تفسير سورة الإسراء

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
بين يدي السورة
وحدة الرسالات
سورة الإسراء في جملتها تدور حول الرسول والرسالة فتبدأ بالحديث عن الإسراء بدايته ونهايته وغايته وهذا هو العنوان الذي تندرج تحته موضوعات السورة وكلها موضوعات لها أوجه مناسبة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
فقد تحدثت عن بني إسرائيل بمناسبة الحديث عن الإسراء إلى بيت المقدس، وكان اليهود يعيرون النبي بأنه لم يذهب إلى بيت المقدس مع أن الرسل السابقين قد ذهبت إليه وولدت حوله وهبط عليهم الوحي في معبده ويعيرون بأنه ليس من سلسلة الأنبياء، فقد اختص الله إبراهيم بأن جعله أبا للأنبياء والمرسلين وجعل الرسالة كلها في عقبه بيد أن جميع المرسلين كانوا من نسل ولده إسحاق، ثم يعقوب الملقب بإسرائيل وقد أنجب يعقوب اثني عشر سبطا لقبوا بالأسباط١، وكان من نسلهم جميع أنبياء بني إسرائيل.
أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فكان وحده من نسل إسماعيل بن إبراهيم، وقد جعل الله الإسراء إلى بيت المقدس ؛ ليكون بمثابة تدشين لنبوته ثم جعله يصلي إماما بالأنبياء ؛ ليكون هذا اعترافا بأنه أهل الرسالة، وتشير بعض الآيات في القرآن إلى هذا المعنى٢.
وصلاة النبي بالأنبياء تشير إلى وحدة الرسالات والنبوات وأنها جميعا من عند الله وأن الأنبياء والمرسلين أرسلوا من أجل هداية الناس ودعوتهم إلى التوحيد وإرشادهم إلى الفضائل وتحذيرهم من الرذائل، فالغاية من الرسالة واحدة والهدف واحد وإن اختلفت الوسائل باختلاف الشعوب وطبائعها، فمن الأنبياء من حارب رذائل معينة انتشرت بين قومه كتطفيف الكيل الذي جاء به شعيب، والمثلية الجنسية التي حاربها لوط، ولكن الأنبياء في الأساس العام دعاة إلى توحيد الله وهداة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، ولذلك تلتقي الديانات على فكرة التوحيد وحسن السلوك، وفي سورة الأعراف نجد آيات متلاحقة تتحدث عن رسالة كل نبي وتتشابه جميعها في أنها تبدأ أولا بالدعوة إلى توحيد الله. قال تعالى :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قومي اعبدوا الله ما لكم من إله غيره... ﴾ ( الأعراف : ٥٩ ).
﴿ و إلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره... ﴾ ( الأعراف : ٦٥ )
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره... ﴾ ( الأعراف ٧٣ )
فالرسالات متحدة في الأساس العام وهو التوحيد.
ومتخصصة في الفروع التي تعالجها والمشاكل التي تقدم حلولها وبعبارة أخرى : الغاية واحدة والوسيلة مختلفة.
وقد ذكر السيد رشيد رضا في تفسير المنار٣ : أن تعدد الرسل يشبه دولة أو جمهورية لها رئيس يحكمها بقانون عام، وللرئيس نواب عنه يحكمون المحافظات فكل محافظ يتفق مع الآخر في الأساس العام للحكم ويختلف عنه باختلاف طبيعة الأقاليم فلمحافظة السويس أو البحر الأحمر أو الوادي الجديد مثلا تشريعات خاصة بها، ولكنها تلتقي مع بقية المحافظات في احترام الأساس العام للحكم وتنفيذ دستور الدولة وطاعة رئيسها.
وكذلك الرسل، الإله الذي أرسلهم إله واحد لا شريك له والدعوة التي أرسلوا بها دعوة واحدة في روحها وهدفها. ولكن الوسيلة لتهذيب السلوك تختلف من نبي إلى آخر ومن شعب لآخر.
ونجد نصوص القرآن والسنة تؤكد هذا المعنى وتأيده. فالقرآن يقول :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده... ﴾
ولذلك نجد المسلم يؤمن بالرسالات كلها وبالرسل والكتب الصحيحة التي أنزلها الله :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴾. ( البقرة : ١٣٦ ).
وفي الصحيحين٤ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يقولون لو وضعت هذه اللبنة فأنا هذه اللبنة وأنا خاتم الرسل ).
ويروي البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الأنبياء أخوات لعلات٥ أمهاتهم شتى ودينهم واحد )٦.
وأبناء العلات هم أبناء الضرائر يكون أبوهم رجلا واحدا وأمهاتهم متعددات، فكذلك الرسل ربهم الذي أرسلهم إله واحد ورسالاتهم متعددة بتعدد بلادهم.
وقريب من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).
وفي هذه الوحدة رد على اليهود الذين ادعوا أنهم شعب الله المختار وأن الرسالة لا تكون إلا فيهم وأنهم أبناء الله وأم من عداهم لا يصح أن يكون رسولا.
فالله هو الذي خلق الخلق وهو يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، والرسالة منة إلهية يعطيها الله من يشاء من عباده.
بل إن الرسل أنفسهم فضل الله بعضهم على بعض فجعل منهم أولي العزم، الذين تحملوا البلاء أكثر من غيرهم.
قال تعالى :﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ﴾. ( البقرة ٢٥٣ ).
وقال سبحانه :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾. ( الأحقاف : ٣٥ ).
وأولوا العزم من الرسل خمسة هم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.
وسموا بأولي العزم لتحملهم من البلاء والجهاد والكفاح أكثر مما تحمله سواهم، ومن قواعد الإيمان أن تؤمن بالله ربا وخالقا، وأن تؤمن بأن الله أرسل رسلا لهداية الناس :﴿ رسلا مبشّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ ( النساء : ١٦٥ ).
وهؤلاء الرسل كثرة كثيرة في تاريخ البشرية الطويل، وهم علامات مضيئة وشارات ترشد البشرية، ولا يعلم عددهم إلا الله، قال تعالى :{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.. ( غافر : ٧٨ ).
وقد ورد ذكر كثير من الرسل في القرآن الكريم، قال تعالى :﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم. ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين. وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ﴾. ( الأنعام : ٨٣-٨٦ ).
بين موسى ومحمد :
كان موسى رسول بني إسماعيل وصاحب الثورات والألواح وصاحب الشريعة التي أرسل على أساسها عيسى، فلم يأتي عيسى بشرع جديد، بل كان في دعوته تابعا لتعاليم الثورات وغاية فكرته أن صاح صيحات متتابعة يدعوهم فيها إلى صدق الإيمان والإخلاص ويبعدهم عن حب المادة ويسموا بهم إلى الروحانية الخالصة.
ولذلك يقول عيسى : ما جئت لأنقض الناموس بل لأجدده، وقال القرآن على لسان الجن :﴿ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ﴾. ( الأحقاف : ٣٠ ).
وفي البخاري يقول ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى٧.
فموسى صاحب دين ينتظم القوانين المدنية والشرائع الدينية، أما عيسى فجاء بفكرة إصلاحية روحية فقط. وقد عادت الكنيسة في الغرب إلى هذه الحدود الدينية وحدها. أما شريعة اليهود فهي شريعة متكاملة ولا ينافسها إلا الإسلام لأنه هو الدين الوحيد الذي يناظر اليهودية في اشتماله على منهج ونظام مدني وديني. وقد استقبل الأنبياء والمرسلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ورحبوا به وقال له كل نبي : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح وهذا دليل على أن الأنبياء والمرسلين إخوة في المهمة التي كلفوا بها والدعوة التي وقفوا حياتهم من أجلها.
استقبل النبي صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم، وقد بكى موسى عند وداع النبي صلى الله عليه وسلم له، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا موسى ؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث من بعدي سيدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي. وهو بكاء الغبطة لا بكاء الحسد، ولعل موسى قد تذكر أنه طلب رؤية الله فلم يجب إلى ذلك قال تعالى :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين. ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني... ﴾ ( الأعراف : ١٤٢، ١٤٣ ).
ثم إن موسى رأى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، يأخذ ليلا ويركب البراق وجبريل في الركاب ويصلي إماما بالأنبياء ويصعد في السماوات العلا ويرى من فضل الله ما يرى وتحوطه عناية الله وفضل الله ويرى الجنة ونعيمها ويرى الملأ الأعلى يخصونه بالسلام والتحية. وتلك كلها خصائص اختص الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام.
وحين فرض الله على النبي صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة رجع إلى الهبوط، فمر بموسى في السماء السادسة، فقال له : ماذا أعطاك ربك ؟ قال : خمسين صلاة، فقال له موسى : ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، وإني جاهدت بني إسرائيل قبلك. وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فسأله التخفيف، فحط عنه عشر صلوات، فلما رجع إلى موسى، قال له : ارع إلى ربك فاسأله التخفيف، وتكررت توصية موسى للنبي صلى الله عليه وسلم مرارا حتى أصبحت خمس صلوات، ثم قال الله له :﴿ يا محمد، هي خمس في العمل، وخمسون في الثواب، والحسنة بعشر أمثالها، لا يبدل القول لدي، وما أنا بظلام للعبيد ﴾. وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى موسى فقال له : ماذا أعطاك ربك ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات، فقال له موسى : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضي وأسلم.
ومن هذا الحديث نعرف ما بين الأنبياء من صلات ووشائج ونلمس رحمة موسى بالأمة المحمدية.
وقد نقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبرته في جهاد بني إسرائيل. ولذلك قال عليه الصلاة والسلم :( كان موسى خيرهم لي حين رجعت إليه ). وفي رواية :( فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم ).
وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول صلى الله عليه وسلم الأخير لمقدسات الرسل قبله واشتمال رسالته على هذه المقدسات وارتباط رسالته بها جميعا، فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وأسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبييين عليه الصلاة والسلام.
تعريف بسورة الإسراء
هي سورة مكية نزلت في السنة الحادية عشرة للبعثة قبل الهجرة بسنة. وتسمى سورة الإسراء نظرا لذكر الإسراء في صدرها، كما تسمى سورة بني إسرائيل للحديث عنهم وعن إفسادهم في الأرض وعقوبة الله لهم على هذا الفساد.
وعدد آياتها ١١١ آية وهي مكية اتفاقا إلا الآيات : ٢٦، ٣٢، ٥٧، ومن آية ٧٣، إلى ٨٠ فمدنية، وقد نزلت بعد القصص، فهي من أواخر ما نزل بمكة وقد تميزت آياتها بالطول النسبي وبسط الفكرة والدعوة إلى الآداب ومكارم الأخلاق على حين تجد الآيات المكية التي نزلت في أوائل البعثة تتميز بقصر الفواصل، ومراعاة السجع، والدعوة إلى التوحيد، وسوق الأدلة على الإيمان بالله، والآيات المدنية تتميز بالطول، وبيان أحكام التشريع، ونظام العبادات، والمعامل
١ جاء في المصباح المنير: (السبط) ولد الولد والجمع: أسباط مثل حمل وأحمال ('والسبط) الفريق من اليهود يقال للعرب: قبائل، ولليهود: أسباط. ١ هـ. وهؤلاء الأسباط هم إخوة يوسف، وقد حكى القرآن أن يوسف رأى في منامه أحد عشرة كوكبا والشمس والقمر يسجدون له، وقد تحققت رؤيا يوسف حين أصبح وزيرا لمصر ودخل إخوته عليه وسجدوا له مع والديه..
٢ - قال تعالى: ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين﴾ (آل عمران: ٨١).
.

٣ - انظر تفسيره للآية (٨١) من سورة آل عمران. والآيات التي تتحدث عن الرسل والأنبياء.
.

٤ - إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا:
رواه البخاري في المناقب (٣٥٣٥، ٣٥٣٤) ومسلم في الفضائل (٢٢٨٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه مسلم قال: إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة- قال- فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)..

٥ - العلة: الضرة، العلات: الضرائر..
٦ - الأنبياء أولاد علات:
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (٣٤٤٣، ٣٤٤٢) ومسلم في الفضائل (٢٣٦٥) وأبو داود في السنة (٢٧٢٤٠، ٢٧) من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي)..

٧ - هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى:
هذا اللفظ جزء من حديث طويل رواه البخاري (٤٩٥٥، ٤٩٥٦، ٣) ومسلم في كتاب الإيمان حديث رقم (٢٣٣، ٢٣١)، الترمذي في كتاب المناقب حديث رقم (٣٥٦٦)، وأحمد في مسنده (٦٤٧٦، ٦٤٦٨١، ٦٤٠٤٦، ١٤٥٠٢).
.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، لنريه، من آياتنا إنه، هو السميع البصير ( ١ ) ﴾
المفردات :
سبحان : اسم فعل لتسبيح الله١ وتنزيهه، فمعنى سبحان الله : أسبح الله سبحانه التقديس والتنزيه على السوء من الذات والصفات والأفعال والأسماء والأحكام أي ما أبعد الذي له هذه الصفات عن جميع النقائص.
أسرى : سار في الليل٢ ومعنى أسرى به صيره ساريا.
ليلا : أي في جزء من الليل، أو في ساعات منه٣.
من المسجد الحرام : أي : ابتداء الإسراء المسجد الحرام وسمي حراما لتحريم القتل والعدوان فيه، حتى لو وجد فيه قاتل أبيه حرم عليه قتله داخل المسجد لقوله : ومن دخله كان آمنا.
إلى المسجد الأقصى : هو بيت المقدس وسمي الأقصى ؛ لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام.
الذي باركنا حوله : بارك الله حوله بركات مادية ومعنوية وأحاطه ببركات الدنيا والدين، فجعل حوله الأشجار والثمار وجعله متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي ومسرى محمد صلى الله عليه وسلم.
لنريه من آياتنا : فيها بيان لحكمة الإسراء، وقد رأى النبي من آيات الله ودلائل قدرته الكثير ورأى صورا وأشكالا جسمت فيها المعاني بصورة ملموسة محسوسة.
كما رأى الملائكة تعبد الله على أشكال شتى منها القائم، والراكع، والساجد، ورأى الأنبياء والمرسلين، ورأى الجنة والنار.
وكان لدى النبي صلى الله عليه وسلم من الصفاء والنقاء والطهر ما جعله أهلا لأن يرى آيات الله في هذا الكون وأن يتفتح قلبه الشريف ليحيط بأسرار الكون ونظمه وليرى العالم العلوي وملائكة السماء، وهناك فرض الله عليه الصلاة تحية خالدة لهذا اللقاء الكريم.
إنه هو السميع البصير : السميع بدعاء محمد صلى الله عليه وسلم، البصير بما أصابه من أذى المشركين وهو يسمع ويرى ما لطف دق وخفا عن الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار.
التفسير :
١- { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير.
تحدثت الآية على تنزيه الله أن يكون له صاحبة أو ولد وبينت أن الإسراء بعبد من عبيد الله اختاره واصطفاه، وأن العبودية كلما تحقق مضمونها من الخضوع والخشوع والإخلاص لله سما صاحبها وزاد قدره وكان الإسراء من أول بيت وضع للناس، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث كانت الرسل تتعبد وحيث اعترفت له الأنبياء بالرسالة، وحيث صعد من هذا المكان الطاهر إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى إلى جنة المأوى، ولم يتحول بصره يمينا ولا شمالا ولا تجاوز الطريق المرسوم، بل كان في سمت النبيين وأمانة الصديقين وسمو المرسلين.
١- المعراج :
المعراج والمصعد والمرقى كلها بمعنى واحد تدل على الصعود والارتقاء ومعراج الرسول صلى الله عليه وسلم هو صعوده إلى السماوات العلا، حيث لقي من فضل الله الكثير ورأى من آيات ربه الكبرى.
وكان الإسراء والمعراج في ليلة واحدة، الإسراء رحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والمعراج رحلة سماوية إلى الملإ الأعلى. وقد تحدثت سورة النجم عن المعراج في قوله تعالى :﴿ والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى. ﴾ ( النجم : ١-١٨ ).
٢- تاريخ الإسراء :
وقع الإسراء في السنة الحادية عشرة للبعثة، قبل الهجرة بسنة٤ أو قبلها بسنة وشهرين.
وكان المشركون قد أمعنوا في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وبالغوا في تعذيب المسلمين حتى اضطروهم للهجرة إلى الحبشة مرتين، ولما يئس النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ذهب إلى الطائف وبها قبائل ثقيف فدعاهم للإسلام ورغبهم في الإيمان، وكان يأمل أن يجيبوه إلى دعوته، ولكنهم ردوه أسوأ رد وأرصدوا له الغلمان يرجمونه بالحجارة، حتى دميت قدماه الشريفتان، وقد أغمى على النبي من شدة الإيذاء٥، فلما أفاق وجد نفسه مكذبا في قومه مضطهدا في مكة معذبا في الطائف وحيدا غريبا، فمد يده إلى الله سبحانه قائلا :
( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب العالمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلا من تكلني، إلى عدو يتجهمني أو بعيد ملكته أمري، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخر أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى. عافيتك هي أوسع لي إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ).
وقد جاءه جبريل وقال : يا محمد هذا ملك الجبال، وإن الله أمره أن يطيعك في قومك بسبب ما فعلوه بك، فئن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين ( جبلين بمكة )، فعل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا تفعل إني لأرجو أن يخرج من ظهورهم من يعبد الله. اللهم اهد قومي فهم لا يعلمون.
فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : صدق من سماك الرءوف الرحيم.
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة حزينا كئيبا ولم يستطع دخولها إلا في جوار المطعم بن عدي.
٣- ما قبل الإسراء :
كانت الفترة التي سبقت الإسراء من أقسى الفترات على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وكان الامتحان قاسيا، يواجه المؤمنين كل يوم بفتنة ومحنة ويستنصر المؤمنون رسول الله قائلين : ألا تعدوا الله لنا، ألا تستنزل غضبه على عدونا، فيجيبهم بأن طريق الدعوة طريق وعر وصعب، وأن على المؤمن أن يتحمل البلاء في ذات الله، ويصبح فيهم :( والله لقد كان يؤتى بالرجل فيمن قبلكم فيشق بالمنشار من مفرق رأسه إلى قدميه فما يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده ليتمن الله ذلك الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ).
كان فضل الله على المؤمنين في هذه الفترة المؤلمة ؛ أن أعطى نبيه عليه السلام معجزة إلهية كبرى ؛ ليرى عوالم أخرى وليصعد في السماء ؛ وليرى من فضل الله ونعمه الكثير ثم يعود بالصلاة صلة بين المؤمنين وربهم فهي العون للمؤمن في رحلة الحياة وهي الملجأ والملاذ إلى الله وهي فترة المناجاة والمناداة فيها تسمو الروح وتطهر النفس ويناجي العبد إلها سميعا بصيرا مجيبا.
٤- الإسراء في ضوء العلم :
وردت قصة الإسراء والمعراج في كتب السنة الصحاح وسرت بين الأمة سريانا مستفيضا ووعتها بطون الكتب وتحدث بها الرواة حتى نقلها من أعاظم الرجال خمسة وأربعون صحابيا بطرق شتى وأخذها جيل عن جيل في تواتر وإجماع.
وأمر في جملته خاضع لقدرة الله التي لا تقف أمامها حدود وهو معجزة لرسول الله. والمعجزة : أمر خارق للعادة يظهره الله على يد مدعي الرسالة تصديقا له في دعواه، وليس فيما كشفه العلم من قوانين الجذب العام ونظام الأفلاك ومسابح النجوم وعناصر الكواكب ونواميس الحركة وطبقات الهواء وتحديد الحركات ومعايير السرعة- ليس في ذلك كله وما يتصل به- ما يقف أمام الإسراء والمعراج.
فقد ثبت أن نجم المشتري يجري بسرعة ثلاثين ألف ميل في الساعة فيجري تسعة أميال كلما تنفس الإنسان. والمشتري أكبر من أرضنا بألف وأربعمائة مرة. وأن الله الذي جعل هذا الجسم الكثيف الهائل يقطع الأبعاد الشاسعة في لحظات لا يبعد عليه أن يسري بنبيه الكريم من مكة إلى بيت المقدس على مقتضى ناموس لا نعرفه، وإن كان الوجود يشتمل عليه، ما دام العلم قد أثبت سرعة عجيبة لأجرام كثيفة.
وإننا نشهد كل يوم كشفا عن ناموس، وأبطالا لناموس، حتى لقد صرح بعض علماء الغرب بأن أخوف ما نخافه أن ما نفاخر به اليوم من العلوم يصبح بعد مائة سنة باطلا منسوخا.
ويؤثر لرئيس مجمع ترقي العلوم بجامعة كمبردج سنة ١٨٥٤م أن كنه المادة غير معروف، وأن منتهى علمها مبتدأ جهلها.
ونحن إذا طوينا القرون القهقري فرجعنا إلى ما قبل اليوم منذ قرنين اثنين، أفكنا نحسب موجات الأثير وعدسات التيلفزيون والتلستار تنقل صوت الإنسان وصورته إلى الأبعاد الشاسعة والأقطار النائية ؟
إن الإنسان قد أخذه العجب العجاب عند اختراع الطائرة العادية، ثم الطائرة النفاثة والأطباق الطائرة، والأقمار الصناعية.
وكان وصول الإنسان إلى القمر أخيرا خبرا مذهلا أخذ على الناس في كل أصقاع الدنيا لبهم واستولى على اهتمامهم، وذلك كله مما يقرب في ذهن الإنسان سهولة الإسراء والمعراج خاصة وأنهما يقعان في دائرة القدرة الإلهية التي يخضع لها كل شيء في عالم السماوات والأرض والهواء والفضاء، قال تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ ( الزمر : ٦٧ ).
٥-أحاديث الإسراء :
هذه جملة من الأحاديث النبوية الشريفة ترسم سورة الإسراء وتحكي قصته ومشاهداته بروايات متعددة.
( أ )
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أتيت بالبراق، وهو دابة بيضاء، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته، فسار بي، حتى أتيت بيت المقدس فربطت الدابة في الحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل عليه السلام : أصبت الفطرة، فقال : ثم عرج بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل له : من أنت ؟ قال جبريل : قيل : ومن معك ؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي الخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه، ففتح لنا فإذا بابني الخالة يحيى وعيسى، فرحبا بي، ودعوا لي الخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل. فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه، ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن. فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل. فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل. فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحب بي ودعا لي الجير.
يقول الله تعالى :﴿ ورفعناه مكانا عليا ﴾ ( مريم : ٥٧ ).
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل. فقيل له : من أنت ؟ قال جبريل. فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد. فقيل : قد أرسل إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون، فرحب بي ودعا لي الخير.
ثم عرج بنا على السماء السادسة، فاستفتح جبريل. فقيل له : من أنت ؟ قال جبريل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمد، فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : ق
١ - وهو منصوب على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره: أسبح الله سبحانه..
٢ - وهو فعل لازم تعدى بالباء ومصدره الإسراء، ومعنى أسرى وسرى واحد ولكن مصدر أسرى الإسراء ومصدر سرى: السري بوزن الهدى..
٣ ﴿ليلا﴾: منصوب على الظرفية وفي تنكيره تقليل مدة الإسراء؛ لأن التنكير فيه معنى البعضية أي: في بعض الليل، ويظهر ذلك فيقولك: سريت الليل، وسرت ليلا أو أرقت الليل وأرقت ليلا..
٤ - تفسير مقاتل بن سليمان..
٥ البخاري، وقد ورد في أن عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد ما لقيه من التكذيب فقال لها: لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيته من أهل عبد ياليل بالطائف..
﴿ وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتّخذوا من دوني وكيلا ( ٢ ) ذرّية من حملنا مع نوح إنّه كان عبدا شكورا ( ٣ ) ﴾
المفردات :
الكتاب : التوراة.
وجعلناه هدى لبني إسرائيل : جعلنا التوراة مصدر هداية لهم تخرجهم من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان.
ألاّ تتخذوا : مفسرة معناها : أي : لا تتخذوا، كقولك : كتبت إليه : أن أفعل كذا، أو زائدة والقول مضمر تقديره قلنا لهم : لا تتخذوا.
من دوني وكيلا : أي : معبودا تكلون إليه أموركم ؛ لأنه تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له.
ذرية من حملنا مع نوح : نصب على الاختصاص أو النداء وفيه تهييج وتنبيه على المنة والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة وإيماء إلى علة النهي، كأنه قال : لا تشركوا، فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد وأنتم ضعفاء محتاجون إلى لطفه، وفي التعبير بالذرية الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء مناسبة تامة لما ذكر.
إنه كان عبدا شكورا : أي : لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي، قال مقاتل : وكان من شكره أنه كان يذكر الله عز وجل حين يأكل ويشرب، ويحمده على كل نعمه، ويذكر الله حين يقوم أو يقعد أو يلبس ثوبا جديدا، أو ينام أو يستيقظ، ويذكر الله جل ثناء بكل خطوة وبكل عمل يعمله ؛ فسماه الله عبدا شكورا.
التفسير :
٣، ٢- ﴿ وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألاّ تتّخذوا من دوني وكيلا. ذرية من حملنا مع نوح إنّه كان عبدا شكورا ﴾.
المعنى الإجمالي :
ذكر الله : إسراء محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وبمناسبة الحديث عن بيت المقدس ذكر ما أنعم الله
به على بني إسرائيل ؛ فقد أعطاهم التوراة فيها هدى ونورا.
وأمرهم أن يخلصوا له العبادة وأن يفوضوا له الأمور، وأن يتوكلوا عليه وحده، ولا يتخذوا وكيلا سواه، فهذا هو الهدى وهذا هو الإيمان.
ثم ذكرهم بنعمة الله عليهم في الماضي ؛ استمالة لهم وتهييجا لإيمانهم ؛ فهم من ذرية نوح الذين نجاهم الله في السفينة ؛ لإيمانهم وأغرق من عداهم من الكافرون، وخاطبهم الله بهذا السبب ؛ ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين، مع نوح العبد الشكور، وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق.
تنبيهات :
١- لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى : إكرامه محمدا صلى الله عليه وسلم بالإسراء ذكر في هذه الآية : أنه أكرم موسى قبله بالتوراة وجعلها مصدر هداية.
٢- قال الله عن محمد أسرى بعبده وقال عن نوح ﴿ إنه كان عبدا شكورا ﴾، وبذلك تلتقي وحدة الرسالات ووحدة الرسل في مقام العبودية الحقة لله.
قال ابن القيم في ( طريق الهجرتين ) :
أكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :( اللهم، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك ). ١ ه.
وكلما زاد العبد ذلا لربه وإمعانا في عبادته والالتجاء إليه، زاد عزة ورفعة بالإيمان والاعتماد على الله، وفي الحديث :( احفظ الله ؛ يحفظك، احفظ الله ؛ تجده تجاهك، وإذا سألت ؛ فاسأل الله، وإذا استعنت ؛ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.. جفت الأقلام وطويت الصحف ).
٣- قال تعالى عن نوح :﴿ إنه كان عبدا شكورا ﴾. وورد : أن نوحا كان يشكر الله على كل حال ويروى من شكره :
أنه كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني. وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأني، وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني، ولو شاء أعراني، وإذا قضى حاجته، قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية.
وورد في كتب السنة : أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله عند كل نعمة ويتعجب من فضل الله عند كل مشهد أو منظر مثير، فورد أنه كان يذكر الله عند الصباح إذا أسفر، وعند المساء إذا أقبل، ويذكر الله إذا تقدم للطعام، وإذا شبع وإذا اكتسى، وإذا نام وإذا استيقظ، وإذا سافر وإذا عاد من السفر، وهذا دليل على الأخوة النفسية للأنبياء فهم عبيد مخلصون لله، وهم شاكرون لأنعم الله.
٤- حفلت كتب السنة بهدى النبي محمد صلى الله عليه وسلم في يومه وليلته، ومن دعائه عن الأكل :( اللهم، بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار باسم الله ) وعند أكل الفاكهة ( اللهم، اجعلها نعمة دائمة تصلنا بها إلى نعمة الجنة ) وإذا أتم الأكل قال :( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ). وإذا لبس ثوبا قال :( الحمد لله الذي أكساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في الناس ) أو قال :( الحمد لله الذي كساني هذا من غير حول مني ولا قوة ). وكان إذا خرج من بيت الخلاء يقول :( غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى على ما ينفعني ).
ويكاد دعاء نوح ومحمد أن يكونا متقاربين في الاعتراف لله بفضله وشكره على نعمه، صحيح أن الأسلوب مختلف، ولكن الفكرة والمعنى متقاربان.
٥- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد النوم قال :( باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت روحي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها فيما تحفظ به عبادك الصالحين ) ١.
وكان إذا أرق من الليل يقول :( اللهم غالت النجوم، ونامت العيون وبقيت أنت يا حي يا قيوم، أرح ليلي وأنم عيني )٢.
وكان إذا استيقظ يقول :( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور )٣.
وإذا رأى الصباح يقول :( أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله لا شريك له لا إله إلا هو وإليه النشور )٤.
وإذا خرج للسفر يقول :( اللهم، لك انتشرت ولك سرت وبك آمنت وعليك توكلت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت )٥.
وإذا عاد من السفر يقول :( تائبون آيبون حامدونا لربنا شاكرون )٦.
وكلها أدعية تحقق معنى العبودية لله والشكر له، فكما أن نوحا عليه السلام كان عبدا شكورا، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم كان عبدا شكورا، والأنبياء إخوة في طريق الدعوة إلى الله.
١ - باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه:
رواه البخاري في الدعوات (٦٣٢٠) وفي التوحيد (٧٣٩٣) ومسلم في الذكر (٢٧١٤) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)..

٢ - اللهم غارت النجوم وهدأت العيون:
قال الهيثمي فى المجمع: عن زيد بن ثابت قال: أصابني أرق من الليل فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (قل: اللهم، غارت النجوم وهدأت العيون وأنت حي يا قيوم أنم ليلي وأهدئ ليلي) فقلتها فذهب عني. وقال: رواه الطبراني وفيه عمرو بن الحصين العقبلي وهو متروك. وذكر مالك في الموطإ كتاب النداء للصلاة فقال: وحدثني عن مالك أنهم بلغهم أن أبا الدرداء كان يقوم من جوف الليل فيقول: نامت العيون وغارت النجوم وأنت الحي القيوم. فذكره هكذا من أبي الدرداء. وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على من وصله، ولا أسنده لبن عبد البر مع تتبعه لذلك... ألخ. الفتوحات الربانية ١٧٧/٣..

٣ - الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا:
رواه البخاري في الدعوات (٦٣٢٤، ٦٣١٤، ٦٣١٢) والترمذي في الدعوات (٣٤١٧) وأحمد في مسنده (٢٢٧٦٠) من حديث حذيفة بن اليمان قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: (باسمك أموت وأحيى) وإذا قام قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور). ورواه البخاري في الدعوات (٦٣٢٥) من حديث أبي ذر رضي الله عنهم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل قال (اللهم باسمك أموت وأحيى) فإذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)..

٤ - أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله:
رواه مسلم في الذكر (٢٧٢٣) وأبو داود في الأدب (٥٠٧١) والترمذي في الدعوات (٣٣٩٠) وأحمد في مسنده (٤١٨١) من حديث عبد الله بن مسعود قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: (أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له) قال: أراه قال فيهن: (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رب، أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها وأعود بك من شر ما في هذه الليلة وما بعدها، رب، أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر. رب، أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر) وإذا أصبح قال: ذلك أيضا: أصبحنا وأصبح الملك لله..

٥ - اللهم لك انتشرت وإليك توجهت:
ذكر الهندي في الكنز (١٧٦٣٦) فقال: عن أنس قال: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا قط إلا قال: حين ينهض من جلوسه: (اللهم، لك انتشرت وإليك توجهت وبك اعتصمت. اللهم، أنت ثقتي وأنت رجائي. اللهم، اكفني ما أهمني وما لا أهتم له وما أنت أعلم به. اللهم، زودني التقوى واغفر لي ووجهني للخير أينما توجهت) ثم يخرج. ونسبة لابن جرير..

٦ - آيبون إنشاء الله تائبون عابدون حامدون:
رواه البخاري في كتاب الحج (١٧٩٧)، وفي الجهاد (٣٠٤٨، ٢٩٩٥) وفي المغازي (٤١١٦) وفي الدعوات (٦٣٨٥)، والمسلم في كتاب الحج (١٣٤٤، ١٣٤٢) والترمذي في كتاب الحج (٩٥٠)، وفي الدعوات (٣٤٤٧) وأبو داود في كتاب الجهاد (٢٧٧، ٢٥٩٩) وأحمد (٦٣٣٨، ٦٢٧٥، ٥٧٩٦، ٥٢٧٣، ٤٩٤٠، ٤٧٠٣، ٤٦٢٢، ٤٥٥٥، ٤٨٨٢) مالك في الحج (٩٦٠) والدارمي في الاستئذان (٢٦٨٢) من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل كبر ثلاثا وقال: (آيبون إنشاء الله تائبون عائدون حامدون لربنا ساجدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده)..

فساد بني إسرائيل في الأرض
﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلنّ علوّا كبيرا ( ٤ ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( ٥ ) ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( ٦ ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبّروا ما علوا تتبيرا ( ٧ ) عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( ٨ ) ﴾
المفردات :
قضينا : أعلمنا بالوحي.
الكتاب : التوراة.
لتعلن : لتستكبرن عن طاعة الله.
التفسير :
﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولَتعلُنّ علوّا كبيرا ﴾.
أوحينا إلى بني إسرائيل فيما أنزلناه في التوراة على موسى، فأعلمهم به : لتعصن الله ولتخالفن أمره مرتين، ولتستعلن على الناس استعلاء عظيما ؛ يؤذي بكم إلى الخسران والدمار.
وكان من مظاهر إفسادهم في الأرض : تحريفهم للتوراة، وتركهم العمل بما فيه من أحكام، وقتلهم الأنبياء، واعتداؤهم على الذين يأمرون بالقسط من الناس، وشيوع الفواحش والرذائل فيهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خلاصة الآيات ما يأتي :

‍١-
أخبر الله : أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين، وهذا الفساد معناه : طغيان وعدوان منهم على عباد الله وخروجهم على الطريق القويم.
‌‌‌‌٢- أخبر الله عنهم : أنهم لما طغوا وبغوا : سلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٣-
بعد الانتقام الأول عادوا إلى طريق الجادة فانتصروا على أعدائهم، لكنهم لم يلبثوا أن عادوا للفساد فحق عليهم وعيد الله.

٤-
سلط الله عليهم في المرة الثانية من أذلهم، وهدم هيكلهم، وهدم المسجد الأقصى، وقضى عليهم وعلى ملكهم.

٥-
ذكر الله : أنه يشملهم برحمته إذا تابوا إليه، فإن عادوا للفساد ؛ عاد الله عليهم بالعقاب.

٦-
كثر عدد اليهود بعد الإفساد الأول والثاني وعقوبتهما، وأعزهم الله بعد الذل وأعطاهم المال والجاه.

٧-
أرسل الله محمدا نبيا رسولا يعرفون صفته في التوراة، ولكنهم كذبوه وغدروا به ؛ فسلط الله عليهم المسلمين ؛ فحاصروهم وقاتلوهم، وفرضوا عليهم الجزية، ثم أخرجوهم من بلاد العرب.

٨-
استمرت حياة اليهود بين مد وجزر فكلما أرخى الله لهم الحبل ومُتّعوا بالنعمة ؛ أسرفوا في استغلال النعمة وفي الفساد ؛ فسلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٩-
كان آخر إفساد لهم سيطرتهم على فلسطين سنة ١٩٤٨، وابتلاع مساحات من البلاد العربية في سنة ١٩٦٧.

١٠-
الأمل في الله أن يهييء لهم من ينتقم منهم وأن يتكاتف العرب والمسلمون ؛ ليثأروا لأنفسهم ولدينهم وأوطانهم.

المفردات :
الوعد : الموعود به، وهو العقاب، أي فإذا جاء وعد عقاب أولاهما.
البأس والبأساء والبؤس : الشدة والمكروه، إلا أن البأس والبأساء كثر استعمالهما في النكاية بالعدو، والبؤس كثر استعماله في الفقر والحرب.
جاسوا : ترددوا للغارة.
خلال الديار : أوسطها وفرجها.
التفسير :
٥- ﴿ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ﴾.
فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود ؛ سلطنا عليكم ؛ لمؤاخذتكم بجنايتكم عبادا لنا أصحاب قوة وبطش شديد في الحروب، وهم : سنحاريب ملك الموصل وجنوده، أو بختنصر البابلي، أو جالوت أو غيرهم.
وقد أوغل الغزاة في بلاد اليهود وترددوا بين الدور والمساكن للقتل والسلب والنهب وقتلوا علماءهم وكبراءهم وأحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وسبوا منهم عددا كثيرا، وكان ذلك وعدا مفعولا نافذا لا مرد له.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خلاصة الآيات ما يأتي :

‍١-
أخبر الله : أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين، وهذا الفساد معناه : طغيان وعدوان منهم على عباد الله وخروجهم على الطريق القويم.
‌‌‌‌٢- أخبر الله عنهم : أنهم لما طغوا وبغوا : سلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٣-
بعد الانتقام الأول عادوا إلى طريق الجادة فانتصروا على أعدائهم، لكنهم لم يلبثوا أن عادوا للفساد فحق عليهم وعيد الله.

٤-
سلط الله عليهم في المرة الثانية من أذلهم، وهدم هيكلهم، وهدم المسجد الأقصى، وقضى عليهم وعلى ملكهم.

٥-
ذكر الله : أنه يشملهم برحمته إذا تابوا إليه، فإن عادوا للفساد ؛ عاد الله عليهم بالعقاب.

٦-
كثر عدد اليهود بعد الإفساد الأول والثاني وعقوبتهما، وأعزهم الله بعد الذل وأعطاهم المال والجاه.

٧-
أرسل الله محمدا نبيا رسولا يعرفون صفته في التوراة، ولكنهم كذبوه وغدروا به ؛ فسلط الله عليهم المسلمين ؛ فحاصروهم وقاتلوهم، وفرضوا عليهم الجزية، ثم أخرجوهم من بلاد العرب.

٨-
استمرت حياة اليهود بين مد وجزر فكلما أرخى الله لهم الحبل ومُتّعوا بالنعمة ؛ أسرفوا في استغلال النعمة وفي الفساد ؛ فسلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٩-
كان آخر إفساد لهم سيطرتهم على فلسطين سنة ١٩٤٨، وابتلاع مساحات من البلاد العربية في سنة ١٩٦٧.

١٠-
الأمل في الله أن يهييء لهم من ينتقم منهم وأن يتكاتف العرب والمسلمون ؛ ليثأروا لأنفسهم ولدينهم وأوطانهم.

المفردات :
الكرة : الدولة والغلبة.
نفيرا : النفير والنافر ؛ من ينفر مع الرجل من قومه وأهل بيته.
التفسير :
٦- ﴿ ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ﴾.
ثم أعدنا لكم- يا بني إسرائيل- الدولة والغلبة على الذين قهروكم وأذلوكم حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلو فغزوتم البابليين أو قهرتم أعداءكم واستنفدتم الأسرى والأموال ورجع الملك إليكم وكثرت أموالكم بعد أن نهبت، وأولادكم بعد أن سبيت وصرتم أكثر عددا وأعظم قوة مما كنتم من قبل وذلك بفضل طاعته تعالى والرجوع إليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خلاصة الآيات ما يأتي :

‍١-
أخبر الله : أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين، وهذا الفساد معناه : طغيان وعدوان منهم على عباد الله وخروجهم على الطريق القويم.
‌‌‌‌٢- أخبر الله عنهم : أنهم لما طغوا وبغوا : سلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٣-
بعد الانتقام الأول عادوا إلى طريق الجادة فانتصروا على أعدائهم، لكنهم لم يلبثوا أن عادوا للفساد فحق عليهم وعيد الله.

