مكية، إلا قوله :﴿ وإن كادوا ليفتنونك. . . ﴾ [ الإسراء : ٧٣ ] الآيات الثمان. وهي : مائة وعشر آيات. وكأن وجه المناسبة لما قبله قوله :﴿ إن الله مع الذين اتقوا ﴾ [ النحل : ١٢٨ ]، إشارة إلى أن من اتقى الله، وحصّل مقام الإحسان، أسرى بروحه إلى عالم الملكوت، وأسرار الجبروت. وافتتح السورة بالتنزيه، لئلا يتوهم الجهال أنه –عليه الصلاة والسلام-عرج به للقاء الحق تعالى في جهة مخصوصة.
ﰡ
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾
قلت :﴿ سبحان ﴾ : مصدر غير متصرف، منصوب بفعل واجب الحذف، أي أسبحُ سبحان. وهو بمعنى التسبيح، أي : التنزيه، وقد يستعمل عَلَمًا له، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف، كقول الشاعر١ :
قَدْ أَقُولُ لَمَّا جَاءَني فَخْرُهُ | سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ |
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ﴾ وهو : نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي : تنزيهًا له عن الأماكن والحدود والجهات، إذ هو أقرب من كل شيء إلى كل شيء. وإنما وقع الإسراء برسوله - عليه الصلاة والسلام - ليقتبس أهلُ العالم العلوي، كما اقتبس منه أهل العالم السفلي، فأسرى به ﴿ ليلاً من المسجد الحرام ﴾ بعينه ؛ لِمَا رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال :" بَينَما أَنَا في المسْجِدِ الحَرَامِ في الحِجْر، عِنْدَ البَيْتِ، بَيْنَ النَّائِم واليقْظَانِ، إذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بالبُراقِ " ٢.
أو : من الحرم ؛ لِمَا رُوي أنه كان نائمًا في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء، فأُسْرِيَ به، وسماه مسجدًا ؛ لأن الحرم كله مسجد. قاله البيضاوي. قلت : والظاهر أنه وقع مرتين : مرة بجسده من البيت، ومرة بروحه من بيت أم هانئ. والله تعالى أعلم بما كان.
قال في المستخْرج من تفسير الغزنوني وغيره : قيل : كان رؤيا صادقة، وقيل : أسرى بروحه، وهو خلاف القرآن، وإن أسند إلى عائشة - رضي الله عنها -، والجمهور على ما رواه عامة الصحابة، دخل كلام بعضهم في بعض، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أتاني جبريل عليه السلام، وإذا دابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها مد بصرها، فمرّ بي بين السماء والأرض إلى بيت المقدس، فَنُشِرَ لي رَهْطٌ من الأنبياء، فصليت بهم. وإذا أنا بالمعراج، وهو أحسن ما رأيت، فعرج بي، فرأيت في سماء الدنيا رجلاً أعظم الناس وجهًا وهيكلاً، فقيل : هذا أبوك آدم، وفي السماء الثانية شابيْن، فقيل : هما يحيى وعيسى، وفي الثالثة رجلاً أفضل الناس حُسنًا، فقيل : أخوك يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم - صلوات الله على جميعهم - فانتهيتُ إلى سِدرة المنتهى، فَغَشِيَتْهَا ملائكةٌ، كأنهم جراد من ذهب، فرأيتُ جبريل عليه السلام يتضاءل كأنه صَعْوة - أي : عصفور - فتخلف، وقال : وما منا إلا له مقام معلوم، فجاوزت سبعين حجابًا، ثم احتملني الرفرف إلى العرش، فنُوديتُ : حَيِّ ربك. فقلت : لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " ٣.
فلما أخبر بما رأى كذَّبه أهل مكة، ولو كان في النوم ما أنكره المشركون. وقيل : كانا معراجين، بمكة والمدينة، في النوم واليقظة. ه.
قلت : وقوع المعراج بالمدينة غريب. قال المهدوي : مرْتَبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العَلِية خاصة بنبينا، لم يكن لغيره من الأنبياء. وعدَّه السيوطي من الخصائص. قال ابن جزي : وحجة الجمهور : أنه لو كان منامًا، لم تُنكره قريش، ولم يكن في ذلك ما يُكَذَّبُ، ألا ترى أن أُم هانئ قالت له - عليه الصلاة والسلام- :( لا تُخبر بذلك أحدًا ). وحجة من قال إنه كان منامًا : قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ]، وإنما يقال : الرؤيا، في المنام، ويقال، فيما يرى بالعين : رؤية، وقوله، في آخر حديث الإسراء :" فاستيقظتُ وأنا في المسجد الحرام "، ثم قال : وقد يجمع بينهما بأنه وقع مرتين. ه.
وقوله تعالى :﴿ إلى المسجد الأقصى ﴾ هو : بيت المقدس ؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، ﴿ الذي باركنا حوله ﴾ ببركات الدين والدنيا ؛ لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار. أسرينا به ؛ ﴿ لِنُريه من آياتنا ﴾ الدالة على عجائب قدرتنا، ونكشفَ له عن أسرار ذاتنا، فأَطْلعه الله على عجائب الملكوت، وأراه سَنَا الجبروت. رَوَى عكرمةُ عن ابن عباس : أنه قال : قد رأى محمدٌ ربه، قلت : أليس الله يقول :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾ [ الأنعَام : ١٠٣ ]، قال : ويحك، ذلك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين. ه. قلت : معنى كلامه : أنه إذا تجلى بنوره الأصلي، من غير واسطة، لا يمكن إدراكه، وأما إذا تجلى بواسطة المظهر فإنه يُمكن إدراكه، والحاصل : أن الحق تعالى إنما يتجلى على قدر الرائي، لا على قدره ؛ إذ لا يطيقه أحد. وسيأتي، في الإشارة، بقية الكلام عليه، إن شاء الله. ﴿ إِنه هو السميعُ البصير ﴾ أي : السميع لأقوال حبيبه في حال مناجاته، البصيرُ بأحواله، فيكرمه ويُقربه على حسب ذلك.
الإشارة : قال بعض الصوفية : إنما قال تعالى :﴿ بعبده ﴾، ولم يقل : بنبيه : ولا برسوله ؛ ليدل على أن كل من كملت عبوديته كان له نصيب من الإسراء. غير أن الإسراء بالجسد مخصوص به - عليه الصلاة والسلام -، وأما الإسراء بالروح فيقع للأولياء ؛ على قدر تصفية الروح، وغيبتها عن هذا العالم الحسي، فتعرج أفكارهم وأرواحهم إلى ما وراء العرش، وتخوض في بحار الجبروت، وأنوار الملكوت، كلٌّ على قدر تخليته وتحليته. وإنما خص الإسراء بالليل ؛ لكونه محل فراغ المناجاة والمواصلات، ولذلك رتب بعثه مقامًا محمودًا على التهجد بالليل في هذه السورة. قاله المحشي.
وقوله تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى ﴾، قال الورتجبي : أي : تنزه عن إشارة الجهات والأماكن في الفوقية، وما يتوهم الخلق ؛ من أنه إذ أوْصل عبده إلى وراء الوراء، أنه كان في مكان، أي : لا تتوهموا برفع عبده إلى ملكوت السماوات، أنه رفع إلى مكان، أو هو في مكان، فإن الأكوان والمكان أقل من خردلة في وادي قدرته، أي : في بحر عظمته ؛ ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام :
" الكون في يمين الرحمان أقل من خردلة " والعندية والفوقية منه، ونزّه نفسه عن أوهام المشبّهات، حيث توهموا أنه أسرى به إلى المكان، أي : سبحان من تنزه عن هذه التهمة. ه. وقال القشيري : أرسله الحق تعالى ؛ ليتعلم أهلُ الأرض منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماء ليتعلّمَ منه الملائكةُ - عليهم السلام - آدابَ العبادة، قال تعالى :
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى( ١٧ ) ﴾ [ النّجْم : ١٧ ]، وما التَفَتَ يمينًا ولا شمالاً، ما طمع في مقام، ولا في إكرام، تحرر عن كلِّ طلبٍ وأرَبٍ، تلك الليلة. ه.
قلت : ولذلك أكرمه الله تعالى بالرؤية، التي مُنِعَ منها نبيه موسى عليه السلام، حيث وقع منه الطلب " ربما دلهم الأدب على ترك الطلب "، وقال الورتجبي : أسرى به عن رؤية فعله وآياته، إلى رؤية صفاته، ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته، وأشهده مَشاهد جماله، فرأى الحق بالحق، وصار هنالك موصوفًا بوصف الحق، فكان صورتُه روحَه، وروحُه عقلَه، وعقلُه قلبَه، وقلبُه سره، فرأى الحق بجميع وجوده ؛ لأن وجوده فانٍ بجميعه، فصار عينًا من عيون الحق، فرأى الحق بجميع العيون، وسمع خطابه بجميع الأسماع، وعرف الحق بجميع القلوب. ه.
وقال، في قوله تعالى :﴿ إِلى المسجد الأقصى ﴾ : سبب بداية المعراج بالذهاب إلى المسجد الأقصى، لأن هناك الآية الكبرى ؛ من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم، وهناك بقربه طور سيناء، وطور زيتا، والمصيصة، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى، وفي تلك الجبال مواضع كشوف الحق، ولذلك قال :﴿ باركنا حوله ﴾، انظر تمامه.
٢ أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٦، ومناقب الأنصار باب ٤٢، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٩، ٢٦٤..
٣ روي حديث الإسراء والمعراج بطرق وأسانيد متعددة، انظر: البخاري في بدء الخلق باب ٧، وأحاديث الأنبياء باب ٢٤، ٤٨، ومسلم في الإيمان حديث ٢٦٧، ٢٧٢، والفضائل حديث ١٦٤..
﴿ وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾ * ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ﴾
قلت :﴿ ذرية ﴾ : منادى، أي : يا ذرية من حملنا مع نوح، والمراد : بني إسرائيل. وفي ندائهم بذلك : تلطف وتذكير بالنعم، وقيل : مفعول أول بتتخذوا، أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، فتكون كقوله :﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً ﴾ [ آل عِمرَان : ٨٠ ].
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وآتينا موسى الكتابَ ﴾ التوراة ﴿ وجعلناه ﴾ أي : التوراة ﴿ هُدًى لبني إِسرائيل ﴾، وقلنا :﴿ ألاّ تتخذوا من دوني وكيلاً ﴾ تُفوضون إليه أموركم، وتُطيعونه فيما يأمركم. بل فوضوا أموركم إلى الله، واقصدوا بطاعتكم وجه الله.
يا ﴿ ذريةَ مَنْ حملنا مع نوح ﴾، فاذكروا نعمة الإنجاء من الغرق، وحملَ أسلافكم في سفينة نوح، ﴿ إِنه كان عبدًا شكورًا ﴾ ؛ يحمد الله ويشكره في جميع حالاته. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وَحَثٌّ للذرية على الاقتداء به. والله تعالى أعلم.
﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾ * ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ﴾ * ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ﴾ * ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً ﴾ * ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقضينا إلى بني إِسرائيل ﴾ أي : أخبرناهم وأوحينا إليهم ﴿ في الكتاب ﴾ ؛ التوراة، وقلنا : والله ﴿ لتُفسدنَّ في الأرض مرتين ﴾ الخ. أو : قضينا عليهم ﴿ في الكتاب ﴾ ؛ اللوح المحفوظ، ﴿ لتُفسدنَّ في الأرض مرتين ﴾ أي : إفسادتين، أُولاهُمَا : مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء، وقيل : أرمياء. وثانيتهما : قتل زكريا ويحيى، وقَصْدُ قتل عيسى عليه السلام، ﴿ ولتَعلُنَّ عُلوًّا كبيرًا ﴾ ؛ ولتستكبرن عن طاعة الله، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوًا كبيرًا.
فقال : ما صدقتموني، فقتل عليه ألوفًا منهم، فلم يهدأَ الدم. ثم قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا، فقالوا : دم يحيى، فقال : لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم، ثم قال : يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك، فاهدأ بإذن الله، قبل ألاَّ أُبقي منهم أحدًا، فهدأ. ه.
وقال السهيلي في كتاب " التعريف والإعلام " : المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل، وكان إذ ذاك عليهم " بختنصر "، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه. وأما في المرة الأخيرة : فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل : بختنصر، وهذا لا يصح ؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. ه. وقول الجلال السيوطي : وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا، فبعث عليهم جالوت وجنوده، ولا يصح ؛ لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا، وهو باطل.
﴿ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ ﴾ [ الأعرَاف : ٤١ ]. والله تعالى أعلم.
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ﴾ * ﴿ وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يَهدي للتي ﴾ ؛ للطريق التي ﴿ هي أقومُ ﴾ الطرق وأعدلها، ﴿ ويُبشِّرُ المؤمنين الذين يعملون ﴾ الأعمال ﴿ الصالحاتِ أنَّ لهم أجرًا كبيرًا ﴾ وهو : الخلود في النعيم المقيم، وزيادة النظر إلى وجهه الكريم.
﴿ و ﴾ يخبر ﴿ أنَّ الذين لا يُؤمنون بالآخرة أعتدنا ﴾ أي : أعددنا ﴿ لهم عذابًا أليمًا ﴾، أو : ويُبشر المؤمنين ببشارتين : ثوابهم، وعقاب أعدائهم.
﴿ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾ * ﴿ وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ﴾ * ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ * ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾
قلت :﴿ دعاءه ﴾ : مفعول مطلق. والإضافة في قوله :﴿ آية الليل ﴾ و﴿ آية النهار ﴾ : بيانية، أي : فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. وإذا أريد بالآيتين الشمس والقمر ؛ تكون للتخصيص، أي : وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، أو : وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين... الخ، و﴿ كل شيء ﴾ : منصوب بفعل مضمر، يفسره ما بعده، وكذا :﴿ وكل إنسان ﴾ و﴿ يلقاه منشورًا ﴾ : صفتان لكتاب.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ويدعُ الإنسانُ ﴾ على نفسه وولده وماله ﴿ بالشرِّ ﴾ عند الغضب والقنط. ﴿ دعاءَهُ بالخير ﴾ ؛ مثل دعائه بالخير. وهو ذم له يدل على عدم صبره، وربما وافق وقت الإجابة فيهلك، ﴿ وكان الإِنسانُ عَجُولاً ﴾ ؛ يُسارع إلى كل ما يخطر بباله، لا ينظر عاقبته. ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وبالدعاء استعجاله بالعذاب ؛ استهزاء، كقول النضر بن الحارث : اللهم انصر خير الحزبين ؛ ﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ. . . ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] الآية. وقيل : المراد بالإنسان : آدم عليه السلام، فإنه لما انتهى الروح إلى سُرَّته ذهب ليقوم، فسقط، وهو بعيد. فإذا نزلت بالإنسان قهرية فلا يقنط ولا يستعجل، فإنَّ وقت الفرج محدود، فالليل والنهار مطيتان، يُقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود.
ولذا قال تعالى إثره :﴿ وجعلنا الليلَ والنهارَ آيتين ﴾ دالتين على كمال قدرتنا، وباهر حكمتنا، يتعاقبان على الإنسان، يُقربان له كل بعيد، ويأتيان له بكل موعود. ﴿ فمحونا آيةَ الليل ﴾ أي : فمحونا الآية التي هي الليل ؛ بأن جعلناها مظلمة، لتسكنوا فيه، ﴿ وجعلنا آية النهار مُبصرةً ﴾ أي : مضيئة مشرقة لتبتغوا ؛ من فضله، أو : وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، وهما : الشمس والقمر، ﴿ فمحونا آية الليل ﴾، وهو القمر ؛ بأن جعلناه أطلس، لا نور فيه من ذاته، بل نوره مستمد من نور الشمس، ﴿ وجعلنا آية النهار ﴾، وهي الشمس ﴿ مبصرةً ﴾ للناس، أو مبصرًا فيها بالضوء الذاتي، ﴿ لتبتغوا فضلاً من ربكم ﴾ ؛ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، ﴿ ولتعلموا ﴾ ؛ باختلافهما وبحركتهما، ﴿ عددَ السنينَ والحسابَ ﴾ ؛ وحساب الأوقات من الأشهر والأيام، في معاملتكم وتصرفاتكم، ﴿ وكلَّ شيء ﴾ تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا ﴿ فصَّلناه تفصيلاً ﴾ ؛ بيَّناه تبيينًا لا لبس فيه، أو : وكل شيء يظهر في الوجود، فصّلناه وقدّرناه في اللوح المحفوظ تفصيلاً، فلا يظهر في عالم الشهادة إلا ما فُصل في عالم الغيب.
