تفسير سورة التوبة

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيب هذه السورة قبل سورة النصر التي يجعلها آخر السور المدنيّة نزولا. وبعض روايات الترتيب يجعلها بعد سورة النصر. وبعضها يجعلها ثانية عشرة سورة مدنيّة نزولا وبعضها سادسة عشرة بل وبعضها سادسة «١» ومضامينها تلهم أن الروايات الثلاث الأخيرة لا يمكن أن تكون صحيحة. وقد أخذنا برواية المصحف الذي اعتمدناه لأن فحوى وروح سورة النصر يسوغان صحة رواية هذا المصحف بكونها آخر السور المدنيّة نزولا كما أن هناك أحاديث تؤيد ذلك على ما سوف نورده في سياقها.
وللسورة أسماء عديدة. المشهور منها اثنان وهما (التوبة) و (براءة). وهما مقتبسان من ألفاظ فيها كما هو شأن معظم السور. والباقي أطلق عليها بسبب ما فيها من دلالات فهي الفاضحة لأنها فضحت المنافقين، وهي المبعثرة لأنها بعثرت أسرارهم، وهي المقشقشة لأنها تقشقش أي تبرئ المسلمين من الكفر والنفاق، وهي المدمدمة أي المهلكة، وهي الحافرة لأنها حفرت قلوب المنافقين وكشفت ما يسترونه، وهي المثيرة لأنها أثارت مخازيهم، وهي العذاب لأنها نزلت بعذاب الكفار. وهذه الأسماء التي بلغت العشرة معزوة إلى أصحاب رسول الله ﷺ وتابعيهم «٢».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٢]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
. تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ومتناولهما
عبارة الآيتين واضحة. والخطاب في الآية الأولى موجّه إلى المسلمين يخبرون به بأن الله ورسوله يعلنان براءتهما من الذين عاهدوهم من المشركين
(١) انظر روايات ترتيب نزول السور في كتابنا سيرة الرسول. ج ٢ ص ٩.
(٢) انظر كتب التفسير السابقة. وأجمعها للأسماء تفسير الطبرسي.
341
وتنصلهما من عهدهم. وفي الثانية موجه إلى المشركين يؤذنون به بأن لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر بأمان. مع إنذارهم بأنهم غير معجزين لله وغير فالتين منه. وأنه مخزي الكافرين في أي حال.
وتوجيه الخطاب في الآية الأولى إلى المسلمين قد يبدو غريبا لأول وهلة.
لأن النبي ﷺ هو الذي كان يعقد العهود مع غير المسلمين. والمتبادر أن حكمة التنزيل لما اقتضت أن يقرن رسول الله مع الله عزّ وجلّ في إعلان البراءة والتنصل من هذه العهود جاءت العبارة القرآنية على النحو الذي جاءت عليه لأن العهود وإن كان النبي ﷺ هو الذي يعقدها فإنها كانت أيضا بين المسلمين والمشركين.
ولقد قال الطبري إن أهل التأويل- وقد ذكر في سياق كلامه ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي ومحمد بن كعب القرظي- اختلفوا في من برىء الله ورسوله إليه من العهد فقال بعضهم هم صنفان. أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل أربعة أشهر لأن الآيات نزلت في شوال الذي يعقبه الأشهر الحرم الثلاثة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وثانيهما كانت مدته أكثر من أربعة أشهر فقصرت على أربعة أشهر ليرتاء لنفسه ويعلم أنه على حرب إن لم يسلم. وقال بعضهم إن الآيات براءة من العهود مع المشركين عامة لأن الله تعالى علم سرائرهم وأنهم كانوا يخفون غير ما يظهرون من نية الغدر والعداء.
وهذه الأقوال تتعارض كما هو المتبادر مع استثنائين وردا في آيتين تردان بعد قليل أولهما لمن عاهدهم المسلمون ووفوا بعهودهم. وقد أمر المسلمون بإتمام عهدهم إلى مدتهم التي كانت على الأرجح أكثر من أربعة أشهر لأن حكمة الأمر إنما تكون في ذلك. وثانيهما لمن عاهدهم المسلمون عند المسجد الحرام واستقاموا على عهدهم. وقد أمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم دون تحديد وتوقيت. وهذا فضلا عن تعارضها مع تكرر إيجاب الوفاء بالعهود والعقود على المسلمين في سور عديدة مكيّة ومدنيّة.
ولقد لاحظ الطبري هذا. وعقب على الأقوال التي رواها قائلا إن أولى
342
الأقوال بالصواب أن الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله ﷺ ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته دون الذين لم ينقضوا لأن الله أمر بإتمام العهد معهم وبالاستقامة لهم ما استقاموا عليه.
وفي تفسير البغوي رواية عن ابن إسحق ومجاهد تذكر أن الآيات نزلت قبل تبوك وأنها نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله ﷺ عاهد قريشا عام الحديبية على وضع الحرب عشر سنين ودخلت خزاعة في عهد رسول الله وبنو بكر في عهد قريش ثم عدا بنو بكر على خزاعة فنالوا منها وأعانتهم قريش بالسلاح وحينئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة وناشد رسول الله النصر فقال له رسول الله لا نصرت إن لم أنصركم وتجهّز إلى مكة.
والرواية تقتضي أن تكون الآيات قد نزلت قبل فتح مكة في حين أن الآية التالية لها المنسجمة معها كلّ الانسجام تدل على أنّ الآيات نزلت بعد فتح مكة.
ولقد روى المفسر إلى روايته المذكورة رواية أخرى جاء فيها: «إنّ المفسرين- ويقصد أهل التفسير والتأويل في الصدر الأول- قالوا إنّ رسول الله لما خرج إلى تبوك أرجف المنافقون وأخذ المشركون ينقضون عهودهم فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل أو قصرها على أربعة أشهر كانت أكثر». وهذا متساوق مع ما ذهب إليه الطبري وصوّبه، وهو أن الآيات نزلت في شأن الذين بدرت منهم بوادر نقض من المشركين. والرواية تفيد أن ذلك كان بعد فتح مكة لأن سفرة تبوك كانت بعد الفتح. وهو الحق والصواب اللذان يزول بهما وهم التعارض والتناقض.
وليس في كتب التفسير الأخرى شيء مهم آخر في صور الآيتين. فاكتفينا بما أورده الطبري والبغوي لأنهما من أقدم من وصل إلينا كتبهم ومعظم من أتى بعدهم من المفسرين نقلوا عنهم.
343

[سورة التوبة (٩) : آية ٣]

وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)
. تعليق على الآية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.. إلخ وما روي في صدد إعلانها مع غيرها يوم الحج الأكبر من روايات وتمحيصها
في الآية أمر بأن يعلن للناس يوم الحج الأكبر أن الله تعالى ورسوله بريئان من المشركين وبأن ينذر المشركون بأنهم إذا تابوا فهو خير لهم. وإن أعرضوا وتصامموا فليعلموا أنهم غير معجزين لله تعالى. وأمر بتبشير الكافرين عامة بعذاب الله الأليم.
والآية معطوفة على الآيتين السابقتين بحيث يصحّ القول إن المشركين فيها هم الذين ذكروا في الآيتين السابقتين. وتكرار جملة غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ قرينة على ذلك.
وفي الآية دلالة قاطعة على أنها نزلت بعد فتح مكة. وفي هذا تأييد لما ذكره البغوي لأن النبي ﷺ قد زحف إلى تبوك بعد هذا الفتح بمدة غير طويلة.
والمستلهم من جملة فَإِنْ تُبْتُمْ أن إمهال المشركين الناقضين أربعة أشهر يسيحون في الأرض بأمان هو في الوقت نفسه مهلة لهم للتروي لعلّ ذلك يؤدي بهم إلى التوبة عن كفرهم وشركهم. وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
ولقد رويت روايات عديدة في صدد إعلان هذه الآية وما قبلها وآيات عديدة أخرى بعدها أو إعلان أحكامها يوم الحج الأكبر «١».
منها أن التبليغ والإعلان كان لعشر آيات من صدر براءة، ومنها أنه كان
(١) انظر الطبري والنسفي والنيسابوري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
344
لثلاثين، ومنها أنه كان لأربعين. ومنها أنه حينما نزلت الآيات العشر أو الثلاثون أو الأربعون الأولى من السورة أرسل النبي ﷺ من ينادي في الناس بأربع مسائل وهي أن لا يطوف بالبيت عريان. وأن لا يحجّ مشرك. وأنه لا يدخل الجنة إلّا النفس المؤمنة. وأن كل عهد مؤجل إلى مدته وفي رواية إلى أربعة أشهر.
وفي الآيات الثلاثين أو الأربعين الأولى مواضيع متنوعة أخرى غير أمر المشركين وإعلانهم. وليس في الآيات العشر الأولى أمر حظر المسجد الحرام على المشركين. وإنما جاء هذا في الآية [٢٨] من السورة وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «١» ثم إن الآيات بعد هذه الآية هي في موضوع قتال أهل الكتاب ثم في موضوع النسيء وتحريمه والاستنفار إلى غزوة تبوك. ولو كانت نزلت حين إرسال النداء لكان من المعقول أن ينادى على الأقل بتحريم النسيء. وهو ما لم يقع. وهذا كله يسوغ التوقف في كون النبي ﷺ أرسل الآيات الثلاثين أو الأربعين للتبليغ. وكل ما يمكن أن يكون أنه أرسل يبلغ بعض ما جاء في الآيات بعد نزول الشطر الذي فيه حظر المسجد الحرام على المشركين. والله أعلم.
ومن الروايات ما هو في صدد الذي قام بالتبليغ الرباني والنبوي. وهذه متعددة ومتضاربة أيضا. فمما رواه الطبري منها أن النبي ﷺ لم يحبّ أن يحج في السنة التالية لفتح مكة أي في السنة التاسعة لأنه يحضر البيت مشركون ويطوفون عراة فأرسل أبا بكر ليحجّ بالناس وأن صدر براءة نزل بعد سفره فأرسله مع علي بن أبي طالب وأمره أن ينادي بالناس بالمسائل الأربع. ومنها أن أبا بكر لما رأى عليا مقبلا ليبلغ عن رسول الله ﷺ رجع فقال للنبي هل نزل فيّ شيء قال لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. ومنها أن الآيات لما نزلت قيل للنبي لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، وروي في سياق ذلك أن أبا بكر سأل عليّا لما أقبل عليه أأميرا أم مأمورا؟ فقال له بل مأمور فأقام
(١) أي بعد السنة التاسعة الهجرية التي أعلن فيها ذلك على ما هو المتفق عليه.
345
أبو بكر للناس الحجّ وقام علي فأذّن في الناس بالمسائل الأربع. ومنها أن النبيّ أرسلها مع أبي بكر حينما أمّره على الحجّ ثم أتبعه بعليّ فأخذها منه في الطريق فرجع إلى النبيّ ﷺ وقال له بأبي أنت وأمي أأنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا يبلغ عني غيري إلا رجل منّي. وفي رواية إلّا أنا أو علي. وسأله ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض. قال بلى يا رسول الله.
ومنها أن أبا بكر لما قضى يوم عرفة وخطب في الناس قال لعلي قم فأدّ رسالة رسول الله. ومنها عن أبي هريرة أنه كان مع عليّ حين بعثه النبيّ ﷺ ينادي في الناس فكان إذا صحل صوته- أي صوت علي- نادى هو. وقد روى البخاري حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «بعثني أبو بكر في الحجة التي أمّره رسول الله عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس بمنى ألا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أردف النبيّ ﷺ بعلي يؤذّن ببراءة فأذّن معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة» «١» وروى الترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «بعث النبيّ ﷺ أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا فبينا أبو بكر في الطريق سمع رغاء ناقة رسول الله القصواء فخرج فزعا فظنّ أنه رسول الله فإذا هو علي فدفع إليه كتاب رسول الله وأمر عليا أن ينادي بهؤلاء الكلمات. فانطلقا فحجّا فقام علي أيام التشريق فنادى «ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر. ولا يحجّنّ بعد العام مشرك. ولا يطوفنّ بالبيت عريان. ولا يدخل الجنة إلّا مؤمن. وكان علي ينادي فإذا عيي قام أبو بكر فنادى بها» «٢». وروى الترمذي حديثا آخر جاء فيه: «سئل علي بأي شيء بعثت في الحجّة. قال بعثت بأربع: أن لا يطوف بالبيت عريان. ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو إلى مدته. ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر. ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا» «٣». وروى ابن سعد الحديث الذي رواه البخاري
(١) التاج ج ٤ ص ١١٤- ١١٥.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
346
بدون جملة «ثم أردف النبيّ بعليّ إلخ» «١» وروى ابن كثير حديثا عن علي أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي ﷺ دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليه فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي فقال يا رسول الله نزل في شيء. فقال لا ولكن جبريل جاءني فقال لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك» وروى حديثا آخر عن علي أيضا «أن رسول الله ﷺ حين بعثه ببراءة قال يا نبيّ الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال لا بدّ لي من أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت قال فإن كان ولا بدّ فسأذهب أنا قال انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك ثم وضع يده على فيه».
ونحن نخشى بل نرجح أن يكون الهوى الشيعي قد لعب دورا في بعض هذه الروايات وبخاصة في الروايات التي فيها «لا يبلّغ عني إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي أو إلّا أنا أو عليّ أو إلّا رجل مني» والتي فيها «جاءني جبريل... إلخ» ثم الرواية التي تذكر «أن النبي بعد أن أعطى الآيات لأبي بكر أو كلّفه بالمهمة أرسل عليّا فأخذها منه في الطريق». ولا سيما أن الشيعة يعلقون أهمية عظمى على هذه الروايات وقد استخرجوا منها اختصاص النبي ﷺ عليّا بما هو من خصائصه النبوية وعدّوها دليلا على أنه والنبي شيء واحد وأنه وريثه في هذه الخصائص «٢».
ومن المحتمل أن يكون أهل السنّة رأوا في إناطة إمارة الحج بأبي بكر دليلا على خلافته للنبي ﷺ من بعده فأراد الشيعة أن يهوّنوا من هذا الدليل أو يبطلوه.
ولعلّ بعض أهل السنّة لعبوا دورا في بعض الروايات بالمقابلة في رواية كون عليّ قال لأبي بكر إنه جاء مأمورا ولم يجىء أميرا...
(١) ابن سعد ج ٣ ص ٢٢٢.
(٢) في تفسير رشيد رضا فصل طويل في مزاعم الشيعة وما يعلقونه على هذا الأمر من أهمية.
سواء في اختصاص النبي عليا بالتبليغ عنه أم في عدم تفويض ذلك لأبي بكر يؤيد ما قلناه من أن الهوى الشيعي الحزبي لعب دورا في بعض هذه الروايات. [.....]
347
فليس يعقل قط أن النبيّ ﷺ بعد أن يرسل الآيات مع أبي بكر أو يكلفه بإعلان المسائل يبعث عليّا ليأخذها منه. وليس يعقل قط أن النبي ﷺ يقول لا يبلّغ عني إلّا رجل مني أو إلّا من أهل بيتي في أمر لا صلة له بالاعتبارات الأسروية وإنما هو متصل بمهمته العظمى التي اختصه الله تعالى بها لخصائصه الذاتية التي عبّرت عنها جملة اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] وجملة وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: ٤]. ولقد كان من المعقول أكثر لو فكّر النبيّ ﷺ بمثل هذه الاعتبارات- وحاشاه ذلك- أن يرسل عليّا أميرا على الحجّ دون أبي بكر. وحديث البخاري عن أبي بكر الذي يعتبر أصحّ الأحاديث والروايات الواردة في هذا الصدد صريحة بأن النبي ﷺ كلّف أبا بكر ببعض المسائل الواردة في الآيات ثم أرسل عليّا بمسألة أخرى رأى وجوب إعلانها أيضا. وأن الإعلان كان بإشراف أبي بكر وأمره وأن عليّا شارك أو ساعده فيه. وهذا هو الذي يعقل أن يكون وقع دون الحواشي والزوائد الواردة في الروايات الأخرى والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأحاديث والأقوال التي يرويها المفسرون عن رسول الله وبعض أصحابه وتابعيهم في المقصود ب يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وبعض الأحاديث والأقوال تروى متناقضة عن نفس الأشخاص. فقد روي عن قيس بن مخرمة أن رسول الله خطب يوم عرفة فقال: «هذا يوم الحجّ الأكبر» وروي عن ابن عمر أن رسول الله وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: «هذا يوم الحجّ الأكبر». وروى بعضهم عن علي أنه يوم عرفة. كما روى بعضهم عنه أنه يوم النحر. وروي عن عمر وابن الزبير أنه يوم عرفة. وعن عبد الله بن قيس والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة أنه يوم النحر. وإلى هذه الأقوال روي عن مجاهد أن قرن الحج مع العمرة هو الحج الأكبر تمييزا له عن الإفراد بين العمرة والحج الذي يسمى الحج الأصغر. وروي عنه في الوقت نفسه أن جميع أيام منى أو أيام الحج كلها هي يوم الحج الأكبر تمييزا لها عن العمرة لحدوثها في غير موسم الحج التي كانت تسمى الحج الأصغر. وهناك قول غريب عن الحارث بن نوفل أنه يوم حج رسول الله حجة الوداع حيث اجتمع في ذلك اليوم حجّ المسلمين وحجّ اليهود وحجّ
348
النصارى. ولم يحدث هذا قبل ذلك ولا بعده.
والنصوص السابقة لم ترد في أي من الكتب الخمسة. وقد ورد في جامع الترمذي وهو من هذه الكتب حديث روي عن عليّ قال: «سألت رسول الله ﷺ عن يوم الحجّ الأكبر فقال يوم النحر» «١». وقد صوب الطبري كون يوم الحج الأكبر هو يوم النحر. ولعلّه استند إلى هذا الحديث. ومع وجاهة ذلك فلسنا نرى فيه منعا لوجاهة أن يكون هذا اليوم هو يوم عرفة الذي ذكر في أحاديث نبوية وصحابية أخرى، فالحجّ لا يتمّ إلا بالوقوف في عرفة على ما ورد في أحاديث صحيحة أوردناها في سياق آيات الحج في سورة البقرة «٢». وعرفة والحالة هذه تكون مجمع جميع الحجاج الأكبر والله تعالى أعلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤ الى ٥]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
. (١) انسلخ: بمعنى انقضى.
تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ... والآية التالية لها. وتمحيص مدى ما ورد في شأن قتال المشركين في هذه الآية إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
عبارة الآيتين واضحة أيضا. وفي أولاهما استثناء وجّه الخطاب فيه إلى
(١) التاج ج ٤ ص ١١٤.
(٢) انظر التاج ج ٢ ص ١٢٨ وج ٤ ص ٥٣.
349
المسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم ووفوا بعهدهم فلم ينقضوا ولم ينقصوهم شيئا ولم يظاهروا ويناصروا أحدا عليهم حيث يؤمرون بإتمام عهدهم إلى نهاية المدة المتفق عليها بينهم. فهذا هو من التقوى والله يحبّ المتقين. وفي ثانيتهما وجّه الخطاب إلى المسلمين يؤمرون فيه بقتال المشركين بعد انقضاء الأشهر الحرم حيث وجدوهم ومطاردتهم والترصد لهم في كل مكان. وبالكفّ عنهم إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. فإن الله غفور رحيم لعباده التائبين.
والآيتان كما هو ظاهر استمرار في السياق السابق وجزء منه. وقد روى الطبري عن قتادة أن المقصود من الاستثناء هم مشركو قريش الذين عاهدهم النبي ﷺ في الحديبية. وهذا غريب لأن صلح الحديبية قد انتقض في السنة الثامنة وأدى ذلك إلى زحف النبي ﷺ على مكة وفتحها ودخول قريش في دين الله. في حين أن الآيات نزلت بعد فتح مكة على ما تدلّ عليه الآية [٣] بصراحة. وقد روى البغوي أنهم حيّ من كنانة يقال له بنو ضمرة لم ينقضوا العهد وكان بقي من مدتهم تسعة أشهر. وخبر موادعة النبي ﷺ لبني ضمرة من كنانة قد ذكره ابن سعد ولم يذكر أنه كان موقوتا «١». وعلى كل حال فإن فحوى الآية الأولى التي فيها الاستثناء يدل على أنها في حقّ الذين بينهم وبين المسلمين عهد موقوت ولم يبد منهم نقض له بشكل ما. وقد يكون هناك من كان كذلك فعلا. وفي الاستثناء حكم مستمر المدى كما هو المتبادر.
والآية الأولى هذه تؤيد الرواية التي أوردناها قبلا بكون النداء يوم الحج الأكبر الذي نادى به أبو بكر وعلي هو «من كان له عهد فلأجله» وكون الإذن والإمهال أربعة أشهر هما بالنسبة لمن كان أجله أقل من أربعة أشهر دون الرواية الأخرى التي تقول إن النداء كان «من كانت مدته أقل من أربعة أشهر فله مهلة أربعة أشهر ومن كانت مدته أكثر فتقصر على أربعة أشهر».
وروح هذه الآية بل فحواها يؤيد كذلك الرواية التي رواها البغوي والقول
(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٦.
350
الذي قاله الطبري بأن المشركين المعاهدين الذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى من السورة هم الناقضون لعهدهم. وهذا يستتبع القول إن الذين أمر المسلمون بقتالهم في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صدد تفسيرهما عقب انقضاء الأشهر الحرم التي في نهايتها تنتهي مدة الأشهر الأربعة- لأن الآيات نزلت في شوال كما ذكرنا- هم هؤلاء الناقضون لأنهم موضوع السياق.
وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر.
ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم.
وتوجب قتالهم إطلاقا. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلوّ ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادّين وبرّهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي ﷺ بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام وأن ينقض ما كان سمّى لهم من عهد وميثاق وأنها لم تبق لأحد من المشركين عهدا ولا ذمة. وقد روى المفسر نفسه قولا عن سفيان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآية وآيات أخرى من هذه السور وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف وقال إن النبي ﷺ بعث عليّ بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذّن في الناس يوم الحج الأكبر منها هذه الآية وسمّاها سيفا في المشركين من العرب.
ومنها آية التوبة هذه قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا
351
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ
(٢٩) وسمّاها سيفا في قتال أهل الكتاب. ومنها هذه الآية من سورة التوبة أيضا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) وسمّاها سيفا في قتال المنافقين. ومنها هذه الآية في سورة الحجرات وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [٩] وسمّاها سيفا في قتال أهل البغي. ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين حين انتهاء مدتهم أو إذا نقضوا العهد ومن لا عهد لهم إطلاقا دون تفريق مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البرّ والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملّة كانوا. وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين!.
كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب. بحيث يسوغ القول إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكلّ مشرك إطلاقا تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى.
وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات القرآنية المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحثّ على البرّ والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ومنها آية سورة النساء [٩٠] التي سنورد نصّها بعد قليل والتي تذكر أن الله لم يجعل للمسلمين سبيلا على من لا يقاتلهم ومن يعتزلهم ويلقي إليهم السلم. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم بدون تحديد وتوقيت. وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله «١».
(١) في تفسير المنار تعليق سديد على هذا الموضوع في سياق الآيتين متطابق في النتيجة مع ما قررناه.
352
ولقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وأوردناه قبل أن عليّا أمر بأن ينادي فيما أمر به «من كان بينه وبين النبيّ عهد فهو إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر» ونحن نتوقف في أن يكون مدى الحديث هو الأمر بالقتال بعد انقضاء الأربعة أشهر عام ضد من لم يكن عهد من المشركين مطلقا ولو لم يكن عدوا معتديا بناء على ما شرحناه قبل. والله أعلم.
ولقد وقف الطبري عند الرواية التي تذكر أن الإعلان يوم الحجّ الأكبر كان فيه إمهال للمشركين أربعة أشهر. ورأى فيها تعارضا مع عبارة فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا... لأنه لم يكن بين الإعلان وبين نهاية الأشهر الحرم إلا خمسون يوما وقال إن في هذه الرواية وهما. وأورد صيغة أخرى للحديث المروي عن علي رواها من طرق متعددة وهي «أمرت بأربع. أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك. ولا يطوف رجل بالبيت عريانا. ولا يدخل الجنة إلّا كل نفس مسلمة. وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده» ومما قاله أن الآيات نزلت في شوال وبانتهاء الأشهر الحرم تكون مهلة الأشهر الأربعة المذكورة في الآية الثانية قد انتهت. والمتبادر أن فيما يسوقه الطبري صوابا وسدادا. لأن به وحده يزول وهم التعارض بين نصوص القرآن وبين بعض الأحاديث والروايات. والله تعالى أعلم.
وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام. أولاهما: أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟
وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد. ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق. وأن الأمر يتحمل شيئا من التوضيح: فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمين قبل العهد وقد وقع حرب وقتال بينهم ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم مع النبي ﷺ في الحديبية. وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء
353
وقتال. وآية النساء هذه إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (٩٠). تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة حيث روى ابن سعد أن النبي ﷺ وادع بني ضمرة من كنانة أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدوا وكتب بينه وبينهم كتابا بذلك. ووادع هلال بن عويمر وسراقة المدلجي وقومه بمثل ذلك «١». وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة بالاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرينة على ما نقول إن شاء الله.
أما المسألة الثانية فهي ما تفيده الفقرة الأخيرة من الآية الثانية من كون تخلية سبيل المشركين والكفّ عن قتالهم بسبب نقضهم منوطين بتوبتهم عن الشرك وإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة. أي بدخولهم في الدين الإسلامي.
والذي يتبادر لنا في صدد هذه المسألة أن المشركين بعد أن نقضوا عهدهم وقاتلهم المسلمون فقدوا حق العهد ثانية. وصار من حق المسلمين أن يفرضوا الشرط الذي يضمن لهم الأمن والسلامة وهو توبتهم عن الشرك ودخولهم في الإسلام وقيام بواجباته التعبدية والمالية. ولا يعدّ هذا من قبيل الإكراه في الدين بقطع النظر عن أن الشرك يمثل مظاهر انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق كما يمثل نظاما جاهليا فيه التقاليد الجائرة والعادات المنكرة والعصبيات الممقوتة وأن الإسلام الذي يشترط عليهم
(١) طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٦. وانظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير لتفسير الآية [٩٠] من سورة النساء والآيات [٤ و ٧] من سورة التوبة.
354
الدخول فيه يضمن لهم الخلاص من ذلك والارتفاع بهم إلى مستوى الكمال الإنساني عقلا وخلقا وعبادة وعقيدة وعملا. على أننا لسنا نرى في الآيات مع ذلك ما يمنع المسلمين أن يجددوا العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. وقد لا يكونون قادرين على متابعة الحرب أو على إخضاعهم بالقوة. والله تعالى أعلم.
وقد يكون في آية سورة البقرة هذه أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وآية سورة الأنفال هذه الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) دليل على ذلك. فإن الآيتين تفيدان أن النبي ﷺ عاهد الفريق الذي نبذ العهد مرة بعد مرة بالرغم من أنه كان ينقض العهد مرة بعد مرة أيضا. بل وفي آيات جاءت آية الأنفال المذكورة دعما لهذا الدليل حيث جاء فيها وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢). وجملة وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ لافتة للنظر فهي لا ترى مانعا من الجنوح للسلم وتجديد العهد حتى ولو كان من المحتمل أن يكون جنوحهم إليها من قبيل الخداع. والله أعلم.
وجملة فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تنطوي على تقرير التلازم بين اعتناق الإسلام وبين القيام بأركانه وواجباته العملية التي من أهمها إقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر كما جاء في الآية [٤٥] من سورة العنكبوت وإيتاء الزكاة التي يطهر المسلم بها نفسه وماله ويساعد بها المحتاجين من إخوانه ويؤيد بها الدعوة إلى سبيل الله ونشرها ويجاهد بها الصادقين عنها والمعتدين على أهلها.
وهذا مما تكرر كثيرا جدا في السور المكيّة والمدنيّة بأساليب متنوعة تغني كثرتها عن التمثيل بحيث يصح القول إن عدم القيام بهما يجعل إسلام المسلم موضع شك. ولعل هذا هو ما جعل بعض العلماء يعتبرون تاركي الصلاة عمدا بخاصة مرتدين ويجوزون قتلهم عقوبة على ارتدادهم استنباطا من بعض الأحاديث أو
355
استنادا إليها حيث روى مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي حديثا عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: «إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» «١». وروى الترمذي حديثا عن بريدة عن النبي ﷺ أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» «٢». وقولا رواه الترمذي عن عبد الله بن شقيق جاء فيه «كان أصحاب محمد ﷺ لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة» «٣» وحديثا رواه الطبري عن أنس ورد في تفسير الآية في تفسير المنار جاء فيه «من ترك الصلاة متعمّدا فقد كفر» وحديثا رواه أصحاب مساند الحديث الصحيح الخمسة عن عبد الله قال «قال النبيّ ﷺ لا يحلّ دم امرئ يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «٤».
والتارك لدينه هو المرتد. ولقد رأى المؤولون في هذا التلازم صواب عمل أبي بكر رضي الله عنه حينما قاتل الذين كان ارتدادهم قاصرا في ظاهره على الامتناع عن أداء الزكاة لبيت المال أيضا وقد روي في هذا الصدد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقّه وحسابه على الله» «٥»
(١) التاج ج ١ ص ١٢٤.
(٢) المصدر نفسه ص ١٢٤- ١٢٥.
(٣) المصدر نفسه ص ١٢٤- ١٢٥.
(٤) التاج ج ٣ ص ١٧.
(٥) روى هذا الحديث الخمسة عن أبي هريرة انظر التاج ج ٤ ص ٣٢٥- ٣٢٦ وروى أصحاب السنن حديثا آخر عن أنس فيه زيادة مهمة وهذا نصّه «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلّوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» «التاج ج ٤ ص ٣٢٦. وروى الخمسة حديثا آخر عن ابن عمر مثل الحديث الذي رووه عن أبي هريرة مع زيادة مهمة وهذا نصّه «قال النبي ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله»
التاج ج ١ ص ٢٩.
356
فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حقّ المال.
والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها فقال عمر فو الله ما هو إلّا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق «١».
ونقول استطرادا: إن الأحاديث النبوية- وهي من الصحاح- التي أوردناها في المتن وفي الذيل قد تثير إشكالا متصلا بالآيات التي نحن في صددها حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله... إلخ».
وحيث يتعارض ذلك إذا أخذ على إطلاقه وظاهره مع ما تلهمه آيات قرآنية عديدة من أنه لا إكراه في الدين ومن أن الله لا ينهى المسلمين عن موادة الذين لا يقاتلونهم في الدين والبرّ إليهم. ومن أن الله إنما أمر المسلمين بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم على ما قررناه قبل قليل هنا وفي مناسبات سابقة عديدة. ونقول في صدد هذا الإشكال إن النبي ﷺ أجلّ من أن يناقض التقريرات القرآنية المحكمة.
وأن المأثور المتواتر من سيرته وسيرة خلفائه الذين ساروا على هداه أنهم لم يقاتلوا إلّا الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بدءا أو نكثا بعد عهد. ولهذا فإن الأولى أن يفرض أن الحديثين النبويين قد قصدا قتال المعتدي والناكث. فهذا هو المتساوق مع نصوص الآيات المحكمة التي لا يمكن أن ينقضها رسول الله. وهذا هو المؤيد بالمأثور المتواتر من السيرة النبوية. ولقد محّصنا هذا الموضوع ومدى هذه الأحاديث في سياق سورتي المزمل والكافرون بشيء من الإسهاب وانتهينا إلى أنه ليس من تعارض وتناقض. والله تعالى أعلم.
هذا، ولقد روى الطبري عن الضحاك أن هذه الآية قد نسخت بآية سورة محمد التي فيها فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها وعن قتادة أن آية سورة محمد هي المنسوخة بآية سورة التوبة التي نحن في صددها. ويلحظ أن آية التوبة نزلت بعد آية محمد فإن كان نسخ فالمعقول أن يكون المتأخر ناسخا للمتقدم.
(١) هذا الحوار منقول من البغوي. والعناق: هي الأنثى من أولاد المعز.
357
علما أن الطبري صوّب عدم النسخ وقال إنه ليس من تعارض بين الآيات. وهذا هو الأوجه. والله تعالى أعلم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
. (١) أبلغه: أوصله، أو يسّر له الوصول.
(٢) مأمنه: المكان الذي يكون فيه آمنا على حياته.
تعليق على الآية وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ إلخ وما روي في صددها ومدى ما فيها من تلقين ودلالات
عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للنبي ﷺ بأنه إذا ما أراد أحد من المشركين أن يأتي النبي وطلب منه الجوار والحماية فعليه أن يمنحهما له حتى يتسنّى له سماع كلام الله تعالى وعليه بعد ذلك أن ييسّر له البلوغ إلى المكان الذي يكون فيه آمنا على حياته. وتعليل لذلك بأن المشركين جاهلون ومن الحق على النبي ﷺ أن يتيح لهم فرصة العلم وسماع كلام الله وتدبره.
358
أو سؤال ورد، ثم وضعت في السياق للتناسب. والله أعلم.
ونرى في الآية قرينة أخرى على صحة ما ذكرناه قبل من أن الآية السابقة لها ليست في صدد قتل وقتال كل مشرك إطلاقا إلى أن يكفّ عن الشرك ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. وعلى ما قررناه في مناسبات عديدة قريبة وسابقة من عدم إكراه أي مشرك غير عدو وغير محارب على الإسلام. ونرى فيها تلقينا مستمر المدى للمسلمين وأولياء أمورهم في كلّ وقت بوجوب منح الفرص لغيرهم ولو كانوا أعداء محاربين ليسمعوا منهم كلام الله ويستوعبوا منهم مبادئ وأهداف الإسلام وبوجوب قبول التجاء غيرهم إليهم وحمايتهم إذا ما كان قصدهم التعرّف على تلك المبادئ والأهداف. وضمان عودتهم إلى بلادهم آمنين.
ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية حديثا رواه البخاري والنسائي عن النبي ﷺ قال: «من أمّن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا» وحديثا آخر رواه الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال «قال رسول الله ﷺ لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة».
وفي الحديثين تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو واضح من تشديد ضدّ من ينحرف عن هذا التلقين. ولقد روى القاسمي عن الحاكم تنبيها وجيها في هذا الصدد. وهو أن الإجارة والتأمين منوطان بالتيقن من حسن القصد. وإن جملة حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ مما يدعم ذلك. وهذا يعني عدم الإجابة لطلب الجوار إذا غلب الظن بكبر الطالب وخداعه وسوء نيته. والله أعلم.
ولقد روى الطبري وغيره عن الضحاك والسدي أن الآية منسوخة بجملة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الآية السابقة لها. وعن ابن زيد أنها محكمة غير منسوخة. وليس هناك أثر نبوي. وورود الآية بعد الآية التي تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا قد يكون قرينة قوية على وجاهة القول الثاني حيث يمكن أن تكون الآية قد جاءت للاستدراك. والإجابة على تساؤل ما من بعض الكفار.
وروحها يدعم ذلك أيضا. لأن القتال والقتل لم يكن غاية وإنما هو مقابلة للعدوان
359
وعقوبة على النكث. والدعوة إلى الإسلام تظل قائمة لكل الناس في كل وقت.
وهدف الآية إعطاء فرصة لكافر ما ولكافر عدوّ بخاصة ليسمع كلام الله لعلّه يستجيب ويؤمن. والآية السابقة للآية تأمر بالكفّ عن قتال المشركين الناكثين الأعداء إذا ما تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. والاستجابة للاستجارة وسيلة إلى ذلك. والله أعلم.
استطراد إلى مدى جملة كَلامَ اللَّهِ ومسألة أزلية القرآن وحدوثه
ونرى أن نستطرد هنا بمناسبة جملة كَلامَ اللَّهِ في الآية إلى مدى هذه الجملة وما تفرع عنها من خلاف مذهبي فنقول إن هذه الجملة وردت في آيات أخرى مثل آية البقرة [٧٥] وآية سورة الفتح [١٥] غير أنها هنا عنت القرآن أكثر من هذه الآيات على الأرجح وعلى ما عليه جمهور المفسرين. ووصف القرآن بأنه كَلامَ اللَّهِ أدى إلى ذلك الخلاف حيث ذهب بعض علماء الكلام إلى أن الكلام الله متصل بذات الله وذات الله أزلية فيكون كلام الله أزليّا، وما دام القرآن هو كلام الله فيكون بدوره أزليا. وحيث ذهب فريق آخر إلى كون القرآن ليس أزليا وإنما هو حادث. ولقد كان من جراء هذا الخلاف فتنة شديدة في زمن المأمون ثامن الخلفاء العباسيين وامتدت نحو عشرين عاما. واضطهد وعذّب فيها علماء كثيرون على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل وكان أحيانا يشتبك أنصار هؤلاء وهؤلاء في نزاع دام تزهق فيه مئات الأرواح. ولقد كان المعتزلة الذين يسمون أهل العدل والتوحيد من القائلين بالقول الثاني. وكان لهم مركز الوجاهة والنفوذ عند المأمون وجعلوه يقنع بقولهم وأرادوه على حمل الإمام أحمد بن حنبل ومن يقول بقوله أي القول الأول أن يرجعوا عن قولهم ويقولوا بالقول الثاني فأبوا.
وهذه المسألة متفرعة عبر مسألة أعمّ. وهي الخلاف على صفات الله تعالى بين أهل السنة والجماعة الذين كان الإمام أحمد من رؤوسهم وبين المعتزلة.
360
فهؤلاء قالوا إن صفات الله هي ذات الله فهو عالم بذاته قادر بذاته متكلم بذاته إلخ أي بدون علم وقدرة وكلام زائد عن ذاته أو غير ذاته على اعتبار أن الذهاب إلى كون صفات الله القديمة بقدمه هي غير ذاته يعني تعددا لله القديم الذي يستحيل عليه التعدد. في حين قال أهل السنة والجماعة إن لصفات الله تعالى معنى زائدا عن ذاته فهو عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلّم بكلام وحي بحياة إلخ. واحترزوا من أن يكون هذا الكلام مؤديا إلى التعدد لأنهم مثل المعتزلة يعتقدون باستحالة التعدد بحق الله تعالى فقالوا إن الله عالم بعلم غير منفك عن ذاته وقادر بقدرة غير منفكة عن ذاته ومتكلم بكلام غير منفك عن ذاته.. ثم انجرّ الخلاف إلى صفة كلام الله وماهية القرآن باعتباره كلام الله فقال فريق من أهل السنة والجماعة إن الله تكلّم بكلام أزلي قديم زائد عن ذاته وغير منفك عنها وإن القرآن معنى قائم بذات الله مع تقييدهم أنهم لا يعنون بذلك الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة ومثلوا على ذلك بالفرق بين ما يدور في خلد الإنسان من كلام دون أن ينطق به فهو شامل في أي وقت لجميع الكلام الذي يدور في الخلد. أما الحروف والأصوات المقروءة المسموعة المكتوبة من القرآن فإنها ليست من تلك الصفة القديمة وإنما هي من الحوادث لأنها تابعة لترتيب يتقدم فيه حرف على حرف نطقا وكتابة وسمعا وهذا من سمات الأمور الحادثة. وهناك من هذا الفريق من قال إن حروف القرآن المكتوبة المقروءة وأصواتها المسموعة غير منفكة عن كلام الله الأزلي القديم وإنها مثله قديمة أزلية أيضا ليست حادثة ولا مخلوقة. وهناك من هذا الفريق من قال إن جميع ما في المصحف هو من صفة الله القديمة حتى الورق والمداد وجلدة الغلاف... أما المعتزلة والشيعة الإمامية الذين يذهبون إلى أكثر المذاهب الكلامية التي يذهب إليها المعتزلة فقالوا إن الله تكلم بذاته بدون كلام زائد عن هذه الذات وأنه يخلق الحروف والأصوات في الأعراض فتقرأ وتسمع وأن القرآن باعتبار أنه متصف بما هو صفة المخلوق وسمات الحدوث من تأليف وتنظيم وإنزال وتنزيل وكتابة وسماع وعروبة لسان وحفظ وناسخ ومنسوخ إلخ هو مخلوق لا يصح أن يكون قديما أزليا. ومما قالوه أن القرآن اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصحف
361
تواترا. وهذا يستلزم كونه مكتوبا في المصاحف مقروءا بالألسن مسموعا بالآذان.
وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة. ويردّ عليهم جمهور أهل السنة بأنه كلام الله مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حالّ فيها بل هو معنى قديم قائم بذات الله يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف ويكتب بالقلم. وأن المراد بأن القرآن غير مخلوق هو حقيقته الموجودة في الخارج.
هذه خلاصة وجيزة جدا لرأي علماء المذاهب الكلامية. وواضح أن الجماعات المختلفة يعترفون بكمال صفات الله وأن اختلافهم هو حول آثار هذه الصفات وتخيلها وتفهمها. وأن شأنهم في هذا شأنهم في الخلافات الكلامية الأخرى المتصلة بالله تعالى وقدرته وكنهه وما ينسبه القرآن إليه من أعضاء وأفعال.
منهم المعظم لله ومنهم المنزّه له. وأنهم متفقون على أن القرآن منزّل من الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم.
ونعتقد أن ثوران هذه المسألة الخلافية وما يترتب عليها من فتنة ومحنة في أوائل القرن الثالث الهجري ذو صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرن الإسلامي الأول. ومن مظاهرها مسألة القدر وفرق المسلمين فيه على ما شرحناه في سياق سورة القمر مع احتمال أن يكون لتسرب الأفكار والكتب اليونانية وغير اليونانية أثر فيها. وأنها ضخّمت أكثر مما تتحمله طبيعتها. وقد يصح أن يقال مع ذلك أن للقرآن صلة وثقى بأحداث السيرة النبوية وظروف البيئة النبوية وشؤون البشر والحياة على إطلاقها وأن جلّ سوره وفصوله وآياته أو كلّها قد نزلت حسب المناسبات والأحداث والمقتضيات من هذه السيرة والظروف والشؤون. وأنه استهدف صلاح البشر وتوجيههم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وكل هذا من الأمور الحادثة المتجددة المتبدلة المتطورة، ويجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة. ولا سيما إن القول الأول يؤدي إلى حرج القول أنه ما دام كلام الله صفة غير منفكة عن ذات الله وما دام القرآن هو كلام الله فيكون القرآن هو ذات الله سبحانه وتعالى...
362
ومما يجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة أن ألفاظ القرآن (مفرداتها وتركيباتها) ليست أمرا قاصرا على القرآن. وإنما هي مما يستعمله الناطقون باللغة العربية للتعبير عن أفكارهم نطقا وكتابة. وكان ذلك قبل نزول القرآن واستمرّ بعده وإلى ما شاء الله. وهي ألفاظ بشرية للتعبير عن أمور وأفكار بشرية حادثة. والله ليس كمثله شيء. فله سمع وبصر ولكن ذلك غير مماثل لأي شيء كما جاء في آية سورة الشورى التي أوردناها والتي هي ضابط قرآني هام في مثل هذه المسائل.
ومن ذلك فهو متكلم ولكن كلامه غير مماثل لأي شيء.
وهناك أمر آخر مهم يقوي ذلك أيضا وهو أن الله عزّ وجلّ لم يكلم النبي ﷺ بالقرآن مباشرة. ففي سورة الشعراء هذه الآيات نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥). وفي سورة النحل هذه الآيات وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢). وفي سورة البقرة هذه الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧). أي إن الذي كلم النبي مباشرة وقرأ عليه القرآن ونزّله على قلبه هو جبريل الذي وصف في آيتي النحل والشعراء بالروح الأمين والروح القدس.
وجبريل مخلوق مثل سائر خلق الله، ينقل إلى النبي ﷺ ما يتلقاه من الله. أما كيف كان جبريل يتلقى القرآن من الله تعالى فقد يصحّ أن يترك تأويله لله عزّ وجلّ تبعا لمسألة الملائكة على ما شرحناه في سياق سورة المدثر. ويصح أن يقال أيضا والله أعلم أن الله يخلق معنى ما يريد وحيه قرآنا إلى نبيّه في جبريل فينزل به على قلب النبي بألفاظه العربية.
ويظهر أن المفسرين الذين لم يفتهم هذا المعنى فطنوا إلى ما يمكن أن يورد عليه بما جاء في سورة القيامة فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨)
فقال ابن عباس في تأويل
363
ذلك على ما رواه الطبري وابن كثير والبغوي في تفسير هذه الآية «إذا قرأه عليك جبريل فاتبع قرآنه» فصار في هذا توفيق بين هذه الآية وآيات النحل والشعراء والبقرة. وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس في ذلك أيضا قال:
«كان رسول الله ﷺ إذا نزل جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرف منه، فأنزل الله الآيات، فكان إذا آتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعد الله».
هذا ومع تناولنا المسألة الخلافية وشرحنا لها موضوعيا في مناسبة جملة كَلامَ اللَّهِ مجاراة للمفسرين واجتهادا لوضع الأمر في نصابه فإننا نقول:
أولا: إننا لا نرى جملة حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ مناسبة سائغة لذلك. فهي تعني حتى يسمع ما أوحى الله لرسوله من مبادئ وأهداف الرسالة وأن في إثارة الجدل الكلامي في مناسبتها تحميلا لها غير ما تتحمل.
وثانيا: إن هذه الخلافيات والجدليات لا تتصل بآثار نبوية ولا راشدية موثقة ثابتة في ذاتها. فضلا عما كان من آثار نبوية وراشدية تنهى عن الخوض في ماهية الله والقرآن. ومن ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا حتى يقول من خلق ربّك. فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتبه» وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ قال: «المراء في القرآن كفر. ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه جلّ جلاله». وأن من الأولى أن يظل المسلم في حدود التقريرات القرآنية بأن القرآن كلام الله ومن عند الله ووحي من الله وأنزله الله ليتدبر الناس آياته وجعله عربيا ليعقله السامعون وليخرج الناس به من الظلمات إلى النور. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأن لله أحسن الأسماء وأكمل الصفات وأنه ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار. وأن لا يتورط ويخوض في ماهيات وكيفيات متصلة بسرّ واجب الوجود وسرّ الوحي والنبوّة مما لا يستطاع إدراكه بالعقل الإنساني مع قيام البراهين عليه ومما لا طائل من ورائه. والله تعالى أعلم.
364
هذا، مع التقرير اللازم الذي يجب على المؤمن أن يؤمن به أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام الأزلية الأبدية القديمة مثل صفات السمع والبصر وغيرها. وأنه يراعي الضابط القرآني الوارد في آية سورة الشورى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
والكلام الذي يمكن أن يسمعه بشر لا يمكن أن يكون إلا بطريقة كلام وسمع البشر أي أصوات تخرج من شفتين وتتموج في الهواء حتى تصل إلى أداة سمع في إنسان آخر فيفهمها. وكل هذا متسم بصفة الحدوث التي تتنزه صفة كلام الله القديمة عنها. واستلهاما من ذلك كلّه يمكن أن يقال والله أعلم إن جملة كَلامَ اللَّهِ في الآية التي نحن في صددها وتأتي مكانها في القرآن تعني أحكامه وتبليغاته وتنزيلاته.
وقد يرد في القرآن جمل تفيد أن الله كلّم موسى كما جاء في آية سورة الأعراف وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي [١٤٣].
وكما جاء في آية سورة النساء: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤). فيمكن أن يقال والله أعلم إن موسى مخلوق بشر ولا يسمع إلا أصواتا تأتي إلى أذنه بطريقة التصويت البشري وهذا متسم بالحدوث الذي تتنزه صفة كلام الله عنها ويمكن أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قذف في قلبه ما أراد تبليغه له وعبّر عن ذلك في القرآن بالجمل المذكورة والله أعلم. ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧ الى ١٢]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
365
(١) إن يظهروا عليكم: إن يتفوقوا عليكم ويغلبوكم.
(٢) لا يرقبوا: لا يراعوا.
(٣) إلّا: عهدا.
(٤) اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا: بمعنى فضّلوا الثمن القليل أي متاع الدنيا وزينتها على آيات الله ودينه.
في الآيات:
(١) تساؤل يتضمن معنى النفي عما إذا كان يصحّ أن يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله.
(٢) واستثناء وجه الخطاب فيه للمسلمين بالنسبة للذين عاهدوهم عند المسجد الحرام. وأمر بأن يستقيموا على عهدهم معهم ما استقاموا هم عليه. فإن في هذا تقوى الله والله يحبّ المتقين.
(٣) وتساؤل آخر وجّه الخطاب فيه كذلك للمسلمين يتضمن أيضا معنى النفي ثم تقريرا لواقع المشركين وتعليلا لعدم استحقاق عهودهم للاحترام، فإنهم إذا ظهروا عليهم وانتصروا لا يرعون فيهم عهدا ولا ذمة ويعاملونهم معاملة العدوّ اللدود. وإنهم إنما يحاولون إرضاءهم بالكلام وقلوبهم غير صادقة ولا مخلصة.
وإن أكثرهم فاسقون متمردون على الله تعالى خبثاء الطوية. وإنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا ولا ذمة. وإنهم معتدون متجاوزون على كل حق في جميع مواقفهم.
(٤) وخطاب موجّه إلى المسلمين كذلك بشأنهم: فإذا تابوا عن شركهم وأسلموا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإنهم يصبحون إخوانا لهم في الدين. وفي
366
هذا بيان يفهمه ويدرك قيمته الذين يعلمون ويدركون الأمور. أما إذا نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم الذي قطعوه على أنفسهم للمسلمين وطعنوا في دينهم فعليهم أن يقاتلوا أئمة الكفر الذين لا يقيمون وزنا لأيمانهم، لعلّ هذا القتال يضطرهم إلى الانتهاء عن موقفهم الباغي.
تعليق على الآية كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ... والآيات الخمس التالية لها وما روي في صددها من روايات وما انطوى فيها من أحكام وتلقين ودلالات.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات أو بعضها. وإنما رووا روايات عن المقصود منها «١». فمن ذلك أن المقصود من الاستثناء الوارد في الآية الأولى منها أي الآية [٧] هم بنو خزيمة أو بنو مدلج أو بنو الديل من بني بكر بن كنانة الذين دخلوا في صلح الحديبية مع قريش ولكنهم لم ينقضوا حينما نقض بطون أخرى من بني بكر وظاهرتهم قريش فكان ذلك سببا لحملة الفتح المكي. ومنها أن المقصود منه هم قريش الذين عاهدوا النبي ﷺ في الحديبية. وبخاصة زعماءهم الذين يصحّ عليهم وصف أئمة الكفر مثل أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن شيبة وسهيل بن عمرو. وذكر هذه الأسماء عجيب. لأن منهم من كان قتل يوم بدر مثل أبي جهل وأمية وعتبة. ومنها أن المقصود منه قوم في جوار منطقة المسجد الحرام كان بينهم وبين النبي ﷺ عهد على أن لا يدخلوا هذه المنطقة ولا يعطوا للمسلمين جزية. ومن ذلك أن المقصود في الفقرة الأولى من الآية الأولى ثم في الآيات الأخرى هم المقصودون في آيات السورة الأولى أي المعاهدون الناقضون لعهدهم.
(١) أكثر المفسرين استيعابا لهذه الروايات هو الطبري.
367
وقد علّق الطبري على الروايات التي تقول إن المقصود في الآيات قريش فقال إن الآيات نزلت بعد فتح مكة وبعد دخول قريش في الإسلام. وهذا سديد صحيح. وقد رجح الرواية التي تقول إنهم البطن الذي لم ينقض من بني بكر حين نقض العهد البطون الأخرى مع قريش فأمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا عليه. وهذا أيضا وجيه. ولكنه لا يمنع أن يكون أناس آخرون في جوار منطقة المسجد الحرام عاهدهم النبي ﷺ بعد فتح مكة فاستقاموا على عهدهم فعنتهم الآية والله أعلم. والرواية التي تقول إن المقصود من الفقرة الأولى من الآية الأولى أي الآية [٧] ثم الآيات الأخرى أي [٨- ١٢] هم المشركون المعاهدون الناقضون لعهدهم محتملة ومتسقة مع فحوى الآيات وروحها. وقد انطوى فيها تبرير لإعلان براءة الله ورسوله منهم في الآية الأولى ثم في الآية الثالثة من السورة وتبرير للأمر الوارد في الآية الخامسة بقتلهم أينما وجدوا بدون هوادة إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وفي الآية [١١] قرينة على ذلك حيث جاءت بصيغة مماثلة للفقرة الأخيرة من الآية الخامسة.
وعبارات التبرير الواردة في الآيات قوية شديدة تدلّ على أن المشركين المعاهدين الذين بدا منهم النقض والغدر والذين أعلنت براءة الله ورسوله منهم كانوا على درجة شديدة من الحقد على المسلمين وتبييت المكر والشرّ والكيد لهم بحيث كان من المستبعد أن يحترموا العهد احتراما صحيحا. وبحيث انطوى فيها حكمة التنزيل في عدم الكفّ عن مطاردتهم وقتالهم وقتلهم إلّا إذا تابوا نهائيّا عن الشرك وأسلموا.
والأمر بالاستقامة في العهد لمن يستقيم عليه من المشركين دليل كما نبهنا من قبل على أن المقصود من المشركين المعلن براءة الله ورسوله منهم والمأمور بقتالهم هم الناقضون البادي غدرهم. ويلحظ أن العبارة مطلقة بدون توقيت. وهذا مهمّ في بابه كما هو المتبادر.
وجملة فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ بالنسبة لمن يتوبون من المشركين ويقيمون
368
الصلاة ويؤتون الزكاة جديرة بالتنويه حيث تلهم روحها معنى خلاص المشركين من تبعة أعمالهم ومواقفهم السابقة. وفي ذلك من التلقين والتشجيع والتسامح وفتح الباب للاندماج في الكيان الإسلامي بيسر. والعفو عما سلف ما هو جدير بالإجلال. وما فيه الدلالة على أن غاية الدعوة الإسلامية هي إنشاء كيان إسلامي قوي قائم على المبادئ القويمة السامية التي قامت عليها الدعوة الإسلامية وتيسير الاندماج فيه لكل امرئ مهما كانت حالته ومواقفه السابقة. وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة. وبخاصة مع الهدف والتلقين المنطويين في آيات التوبة الكثيرة على ما نبهنا عليه في مناسباته. وكلمة فَإِخْوانُكُمْ بخاصة تنطوي في مقامها على هدف التحبب والتأنيس لمن ينضوي إلى لواء الإسلام وتؤكد أخوة المنضوين الدينية التي قررتها جملة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: ١٠] والتي تمثل أقوى الروابط الروحية الإنسانية وأعمقها لأنها رابطة العقيدة والمبدأ التي تسمو على سائر الروابط. ولقد جاء في آية سورة الأنفال قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [٣٨]. ويبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن يكون المعنى هنا أقوى وأروع وأبعد مدى.
وجملة وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ في [الآية: ١٢] قد توهم أنها في صدد معاهدين لم يكونوا نكثوا حينما نزلت الآيات. غير أن فحوى آيات السياق وروحها يلهمان بقوة أنها في صدد موضوع الكلام السابق من المعاهدين.