٤-
سلط الله عليهم في المرة الثانية من أذلهم، وهدم هيكلهم، وهدم المسجد الأقصى، وقضى عليهم وعلى ملكهم.

٥-
ذكر الله : أنه يشملهم برحمته إذا تابوا إليه، فإن عادوا للفساد ؛ عاد الله عليهم بالعقاب.

٦-
كثر عدد اليهود بعد الإفساد الأول والثاني وعقوبتهما، وأعزهم الله بعد الذل وأعطاهم المال والجاه.

٧-
أرسل الله محمدا نبيا رسولا يعرفون صفته في التوراة، ولكنهم كذبوه وغدروا به ؛ فسلط الله عليهم المسلمين ؛ فحاصروهم وقاتلوهم، وفرضوا عليهم الجزية، ثم أخرجوهم من بلاد العرب.

٨-
استمرت حياة اليهود بين مد وجزر فكلما أرخى الله لهم الحبل ومُتّعوا بالنعمة ؛ أسرفوا في استغلال النعمة وفي الفساد ؛ فسلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٩-
كان آخر إفساد لهم سيطرتهم على فلسطين سنة ١٩٤٨، وابتلاع مساحات من البلاد العربية في سنة ١٩٦٧.

١٠-
الأمل في الله أن يهييء لهم من ينتقم منهم وأن يتكاتف العرب والمسلمون ؛ ليثأروا لأنفسهم ولدينهم وأوطانهم.

المفردات :
تتبيرا :١ مصدر تبر تتبيرا، والتتبير : الإهلاك، وهي كلمة نبطية كما روي عن سعيد بن جبير وكل شيء كسرته وفتّته فقد تبرته، وليتبروا ما علوا تتبيرا وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه وظفروا به تدميرا شديدا٢.
التفسير :
٧- ﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها... ﴾ الآية.
أي : إن أحسنتم فأطعتم الله ولزمتم أمره أحسنتم لأنفسكم ؛ لأنكم تنفعونها بذلك في دنياها وآخرتها.
فقد جعل الله الجزاء الحق من جنس العمل ووعد المؤمنين العاملين بالنصر والتأييد، كما وعد المفسدين بالعقاب والتأديب.
تلك قاعدة لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة، وهي تجعل عمل الإنسان كله له بكل ثماره ونتائجه، وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل، منه تنتج وبه تتكيف، وتجعل الإنسان مسئولا عن نفسه إن شاء أحسن إليها وإن شاء أساء لا يلومنّ إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء.
فإذا تقررت هذه القاعدة، مضى السياق يكلم النبوءة الصادقة.
﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوههم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ﴾.
لقد فهم اليهود من السياق : أن اليهود أفسدوا مرتين فسلط الله عليهم في المرة الأولى من انتقم منهم، ثم أعاد لليهود دولتهم وملكهم ولم يذكر هنا ما صنع اليهود بعد أن رد الله لهم الكرة على أعدائهم اكتفاء بما علم من طبعهم أنهم كلما استعلوا في الأرض بغوا وأفسدوا، وبما ذكره القرآن من قبل :﴿ لتفسدون في الأرض مرتين ﴾، ثم أثبت ما يسلكه الله عليهم في المرة الآخرة فقال :
﴿ فإذا جاء وعد الآخرة٣ ليسوءوا وجوههم ﴾.
أي : فإذا جاء وقت عقوبتكم- يا بني إسرائيل- على المرة الآخرة من مرتي إفسادكم في الأرض بعثنا أعداءكم ؛ ليجدوا آثار المساءة بادية في وجوهكم بما يرتكبونه معكم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى تفيض على الوجوه، أو ما يجبهون به وجوهكم من مساءة وإذلال. ويستبيحون المقدسات ويستهينون بها : وليدخلوا المسجد. قاهرين فاتحين مذلين لكم، كما دخلوه أول مرة ؛ وليهلكوا ما ادخرتموه تتبيرا شديدا فلا يبقون منه شيئا.
وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على شيء.
قال الإمام الرازي :
وإنما عزا- سبحانه- الإساءة إلى الوجوه ؛ لأن آثار الأحوال النفسية الحاصلة في القلب، إنما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والأسفار في الوجه، وإن حصل الحزن والخوف في القلب ؛ ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه، فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية، ونظير هذا المعنى في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى :{ فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا٤. ( الملك : ٢٧ ). ١ ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خلاصة الآيات ما يأتي :

‍١-
أخبر الله : أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين، وهذا الفساد معناه : طغيان وعدوان منهم على عباد الله وخروجهم على الطريق القويم.
‌‌‌‌٢- أخبر الله عنهم : أنهم لما طغوا وبغوا : سلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٣-
بعد الانتقام الأول عادوا إلى طريق الجادة فانتصروا على أعدائهم، لكنهم لم يلبثوا أن عادوا للفساد فحق عليهم وعيد الله.

٤-
سلط الله عليهم في المرة الثانية من أذلهم، وهدم هيكلهم، وهدم المسجد الأقصى، وقضى عليهم وعلى ملكهم.

٥-
ذكر الله : أنه يشملهم برحمته إذا تابوا إليه، فإن عادوا للفساد ؛ عاد الله عليهم بالعقاب.

٦-
كثر عدد اليهود بعد الإفساد الأول والثاني وعقوبتهما، وأعزهم الله بعد الذل وأعطاهم المال والجاه.

٧-
أرسل الله محمدا نبيا رسولا يعرفون صفته في التوراة، ولكنهم كذبوه وغدروا به ؛ فسلط الله عليهم المسلمين ؛ فحاصروهم وقاتلوهم، وفرضوا عليهم الجزية، ثم أخرجوهم من بلاد العرب.

٨-
استمرت حياة اليهود بين مد وجزر فكلما أرخى الله لهم الحبل ومُتّعوا بالنعمة ؛ أسرفوا في استغلال النعمة وفي الفساد ؛ فسلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٩-
كان آخر إفساد لهم سيطرتهم على فلسطين سنة ١٩٤٨، وابتلاع مساحات من البلاد العربية في سنة ١٩٦٧.

١٠-
الأمل في الله أن يهييء لهم من ينتقم منهم وأن يتكاتف العرب والمسلمون ؛ ليثأروا لأنفسهم ولدينهم وأوطانهم.

١ - ذكر المصدر؛ إزالة لشك، وتحقيقا للخبر..
٢ - ويجوز أن تكون ما بمعنى: المدة، أي: ما دام سلطانهم جاريا على بني إسرائيل، انظر تفسير النيسابوري..
٣ - ﴿ووعد الآخرة﴾: أي: وعد عقوبتكم على المرة الآخرة على حذف مضاف، وجواب إذن محذوف والتقدير: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوءوا وجوهكم. وحسن هذا الحذف؛ لدلالة جواب إذا الأولى عليه في قوله تعالى: ﴿فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادنا... ﴾..
٤ - تفسير الفخر الرازي ١٥٩/٢..
٨- ﴿ عسى ربكم أن يرحمكم ﴾.
يعقب القرآن على النبوة الصادقة والوعد المفعول، بأن هذا الدمار قد يكون طريقا للرحمة إن أفدتم منه عبرة وتبتم عن المعاصي وعلمتم أن سنة الله لا تتخلّف وأن عدالة الله نافذة في رحمة التائبين، وعقاب المفسدين.
وقد حقق لهم وعده فكثر عددهم وأعزهم بعد الذلة وجعل منهم الملوك والأنبياء.
﴿ وإن عدتم عدنا ﴾.
أي : وإن عدتم لمعصيتي وخلاف أمري وقتل رسلي ؛ عدنا عليكم بالقتل والسلب والإذلال.
وقد عادوا إلى الإفساد وكذبوا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وهموا بقتله ونقضوا عهودهم معه، فسلطه الله عليهم ؛ فأجلي عن المدينة بني قينقاع، وبني النضير، وقتل بني قريظة، وفتح خيبر، وفرض الجزية على من بقي من اليهود في بلاد العرب فهم يعطونها عن يد وهم صاغرون ولا ملك لهم ولا سلطان.
وقد تكرر رجوعهم للفساد في عهود التاريخ ؛ فسلط الله عليهم في كل مرة من يسومهم سوء العذاب حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم ( هتلر ).
ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة ( إسرائيل ) التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات.
وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ؛ تصديقا لوعد الله القاطع ؛ ووفاقا لسنته التي لا تتخلف.
وتختم الآيات ببيان مصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة.
﴿ وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ﴾.
تحصرهم فلا يندّ عنها حد. وعن الحسين : بساطا كما يبسط الحصير المنسوج.
‍‍‍‍‍‍‍‍‍١- في أعقاب التفسير
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خلاصة الآيات ما يأتي :

‍١-
أخبر الله : أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين، وهذا الفساد معناه : طغيان وعدوان منهم على عباد الله وخروجهم على الطريق القويم.
‌‌‌‌٢- أخبر الله عنهم : أنهم لما طغوا وبغوا : سلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٣-
بعد الانتقام الأول عادوا إلى طريق الجادة فانتصروا على أعدائهم، لكنهم لم يلبثوا أن عادوا للفساد فحق عليهم وعيد الله.

٤-
سلط الله عليهم في المرة الثانية من أذلهم، وهدم هيكلهم، وهدم المسجد الأقصى، وقضى عليهم وعلى ملكهم.

٥-
ذكر الله : أنه يشملهم برحمته إذا تابوا إليه، فإن عادوا للفساد ؛ عاد الله عليهم بالعقاب.

٦-
كثر عدد اليهود بعد الإفساد الأول والثاني وعقوبتهما، وأعزهم الله بعد الذل وأعطاهم المال والجاه.

٧-
أرسل الله محمدا نبيا رسولا يعرفون صفته في التوراة، ولكنهم كذبوه وغدروا به ؛ فسلط الله عليهم المسلمين ؛ فحاصروهم وقاتلوهم، وفرضوا عليهم الجزية، ثم أخرجوهم من بلاد العرب.

٨-
استمرت حياة اليهود بين مد وجزر فكلما أرخى الله لهم الحبل ومُتّعوا بالنعمة ؛ أسرفوا في استغلال النعمة وفي الفساد ؛ فسلط الله عليهم من ينتقم منهم.

٩-
كان آخر إفساد لهم سيطرتهم على فلسطين سنة ١٩٤٨، وابتلاع مساحات من البلاد العربية في سنة ١٩٦٧.

١٠-
الأمل في الله أن يهييء لهم من ينتقم منهم وأن يتكاتف العرب والمسلمون ؛ ليثأروا لأنفسهم ولدينهم وأوطانهم.


٢- من هم القوم الذين سلطهم الله على اليهود
تاريخ اليهود الطويل حافل بالعدوان وسفك الدماء وقد سلط الله عليهم أعداءهم مرارا وتكرارا فإفسادهم مرتين مراد به : كرتين أي : المرة تلو المرة بدليل قوله تعالى بعد ذلك :﴿ وإن عدتم عدنا ﴾، وقد عاد اليهود للفساد، وكلما عادوا ؛ عاد لهم الانتقام.
قال ابن كثير :
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم ؟
فعن ابن عباس وقتادة : أنه جالوت الجزري وجنوده، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك وقتل داود جالوت. ولهذا قال :﴿ ثم رددنا لكم الكرة عليهم ﴾.
وعن سعيد بن جبير : أنه ملك الموصل سنحاريب وجنوده وعنه أيضا وعن غيره : أنه بختنصر ملك بابل.
ثم قال : وقد وردت في هذا آثار إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بتذكيرها ؛ لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم، ومنها ما يحتمل أن يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها ولله الحمد.
وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله. ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم.
وقد أخبر الله عنهم : أنهم لما طغوا وبغوا ؛ سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم وأذلتهم وقهرهم ؛ جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء ١ ١ ه.
وتفسير الآيات غني عن تحديد أشخاص المسلطين على اليهود وتاريخ هذا التسلط، فالقرآن كتاب هداية يذكر من القصة التاريخية الجانب الذي يحقق العظة والعبرة ولا يهتم بإيراد القصة كاملة. وإنما يلقي الضوء على فترات معينة في تاريخ البشرية ؛ لتحقيق العظة والاعتبار. قال تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾. ( يوسف : ١١١ ).
فالقرآن قد أبهم أسماء وبلادا ؛ لأنه لم ير فائدة كبيرة تتعلق بذكرها ولو علم الله في ذلك فائدة لذكرها. وحين أبهم الأشخاص المسلطين على اليهود صار من واجب المؤمن أن يعرف أن هناك أشخاصا انتقموا من اليهود في تاريخهم، وإذا أراد تحديد هؤلاء الأشخاص ؛ لجأ إلى التاريخ الصحيح لا ليحكمه في معنى القرآن وإنما ليستأنس به ولتكون معرفة جانبية لا تحكم على التفسير، فمعنى الآيات واضح بدون إقحام الإسرائيليات التي أدخلها اليهود للكيد والدس وتلفقها عنهم المفسرون ؛ ليشبعوا فضول الناس في معرفة الأشخاص المبهمين، وقد أمرنا ألا نصدق بني إسرائيل ولا نكذبهم ؛ فما روي عنهم لا يخلوا عن واحد من ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما يعلم صحته عن طريق القرآن والسنة أو شاهد من الشرع، وهذا القسم صحيح مقبول.
القسم الثاني : ما يعلم كذبه ؛ بأن يناقض ما عرفناه من شرعنا أو يكون مخالفا لما يقرره العقل وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.
القسم الثالث : وهو المسكوت عنه فلا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثاني، وهذا القسم نتوقف فيه فلا نصدقه ولا نكذبه.
وقد ذهب ابن كثير إلى جواز رواية القسم الثالث للاستشهاد به لا للتفسير، وخالفه في ذلك المحقق أحمد شاكر٢.
٣-أشهر أقوال المفسرين في من سلطه الله على بني إسرائيل
( أ ) ورد في الطبري : أن أول الفساد كان قتل زكريا ؛ فبعث الله عليهم ملك النبط ( وكان يدعى : صحابين )٣ فانتصر عليهم، ثم رد الله الكرة لليهود على أعدائهم. ١ ه.
وهذا الرأي مردود ؛ فلم يحفظ التاريخ أن بني إسرائيل غزو النبط أو أصابوا منهم ٤.
( ب ) وأخرج ابن عساكر في تاريخه : عن علي بن أبي طالب قال : الإفساد الأول : قتل زكريا، والثاني : قتل يحيى٥.
وهو مردود ؛ بأن بين قتل الاثنين فترة قصيرة لا تسمح لهم برد الكرة وتحقيق النصر.
( ج ) أخرج ابن جرير قال : أما المرة الأولى، فسلط الله عليهم جالوت حتى بعث طالوت معه داود، فانتصرا على جالوت وأسسوا مملكة داود سنة ١٠٩٥ ق. م٦.
ثم بعث الله عليهم في المرة الثانية بختنصر البابلي المجوسي فغزاهم ثلث مرات : الأولى : سنة ٦٠٦ ق. م، والثانية : سنة ٥٩٩ ق. م والثالثة سنة ٥٨٨ ق. م.
وفي المرة الثالثة : أكثر فيهم القتل، وأخذ الأحياء أسرى ودمر أورشليم تماما ٧.
( د ) ذهب جمهور المفسرين : إلى أن المسلط عليهم في المرة الأولى هو بختنصر البابلي، وقد غزاهم في سنة ٦٠٦، ٥٩٩، ٥٨٨ ق. م.
ثم ساعدهم قورش ملك الفرس سنة ٥٢٦ ق. م فعادوا لبلاده، وأعادوا بناء هيكلهم.
والمسلط عليهم في المرة الثانية هم الرومان بقيادة تيطس سنة ٧٠ م.
وقد كان إذلاله لهم أشد وأنكى حتى بلغ عدد القتلى منهم مليون قتيل، وبلغ عدد الأسرى مائة ألف أسير٨.
وبعد انتصار تيطس الروماني عليهم ؛ تفرقوا في البلاد، وأصبح تاريخهم ملحقا بتاريخ الممالك التي نزلوا فيها٩.
ولم يرجع اليهود إلى فلسطين إلا في العصر الحديث بعد أن ظلت فلسطين في يد العرب المسلمين ١٣٠٠ سنة من الفتح العربي سنة ٦٣٦م ( سنة ١٥ ه ) إلى سنة ١٩٤٨م ( سنة ١٣٦٦ ه ). باستثناء ٨٠ سنة هي فترة الحرب الصليبية ( ١٠٩٩م- ١١٨٧م ) حين سقط بيت المقدس في يد الغزاة، ثم استرده العرب المسلمون على يد صلاح الدين الأيوبي في يوم الجمعة ٢٧ رجب سنة ٥٨٣ ه- ٢ أكتوبر سنة ١١٨٧م. ودخل خطيب المسلمين إلى أن استولى عليه اليهود في حرب يونيو سنة ١٩٦٧.
٤- ملاحظات
١- لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث في بيان المراد بالعباد الذين سلطوا على بني إسرائيل.
٢- الإفساد قد تكرر من بني إسرائيل والمرتين هما أظهر مرتين.
٣- الرجوع إلى التاريخ الصحيح هو الذي يفيدنا في الموضوع.
٤- اختلفت أنظار المؤرخين والمفسرين فيمن سلط على اليهود بحسب الاجتهاد الشخصي لكل مؤرخ أو مفسر.
٥- مقصود الآيات : هو بيان سنة من سنن الله في الأمم حال صلاحها وفسادها، وهذه السنة ماضية في الأمم دون تبديل أو تحويل.
٦- لا يتوقف فهم المعنى على تحديد أشخاص بعينهم سلطوا على اليهود، بل المقصود : أنهم كلما أكثروا من المعاصي : سلط الله عليهم أقواما آخرين قتلوهم وأذلوهم.
ملاحق عن اليهود
الملحق الأول :
تاريخ اليهود في فلسطين
الفترة التي استقر فيها حكم اليهود في فلسطين لا تزيد على ثلاثة قرون ونصف قرن، وكل ما تركوه بفلسطين آثار حائط لهيكلهم ظلوا ينوحون عليه قرونا عديدة ؛ حتى سمي حائط المبكى.
والفترة الذهبية لحكمهم بدأت بتأسيس مملكة داود سنة ١٠٩٥. م.
واستمر ملك داود ٤٠ سنة جاء من بعده ابنه سليمان فحكم ٤٠ سنة أخرى انتهت بوفاته سنة ٩٧٥ ق. م.
ثم خلفه ابنه رحبعام الذي انقسمت مملكة اليهود في زمنه إلى قسمين : مملكة إسرائيل في الشمال ( السامرة )، ومملكة يهوذا في الجنوب ( أورشليم ).
ودامت مملكة الشمال نحو ٢٥٠ سنة وانتهت سنة ٧٢١ ق. م، حينما غزاها سرجون ملك آشور واستولى على السامرة نابلس الآن ) وقضى نهائيا على تلك المملكة.
وأما مملكة يهوذا فقد عاشت أكثر من أختها إسرائيل حتى غزاها بختنصر سنة ٦٠٦ ق. م غزوات متعددة انتهت بتهديم أسوار المدينة، وإحراق الهيكل، وسبى الشعب إلى الأسر في بابل.
ثم أعيد اليهود من السبي سنة ٥٣٦ ق. م على يد قورش الذي تولى ملك فارس وغدت يهوذا ولاية من ولايات الفرس حتى سنة ٣٣٢ ق. حيث انتقلت إلى ملك الإسكندر المقدوني بعد أن هزم الفرس ودخل سوريا وفلسطين.
وفي سنة ٧٠ م تقدم القائد الروماني ( تيطس ) ودمر أورشليم وهيكلها وذبح اليهود فيها وأسر كثيرا من شعبها، وذاق اليهود على يد تيطس الذل والهوان.
وتعددت ثورات اليهود على الرومان كما تكرر بطش الرومان بهم وقهرهم، وفي سنة ١٣٥ م قتل الرومان من اليهود ٥٨٠ ألفا، ودمروا أورشليم، وأنشئوا مكانها مدينة جديدة سميت : إيلياء.
فتاريخ اليهود حافل بالثورات وسفك الدماء. وأهم استقرار لهم كان في عهد داود وسليمان ١٠٩٥-٩٧٥ ق. م.
وقد غزاهم بختنصر ثلاث مرات وقتلهم وسباهم إلى بابل في الفترة من سنة ٦٠٦ إلى سنة ٥٠٨ ق. م ( وسمي ذلك : بخراب أورشليم الأول ). وفي سنة ٥٣٦ ق. م أنقذهم قورش الفارسي من السبي وسمح لهم بالعودة إلى أورشليم، كما صرح لهم بإعادة بناء الهيكل سنة ٤١٥ ق. م.
وفي سنة ٧٠ م هاجمهم تيطس الروماني وقتلهم ودمر هيكلهم.
وفي سنة ١٣٥ م هاجمهم القائد الروماني يوليوس سيفروس فاحتل أورشليم وهدمها وبنا مكانها إيلياء وأسدل الستار على تاريخ اليهود القديم في فلسطين.
ثم جاءت هيلانة أم الملك قسطنطين الروماني البيزنطي، وبنت كنيسة القيامة سنة ٤٢٦ م، ثم بُنيت كنيسة العذراء سنة ٥٣٠ م.
وفي سنة ٦٣٦ م ( ١٥ه ) فتح العرب المسلمون بيت المقدس وما حوله من بلاد فلسطين وظلت فلسطين عربية إسلامية حتى سنة ١٩٤٨ ( ١٣٦٦ه ).
ومن ذلك الحين بدأ الغزو اليهودي المنظم لفلسطين ثم كان مشروع تقسيم فلسطين، وتوسع اليهود الأليم في سنة ١٩٦٧، حيث ضموا إلى فلسطين أجزاء من البلاد العربية، ولا تزال الحرب سجالا بين العرب وبينهم ( والله غالب على أمره ).
وقد تنبأ النبي الكريم بهذا العدوان اليهودي الغادر ووعد أمته بالنصر. فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال :( لن تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود ؛ فيختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول الحجر : يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله )١٠.
الملحق الثاني :
نكبات اليهود
إليك لمحات من العقوبات التي أصابت اليهود جزاء وفاقا ؛ لجشعهم ونهبهم ورغبتهم في امتصاص دماء الشعوب :
١- في بريطانيا لقي اليهود في بعض العهود ألوانا من التعذيب وصنوفا من القتل والتشريد.
حدث ذلك في عهد الملك هنري الثالث الذي أصدر أمره سنة ١٢٣٠ م بأن يدفع اليهود إلى الخزينة البريطانية ثلث ثلث أموالهم المنقولة.
وتكررت عقوباتهم في عهد إدوارد الأول سنة ١٢٧٣ م.
٢- وفي فرنسا تكررت المأساة في عهد لويس التاسع،
١ - تفسير ابن كثير: ٣/٢٥..
٢ - انظر عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير تحقيق أحمد شاكر ١/١٤..
٣ - تفسير ابن جرير: ١٥/١٧..
٤ - الدكتور/ محمد سيد طنطاوي: بنو إسرائيل في الكتاب والسنة ٢/٣٦٠.
٥ - الدر المنثور السيوطي: ٤/١٦٣..
٦ - انظر وصف ذلك على الآيات ٢٥٢-٢٤٦ من سورة البقرة، وفيها ما يفيد: أن طالوت وقائده داود قد انتصر على جالوت ﴿وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة﴾..
٧ - تفسير الذر المنثور ٤/١٦٣..
٨ - تاريخ الإسرائيليين: ص ٧٦..
٩ - تاريخ الإسرائيليين: ص ٧٧..
١٠ - تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم:
رواه البخاري في الجهاد (٢٩٢٥) وفي المناقب (٣٥٩٣) ومسلم في الفتن (٢٩٢١) والترمذي في الفتن (٢٢٣٦) وأحمد في مسنده (٥٩٦٩) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الجحر فيقول: يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله). رواه البخاري في الجهاد (٢٩٢٦)، ومسلم في الفتن (٢٩٢٢) وأحمد في مسنده (٢٧٥٠٢) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرد فإنه من شجر اليهود)..