﴿ وكل إِنسانٍ ألزمناه طائره ﴾ أي : حظه وما قُدر له من خير وشر، فهو لازم ﴿ في عُنقه ﴾ ؛ لا ينفك عنه. ويقال لكل ما لزم الإنسان : قد لزم عنقه. وإنما قيل للحظ المقدر في الأزل من الخير والشر : طائر ؛ لقول العرب : جرى لفلان الطائر بكذا من الخير والشر، على طريق الفأل والطيرة، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو ملزم لأعناقهم، لا محيد لهم عنه، كالسلسلة اللازمة للعنق، يُجر بها إلى ما يُراد منه.
ومثله :﴿ أَلآ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّه ﴾ [ الأعرَاف : ١٣١ ]، وقال مجاهد :" ما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة، مكتوب فيها شقي أو سعيد ". أو : وكل إنسان ألزمناه عمله ؛ يحمله في عنقه، ﴿ ونُخرج له يوم القيامة كتابًا ﴾ مكتوب فيه عمله، وهو صحيفته. ﴿ يلقاه منشورًا ﴾ ؛ ويقال له :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليومَ عليك حسيبًا ﴾.
﴿ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ * ﴿ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ * ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ مَن اهتدى ﴾ وآمن بالله وبما جاءت به الرسل ﴿ فإِنما يهتدي لنفسه ﴾ ؛ لأن ثواب اهتدائه له، لا يُنجي اهتداؤه غيره، ﴿ ومن ضلَّ ﴾ عن طريق الله ﴿ فإِنما يضلُّ عليها ﴾ ؛ لأن إثم إضلاله على نفسه، لا يضر به غيره في الآخرة، ﴿ ولا تزر ﴾ أي : لا تحمل نفس ﴿ وازرةٌ ﴾ ؛ آثمة ﴿ وِزرَ ﴾ نفس ﴿ أخرى ﴾ أي : ذنوب نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها، إلا من كان إمامًا في الضلالة، فيحمل وزره ووزر مَن تبعه، على ما يأتي في آية أخرى :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ].
ومن كمال عدله تعالى : أنه لا يُعذِّب حتى يُنذر ويُعذر على ألسنة الرسل، كما قال تعالى :﴿ وما كنا مُعذبين ﴾ أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة ﴿ حتى نبعث رسولاً ﴾ يُبين الحجج ويمهد الشرائع، ويلزمهم الحجة.
وفيه دليل على أن لا حُكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، فمن بلغته دعوته، وخالف أمره، واستكبر عن أتباعه، عذبناه بما يستحقه. وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام - عليهم السلام - في جميع الأمم، قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾ [ النحل : ٣٦ ]، ﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾
[ فاطر : ٢٤ ]، فإن دعوتهم إلى الله قد انتشرت، وعمت الأقطار، واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام :﴿ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ﴾ [ ص : ٧ ] ؛ فإنه يُفهم منه أنهم سمعوه في الملة الأولى، فمن بلغته دعوة أحد منهم، بوجه من الوجوه فقصَّر، فهو كافر مستحق للعذاب. فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة، مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن آباءهم، الذين مضوا في الجاهلية، في النار، وأن ما يدحرج من الجُعَل١، خير منهم، إلى غير ذلك من الأخبار. قاله البقاعي.
وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي - أحد أجلاء الشافعية، وعظماء أئمة الإسلام - في أول منهاجه، في باب :" من لم تبلغه الدعوة " : وإنما قلنا : إن من كان منهم عاقلاً مميزًا إذا رأى ونظر، إلا أنه لا يعتقد دينًا فهو كافر ؛ لأنه، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور مُددِ الذين آمنوا واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف، كما يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع آيَّةَ دعوة كانت إلى الله تعالى، فترك أن يستدل بعقله، كان مُعْرِضًا عن الدعوة فكفر، والله أعلم. وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين، ولا بدعوة نبي، ولا عرف أن في العالم من يُثبت إلهًا، وما نرى أن ذلك يكون، فأمره على الاختلاف، يعني : عند من يُوجب الإيمان بمجرد العقل، ومن لا يُوجبه إلا بانضمام النقل. ه.
وقال الزركشي، في آخر باب النيات، من شرحه على المنهاج : وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة، حيث قال : وما أظن أحدًا إلا بلغته الدعوة، إلا أن يكون قوم من وراء النهر. وقال الدميري : وقال الشافعي : ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة. انتهى ؛ على نقل شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان الفاسي رضي الله عنه.
﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً ﴾ * ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ﴾ * ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ﴾ * ﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ * ﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً ﴾
قلت :﴿ لمن نُريد ﴾ : بدل من ضمير ﴿ له ﴾ ؛ بدل بعض من كل.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ مَن كان يُريد ﴾ بعمله الدنيا ﴿ العاجلةَ ﴾، مقصورًا عليها همه، ﴿ عجَّلنا له فيها ما نشاء لمن نُريد ﴾ التعجيل له. قيَّد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة ؛ لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه، ولا كل واحد جميع ما يهواه. قاله البيضاوي :﴿ ثم جعلنا له ﴾ في الآخرة ﴿ جهنم يصلاها ﴾ ؛ يدخلها ويحترق بها، حال كونه ﴿ مذمومًا مدحورًا ﴾ ؛ مطرودًا من رحمة الله. والآية في الكفار، وقيل : في المنافقين، الذين يغزون مع المسلمين لقصد الغنائم. والأصح : أنها تعم كل من اتصف بهذا الوصف.
سورة الإسراء.
مكية، إلا قوله :﴿ وإن كادوا ليفتنونك... ﴾ [ الإسراء : ٧٣ ] الآيات الثمان. وهي : مائة وعشر آيات. وكأن وجه المناسبة لما قبله قوله :﴿ إن الله مع الذين اتقوا ﴾ [ النحل : ١٢٨ ]، إشارة إلى أن من اتقى الله، وحصّل مقام الإحسان، أسرى بروحه إلى عالم الملكوت، وأسرار الجبروت. وافتتح السورة بالتنزيه، لئلا يتوهم الجهال أنه –عليه الصلاة والسلام-عرج به للقاء الحق تعالى في جهة مخصوصة.
﴿ ومَن أراد الآخرةَ وسعى لها سعيها ﴾ ؛ عمل لها عملها اللائق بها، وهو : الإتيان بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة اللام في قوله :" لها " : اعتبار النية والإخلاص. والحال أن العامل ﴿ مؤمن ﴾ إيمانًا صحيحًا لا شرك معه ولا تكذيب، فإنه العمدة، ﴿ فأولئك ﴾ الجامعون للشروط الثلاثة ﴿ كان سعيهم مشكورًا ﴾ عند الله، مقبولاً مثابًا عليه ؛ فإن شُكر الله هو الثواب على الطاعة.
سورة الإسراء.
مكية، إلا قوله :﴿ وإن كادوا ليفتنونك... ﴾ [ الإسراء : ٧٣ ] الآيات الثمان. وهي : مائة وعشر آيات. وكأن وجه المناسبة لما قبله قوله :﴿ إن الله مع الذين اتقوا ﴾ [ النحل : ١٢٨ ]، إشارة إلى أن من اتقى الله، وحصّل مقام الإحسان، أسرى بروحه إلى عالم الملكوت، وأسرار الجبروت. وافتتح السورة بالتنزيه، لئلا يتوهم الجهال أنه –عليه الصلاة والسلام-عرج به للقاء الحق تعالى في جهة مخصوصة.
سورة الإسراء.
مكية، إلا قوله :﴿ وإن كادوا ليفتنونك... ﴾ [ الإسراء : ٧٣ ] الآيات الثمان. وهي : مائة وعشر آيات. وكأن وجه المناسبة لما قبله قوله :﴿ إن الله مع الذين اتقوا ﴾ [ النحل : ١٢٨ ]، إشارة إلى أن من اتقى الله، وحصّل مقام الإحسان، أسرى بروحه إلى عالم الملكوت، وأسرار الجبروت. وافتتح السورة بالتنزيه، لئلا يتوهم الجهال أنه –عليه الصلاة والسلام-عرج به للقاء الحق تعالى في جهة مخصوصة.
﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ﴾ في الرزق والجاه، ﴿ وللآخِرةُ أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلاً ﴾ من الدنيا، فينبغي الاعتناء بها دونها، والتفاوت في الآخرة حاصل للفريقين، فكما تفاوتت الدرجات في الجنة تفاوتت الدركات في النار.
وسبب التفاوت : زيادة اليقين، والترقي في أسرار التوحيد لأهل الإيمان، أو الانهماك في الكفر والشرك لأهل الكفران. ولذلك قال تعالى :﴿ لا تجعلْ مع الله إِلهًا آخر ﴾ تعبده. والخطاب لكل سامع، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، ﴿ فتقعد ﴾ ؛ فتصير حينئذ ﴿ مذمومًا مخذولاً ﴾ ؛ جامعًا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين، والخذلان من الله. ومفهومه : أن الموحد يكون ممدوحًا منصورًا في الدارين.
وفضلُ العارفين على غيرهم كفضلِ الشمس على سائر الكواكب، هذا في الدنيا، ﴿ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ﴾، يقع ذلك بالترقي في معارج أسرار التوحيد، وبتفاوت اليقين في معرفة رب العالمين. وقال القشيري في تفسير الآية : منهم من لا يغيب عن الحضرة لحظة، ثم يجتمعون في الرؤية، ويتفاوتون في النصيبِ لكلٍّ. وليس كلُّ أحد يراه بالعين الذي يراه به صاحبه. وأنشدوا٢ :
لو يَسْمَعُون كما سمعتُ حديثها | خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا |
﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ]. والله تعالى أعلم.
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ * ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾ * ﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ﴾
قلت :﴿ قضى ﴾، هنا، بمعنى حكم وأوجب وأمر، لا بمعنى القضاء ؛ إذ لو كان كذلك لما عُبد غير الله. وفي مصحف ابن مسعود :" ووصى ربك ألا تعبدوا ". و( أن ) : مفسرة، أو مصدرية، أي : بأن لا تعبدوا، و﴿ إما ﴾ : إن الشرطية دخلت عليها " ما " المؤكدة. و﴿ فلا تقل ﴾ : جوابها. وتوحيد ضمير الخطاب في ﴿ عندك ﴾، وفيما سبق - مع أن ما سبق ضمير الجمع - ؛ للاحتراز عن التباس المراد، فإنَّ المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما. ولو قوبل الجمع بالجمع، أو بالتثنية، لم يحصل هذا المرام.
و " أفُّ " : اسم فعل، معناها : قول مكروهُ، يقال عند الضجر ونحوه. قال الهروي : أي : لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل : أُفّ لَهُ. وقال في القاموس : أَفّ، يَؤُفُّ، ويَئِفُّ : تأففَ من كَرْبٍ أوْ ضَجَر. وأُفّ : كلمة تكره، وأفف تأفِيفًا، وتَأَفَّفَ، قالها، ولغتها أربعون، ثم ذكرها. وحركتها للبناء، وتنوينها للتنكير.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقضى ربُّك ﴾ ؛ أَمر أمْرًا مقطوعًا به، ب ﴿ ألاَّ تعبدوا إِلا إِياه ﴾ ؛ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام، وهو الله وحده، ﴿ و ﴾ أحسنوا ﴿ بالوالدين إِحسانًا ﴾ ؛ لأنهما السبب الظاهر في وجود العبد، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ في مظاهر الحكمة، وإلاَّ فما ثَمَّ إلا تربية الحق تعالى، ظهرت في مظاهر الوالدين، لكن أمر بشكر الواسطة ؛ " من لم يشكر الناس لم يشكر الله ".
ثم أمر ببرهما، فقال :﴿ إِما يبلغنَّ عندك الكبَرَ أحدُهما أو كلاهما ﴾ أي : مهما بلغ زمن الكِبَرِ، وهما عندك في كفالتك، هما أو أحدهما، ﴿ فلا تقلْ لهما أُفٍّ ﴾ أي : فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء ؛ قياسًا بطريق الأحْرى. وقال في الإحياء : الأُفّ : وسخ الظفر، والتف : وسخ الأذن، أي : لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ، فأحرى غيره، وقيل : لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. ه.
﴿ ولا تنهرهما ﴾ ؛ ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظٍ، فإن كان لإرشاد ديني فبرفق ولين. ﴿ وقل لهما قولاً كريمًا ﴾ ؛ جميلاً لينًا لا غلظ فيه.
﴿ وقل ربِّ ارحمهما ﴾ أي : وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية، وإن كانا كافرين ؛ لأن من الرحمة أن يهديهما للإسلام، فقل اللهم ارحمهما ﴿ كما ربياني صغيرًا ﴾ أي : رحمة مثل رحمتهما عليّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري، وفاء بعهدك للراحمين. فالكاف في محل نصب ؛ على أنه نعت لمصدر محذوف، أي : رحمة مثل تربيتهما، أو مثل رحمتهما لي، على أن التربية رحمة. ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معًا، وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر، كما يلوح له التعرض لعنوان الربوبية، كأنه قيل : رب ارحمهما، ورَبِّهِمَا كما ربياني صغيرا. ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، كقوله :
﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٨ ].
ولقد بالغ الحق تعالى في التوصية بالوالدين ؛ حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه، ونظمهما في سلك القضاء بعبادته، ثم ضيق في برهما حتى لم يُرخص في أدنى كلمة تتفلت من المتضجر، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلَّ شيء مشبهة بتربيتهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" رِضَا اللهِ في رضا الوَالِدَين، وَسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا " ١ ورُوي : أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبَويَّ بَلَغَا مِنْ الكِبَر إلى أنِّي ألي منهما ما وَلَيَا مِنِّي في الصغر، فهل قضيتهما حقهما ؟ قال :" لا ؛ فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما " ورُوي أن شيخًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابني هذا له مال كثير، ولا ينفق عليّ من ماله شيئًا، فنزل جبريل وقال : إن هذا الشيخ أنشأ في ابنه أبياتًا، ما قُرعَ سَمْعٌ بمثلها، فاستنشدها، فأنشدها الشيخ، فقال :
غَذَوْتُك مَوْلُودًا ومُنْتُك يَافعًا | تُعلُّ بما أُجْرِي عليك وتَنْهَلُ |
إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْمِ لَم أَبِتْ | لسُقْمِكَ إلا باكِيًا أَتَملْمَلُ |
كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي | طُرِقتَ به دُوني وعَيْنِيَ تمْهَلُ |
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتي | إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ |
جَعَلْتَ جزَائي غلْظَةً وفَظَاظَةً | كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ |
فَلَيْتَكَ إذ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبوَّتي | فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاورُ يَفْعَلُ٢ |
٢ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ٦/٣٠٤..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٢/٥٠٩..
٤ أخرجه أبو داود في الأدب، (باب في بر الوالدين)، والحاكم في المستدرك ٢/٣٠٦٦..
﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ﴾ * ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ﴾ * ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً ﴾ * ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ﴾ * ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وآتِ ذا القُربى حقه ﴾ أي : أعط ذا القربة حقه ؛ من البر، وصلة الرحم، وحسن المعاشرة. وقال أبو حنيفة : إذا كانوا محاويج فقراء : أن ينفق عليهم. وقيل : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أن يُؤتى قرابته من بيت المال، ﴿ و ﴾ آت ﴿ المسكينَ ﴾ حقه ﴿ وابنَ السبيل ﴾ ؛ الغريب، من برهما والإحسان إليهما، ﴿ ولا تبذرْ تبذيرًا ﴾ ؛ بصرف المال فيما لا ينبغي، وإنفاقه على وجه السرف. قال ابن عزيز : التبذير في النفقة : الإسراف فيها، وتفريقها في غير ما أحل الله. ه. وأصل التبذير : التفريق. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد، وهو يتوضأ :" مَا هذَا السَّرَفُ " ؟ فقال : أَو فِي الوُضُوءِ سَرَفٌ ؟ فقال :" نَعَمْ، وإِنْ كنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ " ١.
فكل ما يصيبك من الضيق فإنما هو لمصلحة باطنية، ﴿ إِنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا ﴾ ؛ يعلم سرهم وعلانيتهم، فيعلم مِنْ مصالحهم ما يخفى عليهم ؛ فيرزقهم على حسب مصالحهم، ويضيق عليهم على قدر صبرهم. والحاصل : أنه يُعطي كل واحد ما يَصلح به، والله أعلم.
﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ﴾ * ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ * ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ﴾ * ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئولاً ﴾ * ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾
قلت :﴿ خشية ﴾ : مفعول من أجله ؛ لأن الخشية قلبية، بخلاف الإملاق، فإنه حسي ؛ فَجُرَّ بمن في سورة الأنعام١. وهذه الآية في أغنياء العرب، الذين كانوا يخشون وقوع الفقر، وما في " الأنعام " نزلت في فقرائهم، الذين كان الفقر واقعًا بهم، ولذلك قدَّم هناك كاف الخطاب، وأخَّره هنا، فتأمله. و " خِطًا " يقال : خطئ خطأ، كأثم إثمًا. وقرأ ابن عامر :" خَطأً "، بفتحتين، فهو إما اسم مصدر أخطأ، أو لغة في خطئ، كمِثل ومَثل، وحِذر وحَذر. وقرأ ابن كثير :" خِطاء " ؛ بالمد، إما لغة، أو مصدر خاطأ. انظر البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تقتلوا أولادكم ﴾ مخافة الفاقة المستقبلة، وقد كانوا يقتلون البنات - وهو الوأد - مخافة الفقر، فنهاهم، عن ذلك، وضمن لهم أرزاقهم، فقال :﴿ نحن نرزقهم وإِياكم إِنَّ قتلهم كان خِطأً ﴾ ؛ إثمًا ﴿ كبيرًا ﴾ ؛ لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع وإيلام الروح.
واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فرُبَّ حِيلَهْ | أَنْفَعُ فِي النُّصْرِة منْ قَبِيلهْ |
واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فرُبَّ حِيلَهْ | أَنْفَعُ فِي النُّصْرِة منْ قَبِيلهْ |
واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فرُبَّ حِيلَهْ | أَنْفَعُ فِي النُّصْرِة منْ قَبِيلهْ |
واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فرُبَّ حِيلَهْ | أَنْفَعُ فِي النُّصْرِة منْ قَبِيلهْ |
والقسطاس : لغة رومية، ولا يقدح ذلك في عربية القرآن ؛ لأن غير العربي، إذا استعملته العرب، فأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير، صار عربيًا. قاله البيضاوي. ﴿ ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً ﴾ أي : أحسن عاقبة ومآلاً. والله تعالى أعلم.
واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فرُبَّ حِيلَهْ | أَنْفَعُ فِي النُّصْرِة منْ قَبِيلهْ |
﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئولاً ﴾ * ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ * ﴿ كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ﴾ * ﴿ ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً ﴾ * ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ﴾
قلت : قفا الشيء يقفوه : تبعه. والضمير في " عنه " : يجوز أن يعود لمصدر " لا تَقْفُ "، أو لصاحب السمع والبصر. وقيل : إن " مسؤولاً " مسند إلى " عنه " كقوله تعالى :
﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الفَاتِحَة : ٧ ]، والمعنى : يسأل صاحبه عنه، وهو خطأ ؛ لأن الفاعل وما يَقوم مقامه لا يتقدم. قاله البيضاوي.
قال ابن جزي : الإشارة في " أولئك " : إلى السمع والبصر والفؤاد، وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك ؛ لأنها حواس لها إدراك، والضمير في " عنه " : يعود على " كل "، ويتعلق " عنه " بمسؤُولاً. ه. وضمير الغائب يعود على المصدر المفهوم من " مسؤولاً ".
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تَقْفُ ﴾ ؛ تتبع ﴿ ما ليس لك به علمٌ ﴾، فلا تقل ما لا تحقيق لك به ؛ من ذم الناس ورميهم بالغيب. فإذا قلت : سمعتُ كذا، أو رأيت كذا، أو تحقق عندي كذا، مما فيه نقص لأحد، فإنك تُسأل يوم القيامة عن سند ذلك وتحقيقه. وهذا معنى قوله :﴿ إِنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً ﴾. قال البيضاوي : ولا تتبع ما لم يتعلق علمك به ؛ تقليدًا، أو رجمًا بالغيب. واحتج به من منع اتباع الظن، وجوابه : أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعيًا أو ظنيًا ؛ إذ استعماله بهذا المعنى شائع. وقيل : إنه مخصوص بالعقائد. وقيل : بالرمي وشهادة الزور، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم :" من قَفَا مُؤْمنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ، حَبَسَهُ اللهُ فِي رَدْغَةِ الخَبَالِ١، حَتَّى يَأتِيَ بِالمَخْرَجِ " ٢. ﴿ إِن السمعَ والبصرَ والفؤاد كلُّ أولئك ﴾ أي : كل هذه الأعضاء الثلاثة ﴿ كان عنه مسؤولاً ﴾ ؛ كل واحد منها مسؤول عن نفسه، يعني : عما فعل به صاحبه. ه. مختصرًا.
وقال القشيري في تفسير الآية هنا :﴿ ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم ﴾ أي : جانب محاذاة الظنون، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت، فارجعْ إلى الله، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من التحقيق فكن مع ما أريد، وإن بقي الحال على حدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله، وقِفْ حيثما وقفت. ويقال : الفرق بين من قام بالعلم، ومن قام بالحق : أنَّ العلماء يعرفون الشيء أولاً، ثم يعملون بعلمهم، وأصحابُ الحقائق يجْرِي، بحكم التصريف عليهم، شيءٌ، ولا عِلمَ لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يُكْشَف لهم وجههُ، فربما يجري على لسانهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه من شواهد العلم ؛ إذ يتحقق ذلك بجريان الحال في ثاني الوقت. انتهى. قلت : وإلى هذا المعنى أشار في الحكم العطائية بقوله :" الحقائق ترد في حال التجلي مُجْمَلَةً، وبعد الوعي يكون البيان، ﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ﴾ ".
قوله تعالى :﴿ ولا تمشِ في الأرض مرحًا ﴾، ورد في بعض الأخبار، في صفة مشي الصوفية : أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل، متواضعين خاشعين، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة، ولا اختيال مُخل بالتواضع. والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه أحمد في المسند ٢/٧٠..
وقال القشيري في تفسير الآية هنا :﴿ ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم ﴾ أي : جانب محاذاة الظنون، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت، فارجعْ إلى الله، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من التحقيق فكن مع ما أريد، وإن بقي الحال على حدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله، وقِفْ حيثما وقفت. ويقال : الفرق بين من قام بالعلم، ومن قام بالحق : أنَّ العلماء يعرفون الشيء أولاً، ثم يعملون بعلمهم، وأصحابُ الحقائق يجْرِي، بحكم التصريف عليهم، شيءٌ، ولا عِلمَ لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يُكْشَف لهم وجههُ، فربما يجري على لسانهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه من شواهد العلم ؛ إذ يتحقق ذلك بجريان الحال في ثاني الوقت. انتهى. قلت : وإلى هذا المعنى أشار في الحكم العطائية بقوله :" الحقائق ترد في حال التجلي مُجْمَلَةً، وبعد الوعي يكون البيان، ﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ﴾ ".
قوله تعالى :﴿ ولا تمشِ في الأرض مرحًا ﴾، ورد في بعض الأخبار، في صفة مشي الصوفية : أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل، متواضعين خاشعين، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة، ولا اختيال مُخل بالتواضع. والله تعالى أعلم.
﴿ كلُّ ذلك ﴾ المذكور، من قوله :﴿ لا تجعل مع الله إلهًا آخر ﴾ إلى هنا، وهي : خَمْسٌ وعشرون خصلة، قال ابن عباس :( إنها المكتوبة في ألواح موسى )، فكل ما ذكر ﴿ كان سَيّئة عند ربك ﴾ أي : خصلة قبيحة ﴿ مكروهًا ﴾ أي : مذمومًا مبغوضًا. والمراد بما ذكر : من المنهيات دون المأمورات.
وقال القشيري في تفسير الآية هنا :﴿ ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم ﴾ أي : جانب محاذاة الظنون، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت، فارجعْ إلى الله، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من التحقيق فكن مع ما أريد، وإن بقي الحال على حدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله، وقِفْ حيثما وقفت. ويقال : الفرق بين من قام بالعلم، ومن قام بالحق : أنَّ العلماء يعرفون الشيء أولاً، ثم يعملون بعلمهم، وأصحابُ الحقائق يجْرِي، بحكم التصريف عليهم، شيءٌ، ولا عِلمَ لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يُكْشَف لهم وجههُ، فربما يجري على لسانهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه من شواهد العلم ؛ إذ يتحقق ذلك بجريان الحال في ثاني الوقت. انتهى. قلت : وإلى هذا المعنى أشار في الحكم العطائية بقوله :" الحقائق ترد في حال التجلي مُجْمَلَةً، وبعد الوعي يكون البيان، ﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ﴾ ".
قوله تعالى :﴿ ولا تمشِ في الأرض مرحًا ﴾، ورد في بعض الأخبار، في صفة مشي الصوفية : أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل، متواضعين خاشعين، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة، ولا اختيال مُخل بالتواضع. والله تعالى أعلم.
﴿ ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر ﴾، كرره، للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، وأنه رأس الحكمة وملاكها، ومن عُدِمَهُ لم تَنْفَعْهُ علومه وحِكمه، ولو جمع أساطير الحكماء، ولو بلغت عنان السماء. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد : غيره ممن يتصور منه ذلك. ورتب عليه، أولاً : ما هو عاقبة الشرك في الدنيا، وهو : الذم والخذلان، وثانيًا : ما هو نتيجته في العقبى. فقال :﴿ فتُلقى في جهنم ملومًا ﴾ ؛ تلوم نفسك، وتلومك الملائكة والناس، ﴿ مدحورًا ﴾ ؛ مطرودًا من رحمة الله.
وقال القشيري في تفسير الآية هنا :﴿ ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم ﴾ أي : جانب محاذاة الظنون، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت، فارجعْ إلى الله، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من التحقيق فكن مع ما أريد، وإن بقي الحال على حدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله، وقِفْ حيثما وقفت. ويقال : الفرق بين من قام بالعلم، ومن قام بالحق : أنَّ العلماء يعرفون الشيء أولاً، ثم يعملون بعلمهم، وأصحابُ الحقائق يجْرِي، بحكم التصريف عليهم، شيءٌ، ولا عِلمَ لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يُكْشَف لهم وجههُ، فربما يجري على لسانهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه من شواهد العلم ؛ إذ يتحقق ذلك بجريان الحال في ثاني الوقت. انتهى. قلت : وإلى هذا المعنى أشار في الحكم العطائية بقوله :" الحقائق ترد في حال التجلي مُجْمَلَةً، وبعد الوعي يكون البيان، ﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ﴾ ".
قوله تعالى :﴿ ولا تمشِ في الأرض مرحًا ﴾، ورد في بعض الأخبار، في صفة مشي الصوفية : أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل، متواضعين خاشعين، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة، ولا اختيال مُخل بالتواضع. والله تعالى أعلم.
وقال القشيري في تفسير الآية هنا :﴿ ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم ﴾ أي : جانب محاذاة الظنون، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت، فارجعْ إلى الله، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من التحقيق فكن مع ما أريد، وإن بقي الحال على حدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله، وقِفْ حيثما وقفت. ويقال : الفرق بين من قام بالعلم، ومن قام بالحق : أنَّ العلماء يعرفون الشيء أولاً، ثم يعملون بعلمهم، وأصحابُ الحقائق يجْرِي، بحكم التصريف عليهم، شيءٌ، ولا عِلمَ لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يُكْشَف لهم وجههُ، فربما يجري على لسانهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه من شواهد العلم ؛ إذ يتحقق ذلك بجريان الحال في ثاني الوقت. انتهى. قلت : وإلى هذا المعنى أشار في الحكم العطائية بقوله :" الحقائق ترد في حال التجلي مُجْمَلَةً، وبعد الوعي يكون البيان، ﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ﴾ ".
قوله تعالى :﴿ ولا تمشِ في الأرض مرحًا ﴾، ورد في بعض الأخبار، في صفة مشي الصوفية : أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل، متواضعين خاشعين، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة، ولا اختيال مُخل بالتواضع. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد صَرَّفنا ﴾ ؛ بيَّنا ﴿ في هذا القرآن ﴾ من الأمثال والعبر، والوعد والوعيد ؛ ﴿ ليذَّكروا ﴾ ؛ ليتعظوا به، ﴿ وما يزيدُهم ﴾ ذلك ﴿ إِلا نفورًا ﴾ عن الحق وعنادًا له.
الإشارة : من شأن القلوب الصافية : إذا سمعت كلام الحبيب فرحت واهْتَزت، أو خشعت واقشعرت من هيبة المتكلم، كلٌّ على ما يليق بمقامه، ومن شأن القلوب الخبيثة المكدرة : نفورها من كلام الحق ؛ إذ الباطل لا يُقاوم الحق، ولا يطيق مواجهته. والله تعالى أعلم.
﴿ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ﴾ * ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾ * ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قلْ ﴾ يا محمد :﴿ لو كان معه ﴾ في الوجود ﴿ آلهةٌ ﴾ تستحق أن تُعبد، ﴿ كما تقولون ﴾ أيها المشركون، أو كما يقول المشركون أيها الرسول، ﴿ إِذًا لابتَغَوا ﴾ ؛ لطلبوا ﴿ إلى ذي العرش سبيلاً ﴾ ؛ طريقًا يقاتلونه. وهذا جواب عن مقالتهم الشنعاء. والمعنى : لطلبوا إلى من هو ملك الملك طريقًا بالمعاداة، كما تفعل الملوك بعضهم مع بعض. وهذا كقوله :﴿ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [ المؤمنون : ٩١ ]. وقيل : لابتغوا إليه سبيلاً بالتقرب إليه والطاعة ؛ لعلمهم بقدرته، وتحققهم بعجزهم، كقوله :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾ [ الإسرَاء : ٥٧ ].
فالأشياء ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، قائمة من حيث حسها، ممحوة من حيث معناها، ولا وجود للحس من ذاته، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته. وفي الحديث، في وصف أهل الجنة :" وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ". فمن خرق حجاب الوهم، وفنى عن دائرة الحس في دار الدنيا، لم يحتجب الحق تعالى عنه في الدارين طرفة عين. فتحصل أن الأشياء كلها تُسبح من جهة معناها بلسان المقال، ومن جهة حسها بلسان الحال، وتسبيحها كما ذكرنا. ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون. وحسب من لم يصحبهم التسليم، كما قال القائل :
إذا لَمْ تَرَ الْهِلاَلَ فَسَلِّمْ | لأُناسٍ رَأَوْهُ بِالأبْصارِ |
فالأشياء ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، قائمة من حيث حسها، ممحوة من حيث معناها، ولا وجود للحس من ذاته، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته. وفي الحديث، في وصف أهل الجنة :" وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ". فمن خرق حجاب الوهم، وفنى عن دائرة الحس في دار الدنيا، لم يحتجب الحق تعالى عنه في الدارين طرفة عين. فتحصل أن الأشياء كلها تُسبح من جهة معناها بلسان المقال، ومن جهة حسها بلسان الحال، وتسبيحها كما ذكرنا. ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون. وحسب من لم يصحبهم التسليم، كما قال القائل :
إذا لَمْ تَرَ الْهِلاَلَ فَسَلِّمْ | لأُناسٍ رَأَوْهُ بِالأبْصارِ |
ومذهب أهل السنة : عدم اشتراط البِنية للعلم والحياة، فيصح الخشوع من الجماد، والخشية لله والتسبيح منه له. وقد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع : فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لمن يحمل قوله :﴿ وإِن من شيء إِلا يُسبح بحمده ﴾ على ظاهره. ه.
وقال ابن عطية : اختلف أهلُ العلم في هذا التسبيح ؛ فقالت فرقة : هو تجوز، ومعناه : أن كل شيء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر. وقالت فرقة : قوله :﴿ من شيء ﴾ : لفظه عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات الميتة.
فمن هذا قول عكرمة : الشجرة تُسبح، والاسطوانة لا تُسبح. قال يزيد الرقاشي للحسن - وهما في طعام، وقد قدّم الخِوان- : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال : قد كان يُسبح مدة. يريد أن الشجرة، في زمان نموها واغتذائها، تُسَبح. وقد صارت خوانًا أو نحوه، أي : صارت جمادًا. وقالت فرقة : هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء، على العموم، يُسبح تسبيحًا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون ؛ من أنه أثر الصنعة، لكان أمرًا مفهومًا، والآية تنطق بأنه لا يُفقه، وينفصل عنه ؛ بأن يريد بقوله :﴿ لا تفقهون ﴾ : الكفار والغفلة، أي : أنهم يُعرضون عن الاعتبار ؛ فلا يفقهون حكمة الله في الأشياء. ه.