بل إن نظم الآية قد يفيد ذلك حيث عطفت على ما قبلها والضمير فيها راجع إلى الذين هم موضوع الكلام السابق.
وجملة وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ في الآية تجعل الطعن في الدين الإسلامي من أسباب قتال المسلمين للمشركين والكفار ومبرراته. وهذا حقّ لا ريب فيه.
لأن الطعن يؤدي إلى الصدّ عنه. وبالتالي إنه عدوان على الدين وأهله وحرية الدعوة إليه.
وجملة فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قد تكون في صدد جميع المشركين
369
بوصفهم أئمة كفر. وقد تكون في معنى التشديد في التحريض على قتال الأشد نكاية منهم في العداء والأذى. وقد يكون سياق الآيات وروحها مما يجعل الرجحان للمعنى الأول. غير أن المعنى الثاني لا يخلو من وجاهة. لأن التنكيل بالكبار والأشد نكاية يحلّ عقدة الباقين الذين هم تبع لهم. ومتأثرون بهم.
والحملة على زعماء الكفار قد تكررت في القرآن من أجل ذلك وبسببه. غير أنها لم تقتصر عليهم وإنما شملت الكفار عامة مع التشديد على الزعماء. ويصحّ أن يقال إن مدى الجملة هنا هو من هذا القبيل. والله أعلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٣ الى ١٦]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
. (١) وليجة: مرادفة في معناها للدخيلة بمعنى الولي أو البطانة الذي يدخل في خصيصة شأن المرء.
عبارة الآيات واضحة. وفيها:
(١) تحريض وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بصيغة السؤال عما إذا كان يصحّ لهم أن يترددوا ويحجموا عن قتال قوم نكثوا أيمانهم بعد العهد وكانوا من قبل يكيدون للنبي. وتآمروا على إخراجه. كما كانوا هم الذين بدأوهم بالبغي والعدوان. وعما إذا كان يصحّ أن يخشوهم في حين أن الله تعالى وحده هو الأحق بالخشية إن كانوا مؤمنين حقا.
(٢) وتوكيد للتحريض ينطوي على التطمين. فعليهم أن يقاتلوهم. فإنّ الله
370
معذبهم بأيديهم ومخزيهم وناصر المسلمين عليهم. وشاف بذلك صدور قوم منهم مغيظة محنقة مما بدا منهم نحوهم. وقد يكون هذا القتال وسيلة لهداية الله من شاء هدايته منهم وتوبته عليهم. وهو العليم بما في صدور الناس وطواياهم. الحكم الذي لا يكون في أوامره وتوجيهاته إلّا الحكمة والصواب.
(٣) وتنبيه بصيغة السؤال موجّه إلى المسلمين أيضا عمّا إذا كانوا يحسبون أنهم قد نالوا رضاء الله واستحقوا وعده لهم وانتهت متاعبهم بما جرى وما تمّ إلى الآن من أحداث في حين أن الله تعالى ما يزال يرى ضرورة لاختبارهم لتمييز المجاهدين المخلصين منهم الذين لم يتخذوا لهم وليا ولا معتمدا ولا بطانة غير الله ورسوله والمؤمنين ولم يجعلوا لغير هؤلاء شركة ودخلا في أنفسهم وقلوبهم.
وقد روى الزمخشري عن سعيد بن جبير أن رجلا جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نادى يوم الحجّ الأكبر فقال إن أراد الرجل منّا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال لا لأن الله تعالى يقول وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إلخ وهذه الرواية بهذه الصيغة لا تكون سبب نزول الآية. والآية بعد معطوفة على ما قبلها وجزء من السياق كما هو ظاهر حيث يتبادر لنا أن حكمة التنزيل أوحت بها في جملة السياق على سبيل الاستدراك والاستثناء في صدد حالة محتملة. وهذا لا يمنع احتمال نزولها بسبب حالة وقعت
تعليق على الآية أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات. غير أن الأقوال التي رواها الطبري عن أهل التأويل من التابعين ومنهم السدي ومجاهد في المقصود فيها متعددة. حيث روي عن بعضهم أنها في صدد قريش والحثّ على قتالهم بعد أن نكثوا عهدهم في صلح الحديبية. كما روي عن بعض آخر أنها في صدد قتال الذين أعلنت البراءة منهم بسبب نقضهم وغدرهم وأمهلوا أربعة أشهر.
وصلة الآيات بما قبلها وثيقة حتى كأنها جزء منها واستمرار لها. وهذا يجعل القول إنها في صدد مشركي قريش محلّ تساؤل وتوقف. لأن الآيات نزلت بعد فتح مكة. وقد دخلت قريش في الإسلام وانتهوا من موقف الشرك والعداء. وقد يجعل القول الثاني هو الأوجه غير أن الوصف الذي انطوى في الآية الأولى يثير الحيرة.
لأن وصف وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ينطبق لأول وهلة على قريش. ولقد كان من الذين دخلوا في صلح الحديبية إلى جانب
371
قريش بطون بني بكر لأنهم حلفاء لهم في حين أنه دخل في هذا الصلح إلى جانب النبي ﷺ والمسلمين بنو خزاعة لما كان بينهم وبين بني بكر من عداء. ولقد بقي بعض بطون بني بكر أوفياء لعهدهم حينما نقضه فريق منهم بتشجيع بعض جماعة من قريش على ما ذكرناه آنفا. وكان نقض هذا الفريق سبب زحف النبي ﷺ على مكة. فلعلّ من هذا البعض من بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي. وكانوا من جملة من كان موضوع البراءة. ولقد كانوا في الأصل حلفاء قريش فيمكن أن يكونوا وصفوا بما جاء في الآية على هذا الاعتبار. ولقد روى البغوي عن مجاهد أن جملة وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قد قصد بها خزاعة حلفاء رسول الله الذين أعانت قريش أعداءهم بني بكر عليهم. وهذه الرواية قد تؤيد ما خمّنّاه من أن يكون الذين بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي هم بعض بني بكر، في حين ظل بعض آخر أوفياء لعهدهم. وتفيد الرواية كذلك أن بني خزاعة قد اعتنقوا الإسلام فصار يصح عليهم جملة وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ويمكن أن يكون هذا نتيجة لما كان من تحالف النبي معهم ثم انتصاره لهم وزحفه على مكة. والله أعلم.
وفي الآية الأولى بخاصة توكيد لصواب التوجيهات التي وجهناها في سياق الآيات السابقة إن شاء الله. وهي كون الأمر بالقتال والتحريض عليه إنما كان ضد الناكثين والذين بدأوا المسلمين بالعدوان والأذى والطاعنين في دينهم.
ولقد قال المفسرون إن الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة احتوت إشارة إلى ما علم الله تعالى من دخول أهل مكة في الإسلام. والقول يكون وجيها لو كان نزول الآيات قبل الفتح المكي. وعلى كل حال فإن في الفقرة بشرى للمسلمين وتشجيعا لهم على قتال الناكثين من جهة. وإبقاء لباب التوبة والإسلام مفتوحا أمام المشركين والناكثين من جهة أخرى. وهو ما جرى عليه القرآن في مواضع ومناسبات عديدة سابقة. وفيه ما فيه من روعة وجلال من حيث تركيز كون هداية الناس بهدى الإسلام والرسالة المحمدية هي الهدف الجوهري في كلّ المواقف والمناسبات.
372
ولقد روى الطبري عن حذيفة وزيد بن وهب في صدد وصف أئمة الكفر أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد. بحيث تفيد الرواية أنهم غير أئمة الكفر في زمن النبي ﷺ وأنهم جماعة آخرون يظهرون بعد. وروى الطبرسي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآيات يوم البصرة الذي كانت المعركة فيه بينه مع أنصاره من جهة وبين عائشة وطلحة والزبير وأنصارهم من جهة ثم قال أما والله لقد عهد رسول الله ﷺ إليّ قال يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة.
والرواية الأولى غريبة. وغير متسقة مع فحوى الآيات وسياقها حيث إنها تتحدث عن أمور واقعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. أما الرواية الثانية فالهوى الشيعي بارز عليها. وهي من نوع ما يرويه رواة الشيعة ومفسروهم على هامش الآيات القرآنية من روايات كثيرة بسبيل تأييد أهوائهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ الى ٢٢]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
. (١) يعمروا، وعمارة: هنا بمعنى الخدمة والصيانة وقيل إنها تعني كذلك كثرة الغشيان للمساجد.
(٢) شاهدين على أنفسهم بالكفر: بعضهم أوّل الجملة بأنهم الذين كانوا يعترفون بشركهم وكفرهم. وبعضهم أولها بأن كفرهم وشركهم بمثابة شهادة
373
منهم على أنفسهم. وهذا أوجه فيما هو المتبادر.
(٣) سقاية الحاج: مهمة تدبير الماء للحجاج.
في الآيات:
(١) تقرير بأنه لا يصحّ أن يكون المشركون عمّارا لمساجد الله ومتولين لأمورها في حين أن شركهم شاهد منهم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بالله وحده والمساجد مساجد الله وحده. وبأنهم مهما عملوا من أعمال يظنون أنها خدمة لله فهي حابطة ومصيرهم الخلود في النار.
(٢) وتعقيب تقريري بأن الذين يصحّ أن يكونوا عمّارا لمساجد الله هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة وو يؤتون الزكاة ولا يخافون أحدا غير الله.
فهؤلاء هم الذين يمكن أن يكونوا على هدى من الله وأن يستحقوا رضاءه.
(٣) وسؤال استنكاري موجّه للسامعين والراجح للمسلمين على ما يستلهم من روح الآيات عما إذا كان- والحالة هذه- يصحّ أن يجعلوا الذين يقومون بمهمة سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من المشركين مثل الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله وفي درجتهم ومنزلتهم وتقرير بمثابة الإجابة بأن الفريقين لا يمكن أن يكونوا سواء عند الله. وإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم الأعظم درجة عنده. وإنهم هم الفائزون المبشرون برضوانه ورحمته. والخالدون في جناته.
تعليق على الآية ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ... إلخ والآيات الخمس التالية لها
وما ورد في صددها من روايات وما انطوى فيها من تلقين وصور موضوع الآيات فصل جديد، ولقد روي في مناسبة نزولها روايات عديدة ومختلفة. فقد روى الطبري أن قريشا افتخرت بما تفعله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وقالت لا أحد أفضل منا، فأنزل الله الآيات ردا عليهم. وروي عن
374
النعمان بن بشير أنه كان في نفر من أصحاب رسول الله ﷺ عند منبر رسول الله في يوم جمعة فقال رجل منهم ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أسقي الحاج، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية. وروي أن المسلمين أقبلوا يوم بدر يعيرون الأسرى من المشركين وفيهم العباس عمّ النبيّ ﷺ فقال: لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني (الأسير) فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية. وروي أنها نزلت في العباس وعليّ وطلحة بن شيبة حيث اجتمع ثلاثتهم فقال الأول: أنا أفضلكم أنا أسقي حجاج بيت الله، وقال طلحة: أنا أعمر مسجد الله، وقال عليّ: أنا هاجرت مع رسول الله وأجاهد معه في سبيل الله، فأنزل الله الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً. وروى الطبرسي أن عليّا قال لعمّه العباس: ألا تهاجر وتلحق برسول الله، فقال: ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ....
والآيتان الأولى والثانية تنفيان حقّ المشركين وأهليتهم لعمارة مساجد الله وتقرران كون هذا الحقّ والأهلية هما للذين آمنوا بالله واليوم الآخر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ولم يخشوا إلّا الله، حيث يلهم هذا أن أصل المفاضلة لم يكن بين مؤمنين فيما بينهم وإنما كان في صدد نفي صلاحية المشركين وحقهم في عمارة مساجد الله التي منها المسجد الحرام. فاحتوت الآية الأولى ردّا على ذلك وقررت الثانية أن المؤمنين هم الأولى به. وهذا يلحظ أيضا في الآيات الأربع التالية للآيتين لأنها تندد بجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في درجة الإيمان بالله والجهاد في سبيله حيث يفيد هذا أن مؤمنين قالوا ذلك وأن المفاضلة ليست بالنسبة لمؤمنين يقومون بالمهمتين ولكنها بالنسبة لمشركين يقومون بهما لأنه ليس من
375
محلّ للمفاضلة لو كان هؤلاء من المؤمنين. وهذا يسوغ القول إن الروايات التي تذكر المفاضلة أو المفاخرة بين مؤمنين فيما هو الأفضل لا تنطبق تماما على مدى الآيات. وكذلك الروايات التي تذكر أقوال العباس في بدر أو لعليّ بن أبي طالب لا تنطبق. لأنه ليس فيها نسبة ذلك القول إلى مؤمنين. وهذا فضلا عن أن بعض الروايات يفيد أن الآيات نزلت قبل فتح مكة مع أن السياق جميعه هو بعد هذا الفتح.
ولقد تبادر لنا احتمالات أخرى يمكن أن تنطبق على هذه الآيات أكثر. منها أن يكون وقع جدل بين مؤمنين حول ما إذا كان للذين كانوا يقومون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وهم على شركهم ثواب ومنزلة عند الله على اعتبار أنهم كانوا يخدمون بيته وحجاجه. فسئل رسول الله عن ذلك فنزلت الآيات للردّ والبيان وجاءت الآيتان الأوليان منها كمقدمة عامة الشمول. ومنها أن تكون حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بها لتبرير منع المشركين من دخول المسجد الحرام الذي كان روي أنه كان مما أمر النبي ﷺ بإعلان يوم الحج الأكبر ونودي به على ما ذكرناه في سياق شرح الآية الثالثة من السورة. ولعل بعض المؤمنين القرشيين أو غيرهم جادلوا في أمر منع المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام ونوهوا بما كان يقوم به بعضهم من خدمات للمسجد الحرام وللحجاج. أو بما كان يعود على أهل هذا المسجد من الزوار المشركين من فوائد. ولقد أمرت الآية [٢٨] من هذه السورة التي تأتي بعد قليل منع المشركين من دخول المسجد الحرام بأسلوب تشريعي حاسم. وعلّلت ذلك بأنهم رجس. وطمأنت المسلمين بأنهم إذا كانوا يخشون سوء الحالة الاقتصادية والمعاشية بسبب ذلك فإن الله كفيل بإغنائهم عنهم إن شاء حيث تبدو صلة ما بين هذه الآية والآيات التي نحن في صددها وحيث قضت الحكمة الإيحاء بها بسبيل ذلك ولتدعيم ذلك الإعلان الذي أمر به النبي ﷺ يوم الحج الأكبر. والله أعلم.
وبهذا البيان تبدو الصلة الموضوعية والظرفية واضحة بين هذه الآيات والسياق السابق مهما بدا عليها أنها فصل جديد.
376
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [١٨] حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان». وحديثا آخر عن أنس عن النبي ﷺ قال: «إنما عمّار المساجد هم أهل الله». والحديث الأول رواه الترمذي أيضا بزيادة في آخره وهي «قال الله تعالى إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» «١» والحديثان متساوقان في التنويه والتلقين مع الآية الكريمة كما هو واضح.
والآيات في حدّ ذاتها مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير. وما احتوته متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن كثيرا من أن الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله كالهجرة والجهاد بالمال والنفس في سبيله هي التي تستحق رضاء الله وتدل على الإخلاص له. وإن كل خدمة أو عمل مع الشرك بالله حابط عند الله وإنه لا يصحّ مهما عظم في الأذهان والعرف أن يقاس مع الإيمان بالله والإخلاص له والجهاد في سبيله أو يكون في منزلته. وواضح أن هذه التقريرات المتكررة بالأساليب المتنوعة تستهدف فيما تستهدفه تدعيم الدعوة إلى سبيل الله والإخلاص له وحده في كل عمل وقول. والتنويه بمن ينضوي إليها ويخلص فيها ويجاهد في سبيلها وما له عند الله من عظيم المنزلة والأجر.
هذا، ومع أن ذكر السقاية والعمارة لم يقصد به مدلولهما الخاص فقط وإنما قصد به الجنس وهو خدمة المسجد الحرام وحجاجه كما تلهم روح الآيات فإن في ورود الكلمتين توكيدا وتأييدا لما روته الروايات العربية «٢» من وجود مناصب ومهمات عامة في مكة قبل الإسلام ظلت إلى الفتح الإسلامي. وكان يقوم عليها زعماء البيوتات القرشية الرفيعة. وقد كانت السقاية في زمن النبي ﷺ في عهدة عمّه العباس بن عبد المطلب والحجابة أو مفتاح البيت في عهدة طلحة بن
(١) التاج ج ٤ ص ١١٥.
(٢) انظر مروج الذهب للمسعودي ج ١ ص ٣٥٨ وما بعدها وج ٢ ص ١٦٤ وما بعدها وج ٣ ص ٣٦٦ وما بعدها وطبقات ابن سعد ج ١ ص ٤٦ وما بعدها وتاريخ الطبري ج ٢ ص ١٤ وما بعدها، وتاريخ العرب قبل الإسلام- جواد علي ج ٤ ص ١٨٧ وما بعدها. [.....]
377
عثمان بن شيبة. وقد كان من جملة تلك المناصب والمهام الرفادة واللواء والقيادة والسفارة والديات ورئاسة دار الندوة والأموال المحجرة والأعنة على ما ذكرته تلك الروايات. والسقاية هي تهيئة الماء الصالح للحجاج. والرفادة هي إكرام الحجاج وإطعام المحتاجين منهم. والديات هي جمع ما يترتب على قريش من الديات على ما يقع من بعض أفرادهم من جنايات الدم وفقا للتقاليد القبلية. واللواء هو عقد راية الحرب وتسليمها للقائد. والقيادة هي قيادة الحرب والحملات الحربية.
والسفارة هي القيام بالمفاوضات والصلات بين قريش والقبائل الأخرى لحلّ المشاكل التي تقوم بين الطرفين. والأموال المحجرة هي الإشراف على ما كان يوقف وينذر من أموال الكعبة والأصنام. والأعنة هي قيادة الخيل. وقد كان يتألف من أصحاب هذه المناصب مجلس له الكلمة والنفوذ. وكان يتولى أمور مكة العامة وسياستها ومصالحها ويجتمع في دار قرب الكعبة تسمّى دار الندوة.
وتروي الروايات أن هذه الأمور قد رتبت من قبل قصي بن كنانة أحد أجداد النبي ﷺ وأجداد الأسر القرشية التي تلتقي مع النبي ﷺ في النسب. ويخمن وجوده قبل الإسلام بنحو مائة وخمسين سنة حيث نبغ واستطاع أن يبسط حكمه على مكة.
ولقد أثر عن النبي ﷺ أنه قال في خطبته عقب فتحه مكة: «ألا إن كلّ مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج» وأنه أبقى مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة وقال له: خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم وأبى أن يستجيب لعمّه العباس الذي طلب منه أن يجمع لبني عبد المطلب السدانة والسقاية. واكتفى بإقرار السقاية فيهم» «١».
ولعل اختصاص المهمتين بالذكر في الآيات بسبب ذلك بل ولعلّ هذا هو سبب الجدال حول ثواب ومنزلة من كان يقوم بهما عند الله وهو على شركه. والله أعلم.
(١) انظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٢ وابن سعد ج ٣ ص ٢٣٢- ٢٣٣.
378

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
. (١) اقترفتموها: بمعنى كسبتموها وحزتموها.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(١) نهيا للمسلمين عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم أولياء ونصراء إذا فضلوا الكفر على الإيمان. ووصفا لمن يفعل ذلك بالظلم أي بالتمرّد على الله والانحراف عن جادة الحق والبغي على نفسه بالذات لأنه بذلك يعرضها للخطر.
(٢) وإنذارا لكل من يكون أبوه وأخوه وابنه وزوجته وعشيرته وأمواله وتجارته وموطنه المحبب إليه أحبّ إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله. فعلى من يكون كذلك أن ينتظر أمر الله فيه. وإن هذا لفسق، وإن الله لا يمكن أن يسعد الفاسقين ويرضى عنهم.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ والآية التي بعدها وما فيهما من صور وتلقين ودلالات
لقد روى الطبري عن أهل التأويل من التابعين أن الآيات نزلت في العباس وطلحة بن شيبة حينما أمروا بالهجرة فقالوا نبقى لنقوم بمهمتنا. وأردف الطبري هذا بقوله وكان ذلك قبل الفتح! وروى كذلك عن مجاهد أن جملة فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
379
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
تعني فتح مكة. وروى البغوي أن الآيات في شأن الذين تخلفوا عن الهجرة بعد الفتح تعلقا بأبنائهم وأزواجهم وأموالهم والذين نزلت فيهم وفي أمثالهم جملة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا في الآية [٧٢] من سورة الأنفال. كما روي أنها في صدد النهي عن موالاة تسعة من المسلمين ارتدّوا ولحقوا بمكة. وروى هذا المفسر عن الحسن أن الجملة المذكورة آنفا هي إنذار بعقوبة عاجلة أو آجلة إطلاقا. وروى الطبرسي أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى أهل مكة ينذرهم بعزم النبي ﷺ على غزوهم. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح وهي لا تنطبق على فحوى الآيات وروحها. وفي الآيات التالية لها دليل قاطع على أنها نزلت بعد فتح مكة لا قبله كما تذكر الروايات أو تقتضيه. لأنها تذكّر المؤمنين بما كان من نصر الله لهم في يوم حنين بعد هزيمتهم على سبيل تدعيم النهي. ويوم حنين إنما كان بعد فتح مكة. ومن العجيب أن لا ينتبه الرواة والمفسرون إلى ذلك.
والصورة التي يمكن أن تنطوي في الآيات هي أنه كان لبعض المؤمنين بعد الفتح المكي أقارب ما زالوا على شركهم، وكان المؤمنون يتواصلون معهم ويعتبرونهم عصبيتهم. ومن المحتمل أن يكون لبعضهم في المكان الذي هاجروا منه أموال وأراض فكانوا يتطلعون إليها ومنهم من حاول الالتحاق بها. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء من أهل مكة أو من القبائل المجاورة لها أو من القبائل التي لم تكن أسلمت من أطراف المدينة. ومن المحتمل أن تكون الظروف اقتضت أن يسيّر النبي ﷺ بعض سراياه عليهم فاعترض أقاربهم المؤمنون أو أظهروا عصبيتهم نحوهم فاقتضت الحكمة إنزال الآيات بالأسلوب القوي الذي جاءت به ليكون زاجرا وحاسما في توطيد الرابطة الدينية والكيان الإسلامي دون أي اعتبار لشيء آخر من صلات وأنساب ومنافع.
والآيات مطلقة العبارة وعامة الهدف والتقرير والتلقين مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية. فصحة إيمان المؤمن منوطة بأن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله
380
أحبّ إليه من كل عرض دنيوي وصلة رحمية مهما عظمت في نفسه أو عظمت فيها مصلحته الشخصية. وهكذا تكون الآيات قد وضعت قياسا لإيمان المسلم وإخلاصه. وهو قياس دقيق شديد بل قياس خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لعقائدهم ومبادئهم في كلّ ظرف ومكان. وإذا لوحظ أن الآية شملت كل ما يمكن أن يكون للمرء فيه مصلحة خاصة ومحببة وصلة وشيجة من آباء وأبناء وإخوان وأزواج وعشيرة وأموال وتجارة ووطن خاص بدا مدى هذا المقياس الرقيق الشديد الخالد. وسبيل الله التي تجعل الآيات الجهاد فيها من أركان هذا القياس هي الدعوة الإسلامية وما ينطوي فيها من أوامر ونواه ومبادئ وأهداف دنيوية وأخروية بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة حيث يبدو من خلال ذلك شمول هذا القياس الدقيق. وينطوي في الآيات بالإضافة إلى ذلك هدف توطيد الكيان الإسلامي وتضامن المسلمين في نطاقه بقطع النظر عن أي اعتبار وصلة خارجة عنه.
ومن الجدير بالذكر أن القرآن المكي وصّى الإنسان والمسلم بوالديه حسنا على أن لا يطيعهما في الشرك وأن يصاحبهما في الدنيا معروفا. كما جاء في آيات سورة الإسراء [٢٣- ٢٤] وسورة لقمان [١٣- ١٤] وسورة العنكبوت [٨] ثم تطور هذا في الآية [٢٢] من سورة المجادلة حيث قررت أنه لا يمكن لمؤمن صادق أن يوادّ من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. ثم جاءت الآيات التي نحن في صدد تفسيرها تطورا آخر حاسما بنهيها صراحة عن اتخاذ الآباء والأبناء وغيرهم من ذوي الأرحام أولياء ونصراء إذا ظلوا كفارا. والفرق التطوري يلمح في كون الوصف في آية المجادلة هو مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهذا يعني العداء في حين أن الوصف في الآيات التي نحن في صددها هو إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وهذا لا يعني العداء دائما. وحكمة التطور تلمح في تطور حالة المسلمين والإسلام وقوتهما واشتداد أمرهما كما هو المتبادر. وفي ذلك كلّه صور من صور السيرة النبوية.
381
ومن الحق أن نستدرك في هذا الصدد أمرا وهو مدلول (الأولياء) في الآيات التي نحن في صددها من حيث كونه يعني التحالف والتناصر. بحيث يمكن أن يقال إن حكم آية سورة الممتحنة لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) لم يتعطل بالآيات التي نحن في صددها وإنه ليس فيها ما يمنع البرّ بالوالدين والأقارب والإقساط إليهم فضلا عن غيرهم ولو كانوا كفارا إذا كانوا موادّين مسالمين كافّين ألسنتهم وأيديهم عن الإسلام والمسلمين.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال: «كنّا مع رسول الله ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال والله يا رسول الله لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه فقال عمر فأنت الآن والله أحبّ إليّ من نفسي فقال رسول الله الآن يا عمر». وحديثا رواه البخاري عن النبيّ ﷺ قال:
«والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» وهذا الحديث رواه الشيخان والنسائي أيضا «١» وهناك حديث آخر من بابه رواه الثلاثة ومنهم الترمذي عن أنس عن رسول الله ﷺ قال: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه من سواهما وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلا لله تعالى وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار» «٢» حيث ينطوي في الأحاديث تنبهات نبوية متساوقة مع مدى الآية.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧).
(١) التاج ج ١ ص ٢٢.
(٢) المصدر نفسه.
382
عبارة الآيات واضحة كذلك وقد احتوت الآيتان الأولى والثانية تذكيرا للمسلمين على سبيل المنّ الرباني بما كان من نصر الله لهم في مواطن كثيرة اشتبكوا فيها مع أعدائهم وبما كان بنوع خاص في يوم حرب حنين حيث كانوا كثيري العدد فأعجبتهم كثرتهم وداخلهم الزهو فلم تفدهم كثرتهم واشتد عليهم ضغط أعدائهم حتى ضاقت عليهم الأرض على رحبها وولوا منهزمين. ثم نظر الله إليهم برحمته فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين المخلصين وأيدهم بجنود لم يروهم فدارت الدائرة على أعدائهم الكافرين ونالهم ما استحقوا من عذاب الله.
أما الآية الثالثة فقد احتوت تطمينا عاما حيث قررت كون الله من بعد ذلك يتوب على من يشاء ممن يهتدي بهداه ويستحق رحمته وغفرانه وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ.. إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور وموجز الروايات عن وقعة حنين وحصار الطائف وفتحها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت استطرادا تدعيميا للآيتين السابقتين لها هادفة إلى تقرير كون الله تعالى هو الذي نصر المسلمين وينصرهم دائما. وأن هذا يغنيهم عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم وعشيرتهم أولياء إذا استحبوا الكفر على الإيمان. وأن التكثر بهم لا يغنيهم شيئا. وقد رأوا مثالا على ذلك بما كان من كثرتهم يوم حنين وزهوهم بها وتيقنهم أنهم منتصرون على أعدائهم فانهزموا ليكون لهم بذلك درس وعبرة. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعليهم وأيدهم بجنود من عنده فانتصروا.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح قد انطوت على تلقين وتهذيب مستمري
383
المدى يستمد منهما المسلم قوة روحية عظيمة ويجعلانه يدرك وجوب الاعتماد على الله والإخلاص له وحده وعدم التأثر بالمصالح الشخصية وجعلها تحرفه عن ذلك وعدم التضامن مع غير المخلصين مثله مهما اشتدت بينه وبينهم الروابط، وكون ذلك هو الذي يكفل له النصر والتأييد الربانيين بقطع النظر عن القلة والكثرة.
وهذا مما تكرر في مناسبات عديدة سابقة بأساليب متنوعة.
ويوم حنين المذكور في الآيات هو وقعة حربية نشبت بين المسلمين وقبائل هوازن بعد فتح مكة. وملخص ما روته الروايات عنها «١» أن هذه القبائل كانت حليفة لقريش مثل قبائل ثقيف وأن قريشا حينما علمت بزحف النبي ﷺ والمسلمين أرسلت إليها تستنجد بها فتحركت للنجدة. ولكن زحف النبي ﷺ كان أسرع وتمّ استيلاؤه على مكة قبل أن تصل النجدات فعاد فريق من ثقيف إلى منازله وبقي فريق مع هوازن وتحشدوا في وادي حنين على بعد ثلاث ليال من مكة نحو الطائف.
وأرسل النبي ﷺ من يستطلع خبرهم فعاد الرسول يقول إنهم مجمعون على الحرب وإن المدد متواصل إليهم. فخرج رسول الله ﷺ في أوائل شوال على رأس (١٢٠٠٠) فيهم نحو ألفين ممن أسلم من أهل مكة حتى لقد قال النبي أو أبو بكر أو رجل من بكر على اختلاف الروايات: لن نغلب اليوم من قلة. وكان قائد القبائل مالك بن عوف. واشتبك الفريقان. وكان عدد جيش مالك نحو أربعة آلاف. غير أنه كان فيهم رماة ماهرون. فلما اشتبك الفريقان ظهر من جانب بعض المسلمين استهتار بالعدو لقلته وكثرتهم. ورشق الرماة المسلمين بمدرار من النبل فأدى هذا وذاك إلى اضطراب صفوف المسلمين وفرار أكثرهم من الميدان عدا النبي ﷺ كعادته وأبي بكر وعمر والعباس وعليّ والفضل وآخرون من أصحاب رسول الله المخلصين رضي الله عنهم. وأخذ ينادي الناس بصوته: يا أنصار الله يا أنصار رسول الله. فلم يلبث المسلمون أن هدأ روعهم وأنزل الله السكينة عليهم وعادوا إلى الميدان هاتفين: لبيك لبيك ثم حملوا على المشركين حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن
(١) انظر ابن سعد ج ٣ ص ٢٠٠- ٢١٢، وابن هشام ج ٤ ص ٦٥- ١٤٩، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٤٤- ٣٦٠. وتفسير الطبري وتفسير البغوي أيضا.
384
حمي الوطيس. وجعل يرتجز وهو على ظهر بغلته:
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب
وأيّد الله المسلمين وقذف الرعب في قلوب المشركين فانهزموا لا يلوون على شيء واحتاز المسلمون أنعامهم وماشيتهم ونساءهم وأطفالهم، وكان عدد السبي (٦٠٠٠) والإبل (٢٤٠٠٠) والغنم (٤٠٠٠٠) والفضة (٤٠٠٠) أوقية.
وقد زحف بعد ذلك في شهر شوال على الطائف لأن معظم أهلها من ثقيف الذين كانوا حلفاء قريش وهوازن وجاءوا إلى نجدتهم. وحاصرها نحو ثمانية عشر يوما وضربها بالمنجنيق حيث كانت مسورة ولم يتيسر له فتحها ولم يخرج أهلها إلى المسلمين. وتراشق الطرفان بالنبال واستشهد نحو اثني عشر من المسلمين وأمر النبي بقطع أعنابهم وتحريقها فنادوه من وراء الأسوار وناشدوه الرحم فاستجاب وقال أدعها لله والرحم، واستشار بعض أصحابه فقال له بعضهم «ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك» فأمر رسول الله مناديا ينادي بالرحيل. وأمر الناس أن يهتفوا «آئبون تائبون عابدون لربّنا حامدون» وسألوه أن يدعو على ثقيف فقال: «اللهمّ اهد ثقيفا وائت بهم».
وهناك حديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو في صدد حصار الطائف والانصراف عنها قال: «حاصر رسول الله ﷺ أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال إنا قافلون إن شاء الله. قال أصحابه نرجع ولم نفتح. فقال لهم النبي ﷺ اغدوا على القتال فغدوا عليه فأصابهم جراح فقال لهم النبي ﷺ إنا قافلون غدا. قال فأعجبهم ذلك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم» «١».
وفي طريق عودته توقف في الجعرانة لقسمة سبي هوازن وغنائمها. وقد رأى النبي ﷺ أن ينعم منها على بعض زعماء مكة والقبائل زيادة على الأسهم العادية تألفا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام فأعطى بعضهم مائة من الإبل وبعضهم خمسين ومنهم من أعطاه فضة ومنهم من أعطاه غنما. ثم وزع الباقي على سائر
(١) التاج ج ٤ ص ٣٩١.
385
الناس بعد إفراز الخمس لبيت المال. وفعل كذلك بالسبي. أي أنه قرر استرقاق السبي- النساء والأطفال- ووزعهم كغنائم على المسلمين.
ولقد أرسلت هوازن وفدا إلى النبي ﷺ تعلنه بإسلامها وتطلب منه ردّ أموالها وسبيها فأخبرهم أنه قد وزع السبي والأموال ثم سألهم: أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم من أموالكم؟ فقالوا بلى. فقال أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله. ففعلوا فقال النبي ﷺ ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم.
فقال الأنصار والمهاجرون من أصحاب رسول الله وما كان لنا فهو لرسول الله، وقال بنو سليم كذلك. وأبى بعض زعماء القبائل فقال رسول الله أما من تمسك بحقّه منكم من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه. فقبل الممتنعون وردّوا ما في أيديهم من السبايا.
ومما روي أن النبي ﷺ مرّ بامرأة قتيل فسأل عن شأنها فقالو اقتلها خالد بن الوليد فأمر أحد أصحابه ليدرك خالدا ويقول له إن رسول الله ينهاه عن قتل المرأة والوليد والعسيف «١».
ومما روي في سياق توزيع الغنائم أن الأنصار وجدوا في أنفسهم، لأن النبي ﷺ لم يمنح زعماءهم كما منح زعماء مكة والقبائل حتى قال قائلهم: إن رسول الله لقي قومه. ودخل عليه سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم في هذا الفيء الذي أصبت.
قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظيمة في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. فقال له: اجمع لي قومك فجمعهم، فأتاهم رسول الله فقال بعد حمد الله «يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم. وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم. ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله. وعالة فأغناكم الله. وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. الله ورسوله أمنّ وأفضل. ثم قال ألا تجيبوني
(١) الخادم أو المملوك.
386
يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المنّ والفضل فقال لهم أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدّقتم: أتيتنا مكذّبا فصدّقناك. ومخذولا فنصرناك. وطريدا فآويناك. وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم.
فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» «١». فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظّا فكان مشهدا من أروع مشاهد السيرة. وفيه تلقين بليغ المدى سواء أفي عظم أخلاق ووفاء السيد الرسول أم في عظم مقام الأنصار عنده أم في النظرة النبوية إلى الناس حسب قوة إيمانهم وإخلاصهم.
وفي الكتب الخمسة أحاديث نبوية في بعضها تطابق لما جاء في الروايات أو إيجاز. وفي بعضها مغايرة وتوضيح. وفي بعضها صور لم ترد في الروايات. وقد رأينا من المفيد إيرادها لإكمال الصورة ولأنها الأوثق في بابها.
من ذلك حديث رواه مسلم والبخاري عن أنس جاء فيه: «إنّ أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فسمع رسول الله من قولهم فأرسل إلى الأنصار فقال ما حديث بلغني عنكم. فقال له فقهاء الأنصار يا رسول الله أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا. وأمّا أناس منّا حديثة أسنانهم قالوا يغفر الله لرسوله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله: فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألّفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم
(١) انظر التاج ج ٤ ص ٣٨٩.
387
برسول الله. فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. فقالوا بلى يا رسول الله قد رضينا. قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة. فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض. قالوا سنصبر» «١». وروى مسلم والبخاري عن أنس قال:
«جمع رسول الله الأنصار فقال أفيكم أحد من غيركم. فقالوا لا إلا ابن أخت لنا.
فقال رسول الله إنّ ابن أخت القوم منهم. فقال إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة. وإني أردت أن أجيرهم وأتألّفهم. أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم. لو سلك الناس واديا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار»
«٢». وروى مسلم والبخاري عن عبد الله قال: «لمّا كان يوم حنين آثر رسول الله ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله. قال فقلت والله لأخبرنّ رسول الله فأتيته فأخبرته قال فتغيّر وجهه حتى كان كالصّرف ثم قال فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله. ثم قال يرحم الله موسى. قد أوذي بأكثر من هذا فصبر.
قلت لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا»
«٣». وروى مسلم عن رافع بن خديج قال أعطى رسول الله أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كلّ إنسان منهم مائة من الإبل. وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبي د بين عيينة والأقرع
فما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تخفض اليوم لا يرفع
(١) التاج ج ٤ ص ٣٤٤ و ٣٤٥ والحديث الأول يفيد أن ذوي الأسنان من الأنصار لم ينتقدوا.
وهم لا شك السابقون الأولون الذين سجّل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في إحدى آيات هذه السورة.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه ص ٣٤٥ و ٣٤٦.
388
قال فأتمّ له رسول الله مائة» «١».
وروى البخاري ومسلم عن العباس قال: «شهدت مع رسول الله يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله فلم نفارقه وهو على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي. فلما التقى المسلمون والكفار ولّى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفّها لئلا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه فقال رسول الله أي عباس ناد أصحاب السمرة «٢» فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة. قال فو الله لكأنّ عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها تعالوا يا لبيك يا لبيك فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث يا بني الحارث. فنظر رسول الله إلى قتالهم وهو على بغلته وقال هذا حين حمي الوطيس. ثم أخذ رسول الله حصيات فرمى بهنّ وجوه الكفار. ثم قال انهزموا وربّ محمد. قال فذهبت انظر فإذا القتال على هيئته فيما نرى. قال فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى أحدّهم كليلا وأمرهم مدبرا. وفي رواية رماهم بقبضة من تراب وقال شاهت الوجوه. فولوا مدبرين وانهزموا وقسمت غنائمهم بين المسلمين» «٣». وفي رواية للبخاري «لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبيّ عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا. قال يا معشر الأنصار. قالوا لبيك يا رسول الله وسعديك. لبيك نحن بين يديك. فنزل رسول الله وقال أنا عبد الله ورسوله. فانهزم المشركون. فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا فقالوا في ذلك فدعاهم رسول الله فأدخلهم في قبّة. قال أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله. لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لاخترت شعب الأنصار» وفي رواية قال: «كنّا إذا احمرّ البأس نتقي
(١) التاج ج ٤ ص ٣٤٥ و ٣٤٦.
(٢) السمرة هي الشجرة التي بايع أصحاب رسول الله رسول الله تحتها يوم الحديبية. وهي التي عنتها آية سورة الفتح لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
(٣) التاج ج ٤ ص ٣٨٨ و ٣٨٩.
389
برسول الله. وإنّ الشجاع منّا للّذي يحاذيه» «١».
وروى الشيخان عن أبي موسى قال: «لما فرغ النبيّ ﷺ من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد وهزم الله أصحابه.
قال أبو موسى: وبعثني النبي مع أبي عامر فرماه رجل جشميّ بسهم في ركبته فانتيهت إليه فقلت يا عمّ من رماك. فأشار إليّ فقال ذاك قاتلي الذي رماني فقصدت له فلحقته فلما رآني ولّى فاتبعته فجعلت أقول له ألا تستحي، ألا تثبت، فكفّ فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته ثم رجعت لأبي عامر فقلت قتل الله صاحبك. قال فانزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء. قال يا ابن أخي أقرئ النبيّ السلام وقل له استغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس. فمكث يسيرا ثم مات فرجعت فدخلت على النبيّ فرأيته على سرير مرمل «٢»
، وعليه فراش قد أثّر رمال السرير بظهره وجنبيه. فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقال قل له استغفر لي فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال اللهمّ اغفر لعبيد أبي عامر. اللهمّ اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس. فقلت ولي فاستغفر فقال اللهمّ اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما. قال أبو بردة إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى» «٣».
ونستطرد إلى ذكر فتح الطائف للمناسبة أيضا. ولقد كان ذلك بعد سنة من فتح مكة. وقد جاء أحد زعماء ثقيف عروة بن مسعود إلى النبي ﷺ فأسلم فاستأذنه في الذهاب إلى الطائف ليدعو قومه فأذن له. فلما وصل حيّا الناس بتحية الإسلام فاستنكروا فلما طلع الفجر أذّن للصلاة من فوق غرفة له فخرج الناس منكرين عليه ورماه أحدهم بسهم فانبرت عشيرته للمقابلة وكاد الشرّ يتسع بين الناس فقال رضي الله عنه تصدقت بدمي لأصلح بين الناس وهي كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها
(١) التاج ج ٤ ص ٣٨٨ و ٣٨٩. [.....]
(٢) مشدود بحبال الحصر.
(٣) التاج ج ٤ ص ٣٩٠.
390
إلي. فلما قضى نحبه جاء ابنه إلى النبي ﷺ مع رفيق له فأسلما. واستدعى النبي مالك بن عوف فعهد إليه بثقيف فقال له أنا أكفيكهم حتى يأتوك مسلمين. ثم صار يغير على سرحهم ويقاتلهم حتى أعجزهم فاتفقوا على إرسال وفد إلى النبي ﷺ لمفاوضته على التسليم والإسلام وجاء الوفد وكانوا سبعين رجلا وعلى رأسهم زعماؤهم عبد ياليل وابناه وكنانة وشرحبيل بن غيلان وغيرهم فسرّ النبي بمقدمهم وضرب لهم قبة في المسجد. وقد حاولوا الحصول على بعض الامتيازات فلم يتساهل معهم فاستعفوه من هدم أصنامهم بأيديهم فأعفاهم فأسلموا. وغدت الطائف في حوزة السلطان النبوي وكان ذلك في رمضان أو شوال من السنة التاسعة للهجرة «١».
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
. (١) عيلة: فقرا أو فاقة.
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت:
(١) خطابا للمسلمين تؤذنهم فيه بأن المشركين نجس فلا ينبغي أن يقربوا المسجد الحرام بعد هذا العام الذي أنزلت فيه الآية.
(٢) وتطمينا لهم فإذا كانوا يخافون الفاقة وضيق العيش من هذا المنع فليطمئنوا فإن الله عزّ وجلّ قادر على إغنائهم من فضله. وإنه لهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصواب.
(١) انظر تفصيل فتح الطائف في ابن هشام ج ٤ ص ١٩٤- ٢٠٠، وابن سعد ج ٢ ص ٧٧- ٧٨.
391
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وما روي في صددها من أقوال وما ينطوي فيها من صور وتطور وتلقين وأحكام
لقد روى الطبري أن النبي ﷺ لما أمر بالنداء بأن لا يحجّ بعد هذا العام مشرك قال المسلمون كنّا نصيب من بياعاتهم في الموسم فأنزل الله الآية. كما روي أنه لما نزل شطر الآية الأول وشقّ على المسلمين وقالوا من يأتينا بطعامنا ومن يأتينا بالمتاع فنزل شقّها الثاني. هذا في حين أن الطبري روى في جملة ما روى في سياق الآيات الأولى من السورة أن هذه الآية نزلت مع ما قبلها من أول السورة وكان حكمها في جملة ما نودي به يوم الحج الأكبر وهو أن لا يحجّ بعد هذا العام مشرك.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآية على كلّ حال لم تنزل لحدتها ولم تنزل مجزأة وإنما هي جزء من السياق السابق أو نتيجة من نتائجه. فالآيات السابقة أمرت بقتال المشركين الناكثين وقررت عدم أهلية المشركين كافة لعمارة مساجد الله. ولقد كان من جملة ما أمر النبي ﷺ بإعلانه يوم الحج الأكبر أن لا يحج بعد الآن مشرك على ما رويناه قبل.
ولقد علم الله أن حياة أهل مكة كانت تقوم على الخارج تجارة وغذاء. وأن أهلها سوف يستشعرون خوفا من أن يضيق بالمنع رزقهم ومعيشتهم فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية تبريرا للمنع من جهة وتطمينا لأهل مكة من جهة أخرى.
ولما كان نزول الآيات والنداء يوم الحج الأكبر الذي أمرت الآية الثالثة من السورة وتنفيذ النبي ﷺ له بواسطة أبي بكر وعلي رضي الله عنهما قد وقع بعد سنة من فتح مكة وبعد فتح الطائف ودخول هوازن وثقيف أقوى قبائل منطقة الحجاز في الإسلام بالإضافة إلى أهل مكة ومعظم من حولها من القبائل فإن معنى هذا أن ذلك قد وقع بعد أن صارت هذه المنطقة جميعها في حوزة السلطان الإسلامي
392
وصار معظم أهلها مسلمين حيث صار في الإمكان منع من بقي على شركه من العرب من دخول منطقة المسجد الحرام وممارسة طقوس تتنافى مع دين الله الذي توطّد فيها. وينطوي في هذا صورة لتطور الدعوة الإسلامية وانتشارها وقوتها وسلطانها تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد حجّ النبي ﷺ بعد هذه السنة الحجة التي سميت حجة الوداع لأنه مات بعدها بقليل. ومن الممكن أن يلمح من ذلك أن النبي ﷺ أن لا يحجّ ويكون في من يشهدون الحجّ مشركون فأرسل أبا بكر أميرا للحج وأرسل معه الأمر بمنع المشركين بعد هذه السنة من دخول المسجد الحرام تنفيذا لهذه الآية. فلمّا تمّ ذلك بادر النبي ﷺ إلى الحجّ في السنة التالية حيث لم يشهد الحجّ معه إلا المسلمون.
ولقد تعددت أقوال المفسرين وأهل التأويل من التابعين الذين يروي المفسرون أقوالهم في مفهومهم لنجاسة المشركين. وتحديد المنطقة المحرمة.
وشمول التحريم:
١- فبالنسبة للنقطة الأولى فهناك من قال إن نجاستهم عينية كنجاسة الكلب والخنزير وإن على من يمسّهم ويصافحهم أن يغسل يده أو يتوضأ. وهناك من قال إنها نجاسة حكمية. وأكثر المذاهب الفقهية على القول الثاني. وهو الأوجه إذ المتبادر أن الوصف منبثق من ما كان عليه المشركون من عقائد باطلة. وما كانوا يمارسونه من تقاليد شنيعة من جملتها الطواف في حالة العري وأكل الميتة والتزوج بزوجات الآباء وعدم التطهر من الجنابة إلخ. وكل هذا نجاسة معنوية مما يتنافر مع قدسية المسجد الحرام وطهارته.
٢- وبالنسبة للنقطة الثانية هناك حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وأورده ابن كثير عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا إلّا أهل العهد وخدمهم» حيث يفيد ظاهر هذا الحديث أن المنع هو للمسجد. وهناك قول يرويه الزمخشري عن عطاء أحد كبار التابعين بأن المراد بالمسجد هو الحرم
393
أي منطقة الحرم بل هناك قول رواه الزمخشري أيضا عن مالك أن المنع شامل لكلّ مساجد المسلمين.
ولما كان نصّ الآية قطعيا بأنها في صدد المسجد الحرام فإن تشميل المنع لكل مسجد أو لغير المسجد الحرام هو غلوّ لا مبرر له. ولما كان على القادم إلى مكة أن يحرم من حدود الحرم المعروفة خارج مكة فالمتبادر أن المنع هو لمنطقة الحرم ويكون قول عطاء هو الأوجه وهو ما عليه الجمهور. وليس في هذا نقض للحديث المروي عن جابر في حالة صحته. فإن روح الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر المسجد الحرام تلهم أن المقصد من التعبير منطقة المسجد الحرام «١» وآية العنكبوت هذه أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [٦٧]. وآية القصص هذه وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [٥٧] بنوع خاص تلهمان ذلك بكل قوة.
٣- وبالنسبة للمسألة الثالثة فإن الحديث الذي رواه جابر وأورده ابن كثير يفيد أن المنع للمشركين دون الذميين «٢». وقد روى الطبري عن جابر مع ذلك قولين متناقضين أحدهما يجعل المنع شاملا للذميين. وثانيهما لا يشمله. وروي عن قتادة أن المنع للمشركين وأن الذميين وعبيد المسلمين مستثنون منه. وروي أن عمر بن عبد العزيز أمر بمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام بهذه الآية. ويظهر أنه لم يثبت عنده حديث جابر من جهة واجتهد بأن قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله هو شرك بوجه ما. ومنع اليهود والنصارى بالإضافة إلى المشركين من دخول المسجد الحرام هو الذي عليه التعامل المتواتر منذ صدر الإسلام إلى اليوم. ولقد قال البغوي وتابعه الخازن إن علماء الإسلام يقسمون بلاد الإسلام بالنسبة للكفار إلى ثلاثة أقسام:
(١) اقرأ آيات سورة الفتح [٢٥] وسورة الحج [٧٥] وسورة الأنفال [٣٤] مثلا. فالصدّ في هذه الآيات كان عن منطقة الحرم وعن الحج ويدخل في ذلك الكعبة وفناؤها.
(٢) والمقصود بكلمة الذميين في الأعمّ الأغلب أهل العهد من الكتابيين.
394
(١) الحرم المكي: فلا يجوز لكافر أن يدخله ذميا كان أو مستأمنا. وننبه على أن كلمة الكافر تطلق على كل جاحد برسالة محمد ﷺ والقرآن. فيدخل في ذلك أهل الكتاب وغيرهم.
(٢) الحجاز: فيجوز للكافر دخولها بإذن ولمدة مؤقتة دون الإقامة. لأن النبي ﷺ أمر بإخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب. وعدم السماح بوجود دينين فيها. ومعنى هذا منعهم من الإقامة فيها.
(٣) سائر بلاد الإسلام: فيجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة أو أمان. على أن لا يدخل مساجد المسلمين إلّا بإذن منهم. وهو تقسيم وجيه مع التنبيه على أن التعليل بالنسبة للقسم الثاني يقتضي أن يكون منع الإقامة الدائمة شاملا لجميع جزيرة العرب وليس للحجاز فقط. وقد يكون الجاري في الحجاز هو هذا حيث إن أهلها جميعهم مسلمون وإن غير المسلمين الذين يقيمون في جدة إنما يقيمون إقامة مؤقتة. ولا يمكن أن يقال هذا بالنسبة لليمن مثلا التي كان وما يزال يسمح لليهود بالإقامة فيها إقامة دائمة. ولعلّ شيئا من هذا جار في أنحاء جزيرة العرب الجنوبية والشرقية والغربية الأخرى.
ولم يذكر أصحاب التقسيم المسجد النبوي بخاصة والمساجد في جميع جزيرة العرب بعامة. واقتصر كلامهم على أن دخول غير المسلمين إلى مساجد المسلمين في غير جزيرة العرب منوط بإذن المسلمين.
وما دام النص القرآني محصورا في المسجد الحرام وليس هناك أثر ثابت صحيح عن النبي ﷺ عن غيره فالمقتضى أن يكون دخول غير المسلمين إلى مساجد المسلمين غير محرّم باستثناء المسجد الحرام. والجاري اليوم بالنسبة للمسجد النبوي هو التحريم مع أن من المتواتر الذي بلغ حدّ اليقين أن النبي ﷺ ظل يستقبل في مسجده إلى آخر حياته طوائف من الكفار مشركين وكتابيين ومعاهدين وغير معاهدين لمصالح ومقاصد متنوعة وأن خلفاءه الراشدين فعلوا ذلك أيضا.
والآية [٢٨] من هذه السورة التي تأمر النبي ﷺ بإجارة من يستجيره من
395
المشركين حتى يسمع كلام الله تنطوي على قرينة قرآنية بالإباحة لأن النبي إنما كان يستقبل جميع الناس من غير المسلمين في مسجده.
ولقد روى مسلم والترمذي عن عبد الله بن زيد بن عاصم عن النبي ﷺ قال:
«إنّ إبراهيم حرّم مكة ودعا لأهلها. وإني حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة.
وإني دعوت في صاعها ومدّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة»
«١».
وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن علي قال: «من زعم أن عندنا شيئا نقرأه إلّا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب. فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات. وفيها قول النبي ﷺ المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا. وذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. زاد في رواية فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» «٢» وروى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال: «حرّم رسول الله ما بين لابتي المدينة. فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها. وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» «٣». ومع أن المتبادر من هذه الأحاديث هو تحريم سفك الدماء فيها وضمان الأمن لمن يكون فيها كما هو الأمر بالنسبة للحرم المكي ومداه قد يكون ما درج عليه المسلمون منذ العهود القديمة من عدم السماح لغير المسلمين بدخول المدينة مستمدا من ذلك. والله تعالى أعلم.
وأمر النبي ﷺ المذكور في الفقرة الثانية بعدم السماح بوجود دينين في جزيرة العرب وإخراج اليهود والنصارى منها جاء في أحاديث عديدة. منها حديث رواه ابن هشام والطبري والبلاذري ونصّه: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» «٤».
(١) التاج ج ٢ ص ١٦٧ و ١٦٨.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) انظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٤٥ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٣٤ و ٥٣٥ وفتوح البلدان للبلاذري ص ٧٣.
396
وحديث رواه الإمام أبو عبيد بن القاسم في كتاب الأموال وهو «أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» «١». وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس عن النبي ﷺ جاء فيه: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» «٢».
ومما لا شكّ فيه أن النبي ﷺ قد هدف بذلك إلى غاية عظيمة. وهي تحصين جزيرة العرب من تعدد الأديان وما يؤدي هذا إليه من شقاق ونزاع ودسائس ومكائد وجعلها بلادا خالصة للإسلام وحده. وهي موطن الجنس العربي الذي حمل راية الإسلام. ومهبط الوحي الإلهي على نبي الإسلام. وفي هذا كلّ الحكمة والحق.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٩ الى ٣٥]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥).
(١) كتاب الأموال ص ٩٩.
(٢) التاج ج ٤ ص ٣٦١.
397
(١) الجزية. قيل إنها من الجزاء بمعنى المكافأة والمقابلة. وقيل إنها الإجزاء بمعنى الإكفاء، وقيل إنها من الجزي بمعنى القضاء، وعلى القول الأول يكون معناها في مقامها (جزاء إقرار أهل الكتاب على ما هم عليه) وعلى القول الثاني (اجتزاء بها عن إسلامهم) وعلى القول الثالث (قضاء ما عليهم) وعلى كل حال فالكلمة اصطلاح للضريبة التي يدفعها المغلوب المستسلم لغالبه مقابل إقراره على ما هو عليه والدفاع عنه. ونرجح أنها كانت في هذا المعنى في اللغة قبل الإسلام أيضا. ولقد قال بعضهم «١» إنها فارسية معربة من لفظ (كزيت) وكان الفرس يستعملونها في المعنى المراد منها. وقد يكون هذا صحيحا. وقد تكون أصالة عروبتها هي الصحيحة. ونحن نميل إلى هذا ما دام في العروبة جذر مناسب لها ولا يبعد أن تكون دخلت إلى اللغة الفارسية وحرّفت فيما بعد. وعلى كل حال فمما لا ريب فيه أن الكلمة بصيغتها مما كان العرب قبل الإسلام يتداولونه في معناها.