{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعلمون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ( ٩ ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليم ( ١٠ )
تمهيد :
تحدث الله عن الأنبياء والرسل ثم قفا على ذلك بالثناء على القرآن الكريم وبيان أنه يهدي للصراط المستقيم يبشر الصالحين بالأجر والثواب العظيم وينذر الكافرين بالعذاب الأليم.
التفسير :
٩_ ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم... ﴾
فاقت هداية القرآن كل هداية ؛ فقد كان دليل الإصلاح ومصباح الإرشاد وسبيل الحكمة وآية الله الناطقة.
ففي مجال العقيدة : دعا إلى التوحيد ووضح عظمته وقدرته ودعا إلى نبذ الأصنام والأنداد.
وفي مجال العبادة : شرع العبادات ؛ ليربط المؤمن بربه عن طريق أداء الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج.
وفي مجال التشريع : شرع للناس ما يلزمهم وما يحتاجون إليه في سلوكهم وحرم عليهم ما يضرهم ويؤدي بمجتمعهم، وبين للناس الطريقة المثلى في علاقات بعضهم ببعض : أفرادا، وأزواجا، وحكومات، وشعوبا، ودولا، وأجناسا.
﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾.
أي : للحال التي هي أقوم الحالات وأسدها أو للملة أو للطريقة.
قال الزمخشري :
وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه.
﴿ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ﴾. أي : يبشر المخلصين في إيمانهم، وهم الذين يعملون الصالحات كلها ويجتنبون السيئات، أن لهم في الدنيا والآخرة ثوابا وافرا.
تمهيد :
تحدث الله عن الأنبياء والرسل ثم قفا على ذلك بالثناء على القرآن الكريم وبيان أنه يهدي للصراط المستقيم يبشر الصالحين بالأجر والثواب العظيم وينذر الكافرين بالعذاب الأليم.
١٠- ﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة... ﴾
أي : بالبعث والجزاء على الأعمال.
﴿ اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾.
أي : عقابا موجعا : جزاء ما دنسوا به أنفسهم من الكفر واجتراح الآثام.
وتلك هي قاعدة القرآن الأصلية في العمل والجزاء. فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناؤه ؛ فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان. الأول مبتور لم يبلغ تمامه، والثاني مقطوع لا ركيزة له وبهما معا تسير الحياة التي هي أقوم وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن.
﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه، بالخير وكان الإنسان عجولا ( ١١ ) ﴾.
التفسير :
١١- ﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير... ﴾ الآية.
والمعنى : ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر حين الغضب فيقول : اللهم، أهلكني. اللهم، العني، كدعائه ربه بالخير بأنه يهب له العافية ويرزقه السلامة ولو استجيب له في دعائه بذلك كما يستجاب له في هذا ؛ لهلك ولكن الله بفضله ومنته لا يستجيب دعاءه، كما قال :﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ﴾. ( يونس : ١١ ).
وفي الحديث ( لا تدعوا تدعو على أنفسكم ولا على أموالك ؛ أن توافقوا من الله ساعة يستجيب فيها ).
وفي تفسير مقاتل، والنيسابوري، وابن كثير، وجمع من المفسرين.
أن الإنسان في الآية هو النضر بن الحارث، دعا قائلا :﴿ اللهم إن كان هذا هو من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾. ( الأنفال : ٣٢ ). فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته صبرا، وكان بعض الكافرين يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بعذاب الله، وآخرون يقولون : متى هذا الوعد ؟ جهلا منهم واعتقادا أن محمدا صلى الله عليه وسلم كاذب.
وقد يكون المعنى في الآية : أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن فيه خيره مع أن ذلك قد يكون سبب بلائه وشره ؛ لجهله بحاله، وإنما يقدموا على ذلك العمل ؛ لكونه عجولا مغترا بظواهر الأمور غير متفحص لحقائقها وأسرارها. ﴿ وكان الإنسان عجول ﴾، يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضرره وقيل : أراد بهذا الإنسان : آدم وذلك أنه لما انتهى الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى فذهب ؛ لينهض فلم يقدر١.
١ - تفسير النيسابوري، ١٥/١٢ وهذا الكلام أقرب إلى الإسرائيليات..
﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ( ١٢ ) ﴾.
التفسير :
١٢- ﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين... ﴾
أي : جعلناهما بهيئاتها وتعاقبهما واختلافها في الطول والقصر علامتين تدلان على أن لهما خالقا حكيما ويشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة ولا يني يعمل دائبا بالليل النهار.
﴿ فمحونا آية الليل ﴾ : أي بجعلها مظلمة فكأن الليل ممحو إذا قيس إلى ضوء النهار.
قال مجاهد : جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء كما لا يستبين ما في اللوح الممحو.
﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾. أي : وجعلنا الآية التي هي النهار مضيئة ؛ لتمييز الأشياء المحسوسة وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار.
﴿ لتبتغوا فضلا من ربكم ﴾. أي : فعلنا ذلك ؛ لتطلبوا في النهار رزقا منه سبحانه بالانتشار للمعاش والصناعات والأعمال والأسفار.
﴿ ولتعلموا عدد السنين ﴾. أي : ولتعلموا بمحو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة عدد السنين التي تتوقف عليها مصالحكم الدنيوية.
والحساب. أي : الحساب المتعلق بما في ضمن السنين من الأشهر والليالي والأيام أو الحساب الجاري في المعاملات كالبيوع والإجارات وفي العبادات، أي : لتعرفوا مضي الآجال المضروبة لذلك ؛ إذ لولاه لما علم أحد حسبان الوقات ولتعطلت الأمور.
قال السيوطي في الإكليل :
هذه الآية أصل في علم المواقيت والهيئة والتاريخ وفي الآية لف ونشر غير مرتب.
فابتغاء الفضل يكون في النهار، وعلم الحساب والمواعيد يكون من أظلام الليل، والمخالفة بينه وبين النهار.
﴿ وكل شيء فصلناه تفصيلا ﴾. أي : مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم بيناه في القرآن بيانا بليغا لا التباس معه، كقوله تعالى :﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ﴾. ( النحل : ٨٩ ). فظهر كله هادئا للتي هي أقوم ظهورا بينا.
وقيل : معنى ﴿ وكل شيء فصلناه تفصيلا ﴾ أي : أبدعنا نظامه في دقة متناهية فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكا للمصادفة والجزاف. ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل وهي عليه شاهد ودليل.
وآيات القرآن متعاقبة على تأكيد هذا المعنى وبيان دقة النظام في الليل والنهار وسير الشمس والقمر، وقد أورد الحافظ ابن كثير عددا كبيرا من آيات القرآن : لتأكيد هذا المعنى وتأييده، منها قوله تعالى :﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ﴾. ( يس : ٤٠، ٣٧ ).
وقال تعالى :﴿ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ﴾. ( الأنعام : ٩٦ ).
﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ( ١٣ ) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( ١٤ ) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن أظل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ١٥ ) ﴾
المفردات :
طائره : أي : عمله، سمي به ؛ إما لأنه طار إليه من عش الغيب، وإما لأنه سبب الخير والشر كما قالوا :
طائر الله لا طائرك أي : قدر الله الغالب الذي يأتي بالخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن ؛ إذ جرت عادتهم بأن يتفاءلوا بالطير ويسمونه : زجرا فإن مر بهم من اليسار إلى اليمين ؛ تشاءموا منه وسموه : بارحا.
كتابا : هو صحيفة عمله.
منشورا : أي : غير مطي.
التفسير :
١٣- ﴿ وكلَّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه... ﴾.
أي : ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيرا شرا، بحيث لا يفارقه أبدا بل يلزمه لزوم الطوق في العنق لا ينفك عنه بحال.
قال أحد المفسرين : وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله، أي ما يقسم له من العمل وهو كناية عما يعمله، وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية، فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه.
وقال أبو عبيدة : الطائر عند العرب : الحظ، ويقال له : البخت، فالطائر ما وقع للشخص في الأزل مما هو نصيبه من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة كأنه طائر يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب١ ه.
وإنما أضيف الطائر إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسم ؛ لأن العنق هو موضع السمات الثابتة وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين.
وقال الفخر الرازي : إن قوله : في عنقه كناية عن اللزوم كما يقال :( جعلت هذا في عنقك ) أي : قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به ومنه يقال :( فلان يقلد فلانا ) أي : يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه.
ونخرج له. أي : نظهر له، يوم القيامة. أي البعث للجزاء على الأعمال ويقال له :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ﴾. أي : شهيدا بما عملت.
قال القاشاني : كتابا، هيكلا مصورا يصور أعماله، يلقاه منشورا ؛ لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة، لا مطويا كما كان عند كونها فيه بالقوة.
١ - تفسير النيسابوري، ١٥/١٥، ١٤..
المفردات :
حسيبا : أي : حاسبا، أي : عادا يعد عليه أعماله.
١٤- ﴿ اقرأ كتابك... ﴾
أي : اقرأه قراءة المأمور المتمثل لأمر آمر مطاع يأمر بالقراءة. أو تأمره القوى الملكوتية سواء كان قارئا أو غير قارئ ؛ لأن الأعمال هنا ممثلة بهيئاتها وصورها. يعرفها كل أحد. لا على سبيل الكتابة بالحروف ؛ فلا يعرفها الأمي.
﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ﴾، لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازما إياها، نصب عينها، مفصلا لا يمكنها الإنكار١.
والتعبير القرآني بإخراج كتاب الإنسان منشورا يوم القيامة يصور عمله مكشوفا لا يملك إخفاءه أو تجاهله أو المغالطة فيه. ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور، فإذا هو أعمق أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس، وإذا الخيال البشري، يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع طائر من اليوم العصيب الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار ولا يحتاج إلى شاهد أو حسيب.
١ - تفسير القاسمي: ١/٣٩١٢..
١٥-﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ﴾.
قال أبو السعود :
من اهتدى بهداية القرآن وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه ؛ فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي، ومن ظل. أي : عن الطريقة التي يهديه إليها ؛ فإنما يضل عليها. أي : وبال ضلاله عليها، لا على من عداه ممن لم يباشر الضلال، فقوله :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾. مؤكد لما قبله للاهتمام به.
قال أبو السعود :
أي : لا تحمل نفس حاملة للوزر، وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم بل إنما تحمل كل منهما وزرها. وهذا تحقيق لمعنى قوله عز وجل ﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾. ١ ه.
وفي الآية تقرير لمبدأ التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه وتجعله مسئولا عن عمله، إن اهتدى فلنفسه وإن ضل فعليها، وما من نفس تحمل وزر أخرى، وما من أحد يخفف حمل أحد إنما يسأل كل عن عمله ويجزى كل بعمله ولا يسأل حميم حميما.
إن الله سبحانه لا يحاسب الناس جملة بالقائمة إنما يحاسبهم فردا فردا كل على عمله وفي حدود واجبه، ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الإصلاح غاية جهده، فإذا قام بقسطه هذا فما عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها فإنما هو محاسب على إحسانه، كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح.
على هذا نرى الإسلام ينكر أشد الإنكار فكرة بيع صكوك الغفران القائمة على أن كنوز الصالحات تدخر من أعمال الصالحين ؛ ليباع منها لغيرهم، تلك الفكرة تناقض أصولا مشهورة ونصوصا صريحة في القرآن، والآيات المناهضة لفكرة بيع التوبة وكنوز الصالحين كثيرة في القرآن، منها :
قوله تعالى :﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾. ( المدثر : ٣٨ ).
وقوله سبحانه :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾. ( البقرة : ٢٨٦ ).
والآية التي نفسرها :﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى... ﴾ إلى غير ذلك من الشواهد التي تؤيد أن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
كذلك لا غرابة في أن ينكر الإسلام الاعتراف بالذنب لرجل الدين حتى تصح التوبة ويمحى الذنب ؛ إذ أساس الإسلام أن الله وحده يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
﴿ وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا ﴾.
أي : وما صح وما استقام منا أن نعذب قوما قبل أن نبعث إليهم رسولا يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ؛ إقامة للحجة وقطعا للعذر، والعذاب أعم من الدنيوي لقوله تعالى :﴿ ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى ﴾. ( طه : ١٣٤ ).
وقال تعالى :﴿ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذّبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ﴾. ( الملك : ٩، ٨ ).
إلى نحو ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يدخل أحدا النار، إلا بعد إرسال الرسل إليه.
قال قتادة : إن الله لا يعذب أحدا حتى يتقدم إليه بخير أو بينة ولا يعذب أحدا بذنبه.
وخلاصة ذلك : أن سنتنا المبنية على الحكم العالية ألا نعذب أحدا أي نوع من العذاب الدنيوي أو الأخروي على فعل شيء أو تركه ؛ إلا إذا أرسلنا إليه رسولا يهدي إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحج ويبلغ الدعوة.
قال الإمام الغزالي : الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أصناف ثلاثة :
( أ ) من لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا وأولئك مقطوع لهم بالجنة.
( ب ) من بلغتهم دعوته وظهور المعجزات على يديه، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة، ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا ؛ وأولئك مقطوع لهم بالنار.
( ج ) من بلغتهم دعوته صلى الله عليه وسلم وسمعوا به ولكن كما يسمع أحدنا الدجالين وحاشا قدره الشريف عن ذلك وهؤلاء أرجو لهم الجنة إذا لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به.
يريد الغزالي بهذا أنهم سمعوا عنه أخبارا مكذوبة وعن دينه أخبارا لا تنطبق على حقيقته كما يفعل رجال الكنائس في تشويه أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه مزواج مطلاق وأنه كان متهالكا في حب النساء، وأن دينه دين وثنية ؛ لأنه كان يسجد للكعبة وأنه خالف جميع الأنبياء واتجه إليها ولم يتجه إلى بيت المقدس، وأن القرآن كثير المتناقضات كثير التكرار للقصص وفيه كذب، إلى نحو أولئك مما يقولون وهم لا يقولون إلا ترهات وأباطيل.
فالشرط عند الغزالي أن تبلغ الإنسان الرسالة على نحو يحرك فيه داعية القبول. فلو لم تبلغه الرسالة أو بلغته بصورة مشوهة فليس من حكمة الله أن يعذبه لقوله سبحانه :﴿ وما كنا معذبين حتى نبحث رسولا ﴾.
قال صاحب الكشاف : معناها : ما يصح منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوما إلا بعد أن نبعث إليهم رسولا فيلزمهم الحجة.
﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( ١٦ ) ﴾
التفسير :
١٦- ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾.
المترفون في كل أمة هم : طبقة الكبراء المتجبرين الذين يجدون المال والخدم والراحة وينعمون بالدعة ؛ حتى تترهل نفوسهم وتأسن فترتع في المجانة والفسق، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم ؛ عاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الفاحشة وأشاعوها ومن ثم تتحلل الأمة وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوي صفحاتها.
والإسلام يفرق بين الغنى والترف، فإذا كنا في مجتمعنا نعمل من أجل ( الكفاية ) فحن نحارب ( الترف ) في نفس الوقت.
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسننا لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته، فالقانون الذي يمكن أن نخرج به من آيات متعددة من كتاب الله هو ارتباط الترف بالإفساد، وهؤلاء المترفون من أشد من يقاوم الحق والتغيير في المجتمع. ويقول الله تعالى هذا في قاعدة شاملة في القرآن :﴿ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا كان مترفوها إنّا بما أُرسلتم به كافرون ﴾. ( سبأ : ٣٤ ).
ولقد ذكر : الله الترف في ثمانية مواضع من كتابه الكريم ليس فيها واحد في مجال المدح أو الإطراء، وإنما ترتبط بالظلم والفسق والإفساد في الدنيا والعذاب في الآخرة.
والآية التي نشرحها تقرر : سنة من سنن الله في هذا الوجود وهي : أن الله تعالى إذا قدر لقرية أنها هالكة ؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك ؛ فكثر فيها المترفون، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم ؛ سلط الله هؤلاء المترفين، ففسقوا فيها فعم فيها الفسق فتحللت وترهلت وفقدت لباسها الحربي والتمسك بدينها، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الهلاك والدمار، وهي المسئولة عما يحل بها ؛ لأنها لم تضرب على أيدي المترفين ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين.
فوجود المترفين ذاته : هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا ؛ ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ؛ ما استحقت الهلاك وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك.
ووجود المترفين دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا، وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة.
فالإرادة هنا ليس معناها : أن الله يريد إهلاك قوم ابتداء فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم، فإن إرادة ضرر الغير ابتداء من غير استحقاق الإضرار- كالأضرار كذلك- مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة، كما أن الأمر ليس أمرا بالفسق ؛ لأن الله لا يأمر بالفسق ولا يأمر بالفحشاء.
فالإرادة هنا في الآية ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشئ السبب، ولكنها ترتب النتيجة على السبب، الأمر الذي لا مفر منه ؛ لأن السنة جرت به، والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق.
وجميع علماء الكلام متفقون على أن أفعال العباد الاختيارية صادرة بمجموع الإرادتين والقدرتين بإرادة العبد وقدرته تسببا وكسبا، وبإرادة الله وقدرته خلقا وإيجادا وتقديرا. وأن سنة الله في خلقه جرت بربط تعلق إرادته وقدرته بفعل العبد على إرادة لعبد وقدرته، كما اتفقوا على أن تعلق إرادة الله وقدرته تابع لعمله الذي لا يتخلف. فما علم أنه يكون تتعلق به إرادته وقدرته تعالى بكونه وإيجاده وإلا لانقلب العلم جهلا وهو محال عليه تعالى.
﴿ فدمرناها تدميرا ﴾. والتدمير : الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء فالآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه، وإهلاك جميعهم لصدور الفسق عنهم جميعا فإن غير المترف يتبعه عادة. وقيل : هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ ( الأنفال : ٢٥ ).
وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول :( لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ! وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها ). قالت زينب : قلت : يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :( نعم، إذا كثر الخبيث ) فتبعة الجماعة تظهر في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها، وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرا تدميرا.
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح قرنا بعد قرن كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير.
{ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ( ١٧ ).
المفردات :
القرون : القوم المقترنون في زمان واحد. والقرن : ثمانون سنة أو مائة سنة، أو مائة وعشرون سنة.
من بعد نوح : أي : من بعد زمن نوح ؛ لأن نوحا أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب، وذكر نوح عليه السلام رمز إلى ذكر قومه.
التفسير :
١٧- ﴿ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح... ﴾
كان القرآن يقص عليهم أمر الطوفان الذي أهلك العصاة من قوم نوح وأمر الريح التي أهلكت عادا حين عصوا أخاهم هودا وأمر الصيحة التي أهلكت ثمود حين عصوا أخاهم صالحا، ويقص عليهم ما جرى على قوم لوط حين أمطرتهم السماء حجارة مسمومة، وما جرى على أهل مدين حين أهلكتهم الرجفة لما عصوا موسى.
كان يخوفهم أن يلم بهم مثل ما ألم بهذه الأمم من ألوان العذاب في الدنيا إلى ما ينتظرهم في الآخرة من العذاب المقيم ﴿ وكفى بربك... ﴾ وكفى ربك خبيرا بصيرا بذنوب عباده، أي : يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها.
{ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ( ١٨ ).
التفسير :
١٨- ﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء... ﴾ الآية.
إن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها، من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبئ عنه الاستمرار المستفاد من زيادة كان ههنا مع الاقتصار على مطلق الإرادة في قسيمه الآتي ومن أراد الآخرة.. فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء. وتقييد المعجل له بما ذكر من المشيئة والإرادة ؛ لبيان أن الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه، ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه.
ثم جعلنا له في الآخرة مكان ما عجلنا له في الدنيا ؛ جهنم وما فيها من أصناف العذاب يصلاها. يدخلها أو يقاسي حرها. مذموما، بما ارتكب. مدحورا، بما انتهى إليه من عذاب ومطرودا من رحمة الله.
فالذين لا يتطلعون إلى أعلى من الأرض التي يعيشون فيها فإنهم يتلطخون بدنسها ورجسها ويستمتعون فيها كالأنعام ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات، ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤذي بهم إلى جهنم.
﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعْيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( ١٩ ) ﴾
التفسير :
١٩- ﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيا وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ﴾.
ومن أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، وسعى لها سعيا أي : السعي اللائق بها فيؤدي تكاليفها وينهض بتبعاتها، وفائدة اللام في قوله : لها اعتبار النية والإخلاص، وهو مؤمن إيمانا صحيحا لا يشوبه شيء قادح فيه. وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لإرادة الآخرة والسعي لها، فلا تنفع إرادة ولا سعي بدونه، وفي الحقيقة هي الناشئ عنه إرادة الآخرة، والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب.
والسعي للآخرة لا يحرم المرء أن يأخذ بقسط من المتاع في الحياة الدنيا، بل الإسلام يحض المرء على هذا المتاع ويكلفه إياه تكليفا ؛ كيلا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها، لقد خلق الله طيبات الحياة ؛ ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدد وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض، لذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة فلا ينحرفون عن طريقها ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها.
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيا وهو مؤمن ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم.
وإن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهمام والوحوش والأنعام، فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله الذي خلقه فسواه وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه.
هذان اللونان من الحياة : لون الحياة الحيوانية أو الطفولة الإنسانية، ولون الحياة المثالية، قديمان في تاريخ الإنسانية قدم الإنسانية نفسها والخصومة بينهما قديمة منذ وجودها وتعارضها. ورسالات الأديان السماوية في غايتها وجوهرها تدفع الإنسان إلى الحياة المثالية أم حياة الرشد الإنساني على حين انقسمت فلسفة الإنسان منذ القدم أيضا إلى اتجاهين يدفع كل اتجاه منهم إلى لون من هذين اللونين، فمدرسة الماديين تدفع إلى الفرع الحيواني ومدرسة المثاليين أو المدرسة الإنسانية تدفع إلى حياة الأهداف البعيدة وراء حفظ البقاء الفردي والنوعي.
والإسلام كصورة كاملة وواضحة للدين السماوي يخاصم الوجودية المادية خصومة عنيفة ؛ إذ ينظر للإنسان على أنه الرشيد وصاحب التأهيل للقيادة في هذه الحياة ﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ﴾. ( الأنعام : ١٦٥ ) فليس هدفه في الحياة توفير المنافع الخاصة المتصلة بالجانب الحيواني فيه بل هدفه أبعد من ذلك كثيرا ﴿ قل إن صلاتي ونُسُكي ومحيايَ ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ﴾. ( الأنعام : ١٦٢ ). هدفه أن يكون مؤمنا بالله وسالكا طريق هدايته الذي خطته الرسالة السماوية.
﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ( ٢٠ ) ﴾
المفردات :
نمد : نزيد مرة بعد مرة.
التفسير :
٢٠- ﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك... ﴾ الآية.
كلا الفريقين من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب الآخرة فيلقاها نمد بالعطايا العاجلة من عطاء ربك الواسع وفضله السابغ، وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه، فهو مطلق تتوجه به المشيئة حيث تشاء، فالثراء والغنى ليس آية على رضا الله فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضا والغضب، فالله يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين، ومريدي الآخرة المؤمنين، ويمد الجميع بالرزق، فهو لا يمنعه عن كافر لكفره ولا عن عاص لعصيانه، بل يبسط الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر.
﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ٢١ ﴾
التفسير :
٢١- ﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾.
التفاوت بين الناس في الدنيا ملحوظ بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم. فمن وضيع ورفيع، ومالك ومملوك، وموسر وصعلوك، وعالم وجاهل... إلخ. وإذا كان هذا التفاوت في متاع الحياة الدنيا القليل الهزيل فكيف التفاوت بينهم في الآخر التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة، لا شك أن التفاوت الحق والتفاضل الضخم هو هناك في الآخرة ؛ لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، لا في زخارف الدنيا ومتاعها الزائل.
{ لا تجعلْ مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ٢٢ )
التفسير :
٢٢- ﴿ لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ﴾.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه في الحقيقة عام للمكلفين ويحسن أن يقال : إن الخطاب للإنسان كأنه قيل : يا أيها الإنسان، لا تجعل، أو القول مضمر. أي : قل لكل مكلف : لا تجعل. والأمر عام في حقيقته ولكنه وجه إلى المفرد ؛ ليحس كل فرد أنه أمر خاص به صادر إلى شخصيته، فالاعتقاد مسألة شخصية مسئول عنها كل فرد بذاته، والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن يقعد مذموما ؛ بالفعلة الذميمة التي أقدم عليها، مخذولا لا ناصر له، ومن لا ينضره الله فهو مخذول وإن كثر ناصروه. ولفظ : تقعد يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد، ويلقى ظل الضعف، فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزا فإن السعي إنما يتأتى بالقيام والعجز عنه يلزمه أن يبقى قاعدا عن الطلب.
وخلاصة المعنى : لا تجعل أيها الإنسان مع الله شريكا في عبادته فتصير مذموما على الشرك مخذولا من الله، يكلك إلى ذلك الشريك ولا ينصرك. قال تعالى :﴿ وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ﴾. ( آل عمران : ١٦٠ ).
مكارم الأخلاق في سورة الإسراء
اشتملت الآيات من ٢٣ إلى ٣٩ على جملة من الوصايا والآداب التي تسهم في تربية الأفراد وتماسك المجتمع وترابطه وذكر ابن عباس : أن هذه الوصايا هي خلاصة ما ورد في التوراة ومجمل هذه الوصايا ما يلي :
١- عبادة الله وحده الآية ٢٣
٢- بر الوالدين الآيات ٢٣-٢٥
٣- صلة الرحم الآية ٢٦
٤- العطف على المسكين وابن السبيل الآية ٢٦
٥- النهي عن البخل والتبذير الآية ٢٧-٢٩
٦- النهي عن قتل الأولاد الآية ٣١
٧- النهي عن الزنا الآية ٣٢
٨- النهي عن قتل النفس الآية ٣٣
٩-النهي عن أكل مال اليتيم الآية ٣٤
١٠- الأمر بالوفاء بالعهد الآية ٣٤
١١- الأمر بالوفاء بالكيل والميزان الآية ٣٥
١٢- الأمر بالتثبيت في القول الآية ٣٦
١٣- النعي عن الخيلاء والكبر الآية ٣٩
١٤- النهي عن الشرك بالله الآية ٣٩
وإليك نص هذه الآيات ثم تفسيرها.
﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قول كريما ٢٣ ﴾
المفردات :
قضى : أي : حكم وأمر.
أف : اسم صوت ينبئ عن التضجر والتألم، يقال : لا تقل لفلان : أف، أي : لا تتعرض له بنوع من الأذى والمكروه.
النهر : الزجر بغلظة.
كريما : أي : جميلا لا شراسة فيه، قال الراغب : كل شيء يشرف في جنسه يقال : إنه كريم.
الآية مفتاح لمكارم الخلاق
تصدرت هذه الآية جملة من الوصايا والأوامر والنواهي التي تتعلق بآداب السلوك في واقع الحياة.
وهي : الأمر بعبادة الله وحده والتزام أوامره واجتناب نواهيه ومن هذه الأمور :
بر الوالدين، وصلة الرحم، والعطف على المسكين وابن السبيل في غير إسراف ولا تبذير، وتحريم قتل الذرية، وتحريم الزنا، وتحريم القتل، ورعاية مال اليتيم، والوفاء بالعهد، وتوفية الكيل والميزان، والتثبيت في القول، والنهي عن الخيلاء والكبر. وتنتهي الأوامر بالتحذير من الشرك، فهذه الأوامر كلها محصورة بين الأمر بطاعة الله، والنهي عن الإشراك به، والتزام الفضائل التي دعا إليها، والبعد عن الرذائل التي حذر منها ومما يساعد الإنسان على هذا السلوك المهذب عقيدته الصادقة التي تقوم على الإيمان بالله وإتباع شريعته وهديه تلك الشريعة التي يقوم عليها بناء الحياة وسعادة المجتمع.
التفسير :
٢٣- ﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما أن يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ١ ولا تنهر هما وقل لهما قولا كريما ﴾.
أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نفرده بالعبادة أو نخصه بالتوحيد وهذا معنى ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ أي : لا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك فأنت نعم المولى ونعم المعين.
ثم أمرنا الله بالإحسان إلى الوالدين وبالغ في هذه الوصية وكررها في القرآن الكريم ؛ لأن الوالدين أصل حياة الإنسان فالله هو الخالق الموجد المسبب. والوالدان هما السبب المباشر لوجود الإنسان وقد تحملا في سبيل رعايته وتربيته وتهذيبه كل صعب وذلول.
فوجب أن يكافأ الإحسان بالإحسان وأن ترد التحية بأحسن منها خصوصا عند العجز والشيخوخة فذلك هو التضامن الاجتماعي والتكافل الإسلامي الذي يحفظ للأسرة تماسكها وترابطها.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يؤلفهم في الموطن الخشن
وقد يسأل سائل : لم تكررت وصية الله للأبناء بأن يبروا أبناءهم ؟
والجواب سهل ميسور ؛ ذلك أن الغريزة والفطرة تدفع الوالدين على رعاية الأبناء والتضحية بكل شيء في سبيلهم وكما تمتص النبتة الخضراء كل غداء في الحبة فإذا هي فتات ؛ ويمتص الفرخ كل غداء في البيضة فإذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية – إن أمهلهما الأجل- وهما مع ذلك سعيدان.
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله، ويندفعون إلى الأمام، إلى الزوجات والذرية.. وهكذا تندفع الحياة.
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى التوصية بالأبناء، إنما يحتاج الأبناء إلى تذكيرهم بحق الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف.
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد، بعبادة الله.
ثم تأخذ الآيات في تأكيد هذا المعنى وتحريك عاطفة الحنان والرحمة في صدر الأبناء نحو الآباء فتقول :﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما ﴾. ( الإسراء : ٢٣ ) والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه، وكلمة عندك تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف.
أي : إذا وصل الوالدان عندك أو أحدهما إلى حال الضعف والعجز وصارا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله ؛ وجب عيك أن تشفق عليهما، وأن تعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه ويتجلى ذلك بأن تتبع معهما الأمور التالية :
( أ ) أن لا تتأفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما حتى لو كنت تقضي لهما جميع الأمور لتي كانا يقضيانها لك وأنت صغير فاستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال، ولا تقل لهما إذا أضجرك ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنتهما : أف، فضلا عما يزيد عليه، وفي الأثر : لو علم الله أدنى من أف لقالها.
( ب ) ولا تنهرهما ولا تنغّص عليهما بكلام تزجرهما به بغلظة بل استعمل الرفق واللين والأدب وتحمل منهما ؛ لأن لهما عقلية وتفكيرا وآراء تناسب ضعفهما، قال تعالى :
﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ﴾. ( الروم : ٥٤ ).
وقد يكون أحدهما جائرا أو ظالما أو مخالفا لك في الرأي فحاول أن تنفذ له أمره ولو كان على خلاف رأيك ما لم يكن إثما أو ذنبا ؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية خالق.
( ج ) ﴿ وقل لهما قولا كريما ﴾. أي : قولا حسنا رقيقا فإن الإنسان في هذه السن الكبيرة كالمريض يحتاج على البسمة الجميلة والكلمة الطيبة التي تشرح صدره وتشعره بأنه صاحب الجميل السابق والفضل المتقدم فالأب في كبره ينتظر من ابنه العرفان والثناء، فهذا لعرفان يشيع فيه السرور والرضا ويقنعه أنه ليس عالة ولا ثقلا بل هو يسترد معروفا سابقا ويجني ثمرة غرسها بيديه الكريمتين.
أما إذا قابلته بالعقوق والجحود ؛ فإنه يأسى على ما قدم لك من رعاية حانية في عمرك الطويل كما قال الشاعر العربي يعدد نعمه على ولده وقد عقه في كبره :
غذوتك مولودا وعلتك يافعا تعل بما أجنى عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتمل
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذا لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
١ -﴿إما يبلغن﴾ هي أن الشرطية زيدت عليها ما؛ تأكيدا لها، ثم أدخلت النون المشددة؛ لزيادة التقرير والتأكد كأنه قيل: إن هذا الشرط مما سيقع البتة عادة فليكن هذا الجزاء مترتبا عليه.
﴿أحدهما﴾ فاعل ﴿يبلغن﴾ وفي قراءة: يبلغان فأحدهما بدل من ألفه.
﴿أف﴾ بفتح الفاء وكسرها منونا وغير منون، مصدر بمعنى تبا وقبحا وروى ثعلب: أن الأف: الضجر: القلقة من الأفيف وهو الشيء القليل وتف إتباع له نحو شيطان ليطان، حيث بيث، خبيث نبيث..

﴿ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ( ٢٤ ) ﴾
التفسير :
٢٤- ﴿ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة... ﴾
خفض الجناح يراد به : التواضع والتدلل١. من الرحمة : أي من فرط رحمتك بهما وعطفك عليهما لكبرهما وافتقارهما إليك.
﴿ وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾.
أي : رب تعطف عليهما برحمتك ومغفرتك، كما تعطفا علي في صغري، فرحماني وربياني صغيرا. حتى استقللت بنفسي واستغنيت عنهما.
قال الزمخشري : أي : لا تكتف برحمتك بهما بل ادع الله أن يرحمها برحمته الواسعة، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما بك في صغرك وتربيتهما لك٢.
وكلما كرر الإنسان قراءة هذه الآية ؛ استشعر جمال التعبير القرآني وتلطفه في الوصول إلى حنايا النفس البشرية، وروعته في تصوير الرحمة تصويرا رقيقا لطيفا حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا ولا يرفض أمرا وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام والاستسلام، ﴿ وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ فهي الرعاية والحنان. وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ورعاية الله أشمل. وجنات الله أرحب، وهو أقرب على جزائهما بما بذل من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزاءه الأبناء.
والخلاصة : أن الله سبحان قد بالغ في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر منها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم من حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته ثم شفعها بالإحسان إليهما، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر، ثم أمر بالذل والخضوع للوالدين وبالدعاء لهما والترحم عليهما ؛ فهي خمسة أمور مرتبة كالآتي :
١- الإحسان إلى الوالدين.
٢- عدم التأفف والتضجر وعدم إيذائهما بالقول أو بالفعل.
٣- التلطف في الخطاب والتأدب فيه، مثل ذلك ألا ينادي أحدهما باسمه مجردا ولا يرفع صوته عليه بل يقول : يا أبي ويا أمي ولا يتكبر من أن يقبل يدهما ويبالغ في خدمتهما واحترامهما.
٤- خفض الجناح ولين الجانب كما يفعل الطائر الذليل، لا خوفا ولا رياء ولكن رحمة ورأفة بالسن الكبيرة والشيخوخة المتداعية.
٥- الدعاء لله أن يرحمهما وأن يشملهما بعطفه ورضاه في الدنيا والآخرة.
١ - في هذا التعبير قدرة رائعة في تصوير هذا التواضع والتذلل من الأبناء للآباء وفيه استعارة مكنية وتخيلية فقد شبه الذل بطائر تشبيها مضمرا، وأثبت له الجناح تخييلا والخفض ترشيحا.
وإضافة الجناح إلى الذل؛ للبيان؛ لأنه صفة مبينة. أي: جناحك الذليل وفيه مبالغة؛ لأنه وصف بالمصدر، فكأنه جعل الجناح عين الذل. أو التركيب استعارة تمثيلية فيكون مثلا لغاية التواضع، وسر ذكر الجناح وخفضه تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس..

٢ - من الكشاف بتصرف وانظر محاسن التأويل للقاسمي ١٠/٣٩١٩..
﴿ ربكم أعلم ما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفور ٢٥ ﴾
المفردات :
الأواب : الذي ديدنه الرجوع إلى الله والالتجاء إليه، قال سعيد بن جبير : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير.
التفسير :
٢٥- ﴿ ربكم أعلم بما في نفوسكم... ﴾
أي : بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات.
﴿ إن تكونوا صالحين ﴾ قاصدين الصلاح والبر إلى الوالدين دون العقوق ثم بدرت منكم بادرة في حقهما فأنبتم إلى الله واستغفرتم منها.
﴿ فإنه كان للأوابين غفورا ﴾. أي : الثوابين الرجاعين إليه تعالى بالندم عما فرط منهم فإنه يغفر لهم ما اكتسبوا.
وفي هذا وعد لمن أضمر البر بهم ووعيد لمن تهاون بحقوقهم وعمل على عقوقهم.
والآية كأنها ترد على تساؤل في النفس فإذا قال قائل : كيف يكون بحقهما وقد تبدر بوادر.
فأجابت الآية بأن الأمر كله لله الذي يعلم النوايا ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال.
فإذا كان الابن بارا ثم بدرت بادرة أو هفا هفوة بدون قصد الإساءة وأعقب ذلك بالدم والاستغفار ؛ فإن الله يغفر له ذنبه. يجوز- كما قال الزمخشري- أن يكون هذا عاما لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته الجاني على أبويه التائب من جنايته ؛ لأن الآية وردت في أعقاب الوصية بالوالدين.
الآثار في الوصية بالوالدين
وردت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ووصايا السلف الصالح تؤكد حق الوالدين وتأمر الأبناء برعايتهما والإحسان إليهما وتحمّل أخطائهما والبر بهما والتلطف في القول معهما، فهذا نوع من رد الجميل ومن مقابلة الحسنة بمثلها.
( أ ) قال صلى الله عليه وسلم :
( عفوا ؛ تعف نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم )١.
( بر أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك )٢.
وروى الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( رغم أنف رجل ؛ ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف ؛ رجل دخل عليه شهر رمضان فاسلخ فلمن يغفر له ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة )٣.
( ب ) وقد أمر الدين بإكرام الوالدين في حياتهما وبعد وفاتهما وذلك بزيارة قبرهما والتصدق عليهما وصلة الرحم من أقاربهما وتنفيذ وصيتهما وفعل كل خير عنهما كالحج والصدقة وأداء دين عليها إلى غير ذلك من الأمور الخيرة وأفعال البر والمعروف.
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، هل بقى على من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به. قال :( نعم خصال أربع : الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما )٤.
( ج ) وقد وصى الدين بالأم وكرر الوصية بها وجعل برها مقدما على بر الأب، قال تعالى :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ﴾. ( لقمان : ١٤ ) وروى الشيخان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك. قال : ثم من ؟ قال : أمك. قال ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أبوك٥.
( د ) رعاية الأب للولد :
وصى الدين الأب أن يرع ولده وأن يقوم على تربيته وتهذيبه ؛ فالولد أمانة وقد أمرنا بحفظ الأمانة ورعايتها.
قال تعالى :﴿ وأْمر أهلك بالصلوات واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ﴾ ( طه : ١٣٢ ).
وقال سبحانه :﴿ قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ ( التحريم : ٦ ).
وقال صلى الله عليه وسلم :( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم حتى في التمرة والكلمة الطيبة )٦.
وقيل : ولدك ريحانتك تشمها سبعا وخادمك سبعا، ثم هو عدوك أو شريك.
وقال صلى الله عليه وسلم :( الغلام يعق عنه يوم السابع ويسمى، ويماط عند الأذى فإذا بلغ ست عشرة سنة زوجه أبوه ثم أخذ بيده وقال : أدبتك وعلمتك وأنكحتك أعوذ بك من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة )٧.
ورأى الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل ولده الحسن فقال : إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم. فقال عليه السلام :( إن من لا يَرحم لا يُرحم )٨.
وقال يزيد بن معاوية : أرسل أبي إلي الأحنف بن قيس فلما وصل إليه قال له : يا أبا بحر، ما تقول في الولد ؟ قال : يا أمير المؤمنين، ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم ؛ يمنحوك ودهم، ويحبوك جهدهم ولا تكن عليهم ثقلا ثقيلا فيملوا حياتك ويودوا وفاتك ويكرهوا قربك٩.
١ - عفوا تعف نساؤكم:
ذكره السيوطي في الجامع الصغير (٥٤٤٣) بلفظ: (عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم، وبروا آباؤكم تبركم أبناؤكم، ومن أتاه أخاه متنصلا فليقبل ذلك منه محقا كان أو مبطلا، فإن لم يفعل لم يرد على الحوض) ونسبه للحاكم في المستدرك عن أبي هريرة، وصححه. وقال السيوطي في الذر المنثور: وأخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم.. الحديث). قال الهيثمي في المجمع: وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عفوا تعف نساؤكم، وبروا آباؤكم تبركم أبناؤكم، ومن اعتذر إلى أخيه المسلم من شيء بلغه عنه، فلم يقبل عذره، لم يرد على الحوض. رواه الطبراني في الأوسط وفيه خالد بن زيد العمري وهو كذاب..

٢ - بر أمك وأباك وأختك وأخاك:
أبو داود في الأدب (٥١٤٠) من حديث كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسل الله، من أبر؟ قال: (أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك حق واجب ورحم موصولة). ورواه النسائي في الزكاة (٢٥٣٢) من حديث طارق المحاربي قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول: أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك) مختصر. ورواه أحمد في مسنده (٧٠٦٥) من حديث أبي رمثة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يد المعطي العليا أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك) وقال رجل: يا رسول الله، هؤلاء بنو يربوع قتله فلان قال: (ألا لا تجني نفس على أخرى). ورواه أحمد في مسنده (١٦١٧٧) من حديث رجل من بني يربوع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول: (يد المعطى العليا أمك وأختك وأخاك وأباك وأختك ثم أدناك فأدناك) قال: فقال رجل: يا رسول الله، هؤلاء بنو ثعلبة الذين أصابوا فلانا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا تجني نفس على أخرى). قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. قال المناوي في الفيض: قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري: إسناده حسن وهو في البخاري بتقديم وتأخير. وقضية صنيع المؤلف أن هذا لم يخرج في الصحيحين ولا أحدهما وهو عجب فقد خرجه البخاري من حديث أبي هريرة بزيادة ولفظه: (اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصداقة ما كان عن ظهر غني ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله). وقال المنذري: خرجه الشيخان معا بنحوه عن حكيم بن حزام..

٣ - رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له:
رواه الترمذي في الدعوات باب ١١٠ (٣٦١٣) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ. ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له. ورغم أنف رجل أدرك عنده أبوه الكبر فلم يدخلاه الجنة). قال عبد الرحمان: وأظنه قال: (أو أحدهما). وفي الباب عن جابر وأنس: هذا حديث حسن غريب..

٤ - رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقد أورده ابن كثير في تفسيره والغزالي في الإحياء ٢/١٩٣..
٥ - من أحق الناس بحسن صحابتي:
رواه البخاري في الأدب (٥٩٧١) ومسلم في البر (٢٥٤٨) وأحمد في مسنده (٨١٤٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك) قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك) قال: ثم من؟ قال: (ثم أبوك)..

٦ - اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم:
رواه البخاري في الهبة (٢٥٨٧) ومسلم في الهبات (١٦٢٣) من حديث عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة؛ لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله؛ قال: (أعطيتك سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم!) قال: فرجع فرد عطيته..

٧ - ابن حبان..
٨ - من لا يَرحم لا يُرحم:
رواه البخاري في الأدب (٥٩٩٧) ومسلم في الفضائل (٢٣١٨) وأبو داود في الأدب (٥٢١٨) والترمذي في البر (١٩١١) وأحمد في مسنده (٧٠٨١) من حديث أبي هريرة قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحد! فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (من لا يَرحم لا يُرحم)..

٩ - إحياء علوم الدين ٢/١٩٤..
{ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذّر تبذيرا ( ٢٦ ) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا٢٧ )
تمهيد :
ولما ذكر تعالى بر الوالدين أتبع ذلك بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام ثم بين حق الفقراء والمساكين الأجانب ﴿ وآت ذا القربى حقه ﴾ والأمر للوجوب عند أبي حنيفة فعنده يوجب على الموسر مواساة أقاربه إذا كانوا محارم كالأخ والأخت وعند غيره للندب فلا يجب عند غيره إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب١.
وقد تكررت وصية القرآن بصلة الرحم والعطف على الأقارب فقال سبحانه :﴿ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصَل... ﴾ ( الرعد : ٢١ ).
﴿ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم ﴾. ( محمد : ٢٢ ).
وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل :( أنا الرحمان وهذه الرحم فمن وصلها ؛ وصلته ومن قطعها ؛ قطعته )٢
التفسير :
٢٦- ﴿ وآت ذا القربى حقه... ﴾
يفيد : أن للقريب حقا في مال قريبه كما أن صلة الرحم سبب في سعة الرزق وكثرة العدد والبركة والنماء ففي الحديث الشريف ( من أحب أن يبسط له في رزقه ويسأله في أجله ؛ فليصل رحمه )٣.
وقال عليه السلام : الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان )٤.
ولما أراد أبو طلحة أن يتصدق بحائط كان له ؛ عملا بقوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ ( أل عمران : ٩٢ ). قال : يا رسول الله، هو في سبيل الله والفقراء والمساكين فقال عليه السلام :( وجب أجرك على الله فاقسمه في أقاربك )٥ وإيتاء ذي القربى حقه يكون بالصدقة وصلة الرحم وحسن المعاشرة والإنفاق عليه.
والمسكين أي : الفقير من الأباعد، فالصدقة على المسكين القريب صدقة وصلة رحم، وعلى المسكين البعيد صدقة فقط.
وابن السبيل أي : المسافر الذي انقطع به الطريق فيجب إعانته ومساعدته على سفره حتى يصل إلى مقصده.
ولا تبذر تبذيرا أي : بوجه من الوجوه بالإنفاق في محرم أو مكروه أو على من لا يستحق.
وفي الكشاف :
كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر٦ عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف.
والتبذير هو إنفاق المال في وجوه الملذات والشهوات فهو تبذير النعمة وتوجيهها في غير الوجه السليم أما إنفاق المال في الخير والبر ومساعدة المحتاجين. فهو نعمة محمودة، فنعم المال الصالح للرجل الصالح.
قال عثمان بن الأسود : كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس ( جبل بمكة ) وقال : لو أن رجلا أنفق مثل هذا في الله لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله كان من المسرفين، وأنفق بعضهم نفقة في خير وأكثر فقيل له : لا خير في الإسراف فقال : لا إسراف في الخير.
وروى أحمد عن أنس بن مالك : أنه قال : أتى رجل من تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( تخرج الزكاة من مالك إن كان فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك وتعرف ح الجار والمسكين ).
فقال : يا رسول الله، أقلل لي، قال :﴿ فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ﴾، فقال : حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برأت منها إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برأت منها ولك أجرها وإثمها على من بدلها ).
وقال ابن مسعود : التبذير : الإنفاق في غير حق.
وعن علي كرم الله وجهه قال : ما أنفقت على نفسي وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت ؛ فلك، وما أنفقت رياء وسمعة ؛ فذلك حظ الشيطان.
٣ - من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له:
رواه البخاري في البيوع (٢٠٦٧) وفي الأدب (٥٩٨٥، ٥٩٨٦) ومسلم في البر والصلة (٢٥٥٧) وأبو داود في الزكاة (١٦٩٣) (١٢١٧٨، ١٣١٧٣) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن يبسط في رزقه أو ينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه)..

٤
٦٥- رواه أبو داود في الصوم (٢٣٥٥) والترمذي في الزكاة (٦٥٨) وابن ماجة في الصيام (١٦٩٩) وأحمد في مسنده (١٥٧٩٢) من حديث سلمان بن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة فإن لم يجد تمرا فالماء فإنه طهور- وقال- الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة). وقال الترمذي: حديث حسن. وقال في الآخر: حسن صحيح..

٥ - أرى أن تجعلها في الأقربين:
رواه البخاري في الزكاة (١٤٦١) وفي الوكالة (٢٣١٨) وفي الوصايا (٢٧٦٩) وفي التفسير (٤٥٥٥) وفي الأشربة (٥٦١١) ومسلم في الزكاة (٩٩٨) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهم قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ قال أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بخ! ذلك مال رابح ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه..