قال شيخ شيوخنا ؛ سيدي عبد الرحمان العارف : وربما يدل للعموم تسبيح الحصى في يده - عليه الصلاة والسلام -، وكذا حنين الجذع ومحبة أُحد، وكذا تسبيح الطعام. وأما التخصيص بالناميات ؛ من نبات غير يابس، وحجر متصل بموضعه، فهو خصوص تسبيح بالاستمداد إلى الحياة، ولا ينتفي مطلق الاستمداد ؛ لأن الجماد يستمد الوجود وبقاءه من الله، فهو عام، وقد قال تعالى :﴿ يا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ﴾ [ سَبَأ : ١٠ ]، وتدبر حنين الجذع. ه. وسيأتي في الإشارة بقية كلام عليه، وقال البيضاوي أيضًا في قوله :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ أيها المشركون ؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح. ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك من اللفظ والدلالة ؛ لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ، وإلى ما لا يتصور منه، وعليهما، أي : ويحمل - عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه. ه.
﴿ إِنه كان حليمًا ﴾ ؛ حيث لم يُعاجلكم بالعقوبة، مع ما أنتم عليه من موجباتها ؛ من الإعراض عن النظر في الدلائل الواضحة، الدالة على التوحيد، والانهماك في الكفر والإشراك، ﴿ غفورًا ﴾ لمن تاب منكم. وبالله التوفيق.
فالأشياء ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، قائمة من حيث حسها، ممحوة من حيث معناها، ولا وجود للحس من ذاته، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته. وفي الحديث، في وصف أهل الجنة :" وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ". فمن خرق حجاب الوهم، وفنى عن دائرة الحس في دار الدنيا، لم يحتجب الحق تعالى عنه في الدارين طرفة عين. فتحصل أن الأشياء كلها تُسبح من جهة معناها بلسان المقال، ومن جهة حسها بلسان الحال، وتسبيحها كما ذكرنا. ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون. وحسب من لم يصحبهم التسليم، كما قال القائل :
إذا لَمْ تَرَ الْهِلاَلَ فَسَلِّمْ | لأُناسٍ رَأَوْهُ بِالأبْصارِ |
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤/٣٣٢..
﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾ * ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيا آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾ * ﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ﴾ * ﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾ * ﴿ وَقَالُواْ أَئذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ﴾
قلت :﴿ أن يفقهوه ﴾ : مفعول من أجله، أي كراهة أن يفقهوه، و ﴿ نفورًا ﴾ : مصدر في موضع الحال.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإِذا قرأتَ القرآنَ ﴾ الناطق بالتنزيه والتسبيح، ودعوتهم إلى العمل بما فيه ؛ من التوحيد، ورفض الشرك، وغير ذلك من الشرائع، ﴿ جعلنا ﴾ بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على دواعي الحِكَمِ الخفية ﴿ بينَك وبين الذين لا يُؤمنون بالآخرة ﴾، خَصَّ الآخرة بالذكر من بين سائر ما كفروا به ؛ دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به، وتمهيدًا لما سينقل عنهم من إنكار البعث، أي : جعلنا بينك وبينهم ﴿ حجابًا ﴾ يمنعهم عن فهمه والتدبر فيه، ﴿ مستورًا ﴾ عن الحس، خفيًا، معنويًا، وهو الران الذي يَسْبَحُ على قلوبهم من الكفر، والانهماك في الغفلة. أو : ذا ستر، كقوله :
﴿ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴾ [ مريَم : ٦١ ]، أي : آتيًا، فهو ساتر لقلوبهم عن الفهم والتدبر.
﴿ وإِذ ذكرتَ ربك في القرآن وحده ﴾ أي : واحدًا غير مشفوع به آلهتهم، ﴿ وَلَّوْا على أدبارهم نُفورًا ﴾ ؛ هَرَبا من استماع التوحيد، والمعنى : وإذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى، فرَّ المشركون عن ذلك ؛ لما في ذلك من رفض آلهتهم وذمها.
قال تعالى :﴿ نحن أعلم بما يستمعون به ﴾ أي : بالأمر الذي يستمعون به ؛ من الاستهزاء، وكانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء، ﴿ وإِذْ هم نجوى ﴾ أي : ونحن أعلم بغرضهم، حين همَّ جماعة ذات نجوى، يتناجون بينهم ويخفون ذلك. ثم فسر نجواهم بقوله :﴿ إذْ يقول الظالمون ﴾، وضع الظالمين موضع الضمير ؛ للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا محض ظلم، أي : إذ يقولون :﴿ إِن تتبعون إِلا رجلاً مسحورًا ﴾ ؛ مجنونًا قد سُحر حتى زال عقله.
﴿ قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ﴾ * ﴿ أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً ﴾ * ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قلْ ﴾ يا محمد لمن أنكر البعث :﴿ كُونوا حجارة أو حديدًا أو خلقًا ﴾.
﴿ كُونوا حجارة أو حديدًا أو خلقًا ﴾ آخر ﴿ ممَا يكْبُرُ ﴾ أي : يعظم ﴿ في صدوركم ﴾ عن قبول الحياة، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة، أي : لو كنتم حجارة أو حديدًا، أو شيئًا أكبر عندكم من ذلك، وأبعد من الحياة، لقدرنا على بعثكم ؛ إذ القدرة صالحة لكل ممكن. ومعنى الأمر هنا : التقدير، وليس للتعجيز، كما قال بعضهم. انظر ابن جزي، ﴿ فسيقولون مَن يُعيدنا ﴾ إلى الحياة مرة أخرى، مع ما بيننا وبين الإعادة، من مثل هذه المباعدة ؟ ﴿ قل الذي فطركم أول مرةٍ ﴾ ولم تكونوا شيئًا ؛ لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون، ﴿ فسيُنْغِضُون ﴾ ؛ يُحركون ﴿ إِليك رؤوسَهم ﴾ ؛ تعجبًا واستهزاءً، ﴿ ويقولون ﴾ ؛ استهزاء :﴿ متى هو ﴾ أي : البعث، ﴿ قل عسى أن يكون قريبًا ﴾، فإنَّ كل ما هو آتٍ قريب.
واذكروا ﴿ يومَ يدعوكم ﴾ ؛ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل، ﴿ فتستجيبونَ ﴾ أي : فتبعثون من القبور ﴿ بحمده ﴾ ؛ بأمره، أو ملتبسين بحمده، حامدين له على كمال قدرته، عند مشاهدة آثارها، ومعاينة أحكامها، كما قيل : إنهم يقومون ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك، ﴿ وتظنون إِن لبثتم ﴾ ؛ ما لبثتم في الدنيا ﴿ إِلا قليلاً ﴾ ؛ لما ترون من الهول، أو تستقصرون مدة لبثكم في القبور، كالذي مرَّ على قرية. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ]. والله تعالى أعلم.
﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ * ﴿ أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قلْ ﴾ لهم :﴿ ادعوا الذين زعمتم ﴾ أنهم آلهة تعبدونهم ﴿ من دونه ﴾ كالملائكة والمسيح وعُزير، أو كالأصنام والأوثان، ﴿ فلا يملكون ﴾ ؛ لا يستطيعون ﴿ كشف الضر عنكم ﴾، كالمرض والفقر والقحطِ، ﴿ ولا تحويلاً ﴾ لذلك عنكم إلى غيركم.
قال تعالى :﴿ أولئك الذين يدعون ﴾ أنهم آلهة، هم في غاية الافتقار إلى الله والتوسل إليه، كلهم ﴿ يبتغون إِلى ربهم الوسيلةَ ﴾ أي : التقرب بالطاعة، ويحرصون ﴿ أيهم أقربُ ﴾ إلى الله من غيره، فكيف يكونون آلهة ؟ أو : أولئك الذين يدعونهم آلهة، يطلبون إلى ربهم الوسيلة بالطاعة، يطلبها أيهم أقرب، أي : الذي هو أقرب، فكيف بغير الأقرب ؟ ﴿ ويرجون رحمته ويخافون عذابه ﴾ كسائر العباد، فكيف يزعمون أنهم آلهة ؟ ﴿ إن عذاب ربك كان محذورًا ﴾ ؛ مخوفًا، أي : حقيقًا بأن يحذره كل أحد، حتى الرسل والملائكة. أعاذنا الله من جميعه. آمين.
﴿ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذالِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإِن من قرية ﴾ أي : أهلها، ﴿ إلا نحن مُهلكوها قبلَ يوم القيامة ﴾ ؛ بالموت والاستئصال، ﴿ أو مُعذبوها عذابًا شديدًا ﴾ ؛ بالقتل وغيره، ﴿ كان ذلك في الكتاب ﴾ ؛ في اللوح المحفوظ ﴿ مسطورًا ﴾ ؛ مكتوبًا. وقال في المستخرج : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها ؛ الصالحة بالإفناء، والطالحةُ بالبلاء، أو معذبوها بالسيف ؛ إذا ظهر فيهم الزنى والربا. ه. قال ابن جزي : رُوي أن هلاك مكة بالحبشة، والمدينة بالجوع، والكوفة بالترك، والأندلس بالخيل. ثم قال : وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطُليطلة وغيرها، فبأخذ الروم لها. ه. قلت : قد استولى العدو على الأندلس كلها فهو خرابها. أعاد الله عمارتها بالإسلام. آمين.
وقال في حُسْن المحاضرة : وأخرج الحاكم في المستدرك عن كعب قال : الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية - والجزيرة أرض بالبصرة، وموضع باليمامة، لا جزيرة الأندلس - ثم قال : ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة : والكوفة آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ولا تكون الملحمة حتى تخرب الكوفة، ولا تفتح مدينة الكفر حتى تكون الملحمة، ولا يخرج الدجال حتى تُفتح مدينة الكفر. قال : وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، وأورده القرطبي في التذكرة من حديث حذيفة مرفوعًا : يبدو الخراب في أطراف الأرض، حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة، وخراب البصرة من العراق، وخراب مصر من جفاف النيل، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع، وخراب اليمن من الجراد، وخراب الأُبُلَّةِ من الحِصار، وخراب فارس من الصعاليك، وخراب الترك من الديلم، وخراب الديلم من الأرمن، وخراب الأرمن من الخَرز، وخراب الخرز من الترك، وخراب الترك من الصواعق، وخراب السند من الهند، وخراب الهند من الصين، وخراب الصين من الرمل، وخراب الحبشة من الرجفة، وخراب العراق من القحط. ه.
قلت : وسكت عن المغرب، ولعله المعنِيُّ بقوله عليه الصلاة والسلام :" لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأتِي أمْرُ اللهِ " ١. زاد في رواية : وهم أهل المغرب، ورجحه صاحب المدخل٢، قال : لأنهم متمسكُون بالسنة أكثر من المشرق. والله تعالى أعلم بغيبه.
الإشارة : القرية محل تقرر السر، وهو القلب، فإما أن يُهلكه الله بالتلف والضلال، وإما أن يُعذبه عذابًا شديدًا ؛ بالمجاهدات والمكابدات، ثم ينعمه نعيمًا كبيرًا بالمشاهدات والمناجاة. كان ذلك في الكتاب مسطورًا، فريق في الجنة وفريق في السعير.
٢ صاحب المدخل: هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي المعروف بابن الحاج المتوفى سنة ٧٣٧، وكتابه هو "مدخل الشرع الشريف على المذاهب الأربعة" (انظر كشف الظنون٦/١٤٩)..
﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ﴾
قلت :﴿ أنْ نرسل ﴾ : مفعول " منعنا "، و﴿ إلا أن كَذَّب ﴾ : فاعل.
يقول الحق جلّ جلاله : وما صَرَفَنَا عن إرسال الآيات التي اقْتَرَحَتْهَا قريش بقولهم : اجعل لنا الصّفَا ذَهَبًا، إلا تكذيب الأولين بها، فهلكوا، وهم أمثالهم في الطبع، كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوها، فيهلكوا أمثالهم، كما مضت به سنتُنا، وقد قضينا في أزلنا ألا نستأصلهم ؛ لأن فيهم من يُؤمن، أو يلد من يؤمن.
ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال :﴿ وآتينا ثمودَ الناقةَ ﴾ بسبب سؤالهم، ﴿ مُبصرةً ﴾ ؛ بينة ذات إبصار، أو بصائر واضحة الدلالة، يُدركها كلُّ من يبصرها. ﴿ فظلموا بها ﴾ ؛ فكفروا بها، أو : فظلموا أنفسهم بسبب عقرها، فهلكوا، ﴿ وما نُرسل بالآياتِ ﴾ المقترحة ﴿ إِلا تخويفًا ﴾ من نزول العذاب المستأصِلِ، فإن لم يخافوا نزل بهم، أو : وما نرسل بالآيات غير المقترحة، كالمعجزات وآيات القرآن، إلا تخويفًا بعذاب الآخرة ؛ فإن أمر من بعث إليهم مؤخر إلى يوم القيامة. قاله البيضاوي.
قال في الحاشية : ومقتضى حديث الكسوف، وقوله فيه :" ذلك يُخوف بهما عبادة " : أن التخويف لا يختص بالخوارق، بل يعم غيرها، مما هو معتاد نفيه، ويأتي غِبا. وفي الوجيز :( بالآيات ) أي : العبر والدلالات. وفي الورتجبي : الآيات هي : الشباب والكهولة والشيبة، وتقلب الأحوال بك، لعلك تعتبر بحال، أو تتعظ بوقت. ه.
الإشارة : إمساك الكرامات عن المريد السائر أو الولي : رحمة واعتناء به، فلعله ؛ حين تظهر له، يقف معها ويستحسن حاله، أو يزكي نفسه ويرفع عنها عصا التأديب، فيقف عن السير، ويُحرم الوصول إلى غاية الكمال، وفي الحكم :" ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها، إلاّ نادته هواتف الحقيقة : الذي تطلب أمامك ". وقال الششتري رضي الله عنه :
ومهما ترى كلَّ المراتِبِ تجتلي | عليْكَ فحُلْ عنها فعَن مِثْلها حُلْنا |
وقُلْ ليْس لي في غَيْر ذاتِكَ مَطْلبٌ | فلا صورةٌ تُجْلى ولا طُرْفَةٌ تُجْنى |
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإِذْ قلنا لك ﴾ فيما أوحينا إليك ﴿ إِنَّ ربك أحَاطَ بالناس ﴾ علماً وقدرة، وأسراراً وأنواراً، كما يليق بجلاله وتجليه، فلا يختص بمكان ولا زمان، بل هو مظهر الزمان والمكان، وقد كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، ﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك ﴾ في قضية الإسراء، قال ابن عباس :" هي رؤيا عين " حيث رأى أنوار جبروته في أعلى عليين، وشاهد أسرار ذاته أريناك ذلك في ذلك المكان ﴿ إلا فتنةً للناس ﴾ ؛ اختباراً لهم، من يصدق بذلك ولا يكيف، ومن يجحده من الكفرة. ومن يقف مع ظاهره، فيقع في التجسيم والتحييز، ومن تنهضه السابقة إلى التعشق ؛ فيجاهد نفسه حتى تعرج روحه إلى عالم الملكوت، فتكاشف بإحاطة أسرار الذات بكل شيء.
وإنما خص الحق تعالى إحاطته بالناس، مع أنه محيط بكل شيء، كما في الآية الأخرى :﴿ أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ ﴾ [ فُصِّلَت : ٥٤ ] ؛ لأنهم المقصودون بالذات من هذا العالم، وما خلق إلا لأجلهم. فاكتفى بالإحاطة بهم عن إحاطته بكل شيء.
ثم قال تعالى :﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾ وهي : شجرة الزقوم، أي : ما جعلناها إلا فتنة للناس. وذلك أن قريشاً لما سمعوا أن في جهنم شجرة الزقوم، سخروا من ذلك، فافتتنوا بها، حيث أنكروها، وكفروا بالقرآن، وقالوا : كيف تكون شجرة في النار، والنار تحرق الشجر ؟ ! وقفوا مع الإلف والعادة، ولم ينفذوا إلى عموم تعلق القدرة. ومن قدر على حفظ وبر السَّمَنْدَل منها، وهو يمشي فيها، قدر على أن يخلق في النار شجرة، ولم تحرقها. وقال أبو جهل : ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد. فإن قيل : أين لُعِنت شجرة الزقوم في القرآن ؟ فالجواب : أن المراد لعنة آكلها، وقيل : إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد، وهي في أصل الجحيم.
