي الآية إيماء إلى أنه قد يحتاج حينا إلى الرفق واللين، وأخرى إلى العنف والشدة، لا أن يقتصر على الغلظة فحسْبُ فإن ذلك مما ينفّر ويوجب تفرق الناس عنهم، وإنما أمروا بذلك في القتال وما يتصل بالدعوة إلى الإسلام، للإرشاد إلى أنه يجب أن تكون حالهم في الأمور العامة مبنية على الرفق والعدل والتؤدة في المعاملة ومن ثم صار ذلك من أخصّ صفات المسلين.
﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ أي واعلموا أن الله معكم بالمعونة والنصر إذا اتقيتموه وراعيتم أحكامه وسننه، وابتعدتم عن التقصير في أسباب النصر والغلب من إعداد العُدة المناسبة للزمان والمكان التي عناها الله بقوله :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ ( الأنفال : ٦٠ ) ومن الثبات والصبر، والطاعة وحسن النظام، وترك التنازع والاختلاف، وكثرة ذكر الله والتوكل عليه فيما وراء الأسباب والسنن المعروفة.
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾ ( التوبة : ١٢٤-١٢٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ضروبا من مخازي المنافقين كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة- ذكر هنا ضروبا أخرى من تلك المثالب كتهكمهم بالقرآن وتسللهم لواذا حين سماعه، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم وفي المؤمنين.
الإيضاح :
﴿ وإذا ما أنزلت سورة ﴾ أي وإذا أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة من سور كتابه الكريم، فمن المنافقين من يقول لإخوانه على سبيل الاستهزاء : هذه المقالة ليثبتوا على النفاق، أو يقول لمن يلقاه من المؤمنين مشككا لهم :﴿ أيكم زادته هذه ﴾ السورة ﴿ إيمانا ﴾ أي يقينا بحقية القرآن والإسلام وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أيكم زادته تصديقا جازما مقترنا بإذعان النفس وخضوعها، وأشعرته بلزوم العمل بها لتيقنه بصدق الرسول الذي أنزلت عليه.
والإيمان على هذا النحو يزيد بنزول القرآن في عهد الرسول ولا سيما من يحضر نزوله ويسمعه منه، وكذا يزيد بسماعه من غيره في قلب المؤمن قوة وإذعان ورغبة في العمل والقرب من الله.
قال تعالى مجيبا عن هذا السؤال مبينا حالهم وحال المؤمنين فقال :
﴿ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ﴾ أي فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن زيادة اليقين واطمئنان القلب، ويزيدهم قوة في العمل به والتقرب إلى ربهم، وهم يستبشرون بنزولها لما يرجون من خير هذه الزيادة، بتزكية أنفسهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾ ( التوبة : ١٢٤-١٢٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ضروبا من مخازي المنافقين كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة- ذكر هنا ضروبا أخرى من تلك المثالب كتهكمهم بالقرآن وتسللهم لواذا حين سماعه، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم وفي المؤمنين.
الإيضاح :
﴿ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ﴾ أي وأما الذين في قلوبهم شك وارتياب دعاهم إلى النفاق بإسرار الكفر وإظهار الإسلام، فزادتهم كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق، واستحوذ ذلك عليهم واستحكم فيهم إلى أن ماتوا على الكفر والنفاق على مقتضى سننه تعالى في تأثير الأعمال في صفات النفس وتغيير هواجس الفكر.
ثم عجّب من حالهم وقد كان لهم زاجرا فيما يرون فقال :﴿ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ﴾.
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾ ( التوبة : ١٢٤-١٢٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ضروبا من مخازي المنافقين كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة- ذكر هنا ضروبا أخرى من تلك المثالب كتهكمهم بالقرآن وتسللهم لواذا حين سماعه، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم وفي المؤمنين.
الإيضاح :
﴿ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ﴾ أي أيجهلون هذا ويَغْفُلون عن حالهم فيما يعرض لهم عاما بعد عام من ضروب الابتلاء والاختبار التي تُظْهِر استعداد النفوس للإيمان والكفر والتفرقة بين الحق والباطل، وينظرون إلى الآيات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من نصر الله لمن اتبعه وخذلان أعدائه ووقوع ما أنذرهم به، ومن إنباء الله بما في قلوبهم وفضيحتهم بما يكتمون من أعمالهم.
﴿ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ﴾ أي ثم هم مع كل هذا تمر عليهم الأعوام تلو الأعوام ولا يتوبون من نفاقهم ولا يتعظون بما يحلّ بهم من العذاب، أفبعد هذا برهان على قلة الاستعداد للإيمان وانطفاء نور الفطرة، ولله در القائل :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾ ( التوبة : ١٢٤-١٢٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ضروبا من مخازي المنافقين كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة- ذكر هنا ضروبا أخرى من تلك المثالب كتهكمهم بالقرآن وتسللهم لواذا حين سماعه، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم وفي المؤمنين.