(٢) يضاهئون: يشتبهون ويماثلون.
تعليق على الآية قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ... والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من أحاديث وأقوال وما ترتب عليها من أحكام وتلقينات وبخاصة في صدد الجزية وتمحيص ما روي في صدد قتال الكتابيين ومن ملّة الذميين منهم
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت أمرا للمسلمين بقتال الموصوفين فيها بأوصاف معينة من أهل الكتاب حتى يخضعوا لهم ويعطوهم الجزية مقهورين
(١) انظر تفسير رشيد رضا.
398
صاغرين. واستطرادات تعليلية لهذا الأمر. والآيات الست منسجمة مترابطة. وهذا ما جعلنا نوردها جملة واحدة برغم ما احتوته من أحكام متنوعة وكثيرة.
ولقد روى البغوي عن الكلبي أن الآية الأولى نزلت في بني قريظة وبني النضير من اليهود فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. ويقتضي هذا أن تكون الآية نزلت في السنة الثالثة أو في السنة الخامسة اللتين أجلى النبي فيهما يهود بني النضير ونكل ببني قريظة على ما شرحناه في سورتي الحشر والأحزاب. في حين أن سياق الآيات وما بعدها يلهم بقوة أنها نزلت بعد الفتح المكي وبين يدي غزوة تبوك. وهناك مأخذ آخر على رواية الكلبي وهو قوله إن النبي صالحهم على الجزية في حين أنه لم يكن صلح ولا جزية بل كان إجلاء للأولين وتنكيلا حاسما بالآخرين على ما شرحناه في السورتين المذكورتين آنفا.
ولقد عقب الطبري على الآية السابقة لهذه الآيات فقال: إن لمسلمين لمّا قالوا من أين نأكل ومع من نتجر ولسوف نغدو فقراء بسبب منع المشركين عن دخول الحرم أنزل الله الآية [٢٩] وأمرهم بغزوة تبوك ليأخذوا الجزية بدلا عما ضاع عليهم، ثم قال في سياق تفسير هذه الآية إن الآية نزلت على رسول الله بحرب الروم فغزا غزوة تبوك بعد نزولها. وعزا أقواله إلى بعض أهل التأويل من التابعين مثل الضحاك وقتادة والسدي ومجاهد.
وهذه الأقوال تقتضي أن يكون الله عزّ وجلّ قد جعل الجزية التي قد تأتي من حرب الروم مقابل ما خسره المسلمون من منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام، وأن يكون النبي لم يكن قد حارب الروم ثم أن لا يكون النبي قد أخذ الجزية من أهل الكتاب قبل هذه الآية. ويرد على هذا ملاحظات عديدة. فأوّلا أنه لم يقع حرب في غزوة تبوك وأخذت الجزية نتيجة لها. والعهود التي عقدها النبي ﷺ لبعض أهل هذه الأنحاء على ما سوف نشرحه بعد عهود مسالمة وموادعة. وما تعهدوا بأدائه لم يكن مقدارا مهمّا يسدّ ثغرة واسعة في حياة
399
المسلمين الاقتصادية. وهو عائد إلى بيت المال الذي كان ينفق منه على مصالح المسلمين العامة والمحتاجين منهم وحسب في حين أن التخوف المذكور في الآية السابقة [٢٨] هو تعبير عن لسان أهل مكة الذين كانت مواسم الحج وسيلة لتكسبهم وقضاء مصالحهم المعاشية. فضلا عن أن هؤلاء كانوا أقلية بين المسلمين والجزية ليست عائدة إليهم. وثانيا أن هذه الأقوال تعني أن الله جعل الجزية هدفا للمسلمين من القتال في حين أن القرآن قرر في أكثر من موضع أن الغنائم ليست هدفا للقتال ولا يجوز أن تكون هدفا على ما مرّ شرحه في مناسبات عديدة سابقة وبخاصة في سياق تفسير الآية [٩٤] من سورة النساء دون أن يكون ذلك نتيجة لقتال. وثالثا أن النبي صالح نصارى نجران على جزية سنوية معينة على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [٣٣- ٦٤] من سورة آل عمران. وأن روايات السيرة ذكرت أنه أرسل سريّة في السنة السادسة إلى دومة الجندل في أنحاء تبوك لتأديب قبائلها النصرانية ودعوتها إلى الإسلام فأسلم من أسلم وتعهد من أقام على دينه بالجزية «١». ولقد سبق غزوة تبوك حركات حربية عديدة في أنحائها للمقابلة والدفاع على ما ذكرته روايات السيرة. فقد بعث رسول الله ﷺ رسلا يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء تخوم الجزيرة العربية في السنة السادسة للهجرة فقتل والي مؤتة من قبل الروم والغسانيين رسول النبي ﷺ إلى ملك بصرى وهو الحارث الأزدي «٢» وقتل الروم والي معان من قبلهم واسمه فروة الجذامي بسبب إسلامه «٣»، وشلّح جماعة من نصارى جذام النازلين في أنحاء تبوك دحية الكلبي رسول النبي ﷺ إلى قيصر «٤». وكانت قبائل كلب وجذام وقضاعة النصرانية تعتدي على قوافل المسلمين وتتجمع من حين إلى آخر لغزو المدينة «٥». فكان هذا مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم
(١) انظر ابن سعد ج ٣ ص ١٣٢.
(٢) المصدر نفسه ص ١٧٤. [.....]
(٣) ابن سعد ج ٢ ص ٤٦ و ١١٧.
(٤) ابن سعد ج ٣ ص ١٣١.
(٥) المصدر نفسه ص ١٠٣- ١٠٤ و ١٧٧- ١٨٨.
400
يتحرك للمقابلة قبل نزول هذه الآيات بأربع سنين حيث قاد النبي في أول السنة الهجرية الخامسة حملة نحو دومة الجندل على بعد ١٥ أو ١٦ ليلة من المدينة وعاد منها دون اشتباك لأن قبائلها فرت وتفرقت «١». ثم سيّر حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى حسمي وراء وادي القرى لتأديب الجذاميين الذين شلّحوا دحية فقتل وغنم وسبى منهم «٢». ثم سيّر حملة بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ثانية فأسلم من أسلم وضرب على من لم يسلم الجزية «٣». ثم سيّر جيشا قويا في السنة الثامنة وقبل فتح مكة إلى مؤتة بقيادة زيد بن حارثة للثأر من واليها الذي قتل رسول النبي وقد بلغ الجيش مؤتة في ناحية البلقاء واشتبك مع الروم والقبائل النصرانية ودارت الدائرة عليه واستشهد ثلاثة قواد كانوا يتسلمون القيادة واحدا بعد آخر وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم. ثم تمكن من الانسحاب بقيادة خالد بن الوليد «٤». ثم سيّر حملة بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل لأن قضاعة كانت تتجمع للزحف على المدينة فدوخ الناحية وهرب أهلها «٥» حيث يبدو من هذه السلسلة التي يصح أن يضاف إليها وقائع إجلاء وحرب النبي والمسلمين مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ووادي القرى أن النبي والمسلمين حاربوا أهل الكتاب وأخذوا منهم الجزية قبل نزول هذه الآيات التي نحن في صددها وأن الأقوال التي يوردها الطبري غير متسقة مع الوقائع من جهة وأن هذه الوقائع متسقة في أسبابها وظروفها مع المبادئ القرآنية التي تقرر أن الجهاد إنما شرع للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ولم تكن الجزية والغنائم من أهدافه من جهة أخرى.
ولما كان النبي ﷺ قد استنفر المسلمين بعد نزول هذه الآيات إلى غزوة تبوك
(١) ابن سعد ج ٣ ص ١٠٣- ١٠٤.
(٢) المصدر نفسه ١٣١- ١٣٢.
(٣) المصدر نفسه ص ١٣٢.
(٤) المصدر نفسه ص ١٧٤- ١٧٧ وابن هشام ج ٣ ص ٤٢٧- ٤٤٧.
(٥) ابن سعد ج ٣ ص ٧٧- ٧٨.
401
وزحف على رأس حشد عظيم نحوها وبلغها على ما تذكره جميع مصادر التاريخ والتفسير القديم وتلهمه آيات السورة. ولما كان معظم منطقة تبوك وما وراءها من مشارف الشام إلى تخوم البلقاء وما بعدها من النصارى أهل الكتاب وكانوا تحت سلطان الروم من أهل الكتاب أيضا فإنه يسوغ القول بكل قوة والحالة هذه أن الآيات إنما نزلت بين يدي هذه الغزوة على سبيل الحثّ والتبرير والتعليل وحسب.
والروايات تذكر أن النبي ﷺ إنما استنفر إليها لما بلغه من أن الروم قد حشدوا حشودا كثيرة بقصد الزحف على المدينة وانضوى إليها قبائل لخم وجذام وعامة النصرانية وأرسلوا طلائعهم إلى مشارف الشام «١» فضلا عن الأسباب السابقة وما استدعته من حركات عديدة حيث يتسق هذا مع أسباب الحركات الأولى ومع التقريرات القرآنية لأسباب ومبررات الجهاد الإسلامي وأهدافه. وقد ذكرت الروايات أن النبيّ ﷺ لما عاد من تبوك فكّر في تسيير جيش جديد إلى مؤتة للثأر لجيش زيد بن حارثة الذي سار للثأر من والي مؤتة لقتله رسول الله ﷺ وعين لقيادته أسامة بن زيد حيث يدل هذا على أن النبي ﷺ ظلّ يعتبر حالة الحرب قائمة بينه وبين الروم ونصارى العرب في مشارف الشام. ولقد مات النبي ﷺ قبل أن يسير هذا الجيش فسيّره خليفته الأول أبو بكر ثم لم يكد هذا الخليفة أن يقمع الحركات المهمة من حركات فتنة الردة حتى التفت نحو الشام فسيّر الجيوش العديدة استمرارا وتنفيذا لاختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يظهر بكل وضوح أن حركة الفتوح الشامية إنما كانت استمرارا لحالة الحرب التي قامت بين النبي والمسلمين وبين الروم وأعوانهم والتي كانت أسبابها ودواعيها متسقة مع التقريرات القرآنية ولم تكن بدءا هجوميا بقصد الفتح والغنائم.
ويلحظ أن الآيات قد جمعت أهل الكتاب وأهل الكتاب ليسوا النصارى فقط والتعبير يشمل اليهود أيضا بل وغيرهم على ما شرحناه في سياق سورة غافر
(١) ابن سعد ج ٢ ص ٢١٨- ٢٢١ وابن هشام ج ٤ ص ١٦٩- ٢٢١ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٦١- ٣٦٧ والبلاذري ص ٦٦- ٦٩.
402
والشورى والمدثر. ولا نرى في هذا نقضا لما قلناه. وإذا لاحظنا أن اليهود قد أجلوا عن المدينة نهائيا وخضدت شوكتهم في خيبر والقرى الأخرى في طريق الشام في السنة الهجرية السادسة فلم يعد في الحجاز وطريق الشام يهود يصح أن يقاتلوا ولم يكن لهم دولة أو كتلة أخرى إذ ذاك يصح أن تقاتل فإنه يسوغ أن يقال حينئذ إن الأمر القرآني من حيث الواقع الموضوعي إنما كان للحثّ والتحريض على النفرة إلى غزوة تبوك لقتال الروم وقبائل النصارى. وإن استعمال تعبير أَهْلَ الْكِتابِ في الآية الأولى وذكر اليهود مع النصارى في الآيات التالية لها قد قصد به التشريع العام ليشمل اليهود والنصارى في أي ظرف آخر غير الظرف الذي نزلت الآيات فيه. ولقد جاءت الآيات بأسلوب تشريعي مطلق مما فيه تأييد لذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره «١» عن أهل التأويل من التابعين في تأويل جملة: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وجملة: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. فرووا في صدد الأولى أن معناها (لا يحرمون ما حرمه نبينا صلى الله عليه وسلم) كما رووا أن معناها (لا يحرمون ما حرّمه رسلهم وكتبهم). ورووا في صدد الثانية أن معناها (لا يطيعون الله حق الطاعة أو لا يطيعون طاعة أهل الحق)، كما رووا أن معناها (لا يدينون بدين الإسلام). وبعض هذه الأقوال تقتضي أن يكون المسلمون قد أمروا بالآية الأولى بمقاتلة كل كتابي على الإطلاق لا يحرّم ما حرّم الله ورسوله محمد ولا يدين بالإسلام حتى يعطي الجزية للمسلمين. وهذا في اعتقادنا وحسب ما شرحناه في مناسبات سابقة يتناقض مع المبدأ العام المحكم الذي قررته آيات سورة النساء [٩٠- ٩١] وبخاصة آيات سورة الممتحنة [٨- ٩] والذي هو متسق مع المبادئ القرآنية الجهادية عامة على ما شرحناه في المناسبات السابقة. والذي لا يتسق عكسه مع طبائع الأمور بسبب وجود أمم بعيدة لا صلات بينها وبين المسلمين ولا صدام ولا خصام. وبسبب بعد احتمال أمر القرآن بقتال من يمكن أن يكون مسالما موادّا حسن السلوك والنيّة نحو المسلمين وبدليل ما أثر
(١) انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
403
عن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين من نهي عن قتال وقتل غير المحاربين كالنساء والأطفال والشيوخ والرهبان مما أوردنا نصوصه في تعليقنا المسهب في سورة الكافرون ومناسبات أخرى «١». وقد يكون من الأدلة على ذلك ورود حرف (من) التبعيضية في الآية. وروح الآية والأوصاف المذكورة فيها أولا وروح الآيات الأخرى ثانيا يسوغان الأخذ بالأقوال الأخرى وهي عدم تحريم ما حرّمه الله ورسله في الكتب السماوية التي نزلت على أنبياء أهل الكتاب وعدم طاعتهم لله حقّ الطاعة وعدم احترامهم حقوق غيرهم ودمائهم وأموالهم مما يدخل فيه العدوان على القوافل وإخافتها وسلب أموالها وقتل أفرادها إلخ. وقد يدعم هذا جملة:
لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ التي لا تصح على جميع أهل الكتاب الذين منهم من كان وما يزال يؤمن بالله واليوم الآخر بصورة ما. كذلك مما يدعمه ما ذكرته الآيات من إرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم مما يتسع لمعنى تعطيل الدعوة إلى دين الله والصدّ عنه. وهذا قد نسب بصراحة إلى أحبار اليهود ورهبان النصارى في الآيات مع نسبة أكل أموال الناس بالباطل. وهو من موجبات الجهاد الإسلامي ومبرراته على ما شرحناه في المناسبات السابقة. يضاف إلى ذلك كلّه قيام حالة الحرب بين المسلمين وسكان مشارف الشام والروم منذ السنة الخامسة بسبب عدوانهم بأساليب وصور متنوعة نشأت عنها تلك السلسلة من الحركات الحربية التي ذكرناها ثم تسيير خليفة النبي بعد وفاته الجيوش.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل كذلك في جملة: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ حيث رووا أن معنى عَنْ يَدٍ هو أن تدفع الجزية نقدا لا نسيئة ومن قبل المستحقة عليهم وجاها كما يقول العرب أعطيته يدا بيد وكلمته فما بفم. كما رووا أن معناها القهر لأن العرب يقولون لكل معط لقاهر
(١) انظر التاج ج ٤ ص ٣٢٧- ٣٢٩ وكتاب الأموال للإمام أبي عبيد ص ٣٧- ٣٩ وكتاب أبي بكر الصديق لعلي الطنطاوي ص ٣٢٦- ٣٢٨ وسيرة أبي بكر وعمر في أشهر مشاهير الإسلام لرفيق العظم وكتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص ١١٨ وما بعدها ووصية أبي بكر في موطأ الإمام مالك.
404
له شيئا طائعا أم كارها (إعطاء عن يد). وحيث رووا في صدد كلمة صاغِرُونَ أنها تعبير عن حالة الصغار التي يتلبس بها المعطي وأن الإعطاء هو الصغار كما رووا أنها في صدد إيجاب إعطاء الجزية من قبل أصحابها في حالة تلبس الهوان والذلة كأن يعطوها وهم واقفون لقابضها وهو جالس وكأن يدفعوا أو يلبّبوا أو يصفعوا حينما يعطونها. وقد استنكر الإمام النووي إهانة الكتابيين وصفعهم حين إعطائهم الجزية وقال إنها سيئة باطلة على ما رواه المفسر القاسمي.
والذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تعني حتى يخضعوا ويستسلموا للمسلمين ويرضوا بسلطانهم عليهم، وفي هذا يتحقق هوانهم وصغارهم. ولقد روي أن عياض بن غنم رأى نبطا يعذبون في الجزية فقال للجابي إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا» «١».
وروي أن عمر أتي بمال كثير من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟
قالوا: لا. والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال بلا سوط ولا نوط. قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني «٢».
وروي أن عمر مرّ على قوم أقيموا في الشمس يصبّ فوق رؤوسهم الزيت وهو راجع من الشام فقال ما بال هؤلاء فقالوا عليهم الجزية لم يؤدوها. فهم يعذبون حتى يؤدوها فقال عمر فما يقولون ويعتذرون به. قالوا يقولون لا نجد، قال فدعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإني سمعت رسول الله يقول: «لا تعذبوا الناس فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله يوم القيامة» وأمر بهم فخلّي سبيلهم «٣». ولقد قال الإمام أبو يوسف في كتابه (الخراج) الذي رفعه لهارون الرشيد عن شؤون المال والخراج إنه لا يجوز ضربهم في استيدائهم الجزية ولا يوقع عليهم في أبدانهم شيء من المكاره «٤». والصفع والتلبيب والإهانة من
(١) كتاب الأموال ص ٤٣.
(٢) المصدر نفسه وفسّر الناشر كلمة (نوط) بالتعليق وهو على ما يبدو نوع من التعذيب.
(٣) كتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص ٦٩- ٧٢. [.....]
(٤) المصدر نفسه.
405
التعذيب. وإذا كان عمر بن الخطاب وعياض بن غنم رضي الله عنهما وجدا تعذيب الذمّي على تأخّره في دفع الجزية منطبقا على نهي النبي ﷺ عن تعذيب الناس وإنذاره وأنكراه. وإذا كان الإمام أبو يوسف يقول إنه لا يجوز بناء على ذلك ضرب الذمي وإحداث أي مكروه في بدنه في استيدائه الجزية. فمن باب أولى أن يكون ضربه وتعذيبه وإهانته وهو مقبل على دفعها منكرا غير جائز بل موضعا لإنكار أشد. وهو مما يقوي قول الإمام النووي رحمه الله ويدل على التسامي الإسلامي.
ومن تمام هذا التسامي الحديث الذي رواه أبو يوسف عن النبي ﷺ وجاء فيه: «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه». والرواية التي رواها عن عمر بن الخطاب حين حضرته الوفاة حيث قال: «أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم» «١». وهذا يعني أن خلفاء رسول الله وكبار أصحابه الذين كانوا الأكثر اتصالا به والأفهم لمنهجه ولمدى التلقين القرآني قد فهموا أن الجزية تعني قبول دخول معطيها في ذمة المسلمين وسلطانهم وأن على المسلمين وسلطانهم الدفاع عنهم وضمان سلامتهم وحريتهم الدينية وغير الدينية ومنع الأذى عنهم. ولقد حدث حادث رائع عظيم المغزى دلّ على أن أصحاب رسول الله كانوا على هذا الهدى السامي حيث روى الإمام أبو يوسف أن أهل الذمة لما رأوا وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدو المسلمين وعونا للمسلمين على أعدائهم. وقد بعثوا رجالا من قبلهم يتحسسون أخبار الروم فرجعوا يخبرون أهل مدنهم بأن الروم قد جمعوا جمعا لم ير مثله فأتى رؤساء المدن الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم- وكان ذلك في بلاد الشام- فأخبروه فكتب وإلي كل مدينة إلى أبي عبيدة بذلك.
وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل وال يأمرهم أن يردوا على أهل مدنهم ما جبي منهم من جزية وخراج وأن يقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وأنا لا نقدر الآن على ذلك. ونحن لكم على الشرط وما
(١) كتاب الأموال ص ٧١.
406
كتبناه بيننا إن نصرنا الله عليهم. فلما فعلوا قال أهل المدن ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا شيئا «١». وينبغي أن لا يشك في صحة هذه الرواية إجمالا. فإنها لم تسق للدفاع عن المسلمين في ذلك الوقت الذي لم يكن للدفاع محلّ. والإمام أبو يوسف كتب كتابه قبل نهاية القرن الهجري الثاني وهو من أقدم الكتب التي وصلت إلينا إن لم يكن أقدمها.
ولقد أوّل ابن كثير جملة عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ بقوله: أي ذليلون حقيرون مهانون. وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اشترط عليهم بناء على ذلك تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم حيث روى رواية عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: «كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من رأينا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشّا للمسلمين ولا نعلّم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه. وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا.
(١) كتاب الخراج ص ٨٠- ٨١ وليس هذا الحادث هو الفريد فهناك حوادث مماثلة ونصوص عديدة يشترط قواد المسلمين على أنفسهم لأهل الذمة الدفاع والمنعة. انظر أمثلة عديدة في تفسير رشيد رضا في سياق تفسير الآيات.
407
ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زيّنا حيثما كنا وأن نشدّ الزنانير على أوساطنا. وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلّا ضربا خفيفا. وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا بعوثا ولا نرفع أصواتنا. ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم». قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه «ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حلّ لكم منّا ما يحلّ من أهل المعاندة والشقاق». وتأويل ابن كثير رحمه الله للجملة بعيد عن روح الأحاديث المروية. والكتاب الذي يورده ويقول إن الأئمة الحفاظ قد رووه والذي كتبه نصارى مدينة لم يذكر اسمها عجيب غريب في بدايته ونهايته وفحواه وأسلوبه. فهو من حيث الأصل بعيد عن روح الأحاديث المروية. وليس هناك أي سبب محتمل لكتابة أهل المدينة النصرانية لهذا الكتاب إذا كان هناك عهد سابق بينهم وبين عمر.
ولم يرو التاريخ أن عمر شهد فتح وتسليم مدينة ما غير مدينة بيت المقدس.
وعبارة العهد الذي روي أنه كتبه لأهلها وفحواه مناقضان مناقضة صارخة لعبارة هذا الكتاب وفحواه كما ترى فيما يلي «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيّزها. ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من
408
أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم.
ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. وكتب وحضر سنة خمس عشرة» «١». وكلمات (ما كان للمسلمين من خطط- أي أحياء وحارات. وأسواق المسلمين ومنازلهم) قرائن لا تدحض على افتعال الكتاب لأنه لم يكن للمسلمين قبل الفتح خطط وأسواق ومنازل. وما كان يمكن أن يفرض ذلك سلفا لأن حركة الفتح لم تكن انتهت ولم تكن احتمالات الانتكاس والانتقاض مستحيلة. ولم يكن يعرف ما هو تصرف المسلمين بعد نهاية الفتح واستقراره. والغالب أن النصارى أظهروا في دور من أدوار الحكم الإسلامي مخامرة أو أقدموا على مغامرة كان لها وقع شديد وعميق في نفوس المسلمين وحكامهم فتشدد المسلمون معهم في المقابلة وألزموهم بما ذكره الكتاب ولعل بعضهم افتعله بسبيل ذلك. ولقد روت مصادر التاريخ الإسلامية والمسيحية القديمة «٢» أن الموارنة أو المردة والجراجمة ومن على مذهب الروم من النصارى «٣» ناصروا الروم حينما جاءت جيوش الفتح ثم استجابوا لتحريكاتهم في أثناء المنازعات التي نشبت بين الأمويين والهاشميين في القرون الهجرية الثلاثة الأولى اغتناما لفرصة انشغال المسلمين بأنفسهم ثم ناصروا الصليبيين في حركتهم
(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ١٠٥.
(٢) انظر كتاب تاريخ الموازنة المفصل للمطران الدبس ص ٣٤ وما بعدها و ١٨٦ وما بعدها وفتوح البلدان للبلاذري ص ١٦٦ وما بعدها.
(٣) كان نصارى بلاد الشام ومصر والعراق على مذهبين مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح التي مداها أنه ليس إلها كاملا ولا إنسانا كاملا وأنه مزيج من الناسوتية واللاهوتية. ومذهب الطبيعة الثانية التي مؤداها أن المسيح إله كامل وإنسان كامل. وكان المذهب الأول مذهب غالبية أهل هذه البلاد والثاني مذهب الروم أصحاب السلطان.
409
في القرن الخامس ثم في القرنين السادس والسابع الهجريين. فلعلّ ذلك مما أثار حنق المسلمين عليهم وجعلهم يلزمونهم بما جاء في الكتاب. ومن الحق أن ننبه على أن في كتاب الخراج لأبي يوسف «١» أقوالا فيها تساوق مع بعض ما جاء في الكتاب من إلزام للذميين بزي خاص وهيئة خاصة عزوا إلى عمر بن الخطاب. غير أن هذا لا يجعلنا نغير موقفنا وتوقفنا بناء على ما شرحناه من دلائل قوية. وكل ما في الأمر هو أن تكون مواقف بعض الذميين التي أثارت المسلمين كانت مبكرة فكان ذلك مؤديا إلى ردّ فعل مبكر والله تعالى أعلم.
ولقد روى الطبري وغيره «٢» أقوالا عديدة عن أهل التأويل كذلك في صدد الذين تقبل منهم الجزية، حيث اعتبر بعضهم على ما يستفاد منها أن النص القرآني قاصر على أخذها من الكتابيين ومنع أخذها من غيرهم وقتاله إلى أن يتوب ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. ولم يجز بعضهم أخذها من الكتابي العربي وجعله في زمرة الغير الذي لا يقبل منه إلا الإسلام وقصر أخذها على الكتابي الأعجمي. ومنهم من أجاز أخذها من المشركين والوثنيين الأعاجم دون العرب بالإضافة إلى جواز أخذها من الكتابيين العرب والعجم. ومنهم من أجاز أخذها من جميع الكفار سواء أكانوا كتابيين أم مشركين أو وثنيين وعربا أم عجما. والذين قصروا إباحة أخذها على الكتابيين أجازوها من المجوس لورود آثار نبوية في ذلك حيث روي أن عمر بن الخطاب قال كيف نصنع بالمجوس فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله ﷺ يقول سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب وأشهد أنه أخذها من مجوس هجر وشهد آخرون أنه أخذها من مجوس البحرين أيضا «٣». وقد رووا رواية عن علي بن أبي طالب فيها تعليل للحديث النبوي ومفادها أنهم كانوا أهل
(١) كتاب الخراج ص ٧٢.
(٢) انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
(٣) روى هذا الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج ص ٧٣- ٧٥ ورواه الإمام أبو عبيد في كتاب الأموال ص ٣١، ٣٢. وانظر التاج ج ٤ ص ٣٤٧ أيضا فإن فيه حديثا رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذ الجزية من مجوس هجر وحديثا رواه الترمذي أنه أخذها من مجوس البحرين وأن عمر أخذها من بني فارس وأن عثمان أخذها من الفرس أو البربر.
410
كتاب. وقد أوردنا نصّ هذه الرواية في سياق تفسير الآية [٥] من سورة المائدة.
والقول بعدم أخذ الجزية من كتابيي العرب ينقضه ما هو مروي بطرق وثيقة من أخذ النبي ﷺ الجزية من نصارى نجران على ما شرحناه في سياق تفسير سورة آل عمران. والذي يتبادر لنا إلى هذا أن الأمر بقتال أهل الكتاب الموصوفين حتى يعطوا الجزية لا يعني حصر ذلك فيهم وأنه إنما جاء في سياق استنفار المسلمين إلى قتالهم وأن الرأي الذي يقول بجواز أخذها من الكفار إطلاقا عربا كانوا أم عجما وكتابيين كانوا أم مشركين ووثنيين وهو قول الإمام مالك هو الأوجه. ولقد روي أن رسول الله ﷺ كتب إلى الحرب بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال وشريح بن عبد كلال أقيال ذي رعين ومعافر وهمدان في أنحاء اليمن يعرض عليهم الإسلام وإن أبوا فالجزية «١». وأنه كتب بمثل ذلك إلى أسد عمان من أهل البحرين «٢» وهؤلاء لم يكونوا أهل كتاب. وقد روي أنه حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أمره بأن يأخذ من كل حالم من المعافر دينارا أو عدله «٣». وهذا جزية أيضا. وهؤلاء عرب. ولم يرو أحد أنهم كتابيون. وفي حديث بريدة الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والذي أوردناه في سياق تفسير سورة الكافرون إجازة نبوية بأخذ الجزية من أعداء المسلمين المشركين إذا أبوا الإسلام «٤» وفي كل هذا دليل على صحة هذا القول ووجاهته.
ولقد اختلفت الروايات والأقوال في مقدار الجزية ومن يجب عليهم دفعها من أهلها. وليس هناك نصوص نبويّة وراشدية صريحة باتّة في ذلك. وإنما هناك روايات عمّا فرضه النبي ﷺ حيث روي أنه فرض دينارا على كلّ حالم من المعافر «٥» وفرض على نصارى نجران ألفي حلّة في السنة «٦» وفرض على أهل جربا
(١) كتاب الأموال ص ٢٧.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) كتاب الأموال ص ٢٦.
(٤) انظر الحديث في التاج ج ٤ ص ٣٢٧.
(٥) كتاب الأموال ص ٢٦. [.....]
(٦) ابن سعد ج ٢ ص ١٢٠.
411
وأذرح مائة دينار في السنة «١». وفرض على أهل مقنا ربع غزو لهم وربع ثمارهم «٢».
ولقد روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق (الفضة) أربعين درهما مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. وروي أن عمر بعث عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن حنيف إلى أهل الكوفة فوضعوا على كل رجل أربعة وعشرين درهما فأجاز عمر ذلك. وفي رواية أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين درهما. وأربعة وعشرين درهما. واثني عشر درهما. وقد روى الإمام نفسه أن ابن نجيح سأل مجاهدا لم وضع عمر على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع النبي على أهل اليمن؟ فقال: لليسار «٣». حيث يبدو من هذا أن النبي ﷺ وخلفاءه الراشدين كانوا يقدرون الجزية حسب حالة الناس المفروضة عليهم وطاقتهم. وقد روى الإمام أبو عبيد أن خلفاء المسلمين كانوا لا يرون الزيادة على ما وظف عمر بن الخطاب بل وكانوا يرون النقصان في ذلك إذا عجزوا عن الوظيفة. وفضلا عن ذلك فقد كانوا يعفون النساء والصبيان إطلاقا والعميان والزمنى والمقعدين والرهبان إذا لم يكن لهم مال. وكان الخلفاء يأمرون بالرفق بأصحابها وعدم الإصرار على أخذها منهم ذهبا وفضة ويأخذها بدلا من غلة الأرض والماشية وصناعة اليد على ما رواه الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد «٤». بل كانوا يسقطونها عن العاجز عن أدائها ويرتبون لهؤلاء إذا طعنوا في السنّ مرتبات من بيت المال حيث روى الإمام أبو يوسف خبرا رائعا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء فيه أن عمر بن الخطاب مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل وهو شيخ كبير ضرير البصر فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي قال فما ألجأك إلى ما أرى قال أسأل الجزية والحاجة والسنّ، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى
(١) ابن سعد ج ٢ ص ٥٥.
(٢) المصدر نفسه ص ٤١.
(٣) انظر هذه الأحاديث في كتاب الأموال ٣٩- ٤١ وانظر التاج ج ٤ ص ٣٤٧.
(٤) انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص ٧٠- ٧٢ وكتاب الأموال لأبي عبيد ص ٣٦- ٤٧.
412
منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إنما الصدقات للفقراء والمساكين وهذا من المساكين ووضع عنه الجزية وعن ضربائه «١». وحيث روى الإمام أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى واليه بالبصرة أن لا يأخذ الجزية إلّا ممن أطاق حملها وأن يجري على من كبرت سنّه وضعفت قوته وولّت عنه المكاسب من أهل الذمة من بيت المال ما يصلحه لأنه بلغه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد فعل ذلك «٢». ومما ورد في موطأ مالك «٣» قوله «مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم ولا تؤخذ إلّا من الذين بلغوا الحلم. وليس على نخلهم وكرومهم ومواشيهم صدقة (أي زكاة) لأن الصدقة قد وضعت على المسلمين تطهيرا لهم وردّا على فقرائهم. وليس على أهل الكتاب سوى الجزية. إلّا أن يتجروا في بلاد المسلمين فيؤخذ منهم العشر فيما يدبرون من تجارات. ويعامل المجوس معاملتهم». والشاهد في هذا الكلام السنة التي استثنت النساء والصبيان من الجزية. مما هو متساوق مع المقتبسات السابقة. وفي كل هذا ما فيه من العدل والتسامح الإسلامي.
ولقد رويت سنن راشدية «٤» بالنهي عن إعنات دافعي الجزية وعدم التشدد في أخذها ذهبا وفضة وجواز أخذ عدلها سلعة ما من غلّة أو صنعة يد. وهذا متساوق مع ذلك العدل والتسامح.
ويلحظ أن القرآن لم يذكر مصارف الجزية. وقد تكون الحكمة في ذلك أن الآية لم ترد في معرض التشريع لمورد قد تحقق كما هو الشأن في الغنائم والفيء والزكاة. والجزية من حقّ بيت مال المسلمين. ولقد ذكرت مصارف حصة بيت المال من الغنائم والفيء في آيات سورة الأنفال [٤١] وسورة الحشر [٧] وهذه
(١) كتاب الخراج ص ٧٢.
(٢) كتاب الخراج لأبي يوسف ص ٧٢ وكتاب الأموال لأبي عبيد ص ٤٥.
(٣) الموطأ ج ١ ص ١٥٢ و ١٥٣.
(٤) كتاب الأموال ٤٣- ٤٦ والخراج ٦٨ وما بعدها.
413
الحصة توزع على مجموعتين وهما المصالح العامة والمحتاجون. ومصارف الزكاة أيضا مثل ذلك على ما سوف يأتي شرحه في سياق الآية [٦٠] من هذه السورة.
ويسوغ القول قياسا على ذلك أن مورد الجزية يصرف بدوره على المجموعتين.
والله أعلم. ولقد عدّ الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام الجزية من الفيء «١». وفي هذا تأييد لما نقول.
والمتبادر أن تقرير مبدأ الصلح مع المحاربين الكفار على الجزية قد انطوى على تبرير غاية الجهاد الإسلامي وهي إخضاع المحارب وخضد شوكته حتى لا يكون قادرا على الإخلال بأمن المسلمين ومصالحهم وحريتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها. ونصّ الآية الأولى يلهم بقوة أنه ليس للسلطان الإسلامي أن يمتنع عن المصالحة على الجزية في حالة قهر المحارب وخضوعه واستسلامه وإعلان رغبته في الصلح واستعداده لأداء الجزية. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة أيضا.
فالقتال شرّع لدفع العدوان والمقابلة من جهة وتأمين حرية الدعوة وأمن المسلمين ومصلحتهم وكرامتهم واحترام دينهم من جهة أخرى. فإذا ما أعلن المحارب خضوعه للسلطان الإسلامي وأصبح المسلمون في أمن على حريتهم ومصلحتهم وحرية الدعوة إلى دينهم واحترام دينهم دون أي عثرة ومناقضة فيكون المقصد قد حصل ولم يبق ما يسوغ تجاوزه. وآيات الأنفال هذه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) صريحة في ذلك على ما شرحناه في سياق تفسيرها.
ولقد روى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حديثا عن النبي ﷺ جاء فيه «إنّكم لعلّكم تقاتلون قوما فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ويصالحونكم على صلح. فلا تأخذوا منهم فوق ذلك فإنّه لا يحلّ لكم» «٢» حيث يفيد أن إجابة المسلمين لطلب الصلح من المحارب على الجزية أمر واجب وطبيعي فضلا عن ما
(١) كتاب الأموال ص ١٨.
(٢) المصدر نفسه ص ١٤٣.
414
يفيده الحديث من حظر الطمع في أموالهم وابتزاز شيء منها فوق ما صالحوا عليه.
ومن باب أولى أن يقال إن العدو إذا جنح للسلم بدون حرب على شرط الخضوع وأداء الجزية وجب مقابلته بالجنوح إليها. وقد صالح النبي ﷺ طوائف عديدة على الجزية بدون حرب حينما طلبوا ذلك، منهم نصارى نجران والمعافر وأكيدر دومة ويهود فدك وتيما والجربا ويوحنه بن رؤبة ملك أيلة ويهود بني جنبه والغريض وبني عاديا والمقنا وأذرح «١».
وقد يرد سؤال وهو هل يصح لولي أمر المسلمين أن يعقد صلحا مع عدو غير مسلم أو غير كتابي بدون جزية؟ فجوابا على هذا السؤال نقول: إن النبي ﷺ عقد صلحا بدون جزية مع أعداء محاربين وهو صلح الحديبية مع قريش. وفي آيات الأنفال [٦١، ٦٢] إجازة بالجنوح إلى السلم إذا جنح لها العدو. وليس هناك قرينة على أن ذلك كان منوطا بالجزية. وقد يصح أن يقال إن الآية [٢٩] التي نحن في صددها قد نزلت بعد ذلك. وإن المعقول أن يكون الأخير ناسخا أو معدلا للأول. غير أن المتبادر لنا أن روح آيات الأنفال وفحواها وسياقها تلهم أنها تشريع مستمر التلقين لاتساقه مع ظروف الحياة وطبائع الأمور. فهناك احتمالات دائمة لقيام ظروف لا تسمح للمسلمين بالاستمرار في قتال عدوهم إلى أن يخضع ويعطي الجزية. فمن الحقّ أن يستلهم ولي أمر المسلمين هذه الآيات في مثل هذه الظروف فيقابل جنوح العدو إلى السلم بالمثل ولو كان بدون جزية.
والله تعالى أعلم.
ومع أن اعتقاد اليهود ببنوة العزير غير شائع الآن فإن نصّ الآية الثانية أي [٣٠] يدل دلالة قاطعة على أن اليهود أو بعضهم في عهد النبي ﷺ كانوا يقولون بذلك. ولقد روى الطبري روايتين في ذلك. واحدة تذكر أن يهوديا اسمه فنحاص قال ذلك في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرى تذكر أن جماعة من اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم
(١) انظر التاج ج ٤ ص ٣٤٩ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٤١- ٥٦ وج ٣ ص ١٥٢- ١٦٣ و ٢١٨- ٢٢١ وفتوح البلدان ص ٤١ و ٤٢ والخراج لأبي يوسف ص ٤٠ وما بعدها.
415
كيف تريد أن نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزرا ابن الله. ثم روى الطبري عن ابن عباس رواية تذكر أن اليهود لما أهملوا أوامر الله وشرائعه نسخ التوراة من صدورهم ورفع التابوت من بينهم. وكان عزرا حبرا صالحا فصلّى وابتهل إلى الله حتى استجاب إليه وأعاد إلى صدره التوراة فبشر بذلك قومه وأخذ يمليها عليهم ثم أعاد الله التابوت. فقالوا ما فعل الله له هذا إلّا لأنه ابنه. وروى الطبري رواية أخرى عن السدي مختلفة عن رواية ابن عباس في التفصيل متفقة في الجوهر. وبين أسفار العهد القديم سفر باسم سفر عزرا ليس فيه شيء من ذلك وإنما نعت عزرا فيه بأنه كاتب ماهر في توراة موسى وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الربّ. وكان يعمل ويعلم في إسرائيل بالرسوم والأحكام. وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الروايات المروية عن ابن عباس والسدي مصدرها يهود المدينة وأنها كانت في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا. كما أن مما لا شك فيه أن قول اليهود كان يمثل واقعا مسموعا. وحكاية القرآن شاهد حاسم على ذلك.
وفي صدد جملة يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ روى الطبري عن أهل التأويل روايات عديدة. منها أنها للنصارى فقط. وفي مقام تقرير كونهم في قولهم إن المسيح ابن الله يشبهون اليهود الذين كفروا قبلهم وقالوا العزير ابن الله. ومنها أنها لليهود والنصارى معا في مقام تقرير كونهم في قولهم إن العزير ابن الله والمسيح ابن الله يشبهون الكفار من العرب وغيرهم الذين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله ويستشفون بهم لديه. ولو كان سند وثيق لكون عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله سابقة لعقيدتي اليهود والنصارى ببنوة العزير والمسيح لكان هذا وجيها. إلا أن يقال إن الجملة قد تعني ظروف نزولها حيث كان اليهود والنصارى في عصر النبي ﷺ يقولون ذلك استمرارا للسابق. على أن اعتقاد الأمم التي كانت أقدم من عهود اليهودية والنصرانية بأنه كان للآلهة زوجات وأولاد من الحقائق التاريخية المعروفة حيث ثبت من الآثار المنقوشة أن أهل اليمن والعراق والشام ومصر واليونان القدماء كانوا يعتقدون بذلك. ونعتقد أن ذلك مما كان معروفا في عصر النبي وبيئته. والراجح أن مصدر ذلك اليهود والنصارى والله أعلم.
416
ولقد روى الطبري في سياق تفسير جملة اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ حديثا عن عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول الله ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة فقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فقلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم» «١». وروى الطبري إلى هذا أقوالا معزوة إلى حذيفة وأبي البختري وابن عباس من هذا الباب أيضا. وعلى كل حال فإن الفقرة تتضمن تقريرا لواقع مشاهد بكون عامة اليهود والنصارى في عهد النبي ﷺ استمرارا لما قبله قد خضعوا لتأثير وسلطان أحبارهم ورهبانهم حتى صاروا كأنما هم قد اتخذوهم أربابا من دون الله يحرّمون ما يحرّمون ويحلّلون ما يحلّلون ويفعلون ما يأمرون به ولو كان مخالفا للشرائع المسجلة في كتبهم والمبلّغة عن أنبيائهم.
والآية [٣٣] وإن كانت تضمنت حكاية لمواقف اليهود والنصارى عامة من رسالة النبي محمد ﷺ بسبيل إطفاء نور الله الذي جاء به بأفواههم فإن في الفقرة الأولى من الآية [٣٤] أي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ما يمكن أن يفيد أن تلك المواقف إنما كانت بتأثير الأحبار والرهبان على عامة بني ملتهم. وفي ذلك صورة من صور اتخاذ عامة اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله إلّا من استطاع أن يفلت من هذا التأثير ويهتدي بهدي الله وينضوي إلى دعوة رسوله.
(١) روى الترمذي حديثا قريبا لهذا عن عدي نصّه «أتيت النبي ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وقال أما إنهم لم يعبدوهم ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه» التاج ج ٤ ص ١١٥.
417
وقد تكون جملة لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ مفسّرة لمواقف الأحبار والرهبان المناوئة للدعوة الإسلامية والصادرة لعامة اليهود والنصارى عن الانضواء إلى الإسلام حيث كانوا يستولون من بني ملتهم على أموال كثيرة بأساليب باطلة غير مشروعة وقد يكون ذلك بصورة رشاوى على تحليل الحرام وتحريم الحلال وبصورة نذور للأديرة والكنائس لا يلبثون أن يستحلوها لأنفسهم فكانوا يخشون ضياع هذه الموارد فضلا عن فقد ما كان لهم من جاه ونفوذ عظيمين. ولقد روى ابن هشام «١» عن ابن إسحق رواية لها مغزى قوي مؤيد لما نقول مفادها أن وفد نصارى نجران لما قدم على رسول الله واستمعوا له قال أسقفهم أبو حارثة لأخيه: والله إنه للنبي الذي كنّا ننتظر، فقال له أخوه وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرّفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه فلو فعلت نزعوا منّا كل ما ترى.
ولقد كانت النصرانية سائدة في بلاد الشام والعراق ومصر فأخذ عامة النصارى يقبلون على الإسلام حتى شمل أكثريتهم الساحقة. وقد شاء بعضهم الاحتفاظ بدينه فكان له ما شاء. وظل هؤلاء منثورين أسرا منفردة وسط كتل إسلامية كثيفة في ظل سلطان المسلمين القوي. والذي نعتقده أن كثيرا من هؤلاء إن لم يكن أكثرهم هم من الرهبان والقسيسين الذين كانت الأديرة والكنائس وأملاكها وإيرادها مأكلة لهم فكان ذلك مما جعلهم يشذون عن الأكثرية الساحقة.
وفي جملة لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في حدّ ذاتها توكيد للنهي المتكرر في سور سابقة عن أكل الناس أموال بعضهم بالباطل وعن الصدّ عن سبيل الله وتعطيل شرائعه والتمرد على رسالاته كمبدأ من مبادئ الرسالة الإسلامية. وتوكيد للتنديد والإنذار اللذين انطويا في الآيات التي احتوت ذلك مما فيه توكيد للتلقين القرآني المستمر في هذا الأمر. وفي نسبة ذلك إلى الأحبار والرهبان بخاصة تشديد للتلقين من حيث كون صدور ذلك من رجال الدين ورؤساء الملّة الذين يجب أن يكونوا قدوة في الصلاح والتقوى أشد جرما وإثما عند الله تعالى.
(١) ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤- ٢٠٥. [.....]
418
والآيتان [٣٢ و ٣٣] قد وردتا بأسلوب مقارب لما ورد في سورة الصف في سياق آيات ذكر السامعون فيها بمواقف اليهود الإزعاجية والمؤذية من موسى وعيسى عليهما السلام مع فارق واحد هو أن ذلك التذكير كان للعرب والتنديد كان بهم على الراجح في حين أنهما هنا في صدد الكتابيين مباشرة. وواضح أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارهما لمرة الثانية لبيان سوء مقاصد ونوايا ومواقف الكتابيين.
والتنديد بهم والردّ عليهم بأن الله محبط لمكائدهم وبأنه يأبى إلّا أن يتم نوره ولو كرهوا. وبالطبع إنهما في حدّ ذاتهما قد احتوتا ذلك المعنى القوي الرائع الذي نوهنا به في تفسير سورة الصف بعموم الدين الإسلامي والتطمين الذي يبعث الثقة التامة في نفوس المسلمين بأن دينهم الذي ارتضاه الله لهم سيكون هو الدين الظاهر على سائر الأديان. فهو نور الله الذي لن يقدر أحد على إطفائه مهما حاول ومهما ظنّ نفسه قادرا على ذلك. وهو دين الحق الذي وعد الله تعالى بأن يظهره على الدين كلّه. ولو كره المشركون والكافرون. وسورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت الإيحاء بالآيتين لتكونا توكيدا حاسما وجديدا لوعد الله عزّ وجلّ في أواخر حياة الرسول وأواخر ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من القرآن. ولن يخلف الله وعده.
ولقد شرحنا مدى الآيتين في سياق تفسير سورة الصف. فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة.
تعليق خاص على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ والآية التالية لها وما ورد في صدد كنز الفضة والذهب وأداء الزكاة من أحاديث وأقوال وما انطوى في ذلك من صور وتلقين وتمحيص ما روي من تأخر فرض الزكاة واستطراد إلى حركة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
وأسلوب الفقرة الثانية من الآية الأولى أي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
419
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
عام كما هو ظاهر. غير أن وصف الرهبان والأحبار بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله في الفقرة الأولى من الآية قد يكون قرينة على أن الفقرة الثانية تعنيهم بالدرجة الأولى. فأكلهم أموال الناس بالباطل كان يؤدي إلى اكتنازهم الذهب والفضة.
وصدّهم عن سبيل الله كان لاستبقاء الوسيلة إلى الاكتناز في يدهم وبذلك تكون الآية محكمة التنديد والإلزام ويكون الإنذار الرهيب المذكور فيها وفي الآية التالية لها موجها إليهم بالدرجة الأولى.
على أن أسلوبها العام يسوغ القول أنها احتوت في الوقت نفسه توجيها وإنذارا عامين على سبيل الاستطراد إلى كلّ من يكتنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود في الآية هم أهل الكتاب ولكنها في الوقت نفسه عامة وخاصة أي فيهم وفي المسلمين معا. وهذا متطابق مع ما قررناه آنفا.
ولقد روى المفسرون «١» أحاديث عديدة نبوية وصحابية في صدد ومعنى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي إباحة اكتناز المال وذمّه فقد روى أبو داود والحاكم ومالك عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «ما بلغ أن تؤدّى زكاته فزكّي فليس بكنز وفي رواية ما أدّي زكاته فليس بكنز» «٢». وقد أخرج الترمذي والحاكم حديثا آخر عن أبي هريرة مرفوعا جاء فيه: «إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك» «٣». وروي عن ابن عمر أن الكنز هو كل مال لا تؤدى زكاته ولو كان غير مدفون وإن قلّ وأن كلّ مال تؤدى زكاته ليس كنزا ولو كان مدفونا وإن كثر. وروي مثل هذا عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر كذلك قوله لا أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه. وروي عن
(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. والنصوص التي ننقلها هي من الطبري والبغوي وابن كثير.
(٢) التاج ج ٢ ص ٦.
(٣) تفسير القاسمي.
420
النبي ﷺ حديث جاء فيه نعم المال الصالح للعبد الصالح. وحديث آخر أنه لما نزلت الآية كبر ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا فذكر عمر ذلك لرسول الله وقال له إن هذه الآية قد كبرت على أصحابك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم. فكبّر عمر. فقال له رسول الله ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرّته. وإذا أمرها أطاعته. وإذا غاب عنها حفظته».
فهذه الأحاديث تفيد كما هو واضح أنه لا حرج من حيازة المال ولو كثر إذا أديت زكاته وأن الإنذار هو للذين لا يؤدون زكاة أموالهم. وأن معنى وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يؤدون الزكاة عنها التي جعلت للإنفاق على سبيل الله.
ولقد روى المفسرون «١» في سياق تفسير الآية أحاديث نبوية رهيبة الإنذار للذين لا يؤدون زكاة أموالهم منها حديث رواه أبو هريرة جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميه- أي شدقيه- ثم يقول أنا مالك. أنا كنزك» «٢». ومنها حديث آخر عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره. كلّ ما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار.
قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال ولا صاحب إبل لا يؤدّي منها حقّها، ومن حقّها حلبها يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي. ومعظم ما نورده من نصوص وارد في تفسير الطبري.
(٢) روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر التاج ج ٢ ص ٧.
421
إلى الجنة وإمّا إلى النار. قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم. قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلّ ما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار» «١». حيث يبدو من هذه الأحاديث الاهتمام العظيم الذي كان رسول الله ﷺ يوليه لإيتاء الزكاة اتساقا مع القرآن الذي يوليها مثل ذلك بكثرة ترديدها والتوكيد على إيتائها والتنويه بفاعليها واعتبارها دليلا لا بدّ منه على صدق إيمان المسلم. ولا غرو فهي دعامة التضامن الاجتماعي والسلطان الإسلامي في آن واحد على ما شرحناه في المناسبات العديدة السابقة.
وإلى جانب الأحاديث الواردة في معنى الكنز وإباحة الاكتناز إذا أديت زكاته روى المفسرون أحاديث فيها تحديد للحدّ الأعلى الذي يكون ما فوقه كنز يحق على صاحبه الإنذار وفيها ذم لاكتناز المال والذهب والفضة إطلاقا. فقد روي عن علي بن أبي طالب قوله إن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم سواء أديت زكاته أم لم تؤد وما دون ذلك نفقة لا حرج في حيازته. وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن علي بن أبي طالب جاء فيه: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبّا للذهب، تبّا للفضة ثلاث مرات. فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله فقالوا فأي مال نتخذ فقال عمر أنا أعلم لكم ذلك ثم أتى رسول الله فقال يا رسول الله إن أصحابك قد شقّ عليهم. قالوا أي المال نتخذ فقال رسول الله:
لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعين أحدكم على دينه»
«٢».
والحديث قد يفيد أن أصحاب رسول الله فهموا أن المذموم هو نوع المال أي
(١) روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. انظر التاج ج ٢ ص ٦- ٧.
(٢) روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة «لما نزلت الآية قال بعض أصحاب رسول الله يا رسول الله أنزل في الذهب والفضة ما أنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه» انظر التاج ج ٤ ص ١١٦.
422
عين الذهب والفضة لا جنس المال فكان جواب رسول الله ﷺ منبها إلى أن المذموم هو الجنس على ما هو المتبادر. وفي الحديث الطويل الذي أوردناه آنفا صراحة أكثر لأنه شمل الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. وقد روى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة. وروى معه عن ثوبان حديثا جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ من ترك بعده كنزا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول ويلك ما أنت؟ فيقول أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده» «١». وروي عن أبي سعيد حديث جاء فيه:
«قال رسول الله ﷺ الق الله فقيرا ولا تلقه غنيّا. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال ما سئلت لا تمنع ما رزقت لا تخبأ. قال يا رسول الله كيف لي بذلك قال هو ذاك وإلّا فالنار». وروي عن قتادة «أنّ رجلا من أهل الصفّة مات فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله «كيّة» ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال كيّتان».
وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في ذمّ المال والاكتناز والتحذير من فتنتهما. منها حديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي ﷺ قال: «إنّ لكلّ أمة فتنة وفتنة أمتي المال» «٢» وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبيّ قال:
«لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا» «٣». وحديث رواه البخاري عن أبي ذرّ عن النبيّ ﷺ قال: «إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» «٤». وحديث رواه مسلم والترمذي عن مطرّف عن أبيه قال: «انتهى إلى النبيّ ﷺ وهو يقول ألهاكم التكاثر.
قال يقول ابن آدم مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت»
«٥». وحديث رواه أبو داود عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(١) أوردنا قبل حديثا رواه الشيخان عن أبي هريرة صيغته مقاربة لهذه الصيغة مع فارق مهم هو أن الوعيد لمن لا يؤدي زكاة كنزه.
(٢) التاج ج ٥ ص ١٤٧- ١٥٩.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
423
قال: «أما إن كلّ بناء وبال على صاحبه إلّا ما لا، إلّا ما لا، يعني ما لا بدّ منه» «١». وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «تعس عبد الدينار والدّرهم والقطيفة والخميصة. إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» «٢».
وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقنّعه الله» «٣». وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ قال: «اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. فقالت عائشة لم يا رسول الله؟ قال إنّهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا» «٤». وحديث رواه الترمذي عن عائشة عن رسول الله قال: «يا عائشة إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب. وإيّاك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه» «٥». وحديث رواه الترمذي عن عثمان عن النبي ﷺ قال: «ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء» «٦». وحديث رواه الترمذي عن عبيد الله بن محصن عن أبيه عن النبيّ ﷺ قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا» «٧». وحديث رواه الترمذي عن أبي أمامه عن النبيّ ﷺ قال: «إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ. ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربّه، وأطاعه في السرّ، وكان غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نفض يده فقال عجّلت منيّته. قلّت بواكيه قلّ تراثه» «٨». وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبيّ ﷺ قال: «إنّ هذا المال
(١) التاج ج ٥ ص ١٤٧- ١٥٩.
(٢) المصدر نفسه. [.....]
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه.
(٧) المصدر نفسه.