قال تعالى :﴿ ونُخوِّفهم ﴾ بأنواع التخويف، أو بالزقوم، ﴿ فما يزيدُهُم إِلا طغيانًا كبيرًا ﴾ ؛ عنوًا مجاوزاً للحد.
الإشارة : الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. فإذا انمحت الأكوان ثبتت وحدة المكون. " كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه "، من قامت به الأشياء، وهو وجودها ونور ذاتها، ومحيط بها، كيف تحصره، أو تحيزه، أو تحول بينه وبين موجوداته ؟ قيل لسيدنا علي - كرم الله وجهه - : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين كان ربنا قبل خلق الأشياء ؟ فتغير وجهه، وسكت، ثم قال : قولكم : أين ؟ يقتضي المكان، وكان الله ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان. ه.
وقال الشيخ الشاذلي :( قيل لي : يا عليّ ؛ بي قُلْ، وعليّ دُل، وأنا الكل ). وفي الحديث :" لاَ تَسُبُّوا الدَهْرَ، فَإنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ، بِيَده الليْلُ والنَّهَار "، ولا يفهم هذا على التحقيق إلا أهل الذوق، بصحبة أهل الذوق. وإلا فسلِّم تسلم، واعتقد التنزيه وبطلان التشبيه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ﴾ * ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ * ﴿ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً ﴾ * ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾
قلت :﴿ طينًا ﴾ : منصوب على إسقاط الخافض، أو : حال من الراجع إلى الموصول.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إِذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلا إِبليسَ ﴾ امتنع، و﴿ قال أأسجدُ لمن خلقتَ طينًا ﴾ أي : من طين ؛ فهو أصله من الطين، وأنا أصلي من النار، فكيف أسجد له وأنا خير منه ؟ !
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ * ﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ * ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً ﴾ * ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾ * ﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ﴾
ثم ﴿ قال ﴾ إبليس :﴿ أَرَأيْتكَ هذا الذي كرمتَ عليَّ ﴾ أي : أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ ؛ بأمري بالسجود له، لِمَ كرمتَه عليّ ؟ ﴿ لئن أخرتنِ ﴾ أي : والله لئن أخرتنِ ﴿ إِلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنّ ﴾ ؛ لأستأصلن ؛ من احتنكت السَّنةُ أموالَهم ؛ أي : استأصلتها. أي : لأهلكن ﴿ ذريتَه ﴾ ؛ بالإغواء والإضلال، ﴿ إِلا قليلاً ﴾ ؛ أو : لأميلنهم وأَقُودَنَّهُمْ، مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد. أي : لأقودنهم إلى عصيانك، إلا قليلاً، فلا أقدر أن أقاوم شكيمتهم ؛ لمَا سبق لهم من العناية.
قال ابن عطية : وحَكَمَ إبليس على ذرية آدم بهذا الحكم ؛ من حيث رأى الخِلْقَةَ مجوفةً مختلفةَ الأجزاءِ، وما اقترن بها من الشهوات والعوارض ؛ كالغضب ونحوه، ثم استثنى القليل ؛ لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله. ه. قلت : إنما يحتاج إلى هذا : من وقف مع ظاهر الحكمة في عالم الحس، وأما من نفذ إلى شهود القدرة في عالم المعاني : فلا.
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ * ﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ * ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً ﴾ * ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾ * ﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ﴾
﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ اذهبْ ﴾ ؛ امض لما قصدته، وهو طرد وتخلية لما بينه وبين ما سولت له نفسه. ﴿ فمن تبعك منهم فإِنَّ جهنم جزاؤكم ﴾ ؛ التفت إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال : جزاؤهم، بضمير الغيبة ؛ ليرجع إلى ﴿ من تبعك ﴾، لكنه غلب المخاطب ؛ ليدخل إبليس معهم، فتُجازون على ما فعلتم ﴿ جزاء موفورًا ﴾ ؛ وافرًا مكملاً، لا نقص فيه.
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ * ﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ * ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً ﴾ * ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾ * ﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ﴾
وقال في الإحياء : قال يونس بن زيد : بلغنا أنه يُولد مع أبناء الإنس من أبناء الجن، ثم ينشأون معهم.
قال ابن عطية : وما أدخله النقَّاشُ ؛ من وطء الجن، وأنه يحبل المرأة من الإنس، فضعيف كله. ه. قال في الحاشية : وضَعْفُهُ ظاهر، والآية مشيرة لرده ؛ لأنها إنما أثبتت المشاركة في الولد، لا في الإيلاء، فإنه لم يرد، ولو قيل به لكان ذريعة لفساد كبير، ولكان شبهة يُدْرَأُ بها الحد، ولا قائل بذلك. وانظر الثعالبي الجزائري ؛ فقد ذكر حكاية في المشاركة في الوطء عمن اتفق له ذلك، فالله أعلم. وأما عكس ذلك ؛ إيلاء الإنسي الجنية، فأمر لا يحيله العقل، وقد جاء الخبر به في أمر بلقيس. قاله المحشي الفاسي.
﴿ وعِدْهُمْ ﴾ بأن لا بعث ولا حساب، أو المواعد الباطلة ؛ كشافعة الآلهة. والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة، وطول الأمل، ﴿ وما يعدُهم الشيطانُ إِلا غرورًا ﴾ وباطلاً. والغرور : تزيين الخطأ بما يُوهم أنه صواب. قاله البيضاوي.
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ * ﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ * ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً ﴾ * ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾ * ﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ﴾
ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمان، يُقلبها كيف شاء ؛ فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ؛ فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً : وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.
ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمان، يُقلبها كيف شاء ؛ فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ؛ فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً : وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.
ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمان، يُقلبها كيف شاء ؛ فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ؛ فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً : وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.
﴿ أفأمِنْتُم ﴾ أي : أنجوتم من البحر، وأمنتم ﴿ أن يَخْسف بكم جانبَ البرِّ ﴾ ؛ بأن يقلبه عليكم وأنتم عليه، أو يخسف بكم في جوفه، كما فعل بقارون، ﴿ أو يُرسلَ عليكم حاصبًا ﴾ أي : ريحًا حاصبًا، يرميكم بحصباء كقوم لوط، ﴿ ثم لا تجدوا لكم وكيلاً ﴾ ؛ حافظاً لكم منه، فإنه لا رادّ لفعله.
ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمان، يُقلبها كيف شاء ؛ فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ؛ فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً : وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.
ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمان، يُقلبها كيف شاء ؛ فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ؛ فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً : وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد كرَّمنا بني آدم ﴾ قاطبة، برهم وفاجرهم، أي : كرمناهم بالصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالكلام، والإشارة والخط، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نطاق العبارة. ومن جملته : ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه ؛ من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده، وأما القرد فيده بمنزلة رجله ؛ لأنه يطأ بها القاذورات ؛ فسقطت حرمتها.
﴿ وحملناهم ﴾ أي : بني آدم، ﴿ في البر والبحر ﴾ ؛ على الدواب والسفن ؛ فيمشون محمولين في البر والبحر. يقال : حملته حملاً : إذا جعلت له ما يركب. ﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾ ؛ من فنون النعم، وضروب المستلذات ممَّا يحصل بصُنعهم وبغير صنعهم، ﴿ وفضلناهم ﴾ بالعلوم والإدراكات، مما رَكَّبْنَا فيهم ﴿ على كثير ممن خلقنا ﴾ وهم : من عدا الملائكة - عليهم السلام -. ﴿ تفضيلاً ﴾ عظيمًا، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها، ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحَقِّيَّةِ، ويرفضوا ما هم عليه من الشرك، الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز، فضلاً عمن فُضّل على من عدا الملأ الأعلى، والمستثنى جنس الملائكة، أو الخواص منهم، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس ؛ عدم تفضيل جنس بني آدم على الملائكة، عدم تفضيل بعض أجزائه ؛ كالأنبياء والرسل، فإنهم أفضل من خواص الملائكة، وخواص الملائكة - كالمقربين مثلاً - أفضل من خواص بني آدم، كالأولياء، والأولياء أفضل من عوام الملائكة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد كرَّم الله هذا الآدمي، وشرفه على خلقه ؛ بخصائص جعلها فيه، منها : أنه جعله نسخة من الوجود، فيه ما في الوجود، وزيادة، قد انطوت فيه العوالم بأسرها، من عرشها إلى فرشها، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا، في مباحثه، حيث قال :
يا سابقًا في مَوْكب الإِبْداع | ولاحِقًا في جَيْش الاخْتِراع |
اعْقِل فَأنْتَ نُسْخَةُ الوُجُود | لله ما أعلاَك مِن مَوْجُود |
أَلَيْس فِيك العرشُ والكرسِيُّ | والعالم العُلْويُّ والسُّفْلِيُّ |
ما الكونُ إِلا رَجلٌ كبيرُ | وأنتْ كونٌ مِثْلُه صَغِيرُ |
إذا كنتَ كُرْسِيًّا وعَرْشًا وَجنَّةً | وَنارًا وأَفْلاَكًا تدَوُر وأَمْلاَكا |
وكُنْتَ من السِّرِّ المَصُون حَقِيقة | وأَدْرَكْتَ هذا بالحقِيقَةِ إِدْرَاكا |
فَفِيمَ التَّأَنِّي فِي الحَضِيضِ تثَبُّطًا | مُقِيمًا معَ الأسْرَى أمَا آن إِسْرَاكَا |
ومنها : أن جعل ذاته مشتملة على الضدين : النور والظلمة، الكثافة واللطافة، الروحانية والبشرية، الحس والمعنى، القدرة والحكمة، العبودية وأسرار الربوبية، إلى غير ذلك. ولذلك خصه بحمل الأمانة.
ومنها : أنه جعله قلب الوجود، هو المنظور إليه من هذا العالم، وهو المقصود الأعظم من إيجاد هذا الكون، فهو المنعَّم دون غيره، إن أطاع الله، ألا ترى قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ﴾ [ الزُّمَر : ٧٥ ]، فنعيم الجنان خاص بهذا الإنسان، أو : من التحق به من مؤمني الجان. وقال الورتجبي : كرامة الله تعالى لبني آدم سابقة على كون الخلق جميعًا ؛ لأنها من صفاته، واختياره، ومشيئته الأولية. أوجد الخلق برحمته، وخلق آدم وذريته بكرامته، الخلق كلهم في حيزِ الرحمة، وآدم وذريته في حيز الكرامة. الرحمة للعموم، والكرامة للخصوص. خلق الكلَّ لآدم وذريته، وخلق آدم وذريته لنفسه، ولذلك قال :﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [ طه : ٤١ ]، جعل آدم خليفته، وجعل ذريته خلفاء أبيهم، الملائكة والجن في خدمتهم، والأمر والنهي والخطاب معهم، والكتاب أُنزل إليهم، والجنة والنار والسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم، وجميع الآيات، خُلِقَ لهم. والخلق كلهم طُفيل لهم، ألا ترى الله يقول لحبيبه صلى الله عليه وسلم :" لولاك ما خلقت الكون " ؟ ولهم كرامة الظاهر، وهي : تسوية خلقهم، وظرافة صورهم، وحسن نظرتهم، وجمال وجوههم، حيث خلق فيها السمع والأبصار والألسنة، واستواء القامة، وحسن المشي، والبطش، وإسماع الكلام، والتكلم باللسان، والنظر بالبصر، وجميع ذلك ميراث فطرة آدم، التي صدرت من حسن اصطناع صورته. الذي قال :﴿ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ ص : ٧٥ ]، فنور وجوههم من معادن نور الصفة، وأنوار الصفات نوَّرت آدم وذريته، فتكون نورًا من حيث الصفات والهيئات، والحسن والجمال، متصفون متخلقون بالصفات الأزلية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :" خلَقَ آدَم على صُورَتِهِ "، من حيث التخلق لا من حيث التشبيه. انظر تمامه. والحاصل أنه فضلهم بالخلْق والخلُق، وذلك يجمع محاسن الصورة الظاهرة والباطنة. ه. قاله المحشي الفاسي.
﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ * ﴿ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر ﴿ يوم ندعو كلَّ أناس بإِمامهم ﴾ ؛ بنبيهم. فيقال : يا أُمَّةَ فلان، يا أمة فلان، احضروا للحساب. أو : بكتاب أعمالهم، فيقال : يا صاحب الخير ويا صاحب الشر، فهو مناسب لقوله :﴿ فمن أُوتي. . . ﴾ الخ.
وقال محمد بن كعب القرظي : بأسماء أمهاتهم، فيكون جمع " أم "، كخف وخفاف، لكن في الحديث :" إِنكُم تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسمَائِكُمْ وأسمَاءِ آبَائِكًمْ " ١، ولعل ما قاله القرظي مخصوص بأولاد الزنا. وفي البيضاوي : قيل : بأمهاتهم، والحكمة في ذلك : إجلال عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين، وألا يُفتضح أولاد الزنى. ه.
وقال أبو الحسن الصغير : قيل لأبي عمران : هل يدعى الناس بأمهاتهم يوم القيامة أو بآبائهم ؟ قال : قد جاء في ذلك شيء أنهم يدعون بأمهاتهم فلا يفتضحوا. وفي البخاري - باب يدعى الناس بآبائهم -، وساق حديث ابن عمر :" يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ ابنُ فُلاَن " ٢، فظاهر الحديث أنهم يدعون بآبائهم، وهو الراجح، إلا فيمن لا أب له. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى :﴿ فمن أوتي كتابه بيمينه ﴾ أي : فمن أوتي صحيفة أعماله، يومئذ، من أولئك المدعوين بيمينه ؛ إظهارًا لخطر الكتاب، وتشريفًا لصاحبه، وتبشيرًا له من أول الأمر، ﴿ فأولئك يقرؤون كتابهم ﴾ المؤتى لهم. والإشارة إلى " مَن " : باعتبار معناها ؛ لأنها واقعة على الجمع ؛ إيذانًا بأنهم حزب مجتمعون على شأنٍ جليل، وإشعارًا بأن قراءتهم لكتبهم يكون على وجه الاجتماع، لا على وجه الانفراد ؛ كما في حال الدنيا. وأتى بإشارة البعيد ؛ إشعارًا برفع درجاتهم، أي : أولئك المختصون بتلك الكرامة، التي يُشْعِرُ بها الإيتاء المذكور، يقرؤون كتابهم ﴿ ولا يُظلمون فتيلاً ﴾ ؛ ولا ينقصون من أجور أعمالهم المرسومة في صحيفتهم أدنى شيء، فإن الفتيل - وهو : قشر النواة - مَثلٌ في القلة والحقارة.
٢ أخرجه البخاري في الأدب باب ٩٩، والجزية باب ٢٢، والحيل باب ٩، والفتن باب ٢١، ومسلم في الجهاد حديث ٨، ١٠-١٧..
ثم ذكر أهل الأخذ بالشمال فقال :﴿ ومَن كان في هذه ﴾ الدنيا، التي فَعَل بهم ما فعل من فنون التكريم والتفضيل، ﴿ أعمى ﴾ ؛ فاقد البصيرة، لا يهتدي إلى رشده، ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل، فضلاً عن شكرها والقيام بحقوقها، ولا يستعمل ما أودعنا فيه ؛ من العقل والقوى، فيما خلق له من العلوم والمعارف، ﴿ فهو في الآخرة أعمى ﴾ كذلك، لا يهتدي إلى ما ينجيه مما يرديه ؛ لأن النجاة من العذاب والتنعم بأنواع النعم الأخروية مرتب على العمل في الدنيا، ومعرفة الحق، ومن عمي عنه في الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى عما ينجيه، ﴿ وأضلُّ سبيلاً ﴾ عنه ؛ لزوال الاستعداد الممكن لسلوك طريق النجاة.
وهذا بعينه هو الذي أخذ كتابه بشماله، بدلالة ما سبق من القبيل المقابل، ولعل العدول عن التصريح به إلى ذكره بهذا العنوان ؛ للإشعار بالعلة الموجبة له، فإنَّ العمى عن الحق والضلال هو السبب في الأخذ بالشمال، وهذا كقوله في الواقعة :
﴿ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الواقِعَة : ٩٢ ]، بعد قوله :﴿ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾ [ الواقِعَة : ٩٠ ]. والله تعالى أعلم.
﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ﴾ * ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ﴾ * ﴿ إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ﴾ * ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ * ﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾
قلت :﴿ وإن ﴾ : مخففة من الثقيلة في الموضعين، واسمها : ضمير الشأن، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، أي : إن الشأن قاربوا أن يفتنوك.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإِن كادُوا ﴾ أي : كفار العرب، ﴿ ليَفتنونُك عن الذي أوحينا إِليك ﴾ ؛ من أمرنا ونهينا، ووعدنا ووعيدنا، ﴿ لتفتريَ علينا غيره ﴾ ؛ لتقول ما لم أقل لك، مما اقترحوا عليك. نزلت في ثقيف، إذ قالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم : لا نَدْخُلُ في أَمْركَ حتى تُعْطِينَا خِصَالاً نَفْتَخِرُ بها على العَرَبِ : لا نُعشَّرُ، وَلا نُحشَّرُ، وَلاَ نَحْنِي في صَلاَتِنَا، وكُلُّ رِبًا لنَا فهُو لنَا، وكلُّ رِبًا عَلَيْنَا فهو مَوْضُوعٌ، وأنْ تُمَتِّعنا باللات سَنَةً، وأن تُحَرِّمَ وَادِيَنا كما حرمت مكة، فإذا قالت العَرَبُ : لِمَ فَعَلْتَ ؟ فقُل : الله أَمَرَنِي بذلك. فأبى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وخيب سعيهم. فالآية، على هذا، مدنية. وقيل : في قريش، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لا نُمكنك من استلام الحجر، حتى تلمّ بآلهتنا، وتمسّها بيدك١. وقيل : قالوا : اقبل بعض أمرنا، نقبل بعض أمرك، والآية، حينئذ، مكية كجميع السورة.
﴿ وإِذًا لاتخذوكَ خليلاً ﴾ أي : لو فعلت ما أرادوا منك لصرت لهم وليًا وحبيبًا، ولخرجت من ولايتي.
وقد أجاد القشيري في ذلك، ونصه : ضربنا عليكَ سرادقات العصمة، وآويناكَ في كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباع هواك، فالزَّلَلُ منك محال، والافتراءُ في نعتك غير موهوم، ولو جَنَحْتَ لحظةً إلى جانب الخلاف لَتَضَاعَفَتْ عليكَ شدائدُ البلاء ؛ لكمالِ قَدْرِك وعُلُوِّ شأنك ؛ فإنَّ كل مَنْ هو أعلى درجةً فَذَنْبُه - لو حصل - أشدُّ تأثيرًا. ﴿ ولولا أن ثبتناك. . . ﴾ الآية : لو وكلناك ونَفسَكَ، ورفعنا عنك ظِلَّ العصمة، لقاربت الإلمام بشيء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكِنَّا أفردناك بالحفظ، بما لا تتقاصر عنكَ آثاره، ولا تَغْرُبُ عن ساحتك أنواره. ﴿ إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وضَعْف الممات ﴾، هبوط الأكابر على قدر صعودهم. ه.
وكأن أصل الكلام : عذابًا ضعفًا في الحياة، وعذابًا ضعفًا في الممات، أي : مضاعفًا، ثم حذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، ثم أضيفت إضافة موصوفها. وقيل : الضعف من أسماء العذاب. وقيل : المراد بضعف الحياة : عذاب الآخرة ؛ لأن حياته دائمة، وبضعف الممات : عذاب القبر. ﴿ ثم لا تجدُ لك علينا نصيرًا ﴾ يدفع عنك العذاب.
﴿ سُنَّة مَن قد أرسلنا قَبلك من رُسلنا ﴾ أي : عادته تعالى : أن يُهلك من أُخْرِجَتْ رسلهم من بين أظهرهم، فقد سنَّ ذلك في خلقه، وأضافها إلى الرسل ؛ لأنها سُنت لأجلهم. ﴿ ولا تجد لسُنَّتنا تحويلاً ﴾ أي : تغييرًا وتبديلاً.
﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾ * ﴿ وَمِنَ الْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾
قلت : الدلوك : الميل. واشتقاقه من الدَّلْك ؛ لأن من نظر إليها حينئذ يدلك عينه. واللام للتأقيت بمعنى : عند. و﴿ قرآن ﴾ : عطف على ﴿ الصلاة ﴾، أو منصوب بفعل مضمر، أي : اقرأ قرآن الفجر، أو على الإغراء.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أقم الصلاةَ لدلُوكِ ﴾ أي : عند زوال ﴿ الشمس ﴾، وهو إشارة إلى إقامة الصلوات الخمس، فدلوك الشمس : زوالها ؛ وهو إشارة إلى الظهر والعصر، وغسق الليل : ظلمته، وهو إشارة إلى المغرب والعشاء، ﴿ وقرآنَ الفجر ﴾ ؛ صلاة الصبح، وإنما عبَّر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر ؛ لأن القرآن يُقرأ فيها أكثر من غيرها ؛ لأنها تُصلي بسورتين طويلتين، ثم مدحها بقوله :﴿ إِنَّ قرآن الفجر كان مشهودًا ﴾ ؛ تشهده ملائكةُ الليل وملائكة النهار، أو : يشهده الجم الغفير من المصلين، أو فيه شواهد القدرة ؛ من تبدل الظلمة بالضياء، والنوم، الذي هو أخو الموت، بالانتباه.
ثم ذكر ثوابه في حقه - عليه الصلاة والسلام - فقال :﴿ عسى أنْ يبعثك ربك مقامًا محمودًا ﴾ عندك وعند جميع الناس، وهي : الشفاعة العظمى. وفيه تهوين لمشقة قيام الليل. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" المَقَام المحمُود هُوَ المَقَامُ الذي أَشْفَعُ فِيهِ لأمَّتِي " ١. وقال ابن عباس رضي الله عنه : مقامًا محمودًا يحمده فيه الأولون والآخرون، ويشرف فيه على جميع الخلائق، يسأل فيُعطى، ويشفع فيُشَفَّع. وعن حذيفة : يُجْمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه، فأول مدعو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فيقول :" لبيك وسعديك. والشر ليس إليك، والمَهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت ". ثم يأذن له في الشفاعة. والله تعالى أعلم.
وقال ابن العربي المعافري في أحكامه : واخْتُلِفَ في وجه كون قيام الليل سببًا للمقام المحمود على قولين، فقيل : إن البارئ تعالى يجعل ما يشاء من فضله سببًا لفضله، من غير معرفة منا بوجه الحكمة.
وقيل : إن قيام الليل فيه الخلوة به تعالى، والمناجاة معه دون الناس، فيعطي الخلوة به والمناجاة في القيامة، فيكون مقامًا محمودًا، ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم. وأجلُّهم فيه ؛ درجةً : نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيعطى من المحامد ما لم يُعط قبل، ويُشَفَّع فيَشْفَع. ه. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان الفاسي : وقد يقال : إن ذلك مرتب على قوله :﴿ أقم الصلاة. . . ﴾ الآية، ولا يخص بقيام الليل، والصلاةُ، مطلقًا مفاتحةٌ للدخول على الله ومناجاةٌ له، ولذلك جاء في حديث الشفاعة افتتاحه بأن " يخر ساجدًا حامدًا، فيؤذن حينئذ بالشفاعة ". ومن تواضع رفعه الله. ه.
﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾ * ﴿ وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقل ﴾ يا محمد :﴿ ربِّ أَدْخلني ﴾ في الأمور كلها ﴿ مُدْخلَ صدقٍ ﴾ ؛ بأن أدخل فيها بك لا بنفسي، ﴿ وأَخرجني ﴾ منها ﴿ مُخرجَ صدقٍ ﴾ كذلك، مصحوبًا بالفهم عنك، والإذن منك في إدخالي وإخراجي. وقيل : أدخلني قبري مدخل صدق راضيًا مرضيًا، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، أي : إخراجًا مرضيًا مُلقى بالكرامة. فيكون تلقينًا للدعاء بما وعده من البعث، المقرون بالإقامة للمقام المحمود، التي لا كرامة فوقها. وقيل : المراد : إدخال المدينة، والإخراج من مكة. وقيل : إدخاله - عليه الصلاة والسلام - مكة ؛ ظاهرًا عليها، وإخراجه منها ؛ آمنًا من المشركين. وقيل : إدخاله الغار، وإخراجه منه سالمًا. وقيل : إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة، وإخراجه منه مؤديًا حقه. وقيل : إدخاله في كل ما يلائمه من مكان أو أمر، وإخراجه منه بالحفظ والرعاية، بحيث يدخل بالله ويخرج بالله. وهو الراجح كما قدمناه.
﴿ واجعل لي من لدنك ﴾ أي : من مستبْطَن أمورك، ﴿ سُلطانًا نصيرًا ﴾ أي حجة ظاهرة، تنصرني على من يخالفني ويعاديني، أو : عزًا ناصرًا للإسلام، مظهرًا له على الكفر. فأجيبتْ دعوته - عليه الصلاة والسلام - بقوله :﴿ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ المائدة : ٥٦ ]، ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [ التّوبَة : ٣٣ ]، ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ. . . ﴾ [ النُّور : ٥٥ ] الآية، وبقوله :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ﴾ [ الصَّافات : ١٧١، ١٧٢ ] الآية. وذلك حين يظهر الحق، ويزهق الباطل، كما قال :﴿ وقل جاء الحق ﴾.
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ﴾
قلت :﴿ من ﴾ : للبيان، قدمت على المُبيّن ؛ اعتناء، فالقرآن كله شفاء. وقيل : للتبعيض، والمعنى : أن منه ما يشفي من المرض الحسي، كالفاتحة وآية الشفاء، ومن المرض المعنوي، كآيات كثيرة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ونُنزِّلُ من القرآنِ ما هو شفاءٌ ﴾ لما في الصدور، ومن سقام الريب والجهل، وأدواء الأوهام والشكوك، ﴿ ورحمة للمؤمنين ﴾ به، العالِمين بما احتوى عليه من عجائب الأسرار وغرائب العلوم، المستعملين أفكارهم وقرائحهم في الغوص على درره ويواقيته، أي : وننزل ما هو تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم، ورفع الأوهام والشكوك عنهم، كالدواء الشافي للمرض، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" من لم يستشف بالقرآن لا شفاه الله " ١ ﴿ ولا يزيدُ الظالمين ﴾ ؛ الكافرين المكذبين، الواضعين الأشياء في غير محلها، مع كونه في نفسه شفاء من الأسقام، ﴿ إلا خسارًا ﴾ ؛ إلا هلاكًا بكفرهم وتكذيبهم به. ولا يفسر الخسران هنا بالنقصان ؛ فإن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يُعبّر عنه بالهلاك، لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام، فهم في الزيادة في مراتب الهلاك، من حيث إنهم، كلما جدّدوا الكفر والتكذيب بالآيات النازلة ازدادوا بذلك هلاكًا.
وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشُّبَه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد، بمنزلة الأمراض، وما بالكفرة ؛ من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك، وإسناد زيادة الخسران إلى القرآن، مع أنهم هم المزدادون في ذلك بسوء صنيعهم ؛ باعتبار كونه سببًا لذلك، حيث كذَّبوا به، وفيه تعجيب من أمره ؛ حيث جعله مدار الشفاء والهلاك. قاله أبو السعود.
الإشارة : لا يحصل الاستشفاء بالقرآن إلا بعد التصفية والتطهير للقلب، بالتخلية والتحلية، على يد شيخ كامل، عارف بأدواء النفوس، حتى يتفرغ القلب من الأغيار والأكدار، ويذهب عنه وساوس النفوس وخواطر القلوب ؛ ليتفرغ لسماع القرآن والتدبر في معانيه. وأما إن كان القلب محشوًا بصور الأكوان، مصروفًا إلى الخواطر والأغيار، لا يذوق له حلاوة، ولا يدري ما يقول، فلا يهتدي لما فيه من الشفاء، إذ لا يستشفي بالقرآن إلا من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولأجل ذلك كان من شأن شيوخ التربية أن يأمروا المريد بالذكر المجرد، حتى تُشرق عليه أنواره، وتذهب به عنه أغياره. وحينئذ يأمره بتلاوة القرآن ؛ ليذوق حلاوته، فإذا كمل تطهيره، تمتع بحلاوة شهود المتكلم، فيسمعه من الحق بلا واسطة، وهو المراد بالرحمة المذكورة بعد الشفاء. والله تعالى أعلم.
﴿ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً ﴾ * ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإٍذا أنعمنا على الإِنسان ﴾ : بالصحة والعافية والنعمة، ﴿ أعرضَ ﴾ عن ذكرنا، فضلاً عن القيام بالشكر، ﴿ ونَأى ﴾ أي : تباعد ﴿ بجانبه ﴾ ؛ لوى عطفه وبعد بنفسه. فالنأي بالجانب : أن يلوي عن الشيء عِطفَه ويوليه عُرض وجهه، فهو تأكيد للإعراض. أو عبارة عن التكبر ؛ لأنه من ديدن المستكبرين، ﴿ وإِذا مسَّه الشرُّ ﴾ ؛ من فقر، أو مرض، أو نازلة من النوازل، ﴿ كان يؤوسًا ﴾ ؛ شديد اليأس من روحنا وفرجنا. وفي إسناد المسِّ إلى الشر، بعد إسناد الإنعام إلى ضمير الجلالة ؛ إيذان بأن الخير مراد بالذات، والشر ليس كذلك. وهذا الوصف المذكور هنا هو وصف للإنسان باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذا الوصف، ولا ينافيه قوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ ﴾ [ فُصّلَت : ٥١ ]، ونظائره ؛ فإن ذلك في نوع آخر من جنس الإنسان. وقيل : أريد به الوليد بن المغيرة.
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك، قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب، قال عليه الصلاة والسلام :" بل نحن وأنتم ". فقالوا : ما أعجب شأنك، ساعة تقول :
﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [ البَقَرَة : ٢٦٩ ]، وتارة تقول هذا، فنزلت :
﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي ﴾ [ الكهف : ١٠٩ ] الآية. ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ. . . ﴾ [ لقمان : ٢٧ ] الآية. وهذا من ركاكة عقولهم ؛ فإن من الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية، بل ما نيط به المعاش والمعاد، وذلك بالإضافة إلى ما لا نهاية له من متعلقات علمه سبحانه، قليل ينال به خير : كثير في نفسه.
وقال ابن حجر : أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا : أخبرنا عن الروح، وكيف تُعذب الروح في الجسد، وإنما الروح من الله ؟. ه. قلت : يُجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية، وأحاطت به القهرية. وقال القشيري : أرادوا أن يُغالطُوه فيما به يجيب، فأمَرَه أن ينطق بأمرٍ يُفْصِحُ عن أقسامِ الروح، لأنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ " الروح " يدخل تحت قوله :﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾، ثم قال : وفي الجملة : الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد، ما دام الروح في جسده، والروح لطيفة تَقرب للكثافة في طهارتها ولطافتها. وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل : إن أدركها التكليف، كان للروح صفاء التسبيح، ضياء المواصلة، ويُمن التعريف بالحق. ه. وقيل : المراد بالروح خلق عظيم روحاني من أعظم الملائكة، وقيل جبريل عليه السلام، وقيل : القرآن. ومعنى ﴿ من أمر ربي ﴾ ؛ من وحيه وكلامه، لا من كلام البشر. والله تعالى أعلم بمراده.
الإشارة : قد أكثر الناسُ الكلام في شأن الروح، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى ؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يجب عنها. وبيَّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهي لم يرد عن الخوض فيها صريحًا، فتكلم على قدر فهمه.