الإيضاح :
وبعد أن بين حال تأثير إنزال السورة في المنافقين وهم غائبون عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم- بيّن حالهم وهم في مجلسه صلى الله عليه وسلم حين نزولها واستماع تلاوته لها فقال :
﴿ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض ﴾ أي وإذا أنزلت سورة وهم في المجلس تسارقوا النظر وتغامزوا بالعيون، على حين تخشع أبصار المؤمنين وتنحني رؤوسهم، وتشاوروا في الانسلال من المجلس خِفْية، لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من سخرية وإنكار قائلا بعضهم لبعض :
﴿ هل يراكم من أحد ﴾ أي هل يراكم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو المؤمنون إذا قمتم من المجلس.
﴿ ثم انصرفوا ﴾ أي ثم انصرفوا جميعا عن مجلس الوحي متسللين لواذا كراهة منهم لسماعه وانتظار لسنوح فرصة الغفلة عنهم، فكلما لمح أحد منهم غفلة عنه انصرف.
﴿ صرف الله قلوبهم ﴾ أي صرف الله قلوبهم عن الإيمان الصادق والاسترشاد بآيات كتابه إلى ما في ملكوت السماوات والأرض من دلائل قدرته.
وهذه الجملة : إما إخبار بذلك، أو دعاء عليهم به، والمآل في هذه واحد في كلامه تعالى.
﴿ بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ أي وذلك الصرف بسبب أنهم قوم فقدوا فهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال، فلا يفقهون ما يسمعون من الآيات لعدم تدبرها والتأمل في معانيها مع موافقتها للعقل وهدايتها إلى الحق والعدل. لأنهم وطّنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به من غير بحث ولا تأمل، أحق هو أم باطل، أخير هو أم شر ؟ وأنى لمثل هؤلاء- وتلك حالهم- أن يهتدوا بنزول الآيات والسور ؟
﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ ( التوبة : ١٢٨-١٢٩ ).
المعنى الجملي : لما أمر الله رسوله في هذه السورة أن يبلغ الخلق تكاليف شاقة يعسر تحملها إلا على من خُصّ بوجوه التوفيق والكرامة- ختمها بما يوجب تحملهم تلك التكاليف فبيّن أن هذا الرسول منهم، فما يحصل له من عز وشرف فهو عائد إليهم، إلى أنه يشقُّ عليه ضررهم، وتعظم رغبته في إيصال خيري الدنيا والآخرة إليهم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم عليهم، والطبيب الحاذق بما أقدم على علاج يصعب تحمله، والأب الرحيم بما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها كما قال :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه : إن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن، لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب أنه قال : آخر آية نزلت :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ ( النساء : ١٧٦ ) وآخر سورة نزلت : براءة، وعن ابن عباس : آخر آية نزلت :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ ( البقرة : ٢٨١ ) وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلم ثمانون يوما.
تفسير المفردات :
من أنفسكم : أي من جنسكم. وعزيز : أي شاقّ. والعنت : المشقة ولقاء المكروه الشديد. والحرص : شدة الرغبة في الحصول على مفقود. وشدة عناية بموجود. والرأفة : الشفقة. والرحمة : الإحسان.
الإيضاح :
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ أي لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم، والآية بمعنى قوله :﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ﴾ ( الجمعة : ٢ ).
ذاك أن منّته على قومه أعظم، وحجته بكتابه أنْهض، وأولى قومه به قبيلته قريش ثم عشيرته الأقربون بنو هاشم وبنو المطلب، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم، وقد وجه دعوته إلى الأقرب فالأقرب، فآمن العرب بدعوته مباشرة، وآمن العجم بدعوة العرب، والعرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه له صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والعمل وبما شاهدوا من آيات الله في شخصه.
وقد امتنّ الله عليه وعلى قومه بالقرآن المجيد فقال :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ ( الزخرف : ٤٤ ) أي وإنه لشرف لك ولهم تُذْكَرون به في العالم وَيُدَوّن لكم في بطون الكتب والدفاتر.
وإنما قاومه أكابر قومه أنفة واستكبارا عن إتباعه، إذ هم يرونه دونهم- على أن في إتباعه إقرارا بكفرهم وكفر آبائهم الذين يفاخرون بهم، إلى أنهم لم يكونوا على ثقة من فوزه ونيلهم باتباعه مجد الدنيا وسعادة الآخرة.
﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾ أي شديد عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه لأنه منكم، فليس من الهين عليه أن تكونوا في الدنيا أمة ذليلة يعنتها أعداؤها بالسيطرة عليها والتحكم فيها، ولا أن تكونوا في الآخرة من أصحاب النار التي وقودها الناس والحجارة.