(٨) المصدر نفسه.
424
حلو من أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنعم المعونة هو. ومن أخذه بغير حقّه كان كالذي يأكل ولا يشبع» «١». وحديث رواه البغوي عن أبي ذرّ قال: «انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو جالس في ظلّ الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون وربّ الكعبة. فجئت حتى جلست فلم أتقارّ أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم فقال الأكثرون أموالا إلّا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم». وروي عن أبي ذرّ أنه كان يقول من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة. ولقد روي عن زيد بن وهب قال: «مررت على أبي ذرّ بالربذة- وهي قرية من قرى المدينة- فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنّا بالشام فقرأت: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ... فقال معاوية ما هذه فينا ما هذه إلّا في أهل الكتاب. فقلت إنها لفينا وفيهم فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقبل إليه فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنحّ قريبا قلت والله لن أدع ما كنت أقول» «٢». ويروي الطبري في تاريخه بعض مواقف أبي ذرّ من هذا الباب
(١) التاج ج ٥ ص ١٤٧- ١٥٩.
(٢) روى هذا الطبري وروى البخاري شطرا من هذا الحديث وهو هذا عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت ما أنزلك بهذه الأرض قال كنا بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ... الآية قال معاوية ما هذه فينا ما هي إلا في أهل الكتاب قلت إنها لفينا وفيهم. وقال ابن عمر هذا قبل الزكاة. فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال) التاج ج ٤ ص ١١٦ ونقول استطرادا إن كلام ابن عمر يوهم أن الزكاة فرضت بعد هذه الآية. وهناك من قال إن آية الزكاة نسخت هذه الآية وإن الزكاة فرضت في السنة التاسعة.
وقال القاسمي الذي أورد هذا إن ابن كثير جزم بذلك في تاريخه. وإن بعضهم قواه بسبب كون آية الصدقات في هذه السورة قد نزلت بعد هذه الآية. والمقصود من آية الزكاة وآية الصدقات هو هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠).
وهذا القول غريب من نواح عديدة. فالزكاة ذكرت في سور مكيّة مبكرة ثم ظلت تذكر متلازمة مع الصلاة في السور المكيّة ثم في السور المدنيّة بأسلوب يفيد بكل قوة أنها كانت مفروضة وممارسة في العهد المكي. وهناك آيات مكيّة قوية الدلالة على أن مقدارها كان معينا وكان المسلمون يؤدونه مثل آيات سورة المعارج هذه وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وآية الصدقات أو الزكاة المذكورة ليست في صدد فرض الزكاة وإنما هي في صدد ذكر المصارف التي تصرف فيها. بل إن أسلوبها لا يدل على أن هذه المصارف تعين تعيينا جديدا. وإنما هو في صدد تقرير ذلك كأنما هو المعروف الذي يجب أن يوقف عنده. والرقاب ورد ذكرها في معرض ما يجب الإنفاق عليه في آية سورة البقرة [١٧٧] وليس في القرآن والحديث ما يفيد أن الزكاة فرضت في العهد المدني فضلا عن أواخره. ونحن نجل ابن عمر رضي الله عنه عن أن يجهل ذلك. ولذلك فإما أن يكون كلامه نقل محرفا أو أن المقصود منه هو أن الآية في حق الذين لم يؤتوا الزكاة، وأن الزكاة جعلت طهرا للأموال. وهذا هو ما جاء في الحديث النبوي المروي سابقا والله أعلم.
425
ويقول إن الفقراء ولعوا بما كان أبو ذر يقوله وصاروا يوجبونه على الأغنياء، حتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس فكان ذلك مما جعل عثمان يستدعي أبا ذرّ مع الرفق به. ومما رواه أن عثمان قال لأبي ذرّ ما لأهل الشام يشكون منك؟ فقال لا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا فقال عثمان عليّ أن أقضي ما عليّ وآخذ ما على الرعية ولا أجبرهم على الزهد ولا أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد «١».
وقد عقب المفسّر ابن كثير على حديث أبي ذرّ بقوله: «كان من مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين وأن يأخذه إليه فاستقدمه وأنزله بالربذة. ومما رواه هذا المفسر أن معاوية أراد أن يختبره فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يوميه ثم بعث الذي أتاه بها ليقول له إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال له ويحك إنها خرجت. ولكن إذا جاء ما لي حاسبناك به.
ولقد عقب الطبري على هذه الأحاديث والأقوال قائلا وأولى الأقوال بالصحة هو أن كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز يحرّم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب وإن قلّ إذا كان مما تجب فيه الزكاة. وعقب
(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٣٥.
426
البغوي قائلا إن القول الأول هو الأصح لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال. وقد علّق النيسابوري والزمخشري والخازن والنسفي والطبري تعليقات مماثلة أيضا. وقد يكون هذا هو المتسق مع طبائع النفوس والأمور. فليس من ذلك أن يطلب من كل الناس أن لا يحتازوا مالا أو أن ينفقوا ما يحتازونه دون أن يدخروه أو ينفقوا معظمه. وكل ما يتسق مع ذلك هو أن يطلب منهم أداء ما فرضه الله عليهم من حقّ. وقد يكون الهدي النبوي في الأحاديث التي ذكر فيها «أن المال الذي يؤدي زكاته ليس كنزا. وأن نعم المال الصالح للعبد الصالح. وأن الله إنما فرض الزكاة ليطيّب بها ما بقي عند الناس من أموال. وأن المال الذي يفعل به الخير نعم المعونة هو» هو الاتساق مع طبائع الأمور والنفوس في شأن ليس محرما تحريما باتا. ويمكن أن يضاف إلى هذا أن الهدي القرآني لا يمنع المسلمين من الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق إذا ما راعوا الاعتدال والقصد لأن ذلك هو المتسق مع تلك الطبائع. غير أن قوة الزجر في الآيتين اللتين نحن في صددهما والأحاديث العديدة الأخرى التي لا نرى تناقضا بينها وبين هذا الاتساق الذي يراعيه هدي القرآن والنبي معا تسوغ القول أنها تنطوي في الوقت نفسه على تلقين قوي بشجب اكتناز المال والتكالب عليه وحبسه عن سبيل الله ومصالح المسلمين ومحتاجيهم وعمل الخير حتى ولو كان ما احتازوه بطرق مشروعة ولو أدوا القدر الزهيد المفروض عليها زكاة. ومن الجدير بالذكر والتأمل:
أولا: إن القليلين من الأغنياء هم الذين يؤدون الزكاة بحقها. أما الأكثر فإما أنهم لا يؤدونها بالمرة وإما أنهم يؤدون قدرا أقل من المستحق عليهم. ومعنى هذا أن أكثر الأغنياء هم موضوع الإنذار الرهيب الذي تضمنته الآيات من جهة. وقد فقدوا التكأة التي تجعل حيازتهم للكنوز سائغة على ضوء بعض الأحاديث من جهة أخرى ونعني بها إعطاء الزكاة كاملة عنها.
وثانيا: إن كثرة الثروة في أيدي الأفراد مؤدية في الأعمّ الأغلب كما هو مشهود دائما في أيامنا بنوع خاص إلى التبذير والإسراف والفسق والفجور والبغي
427
والاستعلاء على الفقراء المحرومين وهو المستنكر المندد به والمنهي عنه في آيات وأحاديث كثيرة على ما نبهنا عليه، أوردنا نصوصه في سور سبق تفسيرها مما يجعل التلقين القرآني واللغوي أشدّ لزاما واستحكاما.
وثالثا: إن سبيل الله الذي أنذرت الآيات الذين لا ينفقون أموالهم فيها ذلك الإنذار الرهيب هي الدعوة الإسلامية نفسها التي من نطاقها نشر الدعوة وحمايتها والدفاع عنها وحماية الإسلام والمسلمين من البغي والعدوان. وتوفير الكرامة والعزة والحرية لهما على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المزمل. وكل هذا من مهام السلطان وأولي أمر المسلمين.
وبناء على ذلك كلّه يسوغ القول إن لأولياء أمر المسلمين أن يعالجوا أمر استقطاب الثروة في جانب واستقطاب الفقر والعوز في جانب وتعديل الفروق بأساليب متنوعة تضمن منع الأفراد عن التبذير والسّفه والاستعلاء مع عدم الإجحاف بحق الحيازة المعتدلة وحاجات الحياة المشروعة من جهة وسدّ حاجة سبيل الله ووجوه الخير ومساعدة المحتاجين من جهة أخرى. ولعلّ الفاروق رضي الله عنه حينما قال كلمته المشهورة «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء وفرقتها على الفقراء» «١» كان يستوحي من هذا التلقين القرآني والنبوي. والله تعالى أعلم.
ومن الجدير بالذكر أن آيات التوبة التي نحن في صددها ليست هي الوحيدة في بابها. فإن الآيات التي تندد بحبّ المال حبّا جمّا والتكاثر فيه والبخل به عن سبيل الله والمحتاجين وبالذين ينهجون هذا المنهج وتنذرهم قد تكررت كثيرا في سور عديدة مكيّة ومدنيّة. وكل ما في الأمر أن أسلوب آيات التوبة قد جاء على أشدّ ما يكون زجرا وإنذارا حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في أواخر ما نزل من القرآن ليظلّ شديدا على الأسماع والأذهان والله أعلم.
(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٩١.
428

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
. (١) النسيء: من الإنساء وهو التأجيل. والتعبير اصطلاح على تقليد جاهلي لتبديل أعيان الأشهر المحرمة بالتقديم والتأخير.
تعليق على الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً والآية التي بعدها وما ورد في صددهما من روايات وما انطوى فيهما من صور ودلالات وتلقين وأحكام
المستلهم من روح الآيتين وفحواهما أنهما بسبيل التنبيه على حرمة الأشهر الحرم بأعيانها وأعدادها معا. والتنديد بالنسيء الذي يؤدي إلى الإخلال بحرمة أعيانها مع محافظته على أعدادها. وأسلوب الآيتين تقريريّ يتضمن تقرير ما يلي:
إن الله قد جعل للزمن منذ خلق السموات والأرض دورة تتجدد كل سنة.
وجعل في كل سنة اثنتي عشرة دورة ثانية متجددة تظهر في مشاهد القمر وهي الشهور. ومن هذه الشهور أربعة محرّمة بأعيانها. وهذا هو الحق القويم ويجب على المسلمين مراعاته وعدم ظلم أنفسهم بفعل ما يخلّ به وفي عادة النسيء الذي سار عليها العرب في الجاهلية إخلال به. وفي سير الكفار عليه زيادة في الكفر لأنه وإن كان فيه رعاية للعدد فإن فيه تحليلا لأشهر حرّمها الله بأعيانها وتحريما لأشهر أحلّها الله بأعيانها والاكتفاء بالمحافظة على العدد وحسب، مع أن الواجب أن
429
ترعى حرمة العين كما ترعى حرمة العدد. وهذا مما زيّن للكافرين من عاداتهم السيئة فلا يجوز للمسلمين أن يتبعوه.
وقد جاء في الفقرة الأخيرة من الآية الأولى حثّ للمسلمين على قتال المشركين كافة ومجتمعين ومتضامنين كما يقاتلهم المشركون كذلك. وتطمين لهم بأن الله تعالى مع المتقين لحرماته يؤيدهم وينصرهم.
ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في سبب نزول الآيتين اللتين تبدوان في الظاهر أن لا صلة لهما بما قبلهما ولا بما بعدهما. وكل ما قاله الطبري أن فيهما حثّا للمسلمين على قتال المشركين جميعا متفقين ومؤتلفين وغير متفرقين كما يفعلون هم ذلك. ولم يذكر تأويلا لسبب ذكر عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء. وقال البغوي وابن كثير إن جملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً هي في صدد تبرير حصار النبي ﷺ والمسلمين للطائف في شهر ذي القعدة المحرم استمرارا لما بدأ به في شوال. وحصار الطائف كان بعد قليل من فتح مكة ويوم حنين أي في السنة الثامنة على ما ذكرناه قبل. وهذه الآيات نزلت في سياق آيات أخرى بين يدي غزوة تبوك التي كانت بعد سنة تقريبا من ذلك. ولا تبدو حكمة من إقحام ذلك في هذا السياق. ولم يذكر المفسران بدورهما شيئا من أسباب وحكمة ذكر عدة الشهور والنسيء. وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا شيء مهم آخر في هذا الصدد.
ولقد ذكرت الروايات أن غزوة تبوك قد كانت في شهر رجب من العام الهجري التاسع «١». وذكرت كذلك أن وقفة الحجّ في الحجة التي حجّها أبو بكر رضي الله عنه في هذا العام بأمر النبي ﷺ ونيابة عنه كانت في شهر ذي القعدة بدلا من شهر ذي الحجة «٢» بناء على إعلان إنساء في العام السابق. حيث صار بهذا الإعلان الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية شوال وذا القعدة وذا الحجة بدلا من ذي
(١) انظر ابن سعد ج ٣ ص ٢١٨.
(٢) المصدر نفسه ص ٢٣٨.
430
القعدة وذي الحجة والمحرم وصارت الوقفة في ذي القعدة وصار المحرّم حلالا.
ونتيجة لذلك تغير رجب عن مكانه الصحيح وهو رابع الأشهر الحرم بسبب موسم ديني كان يقوم في الحجاز فيه وقد سمي لذلك رجب مضر على ما شرحناه في سياق تفسير سورة البقرة. فالذي يخطر بالبال أن النبي ﷺ لما استنفر الناس إلى غزوة تبوك وكان ذلك في رجب اعترض البعض على السير للقتال في هذا الشهر لأنه شهر محرم أو لاحظوا ذلك فنزلت الآيتان ليعلن بهما:
أولا: إن هذا الرجب ليس هو الرجب المحرّم الأصلي وإن مكان الرجب المحرم الأصلي هو جمادى الثانية. لأن رجب يأتي بعد المحرّم بستة أشهر. وقد صار ذو الحجة في هذا العام بديلا عن المحرم فصار رجب هذا العام غير الرجب الأصلي ويكون الرجب الأصلي هو جمادى الآخرة.
وثانيا: إن السير إلى غزوة تبوك في رجب هذا العام ليس فيه إحلال بحرمة شهر المحرم لأن رجب هذا العام ليس هو الشهر المحرم الأصلي.
وثالثا: إن تقليد النسيء باطل وكفر وضلال ولو أن فيه مواطأة لعدة الأشهر المحرمة لأن الحرمة ليست للعدة فقط بل هي لعين الأشهر أيضا. فإذا صح هذا ونرجو أن يكون صحيحا والشرح يقوي صحته ورجحانه على أي احتمال آخر، فتكون الآيتان قد نزلتا في المناسبة التي نزلت فيها الآيات السابقة واللاحقة ويكون السياق منسجما ومتلاحقا.
ولقد حجّ النبي ﷺ في العام الثاني لحجة أبي بكر أي في العام العاشر للهجرة. وكان ترتيب الأشهر الحرم قد عاد إلى أصله فكان مما قاله في خطبة الوداع «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «١». وهكذا حسم أمر وجوب الاحتفاظ
(١) روى هذا الحديث البخاري انظر التاج ج ٤ ص ١١٦، ١١٧. وروى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة أيضا.
431
بأعداد الأشهر الحرم وأعيانها وترتيبها دون أي إخلال.
وجملة: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً قد تبدو ولا صلة لها بالمناسبة. غير أن المتعّن في الآية [٣١] يكشف عن صلتها الوثيقة بها لأنها حكت نسبة اليهود عزيرا إلى الله بالبنوّة ونسبة النصارى المسيح إلى الله بالبنوّة واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في حين أنهم لم يؤمروا إلّا بعبادة إله واحد ونزّهت الله تعالى عما يشركون. وبهذا دخلوا في زمرة المشركين. وهكذا يطّرد الكلام ويستقيم ويتوثق الانسجام في السياق.
ولقد دأب المفسرون على وصف هذه الجملة بآية السيف مثل الآية [٥] من هذه السورة وظلوا يقررون أنها ناسخة لكل ما جاء في القرآن في صدد التساهل والتعاقد مع المشركين وقبول غير الإسلام منهم على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة. ولقد أدخلت الآية [٣١] النصارى واليهود- أهل الكتاب- في زمرة المشركين وأذنت بالكفّ عن الأعداء المحاربين منهم إذا رضخوا للمسلمين وأعطوهم الجزية. وهذا دليل قرآني على عدم نسخ الآية للآيات الأخرى فضلا عن كون ذلك غير متسق مع المبادئ القرآنية العامة ولا مع طبائع الأمور على ما شرحناه قبل قليل. وفي الجملة تفسير لمقصدها. فالأعداء المشركون- ومنهم المنحرفون من أهل الكتاب- يقاتلون المسلمين كافة ومجتمعين وبكل حماسة فيجب أن يكون قتال المسلمين لهم مثل ذلك. وفي الجملة والحالة هذه توكيد على المبادئ القرآنية العامة التي نبهنا عليها بدلا من كونها تنقضها وتنسخها! ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره «١» عن أهل التأويل في صدد جملة فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ. فهناك من صرفها إلى جميع الأشهر. وهناك من صرفها إلى الأشهر الحرم. وهناك من أول الظلم بالإثم والمنكر عامة. والذين صرفوها إلى الأشهر الحرم وصرفوا الظلم إلى الإثم والمنكر قالوا إن النهي هو بسبب كون الظلم فيها أشدّ إثما منه في غيرها. وهناك من صرف الظلم إلى
(١) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير. [.....]
432
الإخلال بحرمة الأشهر الحرم وعمل ما هو محرّم فيها مما هو غير محرّم في غيرها كالصيد والقتال أو تبديل أعيانها وجعل حلالها حراما وحرامها حلالا. وقد رجح الطبري قول من قال إنها في صدد الأشهر الحرم وتنظيم حرمتها وعدم استحلال حرامها. وهو الصواب المتبادر من مقام الجملة وروحها. والله أعلم.
والنسيء تقليد جاهلي متصل بحرمة الأشهر الحرم. ويظهر من فحوى الآية وروحها أنه بدعة ابتدعت فيما بعد. ومما روي «١» عن ذلك أنه كان يتولى إعلان النسيء زعيم بيت معين من بيوتات العرب يوم الحج الأكبر إذا رأى ذلك مناسبا أو طلب منه الناس فيعلن مثلا بأن يكون شهر شوال القادم حراما فيصبح شهر المحرم حلالا ويتغير موعد الحج فتكون الوقفة في شهر ذي القعدة بدلا من ذي الحجة.
ويكون ذو الحجة بديلا عن المحرم. ثم يعلن في سنة ثانية بأن يعود المحرم محرما فتعود الأشهر الحرم إلى ترتيبها أو يعلن أن صفر العام القابل محرما فيصير بدء الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية ذا الحجة وتكون الوقفة في شهر المحرم. وقد روي أن صاحب النسيء في زمن النبي ﷺ كان أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني حيث كان يوافي الموسم فينادي يوم الحج الأكبر فيقول: ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يخاب فيقال له نعم فيعلن تقديم الأشهر الحرم أو تأخيرها شهرا. ويروى أن أبا ثمامة ورث المهمة عن أبيه أمية. وهذا عن أبيه قلع وهذا عن أبيه عبّاد وهذا عن أبيه حذيفة الذي كان أول من تولّى مهمة إعلان النسيء. ومما يروى أن العرب كانوا يطلبون من صاحب النسيء إعلان ذلك ليتمكنوا من متابعة حرب تعطلت بدخول الأشهر الحرم دون انتظار طويل. ويروى إلى هذا ما يفيد أن هذا التقليد قد ابتدع لموازنة الفصول حيث كان من شأن السير في حساب أشهر السنة على حساب القمر أن تتبدل مواعيد الحج وتدور على الفصول فكان يراد بالنسيء إبقاؤه في موسم أو فصل واحد. ونحن نميل إلى ترجيح كون الأصل في النسيء هو الرواية الأخيرة لأنها متسقة مع طبائع الأشياء كما أن من الممكن الاستدلال على رجحانه
(١) انظر لأجل هذه النبذة تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج ٥ ص ٢٣٤ وما بعدها.
433
بأسماء الأشهر نفسها. ففي أسماء الأشهر العربية المستعملة دلالات على الفصول وموسم الحج معا مثل ذي الحجة وربيع الأول وربيع الثاني ورمضان. وأسماء الأشهر المتداولة الآن مبدلة عن أسماء سابقة حيث كانت الأسماء هكذا: المؤتمر بدلا من المحرم ثم ناجر وخوات ومصان وحنتم ورباء والأصم وعاذل ونافق وغل وهواع وبرك. وهناك روايات فيها أسماء بدلا من أسماء. وفي تسمية رمضان دلالة على شدة الحرارة لأنها من الرمضاء على ما هو متفق عليه عند علماء اللغة. ويعقبه شوال وهو ليس محرما ثم تأتي الأشهر المحرمة الثلاثة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهي أشهر الحج. فمن المحتمل أن يكون تقليد الأشهر الحرم للحج قد ضعف لسبب ما، ثم جاءت ظروف قضت تقويته وتجديده. وربما كان ذلك لاتجاه أنظار العرب إلى الكعبة في الظرف الذي غزا الأحباش فيه اليمن وقوّضوا السلطان العربي عنها وسيطروا عليها. وكان الرومان مسيطرين على بلاد الشام وعربها والفرس مسيطرين على بلاد العراق وعربها. وكانت الحجاز وحدها تحتفظ باستقلالها. وربما كان ذلك في آخر صيف وكان رمضان يصادف شهر آب وشوال يصادف شهر أيلول فصارت أشهر الحج الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم مصادفة لأشهر تشرين أول وتشرين ثاني وكانون أول وهي أشهر معتدلة الطقس يمكن السير فيها في جزيرة العرب بسهولة ويسر. فلما أخذت الفصول تتبدل لأنها تابعة لدورة الشمس ورأى العرب أن أشهر الحج صارت تصادف موسم البرد الشديد أو الحرّ الشديد ابتدعوا تقليد النسيء وصاروا في كل بضع سنين يقدمون وقت الأشهر المحرمة شهرا أو يؤخرونه شهرا حتى تظل أشهر الحج تأتي في موسم معتدل الطقس. ولما كانت اللغة الفصحى قد صارت كذلك قبل البعثة النبوية بمائة وخمسين سنة أو نحوها ولما كانت أسماء الأشهر العربية هي من الفصحى فيمكن القول إن هذه البدعة ابتدعت من نحو مائة وخمسين سنة. وإذا صح ما روي أن حذيفة الكناني هو أول من قام بمهمة النسيء فيكون هذا التقدير في محله لأنه أعقبه إلى زمن النبي ﷺ أربعة أجيال.
ولا نريد أن ننفي بترجيحنا القول الثاني نفي القول الأول. فإن ما يحتمل
434
كثيرا أن يكون النسيء الذي جعل في أول أمره لموازنة الفصول قد أسيء استعماله مؤخرا فصار الناس يطلبونه لأغراض حربية وثأرية. ولعل هذا كان من أسباب إلغائه المباشرة فضلا عن حكمة أخرى تنطوي في الإلغاء وهي سدّ الباب أمام الجرأة على انتقاص الحرمات والتلاعب فيها. وهذا المعنى منطو في الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما. والله تعالى أعلم.
وتقليد الأشهر الحرم هو تقليد عربي خاص كما هو واضح في حين أن عدة الشهور اثْنا عَشَرَ شَهْراً هو ناموس كوني. ولهذا فالمتبادر أن تعبير مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ مرتبط بما بعده وليس بما قبله.
وكتب التفسير تذكر تعليلا لتسمية ذي القعدة بأنه الشهر الذي كان العرب الذين يعتزمون الحج يرتحلون فيه إلى مكة ويقعدون بسبيل ذلك على رواحلهم ولتسمية ذي الحجة بأنه الشهر الذي يتمّ فيه الحج. أما تسمية المحرم الذي لا تكون فيه مناسك حجّ فقد قالوا إنها بسبيل توكيد تحريم القتال فيه. لأنّ الشهر الذي ينصرف الحجاج فيه إلى منازلهم فيكون فيه مجال اللقاء والقتال. وفي التعليلات وجاهة ظاهرة. أما تسمية رجب وهو الشهر المحرم الرابع، فهي مشتقة من الترجيب وهو التعظيم على ما قالوه فينطوي فيها سبب أو مدى تحريمه كما هو المتبادر.
ولقد تعددت أقوال المؤولين في تأويل جملة ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فمنهم من قال إنها بمعنى الحساب الصحيح، أو الحقّ دون تبديل وتعديل بالنسيء.
ومنهم من قال إن معناها أن ذلك هو الأصل الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل.
وكلا القولين وجيه. والثاني متصل بما كان يتداوله العرب من إرجاع أصول الحج إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام على ما مرّ شرحه في مناسبات سابقة. وعلى كل حال فإن في الجملة إيذانا بأنّ هذا التقليد على وجهه المحدد هو من حيث الأصل من التقاليد الدينية الملهمة أو الموحاة من الله عزّ وجلّ. ويؤيد هذا جملة لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ وفي هذا توكيد لما قلناه في
435
المناسبات السابقة من أن العرب في الجاهلية كانوا يعتقدون أن تقاليد الحجّ هي تقاليد دينية موحاة من الله عزّ وجلّ ومن هنا استحكم فيهم التنديد.
والأشهر الحرم الثلاثة هي أشهر الحج. ويبدو أنها قدرت لتكون كافية لرحلة أي عربي من أي منزل وبلد إلى الحج وعودته إلى مأمنه. أما شهر رجب فيستفاد من الروايات أنه كان يقام في أثنائه موسم ديني في الحجاز. لا صلة له بموسم الحج ولعلّه موسم زيارة الكعبة المعروفة بالعمرة. وعند المسلمين تقليد أو اصطلاح (الزيارة الرجبية) ولعلّه متصل بذلك.
ويبدو من خلال الروايات ومن قصر المدة أنه كان موسما حجازيا لا يشترك فيه إلّا أهل الحجاز «١». والله أعلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
. (١) اثّاقلتم إلى الأرض: أثقلتم مقاعدكم في الأرض. والجملة كناية عن عدم المسارعة إلى الاستجابة إلى دعوة النفرة في سبيل الله ومقابلتها بالبطء والتثاقل.
(١) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج ٥ ص ٢٣٧- ٢٣٩.
436
(٢) خفافا وثقالا: قيل في تأويل اللفظين إنهما بمعنى حمل السلاح خفيفه وثقيله. وقيل إنهما بمعنى النفرة إلى سبيل الله مشاة وركبانا. أو شيوخا وشبانا. أو مع أسرهم وبدونها. أو سواء أكانوا مشاغيل أم لا. أو فقراء وأغنياء.
وعلى كل حال فالمراد بهما الاستجابة إلى النفرة في أي حال وإمكان وصورة وعدة.
في هذه الآيات:
١- تنديد وعتاب موجّه للمسلمين على تثاقلهم وعدم نشاطهم حينما يدعون إلى النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.
٢- وسؤال على سبيل الإنكار والعتب عمّا إذا كانوا قد رضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة مع أن مدة الحياة الدنيا ومتاعها بالنسبة للآخرة قليلة تافهة.
٣- وإنذار لهم بأنهم إذا لم ينفروا يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم.
ولغضبه واستغنائه عنهم واستبداله إياهم بغيرهم وهو القادر على كل شيء. ولن يضرّوه شيئا.
٤- وتذكير منطو على العتاب والتحدي: فإذا لم ينصروا النبي ويلبّوه فإن الله ناصره وكفى به نصيرا. وهو الذي نصره حينما اضطرّه الكفار إلى الخروج فخرج ليس معه إلّا صاحبه ولبثا في الغار. وقد ألمّ بصاحبه الخوف والحزن فهتف به لا تحزن إن الله معنا. وقد أنزل الله عليه سكينته وأيّده بجنود لم يرها أحد. ثم كان من أمره أن أظهره الله على جميع أعدائه حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى.
٥- وتعقيب على هذا كلّه بأمر المسلمين بالنفرة خفافا وثقالا على كل حال وبأي إمكان وصورة وبدون أي اعتذار وتعلّل وبالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله فذلك خير لهم لو كانوا يعلمون.
437
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها
والمفسرون «١» متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك.
ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية [٢٩] وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك.
وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق.
والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب.
ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا.
واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي ﷺ فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
(١) انظر الطبري والبغوي والنسفي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
438
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) «١». أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي ﷺ في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة.
والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.
إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين.
وغزوة تبوك التي قلنا إن المتفق عليه أن معظم هذه السورة نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي ﷺ وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي ﷺ بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين
(١) هناك آيات أخرى من هذا الباب أو قريبة منها في سور مرّ تفسيرها مثل آيات آل عمران [١٥٦ و ١٦٦- ١٦٨] والنساء [٧١ و ٧٣ و ٨٨ و ٨٩ و ١٣٧- ١٤٣] والمائدة [٥٢] والأحزاب [١٢- ٢٠] وسيأتي في هذه السورة آيات عديدة أخرى من هذا الباب.
439
لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة فرأى النبي ﷺ أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس.
وقد سمّي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي ﷺ اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلّا هذه الغزوة حيث صرّح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرّع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم «١».
وقد خرج النبي ﷺ بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا. ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية.
(١) روى الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال شهدت النبي ﷺ وهو يحثّ على جيش العسرة فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائتي بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. فنزل رسول الله وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذه. وروى عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان إلى النبي ﷺ بألف دينار في كمّه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجرة فرأيت النبي ﷺ يقلبها في حجره ويقول ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم. (التاج ج ٣ ص ٢٩٣). أما المشاهد الأخرى فقد أشير إليها في آيات من هذه السورة.
440
فقد بعث رسول الله ﷺ سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل.
وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على ٢٠٠٠ بعير و ٨٠٠ رأس رقيق و ٤٠٠ درع و ٤٠٠ رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي ﷺ فكتب له كتاب عهد..
وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي ﷺ ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاؤه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي على الإسلام.
والمستفاد من الروايات أن من المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلّا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون- والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام- ليس أقل العسكرين. ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي لهم كان نحو ثمانين «١». والرواية السابقة التي
(١) ذكر هذا في حديث طويل رواه الشيخان والترمذي عن كعب بن مالك سنورده في سياق تفسير الآية [١١٨] من هذه السورة.
441
شكّ فيها ابن إسحاق بحقّ لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدّين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون.
ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول.
وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة لأن المستفاد من الآيات أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدود والعدد دائما.
ونكتفي بهذه الخلاصة على أن نشرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها.
ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [٩١] لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [١٢٢]. ومع أن الآية في مقامها هي في معرض التثريب على المتثاقلين والتحريض على النفرة فإن في الآيتين المذكورتين تعديلا أو استدراكا لحكم الآية من الناحية الموضوعية كما هو المتبادر.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [٤٠] حديثا عزاه إلى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: «سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله. فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» حيث يحتوي الحديث تنبيها على وجوب إخلاص القتال في سبيل الله.
442
تعليق خاص على الآية إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ... إلخ.
في هذه الآية إشارة خاطفة إلى حادث خروج النبي ﷺ مهاجرا من مكة إلى المدينة. وقد جاءت كما شرحناه قبل على سبيل التنديد بالمتثاقلين عن النفرة إلى الجهاد وتنبههم إلى أن الله كفيل بنصر رسوله إن لم ينصروه. وقد نصره من قبل حين أخرجه الكفار من مكة.
وهي الإشارة الوحيدة في القرآن الصريحة إلى هذا الحادث العظيم الذي كان له أعظم الأثر في الرسالة الإسلامية وأدى إلى اندحار الشرك وغدو كلمة الله هي العليا كما جاء في الآية.
ولقد أوردنا خلاصة ما روي في صدد هذا الحادث في سياق الآية [٣٠] من سورة الأنفال وأوردنا ما روي من أحاديث نبوية أيضا وعلقنا على كل ذلك بما يغني عن التكرار.
والآية لا تذكر اسم صاحب النبي ﷺ في الغار. ولكن التواتر الذي بلغ مبلغ اليقين أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى إن بعضهم قال بكفر من أنكر ذلك «١». ولقد روى الترمذي حديثا عن عمر عن النبي ﷺ أنه قال لأبي بكر أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار «٢». وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس جاء فيه: «إن أبا بكر حدّثه. قال قلت للنبي ﷺ ونحن في الغار لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» «٣». حيث ينطوي في الحديثين الصحيحين أدلة نقلية على كون أبي بكر هو صاحب رسول الله في الغار.
وفي الآية صورة رائعة لعمق إيمان النبي واعتماده على الله تعالى وما انبثّ في نفسه نتيجة لذلك من رباطة جأش. وصورة رائعة لشدة إخلاص أبي بكر رضي
(١) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي.
(٢) التاج ج ٣ ص ٢٧٦.
(٣) التاج ج ٤ ص ١١٧.
443
الله عنه. والحديث الذي يرويه البخاري والترمذي لا يذكر قول الرسول له «لا تحزن إنّ الله معنا». وإن كان يذكر معنى ذلك. ويجب الإيمان بأن النبي ﷺ قال له هذه الجملة لأنها نصّ قرآني قاطع.
والتذكير في الآية قوي محكم. وبخاصة الإثارة إلى ما كان من نتائج نصر الله الباهر لنبيّه حيث خرج شريدا خائفا ثاني اثنين. فلم يزل الله تعالى يؤيده وينصره إلى أن أرغم جميع أعداء الإسلام وجعل كلمة الكفر والكفار السفلى وكلمة الله هي العليا في أنحاء جزيرة العرب، وامتد ذلك إلى أطراف الجزيرة من خارجها ثم من خارجها إلى أبعاد شاسعة في مشارق الأرض ومغاربها. ولعلّ في هذه الإشارة صورة خاطفة ولكنها قوية رائعة وتامة لدعوة النبي ﷺ وسيرها ونتائجها.
ومن المؤسف المثير أن الشيعة الذين يظهر أنهم لم يستطيعوا نفي صحبة أبي بكر لرسول الله زعموا زورا وكفرا أن النبي ﷺ إنما أخذه معه مخافة أن يشي به للمشركين والعياذ بالله من ذلك. وحاولوا تهوين شأنه في هجرته لله مع رسول الله بفسطات أشبه ما تكون بالهذيان منها بأي شيء آخر «١» متجاهلين أحاديث كثيرة صحيحة في التنويه بفضل أبي بكر وعظم قدره عند الله ورسوله. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: «خطب رسول الله ﷺ الناس وقال إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه. فكان رسول الله هو المخيّر. وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربّي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوّة الإسلام ومودّته. وفي رواية ولكنه أخي وصاحبي» «٢». وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت: «قال النبي ﷺ ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر فإنّ له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة. وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر» «٣». وحديثان آخران رواهما الترمذي عن عائشة جاء في أحدهما «دخل أبو
(١) انظر تفسير الآية في تفسير المنار لرشيد رضا.
(٢) التاج ج ٣ ص ٢٧٥.
(٣) المصدر السابق نفسه.
444
بكر على رسول الله ﷺ فقال أنت عتيق الله من النار قالت فمن يومئذ سمّي عتيقا».
وجاء في ثانيهما «قال النبي ﷺ لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره» «١».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
. (١) عرضا قريبا: بمعنى الهدف القريب والغنيمة السهلة المنال.
(٢) سفرا قاصدا: رحلة قصيرة قليلة العناء.
(٣) بعدت عليهم الشقة: رأوا الرحلة بعيدة شاقة.
(٤) انبعاثهم: خروجهم.
(٥) خبالا: اضطرابا وفسادا.
(٦) ولأوضعوا خلالكم: لسعوا بينكم بالنميمة والفساد. وأصل الإيضاع الإسراع في السعي والسير.
(٧) قلبوا لك الأمور: بذلوا جهدهم في الكيد لك.
في هذه الآيات: تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي ﷺ إلى النفرة في
(١) المصدر السابق نفسه. وهناك أحاديث صحيحة أخرى في فضائل أبي بكر فاكتفينا بما أوردناه. انظر المصدر نفسه.
445
سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة وتطمين وتسلية للنبي ﷺ والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية:
١- لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية. ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
٢- ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي ﷺ في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلّا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
٣- وأذن النبي لهم بالتخلّف حينما استأذنوه بذلك كان خطأ عفا الله عنه.
وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
٤- ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكانوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السنّ والمرضى والزمنى والعميان...
٥- ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به «١» ولذلك لم يشأ الله تعالى
(١) بعض المفسرين ومنهم الطبري من أوّل جملة وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ بتأويل ثان مع التأويل الذي أولناه بها وهو أن بينكم أناس غير منافقين عيون لهم ينقلون إليهم أخباركم. والتأويل الذي اخترناه هو الأوجه لأن غير المنافق أجلّ من أن يكون عينا. والله أعلم. [.....]
446
أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
٦- ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلّف وحسن القصد كذبا.
تعليق على الآية لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ.. والآيات الست التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة وَسَيَحْلِفُونَ وفي جملة عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وجملة لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة.
والآيات تلهم أن تخلّف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدلّ على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.
447
ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي ﷺ وقوي أمره وتمّ ما تمّ من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعل ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية [٤٤] قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي ﷺ بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية [٤٣] نزلت في جماعة قالوا استأذنوا النبي فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢). هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوّه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون
448
الآية تنطوي على عتاب رباني «وقيل إن الله عزّ وجلّ وقّر النبي ورفع محلّه بافتتاح الكلام بالدعاء له كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني» ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك «لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به حيث يقال إنما أمر به على وجه الذبّ عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم.
والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلّف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي ﷺ لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي وهي الآية [١٠١] فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي ﷺ وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي ﷺ لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات [٤٥- ٤٧] قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية [٤٣] دليلا على أن النبي ﷺ كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني. وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها. حيث كان الوحي إما يقر النبي في اجتهاده أو
449
يسكت سكوت إقرار أو ينبّه على ما هو الأولى على ما شرحناه في تلك المناسبات.
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالواضح أن الصورة التي احتوتها من الصور التي يمكن أن تظهر في ظروف النضال والأزمات والأخطار في مختلف الأزمنة والأمكنة وهي من أجل ذلك يمكن أن تكون مستمد إلهام وتلقين دائم المدى والأثر في الموقف الذي يجب أن يوقف إزاء أصحاب هذه الصورة والحذر منهم وعدم الاعتماد عليهم وعدم فسح المجال لهم للتدخل في الأمور العامة والجولان بين الصفوف المخلصة لتأمين المنافع الخاصة عن طريق تضحيات وجهود المخلصين.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)
. في هذه الآية:
١- صورة خاصة لموقف بعض المنافقين من الدعوة إلى حملة تبوك حيث جاء بعضهم يستأذن النبي ﷺ بالتخلف ويرجو عدم تعريضه للفتنة والإثم.
٢- وردّ عليه بأنه هو وأمثاله قد تورطوا بمواقفهم التي يقفونها في الإثم والفتنة فعلا كأنما تريد أن تقول لهم إن خوفهم من الفتنة عجيب منهم لأنهم تورطوا فيها بتلك المواقف.
٣- وإنذار لهم بأن جهنّم محيطة بالكافرين في كل حال ومآل.
ولقد روى الطبري روايات عديدة في صدد هذه الآية منها أن النبي ﷺ كان في استنفاره الناس يقول انفروا تغنموا بنات بني الأصفر أو بنات الروم. ومنها أن هذا كان لمنافق اسمه الجد كان مغرما بالنساء حيث قال له النبي ذلك أو قال له هل لك بجلاد بني الأصفر فتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال له ائذن لي بالقعود ولا تعرضني للفتنة وأنا أعينك بمالي دون نفسي.
وقد تكون الروايات أو رواية الجد صحيحة في الإجمال. فإنه لا يستبعد أن
يكلّم النبي ﷺ كل إنسان بما يعرفه فيه من ميول. ومع ذلك فإنه يتبادر لنا سبب آخر للاعتذار وهو أن يكون المعتذر قد اعتذر بشدة رغبته الجنسية وعدم إطاقته الصبر عنها طويلا. فالاستمتاع بالسبي ليس في حدّ ذاته فتنة وإثما حتى يخشى المنافق على نفسه منه.
ومهما يكن من أمر فالآية لم تنزل لحدتها كما هو المتبادر من عطفها على ما قبلها وصلتها بالسياق السابق واللاحق. وإنما هي جزء من السلسلة تضمنت صورة من صور اعتذارات المنافقين على سبيل التنديد بهم.
وفي الآية دلالة مؤيدة لما قلناه قبل من أن المنافقين كانوا أو كان كثير منهم معروفين بأسمائهم كما هو المتبادر.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
. (١) حسنة ومصيبة: الكلمة الأولى في مقامها كناية عن النصر والثانية كناية عن الانكسار والهزيمة.
(٢) قد أخذنا أمرنا من قبل: قد احتطنا لأنفسنا حتى لا نقع فيما وقعوا فيه.
(٣) تربصون: تتربصون أي تنتظرون وتتوقعون.
في الآيات:
١- بيان لما في نفوس المنافقين نحو النبي والمؤمنين المخلصين من نيات وعواطف أو لما هو مفروض أن يكون فيهم إزاء هذه الغزوة بحيث لو أصابهم خير
451
ونصر استاءوا واغتاظوا ولو أصابتهم مصيبة وهزيمة حمدوا ما كان منهم من الحذر والاحتياط والتخلف وفرحوا.
٢- وأمر للنبي ﷺ بأن يهتف قائلا لهم بلسان الحال إنه لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا وإنه هو مولانا وإن على المتوكلين أن يتوكلوا عليه وحده. وإنكم مهما تربصتم بنا وانتظرتم نتائج رحلتنا فلن يصيبنا منها إلّا إحدى الحسنيين. حسنى الشهادة والثواب في حالة الموت. وحسنى الفوز والغنيمة في حالة النصر. في حين أن أمركم إلى عذاب لا معدى لكم عنه في حال. فإمّا أن يكون عقوبة مباشرة من الله تعالى وإما أن يكون على أيد منّا فلننتظر معا والأيام بيننا.
وما حكي عن المنافقين من نيات هو لسان حالهم. ولهذا قلنا إن النبي أمر بأن يهتف بهم بلسان الحال بالمقابلة. ونرجو إن شاء الله أن يكون فيه الصواب.
تعليق على الآية إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وصور ولم يرو المفسرون شيئا خاصا في صدد الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة
ومع خصوصيتها الزمنية والموضوعية فإن الصورة التي ترسمها الآية الأولى من الصور التي تقع من بعض الناس دائما إزاء الآخرين. وفيها تلقين بوجوب الحذر من أصحابها. والآيتان الثانية والثالثة مستمد إلهام قوي للمؤمنين المخلصين يمدهم دائما بالطمأنينة والسكينة. ويبث فيهم الاعتماد على الله وحده. ويحفزهم على الإقدام على عظائم الأمور والتضحيات في سبيل الله ومصلحة المسلمين العامة بنوع خاص برباطة جأش وسكون نفس وقوة قلب وجميل صبر وشدة تحمل.
ويجعلهم على يقين بأنهم فائزون غانمون على كل حال إن لم يكن بنصر دنيوي فبثواب الله ورحمته ورضوانه.
452
ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة عن النبي ﷺ روى صيغة له البخاري ومسلم مع زيادة مهمة فرأينا أن نوردها بدلا من صيغة البغوي وهي «تضمّن الله لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا وتصديقا برسلي. فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل» «١» وينطوي في الحديث تساوق مع ما في الآيات من تلقين جليل مستمر المدى مع التنويه بفضل الجهاد والمجاهدين والحثّ عليه على أن يكون خالصا لوجه الله تعالى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)
. الخطاب في الآيات موجّه للنبي ﷺ وفيها:
١- أمر بأن يعلن للمنافقين بأن الله لن يتقبل منهم ما يريدون أن ينفقوه طوعا من تلقاء أنفسهم أو رغما عنهم وكرها بضغط الظروف والموقف لأنهم قوم فاسقون. كفروا بالله ورسوله. ولا يقومون إلى الصلاة إلّا مع الكسل وعدم الرغبة الصادقة ولا ينفقون ما يريدون إنفاقه إلّا مع الكراهية والاستثقال.
٢- وتسلية وتطمين له: فلا ينبغي أن يأخذه العجب من كثرة أموالهم وأولادهم. فإنما هي وسائل عذاب لهم في الدنيا حتى تزهق أنفسهم وهم كافرون جاهدون.
(١) التاج ج ٤ ص ٢٩١ و ٢٩٢.
453
تعليق على الآية قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
وقد روى الطبري وغيره «١» أن الآية الأولى نزلت بمناسبة ما وعد به المنافق الجدّ من مساعدة مالية حينما استأذن النبي ﷺ بالقعود والتخلف عن الحملة.
ويلحظ أن الأمر في الآية بسبيل إعلان لأكثر من شخص من المنافقين، حيث يفيد هذا أن أكثر من واحد من المنافقين المستأذنين بالتخلف أرادوا أن يجاملوا النبي ﷺ بالاشتراك في نفقات الحملة. ومهما يكن من أمر فالذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها وأنها استمرار للسياق وجزء من السلسلة.
ومع أن صيغة الآيات تفيد في ظاهرها أنها أمر بتوجيه الخطاب إلى المنافقين السامعين له فالذي يتبادر لنا استلهاما من روح الآيات وفحواها وبخاصة الآية الثانية والثالثة منها ثم من نزول السلسلة في أثناء السفر على ما تلهمه بعض آياتها أن هذه الصيغة أسلوبية. وأن الآيات بسبيل التنديد والتقريع وإعلان حالة المنافقين على حقيقتها من كفر وكسل واستثقال وكره أولا ثم بسبيل التهوين مما عندهم من كثرة مال وأولاد.
وفي الآيات ما يدل على أن طبقة المنافقين كانت أو كان أكثرها من ذوي اليسار والجاه. ولعل هذا من أسباب ما كان منها من مخامرة ونفاق. وكان هذا من أسباب ما لقيه النبي ﷺ في مكة من مناوأة على ما شرحناه في مناسبات عديدة في السور المكيّة.
والخطاب وإن كان موجها إلى النبي ﷺ فإنه موجه إلى المسلمين من جهة وإلى المنافقين من جهة أخرى أيضا على ما يلهمه روحها وهدفها. للأولين على
(١) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
454
سبيل التعليم والتعليل والتلقين والتهوين والتسلية. وللآخرين على سبيل التنديد والإنذار والزراية.
ولقد تعددت تخريجات المؤولين على ما يرويه المفسرون لما ظنوه إشكالا في جملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا من حيث إن الأموال والأولاد في الدنيا يسببون السرور لا العذاب.. من ذلك أن في الجملة تقديما وتأخيرا وأن تقديرها فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فيصبح معناها إن الله سوف يعذبهم بها في الآخرة بسبب حبسهم أموالهم عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم وفسادهم في الأرض. ومنها أن عذابهم بها في الدنيا هو وعيد رباني بأنه سوف يسلط عليهم بسبب مواقفهم الصادة عن سبيل الله وتفاخرهم بأموالهم وأولادهم المصائب والضرائب والحسرات. ومنها أن الجملة تنطوي على معنى كون أموالهم وأولادهم هي من قبيل الاستدراج والابتلاء وليست من قبيل الحظوة من الله على ما جاء في آيات عديدة في سور سبق تفسيرها مثل باب سورة القلم [٤٤ و ٤٥] وطه [١٣١] والمؤمنون [٥٤- ٥٦] وآل عمران [١١٨] فلا ينبغي أن يثير ذلك عجب النبي والمؤمنين.
والتأويلان الثاني والثالث هما أوجه من التأويل الأول فيما نرى مع القول إنه يصح مزج التأويلين معا. وقد يصح أن يقال أيضا إن حكمة التنزيل هدفت إلى تهوين شأن أموال المنافقين وأولادهم وبث روح القوة والتعالي في نفوس المؤمنين المخلصين. وهو ما انطوى أيضا في الآيات المشار إلى سورها وأرقامها آنفا.
وعلى كل حال إن الآيات موضوعيا هي في صدد منافقين مخامرين في إيمانهم وصلواتهم وصدقاتهم. وقد احتوت الآية [٥٤] تعليلا قويا للوعيد الرباني الذي تضمنته الآية [٥٥] ويجب أن يبقى ويؤخذ مدى الآيتين في هذا النطاق.
وفي الآيات كما في سابقاتها تلقين مستمر المدى والأثر. فلا ينبغي أن يكون لأموال ذوي القلوب المريضة ومظاهر قوتهم تأثير في الموقف الذي يجب أن يوقف منهم إزاء ما يبدو منهم من تثاقل في أداء الواجبات ورغبة في التفلت منها.
455
ولا ينبغي أن يكون ما يقدمونه أحيانا مساعدات بضغط ظروف المجتمع وسيلة إلى الإغضاء عن المواقف التخريبية والمخامرات الضارة التي تبدر منهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
. (١) يفرقون: يخافون.
(٢) مدخلا: مكانا يدخلون إليه ليستخفوا فيه.
(٣) يجمحون: يسرعون.
الخطاب في الآيتين موجّه للنبي ﷺ والمسلمين يقرر به:
١- أن المنافقين يحلفون لهم بالله إنهم منهم وعلى ملتهم وهم في الحقيقة ليسوا كذلك.
٢- وإنما يحملهم على ذلك فزعهم وخوفهم. وأنهم لو وجدوا ملجأ يعتصمون به أو مغارات يختفون فيها أو مدخلا ما يجعلهم في أمان لسارعوا إلى ذلك تخلّصا من الموقف الثقيل عليهم. والخطر الذي يهددهم ويحملهم على النفاق والمراءاة.
تعليق على الآية وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولا يروي المفسرون رواية خاصة في صدد الآيتين. والمتبادر أنهما استمرار في السياق والموضوع وجزء من السلسلة. وفيهما توكيد آخر وأقوى لما قلناه قبل من تطور موقف المنافقين وخضد شوكتهم وتناقص عددهم واضطرارهم إلى
المجاملة والتوكيد بإخلاصهم أكثر من ذي قبل. كما أن فيهما تقريرا لحقيقة حالهم وعدم تبدلها برغم ما يظهرونه من مجاملة وتوكيد بسبيل فضيحتهم وتقريعهم والتحذير منهم.
والصورة التي ترسمها الآيتان قوية رائعة حقّا. وهي من الصور التي تشاهد خاصة حينما يستعلي المخلصون في ظروف النضال. وفيهما تلقين مستمر المدى والأثر بوجوب الانتباه لهذه الفئة وعدم الانخداع بما تظهره من ضروب الرياء والمداهنة.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
. (١) يلمزك: يطعن فيك أو يعيب عليك. ومعنى الكلمة هنا: ينسب إليك المحاباة.
(٢) الصدقات: هنا كناية عن الزكاة.
(٣) العاملين عليها: الموظفين لجبايتها.
(٤) المؤلّفة قلوبهم: الطبقة التي يراد تأليف قلوبهم وتقوية ارتباطهم بالإسلام ومصلحته.
(٥) وفي الرقاب: وفي عتق العبيد والمماليك وفكّ رقباتهم من العبودية.
(٦) الغارمين: المدينين المعسرين أو الذين يتحملون المغارم.
في الآيات:
١- إشارة إلى صورة أخرى من صور المنافقين ومواقفهم: فإن منهم من كان
457
ينسب إلى النبي ﷺ المحاباة في توزيع الصدقات ويعيب عليه ذلك. وكان هذا منهم لمنافعهم الخاصة ومآربهم الشخصية حيث كانوا يسخطون إذا لم يعطهم النبي ﷺ منها ويرضون إذا أعطاهم.
٢- وتنديد بهم: فقد كان الأولى بهم أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله وأن يعلنوا ثقتهم واكتفاءهم بفضل الله ورسوله ورغبتهم بما عند الله.
٣- وتقرير لأصناف المصارف التي لا يجوز أن تصرف الصدقات إلى غيرها لتعطى لمن لا يستحقها وهي الفقراء والمساكين والموظفون القائمون بأمرها والمؤلفة قلوبهم وعتق العبيد والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل حيث كان هذا فرض الله الواجب الوقوف عنده وهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي لا يأمر إلّا بما فيه الحكمة.
تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ... والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين. وما روي في صددها من روايات وما روي من أحاديث وأقوال ومذاهب متنوعة في مصارف الزكاة وتوزيعها ونصاب الزكاة في مختلف الأنواع وجبايتها
ولقد روى البخاري حديثا عن أبي سعيد في سياق هذه الآية قال: «إن النبي ﷺ بعث إليه بشيء فقسمه بين أربعة وقال أتألّفهم فقال رجل: ما عدلت فقال النبي ﷺ يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين» «١». وروى الطبري هذا الحديث بزيادة كبيرة عن أبي سعيد قال: «إن رسول الله كان يقسم إذ جاءه ذو
(١) التاج ج ٤ ص ١١٨. وروى شارح الحديث أن هذا هو ذو الخويصرة حرقوص بن زهير التميمي. وأن الأربعة الذين تألفهم النبي ﷺ هم الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر وزيد الطائي وعلقمة العامري الكلابي. وهم من مشاهير زعماء قبائل العرب.
458
الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك ومن يعدل إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب ائذن لي فأضرب عنقه، فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فينظر في قدحه فلا ينظر شيئا ثم ينظر في نصله فلا يجد شيئا ثم ينظر في رصافه فلا يجد شيئا قد سبق الفرث الدم آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة. يخرجون على حين فترة من الناس. قال أبو سعيد:
أشهد أني سمعت هذا من رسول الله وأشهد أن عليا حين قتلهم- يعني الخوارج- جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم» «١». وروى الطبري أيضا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى نبي الله ﷺ وهو يقسم ذهبا وفضة فقال يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال له ويلك فمن ذا يعدل؟ ثم قال احذروا هذا وأشباهه. فإن في أمتي أشباه هذا. يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وكان النبي ﷺ يقول: والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن. وروي أيضا أن النبي ﷺ أتى بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورآه رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت الآية. وننبه على أن الطبري لم يذكر أن الآية نزلت إلا في مناسبة الرواية الأخيرة دون الروايتين السابقتين وكذلك البخاري فإنه لم يذكر في حديثه أن الرواية التي تضمنها الحديث كانت سبب نزول الآية «٢».
وذو الخويصرة هو حرقوص بن زهير الذي يذكر شراح الأحاديث أنه المعني في الحديث الأول كان على رأس الجماعات التي خرجت من البصرة إلى المدينة واشتركت في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه. وبايع عليا رضي الله
(١) روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا. انظر التاج ج ٥ ص ٢٨٤ و ٢٨٥.
(٢) هناك حديثان آخران من باب هذه الأحاديث يرويهما الشيخان والترمذي عن أبي سعيد وفيهما بعض الزيادات (انظر التاج ج ٥ ص ٢٨٣ و ٢٨٤). ولم يذكر في سياقهما أيضا أنهما في صدد نزول الآية. فلم نر إيرادهما ضرورة اكتفاء بما أوردناه.