فقال بعضهم : حقيقة الروح : جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب، وقال صاحب ( الرموز في فتح الكنوز ) على حديث :" من عرف نفسه فقد عرف ربّه ". قد ظهر لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه، وهو : أن الله، سبحانه، وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية، لطيفة لاهوتية، في كثيفة ناسوتية، دالة على وحدانيته تعالى وربانيته، ووجه الاستدلال من عشرة أوجه :
الأول : أن هذا الهيكل الإنساني لَمَّا كان مفتقرًا إلى محرك ومدبر، وهذا الروح هو الذي يدبره ويحركه، علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر. الثاني : لَمَّا كان مدبر الجسد واحدًا ؛ علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له في تدبيره وتقديره. قال تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ]، الثالث : لَمَّا كان لا يتحرك هذا الجسم إلا بتحريك الروح وإرادته ؛ علمنا أنه لا يتحرك بخير أو شر إلا بتحريك الله وقدرته وإرادته. الرابع : لَمَّا كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها، لا يخفي على الروح من حركة الجسد شيء، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. الخامس : لَمَّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء ؛ علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء، ليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد إليه من شيء، لا بمعنى قرب المسافة ؛ لأنه منزه عن ذلك. السادس : لَمَّا كان الروح موجودًا قبل الجسد، ويكون موجودًا بعد عدمه ؛ علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه، ويكون موجودًا بعد عدمهم، ما زال، ولا يزال، وتقدس عن الزوال. السابع : لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ؛ علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية. الثامن : لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ولا أينية، بل الروح موجود في سائر الجسد، ما خلا منه شيء في الجسد. كذلك الحق سبحانه موجود في كل مكان، وتنزه عن المكان والزمان التاسع : لَمَّا كان الروح في الجسد لا يحس ولا يجس ولا يُمس، علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس. العاشر : لَمَّا كان الروح في الجسد لا يُدرك بالبصر، ولا يمثل بالصور، علمنا أنه تعالى لا تُدركه الأبصار، ولا يمثل بالصور والآثار، ولا يشبه بالشموس والأقمار، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [ الشورى : ١١ ]. ه. وحديث :" من عرف نفسه. . . " الخ، قال النووي : غير ثابت، وقال السمعاني : هو من كلام يحيى بن معاذ الرازي. والله تعالى أعلم.
وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح، أمخلوقة هي ؟ قال : نعم. ولولا ذلك لما أقرت بالربوبية حتى قالت :" بلى ".
قلت : لما انفصلت عن الأصل كستها أردية العبودية، فأقرت بالربوبية. وقال الورتجبي : الروح : شعاع الحقيقة، يختلف آثارها في الأجساد. قال : ومن خاصيتها أنها تميل إلى كل حسن ومستحسن، وكل صوت طيب، وكل رائحة طيبة ؛ لحسن جوهرها وروح وجودها، ظاهرها غيب الله، وباطنها سر الله، مصورة بصورة آدم. فإذا أراد الله خلق آدمي أحضر روحه، فصور صورته بصورة الروح ؛ فلذلك قال عليه الصلاة والسلام ؛ إشارة وإبهامًا :" خلق الله آدم على صورته " ه. قلت : يعني : أن إظهار الروح من بحر الجبروت، في التجلي الأول، كان على صورة آدم، ثم خلق آدم على صورة الروح الأعظم، وهو التجلي الأول من بحر المعاني، فكانت أول التجليات من ذات الرحمان، فقال في حديث آخر :" إن الله خلق آدم على صورة الرحمان " والله تعالى أعلم. وقيل : الصوت الطيب روحاني، ولتشاكله مع الروح، صار يهيج الروح ويحثها للرجوع لأصلها، إذا كان صاحبها له ذوق سليم، يسمع من صوت طيب كريم. سمع أبو يزيد نغمة، فقال : أجد النغم نداء منه تعالى. وقيل : إن الروح لم تدخل في جسد آدم إلا بالسماع، فصارت لا تخرج من سجنه إلا بالسماع. والله تعالى أعلم.
قلت : قال ابن جزي : هذه الآية متصلة المعنى بقوله :﴿ وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ أي : في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك، فلا يبقى عندكم شيء من العلم. هـ. ﴿ إلا رحمة ﴾ : يحتمل أن يكون متصلاً، أي : لا تجد من يتوكل برده إلا رحمة ربك. أو منقطعًا، أي : لو شئنا لذهبنا بالقرآن، لكن رحمة من ربك تمسكه من الذهاب.
﴿ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا * قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولئنْ شئنا لنَذْهَبَنَّ بالذي أوْحَينا إِليك ﴾ أي : بالقرآن الذي هو منبع العلوم التي أُوتيتموها، ومقتبس الأنوار، فلا يبقى عندكم من العلم إلا قليلاً. والمراد بالإذهاب : المحو من المصاحف والصدور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه :( أول ما تفقدون من دينكم : الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وليصلين قوم ولا دين لهم. وإن هذا القرآن تصبحون يومًا وما فيكم منه شيء. فقال رجل : كيف ذلك، وقد أثبتناه في قلوبنا، ودونّاه في مصاحفنا، وعلمناه أبناءنا، وأبناؤنا يعلمه أبناءهم ؟ ! فقال : يسري عليه، ليلاً، فيُصبح الناس منه فقراء، ترفع المصاحف، وينزع ما في القلوب )١. ﴿ ثم ﴾ إن رفعناه ﴿ لا تجدُ لك به ﴾ أي : القرآن ﴿ علينا وكيلاً ﴾ أي : من يتوكل علينا استرداده مسطورًا محفوظًا.
قال القشيري : سُنَّةُ الحقِّ مع خيار خواصه ؛ أن يُدِيم هم شهود افتقارهم إليه ؛ ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين بجريانِ حُكْمِه، ثم قال : والمرادُ والمقصودُ : إدامة تَفَرُّدِ سِرِّ حبيبه به، دونَ غيره. هـ. وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون في خصوصية المعرفة بعد التمكين، إذ لا مانع لما أعطى الكريم، وإنما يكون في خصوصية التصريف وسر الأسماء، إذا كان أحدهما متمكنًا فيه، وقابل من لم يتمكن، قد ينجذب إلى القوى بإذن الله، وقد يُزال منه إذا طغى به. والله تعالى أعلم.
﴿ إلا رحمةً من ربك ﴾ ؛ فإنها إن تأتك لعلها تسترده، أو : لكن رحمة من ربك أمسكته ؛ فلم يذهب. ﴿ إِنَّ فضله كان عليك كبيرًا ﴾، كإرْسالك للناس كافة، وإنزال الكتاب عليك، وإنعامه في حفظك، وغير ذلك مما لا يحصى.
قال القشيري : سُنَّةُ الحقِّ مع خيار خواصه ؛ أن يُدِيم هم شهود افتقارهم إليه ؛ ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين بجريانِ حُكْمِه، ثم قال : والمرادُ والمقصودُ : إدامة تَفَرُّدِ سِرِّ حبيبه به، دونَ غيره. هـ. وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون في خصوصية المعرفة بعد التمكين، إذ لا مانع لما أعطى الكريم، وإنما يكون في خصوصية التصريف وسر الأسماء، إذا كان أحدهما متمكنًا فيه، وقابل من لم يتمكن، قد ينجذب إلى القوى بإذن الله، وقد يُزال منه إذا طغى به. والله تعالى أعلم.
فإن أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسألَةٍ | يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَا لي وَلاَ حَرَمُ |
قال القشيري : سُنَّةُ الحقِّ مع خيار خواصه ؛ أن يُدِيم هم شهود افتقارهم إليه ؛ ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين بجريانِ حُكْمِه، ثم قال : والمرادُ والمقصودُ : إدامة تَفَرُّدِ سِرِّ حبيبه به، دونَ غيره. هـ. وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون في خصوصية المعرفة بعد التمكين، إذ لا مانع لما أعطى الكريم، وإنما يكون في خصوصية التصريف وسر الأسماء، إذا كان أحدهما متمكنًا فيه، وقابل من لم يتمكن، قد ينجذب إلى القوى بإذن الله، وقد يُزال منه إذا طغى به. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى :﴿ ولقد صَرَّفنا ﴾ أي : كررنا ورددنا على أنحاء مختلفة، توجب زيادة تقرير وبيان، ووكادة رسوخ واطمئنان، ﴿ للناس في هذا القرآن ﴾ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة، ﴿ من كل مَثَلٍ ﴾ ؛ من كل معنى بديع، هو، في الحسن والغرابة واستجلاب الأنفس، كالمثل ؛ ليتلقوه بالقبول، أو بيَّنَّا لهم كل شيء محتاجون إليه من العلوم النافعة، والبراهين القاطعة، والحجج الواضحة. وهذا يدل على أن إعجاز القرآن هو بما فيه من المعاني والعلوم، ﴿ فَأَبَى أكثرُ الناس إِلا كُفورًا ﴾ ؛ إلا جحودًا وامتناعًا من قبوله. وفيه من المبالغة ما ليس في نفي مطلق الإيمان ؛ لأن فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور والجحود، وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء. وبالله التوفيق.
قال القشيري : سُنَّةُ الحقِّ مع خيار خواصه ؛ أن يُدِيم هم شهود افتقارهم إليه ؛ ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين بجريانِ حُكْمِه، ثم قال : والمرادُ والمقصودُ : إدامة تَفَرُّدِ سِرِّ حبيبه به، دونَ غيره. هـ. وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون في خصوصية المعرفة بعد التمكين، إذ لا مانع لما أعطى الكريم، وإنما يكون في خصوصية التصريف وسر الأسماء، إذا كان أحدهما متمكنًا فيه، وقابل من لم يتمكن، قد ينجذب إلى القوى بإذن الله، وقد يُزال منه إذا طغى به. والله تعالى أعلم.
﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾ * ﴿ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ﴾ * ﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ﴾ * ﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ * ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ * ﴿ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً ﴾ * ﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقالوا ﴾ أي : كفار قريش، عند ظهور عجزهم، ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي، وغيره من المعجزات الباهرة، معلِّلين بما لا يمكن في العادة وجوده، ولا تقتضي الحكمة وقوعه، من الأمور الخارقة للعادة، كما هو ديدن المبهوت المحجوج، قالوا للنبي - عليه الصلاة والسلام - في جمع من أشرافهم : إن مكة قليلة الماء، ففجر لنا فيها عينًا من ماء، وهو معنى قوله تعالى :﴿ لن نُؤمن لك حتى تَفْجُرَ لنا من الأرض ﴾ ؛ أرض مكة ﴿ يَنْبوعًا ﴾ ؛ عينًا لا ينشف ماؤها. وينبوع : يفعول، من نبع الماء إذا خرج.
﴿ أو تُسْقِطَ السماء كما زعمتَ علينا كِسَفًا ﴾ ؛ قطعًا متعددة، أو قطعًا واحدًا، و﴿ كما زعمت ﴾ : يعنون بذلك قوله تعالى :﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ سبأ : ٩ ]، ﴿ أو تأتي بالله والملائكة قَبيلاً ﴾ أي : مقابلاً ؛ نُعاينه جهرًا، أو ضامنًا وكفيلاً يشهد بصحة ما تدعيه.
قال تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - :﴿ قلْ ﴾ ؛ تعجبًا من شدة شكيمتهم. وفي رواية " قال " :﴿ سبحان ربي ﴾ ؛ تنزيهًا له من أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد في قدرته.
أو تنزيهًا لساحته - سبحانه - عما لا يليق بها، من مِثل هذه الاقتراحات الشنيعة، التي تكاد السماوات يتفطرن منها، أو عن طلب ذلك، تنبيهًا على بطلان ما قالوه، ﴿ هل كنتُ إِلا بشرًا ﴾ لا مَلَكًا، حتى يتصور مني الرقي في السماء ونحوه، ﴿ رسولاً ﴾ ؛ مأمورًا من قِبل ربي بتبليغ الرسالة، كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم، حسبما يلائم حال قومهم، ولم يكن أمر الآيات إليهم، ولا لهم أن يتحكموا على ربهم بشيء منها.
﴿ وما مَنَعَ الناسَ ﴾ أي : الذين حكِيتْ أباطيلهم، ﴿ أنْ يُؤمنوا إِذ جاءهم الهُدى ﴾ أي : الوحي، وهو ظرف لمنع، أو يؤمنوا، أي : وما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك، ﴿ إلا أن قالوا ﴾ أي : إلا قولهم :﴿ أَبَعثَ اللهُ بشرًا رسولاً ﴾، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر. وليس المراد أن هذا القول صدر من بعضهم ؛ فمنع بعضًا آخر منهم، بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل، المستتبع بهذا المقول منهم. وإنما عبَّر عنه بالقول ؛ إيذانًا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير روية، ولا مصداق له في الخارج. وقصر المانع من الإيمان فيما ذكر، مع أن لهم موانع شتى، إما لأنه معظمها، أو لأنه المانع بحسب الحال، أعني : عند سماع الجواب بقوله تعالى :﴿ هل كنتُ إِلا بشرًا رسولاً ﴾ ؛ إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ، من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية.
﴿ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ * ﴿ ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ﴾
قلت :﴿ على وجوههم ﴾ : حال من ضمير " نحشرهم ". و﴿ عُميًا ﴾ الخ : حال أيضًا من ضمير " وجوههم ". و﴿ مأواهم ﴾ : استئناف، وكذا :﴿ كلما ﴾ الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومَن يَهدِ اللهُ ﴾ إلى الحق الذي جاء من قبله على أيدي الرسل، ﴿ فهو المهتد ﴾ إليه، وإلى ما يؤدي إليه من الثواب، أو فهو المهتدي إلى كل مطلوب، ﴿ ومن يُضلل ﴾ أي : يخلق فيه الضلال، كهؤلاء المعاندين، ﴿ فلن تجد لهم أولياء من دونه ﴾ ينصرونهم من عذابه، أو يُهدونهم إلى طريقه، ويُوصلونهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية. ووحد الضمير أولاً في قوله :﴿ فهو المهتد ﴾ : مراعاة للفظ " من "، وجمع ثانيًا في ﴿ لهم ﴾ ؛ مراعاة لمعناها : تلويحًا بوحدة طريق الحق، وتعدد طرق الضلال.
﴿ ونحشرُهم ﴾، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم ؛ إيذانًا بكمال الاعتناء بأمر الحشر، أي : ونسوقهم ﴿ يوم القيامة على وجوههم ﴾ أي : كابين عليها ؛ سَحْبًا، كقوله :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ﴾ [ القمر : ٤٨ ]، أو : مشيًا إلى المحشر بعد القيام، فقد رُوي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يمشون على وجوههم ؟ قال :" الذِي أمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ " ١ حال كونهم ﴿ عُمْيًا وبُكمًا وصُمًّا ﴾ ؛ لا يُبصرون ما يقر أعينهم، ولا ينطقون بما يُقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، لمَّا كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر، ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه. ويجوز أن يُحشروا، بعد الحساب، من الموقف إلى النار، مَؤُوفي٢ القوى والحواس. وأن يُحشروا كذلك، ثم تعاد إليهم قواهم وحواسهم، فإنَّ إدراكاتهم بهذه المشاعر في بعض المواطن مما لا ريب فيه.
﴿ مأواهم جهنم ﴾ ؛ هي مسكنهم، ﴿ كلما خَبَتْ ﴾ ؛ خمدت ﴿ زدناهم سعيرًا ﴾ ؛ توقدًا، أي : كلما سكن لهبها، وأكلت جلودهم ولحومهم، ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه، زدناهم توقدًا ؛ بأن بدلناهم جلودًا غيرها فعادت ملتهبة ومسعرة.
٢ مؤوف: من الآفة، وهي العاهة..
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً ﴾ * ﴿ قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً ﴾
قلت :﴿ وجعل ﴾ : عطف على " قادر " ؛ لأنه في قوة قدر، أو استئناف.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أوَ لم يَروا ﴾ أي : أوَ لم يتفكروا ولم يعلموا ﴿ أنَّ الله الذي خلق السماواتِ والأرضَ ﴾ من غير مادة، مع عِظمها، ﴿ قادرٌ على أن يخلق مثلهم ﴾ في الصِّغر والحقارة. على أن المثل مقحم، أي : على أن يخلقهم خلقًا جديدًا ؛ فإنهم ليسوا أشد خلقًا منهم، ولا الإعادة بأصعب من الإبداء، ﴿ وجعل لهم ﴾ أي : لموتهم وبعثهم ﴿ أجلاً ﴾ محققًا ﴿ لا ريب فيه ﴾ وهو : القيامة. ﴿ فأبى الظالمون إِلا كفورًا ﴾ ؛ إلا جحودًا، وضع الظاهر موضع الضمير ؛ تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه.
لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْني ***. . .
وفائدة ذلك الحذف والتفسير ؛ للدلالة على الاختصاص والمبالغة. وقيل في إعرابه غير هذا.