٦ - أي: تلعب المسير عليها فمن خسر اللعب دفع ثمن الإبل ثم وزعت على الفقراء..
تمهيد :
ولما ذكر تعالى بر الوالدين أتبع ذلك بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام ثم بين حق الفقراء والمساكين الأجانب ﴿ وآت ذا القربى حقه ﴾ والأمر للوجوب عند أبي حنيفة فعنده يوجب على الموسر مواساة أقاربه إذا كانوا محارم كالأخ والأخت وعند غيره للندب فلا يجب عند غيره إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب١.
وقد تكررت وصية القرآن بصلة الرحم والعطف على الأقارب فقال سبحانه :﴿ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصَل... ﴾ ( الرعد : ٢١ ).
﴿ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم ﴾. ( محمد : ٢٢ ).
وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل :( أنا الرحمان وهذه الرحم فمن وصلها ؛ وصلته ومن قطعها ؛ قطعته )٢
٢٧- ﴿ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين... ﴾
أي : أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي، أو هم قرناء الشياطين في النار على سبيل الوعيد والعرب تقول لكل من لازم سنة قوم واتبع أثرهم : هو أخوهم أي : إن المفرقين أموالهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته ؛ قرناء الشياطين في الدنيا والآخرة.
قال تعالى :﴿ ومن يَعْشُ عن ذكر الرحمان نُقيضْ له شيطانا فهو له قرين ﴾ ( الزخرف : ٣٦ ). وقال :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجَهم ﴾ ( الصافات : ٢٢ ). أي : قرناءهم من الشياطين.
﴿ وكان الشيطان لربه كفورا ﴾. أي : مبالغا في كفران نعمته تعالى لا يؤدي حق النعمة، كذلك إخوانه المبذرين لا يؤدون حق النعمة، بل ينفقون أموالهم في معصية الرحمان ويسلكون بها سبل الشيطان.
قال الكرخي : وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفرا لنعمة الله ؛ لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل.
وقد كان من عادة العرب أن يجمعوا أموالهم من السلب والنهب والغارة ثم ينفقونها في التفاخر وحب الشهرة. وكان المشركون من قريش ينفقون أموالهم ؛ ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه، فجاءت الآية تبين قبح أعمالهم.
{ وإما تعرضنّ عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ٢٨ )
التفسير :
٢٨- ﴿ وإما تعرضنّ عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ويسورا ﴾.
أي : وإن أعرضت عن ذوي القربى وابن السبيل حياء من الرد لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه فلا تؤيسهم وقل لهم قولا لينا سهلا وعدهم وعدا جميلا، قال الحسن : أمر أن يقول لهم : نعم وكرامة، وليس عندنا اليوم شيء فإن يأتنا نعرف حقهم، في هذا تأديب من الله لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون وبم يردون ؟
قال السيوطي في الإكليل : في هذه الآية الأمر بالقول اللين عند عدم وجود ما يعطي منه، وفسره ابن زيد بالدعاء، والحسن وابن العباس بالعدة.
﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ( ٢٩ ) إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( ٣٠ ) ﴾
المفردات :
المغلولة : المقيدة بالغل وهو القيد يوضع في اليدين والعنق.
تبسطها أي : تتوسع في الإنفاق.
المحسور : المنقطع عن السير إعياء وكلالا.
التفسير :
٢٩- ﴿ ولا تجعل يدك مغلولة... ﴾
نهانا الله عن البخل والشح كما نهانا عن الإسراف والتبذير وأمرنا بالتوسط في النفقة كما قال عز شأنه في آية أخرى :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ﴾ ( الفرقان : ٦٧ ).
والتوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي، والغلو كالتفريط يخل بالتوازن والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير، فيرسم البخل يدا مغلولة إلى العنق ويرسم الإسراف يدا مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئا ويرسم نهاية البخل والإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور. والحسير١ : هي الدابة التي تعجز عن السير فتقف ضعفا وعجزا فكذلك البخيل حسره بخله فيقف، وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير ملوما في الحالتين على البخل وعلى السرف وخير الأمور الوسط٢.
وجعل ابن كثير قوله تعالى :﴿ فتقعد ملوما محسورا ﴾ من باب اللف والنشر المرتب قال : أي : فتقعد إن بخلت، ملوما يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك كما قال زهير :
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قوه يستغن عنه ويذمم
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك ؛ قعدت بلا شيء تنفقه فتكون كالحسير الممنوع من المسير وهو مأخوذ من الكلال والإعياء كما قال :﴿ فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ﴾ ( الملك : ٤، ٣ ). أي : كليل على أن يرى عيبا.
وقد ذهب ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم إلى أن المراد بالآية : النهي عن البخل والإسراف.
الآثار في الموضوع :
ورد في كتب السنة الصحاح : ذم البخل والشح والتحذير منهما، فمن ذلك ما ورد في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما : اللهم، أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر : اللهم، أعط ممسكا تلفا ).
وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا :( ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبدا أنفق إلا عزا ومن تواضع لله رفعه الله )، وفي الحديث ( إياكم والشح ؛ فإنه أهلك من كان قبلكم ؛ أمرهم بالبخل ؛ فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة ؛ فقطعوا، وأمرهم بالفجور ؛ فجروا ).
كما ورد في كتب السنن : الأمر بالاقتصاد في النفقة والاعتدال والتوسط، روى الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما عال من اقتصد ) وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة ) وروى عن أنس مرفوعا :( التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين ). وقيل : حسن التدبير مع العفاف خير من الغنى مع الإسراف.
١ - ﴿حسير﴾ بزنة فعيل يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث تقول: رجل حسير وامرأة حسير كما تقول رجل كحيل وامرأة كحيل..
٢ - وفي الآية استعارتان تمثيليتان، شبه في الأولى فعل الشحيح في منعه بمن يده مغلولة لعنقه بحيث لا يقدر على مدها، وفي الثانية: شبه المسرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئا..
المفردات :
يقدر : أي : يقتر.
٣٠- ﴿ إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر... ﴾
أي : يوسعه ويضيقه حسب مشيئته وحكمه. ﴿ إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ﴾. أي : خبيرا ببواطنهم بصيرا بظواهرهم، فهو يبسط الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر ويقدر الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر ويأمر بالقصد والاعتدال، وينهى عن البخل والإسراف، وهو الخبير البصير بالأقوام في جميع الأحوال.
وقال ابن كثير : خبيرا بصيرا بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر كما جاء في الحديث :( إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته فسدت عليه دينه ). وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجا، والفقر عقوبة عياذا بالله من هذا وهذا، ١ ه.
وقصارى القول : إنكم إذا علمتم أن شأنه تعالى البسط والقبض وأمعنتم النظر في ذلك ؛ وجدتم أن من سننه تعالى الاقتصاد فاقتصدوا واستنوا بسنته.
﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ( ٣١ ) ﴾
المفردات :
الإملاق : الفقر، قال الشاعر :
وإني على الإملاق يا قوم ماجد *** أعد لأضافي الشواء المضهبا
الخطء : كالإثم لفظا ومعنى.
التفسير :
٣١- ﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن رزقهم وإياكم... ﴾
أي : لا تئدوا بناتكم خوف الفقر فنحن نرزقهم لا أنتم، فلا تخافوا الفقر لعلمكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم. وقد كان العرب في جاهليتهم يقتلون البنات لعجزهن عن الكسب وقدرة البنين عليه بالغارات والسلب والنهب، ولأن فقرهن ينفر الأكفاء عن الرغبة فيهن فيحتاجون إلى تزويجهن لغير الأكفاء وفي ذلك عار أيما عار عليهم.
والخلاصة : أن الأرزاق بيد الله، فكما يفتح خزائنه للبنين يفتحها للبنات فليس لكم سبب يدعو إلى قتلهن، ومن ثم قال :﴿ إن قتلهم كان خطئا كبيرا ﴾ أي : إن قتلهم كان إثما فظيعا ؛ لما فيه من انقطاع النسل وزوال هذا النوع من الوجود، وفي الصحيحين : عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ قال :( أن تجعل لله ندا وهو الذي خلقك )، قلت : ثم أي ؟ قال :( أن تقتل ولدك ؛ خشية أن يطعم معك ) قلت : ثم أي ؟ قال :( أن تزاني حليلة جارك ).
ونقف هنا لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة، ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء ﴿ نحن نرزقهم وإياكم ﴾. وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء ﴿ نحن نرزقكم وإياهم ﴾.
وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين. فهذا النص ﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ﴾. والنص الآخر :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ﴾ هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد، وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلا. فقم رزق الآباء فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك.
وقد لا يتصور إنسان أن يجرؤ والد على قتل ولده، ولكن انحراف العقيدة وفسادها ينشئ هذه الآثار الضارة في حياة المجتمع.
لقد كانت مفاهيم الجاهلية تقوم على أساس تعظيم الغنى لذاته وتحقير الفقير لذاته، وكان الصعاليك يفتخرون بالغارة والسلب والنهب ؛ ليصبحوا أثرياء محترمين، ومن ذلك قول عروة ابن الورد لزوجته :
ذريني للغنى أسعى فإني *** رأيت الناس شرهم الفقير
وأحقرهم وأهونهم عليهم *** وأن أضحى له نسب شهير
وينسى في الندى وتزدريه حليلته وينهره الصغير
ويلفى ذو الغنى وله جلال *** يكاد فؤاد صاحبه يطير
عظيم ذنبه والذنب جم *** ولكن للغنى رب غفور
فلما جاء الإسلام قام على أساس العقيدة السليمة من الإيمان بالله ربا وخالقا ورازقا، ومن احترام إنسانية الإنسان وتحريم قتله وفي الحديث :( الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بينيان الله ) كما قوم الإسلام المفاهيم الخاطئة ؛ فين أن الناس جميعا من أب واحد وأم واحدة وأنهم عند الله سواء يتفاضلون عنده بالتقوى ويدركون ثوابه بالعمل الصالح.
وإن المجد والفخار لا يكون بالغنى ولا بالأثاث والرياش والمتاع وإنما يكون بعمل نافع وخدمة إنسانية وإصلاح للمجتمع، وفي الأثر :( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ؛ إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ).
والخلاصة : أن قتل الأولاد كان من آثار انحراف العقيدة، وأن سلامة العقيدة له أثره العلمي في واقع الجماعة الإسلامية، وأن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة، وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة.
﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ( ٣٢ ) ﴾
التفسير :
٣٢- ﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾.
ولا تقربوا، أي : لا تقتربوا منه ولا من مقدماته، كاللمسة والقبلة والنظرة والغمزة والفاحشة : الفعلة الظاهرة القبح، وساء سبيلا : قال الطبري : ساء طريق الزنا طريقا ؛ لأنه طريق أهل معصية الله والمخالفين أمره، فأسوئ به طريقا يورد صاحبه نار جهنم !
من مفاسد الزنا :
١- اختلاط الأنساب واشتباهها، وإذا اشتبه المرء في الولد الذي أتت به الزانية أمنه أم من غيره ؛ لا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده وذلك مما يوجب إضاعة النسل وانتشار الفساد.
٢- فتح باب النزاع والاضطراب بين الناس ؛ دفاعا عن العرض فكم سمعنا بحوادث قتل كان مبعثها الإقدام على الزنا حتى إنه ليقال عند السماع بحادث قتل :( فتش عن المرأة ).
٣- أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهامه وأن تكون راعية للأولاد وهذه المهام لا تتم على وجه الكمال إلا إذا كانت مختصة برجل واحد منقطعة له دون غيره من الناس.
ونلاحظ أن الله تعالى ذكر النهي عن قتل الأولاد، ، وقبل النهي عن قتل النفس، وعلة ذلك أن الزنا في حد ذاته قتل من نواحي شتى : أنه قتل ابتداء ؛ لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها، يتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق قبل مولده أو بعد مولده، فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة ؛ أو حياة مهينة فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الأنحاء.. وهو قتل في صورة أخرى قتل للجماعة التي يفشوا فيها، فتضيع الأنساب وتختلط الدماء وتذهب الثقة في العرض والولد، وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها، فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات، وهو قتل للجماعة من جانب آخر، إذ إن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها ويجعل الأسرة تبعة لا داعي لها، والأسرة هي المحصن الصالح للتربية وهي الجو الملائم لتنشئة الأطفال ورعايتهم وتعذيب غرائزهم ورعاية نموهم النفسي والبدني والاجتماعي، وقد كتب أحد علماء التربية الأجانب كتابا بعنوان :( أطفال بلا أسر )، ذكر فيه : أنه لاحظ البون الشاسع بين الأطفال التي تنشأ في الملاجئ والمؤسسات، والأطفال التي تنشأ في أسرة طبيعية، فأطفال المؤسسات عندهم بطء في الاستجابة للمناغاة والمناداة وبصعوبة بالغة يمكن أن تنتزع من أحدهم ابتسامة، أما الطفل الطبيعي فهو طبيعي في انفعاله ومناغاته ومناجاته، وذلك له أثره في النمو النفسي والتكامل الاجتماعي لشخصية الطفل في مستقبل حياته.
وإذا رجعنا إلى تاريخ البشرية الطويل رأينا أنه ما من امة من الأمم فشت فيها الفاحشة ؛ إلا صارت إلى انحلال وهزيمة، وقد يغتر بعضنا بأن أوربا وأمريكا تملكان زمام القوة المادية اليوم مع فشو هذه الفاحشة فيهما، ولكن آثار هذا الانحلال في الأمم القديمة منها كفرنسا ظاهرة لا شك فيها، أما في الأمم الغنية كالولايات المتحدة، فإن فعلها لم تظهر بعد آثاره بسبب حداثة هذا الشعب، واتساع موارده، كالشاب الذي يسرف في شهواته فلا يظهر أثر الإسراف في بنيته وهو شاب ولكن سرعان ما يتحطم عندما يدلف إلى الكهولة فلا يقوى على احتمال آثار السن كما يقوى عليها المعتدلون من أنداده.
والقرآن يحذر من مقاربة الزنا. وهي مبالغة في التحرز ؛ لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة، فالتحرز من المقاربة أضمن، عند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان.
ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة ؛ توقيا للوقوع فيه، يكره الاختلاط في غير ضرورة، ويحرم الخلوة، وينهى عن التبرج بالزينة، ويحض على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع. ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور، وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ؛ ليحصنوا أنفسهم، ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع، وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان... إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج، ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال.
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة : أن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فجزروه، وقالوا : مه مه١. فقال :( ادنه ). فدنا منه قريبا فقال :( اجلس ) فجلس، فقال :( أتحبه لأمك ؟ ) قال : لا والله جعلني الله فداك، قال :( ولا الناس يحبونه لأمهاتهم )، قال :( أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال :( ولا الناس يحبونه لبناتهم ). قال :( أفتحبه لأختك ؟ ) قال : لا والله جعلني الله فداك. قال :( ولا الناس يحبونه لأخواتهم ). قال :( أفتحبه لعمتك ؟ ) قال : لا والله جعلني الله فداك. قال :( ولا الناس يحبونه لعماتهم ). قال : لا والله جعلني الله فداك. قال :( ولا الناس يحبونه لخالاتهم ). قال : فوضع يده عليه وقال :( اللهم، اغفر ذنبه وطهر قلبه وأحصن فرجه ) قال : فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء٢.
وفي الحديث ( ما من ذنب يعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له )٣.
وفي صحيح البخاري يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه )٤.
الزنا الموجب للحد
عرف الفقهاء الزنا بأنه : وطء الرجل المرأة في القبل حراما كالميل في المكحلة، أو القلم في الدواة.
وجاء في كتاب الاختيار ما يأتي :
يثبت الزنا بالبينة والإقرار، والبينة أن يشهد أربعة على رجل أو امرأة بالزنا فإذا شهدوا يسألهم القاضي عن ماهيته وكيفيته ومكانه وزمانه والمزنى بها فإذا بينوا ذلك، وذكروا أنها محرمة عليه من كل وجه وشهدوا به كالميل في المكحلة والقلم في الدواة وعدلوا في السر والعلانية ؛ حكم القاضي عليه بالحد : وحد الزنا إذا كان محصنا ٥ الرجم بالحجارة حتى يموت ويخرج إلى أرض فضاء فإن كان ثبت بالبينة يبتدئ بالشهود، ثم الإمام، ثم الناس فإذا امتنع الشهود أو بعضهم ؛ لا يرجم. وإذا تبت بالإقرار ابتدأ الإمام، ثم الناس.
وإن لم يكن محصنا فحده الجلد مائة جلدة يضرب بسوط لا ثمرة ٦ له ضربا متوسطا يفرقه على أعضائه إلا رأسه ووجهه وفرجه، ويجرد عن ثيابه إلا الإزار، ولا تجرد المرأة إلا عن الفرو والحشو٧.
والأصل في عقوبة الزنا ما ورد من تقديرها بمائة جلدة في الآية الثانية والثالثة من سورة النور، حيث يقول سبحانه :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهم مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين }. ( النور : ٣، ٢ ).
ونلاحظ أن بعض الخوارج والشيعة وبعض المعتزلة يرون أن لا عقوبة في الزنا غير الجلد مائة جلدة للمتزوج وغير المتزوج٨.
وقد ورد في التوراة : أن عقوبة الزاني المحصن الرجم، جاء في سفر التثنية ( وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل بالمدينة فأضجع معها ؛ فأخرجوهما كليهما من المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه فينتزع الشر من المدينة ).
والخلاصة :
١- أن جلد الزناة يثبت بالنصوص الصريحة التي لا شبهة فيها.
٢- أن دين الفضيلة يحارب الرذيلة بعقوبة قاسية رادعة ؛ لأن رذيلة الزنا تدفع إليها شهوة جامحة فلا بد أن تكون عقوبتها شديدة.
٣- أن الإنسان الشهواني الذي يذوق عسيلة الرذيلة ويستطيبها يجب أن يعاقب بما يكون أشد إيلاما لجسمه، كما أحس جسمه باللذة فيجب أن يوزع الجلد على جميع هذا الجسم ؛ ليكون الجزاء من جنس العمل.
أضرار الزنا
تحدث الأطباء عن أضرار الزنا من الناحية الصحية فذكروا أنه سبب لكثير من الأمراض والأوبئة وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : ما ظهرت الفاحشة في قوم يتعامل بها علانية ؛ إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيمن قبلهم ). والطاعون : كل وباء فتاك ينخر في عظام الإنسان كما ينخر السوس في مادة الخشب.
الزهري
يقول الدكتور أحمد وصفي في كتابه ( القرآن والطب ) :
( الزهري : ثالث مرض في العالم يتسبب في إزهاق النفوس وتضييع الأرواح وينتشر في العالم انتشار فاحشة الزنا، والإصابة به في لندن وحدها حوالي ١٠% وفي عاصمة فرنسا ١٥% من سكانها ولا يقل عدد المصابين به في القطر المصري، عن المليونين.
هذا المرض يعدي بمجرد اللمس عن طريق الزنا أو بمجرد تقبيل المصاب لغيره أو ملامسته وتسببه جرثومة خاصة تسمى ( الأسبيروشيت باليدا ) وينقل الزهري بالوراثة إلى نسل المصابين به.
ويفتك الزهري بمخ الزاني فتكا ذريعا فتلتهب سحاياه خاصة جزء ( الأم الجنون ) وتصاب كذلك أوعيته الدموية التي تضيق حتى ينتهي الأمر بإفسادها.
السيلان
والسيلان : من الأمراض الفتاكة التي تسببها كذلك هذه الفاحشة، ويسبب الداء جرثومة خاصة تسمى : بالجونوككس، وهو كثير في مدن العالم.
وهو مرض فتاك يترك المصاب به في حالة من الألم والمرض، مما يعطل حركته ويشل تفكيره ويجعله عضوا أشل في المجتمع.
إصابة المرأة :
ولقد ثبت أن كل امرأة اتصلت برجل مصاب بهذا الداء ؛ لا بد أن تصاب به هي الأخرى ؛ لاستعدادها لقبول العدوى، ولقابلية جهازها التناسلي لاستقبال جراثيمه المرضية، فتفتك به، وتعطل وظيفته، إذا لم تفقدها تماما.
إصابة الرجل :
ويصيب السيلان الرجل إصابات بالغة إذا تلتهب عنده كذلك فتحة البول ويشتد احمرارها، وتصاب حوافيها بالورم، فتنقلب على نفسها، وقد تتآكل أطرافها، ثم يمتد الورم في عضو التناسل فيعوق التبول ويشعر المصاب بالآلام المبرحة أثناءه.
وتصاب البروستاتا كذلك بالسيلان إصابة شديدة فتلتهب ويزداد حجمها، ولعل إصابة الحويصلات المنوية من أشد الإصابات وعن طريقها ينتقل المرض إلى الطرف الآخر.
أمراض أخرى
وهناك أمراض أخرى لا يستهان بها يصاب بها الزناة، منها : القرحة الرخوة، وجرب التناسل، وسنط التناسل، وقمل العانة، وغير ذلك من الأوبئة الفتاكة التي تنتق بالعدوى بين الزناة الملوثين٩.
ولعل فيما نقلت مثلا لبعض ما عناه تعال في قوله عن الزنا :﴿ إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾ ( الإسراء : ٣٢ ).
١ - مه: اسم فعل بمعنى: اكفف عما تقول..
٢ - أتحبه لأمك؟!:
رواه أحمد في مسنده (٢١٧٠٨) من حديث أبي أمامة قال: إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا؛ فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مه مه! فقال: (ادنه) فدنا منه قريبا قال: فجلس، قال: (أتحبه لأمك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم) قال: (أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني فداءك قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم) قال: (أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم) قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: (ولا الناس يحبونهم لخالاتهم) قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله الصحيح..

٣ - ما من ذنب بعد الشرك أعظم:
ذكر السيوطي في الجامع الصغير (٨٠٣٠) بلفظ: (ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له). ونسبه لابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي. قال المناوي في الفيض: قال في التقريب: ثقة من الخامسة وهو صريح في كونه غير صحابي فكان على المنصف أن يقول: مرسلا..

٤ - إن الله كتب على ابن آدم حظه:
رواه البخاري في الاستئذان ح٦٢٤٣، وفي القدر ح ٦٦١٢، ومسلم في القدر ح ٢٦٥٧، وأبو داود في النكاح ح ٢١٥٢، وأحمد ح ٧٦٦٢، ٦٧٤٣٧، ٢٧٠٢٣، من حديث أبي هريرة..

٥ - المحصن: هو الذي سبق له الزواج..
٦ ثمر السياط: عقد أطرافها..
٧ - الاختيار (فقه حنفي) تأليف: عبد الله موصلي ٣/٤٠-٤١..
٨ - المؤتمر الرابع لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ص ‍١٨٥..
٩ - الدكتور/محمد وصفي، القرآن والطب ٨٣-١٠٣ وبه وصف تفصيلي لأمراض الزنا وأوبائه التي تقشعر منها الأبدان وتنفر منها النفوس..
﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ( ٣٣ ) ﴾
المفردات :
السلطان : التسلط والاستيلاء.
لا يسرف : أي : لا يتجاوز الحد المشروع فيه.
التفسير :
٣٣- ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق... ﴾
أي : لا تقتلوا النفوس التي حرم الإسلام قتلها إلا قتلا متلبسا بالحق.
لقد كرم الله الإنسان ؛ فحلقه بيده ونفح فيه من روحه وأسجد له الملائكة، وسخر له ما في الكون وفضله على كثير من خلقه، وحرم الله قتل الإنسان لأن الإنسان، بنيان الله، أحكم الله بناءه وأودع فيه الروح ووهبه الحياة وحرم إزهاق روح الإنسان والعدوان على حياته، وجعل القتل من الكبائر بل هو من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله.
وقد تكرر التحذير من الزنا في القرآن أكثر من القتل من التحذير من القتل ؛ لأن الأول تدفع إليه الشهوة والرغبة، فتكرر التحذير منه، أما الإقدام على القتل فلا يوجد إلا لأسباب خاصة، وقد أباح الدين القتل في ثلاثة مواضع :
١- القصاص : أي : قتل النفس بالنفس.
٢- الزاني المحصن، فعقبه الرجم.
٣- المرتد الذي ترك دين الإسلام ورجع عنه.
روى الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله عليه وسلم قال :( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة )١.
فالإسلام شرع القصاص وجعله حياة للأمة والأفراد فقال سبحانه :﴿ ولكم في القصاص حياة... ﴾ ( البقرة : ١٧٩ ) ؛ لأن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل عدوه أو خصمه سيقتل بسبب ذلك ؛ كف عن هذا الاعتداء.
ولأن ولي المقتول إذا علم أنه سيؤخذ له بالثأر وستتكفل الدولة بالقصاص ؛ هدأت نفسه وسكنت ثورته ؛ وإلا لاندفع أولياء المقتول في قتال القاتل وأهله في ثورة غضبهم، والقصاص حياة، لأن كل فرد يؤمن على شخصه ويطمئن إلى عدالة القصاص فينطلق إلى عمله وإنتاجه فإذا الأمة كلها في الحياة.
وأما الثيب الزاني ؛ فلأنه جحد بنعمة الله، وترك زوجته الحلال وانطلق يفسد في الأرض وينتهك ؛ الأعراض ويعرض النسل للقتل والضياع فاستحق القتل.
وأما المرتد فإنه يقتل ؛ لأنه اختار الإسلام برغبته ودخل في جسم الجماعة المسلمة واطلع على أسرارها فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها ولو بقي خارجها من أول الأمر ما أكرهه أحد على الإسلام، بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب، وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين، وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة.
والحديث النبوي بتمامه تفسير لقوله تعالى : إلا بالحق، فقد حدد الحالات الثلاث التي يكون فيها القتل بالحق أي : بالعدل.
قال النيسابوري في تفسيره : ثم إنه دلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يُقَتَّلوا... ﴾ الآية. ( المائدة : ٣٣ ).
وقد أبدى الفقهاء أسبابا أخرى منها : أن تارك الصلاة يقتل عند الشافعي دون أبي حنيفة وكذا اللائط، ومنها : الساحر إذا قال : قتلت فلانا بسحري، وجوز بعضهم قتل من يمنع الزكاة.
والذين منعوا القتل في هذه الصور قالوا : الأصل حرمة القتل كما بيناه فلا يترك هذا الدليل إلا لمعارض أقوى لا أقل من المساوي وهو النص المتواتر٢.
﴿ ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ﴾ أي : ومن قتل بغير حق يوجب قتله، جعلنا لمن يلي أمره من وارث أو سلطان عند عدم الوارث تسلطا واستيلاء على القاتل بمؤاخذته بأحد أمرين : إما القصاص منه وإما الدية لقوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى... ﴾ الآية. ( البقرة : ١٧٨ ). ولقوله عليه السلام يوم الفتح :( من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية )٣.
﴿ فلا يسرف في القتل ﴾. أي : فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا بإزاء واحد كما كان يقع في الثأر الجاهلي الذي يأخذ فيه الآباء والإخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل، ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل والوالي مسلط على دمه بلا مثلة والرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عنها.
﴿ إنه كان منصورا ﴾. أي : إن الله أنصر الولي بأن أوجب له القصاص وأمر الحكام أن يعينوه على استيفاء حقه، فلا ينبغي ما وراءه ولا يطمع في الزيادة على ذلك، وقد يكون المعنى : أن المقتول ظلما منصور في الدنيا بإيجاب القود له على قاتله، وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله٤.
وهذه الآيات أول ما نزل من القرآن الكريم في شأن القتل ؛ لأنها مكية٥.
١ - لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث:
رواه البخاري في الديات ح ٦٣٧٠، ومسلم في القسامة٣١٥٧، ٣١٦٧، والترمذي في الديات ح ١٣٢٢، وفي الحدود ح ١٣٦٤، والنسائي في تحريم الدم ح ٣٩٥١، وفي القسامة ح ٤٦٤٢، وأبو داود في الحدود ح ٣٧٨٨ وبن ما جة في الحدود ح ٢٥٢٥، وأحمد ح ٣٤٣٨، ٣٨٥٩، ٤٠٢٤، والدرامي في االحدود ٢١٩٦..

٢ - تفسير النيسابوري بهاشم تفسير الطبري ١٥ /٣٥ ط بولاق..
٣ - تفسير المراغي ١٥/٤٣..
٤ - روي هذا المعنى عن مجاهد، وانظر تفسير النيسابوري ٥/٣٦..
٥ - تفسير المراغي ١٥/٤٤..
﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( ٣٤ ) ﴾
المفردات :
اليتيم : اسم يطلق على من فقد والده صغيرا ويظل الاسم يطلق عليه بعد بلوغه وكان صلى الله عليه وسلم يسمى : يتيم أبي طالب، واليتامى : جمع يتيم ذكرا كان أو أنثى، أما الأيتام فجمع للذكران فقط.
التي هي أحسن : أي : الطريق التي هي أحسن.
العهد : ما تعاهدون عليه غيركم من العباد لتوثيقه وتوكيده.
التفسير :
٣٤- ﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ﴾.
أي : لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالطريق التي هي أحسن الطرق وهي طريق حفظه وتثميره بما يزيد فيه ؛ حتى تستحكم قوة عقله وشبابه وإذ ذاك يمكنه القيام على ماله بما فيه المصلحة.
ولما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا لا يخالطون اليتامى في طعام ولا غيره فأنزل الله تعالى :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح... ﴾ ( البقرة : ٢٢٠ ). فكانت لهم فيها رخصة في المخالطة إذا كان الولي صادق النية في مخالطة اليتيم لمواساته وتعويضه عن أبيه ورعاية ماله وتثميره.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة النساء :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف... ﴾ ( النساء : ٦ ).
ومدلولها : أنه يجب على الولي أن يختبر اليتيم بالتدريب العلمي بعد التدريب النظري فتطلب منه أن يمسك حساب البيت أو يشتري لوازم الأسرة فإذا بلغ الحلم وآنست فيه الرشد وحسن التصرف ؛ سلمت إليه ماله وقد نهى القرآن عن أكل مال اليتيم، كما نهى عن تبديده والإنفاق منه بالإسراف والتبذير قبل أن يكبر اليتيم ويسترد ماله.
والوصي على اليتيم له أن يأخذ من مال اليتيم بمقدار ما يبذل له من رعاية وتثمير فإن كان الوصي غنيا ؛ فلا يأخذ شيئا من مال اليتيم وإن كان فقيرا ؛ أخذ ما يكفي بالمعروف ؛ إذ كان الوصي يقوم برعاية المال كأن يكون محاسبا أو وكيلا أو راعيا فبقدر ما يؤجر به نفسه يأخذ من مال اليتيم.
ولعلنا شاهد أن أحسن ما فسر القرآن هو القرآن وإن تناولنا للآية في موضوع اليتامى يحتم علينا أن نحيط بأهداف القرآن الكلية في معالجته للموضوع، والنظر إلى الفكرة ككل وإلى ما يقصده القرآن كجسم كامل لا يصح بتر أجزائه.
فإذا ضمت الآيات التي تحدثت عن اليتامى في القرآن مثل الواردة في صدر سورة النساء١ وغيرها من السور خرجنا بحقيقة ظاهرة، وهي أن القرآن لا يمكن أن يكون من عند بشر كمحمد بل هو كلام الله الخبير بالنفوس فهو ينهى عن أكل مال اليتيم ويأمر بمخالطته بالتي هي حسن ويرد ماله إليه عند بلوغه سن الرشد كما يتوعد آكل مال اليتيم بالعذاب والسعير ويخوفه من صورة رهيبة، هي أنه من المحتمل أن يترك أولاده صغارا ويتمنى ألا يتعرضوا للإذلال والامتهان والحرمان فليرفق بمن تحت يده من اليتامى وليحسن معاملتهم.
تفنيد فرية :
يقول بعض الغربيين ومن سار في طريقهم : إن التشريع الإسلامي قد أخذ عن التشريع الروماني وهذه دعوى باطلة لما يأتي :
١- التشريع الروماني مأخوذ عن الألواح الاثني عشر والتشريع الروماني في سوريا وما جاورها نظر إلى العرف السائد فدونه وكان يرجع إليه كقانون وأحيانا كان يقضي القضاء بمقتضى العرف بدون قانون، فكيف يأخذ من تدوين عرف لشريعة نزلت كاملة شاملة.
٢- علماء الغرب أنفسهم يعترفون بانفراد القرآن الكريم بالحديث عن اليتيم وإفاضته القول في الوصية به، فالقانون الروماني كان يهدف إلى أن يأخذ الوصي نصيب الأسد، بينما القانون الإسلامي على النقيض من ذلك كله توصية باليتيم وتحذير من أكل ماله بشتى الطرق ولم يجعل للوصي الحق في أخذ شيء من المال إلا إن كان فقيرا فليأكل بالمعروف.
وقد شدد الإسلام في أمره بحفظ مال اليتيم، وأمره برعايته وتثمير ماله، وحرم أكل ماله ظلما وعدوانا، وذلك لأن اليتيم ضعيف عن الذود عنه، والجماعة الإسلامية مكلفة برعاية اليتيم وماله حتى يبلغ أشده ويرشد ويستطيع أن يدبر ماله وأن يدافع عنه، وهذه حجة أخرى على المستشرقين إذ يقولون : إن القرآن لم يعن بالصغار فكل تعاليمه موجهة إلى الرجال.
وقد تحدث أبو حامد الغزالي في كتابه :( إحياء علوم الدين ) عن تربية الأطفال وتعويدهم العادات الحسنة وأمرهم بالصلاة ومكارم الأخلاق وتحبيب الإيمان إليهم وغير ذلك مما يعد نموذجا رفيعا لأساليب التربية في الإسلام.
ومما نلاحظه على الأوامر والنواهي الواردة في هذه السورة أن الأمور التي يكلف كل فرد بصفته الفردية جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة المفرد، أما الأمور التي تناط بالجماعة فقد جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة الجمع.
ففي الإحسان إلى الوالدين وإيتاء ذي القربى والمساكين وابن السبيل وعدم التبذير والتوسط في الإنفاق بين البخل والإسراف، وفي التثبت من الحق والنهي عن الخيلاء والكبر كان الأمر أو النهي بصيغة المفرد لما لها من صيغة فردية، وفي النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن قتل النفس، والأمر برعاية مال اليتيم والوفاء بالعهد، وإيفاء الكيل والميزان كان الأمر أو النهي بصيغة الجمع لما لها من صفة جماعية.
ومن تم جاء النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في صيغة الجمع ؛ لتكون الجماعة كلها مسئولة عن اليتيم وماله، وهذا يبرر عناية القرآن باليتيم والضعيف ومسئولية الجماعة الإسلامية عن هؤلاء وأمثالهم.
فالمسلمون أشبه بالجسد الواحد أو بالبنيان المرصوص يشد ببعضه بعضا.
ولأن رعاية اليتيم عهد على الجماعة أُلحق به الأمر بالوفاء بالعهد إطلاقا فقال سبحانه :﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ﴾.
أي : أوفوا بما عاهدتم الله عليه من التزام ما كلفكم به وما عاهدتم الناس عليه من العقود التي تتعاملون بها في البيوع والإجارة ونحوها.
قال الزجاج : كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد، ويدخل في ذلك ما بين العبد وربه، وما بين العباد بعضهم وبعض. والوفاء به : القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي.
﴿ إن العهد كان مسئولا ﴾. يسأل الله جل جلاله عن الوفاء بالعهد ويحاسب من ينكث به وينقضه.
وقد أكد الإسلام على الوفاء بالعهد والشدد ؛ لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة في ضمير الفرد وفي حياة الجماعة وقد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى في القرآن وفي الحديث النبوي سواء في ذلك عهد الله وعهد الناس، عهد الفرد وعهد الجماعة وعهد الدولة، عهد الحاكم وعهد المحكوم، وبلغ الإسلام في واقعه التاريخي شأوا بعيدا في الوفاء بالعهود لم تبلغه البشرية إلا في ظل الإسلام.
١ - يقول سبحانه: ﴿وأتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا﴾ (النساء: ٢).
ويقول سبحانه: ﴿وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قوما سديدا. إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا﴾ (النساء" ١٠، ٩).
ويقول سبحانه: ﴿فأما اليتيم فلا تقهر﴾ (الضحى: ٩)..

﴿ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ( ٣٥ ) ﴾
المفردات :
وأوفوا الكيل : أتموه.
القسطاس المستقيم : الميزان السوي.
تأويلا : مآلا.
التفسير :
٣٥- ﴿ وأوفوا الكيل إذا كلتم... ﴾
أي : أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه.
﴿ وزنوا بالقسطاس المستقيم ﴾. أي : بالميزان السوي بلا اعوجاج ولا خديعة ﴿ ذلك خير ﴾ أي : أي لكم في معاشكم لإقبال المشترين عليكم ولانتظام أموركم بالعدل، وإيفاء الحقوق أربابها ﴿ وأحسن تأويلا ﴾ أي : عاقبة ومآلا، إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة.
وكثير من الفقراء الذين اشتهروا بالأمانة والبعد عن الخيانة ؛ أقبلت عليهم الدنيا وجمعوا بين الثورة والغنى وبين مرضاة الله وطاعته.
روى ابن كثير في تفسيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به ؛ إلا مخافة الله ؛ إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو له خير من ذلك ).
وقد شدد القرآن في التحذير من تطفيف الكيل وتوعد فاعله بالعذاب الشديد فقال تعالى :﴿ ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون ﴾. ( المطففين : ٣، ١ ).
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم :( أن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من عدل في الكيل والتزم الأمانة وابتعد عن الغش )١ كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ( أن التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) ٢ ؛ لأن الشيطان يأتي له من ناحية الكيل والبيع والغش وإغلاء الأسعار.
ونظرا لأن الناس جميعا محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ؛ فقد بالغ في النهي عن الغش في البيع والشراء وحذر منه وتوعد فاعله بأشد العقاب ؛ سعيا في إبقاء الأموال لأربابها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من غشنا فليس منا )٣.
ثم إن الطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس، وغش وخيانة في التعامل تزعزع بهما الثقة ويتبعهما الكساد، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة فيرتد هذا على الأفراد، وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف٤ وهو كسب ظاهري ووقتي ؛ لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين.
وهذه حقيقة أدركها بعيدوا النظر في عالم التجارة فاتبعوها، ولم يكن الدافع الأخلاقي أو الحافز الديني هو الباعث عليها، بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية.
والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة ومن يلتزمه اعتقادا، أن هذا يحقق أهداف ذلك، ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العلمي إلى آفاق أعلى من الأرض، وأوسع في تصور الحياة وتذوقها وكذلك يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العلمية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة ومجالاته الرحيبة.
١ - إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا:
رواه الترمذي في البيوع (١٢١٠) وابن ماجة في التجارات (٢١٤٦) من حديث رفاعة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: (يا معشر التجار) فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من التقى الله وبر وصدق). وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح..

٢ - التاجر الصدوق الأمين مع:
رواه الترمذي في البيوع (١٢٠٩) والدارمي في البيوع (٢٥٣٩) من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
ورواه ابن ماجة في التجارات (٢١٣٩) من حديث بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة)..

٣ - من غشنا فليس منا:
رواه مسلم في الإيمان (١٠١) وأحمد في مسنده (٢٧٥٠٠) من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا). ورواه أحمد في مسنده (٥٠٩٢) والدارمي في البيوع (٢٥٤١) ابن عمر قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام وقد حسنه صاحبه فأدخل يده فيه فإذا طعام رديء فقال: (بع هذا على حدة وهذا على حدة فمن غشنا فليس منا). ورواه ابن ماجة في التجارات (٢٢٢٥) من حديث أبي الحمراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه مر بجنبات رجل عنده طعام في وعاء فأدخل يده فيه فقال: لعلك غششت! من غشنا فليس منا). ورواه أحمد في مسنده (١٥٤٠٦) من حديث أبي بردة بن نيار قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى نقيع المصلى فأدخل يده في طعام ثم أخرجها فإذا هو مغشوش أو مختلف فقال: (ليس منا من غشنا)..

٤ - التطفيف إنقاص الكيل أو الوزن، وسمي بذلك؛ لأن المطفف لا يكاد يأخذ إلا الشيء الطفيف القليل..
﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( ٣٦ ﴾
المفردات :
ولا تقف : أي : لا تتبع من قولك : قفوت فلانا أي : اتبعت أثره ومنه قافية الشعر ؛ لأنها تقفو كل بيت، والقبيلة المشهورة بالقافة ؛ لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوالهم في النسب.
التفسير :
٣٦- ﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم... ﴾
والمراد : النهي على أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا علم له به، وهذه قضية كلية ولكن المفسرين حملوها على صور مخصوصة.
( أ ) قال ابن عباس : لا تشهد إلا بما رأت عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك.
( ب ) قال قتادة : لا تقل : سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم.
( ج ) وقيل : المراد : النهي عن القول بلا علم بل بالظن والتوهم كما قال تعالى :﴿ اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ﴾. ( الحجرات : ١٢ ).
وفي الحديث ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) وفي سنن أبي داود :( بئس مطية الرجل زعموا ).
( د ) وقيل : المراد : نهي المشركين عن تقليد أسلافهم في الإلهيات والنبوات والتحليل والتحريم ؛ إتباعا للهوى وتقليدا للآباء بدون تثبت من صوابه أو خطئه كما قال تعالى :﴿ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ﴾. النجم : ٢٣ }.
﴿ هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن ﴾ ( الأنعام : ١٤٨ ).
( ه ) وقيل : القفو هو : البهت وهو في معنى الغيبة ؛ لأنه قول يقال في قفاه أي : خلف ظهره، ومن ورائه. ومنه الحديث ( من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة ١ الخبال حتى يأتي بالمخرج ).
( و ) أراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ٢.
قال الطبري :
وأولى الآراء في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به فترميهم بالباطل وتشهد عليهم بغير الحق فذلك هو القفو، وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ؛ لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه، وأما قوله :﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ﴾. فإن معناه : أن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها من أنه سمع أو أبصر أو علم، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحق. ١ ه.
وقريب من ذلك قوله سبحانه :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ﴾. ( النور : ٢٤ ).
وقد وردت الآثار من القرآن والسنة تحث المؤمن على التثبت في أقواله وأحكامه واستقرائه ؛ حتى يكون قوله صادقا وحكمه سليما ورأيه صوابا.
قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ﴾. ( الحجرات : ١٢ ).
وقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا... ﴾ ( الحجرات : ٦ }.
وفي الحديث :( أن أفري الفري ٣ أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا ) ٤.
وفي الصحيح ( من تحلم ٥ حلما ؛ كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتي وليس بفاعل ) ٦.
١ - الردغة: بفتح الدال وسكونها: الماء والطين والوحل الشديد، الخبال: الفساد ويطلق على الجنون.
وفي تفسير النيسابوري: وردغة الخبال: هي غسالة أهل النار من القيح والصديد. ١ هـ. ومعنى الحديث الشريف: من اتهم مؤمنا كذبا وزورا عاقبه الله في الدنيا بأن يجعل سمعته ممرغة في الوحل والطين حتى يتوب. أو عاقبه في الآخرة بأن يضعه في غسالة أهل النار من القبح والصديد حتى يأتي بالدليل والبرهان على دعواه وما هو بقادر على ذلك..

٢ - ورد جل هذه الآراء في تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ١٥/٣٧، ٣٨ طبعة بولاق..
٣ - أي: أن أكذب الكذب أن يدعى: أنه رأى رؤيا في المنام كذبا..
٤ - إن من أفرى الفرى أن يُرى عينيه:
رواه أحمد في مسنده (٥٢٧٨، ٥٩٦٢) من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفرى الفرى أن يرى عينيه في المنام ما لم تريا). ورواه أحمد في مسنده (١٦٥٣٥، ١٦٥٣٢) من حديث وائلة بن الأسقع يقول: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يرى عينيه في المنام ما لم تريا أو يقول على رسول الله ما لم يقل)..

٥ - تحلم حلما: اختلق الحلم من عند نفسه، شعيرتين أي: حبتين من شعير، ولما كانت الرؤيا من عند الله كما ورد في الحديث: الرؤيا من الله فمن قال: رأيت مناما كذبا يكون مفتريا على الله فيكلف بالعمل العسير كأن يعقد عقدة بين حبتين من شعير ولن يستطيع ذلك)..
٦ - من تحلم بحلم لو يره كلف أن يعقد:
رواه البخاري في التعبير (٧٠٤٢) وأبو داود في الأدب (٥٠٢٤) والترمذي في الرؤيا (٢٢٨٣) وابن ماجة في تعبير الرؤيا (٣٩١٦) وأحمد في مسنده (١٨٦٩) من حديث بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ). ورواه أحمد في مسنده (١٠١٧١) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صور صورة عذب يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها. ومن استمع إلى حديث قوم ولا يعجبهم أن يستمع حديثهم أذيب في أذنه الآنك. ومن تحلم كاذبا دفع إليه شعيرة وعذب حتى يعقد بين طرفها وليس بعاقد).
.