459
عنه وكان في جيشه مع قومه وحارب معه في وقعة الجمل التي كانت بينه وبين الجموع التي تجمعت حول عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم للمطالبة بدم عثمان والثأر من قاتليه ثم في وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. ثم كان من الذين خرجوا على عليّ لقبوله التحكيم وقتل في من قتل في وقعة النهروان التي كانت بين علي وأتباعه وبين الخوارج «١». ولقد روى الطبري أن عليّ بن أبي طالب قال لأتباعه حين انتهت وقعة النهروان إنه سمع رسول الله ﷺ يقول: إن قوما يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدج اليد، وأمر أتباعه أن يلتمسوه بين القتلى وأن يقطعوا يده ويأتوه بها إذا وجدوه. وقد وجدوا فعلا رجلا مخدج اليد بين القتلى فقطعوا يده وأتوه بها فلما رآها قال ما كذبت ولا كذبت «٢».
والمشهور أن الخوارج كانوا من أشد المسلمين تعبدا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن وتقشفا في الحياة حيث ينطبق كل ذلك على الوصف الذي احتوته الأحاديث. وإذا صح حديث عليّ الذي يرويه الطبري فيكون فيه، وعلى ضوء الأحاديث الأخرى فيكون فيها معجزة نبوية بإخبار النبي ﷺ بغيب وقع بعد موته.
هذا مع التنبيه إلى أن قولنا يصح إذا كانت الوقائع المماثلة أكثر من واحدة. لأن الأشخاص المحكية عنهم متنوعون كما هو واضح من الأحاديث ومع التنبيه كذلك إلى أن روح الآية الثانية قد تلهم أن الذي صدر منه القول أو أحد من صدر منهم القول- إذا كانت الوقائع متعددة- من منافقي المدينة. وهذا ما ينطبق على الرواية الأخيرة. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا من عطف الآيات على سابقتها. ومن ضمير الجمع الغائب الذي يعبر عن فريق كان موضوع الحديث في الآيات السابقة أن الآيات لم تنزل لمناسبة من المناسبات المروية لحدتها وأنها ليست منفصلة عن
(١) انظر تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٧٦ وما بعدها وج ٤ ص ٥٢- ٦٥ وننبه على أن الطبري يسميه حرقوص بن زهير السعدي ولا ندري هل هو التميمي أم غيره.
(٢) المصدر نفسه ج ٤ ص ٦٨، ٦٩.
460
السياق. وكل ما في الأمر أنها احتوت إشارة إلى موقف كان وقفه بعض المنافقين من نوع ما ذكرته الأحاديث في معرض التذكير بأقوال ومواقف المنافقين وتقريعهم والتنديد بهم بمناسبة تثاقلهم عن غزوة تبوك.
والموقف الذي حكته الآية الأولى يدل على ما كان من جرأة المنافقين على الطعن في ذمة رسول الله ﷺ وعدله والتهويش عليه في سبيل منافعهم الخاصة.
ويدل على ما كانوا عليه من خبث طوية وفراغ إيمان وقلة ثقة بالله ورسوله. ثم على ما كان النبي يلقاه من هذه الفئة الخبيثة. والذي نرجحه أن ذلك الموقف مما كان يبدر منهم حينما كانوا أكثر قوة أو حينما كان النبي والمسلمون أقل قوة واستعلاء مما صاروا إليه حين نزول الآيات. وقد أشير إليه هنا على سبيل التذكير والتنديد كما قلنا.
والموقف المحكي هو في الآية الأولى فقط. أما الآيتان الأخريان فقد جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد حيث احتوت الثانية تنديدا بالمنافقين وتنبيها إلى ما كان الأولى بهم لو كانوا مخلصين حقا وحيث احتوت الثالثة تحديدا للمصارف التي لا يجوز أن تعطى الصدقات لغيرها.
ومع أن الآية الثالثة قد جاءت مع الآية الثانية كما قلنا على سبيل التعقيب والاستطراد فإنها هي الوحيدة التي وردت في القرآن عن أصناف مستحقي الصدقات جميعها وكانت من أجل ذلك هي المستند التشريعي في هذا الأمر.
والمجمع عليه أن الصدقات المقصودة في الآية هي الزكاة المفروضة خاصة.
ولعلّ في ورود جملة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ في الآية قرينة على ذلك. هذا مع القول إن هذه الجملة قد تكون في نفس الوقت بسبيل التشديد على واجب إبقاء الزكاة في نطاق مصارفها المعينة.
والمفروض في الآية الثالثة هو مصارف الزكاة وليست الزكاة. لأن فريضة الزكاة قد فرضت كما استلهمنا من آيات مكيّة منذ أواسط العهد المكي أو قبل ذلك. وقد استلهمنا من آيات مكيّة أخرى أن مقاديرها أيضا كانت معينة في العهد
461
المكي على ما نبهنا عليه في سياق سور الأنعام والذاريات والمعارج والمزمل.
وبناء على ذلك نعتقد أن القول بأن في الآية فرضا للزكاة هو تحميل لها غير ما تحمله نصا وروحا. وغير متسق مع الأوامر القرآنية العديدة المكيّة ثم المدنيّة التي نزلت قبل هذه الآية بمدة غير قصيرة بوجوب إيتاء الزكاة وقرنها بالصلاة واعتبارهما الركنين المتلازمين اللذين لا بد منهما لصحة دعوى الإسلام.
ولقد قال بعضهم إن هذه الآية نسخت ما جاء في القرآن من أوامر الصدقة حيث قامت فريضة الزكاة مقام ذلك. وهذا القول منبثق من اعتبار الآية فرضا للزكاة. قد نبهنا على ما في هذا الاعتبار من تجوز قبل قليل. وهذا فضلا عن أن روح الآيات القرآنية الكثيرة المكيّة والمدنيّة تلهم بكل قوة أنها أوسع من أن تحصر الصدقة بالقدر المحدود المستوجب بالزكاة المفروضة. فمهما كثر مقدار هذه الزكاة فإن مجال الإنفاق في سبيل الله في معناها الشامل وفي وجوه البرّ ومساعدة المحتاجين يظل أوسع من أن يملأ ذلك القدر المحدود وتظل حكمة التنزيل مستمرة المفعول بالنسبة للصدقات التطوعية. وفي الآية [١٠٣] من هذه السورة التي نزلت بعد الآيات التي نحن في صددها دلالة قوية على ذلك حيث تأمر النبي ﷺ بأخذ صدقة من أموال الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا ليزكيهم ويطهرهم بها. والمتبادر أن هذه الصدقة هي غير الزكاة المفروضة. وهناك حديث عن النبي ﷺ فيه دليل على ذلك رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت «سألت النبي ﷺ أو سئل النبي ﷺ عن الزكاة فقال إنّ في المال لحقّا سوى الزكاة. ثم تلا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلى آخر آية سورة البقرة [١٧٧] «١» وفيها أمر بإيتاء المال بالإضافة إلى ذكر الزكاة.. وفي الآية الأخيرة من سورة المزمل جملة لها مغزى عظيم في هذا الباب وهي: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً...
وكل هذا يسوغ القول إن الزكاة المفروضة المحددة المقدار بالسنّة النبوية هي
(١) التاج ج ٢ ص ٣٩.
462
الحدّ الأدنى لما يجب على صاحب المال أن يؤديه تطهيرا لماله.
والزكاة واجبة على جميع الأموال التي تبلغ النصاب الأدنى المعين بالسنّة النبوية. وتشمل الغلات الزراعية شجرا أو حبا والماشية والنقود والعروض التجارية المتنوعة الأخرى كما هو المجمع عليه أيضا. والقرآن لم يعين إلا مصارفها. أما المقادير الواجبة فقد عينتها السنّة النبوية. وإذا لاحظنا أن الآية الثالثة إنما جاءت على سبيل الاستطراد والتعقيب والردّ على اللامزين ظهرت لنا حكمة عدم ذكر المقادير فيها. ويصح أن يقال إن هذا الأمر ترك للنبي ﷺ يتصرف فيه بإلهام الله وفقا لما تمليه الظروف والمصلحة والإمكانيات.
والمصارف الثمانية التي ذكرت في الآية قد جمعت كل وجه محتمل من وجوه الإنفاق سواء أكانت المصالح العامة للإسلام والمسلمين أم الطبقات المعوزة. وهو ما اجتمع في مصارف الغنائم والفيء على ما شرحناه في سياق تفسير آية الأنفال [٤١] وآية الحشر [٧] حيث يبدو التساوق قويا رائعا.
وقد يلحظ أن معظم المصارف المذكورة في الآية قد ذكرت في آيات أخرى وردت في سور سبق تفسيرها. منها ما ورد في آيات الغنائم والفيء في سورتي الأنفال والحشر. ومنها ما ورد في آية سورة البقرة [١٧٧] حيث جاء فيها وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ....
ويمكن أن يقال إن ما جاء في آية سورة البقرة وما من بابها قد جاء للحثّ على إعطاء الفئات المحتاجة المذكورة فيها بصورة عامة مما قد يدعمه ذكر الزكاة في آية البقرة مستقلا أيضا ثم شاءت حكمة التنزيل أن تجمع مصارف الزكاة المفروضة في آية واحدة ليكون ذلك فرضا إلزاميا فكان ذلك في الآية التي نحن في صددها التي نزلت بعد تلك الآيات. كما يمكن أن يقال في صدد تكرر ذكر بعض مصارف الغنائم والفيء في عداد مصارف الزكاة أن حكمة التنزيل لحظت احتمال عدم تيسر الغنائم والفيء دائما أو عدم كفايتهما للحاجة فشاءت زيادة في العناية
463
بالفئات المحتاجة أن تكرر ذكر بعض ما ذكر في آيات الغنائم والفيء والله أعلم.
وقد يلحظ أيضا في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية ثلاثة لم ترد في مصارف الفيء والغنائم. وهي المؤلفة قلوبهم والرقاب والغارمون. وقد تكون حكمة التنزيل اقتضت ذكر هذه الفئات نصّا نتيجة لتطور حالة المسلمين والسلطان الإسلامي. على أن هذه الأصناف لا تخرج في الوقت نفسه عن المجموعتين اللتين يوزع عليهما الفيء والغنائم وهما المصالح العامة والطبقات المعوزة.
وقد يلحظ كذلك أنه ليس في مصارف الصدقات اسم (رسول الله) في حين كان هذا الاسم بين مصارف الغنائم والفيء. ولقد وصف النبي ﷺ الزكاة بأوساخ الناس ونبّه على أنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد على ما رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن الحارث الهاشمي حيث قال: «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد» «١». وكان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل وإن قيل صدقة لم يأكل على ما رواه الترمذي ومسلم «٢». حتى أنه لم يحلها لمولى من مواليه لأن مولى القوم من أنفسهم على ما رواه أبو داود والترمذي. حيث رويا عن أبي رافع مولى رسول الله «أنّ النبيّ بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم فقال له اصحبني فإنك تصيب منها قال حتى آتي النبي ﷺ فأسأله فأتاه فسأله فقال: مولى القوم من أنفسهم وإنّا لا تحلّ لنا الصدقة» «٣».
ويتبادر لنا إلى هذا حكمة أخرى. وهي أن خلوها من اسم رسول الله قد يكون بمثابة ردّ على ما حكته الآية من لمز النبي بالصدقات. فكأنما أريد أن يقال لهم من باب المساجلة إن رسول الله نفسه ليس له نصيب في الصدقات وإنّه والحالة هذه فوق كل مظنة وشبهة ولمز. ومسألة الأموال العامة ولا سيما التي تؤخذ من
(١) التاج ج ٢ ص ٣٠- ٣١ وفي الحديث الأخير تلقين إنساني رائع في صدد اعتبار مملوك المرء من نفسه.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
464
المسلمين مسألة حسّاسة يتسع فيها مجال التهويش والفخر فكان ذلك من أسباب ما يتبادر لنا من حكمة في تنزه رسول الله ﷺ عنها خلافا للغنائم والفيء التي تكسب من أموال الأعداء وتوزع على مستحقيها بقطع النظر عن فقرهم وغناهم. وفي هذا تلقين قوي لمن يتولّى أمر المسلمين ومصالحهم وأموالهم العامة أيضا مع التنبيه على علوّ مرتبة رسول الله ﷺ وكرامته عن كلّ مرتبة وكرامة.
ولقد فرق أهل التأويل «١» بين زكاة الماشية وغلة الأرض وزكاة النقد والعروض حيث ذهب بعضهم إلى أن حق بيت المال محصور في جباية زكاة الماشية وغلة الأرض طوعا أو كرها دون زكاة النقد والعروض. التي يستطيع الواجبة عليه توزيعها مباشرة ولا يحق لبيت المال جبايتها كرها. وحيث ذهب بعضهم إلى أن لبيت المال الحق في كل ما تجب فيه الزكاة.
ويلحظ أن الآية مطلقة ولا تتحمل هذا التفريق. وأن تعبير وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ما يمكن أن يسوغ القول إن جباية أنواع الزكاة حقّ لولي الأمر بواسطة عماله. ومن الذين قالوا القول الأول من استدل على قوله بأن النبي ﷺ إنما كان يرسل جباته لجباية زكاة الغلات والمواشي فقط. وليس هناك أحاديث نبوية تؤيد القول الأول هذا بأسلوب حاسم وقطعي. في حين أن هناك أحاديث وردت في الكتب الخمسة فيها دلالة على صحة القول الثاني، من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي جاء فيه «إنّ النبيّ ﷺ قال لعمر إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام» «٢» والعباس لم يكن صاحب مواش وإنما كان صاحب أموال سائلة على ما هو المشهور. ومن ذلك حديث رواه الإمام مالك عن القاسم بن محمد جاء فيه «إن أبا بكر الصديق لم يكن يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وكان إذا أعطى الناس أعطياتهم يسأل الرجل هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة. فإذا
(١) اقرأ الفصل الطويل الذي عقده الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال على الصدقة ص ٣٤٩ وما بعدها وص ٥٦٧ وما بعدها وانظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(٢) التاج ج ٢ ص ٢٤ و ٢٥.
465
قال نعم أخذ من عطائه زكاة ذلك وإن كان قال لا أسلم إليه عطاءه ولم يأخذ منه شيئا» «١». وحديث رواه الإمام مالك أيضا عن عائشة بنت قدامة عن أبيها أنه قال «كنت إذا جئت عثمان بن عفّان أقبض عطائي سألني هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة فإن قلت نعم أخذ من عطائي زكاة ذلك المال وإن قلت لا دفع إليّ عطائي» «٢». وحديث رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة الحديث المشهورين عن عبد الرحمن بن عبيد القاري قال «كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها شاهدها وغائبها ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» «٣».
وإذا كان حقا أن جباة النبي ﷺ كانوا يباشرون جباية زكاة المواشي وغلة الأرض فحسب فالمتبادر أن هذا إنما كان لأن أكثر الثروة في عهد النبي ﷺ كانت هي المواشي وغلات الأرض.
وفي كتاب الأموال للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام بحث طويل «٤» سرد فيه أقوال عدد من أصحاب رسول الله ﷺ وتابعيهم في هذا الأمر جاء في أوله عزوا إلى ابن سيرين أن الصدقة كانت تدفع إلى النبي ﷺ أو من أمر به وإلى أبي بكر وعمر وعثمان أو من أمروا به. فلما قتل عثمان اختلفوا فكان منهم من يدفعها إلى الخلفاء وكان ابن عمر ممن يدفعها إليهم. ومنهم من يوزعها بنفسه. ثم أخذ أبو عبيد يورد أقوالا أخرى لأصحاب رسول الله وتابعيهم حيث قرر بعضهم وجوب دفع الزكاة عن جميع الأموال لبيت المال وجوّزه بعضهم. وجعل بعضهم الخيار للمسلمين في زكاة النقود والعروض في أدائها لبيت المال أو توزيعها من أيديهم. ومنهم من لم يجوز دفعها لبيت المال بل قال بتوزيعها مباشرة. وقد علل أصحاب القول الأخير مذهبهم بأن بيت المال صار في يد ملك عضوض فلا يجزىء أداء الزكاة له عن
(١) الموطأ ج ١ ص ١٢٨. [.....]
(٢) المصدر نفسه.
(٣) كتاب الأموال ص ٤٢٥.
(٤) المصدر نفسه ص ٥٦٧ وما بعدها.
466
الغرض. وقد أوجب علماء الشيعة دفع جميع أنواع الزكاة للإمام العلوي الذي كان هو الإمام الشرعي عندهم ولو لم يكن يمارس سلطانا. وكانت عائشة أم المؤمنين ممن يدفع الزكاة إلى بيت المال على ما ذكره الإمام أبو عبيد في فصل كتابه المذكور آنفا.
والأخذ والرد والنقاش كان يدور حول زكاة النقود والعروض كما قلنا.
وجمهور المتكلمين يسلمون بجباية بيت المال لزكاة الغلات والماشية. والذين قالوا بعدم جواز دفع زكاة النقود والعروض لبيت المال في حكم الملك العضوض قالوا إن أداء زكاة الغلات والماشية اضطراري لأن هذه الزكاة لا يمكن أن تمنع إلّا بالقوة التي يمكن أن ينتج عنها فساد وفتنة بعكس زكاة النقود والعروض التي يمكن أن تمنع لأنها مما يمكن أن لا تعلم. والذين أوجبوا أو جوزوا أداء زكاة النقود والعروض لبيت المال قالوا بناء على هذا المعنى الأخير بعدم الإجبار وبتصديق من يقول أدى زكاته مباشرة.
والمستفاد من كل هذا أنه لم يكن في البدء خلاف في حق ولي أمر المؤمنين في جباية جميع أنواع الزكاة. وتولّي توزيعها. وهو المستفاد من فحوى الآية وروحها. وأن ما وقع من فتن وخلافات حزبية في صدر الإسلام هو الذي أدى إلى هذا التفريق الذي كان قديما جدا والذي جرى عليه العمل منذ ذلك الزمن القديم الذي يبلغ في حساب السنين ألفا وثلاثمائة ونيفا. والراجح أن الأمويين الذين كان العمل بهذا في عهدهم واستمر بعدهم قد جنحوا فيه إلى التساهل تفاديا من الفتنة في حالة إجبار الناس عليه وقد كثرت مواردهم واكتفوا بما كان يأتيهم منه طواعية دون إكراه. ثم بزكاة الغلة والماشية التي تعرف على حقيقتها ولا يمكن إخفاؤها ولا التفلت من زكاتها. إذ يكون ذلك عصيانا يسيغ التنكيل. وكان موقف أبي بكر من مانعيها ما يزال حديث عهد اشترك في التضامن معه فيه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل انحصار ثروة الوسط العربي في الماشية وغلة الأرض تقريبا في الظروف التي قامت فيها الدولة الأموية في أول عهدها مما جعل هذه الدولة قليلة الاهتمام لزكاة النقد القليلة أو سوغ انصراف الذهن عنها بعض الشيء. فكان هذا
467
وذاك أصلا أو مسوغا لما جرى عليه المسلمون. وقد يحسن أن يضاف إلى هذا ما أثر عن النبي ﷺ من أحاديث فيها إذن لبعض المسلمين بإعطاء صدقاتهم للأزواج والأقارب كالحديث المروي عن سلمان الضبي الذي جاء فيه «قال النبيّ ﷺ الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة رحم» «١» والحديث الذي قال فيه لزوجة ابن مسعود جاءت إليه تستأذنه في إعطاء صدقتها لزوجها وولدها «زوجك وولده أحقّ من تصدقت به عليهم» «٢» وما أثر عن عمر رضي الله عنه من إذنه لرجل أتى إليه بزكاة ماله «بأن يذهب بها فيقسمها» «٣» وما أثر عن عثمان رضي الله عنه من قوله «من تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا» «٤» حيث يسوغ أن يكون ذلك من مبررات ما كان من جعل الناس بالخيار في هذا الأمر.
وعلى كل حال فليس هناك قرآن ولا سنّة تمنع الدولة من جباية جميع أنواع الزكاة من جميع ما هي مفروضة عليه من أموال المسلمين وتوزيعها على مستحقيها أسوة بالغنائم والفيء.
ولقد نبهنا على خطورة تشريع الزكاة وما ينطوي فيه من حكمة ربانية جليلة تهدف إلى ضمان أمن المجتمع الإسلامي. وتخفيف أزمات المحتاجين من بنيه.
وبثّ التعاون والتضامن بين أفراد هذا المجتمع في تعليقنا الأول على الزكاة في سياق تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وفي كتب التفسير والحديث بيانات متنوعة «٥» في صدد الجهات والفئات
(١) كتاب الأموال ص ٣٥٣، هذا الحديث من مرويات الشيخين والنسائي والترمذي أيضا انظر التاج ج ٢ ص ٣٥.
(٢) المصدر نفسه ص ٥٨٦- ٥٨٧.
(٣) المصدر نفسه ص ٥٧١.
(٤) المصدر نفسه ص ٤٣٧ و ٥٣١.
(٥) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي لتفسير هذه الآيات وانظر التاج ج ٢ ص ٣- ٤٠ وكتاب الأموال ص ٣٤٩- ٦١٣ وكتاب الخراج لأبي يوسف ص ٤٣- ٤٧.
468
الثمانية المذكورة في الآية الثالثة وتوزيع الزكاة عليها نوجزها فيما يلي مع ما يعنّ لنا من تعليق. مع التنبيه على أن هناك تفريعات وخلافات مذهبية لم نر ضرورة للتبسط فيها.
١- الأقوال مجمعة على أن (الفقير) و (المسكين) صنفان. وهذا ملموح في ذكر الاثنين. ومما ذكره المفسرون عزوا إلى بعض أهل التأويل أن الفقير هو المحتاج المتعفف عن السؤال وأن المسكين هو المحتاج الذي يسأل. كما رووا أن الفقير هو المحتاج من المسلمين والمسكين هو المحتاج من الذميين. مع أن هناك حديثا نبويا فيه تعريف حاسم رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس وتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس». وقد ورد في الآية [١٧٧] ذكر للسائلين والمساكين معا وفي هذا دعم قرآني.
ولقد اختصت حكمة الله المسكين بالذكر أكثر من الفقير وجعلت له نصيبا في الفيء والغنائم كما جعلته هو الذي يجب أن يطعم ويكسى من كفارات الأيمان والظهار وقتل الصيد في حالة الحرم إلخ إلخ لأنها رأته على ضوء وصف النبي ﷺ له هو الأشد حاجة والأوجب رعاية من الذي يسأل ويطوف على الناس وفي هذا ما فيه من مغزى جليل. وقد كان هذا الأمر موضوع تعليق لنا في سياق أول آية مكيّة ذكر فيها المسكين في سورة المدثر.
ولقد رويت أحاديث نبوية في من تحلّ له المسألة أي سؤال الناس وفي من تجوز عليه الصدقة. منها حديث رواه أصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو قال «قال النبيّ ﷺ لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي» «١» وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن أنس قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة: لذي
(١) التاج ج ٢ ص ٢٨ و ٢٩.
469
فقر مدقع أو لذي غرم مفظع. أو لذي دم موجع» «١» وحديث رواه كذلك أصحاب السنن عن عبد الله قال: «قال النبي ﷺ من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح. قيل يا رسول الله وما يغنيه قال خمسون درهما أو قيمتها من ذهب» «٢». وحديث رواه أبو داود وابن حبان عن سهل بن الحنظلية قال: «قال النبي ﷺ من سأل وله ما يغنيه فإنّما يستكثر من النار، وفي رواية من حجر جهنّم. قالوا يا رسول الله وما يغنيه. قال قدر ما يغديه أو يعشيه وفي رواية أن يكون له شبع يوم وليلة» «٣» وحديث رواه أبو داود وأحمد والحاكم عن عطاء بن يسار قال: «قال النبي ﷺ لا تحلّ الصدقة لغني إلّا لخمسة:
لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدّق على المسكين فأهداها للغني»
«٤». وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «لأن يحتطب أحدكم جزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» «٥». وحديث رواه الإمام أبو عبيد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده «قال قلت يا رسول الله إنا قوم نتساءل أموالنا فقال ﷺ يسأل الرجل في الجائحة والفتق ليصلح بين الناس فإذا بلغ أو كرب استعفّ» «٦» وحديث رواه الإمام نفسه عن عدي بن الخيار أنه حدثه رجلان قالا «جئنا رسول الله ﷺ في حجة الوداع والناس يسألونه الصدقة. فزاحمنا عليه الناس حتى خلصنا إليه فسألناه من الصدقة فرفع البصر فينا وخفضه فرآنا جلدين. فقال إن شئتما فعلت ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» «٧». وحديث أورده ابن كثير عن عمر بن الخطاب
(١) التاج ج ٢ ص ٢٨ و ٢٩.
(٢) المصدر نفسه ص ٢٩ و ٣٠ و ١٧٧.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه. [.....]
(٦) كتاب الأموال ص ٥٤٨ و ٥٤٩ ومعنى إذا بلغ أو كرب استعفّ أي إذا بلغ صاحبه أو قريبا منها تعفف عن السؤال.
(٧) المصدر نفسه.
470
جاء فيه: «ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الأخلق الذي ليس له حظّ من كسب».
وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن قبيصة بن مخارق الهلالي جاء فيه: «لا تحلّ المسألة إلّا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش. ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش. فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا» «١».
وروى الطبراني عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «لو يعلم صاحب المسألة ما له فيها لم يسأل» «٢». وعن أم سنان الأسلمية قالت: «جئت رسول الله فقلت يا رسول الله إني جئتك على حياء وما جئتك حتى ألجأت الحاجة فقال لو استغنيت لكان خيرا» «٣» وعن ابن عباس قال: «قال رسول الله ﷺ استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك» «٤». وروى البزار عن أبي هريرة قال: «إنّ رجلين أتيا رسول الله فسألاه فقال اذهبا إلى هذه الشعوب فاحتطبا فبيعاه فذهبا فاحتطبا ثم جاءا فباعاه فأصابا طعاما ثم ذهبا فاحتطبا أي ضا فجاءا فلم يزالا حتى ابتاعا ثوبين ثم ابتاعا حمارين فقالا قد بارك الله لنا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» «٥» وروى أبو يعلى عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله ﷺ لا يفتح أحدكم على نفسه باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر» «٦».
والأحاديث بسبيل تأديب المسلم ورفع مستواه الخلقي والأدبي. وتجنيبه ذلّ السؤال. وحثّه على الكسب. وهي رائعة في بابها. وفيها تلقين جليل بأن أخذ
(١) التاج ج ٢ ص ٢٨.
(٢) مجمع الزوائد ج ٣ ص ٩٣- ٩٥.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه.
471
الصدقة لا يمكن ولا يصح أن يكون حلا لمشكلة الفقر وأن هذه المشكلة لا تحل إلا بالعمل والكسب. وأن الصدقة إنما هي للمحتاج غير القادر على الكسب لسبب من الأسباب. ولقد أمر الله الناس بالعمل والكسب وابتغاء فضل الله ورزقه في آيات كثيرة مبثوثة في السور المكيّة والمدنيّة التي مرّ تفسيرها حيث يتساوق التلقين القرآني والنبوي في هذا الأمر. ولقد كره بعضهم بناء على ذلك إعطاء القادر على الكسب ولو كان محتاجا. وكره بعضهم إعطاء من ليس في حاجة عاجلة ما دام عنده ما يسدّ رمقه في حالته الحاضرة. ومنهم من قدر ذلك بخمسين درهما أو عدلها ذهبا وفضة. ومنهم من قدر ذلك بشبعه وشبع عياله يوما «١». ولقد قال الإمام أبو عبيد تعليقا على الأحاديث إنها من قبيل التغليظ على السائل والسؤال. وإن المعطي يجزئ عنه ما يعطيه للسائل. وإن هذا هو ما عليه أمر الناس وفتيا العلماء.
وقد يكون هذا وجيها بخاصة بالنسبة لحاجة السائل الملحة. غير أن التلقين الذي نوهنا به يظل هو الأقوى فيما هو المتبادر.
وننبه على أن الكلام هو في صدد السؤال والسائلين أما المحتاج الذي لا يسأل ولا يقدر على الكسب أو لا يتيسّر له مجال للكسب فليس من حرج في إعطائه مطلقا. وهذه صفة المسكين على ما جاء في الحديث الذي أوردناه قبل.
وحقّه في الزكاة منصوص عليه والله تعالى أعلم.
وهناك من كره أن يعطي الشخص الواحد من الفقراء والمساكين أكثر من خمسين درهما. وفي قول أكثر من مائة درهم. وهناك من أجاز ذلك. وقد روي في صدد الإجازة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «إذا أعطيتم فأغنوا» «٢» وقوله: «لأكررن عليهم الصدقة وإن راح على أحدهم مائة من الإبل» «٣». وفي هذا من السداد والحكمة ما فيه. بل نراه عظيم الهدف لأن به يخلص فقير من الفقر ولا يظل موضعا للصدقة.
(١) انظر كتاب الأموال ص ٥٥٣ وما بعدها.
(٢) المصدر نفسه ص ٥٦٥.
(٣) المصدر نفسه.
472
والأقوال مجمعة على جواز إعطاء المكلّف صدقته لأقاربه الفقراء والمساكين الذين لا تجب عليه إعالتهم شرعا. وقد روي في صدد ذلك حديث نبوي عن سلمان بن عامر الضبي جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» «١». بل لقد روي حديث نبوي أجاز فيه إعطاء الزوجة زكاتها لزوجها وولدها الفقراء على اعتبار أنها غير مكلفة بهما شرعا حيث روي عن ابن مسعود أنه أفتى لامرأته أن تعطيه صدقتها فأبت حتى تستأذن النبي ﷺ فجاءت فاستأذنته «فقال لها صدق ابن مسعود زوجك وولده أحقّ من تصدقت به عليهم» «٢».
وهناك من أجاز إعطاء اليهودي والنصراني والمجوسي بل وغيرهم من الصدقة إذا كانوا فقراء ومساكين لإطلاق الآية. وهناك من لم يجز ذلك. وهناك من أجازه إذا لم يكن فقيرا أو مسكينا من المسلمين. ولقد روينا في سياق بحث الجزية أي في سياق الآية [٢٩] من هذه السورة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رتب من بيت المال الذي تجتمع فيه الصدقة وغيرها ليهودي طاعن ضرير مرتبا مما يدعم القول الأول. وهناك آية في سورة البقرة فيها إشارة داعمة له أيضا على ما شرحناه في سياقها. وهي الآية [٢٧٢] ومع ذلك فإن القول الثالث لا يخلو من وجاهة وصواب أيضا.
٢- والأقوال مجمعة على أن وَالْعامِلِينَ عَلَيْها هم السعاة عليها قبضا وقسمة. وهناك من قال إن لهم ثمن ما يجبون. وهناك من قال إنهم يعطون أجرة مثلهم على قدر عمالتهم ولو كانوا أغنياء عنها وهو الأوجه الذي عليه الجمهور.
٣- وأكثر الأقوال على أن المؤلفة قلوبهم هم الذين يتألفون على الإسلام استصلاحا لهم ولذويهم واستفادة من خدماتهم ولو كانوا أغنياء. ولقد روى
(١) كتاب الأموال ص ٣٥٣.
(٢) المصدر نفسه ص ٥٨٦- ٥٨٧ والحديث جاء في سياق طويل اكتفينا بالجوهري المتصل بالمسألة منه.
473
الطبري عن الزهري أحد أئمة الحديث من التابعين أنهم أو أنه يدخل فيهم من أسلم من اليهود والنصارى ولو كانوا أغنياء. وهناك مأثورات أوردناها قبل قليل تذكر أن النبي ﷺ أعطى لزعماء قبائل أغنياء من الصدقات لأجل هذه الغاية. وهناك أقوال عديدة بأن هذا الصنف قد بطل بعد أن أعز الله الإسلام. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاءه عيينة بن بدر فقال: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ليس اليوم مؤلفة وقد قال الطبري الصواب عندي أن الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما سدّ خلّة المسلمين والثانية معونة الإسلام وتقويته.
فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطى في كل وقت وقد أعطى النبي ﷺ المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وعزّ الإسلام وقال الإمام أبو عبيد إن حكم هذا الصنف محكم ولا ناسخ له من كتاب ولا سنّة «١». وفي هذا وجاهة وسداد ظاهران. ومعناه بعبارة أخرى أنه يجوز لولي أمر المؤمنين أن يعطي من الصدقات من يرى في إعطائه مصلحة للإسلام والمسلمين في كل وقت ومكان ولو لم يكن محتاجا. ويدخل في ذلك الرغبة في تأليف من دخل في الإسلام جديدا أو ضعفاء الإيمان من الزعماء والقائمون بأعمال نافعة للإسلام والمسلمين.
وهناك من قال يدخل في هذا الباب الكفار لدفع شرّهم إذا خشي أو لجلبهم إلى الإسلام إذا رجي «٢». ولا يخلو هذا من وجاهة. وهناك من أدخل فيه من هم في حدود بلاد الأعداء من المسلمين لتقويتهم «٣». ومع وجاهة هذا القول أيضا فإنه أدخل في باب سبيل الله أكثر منه في باب المؤلفة.
٤- وأكثر الأقوال على أن المقصود من وَفِي الرِّقابِ هم المكاتبون أي الذين يشترون أنفسهم من مالكيهم لقاء مبلغ يؤدونه إليهم على أقساط. وعلّل القائلون قولهم بأن الذي يعتق رقبة مباشرة يكون له حقّ ولائه وبعبارة أخرى يكون له حقّ في إرثه على ما جاءت به الآثار. فيكون في ذلك منفعة مستمرة للعاتق. في
(١) كتاب الأموال ص ٦٠٧. [.....]
(٢) تفسير رشيد رضا.
(٣) المصدر نفسه.
474
حين أن الزكاة لا يجوز أن يكون فيها ذلك على ما شرحه الطبري في صدد تصويبه لهذا القول. على أن هناك من قال إن الكلمة تعني فكّ رقبة المملوك إطلاقا. وقد روي عن ابن عباس جواز عتق الرقاب من زكاة المال والإطلاق أوجه على ما يلهمه الإطلاق في الآية حيث يتناول المكاتب وغير المكاتب. فالله سبحانه حثّ على فكّ الرقاب إطلاقا وشرع بعض التشريعات بسبيل ذلك مما مرّ منه أمثلة. ففي هذا توجيه عام إلى ذلك العمل الإنساني الكبير.
٥- وهناك من قال إن وَالْغارِمِينَ هم المدينون العاجزون عن الأداء الذين استدانوا لغير معصية وسرف وتبذير. وهناك من قال إنهم الذين حملوا حمالة «١» أو ضمنوا دينا وعجزوا عن تحمل ذلك من أموالهم أو أجحف أو يجحف أداء ذلك بهم. ويتبادر لنا أن النوع الثاني متفرع أو صورة ما من النوع الأول. ولقد رويت أحاديث نبوية تفيد أن التعبير يشمل النوعين حيث أبيح فيها إعطاؤهما من الصدقة. منها حديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: «أصيب رجل في عهد رسول الله ﷺ في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله ﷺ تصدقوا عليه فتصدق عليه الناس فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله ﷺ لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلّا ذلك» «٢» ومنها الذي روي عن قبيصة بن مخارق وأوردناه في الفقرة الأولى حيث وعد رسول الله فيه إعطاء الرجل الذي حمل حمّالة.
وقد أجاز بعض التابعين في احتساب الدائن دينا له على مدين معسر من الزكاة «٣». وفي هذا وجاهة ظاهرة فيما نرى. وفي آية سورة البقرة هذه وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ دعم لذلك.
٦- وأكثر الأقوال على أن سَبِيلِ اللَّهِ في الآية تعني الجهاد الحربي وأسبابه. وهناك من قال إن كل ما فيه برّ عام وتقوية للإسلام يدخل في هذا
(١) الحمّالة هي ما تحمّله الإنسان من دية قتيل أو غرامة ليصلح بين متخاصمين.
(٢) التاج ج ٢ ص ٢٧، ٢٨.
(٣) كتاب الأموال ص ٤٣٦.
475
التعبير. ومن ذلك تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ويدخل فيه بطبيعة الحال الجهاد الحربي وأسبابه.
وهذا هو الأوجه كما هو المتبادر. لأن سبيل الله كما قلنا في مناسبات عديدة سابقة أشمل من الجهاد الحربي الذي ليس هو إلّا وسيلة من وسائلها. وهناك من قال إن إعانة المسلم على الحجّ يدخل في هذا الباب. وليس من سند قوي يسند هذا القول كما أن الحجّ هو فريضة على المستطيع بنفسه ولا يترتب على غير المستطيع.
٧- ومعظم الأقوال على أن وَابْنِ السَّبِيلِ هو المجتاز من أرض إلى أرض وقد نفد ما في يده وأصبح محتاجا إلى مساعدة ولو كان في بلده غنيّا. وهناك من قال إنه الضيف إطلاقا. وروح الآية تجعل الرجحان للأول. على أن القول الثاني لا يبعد عن باب الأول إذا كان الضيف غريبا محتاجا كما هو الواضح. وحقّ ابن السبيل في الزكاة هو أن يعطي ما يكفيه لمعيشته وبلوغه إلى بلده.
٨- والأقوال مختلفة في صدد جواز الاجتزاء بإعطاء صنف أو أصناف دون أخرى مما ذكر في الآية. حيث قال بعضهم بجواز ذلك وحيث قرر بعضهم وجوب تجزئة الصدقة وتوزيعها على الأصناف جميعها. ولقد أورد المفسرون في صدد هذه المسألة حديثا نبويا رواه أبو داود جاء فيه: «أن رجلا جاء يسأل النبي ﷺ من الصدقة فقال إن الله تعالى لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزّأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» «١». وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب أن الله جلّ ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم وإنما عرف خلقه أن الصدقات لا تتجاوز هذه الأصناف إلى غيرهم. وهذا وجيه سديد كما هو المتبادر. وليس في الحديث ولا في نصّ الآية وروحها ما يؤيد القول الثاني. والأكثر على القول الأول. وقد يصح أن يقال في هذا الصدد إن القول بوجوب إعطاء الصدقة لجميع الأصناف متعسر
(١) هذا الحديث ورد في التاج برواية أبي داود انظر ج ٢ ص ٢٧.
476
التنفيذ أيضا إذا كان المعطي هو المكلّف لأنه قد لا يكون ما يجب عليه مجزيا لتوزيعه على أكثر صنف أو صنفين بل إن هذا هو الغالب. أما إذا كان بيت المال هو الذي يعطي فإنه مستطيع أن ينفق على كلّ صنف لأن الصدقات تتجمع فيه من كل نوع ومكان. ويجب عليه والحالة هذه أن ينفق على كل ما يتطلب الإنفاق من كل نوع.
٩- وهناك من نبّه إلى أنه لا يجوز إعطاء حصة صنف من الأصناف إلى أقل من ثلاثة منهم. وليس في هذا أثر نبوي ولا صحابي. ونحن نراه غريبا لأنه قد لا يكون وقت الإعطاء أشخاص عديدون من صنف واحد وقد لا يكون ما يعطيه المكلف إذا أعطى صدقة بنفسه مجزيا للتوزيع على أكثر من شخص واحد.
١٠- وقد كره بعضهم إعطاء صدقة بلد إلى أهل بلد آخر مع وجود المستحقين في البلد واستندوا في ذلك إلى حديث نبوي يوصي فيه معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن حيث جاء فيه: «فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم. فإن هم أطاعوا بذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» «١».
وليس في الحديث تأييد حاسم للقول المذكور فيما نرى. لأنه إنما احتوى شرح مبادئ الإسلام والزكاة. ولا سيما أن الله قد جعل للزكاة مصارف عديدة ولم يجعلها للفقراء وحدهم. أو لعلّ بعثة معاذ قبل أن تنزل الآية التي تذكر مصارف الزكاة. وبيت مال المسلمين تتجمع فيه الصدقات من كل ناحية وتوزع منه على مصارفها في كل ناحية. فليس من حكمة لتخصيص زكاة كل بلد لأهل ذلك البلد.
وقد يكون في القول وجاهة بالنسبة للمستوجب عليه الزكاة إذا أراد توزيعها بنفسه.
(١) رواه الخمسة عن ابن عباس انظر التاج ج ٢ ص ٣- ٤، والقصد من النهي عن كرائم الأموال أن لا يأخذ الزكاة من أحسن ما عندهم أو من أحب ما عندهم أو أحسنه وأحبه إليهم.
477
استئنافا بالأحاديث النبوية التي تجعل الأولوية للأقارب وذوي الأرحام. وقد أوردنا بعضا منها قبل قليل.
ونكرر هنا ما قلناه في تعليقنا الأول على الزكاة في سورة المزمل أنه ليس هناك ما يمنع أن ينشأ بمال الزكاة أو بجزء منه منشآت لمصلحة المعوزين مثل المياتم والمشافي والعيادات ودور العجزة والملاجئ والصنائع والضيافة حيث يكون هذا أدوم وأشمل وأهدى والله أعلم.
هذا، ولقد شاءت حكمة التنزيل أن لا يرد في القرآن مقادير الزكاة فبينت ذلك السنّة النبوية. وهو ما كان شأن الصلاة أيضا. وقد رأينا أن نورد المبادئ الرئيسية من ذلك إتماما للكلام. مع التنبيه على أن هناك تفريعات وخلافات مذهبية لم نر أن نتبسط فيها:
١- النصاب الأدنى في الإبل السائمة خمس فلا صدقة فيما دون ذلك. وفي الخمس شاة ثم تزداد الفريضة بنسب محددة من الزيادة «١». ويستثنى من ذلك العوامل أي التي تعمل في حرث وسقي. فزكاتها مندمجة في زكاة الغلة التي تنتج من عملها «٢». ويستثنى من ذلك الإبل المعدة للتجارة. فإن زكاتها تكون حسب قيمتها كعرض «٣».
٢- النصاب الأدنى في البقر ثلاثون فلا صدقة فيما دون ذلك. وفي الثلاثين تبيع ثم تزداد الفريضة بنسب محدودة من الزيادة. والاستثناءان الواردان في صدد الإبل واردان هنا أيضا. وصدقة الجواميس مثل صدقة البقر «٤».
(١) كتاب الأموال ٣٥٨ وما بعدها وفي هذا الفصل أحاديث وبيانات كثيرة اكتفينا بالأساس منها. وفي التاج أحاديث فيها تعيين للنسب والمقادير وما أوردناه في المتن مستخلص من كل ذلك. انظر التاج ج ٢ ص ١٠ وما بعدها.
(٢) المصدر نفسه ص ٣٨١.
(٣) المصدر نفسه ص ٣٨٢.
(٤) المصدر نفسه ٣٧٨ وما بعدها.
478
٣- النصاب الأدنى في الغنم- الضأن والماعز- أربعون. ولا صدقة فيما دون ذلك. وفي الأربعين شاة إلى أن تبلغ مائة وعشرين فتزداد الفريضة بنسبة الزيادة. ويستثنى من ذلك ما كان للتجارة فإنه يقوّم وتؤدى زكاته حسب قيمته «١».
٤- النصاب الأدنى في الذهب عشرون دينارا. وفي الفضة مائتا درهم.
وليس فيما دون ذلك صدقة «٢». وفي النصاب وما فوقه اثنان ونصف في المائة.
ولا تستحق الصدقة إلّا إذا حال على النصاب أو ما فوقه حول حيث يكون معنى ذلك أنه فائض عن نفقة الحائز كما هو المتبادر. وهناك قول بأن صدقة الذهب تعطى ذهبا وصدقة الفضة تعطى فضة، بحيث إذا ملك شخص النصاب في أحدهما ولم يملكه في الثاني يؤدي زكاة عن ما يملك نصابه دون الثاني. وهناك قول بأن الذهب والفضة يقدران معا فإذا بلغت قيمتها النصاب الذهبي أو الفضي وجب عليه الزكاة بقطع النظر عن نقص نصاب الذهب أو الفضة. وهذا هو الأوجه في ما هو المتبادر. لأن النقد ثمن السلعة وليس سلعة. والقيمة تقدر بنفعها الاستعمالي.
والأقوال مجمعة على أن النصاب الذي يحول عليه الحول يجب أن يكون زائدا على الدين الذي قد يكون على مالكه.
وبالنسبة للزمن الحاضر يصحّ أن تقدر قيمة العشرين مثقالا من الذهب أو المائتي درهم من الفضة بما تساويه اليوم فتكون قيمتها الحاضرة هي النصاب الواجب أداء الزكاة عنه وعن ما يزيد عليه على ما هو المتبادر. وهو ما يقرر جمهور العلماء المعاصرين.
٥- هناك حديث يرويه الدارقطني والحاكم صححه عن أبي ذرّ عن النبي ﷺ جاء فيه: «في الإبل صدقتها. وفي البقر صدقتها. وفي البزّ صدقته» «٣» حيث ينطوي تشريع نبوي يجعل عروض التجارة إذا بلغت قيمتها النصاب خاضعة
(١) كتاب الأموال ص ٣٨٢ وما بعدها و ٣٨٦.
(٢) المصدر نفسه ٤٠٨ وما بعدها والأقوال المذكورة في هذا الفصل أيضا.
(٣) التاج ج ٢ ص ١٩. البزّ بالفتح الثياب أو ثياب التجارة. [.....]
479
للزكاة. وهو ما عليه الجمهور. والمتواتر أن هذه العروض تقوم بقيمتها حين ما يحول الحول عليها وتؤدى صدقتها يحسب ذلك كصدقة النقد. وقد روى الإمام أبو عبيد عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: «كنت على بيت المال في زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها شاهدها وغائبها ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» «١» وروي عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: «مرّ بي عمر فقال يا حماس أدّ زكاة مالك فقلت مالي مال إلا جعاب وأدم فقال قوّمها وأدّ زكاتها» «٢» وروي عن نافع عن ابن عمر أنه قال: «ما كان من رقيق أو بزّ يراد به التجارة ففيه زكاة» «٣».
والجمهور على أن الرقيق الذي تجب على قيمته الزكاة هو ما كان للتجارة «٤».
وهذا في محلّه.
ولقد اختلف المؤولون والفقهاء في اللؤلؤ والجواهر والمصوغات الذهبية والفضية. فهناك من أوجب على قيمتها الزكاة في أي حال. وهناك من أوجب الزكاة على ما كان منها للتجارة دون الحلية لأن الحلية في منزلة أثاث البيت ومتاعه فلا تجب عليه صدقة «٥». وقد يكون هذا هو الأوجه. وتبدو وجاهته قوية إذا ما لوحظ أنه ينفد بالزكاة في بضع سنين لأنه غير نام. والله تعالى أعلم.
٦- في المال المدين أقوال عديدة «٦». منها وجوب تزكية الدين إطلاقا.
ومنها أن زكاته لا تجب على صاحبه ولكنها تجب على المديون. ومنها أن لا زكاة عليه إلّا بعد قبضه. ومنها أن ما كان مرجو القبض يزكي عنه صاحبه وما لم يكن كذلك يؤجل حتى يقبض. ولعلّ أوجه الأقوال كما هو المتبادر لنا تزكية الدين
(١) كتاب الأموال ص ٤٢٥ و ٤٦٥ و ٤٦٦.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه ص ١٢٩.
(٥) المصدر نفسه ص ٤٤١.
(٦) المصدر نفسه ص ٤٢٥ وما بعدها.
480
المرجو قبضه وتأجيل غير المرجو إلى أن يقبض.
٧- ليس في الخيل والبراذين والحمير زكاة إذا كانت للاستعمال وتجب عليها إذا كانت للتجارة حيث تكون كالإبل والبقر والغنم المعدة للتجارة «١».
٨- النصاب في الحنطة والشعير والتمر والزبيب خمسة أوسق. وليس فيما دون ذلك صدقة. والوسق ١٥ مدا والمدّ ملء إناء ماء يكفي الوضوء أو وزن رطلين أي نحو ٤٠٠ غرام «٢». وفي النصاب وما فوقه العشر في ما يسقى بماء المطر والعيون. ونصف العشر فيما يسقى بماء الآبار والسواقي والنواضح «٣». أي أن زكاة هذه المواد أربعة أضعاف زكاة النقد.
٩- العنب والبلح والقطاني كالحمص والعدس والعسل والزيتون والخضار مما اختلف في وجوب الصدقة فيه لاختلاف الأحاديث في ذلك حيث ذكرت في بعض الأحاديث وأغفلت في بعضها. وقال بعضهم إذا بيعت تحسب كسلعة تجارية وتؤدى صدقتها إذا بلغت نصاب النقدين. خلافا للحنطة والشعير والتمر والزبيب التي يجب أداء صدقتها إذا ما بلغت النصاب. ولو كانت لطعام صاحبها «٤».
١٠- وقد اختلف في وجوب أداء صدقة غلة الأرض إن كان صاحبها مدينا فقال بعضهم بوجوبها وقال بعضهم بعدم وجوبها وتوسط بعضهم بإسقاط قيمة الدين فإن بقي نصاب تؤدى زكاته «٥». وهو الأوجه. والله أعلم.
١١- وأقوال العلماء القدماء على أن قيمة أدوات حرفة الصانع لا تدخل في تقويم ما يجب على صاحب الحرفة من زكاة ما يملكه من عروض ونقد في نهاية الحول.
غير أن الظروف الحاضرة غيرت الصورة بعض الشيء حيث صار هناك معامل
(١) كتاب الأموال ص ٤٦٨ وما بعدها.
(٢) المصدر نفسه ص ٤٦٣ وما بعدها.
(٣) المصدر نفسه ص ٤٦٨ وما بعدها.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
481
ومصانع ودور صناعة ومهن تقدر قيمتها بمبالغ كبيرة. وقد أوجب بعض العلماء المعاصرين تقويمها وأداء الزكاة عن قيمتها. واعتبرها بعضهم مالا مجمدا كالأرض وأوجب الزكاة على ما تدره من ربح بعد طرح أجور العمال وأكلاف مواد العمل إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يربحه من هذه الأدوات إذا بلغ النصاب أو زاد عنه. وهذا القول هو صورة من صور القول القديم. فصاحب المهنة لا يدفع زكاة قيمة أدوات مهنته ولكنه يدفع ما يريحه من هذه الأدوات إذا بلغ ربحه النصاب أو زاد وحال عليه الحول وكان زائدا عن حاجة معيشته أثناء السنة. ومع ذلك فقد يكون أوجه من القول بأن على صاحب المصنع الكبير تقويم قيمة مصنعه وأداء الزكاة عنها. لأنه يقتضي أن يدفع زكاة قيمة مصنعه سنويا مضافا إليها ما زاد عن حاجته من أرباحه. فيكون قد دفع مضاعفا ودفع زكاة مال مجمد يستنفده الدفع في بضع سنين أيضا والله تعالى أعلم. بل ولعل القول الثاني أوجه من باب أولى أيضا لأن الأرض ثابتة ومستمرة الإغلال في حين أن المصنع معرض للاستهلاك مع الوقت ومحتاج إلى نفقة الترميم والإصلاح مستمرة أيضا مع شيء من التعديل. فزكاة غلة الأرض تؤدى حين حصادها وهذا مستند إلى نص قرآني وهو آية الأنعام هذه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [١٤١] بقطع النظر عن حيلولة الحول. ونفقة حياة صاحبها. ثم إن زكاة الأرض التي تسقى بها والسواقي والآبار والنواضح تكون نصف زكاة الأرض التي تسقى بماء المطر والضخ بدون كلفة. ويلحظ أن زكاة غلة الأرض تبلغ نحو أربعة أضعاف زكاة النقد والعروض التجارية. والحكمة المتبادرة من ذلك هي أن الأرض لا يدفع عنها زكاة مع أنها ذات قيمة كبيرة لأنها مجمدة فاقتضت الحكمة أن تكون زكاة غلتها مضاعفة بالنسبة المذكورة وأن تدفع يوم حصادها وجنيها بقطع النظر عن حيلولة العام والله أعلم.
١٣- وفي العصر الحديث صورة جديدة لم تكن في القديم وهي أسهم الشركات المساهمة التي يشتريها ويتداولها الناس ويأخذون ربحها حسب نتائج
482
وحسابات إدارة الشركات. ومع ما قد يرد على البال من فرق بين هذه وبين المصانع والعقارات المعدة للإيجار فإن الأسهم في يد صاحبها مجمدة.
والجمهور على أن دور السكن لا يؤخذ عن قيمتها زكاة ولكن صار يقوم عمارات متنوعة معدة للإيجار وبيوت للسكن وفنادق وحمامات ومخازن ودكاكين وأندية ومقاهي إلخ.. وهذه ذات قيمة كبيرة. ولكن الأموال مجمدة فيها وإذا أخذ زكاة قيمتها يكون جنفا على أصحابها لأن هذه الزكاة قد تبلغ نصف الريع أو ربعه ولذلك يتبادر لنا أيضا أن أسلوب غلة الأرض ينطبق على هذه أيضا فيكون زكاة هذه العمارات مستوجبا على ريعها. ويكون مضاعفة مثل غلة الأرض وريع المعامل والمصانع. ولما كانت هذه العمارات تحتاج إلى إصلاح وتجديد فتكون زكاتها مثل زكاة غلة الأرض التي تسقى بماء الآبار والضخ والله أعلم.
وقد يقال إن قياس المعامل والعمارات المعدة للإيجار على الأرض فيه تجوز لأن الأرض دائمة والمعامل والعمارات قد تزول غير أنه يتبادر لنا أن هذه العمارات والمعامل قد تدوم عشرات بل مئات السنين واستثناؤها من التعويض أكبر من نسبة النقد من جنف عن مورد الزكاة ومصارفها ولذلك لا نزال نرى أن مضاعفة زكاة ريعها يظل وجيها والله تعالى أعلم. على كل حال وربحها محدود لا يتجاوز العشرة في المائة من قيمتها. على أحسن الحالات. فيكون في إيجاب زكاتها حسب قيمتها مضاعفة لقيمة الزكاة وإجحافا لصاحبها الذي قد لا يكون له مورد آخر. ويتبادر لنا أن الزكاة الواجبة عليها هي زكاة ربحها حسب النصاب الشرعي بكامله دون المناصفة. لأن المناصفة جعلت لغلات الأرض التي تسقى بالآبار والنضح وقيس عليها المصانع والعقارات المعدة للإيجار لأنها في حاجة إلى ترميم. وهذا وذاك ليس واردا بالنسبة لإسهام الشركات والله تعالى أعلم.
١٤- وهناك صورة أخرى. وهي ما يتقاضاه أرباب الوظائف الحكومية وغير الحكومية من مرتبات وما يحصل عليه أصحاب المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين من أجور. ومن هذه وتلك ما يكون كبير المقدار. ويتبادر
483
لنا أن ما يبقى في يدهم في آخر كل سنة خالصا لهم تجب عليه الزكاة إذا بلغ النصاب أو زاد. والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث عديدة في عدم التضييق والتشديد على الناس في مقاضاة الزكاة الواجبة عليهم. وفي إيجاب التزام الحق على الجباة. منها حديث رواه الإمام أبو عبيد وأبو داود أيضا عن رافع بن خديج عن رسول الله ﷺ قال: «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته» «١» وحديث رواه الإمام مالك ورواه الخمسة أيضا عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ قال حين بعث معاذا إلى اليمن «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات عن كل يوم وليلة. فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة أموالهم. فإن أقروا بذلك فخذ منهم واتق كرائم أموالهم. وإياك ودعوة المظلوم فإنه ليس لها دون الله حجاب» «٢». وحديث رواه الإمام أبو عبيد عن عروة عن أبيه قال: «بعث رسول الله ﷺ مصدقا فقال لا تأخذ من حزازات أنفس الناس شيئا. خذ الشارف والبكر وذا العيب» «٣» وفي كتاب الأموال أحاديث صحابية تحتوي صورا تطبيقية فيها التزام لوصايا رسول الله ﷺ الحكيمة.