﴿ قلْ ﴾ لهم :﴿ لو أنتم تملكونَ خزائنَ رحمةِ ربي ﴾ ؛ خزائن رزقه وسائر نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات، ﴿ إِذًا لأمْسَكْتُم ﴾ ؛ لبخلتم، ﴿ خشيةَ الإِنفاق ﴾ ؛ مخافة النفاد بالإِنفاق، إذ ليس في الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه، ولو آثر غيره بشيء فإنما يُؤثره لغرض يفوقه، فهو إذًا بخيل بالإضافة إلى وجود الله سبحانه، إلا من تخلق بخلق الرحمان ؛ من الأنبياء وأكابر الصوفية. ﴿ وكان الإِنسانُ قَتورًا ﴾ ؛ مبالغًا في البخل ؛ لأن مبني أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه، وملاحظة العوض فيما يبذل. يعني : أن طبع الإنسان ومنتهى نظره : أن الأشياء تتناهى وتفنى، وهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر، وكذلك يظن أن قدرة الله تقف دون البعث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى، فهو يخترع من الخلق ما يشاء، ويخترع من الأرزاق ما يريد، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته. وبهذا النظر تتصل الآية بما قبلها. انظر ابن عطية.
قلت : ويمكن أن تتصل في المعنى بقوله :﴿ أَبعثَ اللهُ بشرًا رسولاً ﴾، فكأنَّ الحق تعالى يقول لهم : لو كانت بيدكم خزائن رحمته، لخصصتم بالنبوة من تريدون، لكن ليست بيدكم، ولو كانت بيدكم ؛ تقديرًا، لأمسكتم خشية الإنفاق ؛ لأن طبع الإنسان البخل وخوف الفقر، فهو كقوله تعالى :﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴾ [ ص : ٩ ]، بعد قوله :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ ص : ٤ ]. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يا مُوسَى مَسْحُوراً ﴾ * ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يا فِرْعَونُ مَثْبُوراً ﴾ * ﴿ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً ﴾ * ﴿ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ﴾
و﴿ إذا جاءهم ﴾ : إما متعلق بآياتنا، أو بقلنا محذوف.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بيناتٍ ﴾ ؛ واضحات الدلالة على نبوته، وصحة ما جاء به من عند الله. وهي : العصا، واليد، والجراد، والقُمل، والضفادع، والدم، والطوفان، والسنون، ونقص الثمرات. وقيل : انفجار الماء من الحجر، ونتق الطور، وانفلاق البحر، بدل الثلاث. وفيه نظر ؛ فإن هذه الثلاث لم تكن لفرعون، وإنما كانت بعد خروج سيدنا موسى عليه السلام. وعن صفوان بْن عسال : أن يهوديًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال :" ألاَّ تُشْرِكُوا به شَيْئًا، ولا تَسْرقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا النَّفس التِي حَرَّم اللهُ إلاَّ بالحَقِّ، ولا تَسْحُروا، ولا تأكُلُوا الرِّبَا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سُلْطَانٍ ليَقْتُلَهُ، ولا تَقذفُوا المُحْصَنَة، ولا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وعليكم، خاصَّة اليهود، ألاَّ تَعْدُوا في السَّبْتِ ". فقبَّل اليهوديُ يَدَه ورجْلَه - عليه الصلاة والسلام١.
قلت : ولعل الحق تعالى أظهر لهم تسعًا، وكلفهم بتسع، شكرًا لما أظهر لهم، فأخبر - عليه الصلاة والسلام - السائل عما كلفهم به ؛ لأنه أهم، وسكت عما أظهر لهم ؛ لأنه معلوم. وإنما قبَّل السائلُ يده ؛ لموافقته لما في التوراة، وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي، وقوله عليه الصلاة والسلام :" وعليكم، خاصة اليهود، ألا تعدوا "، حكم مستأنف زائد على الجواب، ولذلك غيَّر فيه سياق الكلام.
قال تعالى :﴿ فسلْ بني إسرائيل ﴾ أي : سل، يا محمد، بني إسرائيل المعاصرين لك عما ذكرنا من قصة موسى ؛ لتزداد يقينا وطمأنينة، أو : ليظهر صدقك لعامة الناس، أو : قلنا لموسى : سل بني إسرائيل مِن فرعون، أي : اطلبهم منه ؛ ليرسلَهم معك، أو سل بني إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك. ويؤيد هذا : قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم " فَسَال " ؛ على صيغة الماضي، بغير همز، وهي لغة قريش. ﴿ إِذْ جاءهم ﴾ أي : آتينا موسى تسع آيات حين جاءهم بالرسالة، أو قلنا له : سل بني إسرائيل حين جاءهم بالوحي. ﴿ فقال له فرعونُ ﴾ حين أظهر له ما آتيناه من الآيات، وبلغة ما أرسل به :﴿ إِني لأظنك يا موسى مسحورًا ﴾ أي : سُحرت فتخبط عقلك.
﴿ قال ﴾ له موسى :﴿ لقد علمتَ ﴾ يا فرعون، ﴿ ما أنزل هؤلاء ﴾ الآيات التي ظهرت على يدي ﴿ إِلا ربُّ السماوات والأرض ﴾ ؛ خالقهما ومدبرهما، ولا يقدر عليها غيره، حال كونها ﴿ بصائرَ ﴾ ؛ بينات تبصرك صدقي، ولكنك تعاند وتكابر، وقد استيقنتها أنفسكم، فجحدتم ؛ ظلمًا وعلوًا، ﴿ وإِني لأظنك يا فرعونُ مثبورًا ﴾ أي : مهلكًا مقطوعًا دابرك، أو مغلوبًا مقهورًا، أو مصروفًا عن الخير.
قابل موسى عليه السلام قول فرعون :﴿ إِني لأظنك يا موسى مسحورًا ﴾ بقوله :﴿ وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا ﴾ ؛ وشتان ما بين الظنين ؛ ظنُّ فرعون إفك مبين، وظن موسى حق اليقين ؛ لأنه بوحي من رب العالمين، أو من تظاهر أماراته.
﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ * ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ * ﴿ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ﴾ * ﴿ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ * ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ﴾
قلت : تقديم المعمول، هو ﴿ بالحق ﴾ : يُؤذن بالحصر. و﴿ قرآنًا ﴾ : مفعول بمحذوف يُفسره ما بعده.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن القرآن :﴿ وبالحقِّ أنزلناه وبالحق نَزَل ﴾ أي : ما أنزلنا القرآن إلا ملتبسًا بالحق، المقتضي لإنزاله، وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه من الأمر والنهي، والمعنى : أنزلناه حقًا مشتملاً على الحق. أو : ما أنزلناه من السماء إلا محفوظًا بالرصَد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظًا من تخليط الشياطين. ولعل المراد : عدم اعتراء البطلان له أولاً وآخرًا. ﴿ وما أرسلناك إِلا مبشرًا ﴾ للمطيعين بالثواب، ﴿ ونذيرًا ﴾ للعاصين بالعقاب، وهو تحقيق لحقية بعثه - عليه الصلاة والسلام - إثر تحقيق حقية إنزال القرآن.
﴿ وقرآنًا فَرَقْنَاهُ ﴾ أي : أنزلناه مفرقًا منجمًا في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين. قال القشيري : فرَق القرآن ؛ ليهون حفظه، ويكثر تردد الرسول عليه من ربه، وليكون نزوله في كل وقت، وفي كل حادثة وواقعة ؛ دليلاً على أنه ليس مما أعانه عليه غيره. ه. ﴿ لتقرأه على الناس على مُكْثٍ ﴾ ؛ على مهلٍ وتؤدة وتثبتٍ ؛ فإنه أيسر للحفظ، وأعون على الفهم، ﴿ ونزلناه تنزيلاً ﴾ على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، والحوادث الواقعة.
﴿ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً ﴾ قلت :" أي " شرطية، و﴿ ما ﴾ : زائدة ؛ تأكيدًا لما في " أيًّا " من الإبهام، وتقدير المضاف : أيَّ الأسماء تدعو به فأنت مُصيب.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قُلْ ﴾ يا ممد للمؤمنين :﴿ ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾ ؛ نادوه بأيهما شئتم، أو سموه بأيهما أردتم. والمراد : إما التسوية بين اللفظين ؛ فإنهما عبارتان عن ذاتِ واحد، وإن اختلف الاعتبار، والتوحيد إنما هو للذات، الذي هو المعبود بالحق، وإما أنهما سيان في حسن الإطلاق والوصول إلى المقصود، فلذلك قال :﴿ أَيَّا مَا تدعو ﴾ ؛ أيَّ اسم تدعو به تصب، ﴿ فله الأسماءُ الحسنى ﴾ فيكون الجواب محذوفًا، دلَّ عليه الكلام. وقيل : التقدير أيًّا ما تدعو به فهو حسن، فوضع موضعه :﴿ فله الأسماء الحسنى ﴾ ؛ للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه ؛ إذ حسن جميع الأسماء يستدعي حسن ذَيْنِك الاسمين، وكونها حسنى ؛ لدلالتها على صفات الكمال من الجلال والجمال ؛ إذ كلها راجعة إلى حسن ذاتها، وكمالها ؛ جمالاً وجلالاً.
قال في شرح المواقف : ورد في الصحيحين :" إنَّ للهِ تِسْعَةً وتَسْعِينَ اسْمًا، مائةً إلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ " ١، وليس فيها تعيين تلك الأسماء. لكن الترمذي والبيهقي عيَّناها. وهي الطريقة المشهورة، ورواية الترمذي :" الله الذي لا إله إلا هو، الرحمان، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ المصور، الغفار القهار، الوهاب الرزاق، الفتاح العليم، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، السميع البصير، الحكم العدل، اللطيف الخبير، الحليم العظيم، الغفور الشكور، العلي الكبير، الحفيظ المقيت، الحسيب الجليل، الكريم الرقيب، المجيب، الواسع الحكيم، الودود المجيد، الباعث الشهيد، الحق الوكيل، القوي المتين، الولي الحميد، المحصي المبدئ المعيد، المحيي المميت، الحي القيوم، الواجد الماجد، الواحد، الأحد الصمد، القادر المقتدر، المقدم المؤخر، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الوالي المتعالي، البر التواب، المنتقم العفو الرؤوف، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، المقسط الجامع، الغني المغني المانع، الضار النافع، النور الهادي، البديع الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور " ٢.
وقد ورد التوقيف بغيرها، أمَّا في القرآن ؛ فكالمولى، والنصير والغالب، والقاهر والقريب، والرب والأعلى، والناصر والأكرم، وأحسن الخالقين، وأرحم الراحمين، وذي الطول، وذي القوة، وذي المعارج، وغير ذلك. وأما في الحديث، فكالمنان، والحنان، وقد ورد في رواية ابن ماجة٣ أسماء ليست في الرواية المشهورة ؛ كالقائم، والقديم، والوتر، والشديد، والكافي، وغيرها.
وإحصاؤها : إما حفظها ؛ لأنه إما يحصل بتكرار مجموعها وتعدادها مرارًا، وإما ضبطها ؛ حصرًا وعلمًا وإيمانًا وقيامًا بحقوقها، وإما تعلقًا وتخلقًا وتحققًا. وقد ذكرنا في شرح الفاتحة الكبير كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها. وفي ابن حجر : أن أسماء الله مائة، استأثر الله بواحد، وهو الاسم الأعظم، فلم يُطلع عليه أحدًا، فكأنه قيل : مائة لكن واحد منها عند الله. وقال غيره : ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيًا، بل هو الجلالة. وممن جزم بذلك البيهقي، فقال : الأسماء الحسنى مائة، على عدد درجات الجنة، والذي يكمل المائة :" الله "، ويؤيده قوله تعالى :﴿ وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى ﴾ [ الأعرَاف : ١٨٠ ]. فالتسعة والتسعون لله ؛ فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة. ه.
قلت : ولعله ذكر اسمًا آخر يكمل التسعة والتسعين. وإلا فهو مذكور في الرواية المتقدمة من التسعة والتسعين. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تجهرْ ﴾ بقراءة صلاتك، بحيث تُسمع المشركين، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها، ﴿ ولا تُخافت ﴾ أي : تُسر ﴿ بها ﴾ ؛ حتى لا تُسمع من خلفك من المؤمنين، ﴿ وابتغ بين ذلك سبيلاً ﴾ ؛ واطلب بين المخافتة والإجهار طريقًا قصدًا، فإنَّ خير الأمور أوسطها. والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه طريق يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدون ليوصلهم إلى المطلوب. رُوي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت، ويقول : أُنَاجِي ربِّي، وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي. وعُمَرُ رضي الله عنه كان يجهر، ويقول : أطردُ الشَّيْطَانَ وأُوقِظُ الوَسْنَانَ. فلما نزلت، أَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بَكْرٍ أَنْ يَجْهَر قليلاً، وعمر أن يَخْفِض قليلاً٤.
وقيل : المعنى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ كلها، ﴿ ولا تُخافت بها ﴾ بأسرها، ﴿ وابتغِ بين ذلك سبيلاً ﴾ ؛ بالمخافتة نهارًا والجهر ليلاً. وقيل :﴿ بصلاتك ﴾ ؛ بدعائك. وذهب قوم إلى أنها منسوخة ؛ لزوال علة السب واللغو ؛ بإظهار الدين وإخفاء الشرك وبطلانه ؛ فالحمد لله على ذلك كما قال تعالى :﴿ وقل الحمدُ لله الذي لم يتخذ ولدًا ﴾.
الإشارة :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان ﴾، قال الورتجبي : إن الله سبحانه دعا عباده إلى معرفة الاسمين الخاصين، الذين فيهما أسرار جميع الأسماء والصفات والذات، والنعوت والأفعال ؛ فالله اسمُهُ، وهو اسمُ عَيْنِ جَمْعِ الجَمعِ، والرحمن اسم عين الجمع ؛ فالرحمان مندرج تحت اسمه :" الله " ؛ لأَنه عين الكل، وإذا قلت : الله ؛ ذكرت عين الكل. ثم قال : وإذا قال " الله " ؛ يفنى الكل، وإذا قال :" الرحمان " ؛ يبقى الكل، من حيث الاتصاف والاتحاد، فالاتصاف بالرحمانية يكون، والاتحاد بالألوهية يكون. ثم قال : عن الأستاذ : من عظيم نعمه سبحانه على أوليائه : أنه يُنزههم بأسرارهم في رياض ذكره ؛ بتعداد أسمائه الحسنى، فيتنقلون من روضة إلى روضة، ومن مأنس إلى مأنس، ويقال : الأغنياء تنزههم في بساتينهم، وتنزههم في منابت رياحِينهم. والفقراء تنزههم في مشاهد تسبيحهم، ويستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله. ه. قلت : والعارفون تنزههم في مشاهدة أسرار محبوبهم، وما يكشف لهم من روض جماله وجلاله. وبالله التوفيق.
﴿ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ﴾ [ طه : ١٠٨ ]. وأما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه بالإجهار قليلاً، وعمر بالخفض قليلاً ؛ فإخراج لهم عن مرادهم ؛ تربيةً لهم. وختم السورة بآية العز ؛ إشارة إلى أن من أسرى بروحه، أو بجسده إلى الملأ الأعلى كان عاقبته العز والرفعة في الدارين.
٢ أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٨٣..
٣ كتاب الدعاء باب ١٠..
٤ أخرجه أبو داود في التطوع باب ٢٥، والترمذي في المواقيت باب ٢١٢..
﴿ وقل الحمدُ لله الذي لم يتخذ ولدًا ﴾ كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مدلج ؛ حيث قالوا : عُزير ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله. تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، ﴿ ولم يكن له شريك في الملك ﴾ ؛ في الألوهية ؛ كما تقول الثنوية القائلون بتعدد الآلهة. ﴿ ولم يكن له وَلِيٌّ من الذُّلِّ ﴾ أي : لم يكن له ناصر ينصره ﴿ من الذُّل ﴾ أي : لم يذل فيحتاج إلى ولي يُواليه ؛ ليدفع ذلك عنه. وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة ؛ إيذان بأن المستحق للحمد من هذه نعوته، دون غيره ؛ إذ بذلك يتم الكمال، وما عداه ناقص حقير، ولذلك عطف عليه :﴿ وكبِّره تكبيرًا ﴾ عظيمًا، وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك. رُوي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علَّمه هذه الآية :( وقل الحمد لله. . . ) الخ. والله تعالى أعلم.
﴿ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ﴾ [ طه : ١٠٨ ]. وأما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه بالإجهار قليلاً، وعمر بالخفض قليلاً ؛ فإخراج لهم عن مرادهم ؛ تربيةً لهم. وختم السورة بآية العز ؛ إشارة إلى أن من أسرى بروحه، أو بجسده إلى الملأ الأعلى كان عاقبته العز والرفعة في الدارين.