﴿ ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( ٣٧ ) ﴾
المفردات :
المرح : الفخر والكبر.
لن تخرق الأرض : لن تقطع الأرض ولن تجعل فيها خرقا وثقبا باختيالك وشدة وطأتك.
لن تبلغ الجبال طولا ٧ : أي : بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك.
التفسير :
٣٧- ﴿ ولا تمش في الأرض مرحا... ﴾ الآية.
قال النيسابوري : بين الله ضعف الآدمي بأنه في حال انخفاضه لا يقدر على خرق الأرض وفي حال ارتفاعه لا يقدر على الوصول إلى رؤوس الجبال فلا يليق به أن يتكبر ٨.
والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده ؛ تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان أو جمال. ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله ؛ لطامن كبريائه وخفف من خيلائه. ومشى على الأرض هونا لا تيها ولا مرحا.
والقرآن هنا يجبه المتطاول المختال المرح، بضعفه وعجزه وضآلته فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل، لا يبلغ شيئا من الأجسام الضخمة التي خلقها الله، إنما هو قوي بقوة الله، عزيز بعزة الله، كريم بروحه الذي نفخه الله فيه، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه.
ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بذم المرح والخيلاء أدب مع الله، وأدب مع الناس، أدب نفسي وأدب اجتماعي.
ومن ترك هذا الأدب إلى العجب والخيلاء ؛ عامله الله بنقيض قصده، فجعله صغيرا عند الله.
وفي الأثر يقول الله عز وجل :( يا داود، من تواضع لي هكذا، رفعته هكذا، ومن تكبر عليّ هكذا وضعته هكذا ).
وما أشبه المتكبر بالرجل فوق النخلة العالية أو الجبل المرتفع يرى الناس صغارا، وهم يرونه صغيرا.
وكان من دعاء السابقين : اللهم، اجعلني عند نفسي صغيرا وعند الناس كبيرا.
وفي الصحيح :( بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ) ٩.
وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض.
وفي الحديث :( من تواضع لله ؛ رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر ؛ وضعه الله فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير ) ١٠.
﴿ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ﴾
التفسير :
٣٨- ﴿ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ﴾.
أي : كل الذي ذكر من الخصال أثناء الأوامر والنواهي، وهي الخمس والعشرون ١ السالفة كان سيئه وهو ما نهى عنه منها- من الجعل مع الله إلها آخر، وعبادة غيره من التأفف من الوالدين والبخل والتبذير وقتل الأولاد خشية الإملاق والزنا وقتل النفس وأكل مال اليتيم، وتطفيف الكيل والميزان واتهام الناس بالزور والبهتان والتكبر والخيلاء ؛ مكروها عند ربك أي : مبغوضا عنده لا يرضى عنه.
أما من قرأ سيئة أي : فاحشة فمعناه عنده، كل هذا الذي نهينا عنه، من قوله :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ﴾. إلى هنا فهو سيئة مؤاخذة عليها مكروها عند الله لا يحبه ولا يرضاه.
وأما من قرأ سيئه على الإضافة فمعناه عنده كل هذا الذي ذكرناه من قوله :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ﴾. إلى هنا فسيئه أي : فقبيحه مكروه عند الله فيكون هذا تلخيصا وتذكيرا بمرجع الأمر والنهي وهو كراهية الله للسيء من تلك الأمور، وقد سكت عن الحسن المأمور به ؛ لأن النهي عن الشيء هو الغالب فيها ٢.
قال المهايمي : أما الشرك فلإخلاله بالكمال المطلق الذي لا يتصور مع الشرك، وأما عبادة الغير فلِما فيها من تعظيمه، المخصوص بذي الكمال المطلق فهو معنى الشرك، وأما العقوق فلأنه كفران نعمة الأبوين في التربية أحوج ما يكون المرء إليها، ومنع الحقوق بالبخل تفريط، والتبذير والبسط إفراط وهما مذمومان، والذميم مكروه.
والقتل يمنع الحكمة من بلوغها إلى كمالها، والزنا وإتلاف مال اليتيم في معناه، ونقص العهد مخل بنظام العالم وكذا اقتفاء ما لا يعلم. والتكبر من خواص الحق وعادة الملوك كراهة أن يأخذ أحد من خواصه شيئا ) ٣.
١ - قال في حاشية الجمل على الجلالين: فأولها: ﴿لا تجعل مع الله إلها آخر﴾، ثانيها وثالثها: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾ لاشتماله على تكليفين: الأمر بعبادة الله، والنهي عن عبادة غيره، رابعها: ﴿وبالوالدين إحسانا﴾، خامسها: ﴿ولا تقل لهما أف﴾، سادسها: ﴿ولا تنهرهما﴾، سابعها: ﴿وقل لهما قولا كريما﴾، ثامنها: ﴿واخفض لهما جناح الذل﴾، تاسعا: ﴿وقل رب ارحمهما﴾، عاشرها: ﴿وآت ذا القربى حقه﴾ (١١) ﴿والمسكين﴾ (١٢) ﴿وابن السبيل﴾ (١٣) ﴿ولا تبذر تبذيرا﴾ (١٤) ﴿فقل لهم قولا ميسورا﴾ (١٥) ﴿ولا تجعل يدك مغلولة﴾ (١٦) ﴿ولا تبسطها﴾ (١٧) ﴿ولا تقتلوا أولادكم﴾ (١٨) ﴿ولا تقربوا الزنا﴾ (١٩) ﴿ولا تقتلوا النفس﴾ (٢٠) ﴿فلا يسرف في القتل﴾، والبقية: ﴿وأوفوا بالعهد﴾، ﴿وأوفوا الكيل﴾، ﴿وزنوا بالقسطاس﴾، ﴿ولا تقف﴾، ﴿ولا تمش... ﴾ إلخ وكلها تكليفات..
٢ - هذا التفسير مستفاد من التفاسير الآتية: تفسير الطبري ١٥/٦٣، ابن كثير: ٣/٤٠، النيسابوري بهامش الطبري ١٥/٣٩، حاشية الجمل على الجلالين: ٢/٦٢٦، القاسمي ١٠/٣٩٢٩..
٣ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٢٩..
﴿ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ( ٣٩ ) ﴾
المفردات :
الحكمة : هي القرآن، أو الحكمة : معرفة الحق سبحانه ومعرفة الخير للعمل به، فالتوحيد رأس الحكمة النظرية، ومكارم الأخلاق هي الحكمة العملية.
المدحور : المبعد من رحمة الله.
التفسير :
٣٩- ﴿ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة... ﴾.
أي : هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ونهيناك عنه من الرذائل مما أوحينا إليك من فقه الدين ومعرفة أسراره ومن الحكم في تشريعه. أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن التوراة كلها في خمسة عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا :﴿ لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا. وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه.. ﴾ الآيات.
فهذه خمسة عشرة آية قد اشتملت على خمس وعشرين تكليفا جمعت أصول مكارم الأخلاق، وأساس الفضائل.
﴿ ولا تجعل مع الله إلها آخر فتَلقى في جهنم ملوما مدحورا ﴾.
لقد بدأ هذه المجموعة من الآيات الأمر بالتوحيد ﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ﴾. ثم جاء الختام محذرا من الشرك، داعيا إلى التوحيد فعقيدة التوحيد هي الأساس في امتثال الأوامر والنواهي وهي رأس الحكمة وهي مبدأ الأمر ومنتهاه.
ملوما تلوم نفسك أي : واقعا في الليل مدحورا مبعدا مطرودا من رحمة الله.
ملاحظة :
بدأ هذه المجموعة من الآيات ( ٢٢-٣٩ ) بقوله تعالى :
﴿ لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا. ( ٢٢ )، وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ( ٢٣ ) ﴾.
فذكرت عاقبة الشرك في الدنيا وهي أن يقعد المشرك مذموما مخذولا أي : واقعا في الذم والخذلان والهزيمة.
ثم ذكرت خاتمة الآيات عاقبة المشرك في الآخرة وهي أن يلقى في جهنم ملوما مدحورا ( الآية : ٣٩ ).
أي : ملموما من جهة نفسه، ومن جهة غيره ومبعدا من رحمة الله. وبين البداية والخاتمة، دعوة إلى مكارم الأخلاق وتحذير من الكبائر والرذائل، والخطاب هنا إما موجه إلى الإنسان عامة، أو إلى الرسول خاصة والمراد أمته والكلام من باب قولهم :( إياك أعني واسمعي يا جارة ).
هدانا الله إلى حكمة القرآن ووفقنا إلى الهدى ومكارم الأخلاق وأمدنا بالنصر والتوفيق إنه نعم المولى ونعم النصير.
أخلاق القرآن
إن هذه المبادئ والوصايا التي ذكرت في سورة الإسراء في أسلوب حكيم أخّاذ تعتبر دستورا أخلاقيا للجماعة الإسلامية بل هي شعار إنساني للإنسانية الفاضلة.
وقد كان التمسك بهذه الأخلاق سببا في تماسك الأمة الإسلامية وترابطها وعاملا من عوامل رقيها وانتصارها، وأحرى بالمسلمين اليوم أن يتمسكوا بهدى القرآن وأخلاق القرآن ؛ ليعود إليهم مجدهم وعزهم بعد أن تعود إليهم أخلاقهم وشيمهم.
سئلت عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن.
وإن عناية القرآن بالتربية والفضيلة فاقت كل عناية، وكان القرآن مأدبة الله أقبل عليها المسلمون فنفذوا أوامر القرآن، وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وعملوا بأوامره، واجتنبوا نواهيه ؛ فصاروا قرآنا متحركا، وجاء في وصفهم على لسان مارية القبطية التي كتبت للمقوقس تقول له :
( إن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد، وهم النور الجديد. ونبيهم أطهر من السحابة البيضاء في اليوم الصائف. وإذا رفعوا السيف رفعوه بقانون، وإذا وضعوا السيف وضعوه بقانون يفتحون البلاد بأخلاقهم قبل أن يفتحوها بسيوفهم. وإذا جاء وقت الصلاة ؛ غسلوا أطرافهم ووقفوا في محرابهم يناجون إلها سميعا مجيبا ).
وإن رسالات الأنبياء كلها كانت دعوات هادفة لإرساء معالم الفضيلة والدعوة إلى الأخلاق السامية والسلوك المستقيم قال صلى الله عليه وسلم :( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ١.
وبين الدين : أن أحب الرجال إلى الله هو السهل الهين الذي يألف ويؤلف وأبغض الرجل إلى الله هو الرجل الجحظري الغليظ القلب الذي لا يألف ولا يؤلف، قال صلى الله عليه وسلم :( إن أحبكم إلي وأقربكم مني منازل يوم القيامة ؛ أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني منازل يوم القيامة : الثرثارون المتشدقون المتفيهقون قلنا : يا رسول الله، هؤلاء الثرثارون المتشدقون، فمن هم المتفيهقون ؟ قال :( المتكبرون ) ٢.
إن أخلاق الإسلام هي أخلاق الفطرة السليمة والنفس المستقيمة ؛ رغبة في الخير ؛ ومعونة للمحتاج، ورحمة بالضعيف، وعمل إنساني من أجل الجماعة، وكف الضر والإيذاء عن الناس.
وقد جاء في الحديث :
( المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء واجتنبه ).
وقال رجل : يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا وأقلل فيه لعلي أعيه ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :( قل آمنت بالله ثم استقم ).
وفي هذا المعنى يقول القرآن الكريم :
﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون. نزلا من غفور رحيم ﴾. ( فصلت : ٣٢، ٣٠ ).
ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسبايا طيء، وقفت من بينهم ( سفانة ) بنت حاتم الطائي، وقالت يا محمد، إن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فعلت ؛ فإن أبي كان سيد قومه ؛ يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا، أنا بنت حاتم الطائي ؛ فقال محمد عليه السلام :( يا جارية هذه صفات المؤمنين فلو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنه ؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ! ) ثم قال :( ارحموا عزيز قوم ذل، وغنيا افتقر، وعالما ضاع بين جهال ) وأكرم قومها من أجلها ؛ تحية لها، فأطلقهم من أسارهم فاستأذنته في الدعاء له فأذن لها، فقالت :
( أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا في ردها عليه ).
وذهبت سفانة إلى أخيها عدي بن حاتم فقال له : يا أخي، ائت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله ( تأتيه مقيدا ) فإني رأيت هديا ورأيا، سيغلب أهل الغلبة، ورأيت خصالا أعجبتني : رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، إنه لنبي فللسابق إليه فضله.
فأصغى عدي إلى رأي أخته، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما ومعه أخته مسلمة أيضا.
إن قوة الإسلام الذاتية هي التي جمعت المسلمين ووحدت كلمتهم ودفعتهم ينشرون دين الله في المشارق والمغارب، وصدق الله العظيم :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ﴾. ( الإسراء : ٩ ).
١ - إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق:
رواه أحمد في مسند ح ٨٥٩٥ من حديث أبي هريرة..

٢ - إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة:
رواه الترمذي في البر (٢٠١٨) من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون؟ قال: (المتكبرون) وقال الترمذي: حديث حسن غريب. ورواه أحمد في مسنده (١٧٢٧٨) من حديث أبي ثعلبة الخشبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقا الثرثارون المتفيهقون المتشدقون). ورواه أحمد في مسنده (٨٦٠٤) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بشراركم؟!) فقال: (هم الثرثارون المتشدقون ألا أنبئكم بخياركم؟! أحاسنكم أخلاقا)..

﴿ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ( ٤٠ ) ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذّكروا وما يزيدهم إلا نفورا ( ٤١ ) قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( ٤٢ ) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ( ٤٣ ) تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ( ٤٤ ) ﴾.
المفردات :
الإصفاء بالشيء : جعله خالصا له.
المعنى الإجمالي :
بعد أن نبه سبحانه إلى خطإ من أثبتوا له شريكا، واتخذوا له ندا ونظيرا أتبع ذلك بالتنديد والتقريع لمن أثبتوا له ولدا، وأنه قد بلغ من سفاهتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم، وأعطوا لله البنات مع علمهم بأن الله موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، ثم أتبع ذلك ببيان : أنه قد كرر هذا المعنى في القرآن على وجوه كثيرة، ليعتبروا ويتدبروا ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه.
قل يا محمد لهم : لو كان مع الله آلهة كما يزعمون ؛ لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا ؛ للتقرّب إليه، تقدس الله وتعالى عما يقولون علوا كبرا، تسبح له وتقدسه السماوات السبع والأرض ومن فيهن وما من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح أنه كان حليما حين لم يعاجلكم بالعقوبة، غفورا لمن تاب منكم.
التفسير :
٤٠- ﴿ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا... ﴾
أي : أفخصكم ربكم بالذكور من الأولاد. وهو خطاب للمشركين الذين قالوا : الملائكة بنات الله. والهمزة للاستفهام الإنكاري.
قال الزمخشري في الكشاف : والمعنى :
أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم الذكور، ولم يجعل فيهم نصيبا لنفسه، واتخذ أدونهم وهن البنات، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم بل تئدونهن وتقتلوهن، فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم ( فإن العبيد لا يؤثرون بالأجود والأصفى والسادة بالأدنى والأدنأ ) ١.
وخلاصة ذلك : أنهم جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادعوا : أنهن بنات الله ثم عبدوهن، فأخطئوا في الأمور الثلاثة خطأ عظيما، ومن ثم قال :
﴿ إنكم لتقولون قولا عظيما ﴾، عظيما في شناعته وبشاعته، عظيما في ضخامة الافتراء فيه، عظيما في خروجه عن التصور والتصديق.
١ - تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ج ١٥ ص ٤١..
المعنى الإجمالي :
بعد أن نبه سبحانه إلى خطإ من أثبتوا له شريكا، واتخذوا له ندا ونظيرا أتبع ذلك بالتنديد والتقريع لمن أثبتوا له ولدا، وأنه قد بلغ من سفاهتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم، وأعطوا لله البنات مع علمهم بأن الله موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، ثم أتبع ذلك ببيان : أنه قد كرر هذا المعنى في القرآن على وجوه كثيرة، ليعتبروا ويتدبروا ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه.
قل يا محمد لهم : لو كان مع الله آلهة كما يزعمون ؛ لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا ؛ للتقرّب إليه، تقدس الله وتعالى عما يقولون علوا كبرا، تسبح له وتقدسه السماوات السبع والأرض ومن فيهن وما من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح أنه كان حليما حين لم يعاجلكم بالعقوبة، غفورا لمن تاب منكم.
المفردات :
صرفنا : بينا وكررنا هذا المعنى بوجوه كثيرة.
ليذكروا : ليتدبروا ويتعظوا.
النفور : البعد من الشيء.
التفسير :
٤١ _ ﴿ ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ﴾.
أي : كررنا للناس البيان بوجوه كثيرة، وبينا فيه : من كل مثل : ليذكروٌا أي : ليتعظوا ويعتبروا فيقفوا على بطلان ما يقولون _ فإن التكرار يقتضي الإذعان واطمئنان النفس _ ولكنهم يزيدون نفورا كلما سمعوا هذا القرآن. نفورا من القرآن من العقيدة التي جاء بها، ونفورا من القرآن ذاته خيفة أن يغلبهم على عقائدهم الباطلة التي يستمسكون بها.
المعنى الإجمالي :
بعد أن نبه سبحانه إلى خطإ من أثبتوا له شريكا، واتخذوا له ندا ونظيرا أتبع ذلك بالتنديد والتقريع لمن أثبتوا له ولدا، وأنه قد بلغ من سفاهتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم، وأعطوا لله البنات مع علمهم بأن الله موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، ثم أتبع ذلك ببيان : أنه قد كرر هذا المعنى في القرآن على وجوه كثيرة، ليعتبروا ويتدبروا ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه.
قل يا محمد لهم : لو كان مع الله آلهة كما يزعمون ؛ لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا ؛ للتقرّب إليه، تقدس الله وتعالى عما يقولون علوا كبرا، تسبح له وتقدسه السماوات السبع والأرض ومن فيهن وما من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح أنه كان حليما حين لم يعاجلكم بالعقوبة، غفورا لمن تاب منكم.
المفردات :
ابتغاء الشيء : طلبه.
السبيل : الطريق.
التفسير :
٤٢ _ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا.
لو _ كما يقول النحاة _ حرف امتناع الامتناع، فالقضية كلها ممتنعة، وليس هناك آلهة مع الله _ كما يقولون _ والآلهة التي يدعونها إن هي إلا خلق من خلق الله سواء كانت نجما أو كوكبا، إنسانا أو حيوانا، نباتا أو جمادا. وهذه كلها تتجه إلى الخالق حسب ناموس الفطرة الكونية، وتخضع للإدارة التي تحكمها وتصرفها، وتجد طريقها إلى الله عن طريق خضوعها لناموسه وتلبيتها لإرادته.
وذكر الطبري وابن كثير : أن معنى هذه الآية :
قل لهؤلاء المشركين – الزاعمين أن لله شركاء من خلقه، العابدين معه غيره، ليقربهم إليه زلفى : لو كان الأمر كما تقولون، وأن معه آلهة تعبد ؛ لتقر إليه وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه، ويبتغون الزلفى والطاعة لديه، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه ؛ فإن الله لا يحب ذلك ولا يرضاه بل يكرهه ويأباه وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه.
المعنى الإجمالي :
بعد أن نبه سبحانه إلى خطإ من أثبتوا له شريكا، واتخذوا له ندا ونظيرا أتبع ذلك بالتنديد والتقريع لمن أثبتوا له ولدا، وأنه قد بلغ من سفاهتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم، وأعطوا لله البنات مع علمهم بأن الله موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، ثم أتبع ذلك ببيان : أنه قد كرر هذا المعنى في القرآن على وجوه كثيرة، ليعتبروا ويتدبروا ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه.
قل يا محمد لهم : لو كان مع الله آلهة كما يزعمون ؛ لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا ؛ للتقرّب إليه، تقدس الله وتعالى عما يقولون علوا كبرا، تسبح له وتقدسه السماوات السبع والأرض ومن فيهن وما من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح أنه كان حليما حين لم يعاجلكم بالعقوبة، غفورا لمن تاب منكم.
٤٣- ﴿ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ﴾.
تنزه الله وتسامى وارتفع عن الولد والشريك تنزها حقيقا به علوّا كبيرا أي : تعاظم عن ذلك تعاظما كبيرا. فإن مثل هذه الفرية والبهتان، مما يتنزه عنه مقامه الأسمى.
المعنى الإجمالي :
بعد أن نبه سبحانه إلى خطإ من أثبتوا له شريكا، واتخذوا له ندا ونظيرا أتبع ذلك بالتنديد والتقريع لمن أثبتوا له ولدا، وأنه قد بلغ من سفاهتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم، وأعطوا لله البنات مع علمهم بأن الله موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، ثم أتبع ذلك ببيان : أنه قد كرر هذا المعنى في القرآن على وجوه كثيرة، ليعتبروا ويتدبروا ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه.
قل يا محمد لهم : لو كان مع الله آلهة كما يزعمون ؛ لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا ؛ للتقرّب إليه، تقدس الله وتعالى عما يقولون علوا كبرا، تسبح له وتقدسه السماوات السبع والأرض ومن فيهن وما من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح أنه كان حليما حين لم يعاجلكم بالعقوبة، غفورا لمن تاب منكم.
المفردات :
تسبح له : تنزهه عن النقائص وتقدسه.
تفقهون : تفهمون.
التفسير :
٤٤- ﴿ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ﴾.
أي : إن السماوات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات تنزهه وتعظمه عما يقول هؤلاء المشركون، وتدل بإتقان صنعها على تنزيه الله سبحانه عن كل نقص وأنه لا شريك له، وما من شيء من المخلوقات في ملكه الواسع إلا ينزهه كذلك مع الثناء، ولكن الكافرين لا يفهمون هذه الأدلة ؛ لاستيلاء الغفلة على قلوبهم وكان الله حليما عليهم، غفورا لمن تاب فلم يعاجلهم بالعقوبة.
والآية تدل على أن الأشياء كلها تسبح لله وتسجد له، بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار.
( وذهب كثيرون إلى أن التسبيح المذكور مجازي، على طريقة الاستعارة التمثيلية أو التبعية. كنطقت الحال. فإنه استعير فيه التسبيح للدلالة على وجود فاعل قادر حكيم واجب الوجود منزه عن الولد والشريك، كما يدل الأثر على مؤثره فجعلت تلك الدلالة الحالية كأنها تنزيه له عما يخالفه١، كما قال أبو نواس :
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
وجاء في ظلال القرآن :
وأنه لمشهد كوني فرد حين يتصور القلب كل حصاة وكل حجر، كل حبة وكل ورقة، كل زهرة وكل ثمرة، كل نبتة وكل شجرة، كل حشرة وكل زاحفة، كل حيوان وكل إنسان، كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء... ومعها سكان السماء... كلها تسبح لله وتتوجه إليه في علاه.
وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه، وكلما همت يده أن تلمس شيئا، وكلما همت رجله أن تطأ شيئا... سمعه يسبح لله، وينبض بالحياة٢.
وقد أخرج الإمام أحمد وابن مردويه عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه : آمركما بسبحان الله وبحمده ؛ فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء ).
١ - تفسير القاسمي ج ١٠ ص ٣٩٣٣..
٢ - في ظلال القرآن بقلم سيد قطب ج ١٥ ص ٣٩..
﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( ٤٥ ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولو على أدبارهم نفورا ( ٤٦ ) نحن أعلم بما يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( ٤٧ ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( ٤٨ ) ﴾
المفردات :
الحجاب والحجب : المنع من الوصول إلى الشيء والمراد : الحاجب. والمستور : أي : الساتر، كما جاء عكسه من نحو. ماء دافق : أي : مدفوق.
أن يفقهوه : لئلا يفقهوه ويفهموه.
أكنة : أغطية واحدة : كنان وهو الغطاء الذي يكن فيه الشيء. والكن : ما يحفظ فيه الشيء، جمعه : أكنان. يقال : كننت الشيء كنا، جعلته في كن.
الوقر : الصمم والثقل في الآذان المانع من السماع.
النفور : الانزعاج.
المعنى الإجمالي :
وإذا قرأت أيها النبي القرآن الناطق بدلائل الحق ؛ جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء حين إرادة الفتك بك، حجابا ساترا لك عنهم فلا يرونك، وجعلنا بمقتضى حكمتنا في الإضلال والهداية على قلوبهم أغطية ؛ كراهة أن يفهموا القرآن على حقيقته، وفي آذانهم صمما، فلا يسمعونه سماع انتفاع ؛ لأنهم أسرفوا في العناد والمكابرة، وإذا ذكرت ربك في القرآن منفردا عن ذكر آلهتهم، رجعوا على أعقابهم نافرين عن استماعه.
نحن أعلم بالسبب الذي يدعوهم للاستماع إليك، وهو الاستهزاء بك وبالقرآن، ونحن أعلم أيضا إذ هم يتناجون، إذ يقول الظالمون لغيرهم : إن اتبعتم محمدا فإنما تتبعون رجلا مسحورا قد ذهب عقله.
انظر كيف ذكروا لك الأشباه فشبهوك بالمسحور والكاهن والشاعر، فضلوا بذلك عن الهدى فلا يجدون طريقا إليه.
التفسير :
٤٦، ٤٥- ﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوّا على أدبارهم نفورا ﴾.
كان كبراء قريش يستمعون إلى القرآن، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له، ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به فجعل الله بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حجابا خفيا، وجعل على قلوبهم كالأغلفة فلا تفقه القرآن، وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه.
وقد روى ابن إسحاق في السيرة : عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري : أنه حدث : أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ؛ ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا، فقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض فهائكم ؛ لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية : عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الثالثة : أخذ كل رجل مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد : لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فينا سمعت من محمد فقال : يا أبا الثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.
قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به. قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال : يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟
قال : ماذا سمعت ؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ؛ فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! قال : فقام عنه الأخنس وتركه.
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن قلوبهم فيصدونها، وتجاذبهم إليه فيمانعونها، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب، فإذا هم لا ينتفعون به، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه، وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن، ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه، ثم يغلبهم التأثر به فيعودون، ثم يتناجون من جديد حتى ليتعاهدوا على عدم العودة ؛ ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب ! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازا تهم وفي كبريائهم فينفرون منها.
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر، والكبرياء يمنعهم من التسليم والإذعان، فيطلقون التهم على الرسول صلى الله عليه وسلم يعتذرون بها عن المكابرة والعناد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( ٤٥ ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولو على أدبارهم نفورا ( ٤٦ ) نحن أعلم بما يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( ٤٧ ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( ٤٨ ) ﴾

المفردات :

الحجاب والحجب : المنع من الوصول إلى الشيء والمراد : الحاجب. والمستور : أي : الساتر، كما جاء عكسه من نحو. ماء دافق : أي : مدفوق.
أن يفقهوه : لئلا يفقهوه ويفهموه.
أكنة : أغطية واحدة : كنان وهو الغطاء الذي يكن فيه الشيء. والكن : ما يحفظ فيه الشيء، جمعه : أكنان. يقال : كننت الشيء كنا، جعلته في كن.
الوقر : الصمم والثقل في الآذان المانع من السماع.
النفور : الانزعاج.
المعنى الإجمالي :
وإذا قرأت أيها النبي القرآن الناطق بدلائل الحق ؛ جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء حين إرادة الفتك بك، حجابا ساترا لك عنهم فلا يرونك، وجعلنا بمقتضى حكمتنا في الإضلال والهداية على قلوبهم أغطية ؛ كراهة أن يفهموا القرآن على حقيقته، وفي آذانهم صمما، فلا يسمعونه سماع انتفاع ؛ لأنهم أسرفوا في العناد والمكابرة، وإذا ذكرت ربك في القرآن منفردا عن ذكر آلهتهم، رجعوا على أعقابهم نافرين عن استماعه.
نحن أعلم بالسبب الذي يدعوهم للاستماع إليك، وهو الاستهزاء بك وبالقرآن، ونحن أعلم أيضا إذ هم يتناجون، إذ يقول الظالمون لغيرهم : إن اتبعتم محمدا فإنما تتبعون رجلا مسحورا قد ذهب عقله.
انظر كيف ذكروا لك الأشباه فشبهوك بالمسحور والكاهن والشاعر، فضلوا بذلك عن الهدى فلا يجدون طريقا إليه.

التفسير :

٤٦، ٤٥- ﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوّا على أدبارهم نفورا ﴾.
كان كبراء قريش يستمعون إلى القرآن، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له، ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به فجعل الله بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حجابا خفيا، وجعل على قلوبهم كالأغلفة فلا تفقه القرآن، وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه.
وقد روى ابن إسحاق في السيرة : عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري : أنه حدث : أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ؛ ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا، فقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض فهائكم ؛ لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية : عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الثالثة : أخذ كل رجل مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد : لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فينا سمعت من محمد فقال : يا أبا الثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.
قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به. قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال : يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟
قال : ماذا سمعت ؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ؛ فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! قال : فقام عنه الأخنس وتركه.
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن قلوبهم فيصدونها، وتجاذبهم إليه فيمانعونها، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب، فإذا هم لا ينتفعون به، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه، وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن، ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه، ثم يغلبهم التأثر به فيعودون، ثم يتناجون من جديد حتى ليتعاهدوا على عدم العودة ؛ ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب ! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازا تهم وفي كبريائهم فينفرون منها.
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر، والكبرياء يمنعهم من التسليم والإذعان، فيطلقون التهم على الرسول صلى الله عليه وسلم يعتذرون بها عن المكابرة والعناد.

المعنى الإجمالي :
وإذا قرأت أيها النبي القرآن الناطق بدلائل الحق ؛ جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء حين إرادة الفتك بك، حجابا ساترا لك عنهم فلا يرونك، وجعلنا بمقتضى حكمتنا في الإضلال والهداية على قلوبهم أغطية ؛ كراهة أن يفهموا القرآن على حقيقته، وفي آذانهم صمما، فلا يسمعونه سماع انتفاع ؛ لأنهم أسرفوا في العناد والمكابرة، وإذا ذكرت ربك في القرآن منفردا عن ذكر آلهتهم، رجعوا على أعقابهم نافرين عن استماعه.
نحن أعلم بالسبب الذي يدعوهم للاستماع إليك، وهو الاستهزاء بك وبالقرآن، ونحن أعلم أيضا إذ هم يتناجون، إذ يقول الظالمون لغيرهم : إن اتبعتم محمدا فإنما تتبعون رجلا مسحورا قد ذهب عقله.
انظر كيف ذكروا لك الأشباه فشبهوك بالمسحور والكاهن والشاعر، فضلوا بذلك عن الهدى فلا يجدون طريقا إليه.
المفردات :
مسحورا : أي مخبول العقل، فهو كقولهم :﴿ إن هو إلا رجل به جنة ﴾ ( المؤمنون : ٢٥ ).
التفسير :
٤٧- ﴿ نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾.
أي : نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزء والسخرية والتكذيب حين استماعهم، وأعلم بما يتناجون به ويتسارون، ﴿ إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾. أي : سحر فجن واختلط كلامه.
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن، فهم يستكثرون في دخليتهم أن يكون هذا قول بشر ؛ لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري، ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر يرجعون إليه هذه الغرابة وهذا التميز في حديثه، وهذا التفوق في نظمه، فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه، إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر ولو انصفوا لقالوا : إنه من عند الله، فما يمكن أن يقول هذا انسان ولا خلق من خلق الله.
المعنى الإجمالي :
وإذا قرأت أيها النبي القرآن الناطق بدلائل الحق ؛ جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء حين إرادة الفتك بك، حجابا ساترا لك عنهم فلا يرونك، وجعلنا بمقتضى حكمتنا في الإضلال والهداية على قلوبهم أغطية ؛ كراهة أن يفهموا القرآن على حقيقته، وفي آذانهم صمما، فلا يسمعونه سماع انتفاع ؛ لأنهم أسرفوا في العناد والمكابرة، وإذا ذكرت ربك في القرآن منفردا عن ذكر آلهتهم، رجعوا على أعقابهم نافرين عن استماعه.
نحن أعلم بالسبب الذي يدعوهم للاستماع إليك، وهو الاستهزاء بك وبالقرآن، ونحن أعلم أيضا إذ هم يتناجون، إذ يقول الظالمون لغيرهم : إن اتبعتم محمدا فإنما تتبعون رجلا مسحورا قد ذهب عقله.
انظر كيف ذكروا لك الأشباه فشبهوك بالمسحور والكاهن والشاعر، فضلوا بذلك عن الهدى فلا يجدون طريقا إليه.
المفردات :
فضلوا : أي : جاروا عن قصد السبيل.
التفسير :
٤٨- ﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ﴾.
أي : تأمل وانظر أيها الرسول كيف مثلوا لك الأمثال وشبهوا لك الأشباه، فقالوا : هو مسحور وهو شاعر مجون، فحادوا في كل ذلك عن سواء السبيل، ولم يهتدوا لطريق الحق ؛ لضلالهم عنه وبعدهم منه.
أو المعنى : فلا يستطيعون سبيلا إلى طعن يمكن أن يقبله أحد بل يخبطون بما لا يرتاب في بطلانه أحد، كالمتحير في أمره لا يدري ماذا يصنع.
﴿ وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( ٤٩ ) قل كونوا حجارة أو حديدا ( ٥٠ ) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ( ٥١ ) يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ( ٥٢ ) ﴾
المفردات :
الرفات : ما تكسر وبلى من كل شيء.
المعنى الإجمالي :
اعلم أن أمهات المسائل التي دار حولها البحث في الكتاب الكريم هي : الإلهيات والنبوات والبعث والجزاء والقضاء والقدر، وقد تكلم فيما سلف في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، ونفدها بما لا مجال للرد عليه ولا لدحضه وتكذيبه ثم ذكر في هذه الآيات : شكوكهم في المعاد والبعث والجزاء، ورد عليها بما لو نظر إليه المنصف ؛ لأيقن بصدق ما يقال.
التفسير :
٤٩- ﴿ وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ﴾.
أي : وقال الذين لا يؤمنون باليوم الآخر من المشركين : أئذا كنا عظاما في قبورنا، لم تتحطم ولم تتكسر بعد مماتنا، ورفاتا متكسرة مدقوقة، أئنا لمبعوثون بعد مصيرنا فيها، وقد بلينا فقد تكسر عظاما، وتقطعت أوصالنا ؛ خلقا جديدا كما كنا قبل الممات.
ومثل الآية قوله تعالى :﴿ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ﴾. ( يس : ٧٨، ٧٩ ).
المعنى الإجمالي :
اعلم أن أمهات المسائل التي دار حولها البحث في الكتاب الكريم هي : الإلهيات والنبوات والبعث والجزاء والقضاء والقدر، وقد تكلم فيما سلف في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، ونفدها بما لا مجال للرد عليه ولا لدحضه وتكذيبه ثم ذكر في هذه الآيات : شكوكهم في المعاد والبعث والجزاء، ورد عليها بما لو نظر إليه المنصف ؛ لأيقن بصدق ما يقال.
المفردات :
يكبر في صدوركم : أي : يستبعد قبوله للحياة.
فطركم : أي : خلقكم وأوجدكم، يقال : فطرهم يفطرهم فطرا، أي خلقهم.
فسينغضون إليك رؤوسهم : أي : فسيحركون رؤوسهم ؛ تعجبا وسخرية.
التفسير :
وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم، وبعرفهم قدرة الله على بعثهم بعد مماتهم فقال سبحانه :
٥١، ٥٠- ﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا. أو خلقا مما يكبر في صدوركم... ﴾
والعظام الرفات فيها رائحة البشرية وفيها ذكرى الحياة، والحديد والحجارة أبعد عن الحياة فيقال لهم : كونوا حجارة أو حديدا، أو خلقا أو غل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يكبر في صدوركم أن تتصوروه وقد نفخت فيه الحياة ؛ فسيبعثكم الله.
وهم لا يملكون أن يكونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر ولكنه قول للتحدي وفيه كذلك ظل التوبيخ والتقريع. ( فهو كقول القائل : أتطمع في وأنا فلان ؟ فيقول له صاحبه : كن ابن من شئت، كن ابن الوزير فسأطلب منك حقي )١.
﴿ سيقولون من يعيدنا ﴾.
من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتا وعظاما أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود ؟
﴿ قل الذي فكركم أول مرة ﴾.
أي : الذي يفعل ذلك هو القادر العظيم، الذي خلقكم أول مرة على غير مثال يحتذي، ولا منهاج معين ينتحي، وكنتم ترابا لم يشم رائحة الحياة، فالذي أنشأكم إنشاء قادر على أن يردكم أحياء ولكنهم لا ينتفعون بهذا القول ولا يقتنعون به.
﴿ فسينغضون إليك رؤوسهم ﴾. سيحركون رؤوسهم برفع وخفض استنكارا واستهزاء.
﴿ ويقولون متى هو ﴾. أي : متى هذا البعث ؟ ومقصدهم من هذا السؤال استبعاد حصوله واستنكاره.
﴿ قل عسى أن يكون قريبا ﴾. أي : فاحذوا ذلك، فإنه قريب منكم سيأتيكم لا محالة، وكل آت قريب. ثم يشهد مشهدا سريعا لذلك اليوم.
١ - تفسير النيسابوري ١٥/٤٨..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٠:المعنى الإجمالي :
اعلم أن أمهات المسائل التي دار حولها البحث في الكتاب الكريم هي : الإلهيات والنبوات والبعث والجزاء والقضاء والقدر، وقد تكلم فيما سلف في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، ونفدها بما لا مجال للرد عليه ولا لدحضه وتكذيبه ثم ذكر في هذه الآيات : شكوكهم في المعاد والبعث والجزاء، ورد عليها بما لو نظر إليه المنصف ؛ لأيقن بصدق ما يقال.

المفردات :

يكبر في صدوركم : أي : يستبعد قبوله للحياة.
فطركم : أي : خلقكم وأوجدكم، يقال : فطرهم يفطرهم فطرا، أي خلقهم.
فسينغضون إليك رؤوسهم : أي : فسيحركون رؤوسهم ؛ تعجبا وسخرية.

التفسير :

وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم، وبعرفهم قدرة الله على بعثهم بعد مماتهم فقال سبحانه :
٥١، ٥٠- ﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا. أو خلقا مما يكبر في صدوركم... ﴾
والعظام الرفات فيها رائحة البشرية وفيها ذكرى الحياة، والحديد والحجارة أبعد عن الحياة فيقال لهم : كونوا حجارة أو حديدا، أو خلقا أو غل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يكبر في صدوركم أن تتصوروه وقد نفخت فيه الحياة ؛ فسيبعثكم الله.
وهم لا يملكون أن يكونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر ولكنه قول للتحدي وفيه كذلك ظل التوبيخ والتقريع. ( فهو كقول القائل : أتطمع في وأنا فلان ؟ فيقول له صاحبه : كن ابن من شئت، كن ابن الوزير فسأطلب منك حقي )١.
﴿ سيقولون من يعيدنا ﴾.
من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتا وعظاما أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود ؟
﴿ قل الذي فكركم أول مرة ﴾.
أي : الذي يفعل ذلك هو القادر العظيم، الذي خلقكم أول مرة على غير مثال يحتذي، ولا منهاج معين ينتحي، وكنتم ترابا لم يشم رائحة الحياة، فالذي أنشأكم إنشاء قادر على أن يردكم أحياء ولكنهم لا ينتفعون بهذا القول ولا يقتنعون به.
﴿ فسينغضون إليك رؤوسهم ﴾. سيحركون رؤوسهم برفع وخفض استنكارا واستهزاء.
﴿ ويقولون متى هو ﴾. أي : متى هذا البعث ؟ ومقصدهم من هذا السؤال استبعاد حصوله واستنكاره.
﴿ قل عسى أن يكون قريبا ﴾. أي : فاحذوا ذلك، فإنه قريب منكم سيأتيكم لا محالة، وكل آت قريب. ثم يشهد مشهدا سريعا لذلك اليوم.
١ - تفسير النيسابوري ١٥/٤٨..

المعنى الإجمالي :
اعلم أن أمهات المسائل التي دار حولها البحث في الكتاب الكريم هي : الإلهيات والنبوات والبعث والجزاء والقضاء والقدر، وقد تكلم فيما سلف في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، ونفدها بما لا مجال للرد عليه ولا لدحضه وتكذيبه ثم ذكر في هذه الآيات : شكوكهم في المعاد والبعث والجزاء، ورد عليها بما لو نظر إليه المنصف ؛ لأيقن بصدق ما يقال.
المفردات :
فتستجيبون : أي : تجيبون الداعي.
إن لبثتم : أي : ما لبثتم.
التفسير :
﴿ يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ﴾.
وهو مشهد يصور أولئك المكذبين بالبعث المنكرين له، وقد قاموا يلبون دعوة الداعي، وألسنتهم تلهج بحمد الله، ليس لهم سوى هذه الكلمة من قول ولا جواب.
وهو جواب عجيب ممن كانوا ينكرون يوم البعث كله وينكرون الله، فلا يكون لهم جواب إلا أن يقولوا : الحمد لله، الحمد لله.
ويومئذ تنطوي الحياة الدنيا كما ينطوي الظل :
﴿ وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ﴾. أي : وتظنون حين تقومون من قبوركم أنكم ما أقمتم في دار الدنيا إلا زمنا قليلا.
ومثل الآية قوله تعالى :﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ﴾. ( الروم : ٥٥ ).
قال الحسن : المراد : تقريب وقت البعث، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل.
﴿ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ( ٥٣ ) ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا ( ٥٤ ) وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ٥٥ ) ﴾
المفردات :
ينزغ بينهم : يهيج بينهم الشر، النزع لغة : الدخول في الأمر لإفساده.
المعنى الإجمالي :
قل لعبادي يقولوا الكلمة التي هي أحسن، وعليهم أن يجادلوا مخالفيهم باللين، ولا يغلظوا لهم في القول، ولا يشتموهم ولا يسبوهم، فإن الكلمة الطيبة تجذب النفوس وتميل بها إلى الاقتناع.
إن الشيطان يدخل بينهم فيهيج فيهم المراء والشر، وربما أفضى ذلك إلى عنادهم وازدياد فسادهم إن الشيطان دائما عدو لإنسان بين العداوة، فلا تصارحوهم بأنهم من أهل النار فإن ذلك يهيجهم على الشر، ثم ذكر من الكلمة الطيبة أن يقول لهم : ربكم العليم بكم إن شاء عذبكم وإن شاء رحمكم، ولا يصرح بأنهم من أهل النار فإن ذلك مما يهيج الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله سبحانه، ثم بين لرسوله أنه لا يقسر الناس على الإسلام فما عليه إلا البلاغ والإنذار، والله هو العليم بمن في السماوات والأرض، فيختار لنبوته من يشاء ممن يراه أهلا لذلك، وأولئك الأنبياء ليسوا سواء في مراتب الفضل والكمال وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
التفسير :
٥٣- ﴿ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن... ﴾
أي : وقل لعبادي يقولوا في مخاطبتهم ومحاوراتهم مع خصومهم من المشركين وغيرهم : الكلام الأحسن للإقناع، مع البعد عن الشتم والسب والأذى.
ونظير الآية قوله تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة... ﴾ ( النحل : ١٢٥ ) ثم علل ذلك بقوله :﴿ إن الشيطان ينزغ بينهم ﴾. أي : بين الفريقين جميعا ؛ فيزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود١.
ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة ؛ فإن الشيطان ينزغ في يده فربما أصابه بها. روى أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ولا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار )٢.
﴿ إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ﴾.
يتلمس سقطات فمه، وعثرات لسانه، فيغزى بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه، والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات، وتقطع عليه الطريق، وتحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته ونفثاته.
١ - تفسير النيسابوري ١٥/٥٠..
٢ - لا يمشين أحدكم إلى أخيه بالسلاح:
رواه أحمد في مسنده (٢٧٤٣٢) من حديث أبي هريرة قال: قل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمشين أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من نار)..