﴿ حريص عليكم ﴾ أي حريص على اهتدائكم وصلاح شأنكم كما قال الله تعالى :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾ ( يوسف : ١٠٣ )
﴿ بالمؤمنين رؤوف رحيم ﴾ أي وهو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فكل ما يدعو إليه من العمل بشرائع الله فهو دليل على ثبوت هذه الصفات له، وكل شاق منها كالجهاد فهم منجاة مما هو أشق منه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريّها وربيعيها ويمانيها- يريد أن نسبه تشعب في جميع قبائل العرب وبطونها. /خ١٢٩
﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ ( التوبة : ١٢٨-١٢٩ ).
المعنى الجملي : لما أمر الله رسوله في هذه السورة أن يبلغ الخلق تكاليف شاقة يعسر تحملها إلا على من خُصّ بوجوه التوفيق والكرامة- ختمها بما يوجب تحملهم تلك التكاليف فبيّن أن هذا الرسول منهم، فما يحصل له من عز وشرف فهو عائد إليهم، إلى أنه يشقُّ عليه ضررهم، وتعظم رغبته في إيصال خيري الدنيا والآخرة إليهم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم عليهم، والطبيب الحاذق بما أقدم على علاج يصعب تحمله، والأب الرحيم بما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها كما قال :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه : إن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن، لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب أنه قال : آخر آية نزلت :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ ( النساء : ١٧٦ ) وآخر سورة نزلت : براءة، وعن ابن عباس : آخر آية نزلت :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ ( البقرة : ٢٨١ ) وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلم ثمانون يوما.
الإيضاح :
﴿ فإن تولوا فقل حسبي الله ﴾ أي فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك والاهتداء بما جئتهم به، فقل حسبي الله فإنه يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله، وقد بلّغت وما قصرت.
﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي لا معبود سواه ألجأ إليه بالدعاء والإعانة، وهو الكافي والمعين.
﴿ عليه توكلت ﴾ أي عليه وحده توكلت فلا أَكِلُ أمري فيما أعجز عنه إلى غيره.
﴿ وهو رب العرش العظيم ﴾ العرش : مركز تدبير أمور الخلق كما قال تعالى :﴿ ثم استوى على العرش يدبر الأمر ﴾ ( يونس : ٣ ) وعظمته بعظمة الرب الذي استوى عليه، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره، وعظمة العرش والملك في الملأ الأعلى وفيما دونه هي مظهر عظمة الله سبحانه وتعالى، ودليل على أنه وحده الإله الحق الذي لا ينبغي أن يُعْبد غيره ولا يتوكل على سواه، وهو المالك للعالم كله والمدبر لهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت في جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر أنه قال : حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خُزَيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ إلى آخرها- يريد أنه لم يجدهما مكتوبتين عندما جمع المكتوب في الرقاع والأكتاف والعُسُب إلا عنده، وقد كانتا محفوظتين معروفتين للكثير كما صرح بذلك في الروايات الأخرى ؛ فقد أخرج ابن أبي داود في المصاحف عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين في آخر براءة ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ إلى قوله ﴿ وهو رب العرش العظيم ﴾ إلى عمر فقال : من معك على هذا ؟ فقال : لا أدري والله إلا أني أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما وحفظتهما، فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كانت ثلاث آيات لجعلتهما سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها بها، فألحقت في آخر براءة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر، فقال عمر : لا أسألك عليها بينة أبدا، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها.
ومن هذه الروايات يُعْلم أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين، إلا أنهم اختلفوا في موضعهما ففي بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها أنهما وضعتا بالرأي والاجتهاد، ولكن المعتمد هو الأول، لأن من حفظ التوفيق حجة على من لم يحفظ.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : إن زيدا لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه، واكتفاؤه بخزيمة وحده إنما كان لأنه لم يجدهما مكتوبتين عند غيره، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، وحسبك دليلا على ذلك قوله : إنهم كانوا يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فهو صريح في أن البحث عمن كتبها فقط ا هـ.
فجملة القول : إن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة وإنما اختلفوا حين الجمع في موضع كتابتهما حتى شهد من شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعهما في آخر سورة براءة، وفاقا لقول أبيّ بن كعب وهو أحد الذين تلقَّوْا القرآن كله مرتبا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا زيد بن ثابت وكان عدد المختلفين في موضعهما قليلا، فلما كُتِبتا في المصاحف وافق الجميع على وضعهما هذا، ولم يروا أيّ اعتراض على ذلك ممن كتبوا لأنفسهم مصاحف واعتمدوا فيها على حفظهم كابن مسعود رضي الله عنه.

Icon