ولقد أوردنا ما ورد من أحاديث نبوية في صدد وجوب أداء الزكاة وفي إنذار الذين لا يؤدونها في سياق تفسير الآية [٣٤] من السورة. فنكتفي بهذه الإشارة لنربط بين تلك الأحاديث وبين بحث الزكاة.
وختاما نقول إن فحوى الآية متسق في هدفه التشريعي مع المبادئ القرآنية العامة في إيجابها على القادرين مساعدة المحتاجين والإنفاق في سبيل الله ووجوه البرّ والصالح العام من جهة، وفي عدم هذه الجهات هنا بالتطوع والتبرع من جهة ثانية، وفي جعل هذا الواجب مما يدخل في واجبات السلطان الإسلامي وجزءا من سياسة الدولة المالية والاجتماعية من جهة ثالثة. وفي هذا من المدى والروعة
(١) كتاب الأموال ص ٤٠١ والتاج ج ٢ ص ٢٦.
(٢) كتاب الأموال والتاج ج ٢ ص ٣ و ٤.
(٣) كتاب الأموال ٤٠٢- ٤٠٦. [.....]
484
وخصائص التشريع القرآني ما فيه مما نبهنا عليه في سياق آيات الغنائم في سورة الأنفال والفيء في سورة الحشر.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦١]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
. (١) هو أذن: كناية عن وصف رسول الله بأنه يصغي ويسمع لكل ما يقال له ويصدقه.
في هذه الآية:
١- صورة أخرى للمنافقين حيث إنهم كانوا يؤذون النبي بأقوالهم ويصفونه بأنه يصغي لكل ما يقال له ويصدقه.
٢- وأمر للنبي ﷺ بالردّ عليهم وإنذارهم. فإذا كان هو أذنا كما قالوا فإنه أذن خير للمسلمين المخلصين وليس أذن شرّ. وإنه لمؤمن بالله ومعتمد عليه وحده. وإنه لمؤمن للمسلمين المخلصين وراكن إليهم وحسن الظن فيهم. وإنه في خلقه هذا لرحمة للمسلمين المخلصين في إيمانهم ونياتهم. وإن الذين يؤذون رسول الله بأي نوع من الأذى قولا وفعلا وجهرا وسرّا مستحقون لعذاب الله الأليم.
تعليق على الآية وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وما فيها من تلقين وصور
وقد روى الطبري وغيره «١» أن بعض المنافقين كانوا في مجالسهم الخاصة
(١) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير.
485
يقدحون في النبي ﷺ فإذا حذر بعضهم بعضا من وصول خبر هذه المجالس إليه قالوا إنه أذن سهل الإقناع فننكر ونحلف له فيصدق ويقنع. وإلى هذه الرواية قال البغوي إن الآية نزلت في نبتل بن الحارث من المنافقين وكان مشوه الخلقة حتى أن رسول الله ﷺ قال عنه على ما جاء في رواية البغوي «من أحبّ أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل» وكان ينمّ حديث النبي إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال: «إنما محمد أذن. فمن حدثه صدقه فنقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف بالله فيصدقنا». وكل من الروايتين محتملة ومتسقة مع الآية إجمالا. وإن كان مما يتبادر لنا أن الآية يمكن أن تفيد أن المنافقين إنما كانوا يعيبون على النبي ﷺ كونه سريع الاستماع والتصديق لكل ما ينقل إليه مع تقريرها حقيقة أمرهم في تعمد القدح به وإيذائه.
على أن الذي نرجحه أن الآية لم تنزل لحدتها ولمناسبة ما ورد في إحدى الروايتين. وأنها جزء من السلسلة واستمرار في السياق. وعطفها على ما سبقها واستعمال ضمير الجمع الغائب والعائد إلى من هم موضوع الكلام في الآيات السابقة قرائن على ذلك. ويسوغ القول والحالة هذه أن الصورة كانت قديمة معروفة عن المنافقين فذكرت في سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاقهم ومواقفهم التي اقتضت حكمة التنزيل وحيها أثناء غزوة تبوك للتنديد بتثاقلهم وتخلفهم عن الغزوة. والله أعلم.
والردّ الذي احتوته الآية انطوى على ثناء رباني بليغ على أخلاق النبي ﷺ وما تحلّى به من صفات كريمة محببة. وجاء الردّ بسبب ذلك قويا محكما في الوقت نفسه: فالنبي إذن خير لهم. وليس ظنان سوء بالمؤمنين المخلصين. وإنه ليراهم خليقين بالاعتماد والثقة والتصديق ولا سيما أنه يؤمن بالله ويجعل اعتماده عليه ولا يبالي ما وراء ذلك. وقد صار بهذا رحمة للمؤمنين. لأن إساءة الظن وكثرة الشك بدون موجب وخاصة في المخلصين من مفسدات الأمور ومعقدات النفوس. وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك في سورة الحجرات على ما مرّ تفسيره. ومما لا ريب فيه أن في هذه الصفة على هذا البيان مستمد إلهام قوي لمن يتولى قيادة الأمة.
486

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
. عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا حكاية حلف المنافقين ليرضوا المؤمنين وردّا عليهم بأنهم لو كانوا صادقين لكان الأوجب عليهم أن يرضوا الله ورسوله، وإنذارا لمن يحادد الله ورسوله بالخزي العظيم والعذاب المخلّد.
تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
روى المفسرون «١» عن قتادة أن جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت وقعوا في النبي ﷺ وقالوا إن كان ما يقول محمّد حقا فنحن شرّ من الحمير. وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس فغضب الغلام وقال والله إن ما يقوله محمد حقّ وأنتم شرّ من الحمير ثم أتى رسول الله فأخبره.
فدعا لهم فسألهم فحلفوا له أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم هم الكاذبون.
وصدّقهم النبيّ فجعل عامر يدعو ويقول اللهمّ صدّق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله الآيتين. وهناك رواية أخرى عن مقاتل يرويها المفسرون «٢» أيضا تذكر أن الآيتين نزلتا في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله أتوه يعتذرون ويحلفون فأنزلهما الله.
وفي السياق ما يفيد أن هذه السلسلة نزلت أثناء غزوة تبوك بحيث تكون الرواية الثانية غير محتملة الصحة. والرواية الأولى متسقة مع الآيتين ومحتملة الصحة. غير أن الذي يتبادر لنا على ضوء السياق أن الآيتين متصلتان بالصورة التي
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.
(٢) المصدر نفسه.
احتوتها الآية السابقة وبمشهد من المشاهد كان فيه بعض المؤمنين والمنافقين وجرى فيه أخذ ورد وعتاب ونقاش حول ما كان يقع من المنافقين من القدح والعيب في حقّ رسول الله ﷺ في مجالسهم الخاصة حاول المنافقون فيه التنصل والتبرّؤ مما عوتبوا عليه إرضاء للنبي ﷺ والغاضبين لكرامته من المؤمنين المخلصين.
ومع ما قلناه فإننا نرجّح أن الآيتين لم تنزلا لمناسبة جديدة وليستا منفصلتين عن السياق. والمشهد الذي احتوتاه كان قديما فذكر في سياق سلسلة التنديد والتقريع والتذكير بأخلاق المنافقين ومواقفهم. وعطف الآيتين على ما قبلهما وضمير الجمع الغائب من القرائن على ذلك.
وفي المشهد المحكي صورة أخرى لما صار إليه موقف المنافقين من تطور إلى الخوف والرياء والرغبة في كسب رضاء النبي ﷺ والمؤمنين المخلصين. وفيه صورة تتكرر في ظروف استعلاء أصحاب الحق والمجاهدين في سبيله. وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى بالتحذير من الانخداع بالمنافقين الذين لم يثبتوا إخلاصهم وصدق دعواهم في المواقف والظروف الهامة.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
. في الآيات:
١- إشارة إلى ما كان يحذر منه المنافقون من نزول قرآن فيهم يفضح حقائق قلوبهم وأسرار مجالسهم.
٢- وأمر للنبي بتوعدهم بأن الله محقق ما يتوقعون ويحذرون رغما عما يبدو في طي كلامهم من استخفاف واستهزاء.
488
٣- وإشارة أخرى إلى ما كانوا يعتذرون به حينما يعاتبون على ما يقع في مجالسهم حيث كانوا يقولون إنما كنّا نلهو ونمزح.
٤- وسؤال استنكاري على سبيل التنديد عما إذا كان يصحّ لمؤمن مخلص أن يلهو ويخوض ويمزح ويستهزىء بالله وآياته ورسوله.
٥- وإيذان لهم على سبيل الإنذار بأن اعتذارهم غير مجد لهم. فقد كفروا بعد إيمان. وإذا كان من الجائز أن يعفو الله عن بعضهم لاحتمال توبته فإنه معذب بعضهم حتما لأنهم مجرمون ومصرّون على إجرامهم.
تعليق على الآية يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
وقد روى المفسرون «١» روايات عديدة في صدد نزول هذه الآيات. منها أنها نزلت في جماعة من المنافقين كمنوا للنبي ﷺ في طريق عودته من تبوك ليوقعوه عن دابته في هاوية. فعلم النبي ﷺ بأمرهم وعاتبهم فأنكروا واعتذروا. ومنها أن بعض المنافقين كانوا في أثناء السفر إلى تبوك يقدحون في النبي ويستهزئون بما كان يعد من نصر الله له على الروم ويقولون أيحسب أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا. والله كأننا بهم غدا مقرّنين بالجبال فعلم النبي بأقوالهم فأوقف الركب وعاتبهم فأنكروا واعتذروا ومنهم من تاب وحسن إيمانه. ومنها أن رجلا من المنافقين استغاب القرّاء من أصحاب رسول الله أثناء غزوة تبوك وقال إنهم أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء فكذّبه أحد المخلصين ثم ذهب ليخبر النبي ﷺ به فوجد القرآن قد سبقه. ومما رواه المفسرون أن المنافقين كانوا يقولون حينما يجتمعون لاستغابة النبي والمخلصين لعلّ الله لا يفشي سرّنا. ومما رواه المفسرون في سياق الرواية الأولى أن بعض أصحاب رسول الله ﷺ اقترحوا
(١) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.
489
قتل الجماعة المتآمرة فقال: «أكره أن تقول العرب لما ظفر محمّد وأصحابه أقبل يقتلهم» بل يكفيناهم الله بالدبيلة «١». وهناك رواية تذكر أن الاستهزاء كان من ابن أبيّ بن سلول في المدينة وأن النبي عاتبه فأخذ يعتذر له ويقول إنما كنا نخوض ونمزح يا رسول الله. وقد ذكر هذا المفسّر اسم الشخص الذي تاب وكان مظهر عفو الله وهو مخشي بن حمير الأشجعي وروي أنه كان يقول: «اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها، تقشعرّ الجلود وتجب القلوب منها. اللهمّ اجعل وفاتي قتلا في سبيلك. لا يقول أحد أنا غسلت. أنا كفنت. أنا دفنت» وأنه أصيب يوم اليمامة.
وليس شيء من الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة والذي يتبادر لنا أن فحوى الآية الأولى وروحها تلهم أن الآيات في صدد مجلس من مجالس المنافقين استغابوا فيه النبي ﷺ وأصحابه وقالوا ما حكته الآية الأولى من حذرهم على سبيل الهزء والتفكّه. وعلم النبي ﷺ بأمرهم فعاتبهم فاعتذروا. ومنهم من تاب وحسن إيمانه ومنهم من ظلّ مرتكسا في الكفر والنفاق. وقد يكون هذا المجلس أثناء غزوة تبوك فجاءت الآيات منسجمة مع السلسلة السابقة واللاحقة.
وإن كنّا نرجح أنها لم تنزل مستقلة عن ما سبقها وأنها جزء من السلسلة وأن المجلس كان سابقا فتضمنت الآيات حكايته والتذكير به في جملة ما حكى وذكر به من مواقفهم وأخلاقهم في سياق التنديد بهم على تثاقلهم عن الغزوة. وتكون الآيات والحالة هذه قد نزلت أثناء الغزوة وإن صحّ هذا الترجيح وهو ما نرجوه تكون الرواية التي ذكر فيها اسم ابن أبي بن سلول هي المحتملة وكان هذا من المتخلّفين والله أعلم.
والمشهد الذي حكته الآيات مما يمكن أن يكون من ذوي القلوب المريضة في كل ظرف. وبخاصة في الظروف العصيبة. والآيات والحالة هذه تنطوي على تلقين لذوي الشأن بوجوب الوقوف من هذه الفئة موقف اليقظة والشدة وعدم الانخداع بما يبدونه من أعذار كاذبة إلا إذا تحقق صدق اعتذارهم وتوبتهم.
(١) فسّر البغوي الدبيلة بأنها سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم.
490
ونقف عند رواية البغوي التي تضمنت جواب النبي ﷺ على اقتراح قتل المتآمرين من المنافقين لنقول إن مثل هذا الجواب صدر أيضا من النبي ﷺ في حقّ عبد الله بن أبي بن سلول كبير منافقي المدينة أيضا على ما شرحناه في تفسير سورة (المنافقون) حيث يتأكد في هذا ما نبهنا عليه من الحكمة التي انطوت في سيرة رسول الله ﷺ في موقفه من المنافقين وعدم البطش والتنكيل فيهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
. (١) بخلاقهم: بنصيبهم.
(٢) وخضتم كالذي خاضوا: بمعنى وفعلتم ما فعلوه من خوض وسعي في الباطل والفساد.
تعليق على الآية الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر
491
أنها استمرار في السياق وجزء من السلسلة. وقد جاءت معقبة على الآيات السابقة التي احتوت ما احتوته من مشاهد مواقف المنافقين ومكائدهم وسوء أدبهم ونواياهم بسبيل تقرير أخلاقهم بصورة عامة وكونهم عصبة واحدة متضامنة نساء ورجالا في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بما في أيديهم ونسيانهم الله وحسابه، وإنذارهم مع تهوين أمرهم وتقرير كونهم ليسوا بدعا في الأمم لا في كثرة المال والولد. ولا في متاع الدنيا والتمكن منها. ولا في ما كان منهم من كيد وخبث ومكر وكفر وخوض وتكذيب. ولقد حلّ بسابقيهم من أمثالهم الذين كانوا أشد منهم قوّة وأكثر أموالا وأولادا غضب الله وليسوا ليعجزوه. فقد حبطت أعمالهم وخسروا في الدنيا والآخرة ولهم النار مع الكفار خالدين فيها. وعليهم اللعنة.
وأسلوب الآيات قوي حاسم في كل ما جاءت بسبيله من جهة وموثق من جهة أخرى لكون الآيات جميعها منذ الآية [٤٢] بل منذ الآية [٣٧] سلسلة متصلة الأجزاء للتنديد بالمنافقين وتقريعهم والتذكير بأخلاقهم ومكائدهم ومواقفهم التي كانت تبدر منهم قبل غزوة بدر في مناسبة الموقف الذي وقفوه من الدعوة إلى غزوة تبوك وتهرّبهم منها. ولعلّ ذكر المنافقات في الآيات تدعيم لما قررناه من حيث إنه لم يرو أحد من المنافقات من كان خرج مع من خرج من المنافقين في غزوة تبوك.
وإنما أشركن بالذكر لأنهن كن يشاركن المنافقين في الدور الخبيث الذي كانوا يقومون به في المدينة. ولقد تكرر ذكر المنافقات مع المنافقين في أكثر من موضع حيث يدعم هذا ما قلناه في المناسبات السابقة من الدلالة على شخصية المرأة العربية وبروزها في بيئة النبي ﷺ أو على الأقل على وجود شخصيات نسائية بارزة. وهذه الدلالة منطوية في ما تكرر ذكره من المؤمنات المخلصات في مواضع عديدة أيضا.
ويحسن أن ننبّه في مناسبة الآية [٧٠] إلى أسلوب من أساليب النظم القرآني. فأخبار الأمم السابقة ورسلهم في السور المكيّة كانت تقصّ بشيء من التفصيل. وإذا اقتضت حكمة التنزيل أن تذكر اقتضابا كانت العبارة القرآنية تتضمن
492
مع ذلك شيئا ما عنها وعنهم. أما في السور المدنيّة فاكتفى بالتذكير الخاطف كما جاء في هذه الآية وفي بعض سور أخرى مثل الحديد والتغابن.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة رواه بشيء من الخلاف في الألفاظ والترتيب الشيخان عن أبي سعيد رأينا الأفضل إيراده جاء فيه قال: «قال النبي ﷺ لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضبّ لا تبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن؟
وفي رواية قيل يا رسول الله كفارس والروم. قال ومن الناس إلّا أولئك»
«١». وأورد المفسرون الذين أوردوا صيغة أبي هريرة قوله «اقرأوا إذا شئتم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إلى آخر الآية». ويلحظ أن الآيات هي في صدد المنافقين السامعين والتذكير بأن في الأمم السابقة من كان على شاكلتهم فأحبط الله أعمالهم وجعل النار دار خلود لهم وأن هذا ما سوف يكون شأن هؤلاء المنافقين بحيث يكون إيراد الحديث الذي فيه خطاب للمسلمين عامة يتحمّل التوقف. ومع ذلك ففي الحديث على كل حكمة ومعجزة. حيث انطوى على تحذير المسلمين وتنبيههم حتى لا يسيروا في كل طريق سار فيه اليهود والنصارى أو الروم والفرس مما ليس فيه فائدة أو فيه مخالفة لمبادىء الإسلام وآدابه وحيث تحقق تنبيه النبي ﷺ بما كان من فئات كثيرة من مثل ذلك.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢).
(١) انظر التاج ج ١ ص ٣٦- ٣٧.
493
تعليق على الآية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ والآية التالية لها. وما فيهما من دلالة وتلقين. وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. وبعض ما ورد في سياقهما من أحاديث نبوية عن الجنة ورضوان الله
عبارة الآيتين واضحة أيضا. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددهما.
والمتبادر أنهما جاءتا استطراديتين للتنويه بالمؤمنين المخلصين وتبشيرهم مقابل ما سبقهما من التنديد بالمنافقين وإنذارهم: فالمؤمنون المخلصون من الرجال والنساء متضامنون متناصرون على كل ما فيه الخير والحقّ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله وسيكونون بسبب ذلك موضع رحمة الله القوي الحكيم. وقد وعدهم بالخلود في مساكن طيبة من جنّات عدن فضلا عن رضوان الله الذي يفوق في مداه ومعناه نعيم الجنّات.
وعلى هذا فالآيتان ليستا منفصلتين عن السياق والسلسلة. ومثل هذا الاستطراد للمقابلة مألوف في النظم القرآني مما مرّ منه أمثلة عديدة. وورود الآيتين في مقامهما يوثق ما قلناه من وحدة السلسلة وانسجام آياتها وترابطها.
وذكر المؤمنات في هذا المقام يؤكد الدلالة التي نبّهنا عليها قبل قليل في صدد بروز المرأة العربية ونشاطها في بيئة النبي ﷺ ومشاركتها في ما كان من أحداث متنوعة في مجال الدعوة الإسلامية العظيم.
وفي ذكر المؤمنات مع المؤمنين في الآيات معنى آخر نوّهنا به في مناسبات عديدة سابقة وجاءت الآيتان لتدعمه وتؤكده بقوة. وهو توطيد القرآن الكريم لشخصية المرأة إزاء الرجل في المجتمع الإسلامي. ومساواتها معه في المكانة الاجتماعية والسياسية والأهلية للتكاليف الإسلامية على أنواعها وبخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضامن والتناصر مع الرجل في كل ما يعود على المجتمع بالصلاح والخير مما هو ذو خطورة عظمى امتاز به القرآن وترشحت به
494
الشريعة الإسلامية للشمول والخلود. وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن على ما نبهنا عليه في مقدمتها. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل قد شاءت بذكر المؤمنات بهذا الأسلوب القوي في آخر سور القرآن توكيد توطيد مركز المرأة وشخصيتها في المجتمع الإسلامي سياسيا واجتماعيا على قدم المساواة مع الرجل ليكون هذا الأمر محكما وحاسما. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ولقد أورد المفسرون في سياق هاتين الآيتين أحاديث نبوية عديدة في وصف الجنة والمساكن الطيبة ورضوان الله، وفي بعضها حثّ على الأعمال الصالحة وترغيب فيها. من ذلك حديث رواه ابن ماجه عن أسامة بن زيد قال: «قال رسول الله ﷺ ألا هل مشمّر إلى الجنة. فإنّ الجنة لا حظر لها، هي وربّ الكعبة نور يتلألأ. وريحانة تهتزّ. وقصر مشيد ونهر مطرد. وثمرة نضيجة. وزوجة حسناء جميلة. وحلل كثيرة. ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة. وحبرة ونعمة.
في محلة عالية بهية. قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمّرون لها. قال: قولوا إن شاء الله. فقال القوم إن شاء الله»
«١». ومنها حديث رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: «قال رسول الله ﷺ إنّ في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها. فقام أعرابي فقال: يا رسول الله لمن هي؟ فقال: لمن طيّب الكلام وأطعم الطعام. وأدام الصيام. وصلى بالليل والناس نيام» «٢».
ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى يقول لأهل الجنة. يا أهل الجنة. فيقولون لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول هل رضيتم؟ فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربّ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا ربّ وأيّ شيء أفضل من ذلك فيقول أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» «٣». ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن عبد الله بن قيس قال:
(١) من تفسير ابن كثير في سياق الآيات.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) من ابن كثير وقد ورد نصّه في التاج ج ٥ ص ٣٨٤.
495
«قال رسول الله ﷺ جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما. وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» «١». ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الإمام أحمد قال: «قلنا يا رسول الله حدّثنا عن الجنة ما بناؤها قال لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك. وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت. وترابها الزعفران. من يدخلها ينعم لا ييأس. ويخلد لا يموت ولا تبلى ثيابه. ولا يفنى شبابه» «٢».
وليست هذه الأحاديث كل ما ورد في هذا الباب فهناك أحاديث كثيرة من بابها أوردها المفسرون أو وردت في كتب الحديث فاكتفينا بما أوردناه. ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما جاء في القرآن وثبت عن رسول الله من المشاهد الأخروية ونعيمها واجب. وأنه في نطاق قدرة الله وأنه لا بدّ من حكمة من ذكره بالأسلوب الذي ورد به. وفحوى الآيات والأحاديث يلهم أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين، والترغيب والحثّ على صالح الأعمال ابتغاء رضا الله ورضوانه.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٣]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)
. عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صددها. والمتبادر أنها بمثابة وصل بين أجزاء وموضوع السلسلة بعد الآيتين السابقتين اللتين جاءتا للاستطراد والمقابلة.
والمتبادر كذلك أن هدف الآية المباشر هو تلقين الموقف الذي يجب أن يقفه النبي ﷺ من المنافقين بعد سرد مواقفهم ومكائدهم وأخلاقهم ولا سيما أن
(١) من ابن كثير وقد ورد نصّه في التاج ج ٥ ص ٣٨٣.
(٢) من ابن كثير، وهناك أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردناه. انظر تفسير الطبري وانظر التاج ج ٥ ص ٣٦٤ وما بعدها.
496
السلسلة في صددهم. أما ذكر الكافرين معهم فالمتبادر أنه من قبيل التعميم. ولقد ذكرت الآية [٦٧] من السورة التي مرّت قبل قليل مصير الفريقين معا فيكون في ذكرهما معا في هذه الآية توكيد الآخر، ولقد ورد نصّ هذه الآية في سورة التحريم التي سبق تفسيرها. ويظهر أن مناسبة السياق والكلام اقتضت إيحاءها ثانية هنا.
ولقد روى الطبري في سياق الآية روايتين متعارضتين واحدة عن ابن مسعود جاء فيها أن في الآية أمرا للنبي ﷺ بمجاهدة المنافقين بنحو ما يجاهد به المشركين والكفار، وأخرى عن ابن عباس والضحاك والحسن تفيد التفريق في المعاملة فتكون مجاهدة الكفار بالقتال والسيف والمنافقين بالإغلاظ لهم بالكلام والحدود.
وقال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب هو ما قاله ابن مسعود، فإن قاله قائل فكيف تركهم رسول الله مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم قيل إن الله تعالى إنما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر منهم ثم أقام على إظهاره. وأما من إذا اطلع عليه منهم أن تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها فأنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك.
ولقد جاء نصّ هذه الآية في سورة التحريم وهي الآية [٩] وقد علقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد آخر. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارها لتجدد المناسبة. ولقد علقنا على موقف النبي ﷺ من المنافقين في سياق تفسير بعض آيات سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأحزاب والمنافقون بما يغني عن تعليق جديد آخر أيضا.. وإن كان من شيء نزيده على ما قلنا سابقا هو أن النبي ﷺ ظل إلى آخر حياته لا يعتبر المنافقين أعداء محاربين ولم يقاتلهم ولم يأمر بقتلهم حيث يلهم هذا أنه اعتبر الآيات الواردة بذلك من قبيل الإذن وليس من قبيل الإلزام. وأن ما كان من موقفه منهم هو ما رأى فيه الخير والمصلحة للإسلام والمسلمين.
ومهما يكن من أمر فهذه الآية كمثيلاتها وعلى ضوء موقف النبي ﷺ تنطوي
497
على تلقين قوي مستمر المدى بوجوب الوقوف من المنافقين وذوي القلوب المريضة في تصرفاتهم الدينية والاجتماعية والوطنية الشاذة المنحرفة عن الحق القويم موقف الشدة والتنكيل في حدود مصلحة الإسلام والمسلمين.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٤]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
. في الآية:
١- حكاية لما كان المنافقون يحلفون عليه بالله من كونهم لم يقولوا ما نسب إليهم من الأقوال الخبيثة الدالة على كفرهم وعدم إخلاصهم.
٢- وتكذيب رباني لهم بتوكيد كونهم قد قالوا ما به الكفر وكفروا بعد إيمانهم. وزادوا على ذلك فحاولوا محاولات عدوان أحبطها الله فلم ينالوا منها مأربا.
٣- وتقرير كون مواقفهم الخبيثة الجاحدة ناشئة من طبيعة نكران الجميل والحسد المجبولة عليها نفوسهم. إذ لم يكن موجب لنقمتهم وغيظهم إلّا ما عاد عليهم من الخير والنفع والفضل من الله ورسوله مما يستوجب الشكر بدل النقمة والكفر.
٤- وإنذار رادع ودعوة جديدة لهم: فباب التوبة مفتوح لهم فإن يتوبوا يكن خيرا لهم وإن يصروا على موقفهم ويعرضوا فقد استحقوا عذاب الله الشديد في الدنيا والآخرة معا ولن يجدوا لهم في الأرض وليّا ولا نصيرا يدفع عنهم العذاب.
تعليق على الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا.. وما فيها من صور وتلقين
ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها أن شخصا اسمه الجلاس قال إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شرّ من الحمير. فنقلها
498
ابن زوجته إلى النبي ﷺ فعاتبه فحلف بأنه ما قال فنزلت الآية مكذبة له. ومنها أن الذي نقلها إلى النبي شخص آخر وكان صديقا للجلاس فقال للنبي خفت إن كتمتها أن تصيبني قارعة أو ينزل فيّ قرآن وإن الجلاس تاب بعد نزول الآية وحسن إيمانه.
ومنها أن قائل ذلك القول رجل غير الجلاس فانبرى له رجل مؤمن فقال له إن ما قاله حقّ ولأنت شرّ من حمار، فهمّ المنافق مع بعض أصحابه بقتله فلما عاتبهم النبي حلفوا له ما قالوا وما فعلوا وأن الرجل القائل كان فقيرا فأغناه الله حيث قتل له مولى فأعطاه رسول الله ديته. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول كبير المنافقين حيث قال: ما مثلنا ومثل محمد إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك.
ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وكان ذلك في أثناء غزوة من غزوات النبي ﷺ ومنها أنها نزلت في حق الذين استغابوا النبي أثناء غزوة تبوك وتآمروا على قتله. ومنها أن جملة وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا عنت تفكير بعضهم بقتل النبي ﷺ ففشلوا أو عنت ما قاله ابن أبي بن سلول. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة.
وبعض هذه الروايات روي في مناسبة سابقة في هذه السورة وفي سورة (المنافقون) وعلى كل حال ففي الآية صورة من صور المنافقين ومواقفهم وأقوالهم ومسارعتهم إلى التنصّل وحلف الأيمان من جهة. وقد استهدفت التنديد بهم وفضحهم وإنذارهم وتلقين وجوب الوقوف منهم موقف الشدة من جهة أخرى.
ويتبادر لنا إلى هذا أن الآية غير منفصلة عن السياق والتسلسل. وكل ما في الأمر أنها احتوت هذه الصورة على سبيل التذكير بأخلاقهم ومواقفهم في معرض التنديد.
ومن المحتمل أن يكون الحادث وقع في أثناء غزوة تبوك فكانت المناسبة قائمة لذكره في السلسلة كما أن من المحتمل أن يكون وقع قبله فذكر على سبيل التذكير.
ولقد تكررت حكاية مواقف مماثلة من المنافقين مما يدل على أن هذه المواقف كانت تتكرر منهم فاستحقوا ما احتوته هذه الآية وأمثالها من التنديد والإنذار.
والفقرة الأخيرة قد تلهم أن المنافقين أخذوا في التناقص وعزلوا عن
499
المجتمع الإسلامي حتى أصبحوا لا يجدون وليا ولا نصيرا. وهذا تطور واضح في مركزهم وفي استعلاء كلمة الله ورسوله.
والدعوة إلى التوبة ونصيحتهم بها حتى في مثل الظرف التطوري الذي صاروا فيه مما هو متسق مع الدعوة والنصيحة القرآنيتين المتكررتين في كل مناسبة وبالنسبة للمنافقين والكفار على السواء، ومؤكد لما نبهنا عليه في المناسبات العديدة السابقة بكون الهدف الجوهري للتنزيل القرآني والشريعة الإسلامية إنما هو إصلاح البشرية وإنقاذ الناس من الضلال والفساد والأخلاق المنكرة.
ولقد ذكرنا قبل أن المفسرين رووا أن جملة وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ عنت شخصا كان فقيرا فصار غنيا بسبب دية حصل عليها بحكم رسول الله. ويتبادر لنا أنها أشمل مدى وقصد من حادثة شخص واحد. وإن ما تلهمه هو أن عهد رسول الله في المدينة قد صار إلى جانب بركته الروحية الفياضة سببا من أسباب الغنى والثروة للناس عامة ومن الجملة المنافقين. وهذا مما يتسق مع الروايات وبخاصة بعد أن أخذ سلطان الإسلام يتوطد ودعوته تنتشر وعاصمته المدينة المنورة- يثرب تزدحم بالناس من كل صوب لمختلف البواعث، والحركة الاقتصادية تقوى نتيجة لذلك.
والتقريع فيها قوي يكشف عن ناحية من نواحي نفوس المنافقين ومقابلتهم الفضل بالجحود. ويكشف في الوقت نفسه عن طبيعة خبثاء الطوية لؤماء الطبع.
وهي الحسد للمنعم والكيد للمتفضل والنقمة على مغدق الخير وسببه. وفي ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الطبيعة ووجوب الاحتراز منها. وتقرير كونها من صفات المنافقين وذوي القلوب المريضة.
ويلحظ أن الآية أكدت أن المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم.
ومع ذلك فحكمة الله اقتضت أن يظل باب التوبة مفتوحا لهم. وليس هناك أي خبر صحيح يذكر أن النبي ﷺ قاتلهم أو قتلهم مما فيه تدعيم لما قلناه في سياق تفسير الآية السابقة لهذه الآيات. وتوافق مع الذي علّق به الطبري وأوردناه في سياق آية
500
سورة التحريم [٩] من أن القتل والقتال لمن كفر بعد إيمانه علانية وأصرّ على ذلك دون من يكون قال ذلك خفية وعلم الله به ولكنه أنكره وقال إني مسلم إذ يكون بذلك قد حقن دمه وحسابه على الله.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
. في هذه الآيات:
١- صورة أخرى من مواقف المنافقين حيث كان بعضهم يعاهد الله وينذر على نفسه إن آتاه الله من فضله ووسع عليه الدنيا بأن يتصدق ويخلص فلما حقق الله له أمنيته بخل وأخلف وعده.
٢- وتعقيب على هذه الصورة يتضمن تقرير كون هذا الموقف قد أدى إلى اندماغ المخلف بالنفاق اندماغا مستمرا إلى يوم يلقى الله لأنه أخلف فيما وعد وكذب على الله تعالى فعاقبه الله على ذلك.
٣- وسؤال استنكاري فيه إنذار ووعيد عما إذا كان المنافقون وهم يقفون مثل هذه المواقف الغادرة الكاذبة لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأنه علام الغيوب لا تفوته هاجسة ولا يغرب عن علمه شيء مما يدور في خلدهم؟
تعليق على الآية وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولقد روى المفسرون «١» أن شخصا اسمه ثعلبة بن حاطب طلب من رسول
(١) انظر الطبري والبغوي والطبرسي.
501
الله ﷺ أن يدعو الله ليرزقه مالا فقال له ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فأعاد عليه السؤال فقال له أما ترضى أن تكون مثل نبي الله والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت. فقال له والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كلّ ذي حق حقه. فقال رسول الله اللهمّ ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عليه المدينة فتنحّى عنها فنزل واديا وصار يقصر في واجبات الصلاة. وظلّ ماله ينمو وعلم النبي ﷺ بأمره فأرسل من يأخذ صدقة ماله منه فأبى وقال ما هذه إلا جزية أو أختها، فأنزل الله فيه الآيات. ورووا إلى هذه الرواية روايات أخرى منها أن ثعلبة نذر بما نذر أمام ملأ من قومه ثم ورث مالا فلم يف بما وعد. ومنها أن هذا النذر كان من جماعة من بني عوف فآتاهم الله من فضله فبخلوا. ومنها أنها نزلت في حاطب بن بلتعة. كان له مال في الشام فأبطأ عليه وجهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن أتاه ذلك المال ليصدقن فأتاه فلم يفعل.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ولقد روينا قصة لحاطب بن بلتعة في سياق سورة الممتحنة تفيد أنه كان مخلصا وممن شهدوا بدرا. لذلك نستبعد صحة الرواية عنه. وفي الرواية التي ذكر فيها ثعلبة أن بعض أقاربه قال له ويحك قد أنزل الله فيك قرآنا فخرج حتى أتى النبي ﷺ فسأله أن يقبل صدقته فقال له إن الله منعني من ذلك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال له رسول الله هذا عملك فقد أمرتك فلم تطعني. وقبض رسول الله ولم يقبض صدقته. فأتى أبا بكر فعرض عليه صدقته فقال له لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها مستنكرا. وقبض أبو بكر ولم يقبضها، فجاء إلى عمر فرفضها، ثم جاء بعده إلى عثمان فرفضها.
ومات في زمن عثمان. وهذا التفصيل عجيب. فالروايات لا تذكر أنه كان من المنافقين. والآية السابقة تشجع المنافقين على التوبة وتعدهم بالخير إذا فعلوا.
والآية الثانية إلى كل هذا تلهم أن الذين عاهدوا الله وأخلفوه أكثر من واحد وأنهم كانوا من المنافقين.
وعلى كلّ حال فالآيات تضمنت حكاية مشهد أو صورة خبيثة من مشاهد
502
المنافقين ومواقفهم. والذي نرجحه أن ذلك كان مما وقع قبل غزوة تبوك فاحتوت الآيات تذكيرا بذلك في معرض سرد أخلاق المنافقين كما هو الحال في الآيات السابقة. وأن الآيات والحكمة هذه جزء من السلسلة ولم تنزل لحدتها في مناسبة إحدى الروايات المروية والله تعالى أعلم.
وواضح أن الآيات تنطوي كسابقاتها على تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين.
ولقد أورد الطبري في سياقها بعض الأحاديث من ذلك حديث مرفوع رواه قتادة عن النبي ﷺ قال: «تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة. قالوا ما هي يا رسول الله قال إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم. أبصاركم عن الخيانة. وأيديكم عن السرقة.
وفروجكم عن الزنا»
وحديث مرفوع آخر رواه الحسن عن النبي ﷺ أنه قال: «ثلاث من كنّ فيه صار منافقا وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم. إذا حدّث كذب وإذا أؤتمن خان وإذا وعد أخلف». وهناك حديثان من باب الثاني رواهما الشيخان والترمذي وأبو داود جاء في أحدهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» «١». وثانيهما عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهنّ كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها. إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» «٢».
وفي الأحاديث مقاييس بليغة للمنافقين. ومن الحكمة المنطوية فيها كما هو المتبادر تقبيح هذه الصفات والتحذير منها وتقرير كونها لا يمكن أن تكون في مؤمن مخلص.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٩]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩).
(١) التاج ج ٥ ص ٤١.
(٢) المصدر نفسه. [.....]
503
(١) المطوعين: المتطوعين. وروح الآية تلهم أنها هنا في معنى المتبرعين في الصدقات.
في الآية:
(١) صورة خبيثة أخرى للمنافقين حيث كانوا يعيبون المتبرعين من المؤمنين بالصدقات ويسخرون منهم وبخاصة من الذين يتصدقون بالقليل الذي يبلغ إليه جهدهم وطاقتهم.
(٢) وتعقيب تنديدي على ذلك: فهم أحق بالسخرية. وليسخرن الله منهم وليكونن لهم عنده العذاب الأليم.
تعليق على الآية الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ... إلخ وما فيها من صور وتلقين
روى البخاري عن ابن مسعود حديثا جاء فيه: «لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون إنّ الله لغنيّ عن صدقة أبي عقيل. وإنّ الآخر ما فعل إلا رئاء فأنزل الله الآية» «١» ولقد أورد الطبري وغيره هذا الحديث وأوردوا معه روايات أخرى «٢» مفادها أن النبي ﷺ دعا المسلمين إلى التصدق فأقبلوا أغنياء وفقراء كل بحسبه. فكان من الأغنياء عبد الرحمن بن عوف الذي تصدّق بنصف ماله البالغ أربعة آلاف دينار أو بأربعمائة أوقية من فضة أو بأربعين أو بمائة أوقية من ذهب. وعاصم بن عدي الذي تبرّع بمائة وسق من تمر. وعمر بن الخطاب الذي تبرّع بمال كثير. وكان من الفقراء أبو
(١) التاج ج ٤ ص ١١٨.
(٢) انظر أيضا البغوي وابن كثير والطبرسي.
504
عقيل وفي رواية أخرى أبو خيثمة جاء إلى النبي ﷺ فقال له لقد أجرت نفسي ونلت صاعين من تمر فأمسكت بأحدهما وأتيتك بالآخر فأخذ المنافقون يلمزون الأغنياء بالرياء ويسخرون بأبي عقيل أو أبي خيثمة ويقولون إن الله ورسوله لغنيان عنه. وأنه لم يأت بصاعه إلّا ليذكر بين الناس. ومما رووه أيضا أن رسول الله هتف يوما قائلا من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة فجاء رجل ليس في البقيع رجلا أقصر منه قامة ولا أشدّ سوادا ولا أذم لعين منه يقود ناقة ليس في البقيع أحسن ولا أجمل منها فقال أصدقة يا رسول الله قال نعم قال فدونكها فألقى إليه بخطامها. فقال والله إنه ليتصدق بها ولهي خير منه. فنظر رسول الله فقال بل هو خير منك ومنها. وليس ما يمنع أن المواقف كانت تتكرر فتعددت الروايات وإن كان من الصحيح أن يؤخذ بحديث البخاري على أنه سبب نزول الآية مباشرة.
ونرجح أن الوقائع المروية وقعت قبل السفر إلى تبوك. ولعلها وقعت في مناسبة الإعداد لغزوة تبوك. وأن الآية لم تنزل حين وقعت. وأنها جزء من السلسلة في معرض ذكر أخلاق ومواقف المنافقين والتنديد بهم.
والصورة من الصور الخبيثة المألوفة من ذوي القلوب المريضة في مختلف الظروف حيث يبخلون بما آتاهم الله ثم يقدحون في ذوي النفوس السمحة من قبيل التعطيل والتغطية على بخلهم. وواضح أن في الآيات تلقينا مستمر المدى في تقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين.
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٠]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
. تعليق على الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ... ومداها وما ورد في صددها من أقوال وروايات وأحاديث
عبارة الآية واضحة. والخطاب فيها موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وضمير الجمع
505
الغائب عائد إلى المنافقين الذين هم موضوع الحديث في الآيات السابقة. وهي بسبيل تسجيل كفرهم وفسقهم وعدم إمكان شمولهم بغفران الله تعالى سواء أستغفر لهم النبي ﷺ أو لم يستغفر لهم حتى ولو استغفر لهم سبعين مرة. فإن الله لا يمكن أن يوفق ويهدي الفاسقين عن أوامره.
وقد روى المفسرون «١» أن المنافقين لما نزلت الآيات السابقة التي تحكي مواقفهم وتفضحهم وتندد بهم لجأوا إلى النبي ﷺ يعتذرون ويطلبون منه الاستغفار لهم وأن النبي ﷺ قال إن الله خيّرني أن أستغفر لهم أو لا أستغفر لهم فاستغفر لهم أو همّ بذلك فأنزل الله الآية. فقال النبي ﷺ بعدها: «لأزيدنّ على السبعين أو سأستغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين... ».
ولقد روى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر قال: «لما توفّي عبد الله بن أبيّ بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله ﷺ فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن به أباه. فأعطاه ثم سأله أن يصلّي عليه فقام رسول الله ليصلّي عليه فقام عمر فأخذ بثوب النبي فقال يا رسول الله تصلّي عليه. وقد نهاك ربّك فقال إنما خيرني الله فقال اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وسأزيده على السبعين. قال عمر إنه منافق. قال فصلّى عليه رسول الله ﷺ فأنزل الله وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ» «٢». وبقطع النظر عما يتحمله هذا الحديث من ملاحظات سوف نوردها في سياق تفسير الآية: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ... التي ستأتي بعد قليل فإن خبر مسارعة المنافقين إلى الاعتذار للنبي وطلب الاستغفار منه لهم بعد نزول الآيات القارعة فيهم محتمل الصحة. وبخاصة بالنسبة للمنافقين الذين كانوا معه في غزوة تبوك. لأننا نعتقد أن هذه السلسلة نزلت أثناء هذه الغزوة على ما تلهمه القرائن العديدة في آياتها السابقة واللاحقة. غير أننا
(١) انظر تفسير الخازن مثلا وانظر أيضا تفسير الطبري وابن كثير والبغوي.
(٢) التاج ج ٤ ص ١١٨.
506
في حيرة من تتمة الروايات وبخاصة من حديث ابن عمر الذي يرويه الشيخان.
فليست هذه أولى مرة يؤذن القرآن ورسول الله بأن الله لن يغفر لهم سواء استغفر لهم أم لم يستغفر حيث ورد هذا في الآية [٦] من سورة المنافقون. ويصعب علينا أن نسلّم بأن رسول الله استغفر لهم أو همّ بذلك. أو حدّث نفسه، بعد هذا التوكيد الحاسم الذي جاء في الآية التي نحن في صددها بعد آية المنافقون. أو أن يكون قد فهم عبارة آية التوبة فهما عدديا. ولا سيما أنها تلهم بقوة أنها على سبيل التغليظ والتشديد. ومع ذلك فليس لنا إذا صح الحديث إلا أن نقول إن النبي ﷺ قد اجتهد في الأمر ورأى أن التأييد القرآني بعدم مغفرة الله للمنافقين هو في حق أناس علم الله أنهم لا يصدقون في الندم وطلب الغفران وأن عفو الله تعالى ورحمته تتسعان لقبول استغفاره لمن يرى أن يستغفر له منهم إذا ما استغفر لهم أكثر من سبعين مرة. أو لمن يرى أنه صادق في ندمه وتوبته وطلب الغفران. ولعلّه استند في اجتهاده إلى الآية [٧٤] التي شجعت المنافقين بعد أن قررت أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم وهمّوا بما لم ينالوا على التوبة والندم ودعتهما إليهما وقالت إن ذلك خير لهم تساوقا مع الهدف الإصلاحي الذي استهدفته حكمة التنزيل من جعل باب التوبة مفتوحا لكل الناس مهما فعلوا على ما شرحناه في سورة البروج.
وسيأتي في سياق آيات تجيء بعد قليل حديث بأن بعض المنافقين ممن لم يكن النبي يعلم نفاقهم جاؤوه نادمين وطلبوا أن يستغفر لهم فاستغفر لهم ودعا لهم مما قد يكون فيه تدعيم. والله تعالى أعلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨١ الى ٨٥]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
507
(١) المخلّفون: المخلّفون وراءك أو المتخلفون.
(٢) خلاف رسول الله: إما أنها بمعنى خلف أو بعد أو وراء وإما أنها بمعنى مخالفة لرسول الله.
(٣) مع الخالفين: قيل إنها بمعنى المخالفين. وهناك من قرأها كذلك.
وقيل إنها بمعنى المتخلفين الذين تجعلهم طبيعة حالتهم يتخلفون كالنساء والصبيان والزمنى والمرضى والعميان. وهذا هو الأوجه كما هو المتبادر.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
١- إشارة تنديدية إلى ما كان من فرح المتخلفين عن غزوة تبوك واغتباطهم بسبب نجاحهم في الاعتذار والتخلف كراهة منهم للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وما كان من تثبيطهم غيرهم عنها بحجة شدة الحر.
٢- وردّا عليهم مع الإنذار والإغلاظ. فعلى النبي أن يهتف جوابا على هذا بأن نار جهنم التي استحقوها بسبب مواقفهم أشدّ حرا لو علموا. وأنهم إذا فرحوا وضحكوا الآن فليس إلا لوقت قصير يعقبه البكاء الكثير والندم الشديد على ما اقترفوا. وعلى النبي إذا ما أعاده الله إلى المدينة سالما واستأذنه المتخلفون ليخرجوا معه في غزوة أخرى أن يرفض السماح لهم وأن يلعنهم أنهم لن يكون لهم ذلك ولن يقاتلوا معه عدوا. لأنهم رضوا بالقعود أول مرة وابتهجوا فليبقوا حيث هم مع الخالفين بعيدين عن المكرمات. ثم عليه أن لا يصلي على أحد يموت بعد الآن منهم قط. ولا يقف على قبره داعيا له. فقد كفروا بالله ورسوله وماتوا على كفرهم وفسقهم فلم يبق محل للأمل فيهم والإشفاق عليهم والاستغفار والدعاء لهم. وعليه أن لا يغترّ ويعجب بما لهم من مال وولد مهما كثر وأن لا يظن أنها نعمة من الله رآهم جديرين بها. وإنما هي ابتلاء واختبار. وستكون سببا لعذابهم في الدنيا وخروجهم منها كافرين نتيجة لما هم عليه من خبث نية وسوء طوية ومنكر أفعال ومواقف.
508
تعليق على الآية فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ... والآيات الثلاث التي بعدها
وما فيها من دلالات وتلقينات وتمحيص وما روي من روايات عن صلاة النبي ﷺ على كبير المنافقين ابن أبيّ بن سلول روى الطبري أن رجلا من بني سلمة قال لا تنفروا في الحرّ حينما خرج رسول الله ﷺ في حرّ شديد إلى تبوك فأنزل الله قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا. والرواية لم ترو في كتب حديث معتبرة. والجملة جزء من آية والآية جزء من آيات تامة الانسجام وفيها إشارة صريحة إلى أنها نزلت في غزوة تبوك. فالذي يستقيم مع هذا أن يكون في الجملة ردّ على قول المنافق أو المنافقين الذين قالوا ذلك القول في سياق الحملة عليهم لتخلّفهم.
ولقد روى الطبري أيضا أن ابن أبيّ بن سلول أرسل إلى النبي ﷺ وهو مريض ليأتيه فنهاه عمر ولكن النبي أتاه فلما دخل عليه قال له أهلكك حبّ اليهود فقال يا نبيّ الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن لتستغفر لي. وسأله قميصه أن يكفن به فأعطاه إياه فكفن به حين مات ونفث في جلده وولاه في قبره. وفي رواية أخرى يرويها الطبري أن عبد الله بن أبي بن سلول وهو مؤمن مخلص هو الذي طلب من النبي حينما مات أبوه أن يعطيه قميصه ليكفنه به وأن يصلي عليه. وروى الشيخان والترمذي حديثا عن ابن عمر أوردناه في سياق تفسير الآيات السابقة فيه توافق مع ما ورد في هذه الروايات. وقد جاء فيه أن الآية: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً.. نزلت في هذه المناسبة.
ونحن في حيرة من هذه الروايات وبخاصة من هذا الحديث. فالآيات جملة منسجمة وفي إحداها كما قلنا آنفا صراحة بأنها نزلت أثناء غزوة تبوك. والآية التي يروي الحديث نزولها في مناسبة صلاة النبي ﷺ على عبد الله بن أبيّ جزء من السياق والكلام. وتتبعه تتمة للكلام وتتمة للسياق. ويلحظ أن الحديث والرواية
509
يذكران أن عمر قال للنبي كيف تصلّي عليه وقد نهاك ربّك؟ في حين أن الحديث يذكر أن الله أنزل الآية بعد صلاة النبي عليه. ويلحظ كذلك أن النبي ﷺ قال لعمر إنما خيّرني الله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وسأزيده على السبعين. والفرق ظاهر بين الاستغفار والصلاة على كل حال مهما كان معنى الصلاة هو الاستغفار. وهذا فضلا عما نبّهنا عليه قبل من بعد احتمال أن يكون النبي ﷺ قد فهم النهي عن الاستغفار على هذا الوجه الذي جاء في الحديث وأن يكون قد استغفر له أو لغيره بعد نزول الآيات.
والحديث يذكر أن الآية وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً... نزلت بعد أن صلّى النبي على ابن أبيّ بن سلول. وروايات الحديث المعتبرة تذكر أن هذا كان حيا حينما توجه النبي إلى تبوك وأنه ضرب معسكره إلى جانب معسكر النبي ثم تخلص واعتذر عن السفر على ما شرحناه قبل في سياق موجز قصة غزوة تبوك «١». وهذا يعني إذا صحّ الحديث أنه مات بعد رجوع النبي ﷺ من الغزوة. والآية جزء منسجم كل الانسجام كما هو واضح من آيات نزلت أثناء هذه الغزوة. ومن الصعب التوفيق بين كل هذا وبين الروايات المتناقضة معه وبخاصة بينه وبين الحديث الذي يرويه الشيخان والترمذي. ونميل إلى القول إن في الحديث والروايات شيئا من الالتباس والتداخل. وأن كل ما يمكن أن يكون هو أن النبي ﷺ أجاب التماس عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول المؤمن المخلص فأعطاه قميصه ليكفن به أباه الذي مات بعد العودة من تبوك تطييبا له على إخلاصه وتألفا للمترددين من قومه دون أن يكون ذلك مناسبة لنزول الآية. وفي الحديث أن عمر قال للنبي كيف تصلّي عليه وقد نهاك ربّك. وهذا يعني إذا صح أن عمر استند إلى الآية التي نزلت أثناء الغزوة في حق جميع المنافقين. ولقد ذكر الطبرسي أن النبي لم يصلّ على ابن أبيّ بن سلول ولكنه لم يسند قوله إلى سند معين. ولقد روى الطبري عن أنس أن رسول الله أراد أن يصلّي عليه فأخذ جبريل بثوبه فقال ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره. وهذه الرواية تؤيد رواية الطبرسي من جهة وتنطوي على تصحيح لما
(١) انظر سيرة ابن هشام ج ٤ ص ١٧٣.
510
التبس من رواية نزول الآية في هذه المناسبة حيث تفيد إذا صحت أن جبريل إنما ذكّر بالآية تذكيرا. ونحن نميل إلى ترجيح رواية عدم الصلاة لأنها المعقولة أكثر بعد أن نهي النبي عن الصلاة عن أي منافق في آية سابقة النزول بأسلوب حاسم والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون فيما رووا خبر إسلام ألف من قوم ابن أبي بن سلول نتيجة لما كان من تصرف النبي ﷺ الكريم إزاءه. وروح آيات عديدة من هذه السورة تلهم بقوة كما نبهنا عليه في مناسباتها أن المنافقين قبل غزوة تبوك قد تضاءلوا عددا وشأنا. وهذا ينقض الرواية كما هو المتبادر. فألف رجل في المدينة رقم عظيم.
ولا يعقل أن يكون صحيحا. والروايات التي ذكرت المعسكر الذي ضربه المنافقون وتظاهروا به أنهم خارجون إلى الغزوة مع النبي لم يكن فيه إلّا نحو ثمانين شخصا....
ويلحظ أن الآية [٨٥] جاءت تكرارا للآية [٥٥] من هذه السورة بفرق يسير.
وقد يلمح في هذا التكرار أن كثرة الأموال والأولاد التي كانت للمنافقين كانت تشغل حيزا غير يسير في أذهان المؤمنين فاقتضت حكمة التنزيل تكرار بثّ القوة والعلوّ والتهوين في نفوسهم وتوكيد المدى الذي في الآية وأمثالها على ما شرحناه في سياق الآية [٥٥].
وتعبير فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يدلّ بصراحة كما قلنا أن هذه الآيات والسلسلة التي قبلها قد نزلت أثناء سفرة تبوك مستهدفة التنديد والتقريع بالمعتذرين والمتخلّفين المنافقين وفضح أخلاقهم والتذكير بمواقفهم على سبيل التوكيد والتدعيم من جهة وتثبيت المؤمنين المخلصين الذين اشتركوا في الغزوة من جهة أخرى. وتعبير لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ يؤيد ما روي من أن هذه الغزوة كانت في موسم الصيف. وفي تعبير وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ صورة لما كان يجري من تشييع الجنائز والدعاء على قبور الأموات بعد مواراتهم والجلوس عندها لتأنيسهم. والمتبادر أن هذا مما كان قبل الإسلام عند العرب أيضا.
511
والآيات قوية التلقين كسابقاتها بالموقف الحاسم الذي يجب على النبي والمسلمين أن يقفوه من المنافقين. بل فيها ما هو أشدّ مما احتوته الآيات السابقة حيث توجب اعتبارهم خارج صف المسلمين فلا يدعونهم ليشتركوا معهم في حرب ولا يجوز أن يصلّوا على أحد منهم حينما يموت ولا يقوموا على قبره. لأنهم آثروا القعود مع الضعفاء والعجزة والصبيان فيجب أن يبقوا في النطاق الذي وضعوا أنفسهم فيه، ولأن من مات منهم على حالته فقد مات كافرا فاسقا. وهذا من دون ريب متناسب مع موقفهم النفاقي وتخلفهم عن الجهاد بالمال والنفس والتثبيط عنهما مع شدة صلة ذلك بالدعوة الإسلامية ومصلحة المسلمين العامة. وفي كل هذا تلقين جليل مستمر المدى لما يجب أن يكون موقف المخلصين من أمثال هؤلاء وبخاصة حينما يتهربون من التضامن مع الناس وأداء واجباتهم في الأزمات والشدائد معتذرين بالأعذار الكاذبة ومنطلقين بمختلف أساليب المكر والحيل، والبخل والتثبيط والتعطيل والفرح بالعافية مما قد يلمّ بالناس من محن وبلاء في سبيل الله.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧)
. (١) أولو الطول: ذوو القدرة والاستطاعة واليسار.