المعنى الإجمالي :
قل لعبادي يقولوا الكلمة التي هي أحسن، وعليهم أن يجادلوا مخالفيهم باللين، ولا يغلظوا لهم في القول، ولا يشتموهم ولا يسبوهم، فإن الكلمة الطيبة تجذب النفوس وتميل بها إلى الاقتناع.
إن الشيطان يدخل بينهم فيهيج فيهم المراء والشر، وربما أفضى ذلك إلى عنادهم وازدياد فسادهم إن الشيطان دائما عدو لإنسان بين العداوة، فلا تصارحوهم بأنهم من أهل النار فإن ذلك يهيجهم على الشر، ثم ذكر من الكلمة الطيبة أن يقول لهم : ربكم العليم بكم إن شاء عذبكم وإن شاء رحمكم، ولا يصرح بأنهم من أهل النار فإن ذلك مما يهيج الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله سبحانه، ثم بين لرسوله أنه لا يقسر الناس على الإسلام فما عليه إلا البلاغ والإنذار، والله هو العليم بمن في السماوات والأرض، فيختار لنبوته من يشاء ممن يراه أهلا لذلك، وأولئك الأنبياء ليسوا سواء في مراتب الفضل والكمال وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
المفردات :
وكيلا : أي : موكولا إليك أمرهم تجبرهم على الإيمان.
ثم فسر التي هي أحسن بما عليهم النصفة بقوله :
٥٤- ﴿ ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم... ﴾
أي : ربكم أيها القوم هو العليم بكم، إن يشأ رحمتكم ؛ بتوفيقكم للإيمان والعمل الصالح ؛ وإن يشأ يعذبكم ؛ بأن يخذلكم عن الإيمان ؛ فتموتوا على شرككم.
وفي هذا إيماء إلى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يحتقروا المشركين، ولا أن يقطعوا بأنهم من أهل النار ويعيروهم بذلك، فإن العاقبة مجهولة، ولا يعلم الغيب إلا الله – إلا أن ذلك مما يساعد على توليد الضغائن في النفوس، بلا فائدة ولا داع يدعو إليها ثم وجه خطابه إلى أعظم الخلق ؛ ليكون من دونه أسوة له فقال :
﴿ وما أرسلناك عليهم وكيلا ﴾. أي : وما أرسلناك أيها الرسول حفيظا ورقيبا، تقسر الناس على ما يرضي الله، إنما أرسلناك بشيرا ونذيرا، فدارهم ولا تغلظ عليهم، ومر أصحابك بذلك فإن ذلك هو الذي يؤثر في القلوب ويستهوي الأفئدة.
المعنى الإجمالي :
قل لعبادي يقولوا الكلمة التي هي أحسن، وعليهم أن يجادلوا مخالفيهم باللين، ولا يغلظوا لهم في القول، ولا يشتموهم ولا يسبوهم، فإن الكلمة الطيبة تجذب النفوس وتميل بها إلى الاقتناع.
إن الشيطان يدخل بينهم فيهيج فيهم المراء والشر، وربما أفضى ذلك إلى عنادهم وازدياد فسادهم إن الشيطان دائما عدو لإنسان بين العداوة، فلا تصارحوهم بأنهم من أهل النار فإن ذلك يهيجهم على الشر، ثم ذكر من الكلمة الطيبة أن يقول لهم : ربكم العليم بكم إن شاء عذبكم وإن شاء رحمكم، ولا يصرح بأنهم من أهل النار فإن ذلك مما يهيج الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله سبحانه، ثم بين لرسوله أنه لا يقسر الناس على الإسلام فما عليه إلا البلاغ والإنذار، والله هو العليم بمن في السماوات والأرض، فيختار لنبوته من يشاء ممن يراه أهلا لذلك، وأولئك الأنبياء ليسوا سواء في مراتب الفضل والكمال وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
المفردات :
زبورا : الزبور كتاب داود عليه السلام، والزبور لغة : الكتاب، جمعه : زبر.
٥٥- ﴿ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ﴾.
﴿ وربك أعلم بمن في السماوات ومن في الأرض ﴾.
أي : فلا يخفى عليه شيء منهما، وعلمه يشمل من في السماوات والأرض من ملائكة ورسل وإنس وجن وكائنات لا يعلم إلا الله من هي ؟ وما قدرها ؟ وما درجتها ؟.
وبهذا العلم المطلق بحقائق الخلائق ؛ فضل الله بعض النبيين على بعض.
﴿ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ﴾. بالمعجزات وكثرة التابعين، ( وفيه رد على أهل مكة في إنكارهم أن يكون أبي طالب مفضلا على الخلائق ونبيا دون صناديد قريش وأكابرهم )١.
وفي معنى الآية قوله تعالى :﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات... ﴾ ( البقرة : ٢٥٣ ).
فالله أعلم بمن في السماوات ومن في الأرض وأحوالهم، فأتى موسى التوراة وكلمه، وعيسى الإنجيل، وداود الزبور، فضلهم بما آتاهم على غيره. وقد أتى محمدا القرآن ففضله به على الأنبياء كافة.
ونجد في كتب العقائد : أن أولي العزم من الرسل خمسة هم : نوح وإبراهيم وعيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام وقد فضل الله هؤلاء الخمسة على بقية الأنبياء ؛ لجهادهم وصبرهم وبلائهم في سبيل دعوة الحق والخير وأفضل هؤلاء الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم ثم إبراهيم فموسى فعيسى عليهم السلام.
﴿ وآتينا داود زبورا ﴾. وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه، ومن مظاهر التفضيل أيضا ؛ إذا كانت الكتب أبقى من الخوارق المادية التي يراها الناس في ظرف معين من الزمان.
وقد خص الله داود بالذكر للإشارة إلى أن داود عليه السلام لم يكن في نشأته الأولى ممن يظن أنه يبلغ ما بلغ في الحكمة والملك، وقد اختصه الله بهما وميزه الله على أهل عصره وإذ كان ذلك اختصاصا ربانيا ؛ فلا غرابة أن يختص سبحانه من العرب من علم أنه أرجحهم عقلا، وأكملهم فضلا ؛ لختم نبوته، وهداية بريته بمنهاجه وشرعته.
١ - تفسير النيسابوري ١٥/٥١..
﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ( ٥٦ ) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( ٥٧ ) وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( ٥٨ ) وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( ٥٩ ) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( ٦٠ ) ﴾
المفردات :
الزعم :( بتثليث الزاي ) القول المشكوك في صدقه، وقد يستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس : كل موضع في كتاب الله ورد فيه ( زعم ) فهو كذب.
لا يملكون : لا يستطيعون.
كشف الضر : إزالته أو تحويله عنكم إلى غيركم.
يدعون : ينادون.
الوسيلة : القرب بالطاعة والعبادة.
محذروا : يحذره ويحترس منه كل واحد.
المعنى الإجمالي :
هذه الآيات تعود على بدء في تسفيه آراء المشركين، الذين كانوا يعبدون الملائكة والجن والمسيح وعزيرا ؛ إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ؛ لتتقربوا إليه، فيرجون رحمته ويخافون عذابه. ثم بين أن قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال، وإما بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم أردف ذلك ببيان : أن ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا... ﴾ الآيات. إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا ؛ لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أو لم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة ؟ ! ثم قفا على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينصره ويؤيده، ثم أتبع ذلك، فإن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم.
التفسير :
٥٧، ٥٦- ﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون ويبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ﴾.
أي : قل لهؤلاء المشركون الذين يعبدون من دون الله من خلقه : ادعوا من زعمتموهم أربابا وآلهة من دونه، عند ضر ينزل بكم، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم، أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعونهم : آلهة ؟ أي : فإنهم لا يقدرون على ذلك ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم.
وروى الطبري :١ عن ابن عباس : أن الآية عني بها قوم مشركون، كانوا يعبدون المسيح وعزيرا والملائكة، وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأخبرهم الله تعالى : أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال.
فما أجدركم أن تتوجهوا إلى الله، كما يتوجه إليه من تدعونهم : آلهة من دونه وهم عباد الله، يبتغون رضاه.
وفي قوله تعالى :﴿ ويرجون رحمته ويخافون عذابه ﴾ إشارة إلى أن العبادة لا تتم إلا بالرجاء والخوف. فبالرجاء تكثر الطاعات، وبالخوف تقل السيئات. وقوله تعالى :﴿ محذورا ﴾ أي : يبتغي أن يحذر منه، ويخاف من حلوله.
١ - تفسير الطبري طبعة بولاق ١٥/٧١..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ( ٥٦ ) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( ٥٧ ) وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( ٥٨ ) وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( ٥٩ ) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( ٦٠ ) ﴾

المفردات :

الزعم :( بتثليث الزاي ) القول المشكوك في صدقه، وقد يستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس : كل موضع في كتاب الله ورد فيه ( زعم ) فهو كذب.
لا يملكون : لا يستطيعون.
كشف الضر : إزالته أو تحويله عنكم إلى غيركم.
يدعون : ينادون.
الوسيلة : القرب بالطاعة والعبادة.
محذروا : يحذره ويحترس منه كل واحد.
المعنى الإجمالي :
هذه الآيات تعود على بدء في تسفيه آراء المشركين، الذين كانوا يعبدون الملائكة والجن والمسيح وعزيرا ؛ إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ؛ لتتقربوا إليه، فيرجون رحمته ويخافون عذابه. ثم بين أن قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال، وإما بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم أردف ذلك ببيان : أن ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا... ﴾ الآيات. إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا ؛ لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أو لم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة ؟ ! ثم قفا على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينصره ويؤيده، ثم أتبع ذلك، فإن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم.

التفسير :

٥٧، ٥٦- ﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون ويبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ﴾.
أي : قل لهؤلاء المشركون الذين يعبدون من دون الله من خلقه : ادعوا من زعمتموهم أربابا وآلهة من دونه، عند ضر ينزل بكم، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم، أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعونهم : آلهة ؟ أي : فإنهم لا يقدرون على ذلك ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم.
وروى الطبري :١ عن ابن عباس : أن الآية عني بها قوم مشركون، كانوا يعبدون المسيح وعزيرا والملائكة، وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأخبرهم الله تعالى : أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال.
فما أجدركم أن تتوجهوا إلى الله، كما يتوجه إليه من تدعونهم : آلهة من دونه وهم عباد الله، يبتغون رضاه.
وفي قوله تعالى :﴿ ويرجون رحمته ويخافون عذابه ﴾ إشارة إلى أن العبادة لا تتم إلا بالرجاء والخوف. فبالرجاء تكثر الطاعات، وبالخوف تقل السيئات. وقوله تعالى :﴿ محذورا ﴾ أي : يبتغي أن يحذر منه، ويخاف من حلوله.
١ - تفسير الطبري طبعة بولاق ١٥/٧١..

المعنى الإجمالي :
هذه الآيات تعود على بدء في تسفيه آراء المشركين، الذين كانوا يعبدون الملائكة والجن والمسيح وعزيرا ؛ إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ؛ لتتقربوا إليه، فيرجون رحمته ويخافون عذابه. ثم بين أن قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال، وإما بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم أردف ذلك ببيان : أن ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا... ﴾ الآيات. إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا ؛ لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أو لم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة ؟ ! ثم قفا على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينصره ويؤيده، ثم أتبع ذلك، فإن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم.
المفردات :
الكتاب : اللوح المحفوظ.
التفسير :
٥٨- ﴿ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ﴾
أخبر الله : بأنه حتم وقضى، أنه ما من قرية يتمرد أهلها على نبيهم، إلا ويبيدهم، أو ينزل بهم من العذاب شديده ؛ وذلك لذنوبهم، وخطيئاتهم، وعدم استجابتهم لنبيهم.
﴿ كان ذلك في الكتاب مسطورا ﴾. أي : كان ذلك مثبتا في علم الله أو في اللوح المحفوظ.
عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن أول ما خلق الله القلم، فقال له : أكتب، فقال : ما أكتب ؟ قال : أكتب المقدر وما هو كائن إلى يوم القيامة )١ أخرجه الترمذي.
١ - أول من خلق الله القلم:
أخرجه الترمذي (٣٣١٩، ٢١٥٥) وأبو داود (٤٧٠٠) وأحمد (٢٢١٩٧ و٢٢١٩٩)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن غريب: وقال الشيخ الألباني: صحيح..

المعنى الإجمالي :
هذه الآيات تعود على بدء في تسفيه آراء المشركين، الذين كانوا يعبدون الملائكة والجن والمسيح وعزيرا ؛ إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ؛ لتتقربوا إليه، فيرجون رحمته ويخافون عذابه. ثم بين أن قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال، وإما بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم أردف ذلك ببيان : أن ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا... ﴾ الآيات. إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا ؛ لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أو لم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة ؟ ! ثم قفا على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينصره ويؤيده، ثم أتبع ذلك، فإن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم.
المفردات :
الآيات : هي ما اقترحته قريش من جعل الصفا ذهبا.
مبصرة : بينة جعلتهم ذوي بصائر.
فظلموا بها : فكفروا بها وجحدوا.
التفسير :
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات ؛ لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب، فاقترحت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم بعض الآيات والمعجزات فأجابهم الله بقوله :
٥٩- ﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون... ﴾
أي : أنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم ؛ لاستحقوا عذاب الاستئصال كما هي سنتنا في الأمم السابقة كعاد وثمود، وقد قضى الله ألا يستأصل كفار هذه الأمة ؛ لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن.
ولأن الله شاء أن تكون معجزة الإسلام هي القرآن وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة ويخاطب الفكر والقلب ويبقى مفتوحا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة، أما الخوارق المادية فهي تخاطب جيلا واحدا من الناس، وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل.
والخلاصة : أنه ما منعنا من إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأولين بمثلها، فإن أرسلناها وكذب هؤلاء بها ؛ عوجلوا ولم يمهلوا.
روى الإمام أحمد١ عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحى الجبال عنهم فيزرعوا. فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم، لعلنا نجتبي منهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم.
قال : بل نستأني بهم فأنزل الله :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة... ﴾
﴿ وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ولا نرسل بالآيات إلا تخويفا ﴾.
أي : وقد سألت ثمود من قبل قومك : الآيات فآتيناها ما سألت، وجعلنا لها الناقة حجة واضحة، دالة على وحدانية من خلقها، فكفروا بها، ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله وانتقم منهم.
وما كانت الآيات إلا إنذارا وتخويفا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات.
هذه التجارب البشرية، اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق ؛ لأنها رسالة الأجيال المقبلة جميعها، لا رسالة جيل واحد يراها، ولأنها رسالة الرشد البشري، تخاطب مدارك الإنسان جيلا بعد جيل، وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته، والذي من أجله كرمه الله على كثير من خلقه.
أما الخوارق التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم وأولها : خارقة الإسراء والمعراج، فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء.
١ - أخرجه في المسند بالصفحة رقم ٢٥٨ من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم ٢٣٣٣ (طبعة المعارف) ورواه الطبري بعدة روايات يؤيد بعضها بعضا ج ١٥ ص ٧٤ طبعة بولاق..
المعنى الإجمالي :
هذه الآيات تعود على بدء في تسفيه آراء المشركين، الذين كانوا يعبدون الملائكة والجن والمسيح وعزيرا ؛ إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ؛ لتتقربوا إليه، فيرجون رحمته ويخافون عذابه. ثم بين أن قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال، وإما بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم أردف ذلك ببيان : أن ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا... ﴾ الآيات. إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا ؛ لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أو لم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة ؟ ! ثم قفا على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينصره ويؤيده، ثم أتبع ذلك، فإن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم.
المفردات :
إن ربك أحاط بالناس : هم في قبضته.
الرؤيا : هي ما عاينه صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من العجائب.
الشجرة الملعونة : هي شجرة الزقوم.
الطغيان : تجاوز الحد في الفجور والضلال.
التفسير :
٦٠- ﴿ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ﴾.
﴿ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ﴾. أي : علما، فلا يخفى عليه شيء من كفرهم وتكذيبهم، ومنه ما جرى منهم إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة الملعونة، من الجحود والهزأ واللغو. ثم قال سبحانه :﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ﴾. قال الأكثرون : يعني : ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات، فلما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للناس ؛ أنكر بعضهم ذلك وكذبوا، كما ثبت بعضهم وازداد يقينا. ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة ﴿ فتنة للناس ﴾، وابتلاء لإيمانهم.
وقد استدل القائلون بأن الإسراء والمعراج كانا مناما، بهذه الآية على صحة ما ذهبوا إليه.
وذهب القائلون بأنهما كانا في اليقظة إلى أن المراد بهذه الرؤيا رؤيا رآها في وقعة بدر ؛ لقوله :﴿ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ﴾. وقيل : بل هي رأيا عام الحذيبية حين رأى أنه دخل مكة.
وسلم عشاء إلى بيت المقدس، فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات، ثم أصبح بمكة فأخبرهم أنه أسرى به إلى بيت المقدس، فقالوا له : يا محمد، ما شأنك ؟ ! أمسيت فيه ثم أصبحت فينا تخبرنا : أنك أتيت بيت المقدس، فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام.
وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس : أنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، وهو قول سعيد بن جبير ومسروق وقتادة. وجاء في اللغة : الرؤيا بمعنى : الرؤية مطلقا. وهو معنى حقيقي لها وقيل : إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا. وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى تقول : رؤيته رؤيا كقربة وقربى.
وقيل إن إطلاق الرؤيا على الإسراء مجاز ؛ لوقوعها ليلا أو لسرعتها١.
﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾. أي : وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، فإنهم حين سمعوا :﴿ إن شجرة الزقوم. طعام الأثيم ﴾ ؛ اختلفوا ؛ فقوم ازدادوا إيمانا، وقوم ازدادوا كفرا، كأبي جهل إذ قال : إن ابن أبي كبشة- يعني : النبي صلى الله عليه وسلم- توعدكم بالنار، ثم يزعم أنها تنبت شجرة، وتعلمون أن النار تحرق الشجر، وقال عبد الله بن الزبعري : إن محمدا يخوفنا بالزقوم، وما الزقوم إلا التمر والزبد، فتزقموا منه، وجعل يأكل من هذا بهذا. أي : تمرا بزبد.
وقد فات هؤلاء أن في الدنيا أشياء كثيرة لا تحرقها النار، فهناك نوع من الحرير يسمى بالحرير الصخري، لا تؤثر فيه النار، بل هو يزداد إذا لامسها نظافة ومن ثم يلبسه رجال المطافئ.
وكم في الأرض من عجائب وكم في العوالم الأخرى من مثلها، فالأرض مملوءة نارا، وما خلص من النار إلا قشرتها التي نعيش عليها وما من شجر أو حجر إلا وفيه نار، والماء نفسه مادة نارية نحو ٨/٩ منه أكسجين وهو مادة تشتعل سريعا، والتسع أدروجين.
وقوله تعالى :﴿ وإذا البحار سجرت ﴾. أي : صارت نارا من قولك : سجرت التنور إذا أشعلته.
والخلاصة : أن هؤلاء المشركين فتنوا بالرؤيا، وفتنوا بالشجرة. وقد وصفت هذه الشجرة بكونها ملعونة ولا ذنب لها، للعن الكفار الذين يأكلونها ؛ توسعا في الاستعمال وهو كثير في كلام العرب.
ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا. أي : ونخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة فما يزيدهم التخوف إلا تماديا في الطغيان والضلال. وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا. إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده. ومن ثم لم يرس إليهم بخارقة. فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق.
أما قريش فقد أمهلت ولم تأخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح وشعيب.. ومن المكذبين من آمن بعد ذلك، وكان من جند الإسلام الصادقين.
وظل القرآن- معجزة القرآن- كتابا مفتوحا لجيل محمد صلى الله عليه وسلم وللأجيال بعده، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته، عندما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه.
وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال، يهتدي بهم من هم بعد في ضمير الغيب، وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا، وأنفع للإسلام من كثير سبقوه.
١ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٤٤ نقلا عن الشهاب..
﴿ وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ( ٦١ ) قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ( ٦٢ ) قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ( ٧٣ ) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( ٦٤ ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ٦٥ ) ﴾
تمهيد :
لما نازع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين هما الكبر والحسد :
أما الكبر ؛ فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد وأما الحسد ؛ فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة ؛ فبين سبحانه أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج على الإيمان والدخول في الكفر.
التفسير :
٦١- ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا... ﴾ الآية.
﴿ وإذ قلنا للملائكة ﴾ حين خلقنا أباك آدم وفضلناه :﴿ اسجدوا لآدم ؛ تحية وتكريما ؛ { فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ﴾١.
وفي سورة ص قال إبليس :﴿ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾. ( ص : ٧٦ ).
قال الخطيب الشربيني :
فكفر بنسبته لنا إلى الجور متخيلا أنه أفضل من آدم- عليه السلام- من حيث إن الفروع ترجع إلى الأصول، وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم، وذهب عنه أن الطين أنفع من النار، وعلى تقدير التنزل فالجواهر كلها من جنس واحد، والله تعالى هو الذي أوجدنا من العدم، يفضل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض، وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في ست سور، وهي : البقرة، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه. والكلام المستقصي فيها قد ورد في سورة البقرة، ولعل هذه القصة إنما كررت ؛ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه، فكأنه تعالى يقول : ألا ترى أن أول الأنبياء هو آدم- عليه السلام- ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس.
وأن الكبر والحسد كل منهم بلية عظيمة ومنة عظيمة للخلق٢.
١ - ﴿طينا﴾ منصوب بنزع الخافض أي: من طين، قال النسفي: وهو تمييز أو حال من الموصول والعامل فيه أأسجد والمعنى: أأسجد له وهو طين أي: أصله طين..
٢ - تفسير السراج المنير، في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الخبير الحكيم، للشيخ الإمام: محمد بن أحمد الخطيب الشربيني المتوفى سنة ٩٧٧ هـ طبعة بولاق سنة ١٢٩٩ هـ، ج ٢ ص ٣٠٣..
تمهيد :
لما نازع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين هما الكبر والحسد :
أما الكبر ؛ فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد وأما الحسد ؛ فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة ؛ فبين سبحانه أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج على الإيمان والدخول في الكفر.
المفردات :
أرأيتك : أي : أخبرني.
هذا الذي كرمت علي : أي : أهذا الذي كرمته علي. قال احتقارا واستصغارا لشأنه.
لأحتنكن : من قولهم : حنك الدابة واحتنكها ؛ إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، كلأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه.
التفسير :
٦٢- ﴿ قال أرأيتك١ هذا الذي كرمت علي... ﴾
أي : أخبرني عن هذا الذي كرمه علي، بأن أمرتني بالسجود له، لم كرمته علي ؟ أو المعنى : أخبرني أهذا الذي كرمته علي ؟ !
﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن٢ ذريته إلى قليلا ﴾.
أي لأعمنهم وأهلكنهم بالإغراء إلا المخلصين. ولأستولين عليهم استيلاء من جعل في حنك الدابة الأسفل حبلا يقودها به فلا تأبى عليه.
وجاء في تفسير الخطيب :
فإن قيل : كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم ؟ أجيب : بأوجه :
الأول : أنه سمع الملائكة يقولون : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فعرف هذه الأحوال.
الثاني : أنه وسوس إلى آدم ولم يجد له عزما، فقال : الظاهر أن أولاده يقولون مثله في ضعف العزم٣.
الثالث : أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، وقوة سبعية غضبية٤.
١ - الكاف للخطاب وهذا مفعول به..
٢ - احتنك الجراد الأرض؛ إذا أجرد ما عليها أكلا، وهو من الحنك، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أي: أكلهما، تفسير الكشاف ٢/٣٦٦٦..
٣ - الظاهر من نصوص الدين أن إبليس قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة وقارن بتفسير الكشاف للزمخشري ج ٢ ص ٣٣٦..
٤ - تفسير الخطيب الشربيني ٢/٣٠٤..
تمهيد :
لما نازع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين هما الكبر والحسد :
أما الكبر ؛ فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد وأما الحسد ؛ فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة ؛ فبين سبحانه أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج على الإيمان والدخول في الكفر.
المفردات :
اذهب : أي : امض لشأنك فقد خليتك وما سولت لك نفسك.
موفورا : أي : مكملا لا يدخر منه شيء.
التفسير :
٦٣- ﴿ قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ﴾.
اذهب فحاول محاولتك، اذهب مأذونا في إغوائهم ؛ فهم مزودون بالعقل والإرادة، يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك، ﴿ فمن تبعك منهم ﴾، مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية، معرضا عن نداء الرحمان إلى نداء الشيطان، غافلا عن آيات الله في الكون، وآيات الله المصاحبة للرسالات ؛ ﴿ فإن جهنم جزاؤكم ﴾ أنت وتابعوك ﴿ جزاء موفورا ﴾ أي : جزاء مكملا لا ينقص لكم منه شيء بما تستحقون من سيء الأعمال، وما دنستم به أنفسكم من قبيح الأعمال.
تمهيد :
لما نازع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين هما الكبر والحسد :
أما الكبر ؛ فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد وأما الحسد ؛ فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة ؛ فبين سبحانه أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج على الإيمان والدخول في الكفر.
المفردات :
استفزز : هيّج واستخف.
بصوتك : بدعائك إلى معصية الله.
وأجلب عليهم : أي : صح عليهم من الجبلة وهي الصياح، يقال : أجلب على العدو إجلابا ؛ إذا جمع عليه الخيول.
بخيلك ورجلك : أي : بأعوانك من راكب وراجل.
الغرور : تزيين الباطل بما يظن أنه حق.
التفسير :
٦٤- ﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك... ﴾
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول، فهي المعركة الصاخبة، يستخدم فيها الصوت فيزعج الخصوم، ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة، فإذا استدرجوا أخذتهم الخيل وأحاطت بهم الرجال.
قال النيسابوري :( عن ابن عباس : كل راكب وراجل في معصية الله فهو من خيل لإبليس وجنوده. وقيل يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضها راكب وبعضها راجل )١ والأقرب أن هذا كلام ورد تمثيلا فقد يقال للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك.
قال المراغي : ليس للشيطان خيل ولا رجالة، وإنما يراد بهما : الأتباع والأعوان من غير ملاحظة ؛ لكون بعضهم ماشيا وبعضهم راكبا٢.
وقال الزمخشري في الكشاف : مثلت حاله في تسلطه على من يغويه، بمغوار أوقع على قوم، فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم، ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة.
﴿ وشاركهم في الأموال ﴾ ؛ بحثهم على كسبها من غير السبل المشروعة وإنفاقها في غير الطرق التي أباحها الدين، ويشمل ذلك الربا والغضب والسرقة، وسائر المعاملات الفاسدة.
وقال الحسن : مرهم أن يكسبوها من خبيث، وينفقوها في حرام.
﴿ والأولاد ﴾ أي : بالتفاخر والتكاثر بهم، وتضليلهم بصبغهم بغير صبغة الدين، أو تربيتهم لا كما ينبغي ؛ حتى ينشئوا غير راشدين ولا مؤدبين ولا متدينين بدين الحق٣.
وإجمال القول فيه، إن كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه، بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه، أو بالزنا بأمه، أو بوأده، أو بقتله، أو غير ذلك ؛ فقد شارك إبليس فيه :
﴿ وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ﴾. كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص. والوعد بالغنى من الأسباب الحرام والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل الملتوية والأساليب الخسيسة.
ولعل أشد الوعود إغراء : الوعد بالعفو، والمغفرة بعد الذنب والخطيئة، وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب، التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة، فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة، ويزين لها الخطيئة، وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية، وشمول العفو والمغفرة.
وذهب القاشاني إلى : أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان إلى أصناف فقال : تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام ؛ لأن الاستعدادات متفاوتة، فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه. أي : استخفه بصوته، يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة، ومن كان قوي الاستعداد، فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات الإنسانية، أو أخلصه لله تعالى عن شوائب الغيرية، فليس إلى إغوائه سبيل كما قال سبحانه :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾، وإلا فإن كان منغمسا في الشواغل الخسيسة غارزا رأسه في الأمور الدنيوية، شاركه في أمواله وأولاده، بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة، بحبهم كحب الله، ويسول له التمتع بهم، والتكاثر والتفاخر بوجودهم، ويمنيه الأماني الكاذبة، ويزين عليه الآمال الفارغة، وإن لم ينغمس، فإن كان عالما بصيرا بحيله، أجلب عليه بخيله، ورجله، أي : مكر به بأنواع الحيل، وكاده بصنوف الفتن، وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام، والملاذ، بأنها من جملة مصالح المعاش، وغره بالعلم وحمله على الإعجاب، وأمثال ذلك ؛ حتى يصير ممن أضله الله على علم، وإن لم يكن عالما بل عابدا منكسا، أغواه بالوعد والتمنية، وغره بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون٤.
١ - تفسير النيسابوري بهاشم الطبري: ١٥/٦١ ط: بولاق..
٢ - تفسير المراغي ١٥/١٧..
٣ - تفسير النيسابوري ١٥/٦١..
٤ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٤٨ نقلا عن القاشاني..
تمهيد :
لما نازع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين هما الكبر والحسد :
أما الكبر ؛ فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد وأما الحسد ؛ فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة ؛ فبين سبحانه أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج على الإيمان والدخول في الكفر.
المفردات :
الوكيل : الحافظ والرقيب الذي يكلون إليه أمورهم.
التفسير :
٦٥- ﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ﴾.
فمتى اتصل القلب بالله، واتجه إليه بالعبادة، متى ارتبط بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها. متى أيقظ في روحه النفخة العلوية، فأشرقت وأنارت ؛ فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله، وهذا الروح المشرق بنور الإيمان. ﴿ وكفى بربك وكيلا ﴾ يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان.
وانطلق الشيطان ينفد وعيده، ويستذل عبيده، ولكنه لا يجرأ على عباد الرحمان، فما لي عليهم من سلطان.
ذلك ما يبيته الشيطان للناي من شر وأذى، ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان ويستمعون إليه، ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته، والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم، ويستجيب لهم في مواقف الشدة والضيق، ويرشدهم إلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والحذر من كيده وعداوته١.
١ - قال تعالى: ﴿إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا... ﴾. (فاطر: ٦).
وقال سبحانه: ﴿يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة... ﴾. (الأعراف: ٢٧).
وآخر سور القرآن تعلمنا الاستعاذة من كيده وهي: ﴿قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس﴾. (الناس: ١-٦)..

﴿ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما ( ٦٦ ) وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ( ٦٧ ) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجد لكم وكيلا ( ٦٨ ) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ( ٦٩ ) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر رزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( ٧٠ ) ﴾.
المفردات :
يزجي : يسوق ويجري.
الفلك : السفينة وهذا اللفظ يكون مفردا وجمعا.
لتبتغوا : لتطلبوا.
من فضله : من رزقه.
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر في الآية السابقة : أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس، قفا على ذلك بذكر بعض نعمه تعالى في البر والبحر على الإنسان ؛ فهو الذي يجري له الفلك في البحر ؛ لتنقل له أرزاقه وأقواته من المسافات البعيدة، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة، إذا مسه الضر دعا ربه، وإذا أمن أعرض عنه وعبد الأصنام والأوثان، فهل يؤمن أن يخسف به الأرض، أو يرسل عليه حاصبا من الريح في البر، أو قاصفا من الريح في البحر فيغرقه بكفره، وهل نسي أنه فضله على جميع الخلق، وبسط له الرزق، أفلا يفرده بالعبادة ويخبت له كفاء تلك النعم المتتابعة عليه ؟
التفسير :
٦٦- ﴿ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما ﴾.
ربكم الذي يجري لكم السفن في البحر ؛ لتسهيل نقل أقواتكم وحاجاتكم، من إقليم إلى آخر، من أقصى المعمورة إلى أدناها، ولتطلبوا الربح بالتجارة والحصول على ما ليس عندكم من محصولات الأمم، ولتنتقلوا من قطر إلى قطر ؛ ابتغاء الرزق أو السباحة ورؤية مظاهر الكون، ﴿ إنه كان بكم رحيما ﴾ ؛ حيث سهل لكم أسباب ذلك.
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر في الآية السابقة : أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس، قفا على ذلك بذكر بعض نعمه تعالى في البر والبحر على الإنسان ؛ فهو الذي يجري له الفلك في البحر ؛ لتنقل له أرزاقه وأقواته من المسافات البعيدة، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة، إذا مسه الضر دعا ربه، وإذا أمن أعرض عنه وعبد الأصنام والأوثان، فهل يؤمن أن يخسف به الأرض، أو يرسل عليه حاصبا من الريح في البر، أو قاصفا من الريح في البحر فيغرقه بكفره، وهل نسي أنه فضله على جميع الخلق، وبسط له الرزق، أفلا يفرده بالعبادة ويخبت له كفاء تلك النعم المتتابعة عليه ؟
المفردات :
الضر في البحر : خوف الغرق.
ضل : غاب عن ذكركم، وضاع عن فكركم كل من تعبدونهم.
التفسير :
٦٧- ﴿ وإذا مسّكم الضرّ في البحر ضل من تدعون إلاّ إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ﴾.
والسياق يعرض هذا المشهد ؛ مشهد الفلك في البحر نموذجا للحظات الشدة والحرج ؛ لأن الشعور بقدرة الله في الخضم أقوى وأشد حساسية، حيث تصبح الفلك نقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم، تتقاذفها الأمواج والتيارات، والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمان.
إن مشهد يحس به من كابده، ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة، المتعلقة بكل هزة ورجفة في الفلك صغيرا كان أو كبيرا، حتى عابرات المحيط الجبارة، التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار !
والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية، وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر ليبتغوا من فضله.
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرقي للاضطراب العتي، حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة، وكل سند وكل مجير إلا الله، فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر، لا يدعون أحدا سواه ﴿ ضل من تدعون إلا إياه ﴾.
وخلاصة ذلك : أنكم إذا مسكم الضر ؛ دعوتم الله منيبين إليه، مخلصين له الدين.
وهذه الآية مما يستدل بها على الرجوع إلى الفطرة الصحيحة، . ولقد استدل لكثير من الأصول بها، كما يعلم ذلك من كلام الأئمة في مسائل شتى. كمسألة وجود الخالق وعلوه، والمعاد وغيرها١.
﴿ فلما نجاكم- من الغرق- إلى البر أعرضتم ﴾. أي : من عجيب أمركم أنكم حين دعوتموه وأغثكم، وأجاب دعاءكم ونجاكم من الهول، أعرضتم وعدتم إلى ما كنتم عليه، فنسيتم لحظة الشدة، وتقاذفتم الأهواء، وجرفتكم الشهوات، وجحدتم فضل الله عليكم ﴿ وكان الإنسان كفورا ﴾ أي : وكانت سجية الإنسان وطبيعته، أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.
وخلاصة ما سلف : أنكم حين الشدائد تجأرون طالبين رحمته وحين الرخاء تعرضون عنه.
وهنا يستجيش السياق وجدان المخاطبين، بتصوير الخطر الذي تركوه في البحر وهو يلاحقهم في البر، أو وهم يعودون إليه في البحر ؛ ليشعروا أن الأمن والفرار لا يكونان إلا في جوار الله وحماه، لا في البحر ولا في البر، لا في الموجة الرخية والريح المواتية، ولا في الملجإ الحصين، والمنزل المريح.
١ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٤٩..
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر في الآية السابقة : أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس، قفا على ذلك بذكر بعض نعمه تعالى في البر والبحر على الإنسان ؛ فهو الذي يجري له الفلك في البحر ؛ لتنقل له أرزاقه وأقواته من المسافات البعيدة، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة، إذا مسه الضر دعا ربه، وإذا أمن أعرض عنه وعبد الأصنام والأوثان، فهل يؤمن أن يخسف به الأرض، أو يرسل عليه حاصبا من الريح في البر، أو قاصفا من الريح في البحر فيغرقه بكفره، وهل نسي أنه فضله على جميع الخلق، وبسط له الرزق، أفلا يفرده بالعبادة ويخبت له كفاء تلك النعم المتتابعة عليه ؟
المفردات :
يخسف : يقلب فيجعل عالي الأرض سافلها.
حاصبا : ريحا حاصبة أي : ترمي بالحصباء وهي الحصا.
أن يعيدكم فيه تارة أخرى : أي : يقوى دواعيكم لركوب البحر مرة أخرى.
قاصفا : يقصف بمعنى : يكسر كل ما مر به.
التبيع : الناصر والمعين، ( حملته على فرس ) : أي : أعطيته إياها ؛ ليركبها.
التفسير :
٦٩، ٦٨- ﴿ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجد لكم وكيلا. أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ﴾.
إن البشر في قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة. إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر، فكيف يؤمنون ؟ كيف يؤمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان، أو بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله ؟ ! أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار، فتحكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلا يحميهم ويدفع عنهم ؟ !
أم كيف يؤمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحا قاصفة، تقصف الصوار وتحطم السفن، فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم ؛ فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم.
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا. ثم يؤمنوا أخذه وكيده. وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة. كأنها آخر شدة يمكن أن يأخذهم بها الله ! ١.
وقد كرم الله الإنسان على كثير من خلقه ؛ كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان.
وكرمه بالاستعدادات التي أوعدها فطرته، والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها يبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ فيها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض، وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك.
وكرم بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة، ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان !
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملإ الأعلى الباقي في الأرض، وهو القرآن.
١ - في ظلال القرآن بقلم: سيد قطب ١٥/٥٣..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٨:المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر في الآية السابقة : أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس، قفا على ذلك بذكر بعض نعمه تعالى في البر والبحر على الإنسان ؛ فهو الذي يجري له الفلك في البحر ؛ لتنقل له أرزاقه وأقواته من المسافات البعيدة، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة، إذا مسه الضر دعا ربه، وإذا أمن أعرض عنه وعبد الأصنام والأوثان، فهل يؤمن أن يخسف به الأرض، أو يرسل عليه حاصبا من الريح في البر، أو قاصفا من الريح في البحر فيغرقه بكفره، وهل نسي أنه فضله على جميع الخلق، وبسط له الرزق، أفلا يفرده بالعبادة ويخبت له كفاء تلك النعم المتتابعة عليه ؟

المفردات :

يخسف : يقلب فيجعل عالي الأرض سافلها.
حاصبا : ريحا حاصبة أي : ترمي بالحصباء وهي الحصا.
أن يعيدكم فيه تارة أخرى : أي : يقوى دواعيكم لركوب البحر مرة أخرى.
قاصفا : يقصف بمعنى : يكسر كل ما مر به.
التبيع : الناصر والمعين، ( حملته على فرس ) : أي : أعطيته إياها ؛ ليركبها.