(٢) الخوالف: يصحّ أن يكون المقصود بالكلمة الإشارة إلى النساء اللاتي كن بطبيعتهن يتخلفن عن الحرب في البيوت دون الرجال. ويصحّ أن يكون المقصود من يتخلّف عادة من نساء ومرضى وصبيان وشيوخ بصورة عامة. وقد عبر عن ذلك في آية سابقة بكلمة الْخالِفِينَ.
عبارة الآيتين واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولهما.
والمتبادر أنهما استمرار في الحملة على المنافقين المتخلفين التي وردت في السياق السابق، فهم كلما أنزل الله أمرا قرآنيا بالإيمان به والجهاد في سبيله بادر ذوو القدر
واليسار منهم إلى الالتماس من النبي بأن يدعهم يبقون مع القاعدين عن الحرب.
راضين بذلك مهانة البقاء مع الخوالف العجزة فكان ذلك مظهرا من مظاهر انغلاق قلوبهم وأفهامهم عن إدراك مغبة موقفهم ومهانته.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
. وعبارة الآيتين كذلك واضحة. وصلتهما بالسياق قائمة من حيث ورودهما على سبيل التنويه والإشادة بموقف المخلصين الذين كانوا يلبّون دعوة النبي ﷺ وتنفيذ أمر الله فيسارعون معه إلى الجهاد بأموالهم وأنفسهم. والبشرى لهم. وتقرير فلاحهم وسعادتهم ورضاء الله عنهم والمقابلة لما ذكر من مواقف المنافقين وأخلاقهم، والتنديد بهم وإنذارهم في الآيات السابقة مما جرى عليه النظم القرآني في المناسبات المماثلة التي مرّت أمثلة عديدة منها.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
. ١- المعذّرون: قيل إنها بمعنى (المعتذرون) أي الذين اعتذروا عن الاشتراك في غزوة تبوك. وقيل إن المعذّر هو الذي يتوسل بعذر غير قوي وغير وجيه وغير معقول. أو المقصّر في الأمر المتواني فيه.
تعليق على الآية وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ.. وما روي في صددها من روايات وما انطوى فيها من صور
يستفاد مما أورده المفسرون «١» في تأويل هذه الآية أنها تحتمل أن تكون
(١) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي.
513
بسبيل الإشارة إلى فريقين من الأعراب. فريق جاء معتذرا طالبا الإذن له بالتخلّف عن غزوة تبوك وكانت أعذاره كاذبة وغير وجيهة. وفريق قعد وتخلّف بدون اعتذار واستئذان. ويحتمل أن تكون بسبيل الإشارة إلى فريق واحد فقط من الأعراب جاء معتذرا طالبا الإذن بالتخلّف وقعد عن الجهاد في سبيل الله وكان في اعتذاره وقعوده كاذبا فيما عاهد الله ورسوله عليه من الصدق في الإسلام والجهاد في سبيل الله. أما فقرة سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فهناك من جعلها عائدة إلى الفريق أو الفريقين واعتبر اعتذارهم الكاذب وقعودهم كفرا. وهناك من جعلها عائدة إلى الذين يصرّون على الكفر من الفريق أو الفريقين.
وقد رووا ثلاث روايات في صدد المعتذرين، منها أنهم جماعة من بني غفار. ومنها أنهم جماعة من أسد وغطفان. ومنها أنهم رهط عامر بن الطفيل. ولم يذكر الذين قالوا إن الآية تحتوي إشارة إلى فريقين أي اسم للفريق الذي قعد بدون اعتذار واستئذان. وإنما قالوا إنهم منافقو الأعراب.
وقد تلهم روح الآية وفحواها أن القول بأنها تحتوي إشارة إلى فريقين وأن الفقرة المذكورة عائدة إلى الذين يصرّون على الكفر منهم هو الأوجه والله أعلم.
وعلى كلّ ففي الآية صورة لموقف بعض الأعراب المنضوين إلى الإسلام إزاء غزوة تبوك وكان موقفا فيه نفاق وكذب ونكث عهد فاستحقّ أصحابه ما احتوته الآيات التالية من تنديد وتوبيخ شديدين.
والآية صريحة الدلالة على أن النبي ﷺ قد استنفر الذين أعلنوا له إسلامهم من قبائل البدو أيضا إلى غزوة تبوك. وذكر الآية اعتذار فريق وقعود فريق منهم لا يفيد بالطبع أن جميع من استنفروا تخلّفوا. والروايات تروي أن كثيرا من البدو أجابوا واشتركوا في الحملة. والعدد العظيم المروي البالغ ثلاثين ألفا يؤيد ذلك فيما هو المتبادر.
514

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩١ الى ٩٦]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
. في الآيات:
١- تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله. ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي إجابتهم فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد. لأنه ليس على من أدّى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلّفون وهم أغنياء قادرون مفضّلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان.
٢- ووصف لهؤلاء: فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان.
515
٣- وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي والمسلمون. حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم.
٤- وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به: فعلى النبي والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن. وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أخبارهم. وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم. وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسرّ. وعلى النبي والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار. ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم. فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله. لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين.
تعليق على الآية لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ... والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن قسما من الآية [٩١] نزل في حقّ ابن أم كلثوم الضرير.
وقسما آخر نزل في حقّ فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك. وأن الآية [٩٢] نزلت في جماعة التمسوا من النبي أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو. فقال لهم لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سمّوا البكائين لحرمانهم من الجهاد.
والآيتان منسجمتان مع السياق. وروحهما ونصّهما ونصّ الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة. ثم استأذنوا النبي بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة. وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من
516
فقراء ومرضى ذوي عاهات فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا.
ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل «١» تصرف ما جاء في الآيات [٩٣- ٩٦] إلى المنافقين المتخلّفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين. وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة. ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عودة إلى ذكر الأعراب حيث يلهم هذا أن الفصل جميعه من الآية [٩٠] إلى الآية [٩٩] في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات [٩٣- ٩٦] هي بالتبعية في صددهم أيضا.
على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا. وعلى كل حال فالآيات [٩١- ٩٦] مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين.
وتعبير إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ وتعبير إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ صريحا الدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك. وهذه الصراحة منطوية في الآية [٨٣] من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفر دفعة واحدة أو متلاحقة.
والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله. وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحرّ تضاعفت روعة المشهد. ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة. ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى. ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار. وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنها أسماؤهم. وقد عرفوا في روايات السيرة
(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي... إلخ.
517
بالبكائين «١». ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب. وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشدّ. وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى.
كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى: فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته. ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين. فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه. والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ. وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر. والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا. وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٧]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
. تعليق على الآية الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً واستطراد إلى نقد ما كان من استعمال ابن خلدون كلمة العرب محل كلمة الأعراب
عبارة الآية واضحة، وهي كما يبدو تعقيب على الآيات السابقة التي احتوت
(١) هذه هي الأسماء التي رواها الطبري نسجّلها نحن أيضا لأن من حقّ أصحابها أن يذكروا بالتكريم على مدى الأجيال: سالم بن عمير وحرملة بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب وسلمان بن صخر وعبد الرحمن بن يزيد وعمرو بن غنيمة وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنهم.
تنديدا بالأعراب المعذرين والقاعدين. وعلى سبيل الاستطراد لبيان طبيعة الأعراب أكثر منها لقصد التشديد والتغليظ على ما هو المتبادر. فكافرهم يكون أشدّ كفرا ومنافقهم أشدّ نفاقا. وهم أكثر بعدا عن تقدير وإدراك وفهم حدود ما أنزل الله.
وواضح أن هذا مظهر من مظاهر الاجتماع البشري وتفاوت درجاته.
فالأعرابي أقسى طبعا وأجفى خلقا وأقلّ تقيّدا بالواجبات وإدراكا للحدود من الحضري. وكلما تقدّم الإنسان في سلم الحضارة لطف طبعه ودمث خلقه ولان قلبه واتسع علمه وتجربته وأفقه. وأقام صلاته بالناس على أسس الواجبات والحقوق المتبادلة.
ولقد استعمل ابن خلدون لفظ العرب خطأ في مقام الأعراب أو استعمله استعمالا عاميّا كما كان شائع المفهوم في حياته وأدى هذا إلى فهم تقريراته عن البدو وطبائعهم وحياتهم وآثارهم فهما خاطئا. في حين أن ما ذكره عن نفور العرب من الحضارة وتدمير المعالم الحضرية إنما ينطبق على الأعراب لا على العرب. وهو ما يدخل في مفهومه جميع أعراب الدنيا لا أعراب العرب خاصة.
ومن الغريب أن يكون هذا الفهم الخاطئ وأن يستمر إيراده في معرض وصف طبائع العرب وأخلاقهم مع ما في الأمر من بداهة ومع ما في كلام ابن خلدون من دلالات على أنه إنما قصد البدو والأعراب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس عن النبي ﷺ جاء فيه فيما جاء «من سكن البادية جفا» «١» حيث ينطوي فيه المعنى المراد في الآية والله أعلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
(١) أورد هذا الحديث عزوا إلى أبي داود والترمذي والنسائي المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية. وللحديث تتمة هي «ومن اتّبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن».
519
(١) مغرما: خسارة لا عوض عنها.
(٢) يتربص بكم الدوائر: يتوقع أن تدور عليكم الدوائر السيئة لينقلبوا عليكم.
في الآيتين تقسيم للأعراب الذين أعلنوا إسلامهم إلى فريقين: فريق كان لا يعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي من صدقات واجبا دينيّا له ثوابه عند الله، وإنما هو ضريبة أو خسارة لا عوض لها يتحملها خوفا ورياء، ثم يتربّص أن تدور الدائرة على المسلمين فيتخلص منها أو ينقلب عليهم. وفريق مخلص في إيمانه بالله واليوم الآخر ويعتبر ما ينفق في سبيل الله أو يؤديه إلى النبي من صدقات وسيلة إلى التقرّب إلى الله ونيل رضاء رسوله ودعائه.
وقد تضمنت الآيتان تعقيبا مناسبا على صفات وحالة كلّ من الفريقين.
فالأول هو الذي تدور عليه دائرة السوء. وإن الله لسميع لما يقوله عليم بخبث نياته وإنه لمجزيه عليها بما يستحق. وللثاني البشرى. فاعتبارهم أن ما ينفقونه وسيلة قربى إلى الله ورسوله صادق وإنها لقربة لهم حقّا. وإن الله سيشملهم برحمته وهو الغفور الرحيم.
تعليق على الآية وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. وإنما روى الطبري أن الآية الأولى عنت منافقي الأعراب والثانية عنت بني مقرن من مزينة الذين عنتهم الآية [٩٢]. وقد روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم، والثانية في بني مقرن من مزينة في رواية وفي قبائل أسلم وغفار وجهينة في
520
رواية أخرى. وروى بطرقه حديثا عن أبي هريرة قال: «قال النبيّ ﷺ أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان».
ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآيتين استطراد إلى ذكر حالات الأعراب الذين انضووا إلى الإسلام بمناسبة ذكر المعذّرين والمتخلفين منهم عن غزوة تبوك ووصف طبيعة الأعراب عامة. فهما والحالة هذه متصلتان بالسياق وجزء من السلسلة.
وفي الآية الثانية صراحة حاسمة بأنه كان من الأعراب من آمن وأخلص في إيمانه وتأييده للنبي ﷺ والجهاد بماله ونفسه خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمموه على البدو بدون استثناء. ومن المتواتر أن عددا غير يسير من القبائل قد ثبت على إسلامه بعد النبي ﷺ واندمج في حروب الردة تأييدا للإسلام وخليفة الرسول «١». ولا بدّ من أن يكون المذكورون في الآية الثانية منهم أو هم إياهم.
والآية الثانية إلى هذا تنطوي على مشهد تطوري لإسلام الأعراب. فمن المحتمل أن يكون إسلامهم أو إسلام معظمهم في بدء الأمر غير عميق، وتأثرا بالظروف وخوفا وطمعا. ولقد قررت آية سورة الحجرات هذه قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) ذلك عنهم وقررت قبول الله ذلك منهم إذا ما قاموا بالواجبات الدينية والمادية التي يفرضها الله ورسوله عليهم. ثم أخذ إسلامهم يقوى حتى صار إيمانا مخلصا في فريق منهم دون فريق. وهو ما احتوت الآيتان تقريره. وقد يصح القول استلهاما من روح الآيتين والآية [٩٧] أن الكثرة الغالبة من الأعراب كانت من الفريق الأول. والله تعالى أعلم.
(١) اقرأ تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٦٣- ٥٥٠ واقرأ فصل حروب الردة في الجزء السابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي حيث لخصت فيه الروايات وثبت ما قلناه.
521

[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٠]

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
. تعليق على الآية وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ... وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في سبب نزولها. ويتبادر لنا من روحها وروح الآيات المتلاحقة التي بعدها ومضمونها معا أنها استمرار في ذكر صنوف المسلمين المخلصين بعد ذكر صنوف الأعراب في الآيتين السابقتين الاستطراديتين. وأنها والحالة هذه استمرار للسياق. وجزء من السلسلة.
وقد احتوت ثناء محببا وبشرى للطبقات الثلاث التي ذكرتها الآية. وأعظم برضاء الله عنهم ورضائهم عنه بشرى وثناء. وهي التي أخلصت في إيمانها وتفانت في واجبها وطاعة النبي ﷺ وتأييده في كل المواقف والتي قام الإسلام عليها وانتصر بها بعد الله ورسوله. والتي أشير إليها بأساليب ومواضع عديدة في القرآن المكي والمدني معا. وإن كان ذكرها هنا جاء أوضح بيانا.
ولقد روى الطبري بعض الروايات في من عناه تعبير وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ منها أنهم المهاجرون والأنصار الذين بايعوا بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية. ومنها أنهم الذين صلوا للقبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما تعبير وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ فهم على ما رواه الذين أسلموا لله إسلام السابقين وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير.
وعلى كل حال فالآية اعتبرت الرعيل المخلص الأول من المؤمنين فئتين، الأولى السابقون الأولون من المهاجرين وهم الذين آمنوا في مكة وثبتوا وتحملوا
522
الأذى وهاجروا من مكة مفضلين الله ورسوله على الأهل والوطن والمال والراحة.
والثانية السابقون الأولون من الأنصار وهم الذين آمنوا بالنبي ﷺ وعاهدوه على النصرة من أهل المدينة ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وأيدوه ونصروه فعلا في أوقات الشدة. وأضافت الآية إليهما فئة ثالثة وهم الذين اتبعوا سبيل الفئتين بإحسان أي الذين أسلموا إسلام السابقين الأولين وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير كما عرّفهم الطبري.
وروح الآية من جهة وروح آيات عديدة أخرى من جهة ثانية تلهم- وهذا مما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا- أن عدد هذه الفئات الثلاث كان غير يسير وأن موقفها كان خالصا لله ورسوله ومنبعثا عن إيمان وعقيدة راسختين لا يشوبهما قصد المنفعة والمسايرة خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمّموه ويوسعوا نطاقه. والراجح أن هذه الطبقة وبخاصة الفئتين الأوليين منهما هما المقصودتان في الأحاديث النبوية في فضل أصحاب رسول الله ﷺ وإيجاب احترامهم التي روينا طائفة منها في مناسبات سابقة. لأن النبي ﷺ حينما كان يخاطب السامعين بقوله:
«لا تسبّوا أحدا من أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أو «الله الله في أصحابي. لا تتخذهم غرضا من بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» و «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» لا يعقل أن يكون قصد جميع الناس الذين رأوه وبايعوه على الإسلام لأنه لا يكون حينئذ محلا لتوجيه هذا النهي والتنبيه.
وهذه الدلالة منطوية في آية في هذه السورة تأتي بعد قليل أمرت المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين حيث يفيد أن الأمر لعموم المسلمين ليكونوا مع الصفوة من أصحاب رسول الله.
ومما لا شكّ فيه أن هذه الطبقة أهل لكل تعظيم وتوقير واقتداء واتباع. فهذا الثناء الرباني والنبوي عليهم لا بدّ من أنه بسبب إيمانهم العميق وإخلاصهم الشديد
523
وتفانيهم في خدمة دين الله ورسوله وتعاونهم على البرّ والتقوى وورعهم.
وفي السور المكيّة والمدنيّة صور كثيرة من ذلك نبهنا عليها في مناسباتها وفي روايات السيرة صور كثيرة أيضا فيها الروائع التي تملأ النفس إجلالا وإعظاما.
والآية من أواخر ما نزل من القرآن. ولهذا دلالة هامة من حيث اقتضاء حكمة الله تسجيل رضائه عن هذه الفئة في أواخر ما اقتضت حكمته إيحاءه.. ومن هنا يظهر ما في الانتقاص من قدر هذه الفئة أو معظمها وبغضها وسمها وتكفيرها وهو ما دأب وما يزال يدأب عليه طوائف الشيعة بزعم أنهم خالفوا أوامر الله ونبيه ووصاياهما وهو زعم كاذب كل الكذب من جرأة على الله ورسوله وأصحابه بل ومن كفر صريح.
وجملة: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ صريحة بأنها عنت الذين سبقوا غيرهم إلى الإيمان من أهل مكة والمدينة. وفي كتب التفسير تعريفات عنهم مروية عن أهل التأويل منها أنهم أوائل الذين آمنوا من المهاجرين وأوائل الذين آمنوا من الأنصار ومنها أنهم جميع الذين هاجروا إلى المدينة وصلوا إلى القبلتين. وجميع الذين آمنوا في المدينة وصلوا إلى القبلتين. ومنها أنهم الذين بايعوا رسول الله بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية. ولعلّ الأوجه أنهم الذين آمنوا قبل الهجرة ثم قبل الفتح المكي من غير أهل المدينة وأنهم الذين آمنوا قبل هجرة النبي إلى المدينة وفي ظروفها الأولى من أهل المدينة. وفي سورة الحديد آية يمكن أن تكون ضابطا ما وهي لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى. وهناك حديث نبوي رواه الخمسة يمكن أن يكون فيه ضابط ما أيضا وهو «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة. وإذا استنفرتم فانفروا» «١» والله تعالى أعلم.
ولقد ذكر الخازن في جملة ما ذكره أن تعبير وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ
(١) التاج ج ٣ ص ٣٠٤.
524
يشمل جميع المسلمين في عهد النبي ﷺ سوى السابقين الأولين. وذكر الطبرسي أن هذا التعبير يشمل كل مسلم سار على طريقة أصحاب رسول الله إلى يوم القيامة.
ونقول في صدد القول الأول إن في الآيات التالية لهذه الآيات ما لا يتسق معه لأن فيها تقريرا بأن من المسلمين الذين كانوا على عهد النبي ﷺ من خلط عملا صالحا وآخر سيئا والمرجى لأمر الله فضلا عن المنافقين غير المعروفين. أما القول الثاني فإن الآية وإن كان من الممكن أن تلهم أن التعبير هو في صدد أناس موجودين فعلا حين نزولها. وهذا ما يلهمه كذلك تعبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ الذي يشملهم فإن فيه وجاهة حيث يمكن أن ينطوي في الآية تلقين مستمر المدى يوجب على المسلمين في كل ظرف ومكان أن يجعلوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قدوة وإماما بعد الله ورسوله. ويجعل الذين يلتزمون ذلك محلّ رضاء الله سبحانه وتعالى. ويلفت النظر في هذا المقام إلى تعبير بِإِحْسانٍ فكأنما جاء ليكون شرطا للحوق الآخرين بالأولين أو لدخولهم في ساحة رضاء الله وبشراه.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠١]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
. (١) مردوا: مارسوا النفاق حتى مرنوا وبرعوا فيه أو صار لهم جرأة عليه وعتوّ فيه.
تعليق على الآية وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ وما فيها من صور وتلقين
في الآية تنبيه وإنذار وتقرير لواقع حال: فإنه يوجد إلى جانب من كان يعرف
525
النبي ﷺ نفاقهم أناس آخرون من أهل المدينة ومن الأعراب الذين هم حولها منافقون لا يعلمهم النبي لأنهم مرنوا على النفاق وأتقنوا دورهم فيه حتى استطاعوا أن يخفوا حقيقتهم. وإن الله تعالى يعلمهم. ولسوف يعذبهم الله مرتين قبل يوم القيامة ثم يردون إلى عذاب عظيم في ذلك اليوم جزاء خبثهم ومكرهم.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزول الآية. والمتبادر من أسلوبها وعطفها على ما سبقها أنها استمرار في الاستطراد وجزء من السياق السابق فيها ذكر صنف من صنوف المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد احتوت صورة طريفة لفريق من المنافقين استطاعوا أن يخفوا نفاقهم عن النبي ﷺ والمسلمين. ومن الممكن أن يستلهم من أسلوب الآية قصد الإيقاظ والتحذير من جهة وقصد التهديد بالفضيحة من جهة أخرى بالإضافة إلى بيان واقع أصحاب هذه الصورة وتقرير استحقاقهم لعذاب مضاعف.
والآية تحتوي صورة من صور النفاق والمخامرة تكون في مختلف الظروف وبخاصة في ظروف النضال واستعلاء أهله. وتحتوي بالتالي إيقاظا وتلقينا مستمر المدى نحو أصحاب هذه الصورة وخطرهم وضررهم اللذين يفوقان خطر وضرر المعروفين من المنافقين.
ولقد روى ابن كثير في سياق هذه الآية عن قتادة أن النبي ﷺ أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين المجهولين للناس فقال ستة منهم تكفيهم الدبيلة.
سراج من نار يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره. وستة يموتون موتا.
وأن عمر بن الخطاب كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منافق نظر إلى حذيفة فإن صلّى عليه صلّى عليه وإلّا تركه. وأن عمر نفسه ناشد حذيفة (هل هو نفسه منهم فقال له لا). والحديث مرفوع ولم يرد في كتب حديث معتبرة. ونص الآية صريح بأن من ذكر في الآية لا يعلمهم النبي وهذا ما يوجب التوقف فيه. ويوجب التوقف فيه مناشدة عمر لحذيفة عما إذا كان هو نفسه منهم فإنه من المتواتر تواتر اليقين أن عمر كان من أخلص الرجال المؤمنين وكان له عند رسول الله مكانة عظمى وأثرت
526
عن النبي ﷺ أحاديث كثيرة صحيحة في التنويه به. منها حديث رواه الترمذي عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ قال: «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب» «١» وحديث رواه الترمذي جاء فيه: «أن أبا بكر قال لعمر لقد سمعت رسول الله يقول ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر» «٢». وحديث رواه الترمذي أن النبي قال: «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» «٣» وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: «ما من نبيّ إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر» «٤». وليس من ريب عندنا أن عمر كان متيقنا من عمق إيمانه ومنزلته من رسول الله فلا يمكن أن يطرأ شكّ ما على قلبه من نفسه. ونخشى أن يكون للشيعة أثر في هذا الخبر لفش غلهم ولبغضهم له.
ولقد تعددت الروايات التي أوردها الطبري وغيره عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله ﷺ وتابعيهم في تأويل جملة سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ منها أنهما عذاب الحسرة والغيظ لانتصار الإسلام والمسلمين أولا ثم عذاب القبر ثانيا قبل عذاب يوم القيامة العظيم. ومنها أنهما عذاب الفضيحة أولا ثم عذاب القبر ثانيا.
ورووا عن ابن عباس في سياق الآية أن رسول الله ﷺ خطب يوم جمعة فقال:
اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق. فأخرج من المسجد أناسا منهم فضحهم فهذا هو العذاب الأول. ومهما يكن من أمر فالتعبير استهدف تقرير استحقاقهم العذاب مضاعفا، ليتناسب مع شدة خطرهم وبشاعة دورهم ويكون قوي الردع والزجر في الوقت نفسه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآية حديثا من تخريج ابن عساكر عن أبي الدرداء أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي ﷺ فقال: «الإيمان هاهنا وأشار إلى لسانه» و «النفاق هاهنا وأشار إلى قلبه» ولم يذكر الله إلا قليلا. فقال رسول
(١) التاج ج ٣ ص ٢٧٩.
(٢) المصدر نفسه ص ٢٨٠- ٢٨٢.
(٣) المصدر نفسه. [.....]
(٤) المصدر نفسه.
527
الله: «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وارزقه حبي وحبّ من يحبّني وصيّر أمره إلى خير» فقال: يا رسول الله إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم. أفلا آتيك بهم قال «من أتانا استغفرنا له. ومن أصرّ فالله أولى به ولا تخرقن على أحد سترا». ومن المحتمل أن يكون هذا الرجل قد جاء نادما مستغفرا لنفسه ولرفاقه على أثر نزول الآية. وإذا صحّ الحديث ففيه تدعيم لما ذكرناه في سياق الآية [٨٠] من أن استغفار النبي كان لمن يرى أن توبته صادقة. ونفي الغفران الرباني هو لمن علم الله إصراره على النفاق والطوية الخبيثة. وفي الحديث تلقين جليل بإيكال من لم ينكشف نفاقه إلى الله وعدم خرق الأستار عن الناس إذا لم يكن خطرهم وضررهم مؤكدين. والله أعلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٥]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
. في الآيات:
١- إشارة إلى فريق آخر أذنبوا واعترفوا بذنوبهم وكان لهم أعمال صالحة إلى جانب هذه الذنوب.
٢- وبشارة وتعليم بما يجب بالنسبة إليهم: فمن الممكن أن يتوب الله عليهم إذا تابوا وهو الغفور الرحيم. وعلى النبي أن يأخذ من أموالهم صدقة لتكون كفارة عما اقترفوه من ذنوب وتطهيرا لهم. وأن يدعو لهم ففي دعائه لهم تسكين لهم وتطمين لقلوبهم. والله سميع لكل ما يقال عليم بالنيات والمقتضيات. وعليهم هم أن يطمئنوا ويعلموا أن الله يقبل التوبة من عباده ويتقبل صدقاتهم إذا ما كانت عن إخلاص وصدق نية وعلى النبي أن يشجعهم على العمل الصالح ليثبتوا به
528
إخلاصهم وصدق نيتهم وتوبتهم ويقول لهم اعملوا فسيرى الله ورسوله والمؤمنون أعمالكم وستردون إلى عالم الغيب والشهادة والسرّ والعلن فينبئكم بما عملتم ويجزيكم عليه بما تستحقون.
تعليق على الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً.. والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى الطبري وغيره روايات عديدة في نزول الآيات وفي من عنته. منها أنها بشأن أبي لبابة من الأوس وحليف بني قريظة الذي أشار لهم حينما استشاروه بعد حصار النبي لهم وطلبه النزول على حكمه بإشارة تفيد أن مصيرهم الذبح. ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه بعمود مسجد رسول الله وقال لا أبرح حتى يتوب الله عليّ فقبل الله توبته وأطلقه النبي بيده. ومنها أنها في صدد الجماعة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر وجيه وكانوا مخلصين في إيمانهم حيث عمدوا حين قفل رسول الله من الغزوة إلى سواري مسجد رسول الله فربطوا أنفسهم بها ندما وتوبة وقالوا لن نبرح حتى يقبل الله توبتنا ويطلقنا رسول الله. ولم ير النبي أن يطلقهم حين عودته وقال لا أعذرهم حتى يعذرهم الله فظلوا حتى نزلت الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.. فآذنهم بقبول توبتهم وأنهم جاؤوه بعد ذلك فقالوا خذ من أموالنا ما تشاء وتصدق بها وصلّ علينا فقال لا أفعل حتى أؤمر فنزلت الآية خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً.. إلخ ومنها أن هذا كان قاصرا على أبي لبابة. وأنه لما أطلقه رسول الله جاء إلى رسول الله فقال له إن من توبتي أنخلع من مالي كله صدقة فقال له رسول الله «يجزيك الثلث». ومن الروايات أنها نزلت بشأن جماعة من منافقي الأعراب والمدينة تابوا عن نفاقهم. وليس شيء من الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة. ويلحظ في صدد رواية إشارة أبي لبابة لليهود أنها بعيدة المناسبة من جهة وقد أوردت في سياق آيات سورة الأحزاب [٢٦- ٢٧] من جهة أخرى على ما شرحناه سابقا. ونستبعد أن تكون في صور المتخلفين عن غزوة تبوك من
529
المخلصين لأن الآية جزء من السياق الذي رجحنا أنه نزل أثناء غزوة تبوك. وقد ذكر أمر هؤلاء في آية أخرى تجيء بعد قليل. وبعد العودة من تبوك. ونستبعد أن تكون في حق منافقين لأن نصّ الآية قد يلهم أنها بحقّ مؤمنين غير منافقين.
والذي يتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها ومن عطف ما لحقها عليها في سياق منسجم أو أنها استمرار في السياق الاستطرادي السابق وأنها احتوت صورة أخرى من صور الناس في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وفي الآيات تلقين مستمر المدى ومعالجة روحية رائعة. فالصورة أيضا من الصور التي تظهر في مختلف الظروف فإذا ما استشعر بعض المذنبين والمقصرين بخطئهم عن حسن نية ورغبوا في إصلاح أنفسهم فيكونون ممن يرجى إخلاصهم وصلاحهم. ومثل هؤلاء يجب أن يشجعوا وتطمئن قلوبهم ويفسح لهم بين صفوف الصالحين. ويحسن بهم أن يقدموا بين يديهم صدقات تنفق في سبيل الله ووجوه البرّ تكفيرا عن ما أسلفوه من الذنوب ووسيلة قربى إلى الله تعالى.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
. (١) مرجون: مرجئون. أي مؤخرون وموكولون.
وفي هذه الآية إشارة إلى فريق آخر من المسلمين موكولين لتقدير الله وأمره.
فهو العليم بكل شيء والحكيم في كل ما يقدر ويأمر فيعاملهم بمقتضى علمه وحكمته فإما أن يراهم مستحقين للعذاب فيعذبهم أو مستحقين للرحمة والمغفرة فيرحمهم ويتوب عليهم.
تعليق على الآية وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ.. وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن الآية نزلت في حقّ فريق من المسلمين المخلصين تخلّفوا
عن غزوة تبوك ولم يسارعوا إلى الاعتذار والتوبة. فأرجأ الله أمرهم ثم شملهم بتوبته وعفوه في الآية [١١٧] التي تأتي بعد قليل. وأوردوا ثلاثة أسماء قالوا إن الآية التي نحن في صددها فيهم. وهم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك.
والآية [١١٧] هي في شأن الذين اشتركوا في الغزوة. وهناك أحاديث صحيحة تذكر أن كعب بن مالك ورفيقيه هم الذين نزلت في توبتهم آية أخرى هي الآية [١١٨] بحيث لا يبقى محل للقول إن الآية التي نحن في صددها نزلت فيهم.
ولذلك فنحن نتوقف في بعض الروايات التي لم ترد في كتب حديث صحيحة أيضا والذي يتبادر لنا من روح الآية وعطفها على ما سبقها أنها هي الأخرى استمرار للسياق الاستطرادي لتشير كما قلنا إلى صنف آخر من صنوف المسلمين لم يكن أمرهم جليا من حيث النفاق أو الإخلاص. وهذه صورة مألوفة كذلك في المجتمعات البشرية. ولعلّ الآية قد تضمنت تلقينا بعدم التسرّع في حقّ أصحاب هذه الصورة ما داموا لا يجاهرون بذنب ولا يقفون موقفا منكرا وضارا ولو لم يكن أمرهم جليا كل الجلاء. وفي هذا ما فيه من الصواب والحكمة ثم التلقين المستمر المدى إزاء أصحاب هذه الصورة المألوفة في كل ظرف.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
. (١) ضرارا: بقصد الضرر والمضارة.
531
(٢) إرصادا: مكان انتظار وترصد أو ارتقابا.
(٣) شفا: الطرف الدقيق وراء الهاوية أو الحافة.
(٤) جرف: المكان المرتفع الرخو من تآكل السيول.
(٥) هار: مائل للسقوط والانهيار.
(٦) إلا أن تقطع: قرئت (إلّا أن) بصيغة (إلى أن) وقرئت (تقطع) بفتح التاء وبضمّها وعلى كل حال فالجمهور على أن معنى الجملة إلى أن تقطع قلوبهم بالموت.
في هذه الآيات:
(١) إشارة إلى فريق أنشئوا لهم مسجدا خاصا.
٢- وتقرير للدافع الحقيقي لذلك. فهو لم يكن عن إخلاص وحسن نية.
وإنما كان بقصد المضارة والتعطيل والتفريق بين المؤمنين. ومظهرا من مظاهر الكفر والنفاق. ومرصدا وارتقابا لأناس حاربوا الله ورسوله من قبل إنشائه بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان بأنهم إنما أرادوا الخير وأنهم حسنو النية. فإن الله يشهد أنهم كاذبون.
٣- وأمر للنبي بعدم الصلاة والقيام فيه. وتنبيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى والإخلاص من أول يوم تأسيسه هو الأحقّ بذلك لأن أصحابه مخلصون.
يحبون التطهر والله يحب المتطهرين.
٤- وسؤال إنكاري ينطوي على التنديد بالمسجد الجديد وأصحابه. والتنويه بالمسجد الأول وأصحابه عن خير المسجدين وأصحابهما. وهل هو ذلك المسجد الذي أقامه أصحابه بقصد التقرّب إلى الله وابتغاء رضوانه أم ذلك الذي أقيم على أساس فاسد ومقصد باطل.
٥- وتعقيب على السؤال بمثابة الجواب فإن هذا البنيان كمثل بنيان أقيم على حافة جرف متداع للسقوط فلا يلبث أن ينهار. وإنه قد انهار فعلا بأصحابه في نار جهنّم. وإنهم لظالمون. وإن الله لا يمكن أن يهدي ويوفق الظالمين. إن بنيانهم
532
الذي أقاموه سيظل مظهرا للشك والنفاق الذي تمكن في قلوبهم إلى أن تنقطع هذه القلوب بالموت. وإن الله عليم بكل شيء ظاهر وخفي. حكيم يأمر بما فيه الصواب والحكمة.
تعليق على الآية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً... والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما ورد في صددها من روايات. وما احتواه الفصل الاستطرادي من الصنوف الستة للمجتمع الإسلامي في أواخر العهد النبوي
ولقد روى الطبري «١» وغيره من المفسرين بيانات كثيرة عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل من التابعين في صدد هذه الآيات يستفاد منها أن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما قدم مكة إلى المدينة قضى أياما في ضاحية تعرف بقباء. فأنشأ أهلها مسجدا محل صلاة النبي وبإذن منه ليقيموا فيه صلاتهم العادية وبخاصة في الليالي وفي أوقات اشتداد البرد والحرّ وقد صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «٢» وكان في الضاحية فريق من المنافقين روت بعض الروايات أنهم اثنا عشر شخصا وذكرت أسماءهم وذكر في بعضها أنهم من بني غنم بدون ذكر الأسماء والعدد. وكان يتردد عليهم شخص عرف بكرهه للنبي والإسلام وبمحاربته لهما اسمه أبو عامر من أهل المدينة أيضا.
كان نبذ الشرك ووحّد ثم تنصّر وترهّب ولبس المسوح فعرف بالراهب كما عرف بالفاسق فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة قال له ما الذي جئت به؟ قال له جئت بالحنيفية دين إبراهيم فقال أنا عليها فقال له النبي إنك لست عليها فقال بلى ولكنك أنت أدخلت عليها ما ليس فيها، فقال له ما فعلت وقد جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر أمات الله الكاذب منّا طريدا شريدا وحيدا فقال النبي آمين فقال أبو عامر لا
(١) انظر أيضا البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(٢) هذا الخبر مذكور في حديث الهجرة الطويل الذي رواه البخاري عن عائشة وأوردناه في سياق تعليقنا على الآيات [٣٨- ٤١] من هذه السورة.
533
أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين في قباء أن استعدوا ما استطعتم وابنوا مسجدا ليكون مجمعا لكم وانتظروني فإني ذاهب إلى قيصر الروم لآتي بجند نخرج به محمدا وأصحابه من المدينة. فأنشأوا مسجدا فسألهم النبي فقالوا له إن المسجد الأول بعيد عنهم وإن شيوخهم ومرضاهم لا يستطيعون الذهاب إليه. وأكدوا له حسن نيتهم وطلبوا منه أن يأتي فيصلّي فيه للبركة.
فصدقهم وقال لهم إنا على سفر وحين أعود من تبوك أفعل. فلما قرب في عودته إلى المدينة جاءه بعضهم يذكرونه بوعده لهم فأنزل الله الآيات ففضحهم وأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم بضعة أشخاص فهدموا المسجد وأحرقوه.
والآيات إجمالا متطابقة مع هذا الموجز. وهكذا تكون قد انطوت على صورة من أخبث صور النفاق وأشدها خطرا وبعد مدى. ولا سيما باتخاذ مسجد الله وسيلة ودريئة. ثم على موقف من مواقف الكيد التي كان المنافقون وذوو القلوب المريضة الحاقدة يقدمون عليها ضدّ النبي ودعوته وسلطانه. فجاءت الحملة فيها قاصمة لتتناسب مع شدة خبثهم وسوء مقاصدهم التي تضمنتها العبارة القرآنية.
ومع أن الآيات احتوت موضوعا خاصا روي فيه وقائع معينة فإن عطفها على ما قبلها وأسلوبها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق السابق وبسبيل وصف صنف من صنوف المسلمين في الوقت نفسه. ويمكن أن يستأنس على ذلك برواية نزولها في طريق عودة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة لأن هذا مما يفيده بعض الآيات الواردة في السياق.
وهكذا يكون هذا الفصل الاستطرادي الذي يبدأ بالآية [٩٨] والذي نزل في طريق عودة النبي صلّى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قد احتوى بيان الصنوف التي كان يتكون منها المجتمع الإسلامي في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه مات بعد سنة من غزوة تبوك. وهي:
534
(١) أعراب مخامرون متربصون.
(٢) أعراب مخلصون في أيمانهم.
(٣) سابقون أولون من المهاجرين.
(٤) سابقون أولون من الأنصار.
(٥) مخلصون من غير السابقين سائرون على خطى وهدى السابقين.
(٦) منافقون من الأعراب وأهل المدينة غير مكشوف نفاقهم للناس والنبي صلّى الله عليه وسلم.
(٧) مخلصون في أيمانهم وإنما يخلطون بين العمل الصالح والسيّء.
(٨) فريق غامض الموقف مرجى لأمر الله وعلمه.
(٩) فريق منافق مكشوف شديد الخبث والأذى.
وهذه الصنوف هي مما يتألف منه المجتمعات البشرية عامة على الأغلب الأعم وإن كان الأعراب اليوم لا يؤلفون غالبية هذه المجتمعات. فلم يخرج المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم عن نطاق ذلك. والراجح الذي تفيده الروايات والمشاهد المتواترة أن الأعراب كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم يؤلفون الغالبية.
ومن الحق أن يقال استئناسا بالآية [٩٧] من هذه السورة ثم بآيات سورة الفتح [١١ و ١٢ و ١٥] وسورة الحجرات [١٤- ١٧] أن غالبية هذه الغالبية لم يكونوا مخلصين في إسلامهم وطاعتهم لله ورسوله إيمانا واحتسابا. ومن الحقّ أن نذكر أن الصنوف الثلاثة التي نوّه بها في الآية [١٠٠] كانوا قاعدة المجتمع الإسلامي القوية الذين ضربوا أروع الأمثلة في الإخلاص لدين الله ورسوله والتفاني في خدمتهما ابتغاء رضوان الله وفضله فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا عماد الدعوة الإسلامية بعد النبي صلّى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت روايات الطبري عن أهل التأويل في المسجد المنوه به في الآيات. حيث روي عن ابن عباس والحسن وابن زيد أنه مسجد قباء الأول الذي بناه بنو عوف. وحيث روي بطرق عديدة حديثا جاء فيه أنه امترى أحد بني عوف مع أبي سعيد الخدري أو غيره على اختلاف الروايات حيث قال العوفي إنه مسجد
535
قباء وقال صاحبه إنه مسجد النبي فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلم فسألاه فقال هو مسجدي هذا وفي كل خير. ولقد روى الترمذي ومسلم حديثا مقاربا لهذا الحديث، صيغته «قال أبو سعيد الخدري تمارى رجلان في المسجد الذي أسّس على التقوى فقال رجل هو مسجد قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله فقال رسول الله هو مسجدي هذا» «١».
ومع ذلك فهناك حديث آخر رواه الترمذي والبزّار عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الآية فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. نزلت في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء» «٢» والضمير في (فيه) عائد إلى المسجد. ويظهر أن هذا الحديث ثبت عند الذين قالوا إن المسجد هو مسجد قباء دون الحديث الأول فاستندوا إليه في قولهم. ونحن نرى هذا هو الأوجه لأن الكلام هو في المفاضلة بين مسجدين متناظرين. وهذا إنما يصحّ في مسجدي قباء اللذين بنى أحدهما المخلصون وثانيهما المنافقون. وهناك حديث ثان رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وأورده القاسمي في تفسيره فيه تأييد لذلك جاء فيه «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار في مسجد قباء فقال إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هو هذا الطهور الذي تطهرون به. قالوا يا رسول الله ما خرج منّا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء». وروى الطبري هذا بهذه الصيغة «إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحاب المسجد أو الأنصار قد أحسن الله عليكم الثناء في الطهور.
فماذا تصنعون. قالوا نغسل أثر الغائط والبول. وفي رواية كنا نستنجي بالماء في الجاهلية فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال لهم لا تدعوه»
.
وفي هذه الأحاديث بالإضافة إلى ما فيها من تأييد لكون المسجد المراد هو مسجد قباء فإن فيها وفي الجملة القرآنية معا توجيها قرآنيا ونبويّا شاملا لكل مسلم في كلّ ظرف بوجوب التزام الطهارة في كل شيء وبخاصة الطهارة البدنية.
وفي ذلك توكيد لهدف تشريع الوضوء والاغتسال على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
(١) التاج ج ٤ ص ١١٩- ١٢٠.
(٢) المصدر نفسه.
536
وواضح أن الآيات تحتوي أيضا تلقينا قويا يظل مستمد إلهام مستمر المدى في تشنيع أعمال الدسّ والمخامرة والتآمر التي يبيتها ويقدم عليها ذوو القلوب المريضة الذين قلّما يخلو منهم مجتمع في أي ظرف وفي وجوب الوقوف منهم موقف الشدة والحسم. والانتباه لهم. وعدم الانخداع بمظاهرهم وأيمانهم الكاذبة. وفي وجوب تكريم ذوي المقاصد الحسنة والمظاهر الفاضلة. وفي وجوب مراعاة جانب الله ومراقبته وتقواه وابتغاء وجهه في ما يباشره المسلمون من أعمال ومنشآت برّ وخير فهذا هو الدائم المستوجب لرضاء الله في الدنيا والآخرة والآية [١٠٩] بخاصة قوية رائعة في صدد هذا التلقين وشموله لكل عمل وموقف.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
. (١) السائحون: يروي المفسرون «١» عن أهل التأويل قولين في معنى الكلمة.
أحدهما الذين يسيحون في الأرض للجهاد. وثانيهما أنها بمعنى الصائمين. ويروون حديثين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحدهما يؤيد القول الأول وثانيهما يؤيد القول الثاني. وقد جاء في أولهما «سياحة أمتي الجهاد». وجاء في ثانيهما «سياحة هذه الأمة الصيام» والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث المعتبرة. وهناك قول ثالث يرويه القاسمي عن الرازي وأبي مسلم وبعض المحققين وهو أنها بمعناها اللغوي المتبادر وهو السياحة في الأرض مطلقا. وسياق الكلام يسوغ ترجيح أحد المعنيين الأولين. والله أعلم.
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي.
537
عبارة الآيتين واضحة. وقد احتوتا بشرى ربانية للمؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وحثّا على ذلك. وتعدادا لصفات المؤمنين المخلصين واستغراقهم في دين الله وواجباته على سبيل التنويه والتثبيت.
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
روى الطبري أن الآية الأولى نزلت عند بيعة العقبة الكبرى التي بايع فيها وفد الأوس والخزرج النبي ﷺ قبيل هجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة حيث قال أحدهم عبد الله بن رواحة للنبي ﷺ اشترط لربك ولنفسك فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون به أنفسكم فقالوا وما لنا إذا فعلنا ذلك؟ فقال الجنة. فقالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فأنزل الله الآية.
ومع احتمال صحة المحاورة المروية عند بيعة العقبة فإن أسلوب الآية ومضمونها يسوغان الشك في صحة رواية نزولها في ظروف بيعة العقبة. بل إن الرواية نفسها تسوغ هذا الشك لأن كل ما طلبه النبي ﷺ من الوفد هو المنع والحماية بينما الآية واسعة المدى في الجهاد. ولقد ذكرنا في سياق شرح قصة وقعة بدر في تفسير سورة الأنفال أن النبي ﷺ لم يكن يرى له على الأنصار إلّا الدفاع والحماية فقط. ولذلك لم يقدم على الاشتباك مع قريش إلّا بعد أن استشارهم وأظهروا استعدادهم للحرب مما فيه تأييد لذلك. ولقد ربط الطبري وغيره بين الآية الأولى والثانية وقالوا: إن الله قد بين في الثانية صفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم. حيث يفيد هذا أن الآيتين نزلتا معا. وهو ما لم تروه الرواية. والانسجام بين الآيتين تام يؤيد ذلك. فضلا عن أن ما في الآية الثانية من صفات لم يكن بعد متحققا في الذين بايعوا بيعة العقبة.
وبالإضافة إلى هذا فإننا نرى التناسب قائما بين الآيتين والسياق السابق بحيث
538
يسوغ ترجيح نزولهما معه أو عقبه وأن تكونا قد جاءتا على سبيل التعقيب على السياق من جهة وخاتمة للسلسلة التي استدللنا من مضامينها أنها نزلت أثناء غزوة تبوك من جهة أخرى والتي دار أساسها وفصولها على التنديد بالمتخلفين عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم أولا وبالمخامرين المنافقين ثانيا، والتنويه بالمؤمنين المخلصين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ثالثا.
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب قوي نافذ. وجمعت الثانية منهما بخاصة كل صفات المؤمن المخلص فكانتا ختاما رائعا لهذه السلسلة وللغزوة التي نزلت فيها والتي كانت آخر غزوات النبي ﷺ وأعظمها عددا وعدة ومن أبعدها خطورة وأشدها شقة وأطولها مسافة وأمدا. وقد تلهم روحهما أنهما في صدد التنويه بأصحاب رسول الله الذين اشتركوا في غزوة تبوك أيضا.
ومع ذلك فإن إطلاق عبارتهما يجعلهما تقريرا عاما موجها إلى كل مسلم في كل ظرف ومكان ليستمد منهما إلهاما فياضا في الإقدام على الجهاد بماله ونفسه وتحمل التضحيات مهما عظمت في سبيل الله ويجد فيهما مقياسا للإخلاص الذي يستحق المتحقق به لرضاء الله ويجد فيهما جماع صفات الصلاح وأسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة التي يجب عليه أن يتحقق بها.
ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأولى من مغزى عظيم. حيث تتضمن تقرير أن المسلم المخلص بمجرد انتسابه للإسلام يكون قد باع نفسه لله ليجاهد في سبيله بماله ونفسه وكون الله قد اشترى ذلك بالجنة. ففي هذا ما فيه من قوة الحثّ على الجهاد والدعوة إليه. وقوة عنصر الاستجابة فيه واعتباره أقوى أركان الإسلام ودعائمه. وطبيعي أن هذا الجهاد يدور في نطاق المبادئ التي قررها القرآن وشرحناها في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر حديثا جاء فيه «إن رسول الله ﷺ كان إذا رجع من سفر يقول آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون» «١».
(١) النص من ابن كثير جاء في سياق تفسير آيات الزخرف [١٢- ١٤] وقال المفسّر إن الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
539
وروى ابن سعد في طبقاته عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله ﷺ يقول حين رجوعه من غزوة عسفان أولى غزواته «آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» «١» وروى ابن سعد أيضا أن النبي ﷺ حينما قرر العودة من غزوة الطائف بعد وقعة حنين قال للمسلمين «قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. فلما ارتحلوا قال قولوا آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» «٢».
والفرق بين ما جاء في هذه الأحاديث والآية هو أن الصيغة في الأحاديث إعلان من النبي والمؤمنين بالتوبة والإنابة إلى الله وحمده. في حين أن صيغة الآية أشمل وأوسع. وفيها تثبيت للصفات العظيمة التي تتحقق في المؤمنين من إنابة إلى الله وتوبة وجهاد وعبادة وسجود وركوع وسياحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وحفظ لحدود الله حينما يوفون ما أوجبه عليهم تعاقدهم على شراء الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة من قتال في سبيله. وتنويها بهم وتبشيرا لهم حيث تكون حكمة التنزيل شاءت أن توحي قرآنا بصيغة أوسع وأشمل لما كان النبي ﷺ يهتف به ويأمر المسلمين بالهتاف به كلّما عاد وعادوا معه من سفر وجهاد في أعقاب غزوة تبوك آخر غزوات رسول الله وأعظمها عدد جيوش وبعد مدى وأهداف ومشقة.
وهذا لا ينقض ما قلناه استئناسا بإطلاق العبارة القرآنية من شمول مدى الآية لكل مسلم حينما يقوم بواجبه من القتال في سبيل الله نتيجة لتعاقده مع الله ببيع نفسه وماله بالجنة.
وفي صدد جملة وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ نقول إن القرآن احتوى آيات عديدة فيها دعوة للجهاد بالمال والنفس وحثّ عليه ووعد رباني بالنصر والجنّة للمجاهدين. ومن آخرها الآيات [٨٨ و ٨٩] من هذه السورة وإذا لم يكن في أسفار العهد القديم والعهد الجديد المتداولة اليوم بين أيدي اليهود والنصارى شيء صريح من ذلك فلا يعني هذا نفي ما جاء في الجملة القرآنية.
(١) طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٢٢- ١٢٣ و ٢١١.
(٢) المصدر نفسه.
540
فالتوراة والإنجيل اللذان أوحى بهما الله لموسى وعيسى عليه السلام واللذان كانا موجودين في زمن النبي ﷺ مفقودان على ما شرحناه في التعليق على التوراة والإنجيل في سياق تفسير الآية [١٥٨] من سورة الأعراف. وأسفار العهد القديم التي يمكن أن يكون فيها شيء مما بلّغه الله عزّ وجلّ لموسى عليه السلام أو بلّغه موسى لبني إسرائيل قد دونت بعد موسى بمدة طويلة. وفيها متناقضات كثيرة تدل على طروء تحريف عليها فضلا عن أنه ليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلّغه الله عزّ وجلّ لموسى أو بلّغه موسى لبني إسرائيل. والأناجيل المتداولة هي ترجمة حياة عيسى عليه السلام وليس هناك أي دليل على أن فيها جميع ما بلّغه الله عزّ وجلّ لعيسى وبلّغه عيسى لبني إسرائيل وغيرهم. ولقد جعل الله القرآن مهيمنا على الكتب السابقة المنسوبة إلى الله عزّ وجلّ. ومقتضى هذا من وجهة العقيدة الإسلامية أن كل ما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة اليوم من المبادئ والأسس هو الحق على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [٤٨] من سورة المائدة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا روى الشيخان صيغة مقاربة لأوله مع زيادة مهمة فرأينا أن نورد صيغة الشيخين لما في الزيادة من روعة وتلقين وهذه هي «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم. لونه لون دم وريحه ريح مسك.
والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا. ولكني لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل ثم أحيا ثم أغزو فأقتل... »
«١».
(١) التاج ج ٤ ص ٢٩١- ٢٩٢.
541
هذا، ولقد رأينا المفسر القاسمي يقف عند كلمة السَّائِحُونَ ويروي ما قاله بعض العلماء من أنها بمعنى السياحة في الأرض مطلقا وينقل عنهم ما ذكروه من فوائد السياحة المتنوعة حيث يبدو أنهم يرون في الكلمة إيعازا قرآنيا للمسلمين بالسياحة في الأرض واجتناء فوائدها. وشيء من هذا في تفسير رشيد رضا أيضا.
ومع أن فيما قالوه من فوائد السياحة وكونها مستحسنة للمسلمين وجاهة، فإنّ في الاستدلال على ذلك من الكلمة في مقامها تكلفا. ولا سيما أنها تصف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة إذا ما قاتلوا في سبيله بأوصاف تدخل في نطاق عبادة الله والإنابة إليه. ولم تكن السياحة بمعناها هذا قد تحققت في المسلمين المخاطبين الأولين في الآية. والله تعالى أعلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٥]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)
. (١) أوّاه: قيل إنها بمعنى الخاشع المتضرّع إلى الله الموقن به. وقيل إنها بمعنى كثير التأوّه والخوف من الله.
تعليق على الآية ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.. والآيتين اللتين بعدها وما فيها من تلقين وما روي في صددها من روايات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت الأولى والثانية منها تنبيها على أنه لا
542
ينبغي للنبي والمسلمين أن يستغفروا للمشركين الذين ماتوا على شركهم وغدت الجحيم مصيرا حتميّا لهم في الآخرة. وبيانا بأن استغفار إبراهيم لأبيه لا يصح أن يكون مثالا مبررا لذلك لأنه إنما استغفر له بناء على وعد وعده به وقبل أن يتيقّن من عدائه لله فلما تيقّن من ذلك تبرأ منه لأنه يخاف الله ولا يفعل ما لا ينبغي. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنبيها بأن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يبين للناس الذين هداهم بهداه الأعمال التي يجب عليهم أن يتقوها ويتجنبوها ولا يدعهم في عماية وضلال حتى يكونوا على بيّنة وهو العليم بكل شيء ومقتضيات الأمور.
لقد روى الطبري روايات عديدة في سياق نزول الآية. منها رواية أنها في صدد وعد رسول الله لعمّه بالاستغفار له حينما حضرته الوفاة وأصرّ على دين آبائه بتحريض من زعماء قريش الكفار. وهذا الخبر ورد في حديث رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال رسول الله يا عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب. فلم يزل النبي يعرضها عليه ويعيد الاثنان عليه قولهما حتى كان آخر كلامه هو على ملّة إبراهيم وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية» «١» ومنها أنه لما قدم النبي على مكة من الفتح وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية. وروى الطبري صيغة أخرى لهذا الخبر ولا يذكر أن الآية نزلت في هذا الموقف.
وقد روى هذا مسلم وأبو داود والنسائي أيضا عن أبي هريرة بهذه الصيغة «زار النبي ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربّي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» «٢».
(١) التاج ج ٤ ص ١٢٠.
(٢) التاج ج ١ ص ٣٤٥.
543
ومن الروايات التي يرويها الطبري أن بعض أصحاب رسول الله قالوا له يا نبيّ الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي الذمم أفلا نستغفر لهم. قال بلى. والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله الآيتين الأوليين. فيهما نهي وبيان بسبب استغفار إبراهيم لأبيه وكفّه عن ذلك. ومنها أن شخصا سمع آخر يستغفر لوالديه وهما مشركان فقال له أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتى النبي ﷺ فذكر له ذلك فنزلت الآيتان. وروى الطبري أن الذين استغفروا لآبائهم ظنوا أنهم اقترفوا إثما بعد نزول الآيتين فأنزل الله الآية الثالثة.
وروى البغوي رواية أخرى في صدد نزول الآية الثالثة وهي أن قوما قدموا على النبي ﷺ وأسلموا ولم تكن الخمر محرّمة ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة ثم قدموا عليه بعد مدة فوجدوا الخمر محرمة والقبلة مصروفة إلى الكعبة فقال يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله الآية الثالثة.
ويلحظ أن المناسبة بعيدة بين وفاة أبي طالب والآيات. وكذلك بينها وبين زيارة النبي لقبر أمه. فضلا عن أن الآيات تشرك المؤمنين مع النبي وليست قاصرة عليه. وهذا ما يجعلنا نتوقف في روايتي أبي طالب وأم النبي ونزول الآيات في صددهما. وحديث أبي طالب الذي يرويه الشيخان عن سعيد بن المسيب والذي فيه أن الآية نزلت في صدد ذلك هو قول شخص وليس عن النبي ﷺ مباشرة. ولا يكون حجة قاطعة على أن الآية نزلت في صدد ذلك. والحديث الذي يذكر أن الآية نزلت في صدد استغفار النبي لأمه ليس من الصحاح. والحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وأبو داود والنسائي في ذلك ليس فيه أن الآية نزلت في ذلك.
وقد تكون الرواية التي تذكر أن النبي قال لمن سأله عن صواب الاستغفار للآباء ذوي الأعمال الحسنة بلى ثم قال لأستغفرن لأبي أيضا هي أكثر الروايات اتساقا مع نصّ الآيتين وإن لم ترد في الصحاح. لأن النبي والمؤمنين معا اشتركوا
544
فيها. وهذا يقال بالنسبة للرواية التي يرويها البغوي كمناسبة لنزول الآية الثالثة حيث ظن النبي والسائلون أنهم أثموا بالاستغفار لآبائهم بعد نزول الآيتين فنزلت الآية الثالثة بعدهما. والله تعالى أعلم.
ومع أن الآيات الثلاث تبدو كما قلنا فصلا جديدا فإنّ وضعها بعد سلسلة الآيات التي نزلت عقب غزوة تبوك قد يسوغ القول إن الحوادث التي نبهت ونهت عنها الآيات كانت بعد العودة من هذه الغزوة.
والمتبادر أن وصف إبراهيم عليه السلام بالأوّاه الحليم هدف إلى التنبيه على أنه لا يمكن أن يفعل شيئا لا يرضاه الله تعالى لأنه شديد الخوف منه وإن ما كان من وعده لأبيه قبل أن يصبح عداؤه لله يقينيا إنما جاء من رأفته وحلمه وإشفاقه ولكن ذلك لم يحل دون تبرئه منه حالما تيقن من ذلك العداء. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى كما هو ظاهر.
ولقد احتوت الآية الثالثة أساسا إيمانيا وتشريعا جليلا. وهو أن الله عزّ وجلّ لا يؤاخذ مسلما على عمل لم ينه عنه. وأن كل ما لم يؤمر المسلمون باجتنابه بنصّ قرآني أو نبوي صحيح مما ليس فيه منكر وإثم وفاحشة بينة هو مباح لهم. وهذا متسق مع ما قرره القرآن في مواضع عديدة وأساليب متنوعة نبهنا عليها في مناسبات سابقة. وهناك حديث يرويه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ يصح أن يورد كضابط عظيم في هذا الصدد ونصه «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» «١».
وجملة ما كانَ لِلنَّبِيِّ قرينة قرآنية أخرى على أن رسول الله ﷺ قد يجتهد في أمر يكون غيره الأولى في غيب الله تعالى فينزل قرآن بالعتاب أو التنبيه أو النهي مع بيان ما هو الأولى. وهذا لا يتناقض مع العصمة الواجب الإيمان بها فيه
(١) التاج ج ١ ص ٣٧.
545
لأن هذه العصمة هي في صدد تبليغ جميع ما أوحاه الله إليه وعدم مخالفته وعدم اقتراف أي إثم ومعصية على ما شرحناه في المناسبات السابقة.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٦]
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
. عبارة الآية واضحة وقد أفردناها لأن من المحتمل أن تكون معقبة على الآيات السابقة فيكون معناها إيجاب عدم تعلّق المسلمين بذوي قرباهم المشركين واستغفارهم لهم نتيجة لهذا التعلّق لأنهم ليس لأحد منهم نصير ولا ولي غير الله.
ومن المحتمل أن تكون مقدمة وتمهيدا للآيات التالية لها التي قررت إعلان توبة الله على النبي والمسلمين فيكون معناها أن الله وحده هو ناصرهم ووليهم. وعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه وحده. وفيها على كل حال توكيد لما تكرر كثيرا في القرآن من إيذان الناس عامة والمؤمنين خاصة أن السموات والأرض تلك لله وحده وأنه ليس لأحد من دونه ولي ولا نصير فهو وحده المرتجى. وبه وحده يتحقق النصر ولا يصح لأحد أن يتعلق بغيره.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٧ الى ١١٨]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
. (١) وظنوا: الراجح أن الكلمة هنا بمعنى تيقنوا لأن الظن من الأضداد أحيانا، تعني الشك وتعني اليقين. وفي القرآن أمثلة من هذا الباب مثل ما جاء في آية سورة يوسف [١٠٩] وآية سورة الكهف [٥٤].
546
في الآيتين:
١- تطمين رباني بتوبة الله تعالى ورضائه عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ظرف عسير شاق حتى كاد يزيغ بعضهم فيه ويتورطون في موقف لا يرضاه الله. فثبتهم وتاب عليهم لأنه رؤوف رحيم بهم.
٢- وتطمين رباني آخر بشمول توبة الله تعالى ورحمته أيضا للثلاثة المتخلفين عن رسول الله الذين استشعروا بخطئهم استشعارا جعل الأرض تضيق بهم على رحبها بل وجعل أنفسهم تضيق عليهم فلجأوا إلى الله ليعفو عنهم لأنهم تيقنوا أن لا ملجأ لهم ولا مفرّ منه إلا إليه فتاب عليهم. وهو التواب الرحيم.
تعليق على الآية لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ والآية التالية لها. وما روي في صددهما من روايات وما انطوى فيهما من صور وتلقين
الآيتان تبدوان فصلا جديدا مع اتصالهما بموضوع غزوة تبوك. وفحواهما يلهم أنهما نزلتا بعد عودة النبي ﷺ والمسلمين من تبوك وهو ما تفيده الروايات المروية في صددهما. والمتبادر أنهما نزلتا بعد الفصل السابق الذي رجحنا أنه نزل بعد العودة من تبوك فوضعتا بعده.
ولم يرو المفسرون حادثا معينا في صدد نزول الآية الأولى وإنما رووا وصفا لظروف غزوة تبوك وما كان فيها من شدة كادت قلوب فريق من أصحاب رسول الله ﷺ تزيغ منها على حدّ التعبير القرآني. والمتبادر أن توبة الله المعلنة في هذه الآية هي متصلة بذلك «١». ووصف القرآن لها بيوم العسرة مؤيد لذلك حيث كانت عسرة من شدة الحرّ وعسرة من قلة الظهر والزاد والماء حتى كان الثلاثة والأربعة
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي. [.....]
547
بل والعشرة منهم يتناوبون على بعير واحد. وحتى وصل العطش بهم أحيانا إلى نحر الإبل واعتصار كروشها. وحتى وصلت قلة الطعام مع بعضهم إلى الاكتفاء أحيانا بالتمرات القليلة في اليوم بل إلى المناوبة في لوك التمرة الواحدة. وقد برّح ببعضهم التعب حتى كان بعضهم يتخلف عن الركب فيخبرون النبي ﷺ به فيقول دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه. وكان من المتخلفين ثم اللاحقين أبو ذرّ رضي الله عنه. وتخلّف من المخلصين بضعة نفر أحدهم أبو خيثمة الأنصاري الذي ندم بعد رحيل الجيش والتحق به في خبر شائق يرويه ابن هشام حيث قال «١» إنه جاء أهله في يوم حار فوجد زوجتيه في عريشين لهما في حائطه- بستانه- كل منهما قد رشت عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال:
رسول الله ﷺ في الضح- في الشمس- والريح والحرّ وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم. ما هذا بالنصف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله ﷺ فهيئا لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل تبوك. ولقي في طريقه واحدا مثله خرج للالتحاق برسول الله وهو عمير بن وهب الجمحي فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير: إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله قبلك ففعل حتى إذا دنا من رسول الله قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله ﷺ «كن أبا خيثمة» فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلّم على رسول الله وأخبره فدعا له بخير. وقد أورد ابن هشام أبياتا منسوبة إليه جاء فيها:
لما رأيت الناس في الدين نافقوا أتيت التي كانت أعفّ وأكرما
وبايعت باليمنى يدي لمحمّد فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة صفايا كراما بسرها قد تحمّما
(١) انظر ابن هشام ج ٤ ص ١٧٤- ١٨٦.
548
وكنت إذا شكّ المنافق أسمحت إلى الدين نفسي شطره حيث يمّما
ومما يلفت النظر اختصاص المهاجرين والأنصار بالذكر في الآية الأولى في حين أن الروايات تذكر أن من القبائل البدوية من اشترك في الحملة إلى جانبهم.
ومما يؤيده ذكر حادث اعتذار بعض الأعراب ذوي القدرة والثروة في الآية [٩٠] وبعدها.
ويتبادر لنا أن هذا هو بسبب كون هذه الطبقة هي التي كانت العمود الحقيقي القوي الذي قامت عليه الدعوة والمجتمع الإسلامي في عهد النبي وعقب وفاته.
والتي كانت تسارع إلى تأييد رسول الله والاستجابة إليه قلبا وقالبا في كل ظرف وبخاصة في الملمات فيقتدي بها سائر الناس. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اختصتهم بالذكر استعظاما لما حكته الآية عن بعضهم كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لأنه لم يكن يصحّ أن يصدر مثل هذا من أي فرد من هذه الطبقة. أما ذكر رسول الله ﷺ معهم وشموله بالتوبة فقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس وغيره أن ذلك إما بسبب موقف التساهل الذي وقفه من المستأذنين بالتخلف والإذن لهم مما حكته بعض الآيات وإما بقصد تشريف المهاجرين والأنصار وتطمينهم. وكلا القولين وجيه وإن كنا نرجح الثاني. لأن موضوع الإذن قد ذكر في آية بأسلوب تحببي عتابي مع ذكر عفو الله عنه وهي الآية [٤٣] فلم يبق محل لتوبة أخرى والله أعلم.
أما الآية الثانية فهي في حق ثلاثة من المخلصين تكاسلوا وتخلفوا في المدينة بدون عذر، وقد روى المفسرون خبرهم، وقد روى خبرهم الشيخان والترمذي في سياق تفسير الآية في حديث طويل عن كعب بن مالك أحد الثلاثة رأينا إيراده لما فيه من فوائد وصور رائعة عن أخلاق أصحاب رسول الله «١». قال: «لم أتخلّف عن النبي ﷺ في غزوة غزاها قط إلّا في غزوة تبوك. غير أني قد تخلّفت في غزوة بدر ولم يعاتب النبيّ ﷺ أحدا تخلّف عنه إنما خرج النبيّ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم
(١) التاج ج ٤ ص ١٢٢- ١٢٨.
549
ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها النبيّ في حرّ شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عددا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ. فقلّ رجل يريد أن يتغيب يظنّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. وكانت تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر. فتجّهز النبي ﷺ والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمرّ بالناس الجدّ فأصبح النبي ﷺ غاديا والمسلمون معه. ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم ويا ليتني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي ﷺ يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلّا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني النبي ﷺ حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا. فسكت النبي ﷺ فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيّضا يزول به السراب فقال ﷺ كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فلما بلغني أنّ النبي ﷺ قد توجّه قافلا من تبوك حضرني بثّي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي. فلمّا قيل لي إن رسول الله ﷺ قد أظلّ قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه وصبّح رسول الله قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاء المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له
550
وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلّمت تبسّم تبسّم المغضب ثم قال تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلّفك. ألم تكن قد ابتعت ظهرك قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا. ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ. ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذر والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك قال رسول الله أمّا هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى النبيّ بما اعتذر به إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله ﷺ لك قال: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى النبيّ ﷺ فأكذّب نفسي ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد. قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك، قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي في الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحد وآتي رسول الله ﷺ فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفتّ نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ فسلمت عليه فو الله ما ردّ علي فقلت له يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحبّ الله ورسوله فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال
551
الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وعدت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيّ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلّ على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع لي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرتها بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول الله ﷺ فقال إن النبيّ يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها فلا تقربنّها. وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية- أحد الثلاثة- رسول الله ﷺ فقالت يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه. قال لا ولكن لا يقربنّك. فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، فقلت لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ما يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجل شابّ. قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منّا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج فآذن رسول الله ﷺ الناس بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبيّ مبشرون وركض رجل إليّ فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني فنزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمّم رسول الله ﷺ يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم
552
جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره فكنت لا أنساها له. فلما سلمت على النبي ﷺ وهو يبرق وجهه من السرور قال: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك. فقلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال لا بل من عند الله. وكان النبيّ ﷺ إذا سرّ استنار وجهه كأنّ وجهه قطعة قمر وكنّا نعرف ذلك. فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال أمسك بعض مالك فهو خير لك. فقلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا
صدقا ما بقيت. قال فو الله ما علمت أن أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك للنبي ﷺ إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به. والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال فأنزل الله عزّ وجلّ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩). قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ﷺ ألّا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. فإنّ الله أنزل الوحي فيهم بشرّ ما قال لأحد قال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦). وفي رواية البخاري خاصة زيادة وهي «فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليّ الأمر وما من شيء أهمّ إليّ من أن أموت فلا يصلّي عليّ النبي أو يموت النبيّ فأكون من الناس بتلك
553
المنزلة فلا يكلّمني أحد منهم ولا يصلّي عليّ. فأنزل الله توبتنا على نبيّه حين بقي الثلث الآخر من الليل وهو عند أم سلمة وكانت محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله يا أمّ سلمة تيب على كعب قالت أفلا أرسل إليه فأبشّره. قال إذا يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليلة حتى إذا صلّى النبي ﷺ صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا. وكان إذا استبشر استنار وجهه كأنه قطعة من القمر».
والآية الثانية تلهم بقوة أن الذين تخلّفوا بغير عذر صحيح من المخلصين هم ثلاثة فقط. ويدلّ هذا على أن جميع القادرين من هؤلاء قد اشتركوا في الحملة.
وقد اشترك فيها نساء أيضا على ما ذكرته الروايات كما اشترك فيها المخلصون من القبائل البدوية. وعدد المتخلفين من المنافقين في المدينة كان نحو ثمانين شخصا على ما جاء في الحديث الطويل الصحيح الذي أوردناه آنفا المروي عن كعب بن مالك. وأسلوب الآيات [٩٠- ٩٢] التي تندد بالمعتذرين من الأعراب يدل على أن عددهم كان قليلا أيضا. وفي كل هذا دلائل على ما كان من خطورة الحملة ومن صحة العدد العظيم الذي روى اجتماعه فيها. ولا سيما إذا لحظنا أن المدينة بعد فتح مكة أخذت تكتظّ بالوافدين إليها من كل صوب.
والصورة التي رسمتها الآية الثانية عن المتخلفين الثلاثة قوية البروز تدلّ على ما كان من شدة أثر الموقف المتجهم الذي وقفه النبي ﷺ والمسلمون منهم في نفوسهم. وهو ما زاده الحديث المروي عن كعب بيانا وقوة. وحكمة ذلك واضحة. فالتقصير في الواجب ولا سيما إذا كان من المخلص خطير شديد الأثر من حيث احتمال تذرع غير المخلص به واحتمال عدواه للمخلص في الوقت نفسه. وفي هذا تلقين مستمر المدى فيما يجب على المسلمين أن يقفوه من موقف الحزم والشدة مع الذين يشذون عن المجموع ويقصرون في واجباتهم. وبخاصة في واجب الجهاد والنضال حتى ولو لم يكونوا متهمين في إيمانهم وإخلاصهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
554
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) وما فيها من تلقين
عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وقد روى المفسرون عن أهل التأويل مثل نافع والضحاك وسعيد بن جبير أن المقصود بالصادقين في الآية هم الذين صدقوا في الاعتراف بذنبهم ولم يعتذروا بأعذار كاذبة ممن تخلفوا عن غزوة تبوك. كما رووا أنهم محمد وأصحابه الخلّص أو أبو بكر وعمر وأمثالهما. ونرى القول الثاني هو الأوجه وهو مستلهم من فحوى الآية.
فالخطاب فيها موجّه للمؤمنين على سبيل حثّهم على مراقبة الله وتقواه وعلى أن يكونوا مع السابقين الأولين من أصحاب رسول الله الذين كانوا صادقين في القول والعمل والجهاد والطاعة لله ورسوله. وهذا يسوغ القول إن الآية جاءت معقبة على الآيتين السابقتين اللتين أشير فيهما إلى ما كان من تخلّف بعض المخلصين وإلى ما كاد أن يقع فيه بعض الأنصار والمهاجرين من زيغان القلب بسبب عسرة ظروف غزوة تبوك لتهيب في هذه المناسبة بجمهور المؤمنين بتقوى الله والاقتداء بأصحاب رسول الله السابقين الصادقين ويسلكوا مسلكهم. وتسوغ القول أيضا بأن هذه الطبقة من أصحاب رسول الله لم يكونوا من المعنيين بجملة مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ في الآية [١١٧].
وإطلاق الخطاب في الآية يجعلها مستمرة التلقين بوجوب اتخاذ المخلصين في الإيمان والجهاد والإقدام والتضحية والصدق في القول والعمل قدوة وأسوة وإماما في كل ظرف ومكان.
ولقد روى الطبري والبغوي أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأها (كونوا من الصّادقين) ويقول: «إن الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه له، اقرأوا، إن شئتم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا
555
من الصادقين) ومع ما في هذا من وجاهة وتلقين فإن الجمهور على أن المعني بالصادقين هم أصحاب رسول الله السابقون.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
. عبارة الآيتين واضحة وفيهما:
١- تنبيه إلى أنه ما كان يصحّ ولا ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله حينما يخرج إلى الجهاد. ولا أن يفضلوا أنفسهم عن نفسه ويضنوا بها عن التعرض لما يمكن أن يتعرض له من الأخطار والمشاق.
٢- وتنبيه آخر فيه بشرى بما للذين يشتركون في حملات الجهاد في سبيل الله من عظيم الأجر والمنزلة مهما كان نصيبهم فيها: فإنهم لا يصيبهم في هذا السبيل ظمأ ولا نصب ولا جوع ولا يقفون موقفا يغيظ الكفار ولو لم يقع الحرب بينهم. ولا ينالون من أعدائهم نيلا ما ولا ينالهم من عدوّهم نيل ما. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة. ولا يقطعون واديا أو يسيرون مسيرة إلّا كتب الله لهم به عملا صالحا وجازاهم عليه بما هو أحسن منه. ولا يضيع عند الله أجر المحسنين قط.
556
تعليق على الآية ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.. والآية التالية لها وما فيهما من تلقين
لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين كذلك. والمتبادر أنهما معقبتان أيضا على الآيات السابقة وعلى سبيل الحثّ والتنبيه والتحذير بمناسبة ما ورد في الآيات السابقة من خبر تخلّف المتخلّفين واعتذار المعتذرين من أهل المدينة والأعراب. وهما والحالة هذه متصلتان بالسياق. والراجح أنهما نزلتا بعد الآيات السابقة لهما فوضعتا مكانهما للتناسب الزمني والموضوعي.
وقد قلنا في شرح الفقرة الأولى من الآية الأولى: ما كان ينبغي لأحد من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب أنها في معنى أنه ما كان يصحّ ولا ينبغي لأحد ما أن يتخلّف عن رسول الله حين يدعو إلى الجهاد أو أن يفضل لنفسه العافية دونه، لأن روح الفقرة قصدت ذلك كما يتبادر منها ولأن الوقائع اليقينية ذكرت أن الجمهور الأعظم من أهل المدينة وكثيرا من أعرابها لم يتخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختصاص أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بالذكر قد يكون هدف إلى التنبيه على أن واجب هؤلاء في عدم التخلف هو ألزم وأشدّ لأن النبي ﷺ بين ظهرانيهم ولأنه إذا كان للبعيدين ما يمكن أن يكون عذر ما يسبب بعدهم وغيابهم وظروفهم فهذا ليس واردا بالنسبة للقريبين إلى النبي ﷺ المتصلين به مباشرة.
ولا سيما أن الدعوة تصل إليهم بيسر. ويفرض أن يكونوا ملمّين بالظروف والبواعث.
والنبي عمود الدعوة والقريبون إليه هم أولى الناس بالالتفاف حوله. وهذا الاختصاص بهذا البيان لا يعني كما هو المتبادر تخفيف واجب المسلمين البعيدين.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية فإنها، فيما عدا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، محكمة الأمر عامة التوجيه مستمرة التلقين فيما هو المتبادر. فجمهور المسلمين مدعو إلى التضامن مع أولياء أمره ودعاته المخلصين في الجهاد في سبيل الله في كلّ مناسبة ملزمة. وواجب القريبين لمجالات الجهاد وظروفه وأسبابه واجب ألزم لا يصح فيه
557
تكاسل ولا تثاقل. وكل ما يقوم به المسلمون في سبيل هذا الواجب مهما كان شأنه بدنيا أو ماليا أو استعدادا أو مرابطة هو داخل في مشمول هذا الواجب ومستحق لأجر الله الموعود.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
. (١) فلولا: هنا في معنى الحضّ أو الاستدراك.
(٢) طائفة: هنا بمعنى جماعة قليلة من جماعة أكثر.
في الآية:
تقرير تنبيهي بأنه ليس من الضروري أن ينفر جميع المؤمنين إلى الجهاد وأنه يكفي أن ينفر من كل فريق منهم قسم. وأن من شأن ذلك أن يتيح لبعضهم التفقّه في الدين وإنذار قومهم حينما يعودون إليهم حتى يحذروا مما يجب الحذر منه.
تعليق على الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً وما ينطوي فيها من صور وتلقين
ولقد تعددت الروايات التي يرويها الطبري وغيره «١» في سبب نزول هذه الآية. منها أنه لما نزلت الآيات السابقة في التنديد بالمتخلّفين قال الناس هلك المتخلّفون بعد الآن فصاروا إذا دعا النبي إلى الجهاد يسارعون إلى النفرة بقضّهم وقضيضهم ولو لم يكن النبي ﷺ من الخارجين إلى الغزوة ولو لم تكن الحاجة ماسة. ومنها أن من قبائل البدو التي أسلمت من أخذ ينتقل إلى المدينة بقضّه وقضيضه ويقيم فيها أو حولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له وحجة
(١) انظر البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي أيضا.
558
مصاحبة النبي ﷺ والاستماع منه والتفقّه بالدين. وكان هذا مما يضيق على أهل المدينة. ومنها أن فريقا من أصحاب النبي ﷺ خرجوا إلى البادية وأصابوا خيرا فأقاموا ثم أخذوا يدعون الناس إلى الإسلام فقيل عنهم إنهم تركوا صاحبهم فوجدوا في أنفسهم وعادوا جميعا فنزلت فيهم بعذرهم وإيذانهم بكفاية وجود جماعة من كل فريق منهم عند النبي ليتعلموا منه ويعلّموا قومهم إذا رجعوا إليهم.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة.
والرواية الثالثة لا تتسق مع مفهوم الآية ولا مع روحها وسياقها كما هو المتبادر من حيث إن الآية في صدد جميع المؤمنين أو غالبيتهم العظمى على الأقل. والرواية الثانية ليست بعيدة الاحتمال. فإن المدينة بعد فتح مكة أخذت تعجّ بوفود قبائل العرب. وتدخل في دين الله أفواجا. فلا يبعد أن يكون منهم من حاول الإقامة في المدينة وحولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له ومصاحبة الرسول ﷺ والتفقّه بالدين فسبّب هذا ضيقا على أهل المدينة.
وقد صوب الطبري الرواية الأولى. وقد يكون التصويب في محلّه مع شيء من التعديل تقتضيه الوقائع المعروفة. فلم يرو أن النبي ﷺ غزا بنفسه غزوة ما بعد تبوك. كما أنه لم يرو خبر سرايا عديدة سيّرها إلا ما كان من خبر سرية سيّرها إلى اليمن بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإعداد جيش إلى البلقاء بقيادة أسامة بن زيد. ويتبادر لنا أن المسلمين خارج المدينة قد فزعوا وتحسبوا من عواقب الآيات السابقة فصاروا يقبلون على المدينة للاشتراك في الجهاد ومصاحبة النبي ﷺ والاستماع له والتفقه بالدين. وكان في ذلك حرج عليهم وعلى أهل المدينة معا فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية على سبيل التخفيف والتطمين والتعليم. وعلى كل حال فالآية متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا مع رجحان نزولها لحدتها بعدها من حيث إنها مترتبة عليها. والله أعلم.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره في المقصود بالجملة الثانية من الآية. منها أنهم الذين ينفرون إلى الجهاد حيث يعاينون نصر الله لأهل
559
دينه فيكون ذلك لهم فقه في الدين ويرون مكائد الأعداء فيكون ذلك موضوع إنذار وتحذير لقومهم حين رجوعهم إليهم. ومنها أنهم الذين يبقون حول رسول الله حيث يتفقهون بما يسمعون منه من قرآن وحكم وينذرون بذلك قوم الذين نفروا إلى الجهاد حين رجوعهم.
ويتبادر لنا على ضوء الشرح المعدل الذي نقدم والذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن الجملة عائدة للطوائف التي أذن لها أن تنفر من كل فرقة وتفد إلى المدينة لتكون مع رسول الله مقيما أو مجاهدا فتتفقه بما تسمعه من قرآن وحكم وتنذر قومها بما تعلمته حين تعود إليهم والله أعلم.
والآية في حدّ ذاتها وبإطلاق عبارتها شاملة التعليم والتلقين لجميع المسلمين في مختلف ظروفهم. وفيها تعليم أسلوب من أساليب الاشتراك في الجهاد أو السعي للتفقه في الدين والوقوف على مقتضيات الأمور- حسب احتمال مضمون الآية- حيث أوجبت اشتراك جميع الفئات، دون اشتراك جميع الأفراد. ولعلّ فيها إلهاما بالمناوبة في الاشتراك بين أفراد كل فئة فلا يتعطل الجهاد والسعي للتفقه ولا تتعطل مصالح الناس معا. وقد اعتبر بعضهم الآية مستندا لوصف فرض الجهاد بأنه فرض كفاية إذا قام به فريق سقط عن الباقين «١». وقد يكون هذا في محله إذا كان قيام فريق من المسلمين كافيا للحاجة وسادّا لها. أما في حالة الضرورة فإن هذا الفرض يكون فرض عين على كل قادر. وقد كتب على المؤمنين جميعا على ما انطوى في الآية [٢١٦] من سورة البقرة. فإذا لم يقم به حينما تدعو دواعيه من الفئات ما يسدّ الحاجة أثم القاعدون.
ولقد أورد البغوي وهو إمام محدث أيضا بعض الأحاديث النبوية في سياق تفسير هذه الآية وفي صدد ما احتوته من التفقه بالدين رأينا من المفيد نقلها عنه لأن فيها تعليما وتوجيها نبويين عظيمين في هذا الصدد لكل المسلمين في كل ظرف.
منها حديث عن ابن عباس قال: «قال رسول الله ﷺ من يرد الله به خيرا يفقّهه في
(١) انظر تفسير الآية في تفسير القاسمي عزوا للسيوطي.
560
الدين» «١» وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله ﷺ تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقّهوا» وعلّق البغوي على هذا الحديث تعليقا لا يخلو من الوجاهة حيث قال: «والفقه هو معرفة أحكام الدين وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية. ففرض العين مثل علم الطهارة والصلاة والصوم فعلى كلّ مكلّف معرفته. وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على واحد يجب عليه معرفتها ومعرفة علمها مثل الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه. وأما فرض الكفاية فهو أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا فإذا قعد أهل بلد عن تعلّمه عصوا جميعا. وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث». ومما ساقه في صدد ذلك حديث نبوي جاء فيه «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» وحديث عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله ﷺ فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» «٢». وحديث عن ابن عباس قال: «قال رسول الله ﷺ فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد» «٣» وأردف هذا بقول للشافعي وهو «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة» «٤».
(١) هذا الحديث رواه الأربعة أيضا عن معاوية. وله تتمة وهي «وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» التاج ج ١ ص ٥٣.
(٢) روى هذا الحديث الترمذي وفي روايته هذه الزيادة ثم قال: «إنّ الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير» التاج ج ١ ص ٥٦.
(٣) روى هذا أيضا الترمذي انظر المصدر نفسه.
(٤) ومن هذا الباب حديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء جاء فيه: «سمعت رسول الله ﷺ يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله له طريقا إلى الجنّة وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إنّ العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما. إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» التاج ج ١ ص ٥٤ و ٥٥ وعن أبي هريرة رواية الترمذي: «قال النبي ﷺ الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» وفي رواية «من طلب العلم كان كفّارة لما مضى» المصدر نفسه ص ٥٥، ٥٦ وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: «قال النبي ﷺ من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» المصدر نفسه ص ٦٤ وروى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبي ﷺ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» المصدر نفسه ص ٦٦.
561

[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٣]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
. عبارة الآية واضحة. وفيها حثّ للمسلمين على قتال الأقرب إليهم من الكفار والإغلاظ والشدة في معاملتهم وقتالهم. مع التطمين بأن الله مع الذين يتقونه ويلتزمون حدوده.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ... وما روي فيها من أقوال وما تضمنته من تلقين وتعليم
ولقد قال الطبري في صدد هذه الآية إن الله أمر المسلمين بقتال من وليهم من الكفار دون من بعد منهم. وكان الذين يلون المخاطبين في الآية يومئذ الروم لأنهم كانوا سكان الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق. أما بعد الفتوح فالمسلمون مأمورون أن يقاتل أهل كل ناحية من وليهم من الأعداء دون الأبعد ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم.
ولهذا تأول كل من تأول هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء. وروى بعد هذا عن ابن عمر أنه أجاب على سؤال عن قتال الديلم فقال عليك بالروم. وروي عن الحسن أنه أجاب على سؤال عن قتال الروم والديلم فقال الديلم «١». وروى عن ابن زيد في تأويل الآية قوله: «إن النبي ﷺ قاتل كفار العرب حتى فرغ منهم فلما فرغ أمر بقتال أهل الكتاب». وقال الخازن عزوا إلى
(١) الراجح أن المقصود هم أهل بلاد فارس.
562
بعض العلماء- بدون تسمية- إن الآية نزلت قبل نزول وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً فلما نزلت هذه صارت ناسخة للآية قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ومضى الخازن قائلا: «إنّ المحققين من العلماء لا يرون وجها للنسخ لأن الله لما أمر المسلمين بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصوب والأصلح وهو أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد.
وبهذا يحصل الغرض من قتال المشركين كافّة. لأن قتالهم دفعة واحدة لا يتصور.
ولذلك قاتل رسول الله أولا قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال أهل الكتاب الأقربين قريظة والنضير وخيبر وفدك. ثم انتقل إلى غزو الروم في الشام، ثم كان فتح الشام في زمن الصحابة. ثم انتقلوا إلى العراق، ثم إلى سائر الأمصار»
.
وليس في كتب التفسير الأخرى التي بين أيدينا زيادة هامة يحسن نقلها.
ويلوح لنا أن معظم هذه الأقوال اجتهادي من جهة ومتأثر بالوقائع التي وقعت في عهد النبي ﷺ وبعده من جهة أخرى فضلا عن ما فيها من ثغرات. لأن النبي ﷺ قاتل بني قريظة وبني النضير ومن قبلهم بني قينقاع ومن بعدهم خيبر وما حولها قبل أن يفرغ من قتال قومه فضلا عن فراغه من قتال سائر كفار العرب. وسار بنفسه إلى دومة الجندل وأرسل سرايا عديدة إلى مشارف الشام لقتال نصارى العرب في السنين الخامسة والسادسة والسابعة ثم سيّر جيشا بقيادة زيد بن حارثة لقتال الروم في أقصى بلاد الشام في السنة الثامنة قبل أن يفرغ من هذا وذاك على ما شرحناه في سياق تفسير الآية [٢٩] من هذه السورة.
وواضح من هذا أن المؤولين والمفسرين تلقوا الآية مستقلة وأداروا الكلام على مداها بصورة عامة متأثرين ببعض الوقائع. ولم يلتفتوا أو يلمحوا ما بينها وبين مدى سابقتها من صلة. مع أن الصلة بينهما وثيقة فيما نرى. وبها يمكن تأويلها تأويلا متسقا مع السياق والواقع الذي نزلت الآية في ظروفه. فالمسلمون خارج المدينة أخذوا يتوافدون إليها بقصد الجهاد مع رسول الله ومصاحبته. فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية السابقة لتنبيههم إلى أنه لا حاجة إلى قدومهم جميعهم
563
ويكفي أن يأتي من كل فرقة منهم طائفة ثم اقتضت هذه الحكمة الإيحاء بالآية التي نحن في صددها لتؤذن المسلمين من غير أهل المدينة بأن مما يكفيهم ويجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الأعداء الكفار دون حاجة إلى مجيئهم جميعا إلى المدينة.
ومع أن معظم جزيرة العرب قد أرسلت وفودها بعد غزوة تبوك وقبيلها إلى المدينة وبايعت النبي على الإسلام على ما جاء في كتب السيرة القديمة «١» فإنه بقي شراذم متفرقة مناوئة. مثل بني حنيفة بقيادة زعيمهم مسيلمة في اليمامة الذي ادعى النبوة في آخر عهد النبي ﷺ ومثل بني أسد بقيادة زعيمهم طلحة في نجد وجماعة الأسود العنسي في اليمن اللذين ادعيا النبوة كذلك في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت حالة الحرب قائمة في الوقت نفسه بين المسلمين ونصارى الشام والروم والغساسنة أصحاب السلطان والحكم فيها. ومن المحتمل أن يكون قد وفد على المدينة جماعات من هذه الأنحاء فنزلت الآية للإيعاز لهم بما هو الأولى والألزم والله تعالى أعلم.
وظروف نزول الآية وهدفها من جهة والمبادئ القرآنية الجهادية المحكمة من جهة أخرى تسوغ القول إن الكفار المقصودين في الآية هم الكفار الأعداء فحسب وليس كل الكفار إطلاقا وبدءا ولو لم يكونوا أعداء محاربين ومعتدين على الإسلام والمسلمين. وهذا متسق مع قول الطبري: «أنّ كلّ من تأوّل هذه الآية يرى أن معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء». والفرق واضح بين الكفار إطلاقا وبين الأعداء منهم.
والآية في حدّ ذاتها مطلقة العبارة والتوجيه وعليها طابع التعليم والتشريع للمسلمين في جميع ظروفهم أيضا. ولعلّ مما تعلّمه هو السير على ما هو الأولى من قواعد الحرب وهو عدم توزيع القوى وفائدة حشدها وتوجيهها إلى الأقرب فالأقرب من الأعداء. مع التنبيه على أن ذلك يجب أن يكون متمشيا مع مقتضيات المصلحة الإسلامية التي يقررها ولي أمر المسلمين، وعلى وجاهة ما قاله الطبري
(١) انظر سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد.
564
من أن هذا يكون ما لم يضطر إليه أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام.
فإن اضطروا لزم عونهم ونصرهم، أي ولو كان ذلك في ناحية غير قريبة. والله أعلم.
وجملة وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً لا تفسر فيما يتبادر لنا بالقسوة في القتل والإبادة أو بذلك وحسب بل بمعنى إظهار العزيمة والحمية والتصميم والشدة التي ترهب الأعداء أيضا. ولعلّ الجملة التي انتهت بها الآية التي فيها الجملة ممّا يبرز هذا التنبيه. وفي تفسير البغوي ورشيد رضا والقاسمي ما يتساوق مع هذا القول.
وفيه والحالة هذه تلقين مستمر المدى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٦]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
. (١) سورة: نرجح أن معنى الكلمة في مقامها هو اللغوي الذي هو «جملة من آيات القرآن» وليس «السورة» التي صارت تطلق على سور القرآن الكاملة من بدء إلى نهاية.
في هذه الآيات:
١- إشارة إلى موقف من مواقف المنافقين. حيث كان بعضهم إذا ما أوحى الله تعالى لنبيه ﷺ بسورة قرآنية سألوا سؤال المستهزئ الجاحد عن من استفاد منها زيادة إيمان وهدى وعلم.
٢- وردّ منطو على التنديد والإنذار للمنافقين والتنويه بالمخلصين: فالذين أخلصوا في إيمانهم يزيدهم ما ينزل من القرآن يقينا واستبشارا لأنهم يرون فيه تعليما وإرشادا وهدى. وأما المنافقون ذوو القلوب المريضة فيزدادون رجسا إلى
565
رجسهم بما يزدادون من شكّ وتصميم على عدم الإخلاص والتصديق حتى يموتوا كفارا جاحدين.
٣- وتساؤل على سبيل التنديد من جهة والتدليل على ازديادهم رجسا إلى رجس من جهة أخرى عما إذا كانوا لا يرون أنهم يختبرون ويبتلون في كل عام مرة أو مرتين فتظهر أمارات نفاقهم وجحودهم بالمواقف التي يقفونها والأقوال التي يقولونها ويفتضح أمرهم ويتعرضون نتيجة لذلك للتقريع والخزي ثم هم لا يرعوون ولا يتوبون عن مواقفهم ولا يتذكرون ما وقع لهم فيعودون إلى الارتكاس فيها والتعرض للفضيحة والخزي والتقريع مرة بعد أخرى.
تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً.. والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
الآيات فصل جديد ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. وعبارتها مطلقة تلهم أن المقصودين بالتنديد هم المنافقون وأن الموقف الذي يندد بهم من أجله هو موقف متكرر دائم منهم عند نزول السور والجمل القرآنية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت مكانها للتناسب الظرفي. ولعل بعض المنافقين تساءلوا تساءلهم المستهزئ الجاحد عقب نزول بعض الآيات السابقة فنزلت الآيات تفضحهم وتندد بهم وتنذرهم. ولا يبعدأن تكون الآية [١٢٢] التي احتوت تخفيفا بعد التشديد الذي سبقها كانت موضوع التساؤل. وورود الآيات عقبها قد يكون قرينة على ذلك. وإذا صحّ هذا فتكون للآيات صلة موضوعية بما سبقها أيضا. وعلى كل حال فالشدة التي جاءت في الآيات تلهم أن الموقف الذي وقفه المنافقون كان شديد الخبث والأثر.
والآيات من حيث هي تحتوي تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان والتهذيب الديني. فعلى المؤمن المخلص أن يتلقى كل ما أتى ويأتي من الله تعالى ورسوله ﷺ باستبشار وتصديق واعتقاد بأن فيه حكمة وهدى حتى ولو قصر ذهنه
566
عن إدراك ما فيه من حكمة أو غلق فهمه عن استكناه مداه وأن لا يرتاب فيما لا يدركه ويفهمه فيزداد بذلك يقينا وتسليما لله ورسوله. وكل شك أو تردد في ذلك متناقض مع صدق الإيمان بالله ورسوله. وهو ما لا يصدر إلّا من كافر أو منافق.
والآيات والحالة هذه مستمرة الحكم والتلقين لكل مسلم في كل ظرف بالنسبة لما احتواه كتاب الله عزّ وجلّ ولما ثبت عن النبي ﷺ من سنّة قولية وفعلية.
ولقد تعددت تأويلات أهل التأويل التي أوردها الطبري عن ماهية افتتان المنافقين في السنة مرة أو مرتين. فمنها أن ذلك بالجوع والقحط والجدب. ومنها أن ذلك بالغزو والجهاد. ومنها أن ذلك بما يشيعه المشركون عن رسول الله من أكاذيب فيستبشرون بها ويظهر كذبها فيكون في ذلك فضيحة لهم.
ونرجو أن يكون الصواب في التأويل الذي أوردناه في شرح الآيات إن شاء الله.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
. تعليق على الآية وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ... وما فيها من صور وتلقين
في الآية صورة أخرى للمنافقين. حيث كانوا حينما يسمعون النبي ﷺ يتلو سورة قرآنية نزلت عليه من جديد ينظر بعضهم إلى بعض نظر المستهزئ ويتغامزون على الانصراف من مجلسه خلسة دون أن يراهم أحد ثم انصرفوا. وقد انتهت الآية بالدعاء عليهم. فليزد الله قلوبهم عمى وضلالا. فهم قوم لا يفقهون مدى الجمل القرآنية وما فيها من هدى وحكمة.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول هذه الآية أيضا. والمتبادر أنها استمرار
للآيات السابقة في حكاية مواقف المنافقين حين نزول السور القرآنية. وهي متصلة بها سياقا وموضوعا وربما مناسبة أيضا.
والصورة التي تحتويها الآية خبيثة كالأولى. وفيها وفي سابقتها دليل على عمق شك هذا الفريق وجحوده ونفاقه. ولما كان احتمال نزول هذه الآيات بعد غزوة تبوك قويّا وهو ما قد يلهمه ترتيبها واحتمال صدور الصور التي انطوت فيها قويّا كذلك بعد هذه الغزوة ففيها دلالة على أن هذه الفئة الفاسقة ظلت مستمرة في نفاقها وخبثها ومواقفها الجحودية والتشكيكية والتشويشية والاستهزائية إلى أواخر حياة النبي ﷺ وإن كانت أخذت تبالغ في الحذر والرياء والتظاهر في المسايرة والملاينة والتوكيد بإخلاصها بسبب ما صار إليه موقف النبي ﷺ والمسلمين من القوة والإسلام من الانتشار والتوطد.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
. (١) عزيز عليه: يصعب ويشق على نفسه.
(٢) ما عنتّم: ما شق عليكم وسبّب لكم العنت. أو ضلالكم على رأي بعض المفسرين.
وجّه الخطاب في الآية الأولى إلى السامعين والعرب عامة بأن الرسول الذي جاءهم هو منهم يشقّ عليه ضلالهم وما يصيبهم من أذى وعنت ويحرص كل الحرص على خيرهم وصالحهم. وهو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين المخلصين منهم.
ووجّه الخطاب في الآية الثانية إلى النبي ﷺ على سبيل التطمين والتثبيت والاستدراك: فإذا أعرض بعض الناس عنه وعمّا يدعوهم إليه بعد ما بان لهم من شدة إشفاقه عليهم وحرصه على صالحهم وخيرهم وهدايتهم فليهتف بأن حسبي الله الذي لا إله إلا هو فهو كافيني وكاف عني وإني متوكل عليه وحده. فهو ربّ
568
العرش العظيم والملك المتصرف في الأكوان مطلق التصرف.
ومع اختلاف التوجيه في الخطاب فالآيتان وحدة تامة كما هو المتبادر.
تعليق على الآية لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.. والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين وما روي في صددهما من روايات، وتمحيص رواية مكيّتهما ومدنيّتهما ومسألة كونهما آخر القرآن نزولا
لقد كثرت الروايات والأقوال في صدد هاتين الآيتين ومداهما. فالمصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أنهما مكيّتان. ولم نر في كتب التفسير تأييدا لهذه الرواية إلا في تفسير المنار عزوا إلى ابن أبي الفرس. وهذا ورد أيضا في كتب الإتقان عزوا إلى ابن الغرس «١».
ولعل أحد الاسمين مصحّف عن الثاني. ولا يذكر رشيد رضا ولا مؤلف الإتقان قبله صفة كلام ابن أبي الفرس وسنده إن كان لغيره. وقد رجح رشيد رضا مكيّة الآيتين معللا ذلك بأن معناهما لا يظهر إلا في دعوة النبي ﷺ إلى الإسلام في مكة في أول البعثة. ومعنى كلام ابن أبي الفرس وترجيح رشيد رضا أن الآيتين وضعتا في آخر سورة براءة دون أن تكونا منها.
وهناك حديث يرويه المفسّرون في صدد وضع الآيتين في موضعهما عن عبد الله بن الزبير قال «٢» أتى الحارث بن خزيمة الأنصاري بهاتين الآيتين إلى عمر بن الخطاب فقال: «من معك على هذا «٣» قال لا أدري والله إني لأشهد أني سمعتهما من رسول الله ووعيتهما وحفظتهما فقال عمر إني لأشهد أني سمعتهما من
(١) الإتقان ج ١ ص ١٦.
(٢) النص من تفسير ابن كثير.
(٣) كان عمر الذي كان يشرف على جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنهما لا يقبل من أحد ما يأتي به من قرآن إلّا إذا كان معه شاهدان على ما ذكرته الروايات.
569
رسول الله. ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدتها. فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعوها في آخر براءة». وهذا الحديث ليس من الصحاح. ولا يفيد أن الآيتين مكيّتان أم مدنيتان. ويفيد أنهما كانتا منفردتين لم يكن معروفا وقت نزولهما ولا السياق والسورة التي كانتا فيها.
مقابل هذا هناك حديث عن أبي بن كعب أحد علماء وقرّاء القرآن من أصحاب رسول الله يرويه المفسّرون من طرق عديدة وبصيغ متقاربة. جاء في إحداها التي رواها عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير تفيد أن الآيتين مدنيّتان وآخر ما نزل من القرآن بل وقد تفيد بقوة أنهما كانتا في آخر سورة براءة وتقرءان بعد الآية التي قبلها وهذا نصها «١» :«إنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون وأبي يملي عليهم فلما انتهوا إلى الآية ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم إن رسول الله ﷺ أقرأني بعدها آيتين- هما الآيتان اللتان نحن في صددهما- ثم قال هذا آخر ما نزل من القرآن»، وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. وهناك حديث رواه البخاري فيه حكاية لتكليف أبي بكر وعمر إيّاه بجمع القرآن وتتبعه حيث جاء فيه: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة براءة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره» «٢». والمهم في بحثنا هو العبارة الأخيرة التي قد تفيد أن زيدا كان يعرف أن الآيتين هما آخر سورة براءة.
وتعقيبا على ما تقدم نقول:
أولا: إنه ليس من الضروري أن لا يظهر معنى الآيتين إلّا في أوائل عهد مكة كما قال رشيد رضا. فإنه كان في العهد المدني مواقف من المنافقين والمشركين تتحمّل معناهما.
(١) النص من تفسير ابن كثير. [.....]
(٢) التاج ج ٤ ص ٢٨ و ٢٩.
570
وثانيا: إننا نلمح بكل قوة أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق لهما الذي احتوى صورا لمواقف خبيثة للمنافقين فأوحى الله بهما معقّبتين على هذه المواقف لتذكر أولاهما الناس بالصفات العظيمة التي اتصف بها الرسول الذي جاءهم.
ولتسلي ثانيتهما النبيّ حتى لا يغتمّ ولا يعبأ بمواقف المنافقين والمشركين وأن يقول إذا أصروا عليها وتولّوا (حسبي الله وعليه توكلت).
وما روي عن أبي من أن النبي أقرأه إياهما بعد الآيتين السابقتين لهما. وما روي عن زيد قوله إنهما آخر سورة براءة يدعمان ذلك. وإذا كان حديث أبي لم يرد في الصحاح فإنه يلتقي مع حديث زيد الذي رواه البخاري. وهذا يسوغ التوقف في الحديث المروي عن عبد الله بن الزبير في صدد وضعهما في آخر سورة براءة ارتجالا. وهناك دلائل قرآنية وأحاديث نبوية وصحابية كثيرة تفيد أن القرآن كان يدون أولا بأول ثم يسجل في قراطيس وتوضع آياته وفصوله التي كانت تنزل لحدة في السور بأمر رسول الله وأن سوره رتبت حسب ما هي الآن في المصحف في أواخر حياة النبي وبأمره. وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف مرتبة حسب المصحف وأن أصحاب رسول الله كانوا يحفظون ويقرأون القرآن حسب ترتيب المصحف أيضا بحيث يقال في صدد ما جاء في حديث البخاري عن زيد إنما أريد تدوين مصحف إمام بعد انقطاع الوحي بموت النبي ﷺ ليكون محفوظا عند الخليفة ومرجعا وأنه تتبع ما عند الناس في الرقاع وفي الصدور من قرآن زيادة في الحرص على ضبط هذا المصحف وقد لا يكون أحد غير أبي خيثمة كتب الآيتين في رقعة لحدتهما فكان ذلك مما عني في الحديث. والله تعالى أعلم.
ولما كنا نميل إلى اعتبار حديث أبي وصحته لاتساقه مع سياق الآيات ودعم حديث زيد الذي رواه البخاري له فإننا نميل إلى فهم قوله أن الآيتين هما آخر ما نزل من القرآن بكون سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن فيكون آخرها كذلك.
لأن هناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الصحاح نذكر آيات أخرى كآخر ما نزل من القرآن ومن ذلك آيات الربا والدين في سورة البقرة على ما ذكرناه في سياق تفسيرها. والله تعالى أعلم.
571
والآية الأولى من روائع آيات القرآن في الثناء على النبي ﷺ وتقرير ما اتصف به من كريم الصفات وعظيم الأخلاق وكبر القلب الذي امتلأ برّا وخيرا وحلما وإشفاقا ورأفة ورحمة وحرصا بالعرب والمؤمنين. ولعلّها من هذه الناحية أروع ما في القرآن وأدلّ ما فيه على عظمة خلق النبيّ ﷺ وكمال صفاته وكبر قلبه وعمق إخلاصه وشدة رغبته في هداية العرب وخيرهم وإنقاذهم. ولما كانت هذه الآية على الأرجح من آخر ما نزل من القرآن أو آخره فهي خاتمة رائعة بعيدة المدى والمغزى لكتاب الله المجيد الذي أنزله الله تعالى على رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم.
ومع أن كمال هذه الصفات الكريمة مما يمكن أن يكون مختصا بمن علم الله أنه أهل لرسالته العظمى فإن في الآية تلقينا لما يجب أن يكون عليه أولياء أمور المسلمين من صفات وأخلاق وحثا على الاقتداء بها ما داموا قد تولوا زمام هذه الأمور وقاموا مقام النبي ﷺ فيها كما أن من شأنها أن تكون مقياسا لأهلية وصلاح وإخلاص أولياء أمور المسلمين ودعاتهم وقادتهم ودليلا عليها.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الثانية حديثا عن أبي الدرداء رواه أبو داود أيضا عن النبي ﷺ قال: «من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمّه» «١». والصيغة بمثابة دعاء والتماس من الله عزّ وجلّ. وقد قال الله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. وفيها على كلّ حال بعث لطمأنينة النفس وسكونها.
ولقد وقف المفسرون عند جملة مِنْ أَنْفُسِكُمْ وأوردوا بعض الأحاديث والروايات في صدد شمول الصلات الرحمية والقبلية بين رسول الله ﷺ ومختلف قبائل العرب أو بطون قريش. وما ينطوي في ذلك من شدة الباعث على حرص النبي ﷺ على هداية قومه. ولقد كتبنا تعليقا على هذا في سياق الآية [١١٣] من سورة النحل وأوردنا طائفة مما روي من أحاديث وروايات فنكتفي بهذا التنبيه.
(١) التاج ج ٥ ص ٩٨ و ٩٩.
572
سورة النصر
فيها أمر للنبي ﷺ بالتسبيح بحمد الله واستغفاره إذا ما جاء نصر الله وفتحه ورأى الناس يدخلون في دينه.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها نزلت بعد سورة التوبة وبكلمة أخرى آخر السور المدنيّة نزولا. ومع أن روايات الترتيب الأخرى تذكر ترتيبها كسابعة السور المدنيّة نزولا أو كسادسة عشرة أو كثامنة عشرة «١» بل إن هناك رواية بأنها مكيّة «٢» فإن هناك روايات وأحاديث عديدة بطرق مختلفة تؤيد ترتيب المصحف الذي اعتمدناه. ففي فصل التفسير من صحيح البخاري في سياق هذه السورة حديث عن ابن عباس جاء فيه «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من قد علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلّا ليريهم. قال ما تقولون في قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم. فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس فقلت لا. فما تقول. قلت هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه به قال إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبّح بحمد ربك واستغفر. إنه كان توابا فقال عمر ما أعلم منها إلّا ما تقول» «٣». وقد روى الطبري في سياقها حديثا عن ابن عباس
(١) انظر جدول ترتيب نزول السور المدنيّة في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩.
(٢) انظر تفسير النيسابوري.
(٣) التاج ج ٤ ص ٢٦٧ والحديث من مرويات الترمذي وأحمد أيضا.
573
جاء فيه «لما نزلت قال رسول الله ﷺ نعيت إليّ نفسي كأني مقبوض في تلك السنة». وروى الطبري والبغوي أحاديث بطرق مختلفة عن ابن عباس بالمعنى نفسه بدون عزو إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري عن الضحاك قوله كانت هذه السورة آية لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي مثل هذا عن مجاهد وعطاء أيضا. وقد ذكر الزمخشري أنها آخر السور نزولا وأنها نزلت في حجة الوداع في منى وذكر النيسابوري- مع ذكره القول إنها مكيّة- أنها نزلت في أواسط أيام التشريق «١» في منى في حجة الوداع وأن النبي ﷺ لم يعش بعدها إلّا سبعين يوما وأن السورة تسمى لذلك سورة التوديع وأن أكثر الصحابة متفقون على أنها دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أخرجه البزار والبيهقي أنها نزلت على رسول الله ﷺ أيام التشريق فعرف أنه الوداع فأمر براحلته وخطب خطبته الشهيرة بخطبة الوداع.
ولقد روى الطبري بطرقه عن عائشة قالت: «كان رسول الله ﷺ يكثر قبل أن يموت من قوله سبحانك اللهمّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك. فقلت يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها قال قد جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة» وعن أم سلمة قالت: «كان رسول الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال سبحان الله وبحمده فقلت يا رسول الله إنك تكثر من سبحان الله وبحمده. لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت سبحان الله وبحمده قال: إني أمرت بها فقال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة» والحديثان يؤيدان إذا صحّا كون السورة نزلت بين يدي موت رسول الله ﷺ فضلا عما انطوى فيهما من صورة رائعة لعمق شعوره بواجبه نحو الله تسبيحا وحمدا واستغفارا.
وبناء على ذلك كلّه رجحنا ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وجعلنا ترتيب هذه السورة بعد سورة التوبة وآخر السور المدنيّة.
(١) أيام عيد الأضحى.
574
Icon