التفسير :

٦٩، ٦٨- ﴿ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجد لكم وكيلا. أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ﴾.
إن البشر في قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة. إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر، فكيف يؤمنون ؟ كيف يؤمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان، أو بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله ؟ ! أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار، فتحكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلا يحميهم ويدفع عنهم ؟ !
أم كيف يؤمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحا قاصفة، تقصف الصوار وتحطم السفن، فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم ؛ فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم.
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا. ثم يؤمنوا أخذه وكيده. وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة. كأنها آخر شدة يمكن أن يأخذهم بها الله ! ١.
وقد كرم الله الإنسان على كثير من خلقه ؛ كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان.
وكرمه بالاستعدادات التي أوعدها فطرته، والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها يبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ فيها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض، وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك.
وكرم بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة، ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان !
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملإ الأعلى الباقي في الأرض، وهو القرآن.
١ - في ظلال القرآن بقلم: سيد قطب ١٥/٥٣..

المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر في الآية السابقة : أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس، قفا على ذلك بذكر بعض نعمه تعالى في البر والبحر على الإنسان ؛ فهو الذي يجري له الفلك في البحر ؛ لتنقل له أرزاقه وأقواته من المسافات البعيدة، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة، إذا مسه الضر دعا ربه، وإذا أمن أعرض عنه وعبد الأصنام والأوثان، فهل يؤمن أن يخسف به الأرض، أو يرسل عليه حاصبا من الريح في البر، أو قاصفا من الريح في البحر فيغرقه بكفره، وهل نسي أنه فضله على جميع الخلق، وبسط له الرزق، أفلا يفرده بالعبادة ويخبت له كفاء تلك النعم المتتابعة عليه ؟
٧٠- ﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾.
قال النيسابوري : وقد ذكر المفسرون في تكريمه وجوها منها : تعلم الكتابة ؛ فبها يقدر الإنسان على إبداع العلوم التي استنبطها هو أو غيره في الدفاتر، فتبقى على وجه الدهر مصونة عن الاندراس، محفوظة عن الانطماس :﴿ اقرأ وربّك الأكرم. الذي علّم بالقلم ﴾. ( العلق : ٤، ٣ ).
ومنها : الصورة الحسنة :﴿ وصوركم فأحسن صوركم ﴾، ومنها : القامة المعتدلة :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾، ومنها : أن كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم.
يحكى عن الرشيد : أنه حضر إليه طعام فأحضرت الملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس : أن هذا التكريم هو أنه جعل لهم أصابع يأكلون بها ؛ فرد الملاعق وأكل بأصابعه، ومنها : ما قال الضحاك : أنه النطق والتمييز فإن الإنسان يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه بخلاف سائر الحيوانات، ويدخل الأخرس في هذا الوصف لأنه يعرف بالإشارة أو الكتابة، ويخرج الببغاء ونحوه ؛ لأنه لا يقدر على تعريف جميع الأحوال على الكمال، ومنها : تسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم فالأرض كالأم الحاضنة :﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ﴾ وهي لهم فرش ومهاد، والماء ينتفعون به في الشرب والزراعة والعمارة، وماء البحر ينتفع به في التجارة استخراج الحلي منها، والهواء مادة الحياة ولولا هبوب الرياح ؛ لاستولى النتن على المعمورة، والنار ينتفع بها في الطبخ والإنضاج ودفع البرد وغير ذلك، وانتفاعهم بالمركبات المعدنية والحيوانية ظاهر، وبالجملة فهذا العالم بأسره كقرية معمورة والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع فأي تكريم يكون أزيد من هذا١.
﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾. والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة، فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرم منها، فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به، ولكنه سرعان ما يعود فينسى.. هذه الشمس، هذا الهواء، هذا الماء، هذه الصحة، هذه القدرة على الحركة، هذه الحواس، هذا العقل، هذه المطاعم والمشارب والمشاهد، هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه، وفيه من الطيبات ما لا يحصيه.
﴿ وفضلناكم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾. أي : فضلناهم على كثير من المخلوقات بالعقل والتفكير تفضيلا عظيما.
ومن التكريم : أن يكون الإنسان قيما على نفسه، محتملا تبعة اتجاهه وعمله، فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانا. وهي حرية الاتجاه وفردية التبعة، وبها استخلف في دار العمل، فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب٢.
١ - تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ١٥/٦٤..
٢ - في ظلال القرآن بقلم: سيد قطب ١٥/٥٥..
﴿ يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( ٧١ ) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ( ٧٢ ) وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتّخذوك خليلا ( ٧٣ ) ولولا أن تبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ( ٧٤ ) إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد له علينا نصيرا ( ٧٥ ) وإن كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( ٧٦ ) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ( ٧٧ ) ﴾
المفردات :
بإمامهم : بمن ائتموا به من بني آدم في الدين وقيل : بكتابهم أو دينهم، وقيل : بكتاب أعمالهم.
الفتيل : الخيط المستطيل في شق النواة، وبه يضرب المثل في الشيء الحقير التافه، ومثله : النقير، والقطمير.
المعنى الإجمالي :
يوم ندعو كل قوم بإمامهم الذي يأتمون به من دين أو زعيم، أو ندعو كل إنسان بكتاب أعماله، فالسعداء يأخذون كتابهم بيمينهم والأشقياء الذين عموا عن طريق الهدى في الدنيا ؛ يبعثون على حالتهم من العمى والضلال، بل هم في الآخرة أشد عمى، وأبعد عن سبيل الخير.
وقد أوشك هؤلاء الكافرون أن يوقعوك : لتنصرف عن الذي أوحين إليك ؛ لتختلق علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا.
ولقد شملت لطفنا، فصرفناك عن الاستجابة لهم، وثبتناك على الحق، ولولا ذلك لأوشكت أن تميل إلى استجابتهم ؛ طمعا في أن يكمل إيمانهم يوما إذا دخلوا في أوائل الإسلام، ولو ركنت إليهم ؛ لجمعنا عليك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك علينا نصيرا.
ولقد حاول كفار مكة وكادوا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم ؛ ليخرجوك من مكة، وإذا فعلوا فلا يلبثون بعدك إلا قليلا ثم يهلكهم الله، لقد جرت سنتنا بأن الأمم التي تلجأ رسلها إلى الخروج من أرضها، لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.
التفسير :
٧١- ﴿ يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ﴾.
﴿ يوم ندعو كل أناس بإمامهم ﴾. أي : بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين، أو كتاب أو دين ؛ فيقال : يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا وكتاب كذا، وقيل : بكتاب أعمالهم، فيقال يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشر !
ورجح ابن كثير- رحمه الله- القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال لقوله تعالى :﴿ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ﴾. ( يس : ١٢ ).
وقال سبحانه :﴿ وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ﴾ ( الجاثية : ٢٩، ٢٨ ).
وما رجحه ابن كثير هو الصواب ؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، وأول ما يمكن الاهتمام به في معاني الآيات هو الرجوع إلى نظائرها.
﴿ فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ﴾. أي : فمن أعطى كتاب عمله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم مبتهجين فرحين بما فيه من العمل الصالح ﴿ ولا يظلمون فتيلا ﴾ أي : وينقصون شيئا من أجور أعمالهم، ولو قدر الفتيل، وهو ما في شق النواة، أو ما تفتله بين أصبعيك، أو هو أدنى شيء، فهي الفتيل مثل في القلة كقوله تعالى :
﴿ ولا يظلمون شيئا ﴾. ( مريم : ٦٠ ).
وقد ثبت في علم الكمياء أنّ وزن الذرات التي تدخل في كل جسم بنسب معينة، فلو أن ذرة واحد في عنصر من العناصر الداخلة في تركيب أي جسم من النبات أو الحيوان أو الجماد، نقصت عن النسبة المقدرة لتكوينه ؛ لم يتكون ذلك المخلوق.
وخالق الدنيا هو خالق لآخرة، فالظلم مستحيل هناك كما استحال هنا في نظم الطبيعة، فما أجل قدرة الله وما أعظم حكمته في خلقه ! ١.
١ - تفسير المراغي ١٥/٧٧، ٧٨ الطبعة الثانية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر..
المعنى الإجمالي :
يوم ندعو كل قوم بإمامهم الذي يأتمون به من دين أو زعيم، أو ندعو كل إنسان بكتاب أعماله، فالسعداء يأخذون كتابهم بيمينهم والأشقياء الذين عموا عن طريق الهدى في الدنيا ؛ يبعثون على حالتهم من العمى والضلال، بل هم في الآخرة أشد عمى، وأبعد عن سبيل الخير.
وقد أوشك هؤلاء الكافرون أن يوقعوك : لتنصرف عن الذي أوحين إليك ؛ لتختلق علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا.
ولقد شملت لطفنا، فصرفناك عن الاستجابة لهم، وثبتناك على الحق، ولولا ذلك لأوشكت أن تميل إلى استجابتهم ؛ طمعا في أن يكمل إيمانهم يوما إذا دخلوا في أوائل الإسلام، ولو ركنت إليهم ؛ لجمعنا عليك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك علينا نصيرا.
ولقد حاول كفار مكة وكادوا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم ؛ ليخرجوك من مكة، وإذا فعلوا فلا يلبثون بعدك إلا قليلا ثم يهلكهم الله، لقد جرت سنتنا بأن الأمم التي تلجأ رسلها إلى الخروج من أرضها، لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.
المفردات :
أعمى : أي : أعمى البصيرة عن حجة الله وبيّناته.
التفسير :
٧٢- { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة وأضل سبيلا منه في الدنيا ؛ لأن الروح الباقي بين الموت هو الروح الذي كان في هذه الحياة الدنيا وقد أخرج من الجسم وكأنه ولد منه كما تلد المرأة الصبي، وكما يثمر النخل الثمرة، والأشجار والفواكه، وما الثمر والفواكه إلا ما كان من طباع الشجرة، فهكذا الروح الباقي هو هذا الروح نفسه قد خرج بجميع صفاته وأخلاقه وأعماله، فهو ينظر إلى نفسه وينفر أو ينشرح بحسب ما يرى، وما الثمر إلا بحسب الشجر، فإذا كان هناك ساهيا لاهيا، فهناك يكون أكثر سهوا ولهوا، وأبعد مدى في الضلال ؛ لأن آلات العلم والعمل قد عطلت وبقي فيه مناقبه ومثالبه ولا قدرة على الزيادة في الأولى ولا النقص في الثانية.
وفي ظلال القرآن :
هذا مشهد يصور الخلائق محشورة وكل جماعة تنادي بعنوانها، باسم المنهج الذي اتبعته، أو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اقتدت به أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا، تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزاءها في الدار الآخرة، فمن أوتي كتابه بيمينه ؛ فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه، ويوفي أجره لا ينقض منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة، ومن عمى في الدنيا عن دلائل الهدى ؛ فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير وأشد ضلالا، وجزاؤه معروف، ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل، أعمى ضالا يتخبط، لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به، ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا ؛ لأن مشهد العمى والضلال ؛ في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب، يؤثر في القلوب ! ١.
١ - في ظلال القرآن بقلم: سيد قطب ١٥/٥٥..
المعنى الإجمالي :
يوم ندعو كل قوم بإمامهم الذي يأتمون به من دين أو زعيم، أو ندعو كل إنسان بكتاب أعماله، فالسعداء يأخذون كتابهم بيمينهم والأشقياء الذين عموا عن طريق الهدى في الدنيا ؛ يبعثون على حالتهم من العمى والضلال، بل هم في الآخرة أشد عمى، وأبعد عن سبيل الخير.
وقد أوشك هؤلاء الكافرون أن يوقعوك : لتنصرف عن الذي أوحين إليك ؛ لتختلق علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا.
ولقد شملت لطفنا، فصرفناك عن الاستجابة لهم، وثبتناك على الحق، ولولا ذلك لأوشكت أن تميل إلى استجابتهم ؛ طمعا في أن يكمل إيمانهم يوما إذا دخلوا في أوائل الإسلام، ولو ركنت إليهم ؛ لجمعنا عليك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك علينا نصيرا.
ولقد حاول كفار مكة وكادوا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم ؛ ليخرجوك من مكة، وإذا فعلوا فلا يلبثون بعدك إلا قليلا ثم يهلكهم الله، لقد جرت سنتنا بأن الأمم التي تلجأ رسلها إلى الخروج من أرضها، لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.
المفردات :
وإن كادوا ليفتنوك : إن مخففة من إن، وكادوا أي : أوشكوا- ليفتنونك- أي : ليوقعونك في بلية ؛ بصرفك عما أوحي إليك.
تركن : أي : تميل. يقال : ركن إليه يركَن، وركن إليه يركُن ركونا، مال إليه.
التفسير :
٧٤، ٧٣- ﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن تبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ﴾.
إخبار عن تأييده تعالى رسوله، صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته وعصمته، وتولى أمره وحفظه. فإن المشركين، لكثرة تفننهم في ضروب الأذى، وشدة تعنتهم وقوة شكيمتهم، كادوا أن يفتنوه، ولكن عناية الله وحفظه، هو الذي ثبت قدمه في مثل مقامه، في الدعوة إلى الله الذي لا يثبت فيه أحد غيره.
وقد روى : أن ثقيفا قالوا : لا نؤمن حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب، لا ننحني في الصلاة، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وأن تمتعنا بالات سنة من غير أن نعبدها، فإن خشيت أن يقول العرب : لم أعطيتهم ما لم تعطنا ؟ فقل : الله أمرني بذلك.
وروي : أن قريشا قالوا : لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا. وقالوا أيضا : نؤمن بك إن تمس آلهتنا.
قال الإمام الطبري :
يجوز أن تكون الفتنة ما ذكر وأن تكون غير ذلك، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان. فالأصوب الإيمان بظاهره ؛ حتى يأتي ما يجب التسليم له ببيان ما عنى بذلك منه.
وفي ضلال القرآن :
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ؛ ليفتري عليه غيره وهو الصادق الأمين.
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى... منها : مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم.. ومنها : طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء..
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها ؛ ليذكر فضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته ؛ لركن إليهم فاتخذوه خليلا١.
﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ﴾.
أي : ولولا تثبيتنا إياك وعصمتك عما دعوك إليه لقاربت أن تميل إلى ما يريدون.
وخلاصة ذلك : أنك كنت على أهبة الركون إليهم، لا لضعف منك، بل لشدة مبالغتهم في التحيل والخداع، ولكن عنايتنا بك منعتك أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم.
وعن قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم :( اللهم، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ).
١ - في ظلال القرآن ١٥/٥٩..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٣:المعنى الإجمالي :
يوم ندعو كل قوم بإمامهم الذي يأتمون به من دين أو زعيم، أو ندعو كل إنسان بكتاب أعماله، فالسعداء يأخذون كتابهم بيمينهم والأشقياء الذين عموا عن طريق الهدى في الدنيا ؛ يبعثون على حالتهم من العمى والضلال، بل هم في الآخرة أشد عمى، وأبعد عن سبيل الخير.
وقد أوشك هؤلاء الكافرون أن يوقعوك : لتنصرف عن الذي أوحين إليك ؛ لتختلق علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا.
ولقد شملت لطفنا، فصرفناك عن الاستجابة لهم، وثبتناك على الحق، ولولا ذلك لأوشكت أن تميل إلى استجابتهم ؛ طمعا في أن يكمل إيمانهم يوما إذا دخلوا في أوائل الإسلام، ولو ركنت إليهم ؛ لجمعنا عليك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك علينا نصيرا.
ولقد حاول كفار مكة وكادوا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم ؛ ليخرجوك من مكة، وإذا فعلوا فلا يلبثون بعدك إلا قليلا ثم يهلكهم الله، لقد جرت سنتنا بأن الأمم التي تلجأ رسلها إلى الخروج من أرضها، لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.

المفردات :

وإن كادوا ليفتنوك : إن مخففة من إن، وكادوا أي : أوشكوا- ليفتنونك- أي : ليوقعونك في بلية ؛ بصرفك عما أوحي إليك.
تركن : أي : تميل. يقال : ركن إليه يركَن، وركن إليه يركُن ركونا، مال إليه.

التفسير :

٧٤، ٧٣- ﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن تبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ﴾.
إخبار عن تأييده تعالى رسوله، صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته وعصمته، وتولى أمره وحفظه. فإن المشركين، لكثرة تفننهم في ضروب الأذى، وشدة تعنتهم وقوة شكيمتهم، كادوا أن يفتنوه، ولكن عناية الله وحفظه، هو الذي ثبت قدمه في مثل مقامه، في الدعوة إلى الله الذي لا يثبت فيه أحد غيره.
وقد روى : أن ثقيفا قالوا : لا نؤمن حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب، لا ننحني في الصلاة، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وأن تمتعنا بالات سنة من غير أن نعبدها، فإن خشيت أن يقول العرب : لم أعطيتهم ما لم تعطنا ؟ فقل : الله أمرني بذلك.
وروي : أن قريشا قالوا : لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا. وقالوا أيضا : نؤمن بك إن تمس آلهتنا.

قال الإمام الطبري :

يجوز أن تكون الفتنة ما ذكر وأن تكون غير ذلك، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان. فالأصوب الإيمان بظاهره ؛ حتى يأتي ما يجب التسليم له ببيان ما عنى بذلك منه.

وفي ضلال القرآن :

يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ؛ ليفتري عليه غيره وهو الصادق الأمين.
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى... منها : مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم.. ومنها : طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء..
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها ؛ ليذكر فضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته ؛ لركن إليهم فاتخذوه خليلا١.
﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ﴾.
أي : ولولا تثبيتنا إياك وعصمتك عما دعوك إليه لقاربت أن تميل إلى ما يريدون.
وخلاصة ذلك : أنك كنت على أهبة الركون إليهم، لا لضعف منك، بل لشدة مبالغتهم في التحيل والخداع، ولكن عنايتنا بك منعتك أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم.
وعن قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم :( اللهم، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ).
١ - في ظلال القرآن ١٥/٥٩..

المعنى الإجمالي :
يوم ندعو كل قوم بإمامهم الذي يأتمون به من دين أو زعيم، أو ندعو كل إنسان بكتاب أعماله، فالسعداء يأخذون كتابهم بيمينهم والأشقياء الذين عموا عن طريق الهدى في الدنيا ؛ يبعثون على حالتهم من العمى والضلال، بل هم في الآخرة أشد عمى، وأبعد عن سبيل الخير.
وقد أوشك هؤلاء الكافرون أن يوقعوك : لتنصرف عن الذي أوحين إليك ؛ لتختلق علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا.
ولقد شملت لطفنا، فصرفناك عن الاستجابة لهم، وثبتناك على الحق، ولولا ذلك لأوشكت أن تميل إلى استجابتهم ؛ طمعا في أن يكمل إيمانهم يوما إذا دخلوا في أوائل الإسلام، ولو ركنت إليهم ؛ لجمعنا عليك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك علينا نصيرا.
ولقد حاول كفار مكة وكادوا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم ؛ ليخرجوك من مكة، وإذا فعلوا فلا يلبثون بعدك إلا قليلا ثم يهلكهم الله، لقد جرت سنتنا بأن الأمم التي تلجأ رسلها إلى الخروج من أرضها، لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.
المفردات :
ضعف الحياة وضعف الممات : أي : ضعف حياة الدنيا وضعف عذاب الآخرة.
نصيرا : أي : معينا يدفع عنك العذاب.
التفسير :
٧٥- ﴿ إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ﴾.
أي : ولو ركنت إلى فتنة المشركين ؛ لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، أي : ضاعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ( والضعف ) عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله والسبب في تضعيف العذاب أن الذنب من العظيم يكون عقابه أعظم، ومن ثم يعاقب العلماء على زلاتهم من عقاب العامة ؛ لأن الناس تتبع العلماء وتقتدي بهم، ومن ثم قال القاتل :
يا معشر العلماء يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد
وقد جاء في الأثر :( من سن سنة سيئة ؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ).
﴿ ثم لا تجد لك علينا نصيرا ﴾.
يعني : لو أذقناك العذاب لم تجد أحدا يدفعه عنه أو يخلصك منه.
تنبيهات :
الأول : قال النيسابوري : اعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها والتهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها فلا يلزم من الآية طعن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه لا عصمة من العاصي إلا بتوفيق الله وتثبيته على الحق١.
الثاني : قال في التفسير الكبير : حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همك ؛ لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثل عذاب المشرك في الدنيا ومثل عذابه في الآخرة٢.
الثالث : قال القفال : من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه. فتارة كانوا يقولون : إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون ﴾. ( الكافرون : ٢، ١ ). وقوله ﴿ ودّوا لو تُذهنُ فيُذهنون ﴾. ( القلم : ٩ ). وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنساء الجميلة ؛ ليترك ادعاء النبوة فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تمدن عيناك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ﴾. ( طه : ١٣١ ).
ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله :{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم... ( الأنعام : ٥٢ )٣.
فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب، وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه وأن يزيلوه عن منهجه. فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم، وعلى هذا الطريق، فلا حاجة في تفسير الآيات، إلى شيء من تلك الروايات. والله أعلم٤.
١ - تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ١٥/٧٢ ط بولاق..
٢ - تفسير النيسابوري ١٥/٧١..
٣ - الأنعام ٥٢ وتمام الآية: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين﴾..
٤ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٥٦، وتفسير النيسابوري ١٥/٧٠ ط بولاق..
المعنى الإجمالي :
يوم ندعو كل قوم بإمامهم الذي يأتمون به من دين أو زعيم، أو ندعو كل إنسان بكتاب أعماله، فالسعداء يأخذون كتابهم بيمينهم والأشقياء الذين عموا عن طريق الهدى في الدنيا ؛ يبعثون على حالتهم من العمى والضلال، بل هم في الآخرة أشد عمى، وأبعد عن سبيل الخير.
وقد أوشك هؤلاء الكافرون أن يوقعوك : لتنصرف عن الذي أوحين إليك ؛ لتختلق علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا.
ولقد شملت لطفنا، فصرفناك عن الاستجابة لهم، وثبتناك على الحق، ولولا ذلك لأوشكت أن تميل إلى استجابتهم ؛ طمعا في أن يكمل إيمانهم يوما إذا دخلوا في أوائل الإسلام، ولو ركنت إليهم ؛ لجمعنا عليك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك علينا نصيرا.
ولقد حاول كفار مكة وكادوا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم ؛ ليخرجوك من مكة، وإذا فعلوا فلا يلبثون بعدك إلا قليلا ثم يهلكهم الله، لقد جرت سنتنا بأن الأمم التي تلجأ رسلها إلى الخروج من أرضها، لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.
المفردات :
ليستفزونك : أي : ليزعجونك بمعاداتهم.
لا يلبثون خلافك : أي : لا يبقون بعدك.
التفسير :
٧٦- ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ﴾.
أي : ولقد حاول كفار مكة أن يزعجوك ويستخفوك بعداوتهم ومكرهم، فعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه ؛ ليخرجوه من أرض مكة- ولكن الله أوحى إليه : أن يخرج مهاجرا ؛ لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة.
ولو أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنوة وقسرا ؛ لحل بهم الهلاك ﴿ وإذا لا يلبسون خلافك إلا قليل ﴾.
قال الطبري : ولو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلا قليلا حتى أهلكهم بعذاب عاجل١.
قال الطبري : واختلف أهل التأويل في الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليخرجوه من الأرض، وفي الأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها فقال بعضهم : الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليهود، والأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها : المدينة٢.
وقال النيسابوري :
وروى عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر
إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، وقالوا : يا أبا القاسم، إن الأنبياء بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة، وكانت مهاجر إبراهيم فلم خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم، فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة أو بذي الحليفة ؛ حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام ؛ لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت الآية فرجع، وعلى هذا القول تكون هذه الآية مدنية٣.
وقال قتادة ومجاهد : بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا، والأرض أرض مكة٤.
ونحن نرجح أن الآية مكية، ونرى أن الرواية التي أوردها النيسابوري عن ابن عباس تثير في النفس بعض التساؤل ؟
فكيف يعسكر الرسول صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة عازما على الخروج إلى الشام ؟
وهل بلغت به السذاجة أن يترك قاعدة الإسلام في المدينة ويذهب مختارا إلى الشام من أجل كيد اليهود وحيلهم ؟
ونحن لا ننكر قدرة اليهود على الدس والخداع.
ولا نستبعد أن يميل النبي صلى الله عليه وسلم إلى حديثهم برهة أو لحظة، ثم لا يلبث أن ينكشف أمامه الأمر.
أما أن يصل الأمر إلى حد الخروج من المدينة والعزم على السفر إلى الشام فهذا ما نستبعده ؛ لما عرف واشتهر من صدق فراسة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد نظره ورجاحة عقله وسلامة تفكيره.
وقد رجح الطبري- شيخ المفسرين- أن الآية مكية لا مدنية فبعد أن روى الطبري عدة روايات منها ما يفيد أن الآية مكية، ومنها ما يفيد أن الآية مدنية عقّب على هذه الروايات بقوله :
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول قتادة ومجاهد ( أي : بأن الآية مكية ) وذلك أن قوله ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ﴾ في سياق خبر الله عز وجل عن قريش وذكره إياهم ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر فيوجه قوله : وإن كادوا إلى أنه خبر عنهم، فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولى من غيره٥.
ثم إن تاريخ الدعوة الإسلامية، ونصوص القرآن الكريم تفيد : أن المسلمين كانوا مستضعفين في مكة، معرضين للعذاب والمصادرة.
وهذا الوضع يغري الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج والمهاجرة، أما وضعهم في المدينة فقد كان مستقرا نسبيا ؛ إذ آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووضع أساس الدولة الجديدة، وقاد غزوات ناجحة، وعقد معاهدات لحسن الجوار مع جيرانه من اليهود.
كل هذا يرجح أن القوم الذين هموا بإخراجه هم قريش وأن الأرض التي كاد أن يخرج منها هي مكة.
وفي سورة الأنفال ( وهي مدنية نزلت سنة ٢ هجرية ) يقول القرآن :﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ﴾. ( الأنفال : ٢٦ ).
وقد قال المفسرون : إن هذه الآية تشير إلى ضعف المسلمين وقلتهم في مكة، وإلى عزتهم وقوتهم بالمدينة، خصوصا بعد النصر المبين الذي أحرزوه في غزوة بدر الكبرى.
١ - تفسير الطبري ١٥/٨٩ ط بولاق..
٢ - تفسير الطبري ١٥/٨٩ ط بولاق..
٣ - تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ١٥/٧٢، ٧٣..
٤ - تفسير الطبري..
٥ - تفسير الطبري ١٥/٩٠ ط بولاق..
المعنى الإجمالي :
يوم ندعو كل قوم بإمامهم الذي يأتمون به من دين أو زعيم، أو ندعو كل إنسان بكتاب أعماله، فالسعداء يأخذون كتابهم بيمينهم والأشقياء الذين عموا عن طريق الهدى في الدنيا ؛ يبعثون على حالتهم من العمى والضلال، بل هم في الآخرة أشد عمى، وأبعد عن سبيل الخير.
وقد أوشك هؤلاء الكافرون أن يوقعوك : لتنصرف عن الذي أوحين إليك ؛ لتختلق علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا.
ولقد شملت لطفنا، فصرفناك عن الاستجابة لهم، وثبتناك على الحق، ولولا ذلك لأوشكت أن تميل إلى استجابتهم ؛ طمعا في أن يكمل إيمانهم يوما إذا دخلوا في أوائل الإسلام، ولو ركنت إليهم ؛ لجمعنا عليك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك علينا نصيرا.
ولقد حاول كفار مكة وكادوا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم ؛ ليخرجوك من مكة، وإذا فعلوا فلا يلبثون بعدك إلا قليلا ثم يهلكهم الله، لقد جرت سنتنا بأن الأمم التي تلجأ رسلها إلى الخروج من أرضها، لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.
المفردات :
تحويلا : أي : تغييرات.
التفسير :
٧٧- ﴿ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ﴾.
يقول سبحانه : لو أخرجوك لم يلبثوا خلافك إلا قليلا ولأهلكناهم بعذاب من عندنا. هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم وكذبوهم، فكل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ؛ سنة الله أن يهلكهم.
﴿ ولا تجد لسنتنا تحويلا ﴾ أي : إن ما أجرى به العادة لا يتسنى لأحد سواه أن يغيره ولا أن حوله.
وقد ذكر الطبري أن الله أمهل أهل مكة قليلا حتى أخذهم بالعذاب يوم بدر١.
وقال ابن كثير :
وقد وقع العذاب لأهل مكة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بين هجرته من بين أظهرهم، بعدما اشتد أداهم له إلا سنة ونصف، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد، فأمكنه منهم وسلطه عليهم، وأظفره بهم، فقتل أشرافهم، وسبى سراتهم ولهذا قال تعالى﴿ سنة من قد أرسلنا ﴾ أي : هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم، يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ويأتيهم لعذاب، ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة ؛ لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به، كما قال تعالى :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم... ﴾ ( الأنفال : ٣٣ ).
١ - تفسير الطبري ١٥/٩٠..
﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( ٧٨ ) ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( ٧٩ ) وقل ربّي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ( ٨٠ ) وقل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ( ٨١ ) وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ( ٨٢ ) وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا ( ٨٣ ) قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( ٨٤ ) ﴾
المفردات :
دلوك الشمس : زوالها عن دائرة نصف النهار، وقيل : لغروبها، يقال : دلكت الشمس تدلك دلوكا. أي : زالت ساعة الزوال.
إلى غسق الليل : أي : إلى ظلمته، هو وقت صلاة العشاء الأخيرة.
وقرآن الفجر : أي : وقت صلاة الصبح، سميت الصلاة قرآنا ؛ لأنه ركنها.
كان مشهودا : أي : تشهده الملائكة.
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به ؛ أمره بالإقبال على ربه بعباده ؛ لينصره عليهم، ولا يبالي بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم، ويجعل يده فوق أيديهم ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود، ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدوات النفسية والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرون خسارة وضلالا ؛ لأنه كلما نزلت عليه آية ؛ ازدادوا بها كفرا وعتوا.
التفسير :
٧٨ ﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ﴾.
﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل... ﴾ دلوك الشمس معناه : زوالها عن كبد السماء، وقيل : دلوك الشمس هو : غروبها.
قال ابن تيمية : الدلوك : الزوال عند أكثر السلف وهو الصواب.
وقال ابن جرير الطبري : اختلف أهل التأويل في الوقت الذي عناه الله بدلوك الشمس، فقال بعضهم هو وقت غروبها والصلاة التي أمر بإقامتها حينئذ : صلاة المغرب.
وقال آخرون : دلوك الشمس : ميلها للزوال، والصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند دلوكها الظهر.
وقد نقل الطبري في تفسيره أدلة كل فريق، ثم قال :
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بقوله : أقم الصلاة لدلوك الشمس صلاة الظهر وذلك أن الدلوك في كلام العرب : الميل يقال منه : ذلك فلان إلى كذا إذا مال إليه١.
﴿ إلى غسق الليل ﴾ وغسق الليل هو إقباله ودنوه بظلامه كما قال الشاعر : آب هذا الليل إذا غسقا.
وتكون الصلاة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامتها هي صلاة المغرب وقال بعضهم : إلى غسق الليل : صلاة العصر. وهو رأي ضعيف مردود.
قال الطبري في تفسيره :
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند غسق الليل هي صلاة المغرب دون غيرها ؛ لأن غسق الليل هو ما وصفناه من إقبال الليل وظلامه وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس، فأما صلاة العصر فإنها مما تقام من ابتداء دلوك الشمس إلى غسق الليل لا عند غسق الليل.
﴿ وقرآن٢ الفجر ﴾ أي : صلاة الصبح سميت : قرآنا ؛ لأنه ركنا، كما سميت : ركوعا وسجودا فهو من تسمية الكل باسم جزئه المهم.
﴿ إن قرآن الفجر كان مشهودا ﴾ أي : يشهده ملائكة الليل والنهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار، أو يشهده كثير من المصلين في العادة أو من حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة أو يشاهد الإنسان فيه عجائب صنع الله في إدبار الليل وإقبال النهار، وانتشار الضوء ودبيب الحركة والحياة.
وجاء في تفسير النيسابوري :
قال أهل التحقيق إذا شرع في صلاة الصبح في أول وقتها شاهد في أثنائها انقلاب العالم من الظلمة التي هي نظير الموت إلى الضياء الذي هو نظير الحياة فإنه يفيء عقله من هذه الحالة إلى عجيب صنع المدبر للأنفس والآفاق فيزداد بصيرة وإيقانا ومعرفة وإيمانا وتنفتح عليه أبواب المكاشفة والمشاهدة.
وإذا كان هذا المعنى في الجماعات الكثيرة ؛ صارت نفوسهم كالمرايا المشرقة المتقابلة المتعاكسة أضواؤها الواقعة على كل منها فيزداد كل منهم نورا وبهاء فيتحمل أن يكون قوله :﴿ مشهودا ﴾ إشارة إلى هذه الأحوال والمشاهدة، ولا ريب أنه إذا شرع في الصلاة أول انتباهه من النوم، قبل أن يرد على لوح عقله وفكره النقوش الفاسدة، من الأمور الدنيوية الدنية كان أولى : فإن الأنبياء ما بعثوا إلا لإزالة مثل هذه الأمراض عن النقوش٣.
تنبيهات :
١- معنى إقامة الصلاة : أداؤها كاملة الأركان، مع حضور القلب في مناجاة الرب، والخشية منه في السر والعلن، وفي حديث البخاري :( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )٤.
والصلاة لب العبادة ؛ لم فيها من مناجاة الخالق، والتبتل إليه والقيام والركوع والسجود بين يديه، فهي راحة المؤمن وقرة عينه كما ورد في الحديث :( وجعلت قرة عيني في الصلاة )٥.
٢- قال النسفي :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس ﴾ أي : لزوالها وعلى هذا فالآية جامعة للصلوات الخمس، أو لغروبها وعلى هذا يخرج الظهر والعصر. ﴿ إلى غسق الليل ﴾ هو الظلمة وهو وقت صلاة العشاء٦.
٣- قال النيسابوري : ذهب كثير من المفسرين كابن قتيبة، وسعيد ابن جبير منقولا عن بن عباس أن دلوك الشمس هو : غروبها وعلى هذا لا تشمل الآية صلاتي الظهر والعصر.
وأكثر الصحابة والتابعين أن دلوك الشمس : زوالها عن كبد السماء ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر، قالوا : واشتقاقه من الدلك ؛ لأن الإنسان يدلك عينيه ؛ إذ ينظر إليها وهي في كبد السماء وحمل كلام الله على ما هو أكثر فائدة أولى واللام بمعنى : الوقت أو للتعليل أي : أقم الصلاة في هذا الوقت أو لأجل دخول هذا الوقت٧.
٤- يرجح بعض المفسرين أن الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها، فدلوك الشمس بمعنى : زوالها عن كبد السماء يتناول الظهر والعصر تناولا واحدا وغسق الليل بمعنى : إقباله يتناول المغرب والعشاء تناولا واحدا، وقرآن الفجر يشير إلى صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر وهي صلاة الصبح.
قيل هذا يقتضي أن يكون الدلوك مشتركا بين الظهر والعصر، والغسق مشتركا بين المغرب والعشاء. فيدل على جواز الجمع مطلقا بين الأولين، وكذا بين الأخيرين. فالجواب : هو كذلك بعذر السفر أو المطر ونحوها. وأما في غيرها فلا. وذلك لما بينته السنة من فعل كل واحدة في الوقت الخاص بها، إلا بعذر٨.
قال الحافظ ابن كثير :
قد بينت السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله، تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفا عن سلف وقرنا بعد قرن كما هو مقرر في مواضعه.
وعن ابن سيرين : أنه يجوز الجمع من غير خوف ولا مرض لحاجة ما لم يتخذ عادة واختيار ابن المنذر وجماعة جواز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر.
وقد روى الشيخان٩ وغيرهما عن ابن عباس قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعا وثمانيا : الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
ومن رواية لمسلم : صلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا من غير خوف ولا سفر، وكثير من الرواة حملوا ذلك على ليلة مطيرة. والظاهر أن مستند من جوز الجمع في الحضر مطلقا هذه الآية مع أثر ابن عباس١٠ المتقدم.
٥- رجح صاحب الظلال : أن كل ما ورد في هذه الآية وما بعدها مختص بالرسول صلى الله عليه وسلم- وأن أوقات الصلاة المكتوبة ثابتة بالسنة القولية والعملية. وأن هذه الآية لا تشير إلى أوقات الصلاة١١.
ونرى أن هذه الآية تشير إلى أوقات الصلاة بصفة عامة وأن الخطاب فيها للرسول صلى الله عليه وسلم يتناول أمته أيضا.
أما تحديد الأوقات تحديدا قاطعا يتناول بدايتها ونهايتها فقد تكفلت به السنة العملية والقولية.
أما الأمر بالتهجد في الآية القادمة فهو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قال القرآن :﴿ نافلة لك ﴾ يقول : نفلا لك عن فرائضك التي فرضتها عليك، فقد كان قيام الليل فريضة عليه صلى الله عليه وسلم وهو لغيره تطوع١٢.
١ - تفسير الطبري ١٥/٩١، ٩٢..
٢ - ﴿وقرآن الفجر﴾ منصوب بالعطف على ﴿الصلاة﴾ أي: وأقم صلاة الفجر. وجوز بعض النحاة نصبه على الإغراء، أي: وعليك قرآن الفجر أو الزم قرآن الفجر..
٣ - تفسير النيسابوري بهامش الطبري ١٥/٧٥ ط بولاق..
٤ - الإحسان أن تعبد الله:
رواه البخاري في الإيمان ح ٥٠، وفي تفسير القرآن ح ٤٧٧٧، ومسلم في الإيمان ح ٨، ٩، والترمذي في الإيمان ح ‌٢٦١٠، والنسائي في الإيمان ح ٤٩٩٠‍، ٤٩٩١، وأبو داود في السنة ح ٤٦٩٥، وابن ماجة في المقدمة ح ٦٤، ٦٣، وأحمد ح ٦١٢١، ٥٨٢٢، ٣٧٦، ٣٦٩ من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقاءه وتؤمن بالبعث الآخر) قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتأتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان) قال: يا رسول الله، ما الإحسان: قال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت المرأة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كان الحفاة العراة رءوس الناس فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ﴿إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام.. ﴾ ثم انصرف الرجل فقال: (ردوا علي) فأخذوا ليردوا فلم يروا شيئا فقال: (هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم). ومن حديث عمر بن الخطاب. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح..

٥ - وجعل قرة عيني في الصلاة:
رواه النسائي (٣٩٣٩، ٣٩٤٠ وأحمد (١٢٦٤٤، ١١٨٨٥، ١١٨٨٤) من حديث أنس بن مالك. قال: قال رسول الله صلى الله عليهم وسلم: (حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة). قال العراقي: رواه النسائي والحاكم من حديث أنس بإسناد جيد وضعفه العقيلي. قال المناوي في الفيض: قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال الحافظ العراقي: إسناده جيد، وقال ابن حجر: حسن، واعلم أن المصنف جعل في الخطبة (حم) رمزا لأحمد في مسنده فاقتضى ذلك أن أحمد روى هذا في المسند وهو باطل فإنه لم يخرجه فيه وإنما خرجه في كتاب الزهد فعزوه إلى المسند سبق ذهن أو قلم قلت: وكلام المناوي فيه نظر فإن الحديث رواه أحمد في مسنده كما تقدم من حديث أنس بن مالك وذكره في ثلاث مواضع، فتأمل..

٦ - تفسير النسقي ٢/٦٥٠..
٧ - تفسير النيسابوري ١٥/٧٣..
٨ - تفسير القاسمي ١٠/٢٩٦٠..
٩ - أخرجه البخاري في الجزء التاسع، كتاب مواقيت الصلاة، والثاني عشر، باب تأخير الظهر إلى العصر رقم ٣٥٣ (عن ابن عباس).
وأخرجه مسلم في الجزء السادس، كتاب صلاة المسافرين وقصرها حديث رقم ٥٥ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي..

١٠ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٦٠، ٣٩٦١..
١١ - في ظلال القرآن بقلم: سيد قطب ١٥/٦٢..
١٢ - تفسير الطبري ١٥/٩٦ ط بولاق..
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به ؛ أمره بالإقبال على ربه بعباده ؛ لينصره عليهم، ولا يبالي بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم، ويجعل يده فوق أيديهم ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود، ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدوات النفسية والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرون خسارة وضلالا ؛ لأنه كلما نزلت عليه آية ؛ ازدادوا بها كفرا وعتوا.
المفردات :
فتهجد به : أي : فاترك الهجود فيه لتصلي، كالتحنث : ترك الحنث، والتأثم ترك الإثم.
مقاما محمودا : مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة.
التفسير :
٧٩- ﴿ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾.
﴿ ومن الليل فتهجد به ﴾ أي : واسهر بعض الليل وتهجد١ به وهو أول أمر له صلى الله عليه وسلم بقيام الليل زيادة على الصلوات المفروضة.
﴿ نافلة لك ﴾ أي : أنها عبادة زائدة على الصلوات الخمس مخصوصة بك وحدك دون أمة، فهي فريضة عليك ومندوبة في حق أمتك.
﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾ أي : افعل هذا الذي أمرتك به ؛ لنقيمك يوم القيامة مقاما يحمدك فيه كل الخلائق وخالقهم تبارك وتعالى.
قال الطبري :
وعسى من الله واجبة وإنما وجه قول أهل العلم عسى من الله واجبة أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه٢.
﴿ مقاما محمودا ﴾ أي : يحمده القائم فيه وكل من رآه يعرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، والمشهور أنه مقام الشفاعة العظمى ؛ للفصل بين الخلائق الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، كما وردت به الأخبار الصحيحة٣.
قال النيسابوري :
والأولى أن ذلك المقام المحمود بالشفاعة ؛ لأن الحمد إنما يكون بإزاء إنعام، ولا إنعام للنبي على أمته في الآخرة إلا إنعام الشفاعة، أو لا إنعام أجل منها ؛ لأن السعي في تخليص الغير من العقاب أهم من السعي في إيصال الثواب، ويؤيده رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( وهو المقام الذي أشفع فيه لأمتي )٤.
وقال الطبري :
( اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر أهل العلم : ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة في ذلك اليوم )٥.
أخرج النسائي والحاكم وجماعة عن حذيفة رضي الله عنه قال : يجمع الله الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادي : يا محمد، فيقول :( لبيك وسعديك. والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت ) فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله.
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة : أن الزحام إذا اشتد يوم القيامة، ألهم الناس أن الشفاعة للأنبياء، فيذهب الناس إليهم، فيقول كل نبي : نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، حتى يذهبوا إلى النبي صل الله عليه وسلم فيستشفعون به عند الله تعالى ؛ ليريحهم من هول الموقف، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : أنا لها أنا لها ! ثم يذهب تحت ساق العرش فيسجد، ثم يلهمه الله تعالى من الثناء عليه والحمد له ما هو له أهل، ثم يقول له الله عز وجل : ارفع، واشفع تشفع. وسل تعط، فذاك هو المقام المحمود الذي قال له الله :٦ ﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾.
وروى البخاري عن جابر ابن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قال حين يسمع النداء :٧ ( اللهم، رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ؛ حلت له شفاعتي )٨.
١ - التهجد: ترك الهجود وهو النوم و(تفعل) يأتي للسلب ك(تأثم وتحرج)، بمعنى: ترك الإثم والحرج. قال الأزهري: المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم، وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم. وكأنه قيل له: (متهجد)؛ لإلقائه الهجود عن نفسه كما يقال للعابد: (متحنث)؛ لإلقائه الحنث عن نفسه. ونقل عن ابن فارس أن معناه: صل ليلا. وكذا عن ابن الأعرابي قال: هجد الرجل وتهجد؛ إذا صلى بالليل والمعروف الأول..
٢ - تفسير الطبري ١٥/٩٧ ط بولاق..
٣ - ورد ذلك في البخاري في: ٦٥- كتاب التفسير ١، ٧ سورة الإسراء، حديث رقم ٧٨٧ عن ابن عمر..
٤ - تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ١٥/٧٧..
٥ - تفسير الطبري ١٥/٩٧ ط بولاق..
٦ - رواه الإمام أحمد في مسنده في حديث طويل ذكر فيه: (إن الناس تذهب إلى نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، فيعتذر كل نبي ويقول: اذهبوا إلى غيري، إن الجبار غضب اليوم غضبا شديدا لم يغضب مثله)..
٧ - المراد به: النداء للصلاة وهو الأذان والإقامة..
٨ - اللهم رب هذه الدعوة التامة:
رواه البخاري في الأذان (٦١٤) وفي التفسير (٤٧١٩) وأبو داود في الصلاة (٥٢٩) والترمذي في الصلاة (٢١١) والنسائي في الأذان (٦٨٠) وابن ماجة في الأذان (٧٢٢) وأحمد في مسنده (١٤٢٠٩) من حديث جابر ابن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته؛ حلت شفاعتي يوم القيامة)..

المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به ؛ أمره بالإقبال على ربه بعباده ؛ لينصره عليهم، ولا يبالي بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم، ويجعل يده فوق أيديهم ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود، ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدوات النفسية والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرون خسارة وضلالا ؛ لأنه كلما نزلت عليه آية ؛ ازدادوا بها كفرا وعتوا.
المفردات :
أدخلني مدخل صدق : أي : أدخلني في القبر إدخالا مرضيا. مدخل اسم المكان من أدخل.
وأخرجني مدخل صدق : أي : وأخرجني منه عند البعث إخراجا محفوفا بالكرامة، وقيل : المراد : إدخاله المدينة وإخراجه من مكة وقيل : إدخاله مكة ظافرا وإخراجه منها آمنا شر المشركين وقيل : إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة، وإخراجه منها مؤديا حقها وقيل : إدخاله في كل ما يلابسه من مكان وأمر، وإخراجه منه.
سلطانا نصيرا : أي : برهانا ناصرا على الخصوم.
التفسير :
٨٠- ﴿ وقل رب أدخلني مُدخَل صدق وأخرجني مُخرج صدق وجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ﴾.
﴿ وقل رب أدخلني مُدخل صدق ﴾ أي : مدخلا حسنا مرضيا بلا آفة ﴿ وأخرجني مُخرج صدق ﴾ أي : مخرجا مرضيا من غير آفة الميل إلى النفس ولا الضلال بعد الهدى.
وخلاصة ذلك : أدخلني إدخالا مرضيا كإدخالي للمدينة مهاجرا وإدخالي مكة فاتحا، وإدخالي في القبر حين الموت، وأخرجني إخراجا محفوفا بالكرامة والرضا، كإخراجي من مكة مهاجرا وإخراجي من القبر للبعث.
قال النيسابوري :
والأولى أن يقال : إنه عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه ثم يتركه من أمر ومكان، وقيل : أراد : إدخاله مكة ظاهر عليها بالفتح وإخراجه منها آمنا من المشركين، وقيل : إدخاله الغار وإخراجه منه سالما، وقيل : إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر وهو النبوة وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط وقيل : أراد : رب، أدخلني الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص وحضور القلب، أو أدخلني في مجاري دلائل التوحيد وأخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول١.
﴿ واجعلي من لدنك سلطانا نصيرا ﴾. أي : حجة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني، أو ملكا وعزا ناصرا للإسلام ودويه.
وهذا دعاء يعلمه الله لنبيه ؛ ليدعوه ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيما تتجه إليه دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها وما بين الأول والآخر٢.
١ - تفسير النيسابوري ١٥/٧٨..
٢ في ظلال القرآن بقلم: سيد قطب ١٥/٦٢. ١٦٤.
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به ؛ أمره بالإقبال على ربه بعباده ؛ لينصره عليهم، ولا يبالي بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم، ويجعل يده فوق أيديهم ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود، ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدوات النفسية والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرون خسارة وضلالا ؛ لأنه كلما نزلت عليه آية ؛ ازدادوا بها كفرا وعتوا.
المفردات :
زهق : أي : زال واضمحل. من زهق روحه يزهق ؛ إذا خرج.
التفسير :
٨١- ﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ﴾.
﴿ وقل جاء الحق ﴾. أي : الإسلام ﴿ وزهق الباطل ﴾ أي : اضمحل الشر من زهقت ؛ نفسه إذا خرجت.
أمره الله أن يقول ذلك : استبشارا ؛ بقرب الظفر والنصر وترهيبا للمشركين !
﴿ إن الباطل كان زهوقا ﴾. أي : مضمحلا غير ثابت في كل وقت.
تلك حقيقة لدنية يقررها القرآن بصيغة التوكيد. وإن بدا للنضرة الأولى أن للباطل صولة ودولة، فالباطل ينتفخ وينفش ؛ لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة، ومن ثم يحاول أن يموه على العين، وأن يبدوا عظيما كبيرا ضخما راسخا، ولكنه هش سريع العطب، كشعلة الهشيم، ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد، بينما الجمرة الذاكية تدفئ وتنفع وتبقى، وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.
﴿ إن الباطل كان زهوقا ﴾، ومن ورائه الشيطان ومن ورائه السلطان. ولكن وعد الله أصدق وسلطان الله أقوى وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد، وصدق العهد، ومن أوفى بعهده من الله ؟ ومن أصدق من الله حديثا ؟ ! ١.
تنبيه :
قال القاسمي :
سياق هذه الآيات مع ما سبقها أعني : قوله تعالى :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ﴾ يدل على أن نزولها في أوقات الاهتمام للهجرة إلى المدينة، ومبارحة مكة وأنه تعالى أمر نبيه بأن يبتهل إليه في تيسير هجرته وإخراجه من بلده، وأن يجعل له حماية من لدنه تعز جانبه وتعصمه ممن يرومه بسوء.
وأسلوب التنزيل العزيز في مثل هذا الدعاء هو إرادة الخبر بحصول المدعو، ومشيئة الله بوقوعه عن قرب. ولذلك عقبه بقوله :﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل ﴾ ؛ إعلاما بأن الأمر قد تم، والفرج جاء ودحر الباطل ورجع إلى أصله، وهو العدم٢.
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول :( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد )٣ وفي رواية للطبراني والبيهيقي عن ابن عباس : أنه صلى الله عليه وسلم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم فيها فيخر لوجهه فيقول :( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) حتى مر عليها كلها.
قال في الإكليل : فيه استحباب تلاوة هذه الآية عند إزالة المنكر.
١ - في ظلال القرآن بقلم: سيد قطب ١٥/٦٣..
٢ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٧٦..
٣ - جاء الحق وزهق الباطل.
رواه البخاري في المظالم (٢٤٧٨)، وفي المغازي (٤٢٨٧) وفي التفسير (٤٧٦٠)، ومسلم في الجهاد والسير (١٧٨١)، وأحمد (٣٥٧٤) والترمذي في التفسير (٣١٣٨) وقال: هذا حديث حسن صحيح وفيه: عن ابن عمر، ورواه مسلم في الجهاد والسير (١٧٨٠)، وأحمد (١٠٥٦٥) من حديث أبي هريرة..

المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به ؛ أمره بالإقبال على ربه بعباده ؛ لينصره عليهم، ولا يبالي بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم، ويجعل يده فوق أيديهم ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود، ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدوات النفسية والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرون خسارة وضلالا ؛ لأنه كلما نزلت عليه آية ؛ ازدادوا بها كفرا وعتوا.
٨٢- ﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴾.
قال الفخر الرازي : ولفضه من هنا ليس للتبعيض بل هي للجنس، كقوله تعالى :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾.
والمعنى : وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين١.
واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على قولين :
الأول : أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها، وذهاب الريب وكشف الغطاء على الأمور الدالة على الله سبحانه.
الثاني : أنه شفاء من الأمراض الظاهرة، بالرقي والتعود ونحو ذلك، والتبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأدواء والأسقام، يدل عليه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في فاتحة الكتاب :( وما يدريك أنها رقية ؟ ! )٢.
ولا مانع من حمل الشفاء على معنيين من باب عموم المجاز أو من باب حمل المشترك على معنييه٣. ﴿ ورحمة للمؤمنين ﴾.
قال ابن كثير :
أي : يذهب أمراض القلوب، من شك، ونفاق، وشرك، وزيغ، وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان، والحكمة، وطلب الخير، والرغبة فيه٤.
وقال القنوجي :
﴿ رحمة للمؤمنين ﴾ ؛ لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدنيا والدين، ولما في تلاوته وتدبره من الأجر العظيم، الذي يكون سببا لرحمة الله سبحانه، ومغفرته ورضوانه٥.
وقال الطبري :
﴿ ورحمة للمؤمنين ﴾ ؛ لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله، ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، فيدخلهم بذلك الجنة وينجيهم من عذابه، فهو لهم رحمة ونعمة من الله أنعم بها عليهم.
﴿ ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾ ؛ لأن البدن غير النقي كلما غذوته ؛ زدته شرا، فلا يزال سماع القرآن يزيد المشركين غيظا وحنقا، ويدعوهم ذلك إلى ارتكاب الأعمال القبيحة٦.
فالظالمون قد ظلموا أنفسهم، وأعرضوا عن الهدى، وكلما سمعوا القرآن ؛ ازدادوا بغيا وعنادا وكبرا قال تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا... ﴾ ( النمل : ١٤ ).
وجزاء عنادهم وبغيهم، طبع الله على قلوبهم، وهم في الدنيا محرومون من هدى القرآن، فهم خاسرون. وفي الآخرة معذبون بكفرهم ولجاجهم في الطغيان، فهم خاسرون.
قال تعالى :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ﴾. ( فصلت : ٤٤ ).
وقال سبحانه :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ﴾. ( التوبة : ١٢٥، ١٢٤ ).
قال قتادة : في قوله تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة ﴾ إذا سمعه المؤمن ؛ انتفع به وحفظه ووعاه ﴿ ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾. أي : لا ينتفعون به، ولا يحفظونه ولا يعونه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين. ١ ه.
تنبيه :
١- في تفسير الفخر الرازي تفسير مسهب لهذه الآية خلاصته : أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية.
٢- قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) في بحث الأدوية والأغذية المفردة التي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلم في حرف القاف ( قرآن ) : قال الله تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴾. والصحيح أن من ههنا لبيان الجنس، لا للتبعيض، وقال تعالى :﴿ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور ﴾ ؛ فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه، بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه ؛ لم يقاومه الداء أبدا. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو أنزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها ؟ ! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان، إلا وفي القرآن سبيل للدلالة على دوائه، وسببه والحمية منه، لمن رزقه الله فهما في كتابه.. وقد علم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة ؛ تعاونا على دفع الداء وقهره.
وقد أسهب ابن القيم أيضا في كتاب ( إغاثة اللهفان ) في بيان تضمن القرآن لأدوية القلب، وعلاجه من جميع أمراضه.
١ - تفسير الفخر الرازي ٥/٤٤٥ الطبعة الأولى بالمطبعة العامرة الشرقية سنة ١٣٠٨ هـ..
٢ - ورد ذلك في صحيح البخاري وخلاصته: أن رجلا من المسلمين قرأ الفاتحة على مريض قد لدغ فقام من مرضه كأنما نشط من عقال، ثم أخذ الراقي بعض الغنم مكافأة له على رقيته، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأيده وباركه..
٣ - فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق بن حسن القنوجي البخاري ملك بهوبال بالهند ط بولاق ج ٥ ص ٣٥٨..
٤ - تفسير ابن كثير بهامش تفسير القنوجي ملك بهوبال ٦/١٠٠ ط بولاق..
٥ - تفسير القنوجي ملك بهوبال بالهند ٥/٣٥٨..
٦ - تفسير النيسابوري ١٥/٧٩..
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به ؛ أمره بالإقبال على ربه بعباده ؛ لينصره عليهم، ولا يبالي بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم، ويجعل يده فوق أيديهم ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود، ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدوات النفسية والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرون خسارة وضلالا ؛ لأنه كلما نزلت عليه آية ؛ ازدادوا بها كفرا وعتوا.
المفردات :
ونأى بجانبه : أي : لوى عطفه عن الطاعة وولاها ظهره.
شاكلته : أي : مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال.
يئوسا : أي : شديد اليأس والقنوط من رحمة الله.
التفسير :
٨٣- ﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا ﴾.
﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ﴾ أي : وإذا أنعمنا على الإنسان بمال وعافية، وفتح ونصر وفعل ما يريد أعرض عن طاعتنا وبعد عن طريقنا.
والنعمة تطغي وتبطر ما لم يذكر الإنسان واهبها فيحمد ويشكر١ وفسر الطبري النعمة هنا : بالنجاة من الشدة.
يقول تعالى ذكره :( وإذا أنعمنا على الإنسان فنجيناه من كرب ما هو فيه في البحر، وهو ما قد أشرف فيه عليه من الهلاك، بعصوف في الريح عليه، إلى البر وغير ذلك من نعمنا، أعرض عن ذكرنا، وقد كان بنا مستغيثا دون كل أحد سوانا في حال الشدة التي كان فيها- ونأى بجانبه- يقول وبعد منا بجانبه يعني، بنفسه، كأن لم يدعنا إلى ضر مسه قبل ذلك )٢.
قال تعالى :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق... ﴾ ( يونس : ٢٣، ٢٢ ).
وقال سبحانه :﴿ ولما كشفنا عنه ضره مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه... ﴾ ( يونس : ١٢ ).
وقال سبحانه :{ فلما نجاكم إلى البر أعرضتم... ( الإسراء : ٦٧ ).
﴿ وإذا مسه الشر كان يؤوسا ﴾. أي : وإذا أصابته الجوائح وانتابته النوائب ؛ كان يؤوسا قنوطا من حصول الخير بعد ذلك.
قال النيسابوري :
وإذا مسه الشر من مرض أو فقر كان يؤوسا شديد اليأس من روح الله والحاصل أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي، وظفر بالمقصود الديني، نسي المنعم الحقيقي. وإن فاته شيء من ذلك، استولى عليه الأسف حتى كاد يتلف أو يدنف، وكلتا الخصلتين مذمومة، ولا مقتضى لهما إلا العجز والطيش وكل بقدر٣ ونحو الآية قوله تعالى :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ﴾. ( هود : ٩ ).
١ - في ظلال القرآن ١٥/٦٤..
٢ - تفسير الطبري ١٥/١٠٣ ط بولاق..
٣ - تفسير النيسابوري ١٥/٧٩ ط بولاق..
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به ؛ أمره بالإقبال على ربه بعباده ؛ لينصره عليهم، ولا يبالي بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم، ويجعل يده فوق أيديهم ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود، ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدوات النفسية والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرون خسارة وضلالا ؛ لأنه كلما نزلت عليه آية ؛ ازدادوا بها كفرا وعتوا.
المفردات :
أهدى سبيلا : أي أسد طريقا، وأقوم منهجا.
التفسير :
٨٤- ﴿ قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ﴾.
﴿ قل كل يعمل على شاكلته ﴾ أي : إن كلا من الشاكر والكافر يعمل على طريقته، وحاله في الهدى والضلال، وما طبع عليه من الخير والشر، من قلهم :( طريق ذو شواكل )، وهي الطرق التي تتشعب منه، لتشاكلها، أي : تشابهها في الشكل، فسميت عادة المرء بها ؛ لأنها تشاكل حاله.
﴿ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ﴾. أي : فربكم أعلم من كل واحد ؛ بمن منكم أوضح طريقا، وإتباعا للحق، فيؤتيه أجره موفورا، ومن هو أضل سبيلا فيعاقبه بما يستحق ؛ لأنه يعلم ما طبع عليه الناس في أصل الخلقة، وما استعدوا له، وغيره يعلم أمورهم بالتجربة وفي هذه الآية تهديد خفي بعاقبة العمل واتجاه ؛ ليأخذ الإنسان حذره، ويحاول أن يسلك سبيل الهدى ويجد طريقه إلى الله.
﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( ٨٥ ) ﴾
تمهيد :
في المراد من الروح في هذه الآية ثلاثة آراء :
الأول : القرآن، وقد سمي القرآن روحا ؛ لأنه أحيى الأمة الإسلامية وبعث فيها العزة والكرامة، وجمعها على المودة والألفة، وأمدها بمقومات البقاء والنصر، قال تعالى :
﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا... ﴾ ( الشورى : ٥٢ }.
وقال سبحانه :﴿ ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده... ﴾ ( النحل : ٢ ).
الثاني : جبريل عليه السلم، وهو قول الحسن وقتادة، وقد سمي جبريل بالروح في مواضع عدة من القرآن كقوله تعالى :{ نزل به الروح الأمين. على قلبك... ( الشعراء : ١٩٤، ١٩٣ ).
وقال سبحانه :﴿ فأرسلنا إليها روحا... ﴾ ( مريم : ١٧ ). وهو روح القدس.
قال تعالى :﴿ قل نزله روح القدس... ﴾ ( النحل : ١٠٢ ).
الثالث : الروح التي يحيا بها بدن الإنسان- وهذا هو قول الجمهور- ويكون ذكر الآية بين ما قبلها وما بعدها اعتراضا للدلالة على خسارة الظالمين وضلالهم، وأنهم مشتغلون عن تدبر الكتاب والانتفاع به، إلى التعنت بسؤالهم عما اقتضت الحكمة سد الطريق على معرفته، ويؤيد هذا ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من اليهود فقال بعضهم : سلوه عن الروح، وقال بعضهم : لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه وقالوا : يا أبا القاسم، حدثنا عن روح فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يوحى إليه ثم قال :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾.
التفسير :
٨٥- ﴿ ويسألونك عن الروح... ﴾.
﴿ ويسألونك عن الروح ﴾ الذي به البدن، أقديم هو أم حادث ؟
﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾. الأمر واحد الأمور أي : الروح شأن من شؤونه تعالى، حدث بتكوينه وإبداعه من غير مادة، وقد استأثر بعلمه، لا يعلمه إلا هو ؛ لأنكم لا تعلمون إلا ما تراه حواسكم وتتصرف فيه عقولكم، ولا تعلمون من المادة إلا بعض أوصافها كالألوان والحركات للبصر، والأصوات للسمع، والطعوم للذوق، والمشمومات للشم، والحرارة والبرودة للمس، فلا يتسنى لكم إدراك ما هو غير مادي كالروح.
وللعلماء في حقيقة الروح أقوال كثيرة، أولاها الاعتبار قولان :
١- إن الروح جسد نوراني، حي متحرك من العالم العلوي، مخالف بطبعه لهذا الجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، والذهن في الزيتون، والنار في الفحم، ل يقبل التبدل والتفرق والتمزق، يفيد الجسم المحسوس الحياة وتوابعها، ما دام صالحا لقبول الفيض وعدم حدوث ما يمنع السريان، والأحدث الموت، واختيار هذا الرأي الرازي، وابن القيم في كتاب الروح.
٢- إنه ليس بجسم ولا جسماني، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وإلى هنا ذهب حجة الإسلام الغزالي، والراهب الأصفهاني.
﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾. هو علم المحسوسات، فعلومنا ومعارفنا النظرية طريق حصولها الحواس، وذلك شيء نزر قليل بالنسبة إلى علم الله تعالى والراسخين في العلم، وقد روى الطبري : أن هذه الآية نزلت بمكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد : ألم يبلغنا أنك تقول : وما أوتينا من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك قال :( كلا قد عنيت )، قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هي في علم الله قليل، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم ) فأنزل الله :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ﴾. ( لقمان : ٢٧ ).
وأورد الطبري رواية أخرى، تفيد : أن هذه الآية نزلت بالمدينة، حين سأله اليهود عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فأنزل الله تعالى :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾- يعني : اليهود، والراجح أن هذه الآية مدنية لا مكية، وأن السؤال فيها جاء من اليهود.
وقد ذهب فريق إلى أن المخاطب بهذه الآية هم اليهود دون غيرهم.
وهناك من يرى أن الخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الناس أجمعين قال الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : خرج الكلام خطابا لمن خوطب به، والمراد : جميع الخلق ؛ لأن علم كل واحد سوى الله وأن كثر في علم الله قليل، وإنما معنى الكلام : وما أوتيتم أيها الناس من العلم لا قليلا من كثير مما يعلم الله١.
ملاحظات :
١- مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر سلف الأمة وأئمة السنة، أن الروح عين قائمة بنفسها تفارق البدن، وتنعم وتعذب، ليست هي البدن، ولا جزءا من أجزائه.
٢- قال أبو المعالي : إن الروح أجسام لطيفة، مشابكة للأجسام المحسوسة، أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها، فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة٢.
٣- كتب بعض المنقبين عن مباحث العصرين في الروح فقال :
إن نظرية الروحين التي يستدلون عليها في أوربا بالحس في هذه الأيام، هي أن للإنسان روحا هبطت عليه من الملإ الأعلى. لا يصل العقل إلى إدراك كنهها، وأنها متصلة بهذا الجسد الطيني، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماما. ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوما بقوانينه، وأنه كغلاف للسر الإلهي المسمى : روحا ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح :( هي صورة كالجسد ) ويقولون : إن الروح وغلافها هذا يخرجان من الجسد عند حصول الموت للشخص، إلى عالم غير هذا العالم، ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة، ولكنا لا نراها بأعيننا ؛ لعدم استعداد عيننا لذلك، كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة ( رونتج ) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآلة التي صنعها لها. وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعي فائدة كبرى. ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص. به يرون الأرواح رائحة غادية وعن أيمانهم وعن شمائلهم رؤية حقيقية٣.
١ - تفسير الطبري ١٥/١٠٦ ط بولاق..
٢ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٨٨..
٣ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٩٠ وما بعدها..
﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ( ٨٦ ) إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا ( ٨٧ ) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( ٨٨ ) ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( ٨٩ ) ﴾
المفردات :
وكيلا : أي : ملتزما استرداده بعد الذهاب به، كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه.
المعنى الإجمالي :
لو شاء الله لأذهب القرآن من الصدور والسطور، ومحاه من صدر الرسول ؛ ولكنه أبقاه في الصدور رحمة منه وفضلا، وفي هذا تحذير عظيم للهداة والعلماء، وهم غير معصومون من الفتنة، بأن يباعد بينهم وبين هدى الدين، بمظاهرتهم للرؤساء والعامة، وتركهم العمل به إتباعا لأهوائهم، واستبقاء لودهم، وحفظا لزعامتهم بين الناس.
ثم ذكر : أن القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض معينا، وقد اشتمل على الحكم والأحكام، والآداب التي يحتاج إليها البشر في معاشهم ومعادهم، وكثير من الناس جحدوا فضله عتوا وكبرا.
التفسير :
٨٦- ﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي١ أوحينا إليك ﴾.
أي : والله لئن شئنا لنمحون القرآن من الصدور والمصاحف، ولا نترك له أثرا، وتصيرن كما كنت لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان.
﴿ ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ﴾. أي : لا تجد ناصرا ينصرك فيحول بيننا وبين ما نريد بك، ولا قيما لك يمنعنا من فعل ذلك.
١ - عبر عن القرآن بالموصول؛ تفخيما لشأنه، ووصفا له بما هو في حيز الصلة، وإعلاما بأنه ليس من قبيل كلام المخلوقين..
المعنى الإجمالي :
لو شاء الله لأذهب القرآن من الصدور والسطور، ومحاه من صدر الرسول ؛ ولكنه أبقاه في الصدور رحمة منه وفضلا، وفي هذا تحذير عظيم للهداة والعلماء، وهم غير معصومون من الفتنة، بأن يباعد بينهم وبين هدى الدين، بمظاهرتهم للرؤساء والعامة، وتركهم العمل به إتباعا لأهوائهم، واستبقاء لودهم، وحفظا لزعامتهم بين الناس.
ثم ذكر : أن القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض معينا، وقد اشتمل على الحكم والأحكام، والآداب التي يحتاج إليها البشر في معاشهم ومعادهم، وكثير من الناس جحدوا فضله عتوا وكبرا.
٨٧- ﴿ إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا ﴾.
﴿ إلا رحمة من ربك ﴾ أي : لكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به، وفي هذا امتنان من الله ببقاء القرآن.
قال الرازي : أنه تعالى امتن على جميع العلماء بنوعين من المنة، أحدهما : تسهيل ذلك العلم عليهم، ثانيهما : إبقاء حفظه.
﴿ إن فضله كان عليك كبيرا ﴾. إذ أرسلك للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليك الكتاب، وأبقاه في حفظك ومصاحفك وفي حفظ أتباعك ومصاحفهم، وصيرك سيد ولد آدم وختم بك النبيين، وأعطاك المقام المحمود.
قال الزمخشري :
وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه. فعلى كل ذي علم ألا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما، وهما منة الله عليه بحفظه العلم ورسوخه في صدره، ومنته عليه في بقاء المحفوظ.
المعنى الإجمالي :
لو شاء الله لأذهب القرآن من الصدور والسطور، ومحاه من صدر الرسول ؛ ولكنه أبقاه في الصدور رحمة منه وفضلا، وفي هذا تحذير عظيم للهداة والعلماء، وهم غير معصومون من الفتنة، بأن يباعد بينهم وبين هدى الدين، بمظاهرتهم للرؤساء والعامة، وتركهم العمل به إتباعا لأهوائهم، واستبقاء لودهم، وحفظا لزعامتهم بين الناس.
ثم ذكر : أن القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض معينا، وقد اشتمل على الحكم والأحكام، والآداب التي يحتاج إليها البشر في معاشهم ومعادهم، وكثير من الناس جحدوا فضله عتوا وكبرا.
المفردات :
ظهيرا : أي معينا في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله.
التفسير :
٨٨- ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾.
أي : قل لهم متحديا : والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله بلاغة، وإحاطة وحسن معنى وتصرفا، وأحكاما ومنهجا كاملا ونحو ذلك، لا يأتون بمثله ولو تعاونوا وتظاهروا فإن هذا غير ميسور لهم.
فهذا القرآن ليس ألفاظا وعبارات، يحاول الإنس والجن أن يحاكوها، إنما هو كسائر ما يبدعه الله يعجز المخلوقون أن يصنعوه.
هو كالروح من أمر الله لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل، وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه وآثاره.
والقرآن بعد ذلك منهج حياة كامل، منهج ملحوظ فيه نواميس الفطرة التي تعرف النفس البشرية، في كل أطوارها وأحوالها، والتي تعرف الجماعات الإنسانية في كل ظروفها وأطوارها ؛ ومن ثم فهو يعالج النفس المفردة، ويعالج الجماعة المتشابكة، بالقوانين الملائمة للفطرة، المتغلغة في وشائجها، ودروبها ومنحنياتها الكثيرة، يعالجها علاجا متكاملا متناسق الخطوات في كل جانب، في الوقت الواحد، فلا يغيب عن حسابه احتمال من الاحتمالات الكثيرة ولا ملابسة من الملابسات المتعارضة، في حياة الفرد وحياة الجماعة ؛ لأن مشرّع هذه القوانين هو العليم بالفطرة في كل أحوالها وملابساتها المتشابكة.
أما النظم البشرية فهي متأثرة بقصور الإنسان ملابسات حياته، ومن تم فهي تقصر عن الإحاطة بجميع الاحتمالات، في الوقت الواحد، وقد تعالج ظاهرة فردية أو اجتماعية بدواء يؤدي بدوره إلى بروز ظاهرة أخرى تحتاج إلى علاج جديد.
إن إعجاز القرآن أبعد مدى من إعجاز نظمه ومعانيه، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله هو عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به١.
١ - في ظلال القرآن بقلم سيد قطب ١٥/٦٦، ٦٧..
المعنى الإجمالي :
لو شاء الله لأذهب القرآن من الصدور والسطور، ومحاه من صدر الرسول ؛ ولكنه أبقاه في الصدور رحمة منه وفضلا، وفي هذا تحذير عظيم للهداة والعلماء، وهم غير معصومون من الفتنة، بأن يباعد بينهم وبين هدى الدين، بمظاهرتهم للرؤساء والعامة، وتركهم العمل به إتباعا لأهوائهم، واستبقاء لودهم، وحفظا لزعامتهم بين الناس.
ثم ذكر : أن القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض معينا، وقد اشتمل على الحكم والأحكام، والآداب التي يحتاج إليها البشر في معاشهم ومعادهم، وكثير من الناس جحدوا فضله عتوا وكبرا.
المفردات :
صرفنا : كررنا ورردنا بوجوه مختلفة.
كفورا : جحودا، وهو من مصادر كفر.
التفسير :
٨٩_ ﴿ ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل... ﴾
أي : ولقد رددنا القول فيه بوجوه مختلفة، وكررنا الآيات والعبر، والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي، وأقاصيص الأولين، والجنة والنار ؛ ليدبروا آياته، ويتعظوا بها.
فمن الناس من ينفعه الوعد، ومنهم من ينجح معه الوعيد ومنهم من يستهويه قصص الأولين، ومنهم من يلفت نضره وصف الكون، وعرض مشاهده وآيات الله فيه، ومنه من يأسره الحديث عن دقائق النفس، وأحاسيسها ومواقفها في السراء والضراء، وقد نوع القرآن آياته ؛ فمنها : ما اشتمل على الأحكام، وبيان الحلال والحرام، ومنها : ما عنى بأخبار الأمم السابقة، وجزاء المكذبين وثواب العاملين، ومنها : ما عنى بوصف مشاهد الكون، وحقائق الوجود، ومنها ما عنى بسلوك الأفراد والجماعات ومنها : ما حث على الفضائل ودعا إليها وحذر من الرذائل، وتوعد من فعلها.
وبذالك أخد القرآن على النفس البشرية كل سبيل، ووضح أمامها أدلة الإيمان، وحقائق الإسلام، واستثار في الإنسان نوازع الفطرة، وتتبع أفكار المنكرين الجاحدين بالتفنيد، حتى ألقوا سلاحهم وأظهروا عجزهم، وقد تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله، أو بعشر صور مثله، أو بصورة واحدة فعجزوا ولزمهم العجز إلى يوم الدين. فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي : فأبى أكثر الناس إلا الجحود والإنكار، والثبات على الكفر، والإعراض عن الحق الحق.
ولما ثم الإقناع بالحجة، وقطعت ألسنتهم وأفحموا ولم يجدوا وسيلة للرد ؛ أراضوا المراوغة باقتراح الآيات وطلبوا من ذلك ستة أنواع ذكرها سبحانه بقوله :
﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خللها تفجيرا( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا( ٩٢ ) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا( ٩٣ ) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا( ٩٤ ) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا( ٩٥ ) قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه، كان بعباده خبيرا بصيرا( ٩٦ ) ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن نجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبث زدنا هم سعيرا( ٩٧ ) ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفثا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( ٩٨ ) أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا ( ٩٩ ) قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ( ١٠٠ ) ﴾
المفردات :
تفجر لنا ينبوعا : أي : حتى تخرج لنا من الأرض عينا لا ينضب ماؤها. يقال : فجر الماء وفجره أي : أنبعه من الأرض.
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
التفسير :
طلب كفار مكة أن يظهر لهم معجزة خارقة للعادة كدليل على صدق نبوته وحددوا له آية من ست وها هي ذي :
٩٠- ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾.
أي : قال رؤساء مكة كعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبي سفيان، والنضر بن الحارث قول المبهوت والمحجوج المتحير : لن نصدقك حتى تستنبط لنا عينا من أرضنا تدفق الماء أو تفور، وذلك سهل يسير على الله لو شاء فعله وأجابهم إلى ما يطلبون، ولكن الله علم أنهم لا يهتدون كما قال :﴿ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون. ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾. ( يونس : ٩٧، ٩٦ ).
وقال سبحانه :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا ﴾ ( الأنعام : ١١١ ).
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
المفردات :
جنة : أي بستانا تستر أشجاره ما تحتها من الأرض.
التفسير :
٩١- ﴿ وأن تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ﴾.
أي : أو يكون لك بستان فيه نخيل وعنب تتفجر الأنهار خلاله تفجيرا لسقيه.
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
المفردات :
كسفا : أي : مقطعا، جمع كسفة، كقطع وقطعة، لفظا ومعنى.
قبيلا : أي : كفيلا بما تدعيه وشاهدا على صحته، ويصح أن يكون معنى قبيلا : مقابلة وجها لوجه كعشير بمعنى : المعاشر والمراد : رؤيتهم عيانا.
التفسير :
٩٢- ﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا... ﴾
تقول العرب : جاءنا بثريد كسف أي : قطع من الخبز : أي : أو تسقط علينا جرم السماء إسقاطا مماثلا لما زعمت في قولك :﴿ أو نسقط عليهم كسفا من السماء ﴾ ( سبأ : ٩ ).
وخلاصة ذلك : أو تسقط السماء علينا متقطعة قطعا قطعا، ونحو الآية قوله :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء... ﴾ ( الأنفال : ٣٢ ).
وكذلك طلب قوم شعيب منه فقالوا :﴿ فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين ﴾. ( الشعراء : ١٨٧ ).
﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ﴾.
أي : أو تأتي بالله وبالملائكة نقابلهم معاينة ومواجهة، ونحو الآية ما حكاه القرآن عنهم :﴿ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا... ﴾ ( الفرقان : ٢١ ).
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
المفردات :
من زخرف : أي : من ذهب وأصل الزخرف لغة الزينة وأجملها ما كان بالذهب.
ترقى : أي : تصعد.
سبحان ربي : أي : أنزهه تنزيها أن يتحكم عليه إلى هذا الحد.
التفسير :
٩٣- ﴿ أو يكون لك بيت من زخرف... ﴾
أي : أو يكون لك بيت من ذهب روى ذلك عن ابن عباس وقتادة وغيرهما.
﴿ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه ﴾. أي : أو تصعد في سلم إلى السماء ونحن ننظر إليك، ولن نصدقك من أجل رقيك وحده، بل لا بد أن تنزل علينا كتابا نقرأه بلغتنا على نهج كلامنا وفيه تصديقك.
﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾. أي : قل لهم متعجبا من مقترحاتهم، ومنزها ربك من أن يقترح عليه أحد، أو يشاركه في القدرة : ما أنا إلا كسائر الرسل، وليس للرسل أن يأتوا ألا بما يظهره الله على أيديهم بحسب ما تقتضيه المصلحة، من غير تفويض إليهم فيه، ولا تحكم منهم عليه.
وخلاصة ذلك : سبحانه أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل.
تنبيه :
قال القاسمي :١
لا يخفى ما في اقتراح هذه الآيات من الجهل الكبير بسنة الله في خلقه، وبحكمته وجلاله وبيان ذلك- كما في كتاب ( لسان الصدق )- أن ما اقترحته قريش ( منه ) ما أرادوا به مصلحتهم دون مصلحة العباد، مما يخالف حكمة الله المقتضية ؛ لإخلاء بعض البقاع من العيون النابعة، والأنهار الجارية، والجنان الناضرة، دون بعض، وإرساء الجبال الشم في موضع دون آخر لمصالح يعلنها هو- جلت عظمته- ولا يعلمها الخلق، فليس مقترحهم هذا من العجز في الشيء. مع أن مثله لا تثبت به النبوة.
فإننا نعلم أن أناسا قد استنبطوا العيون وغرسوا الجنان من النخيل والأعناب، ونحتوا الجبال ولم يكونوا أنبياء.
ومنه : ما يناقض إرادة الله سبحانه وهو قولهم :﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ﴾ فإن إنزال السماء قطعا مقتض لهلاك العالم بحذافيره، والله يريد إبقاءه إلى أجل معلوم.
ومنه : ما هو مستحيل في نفسه غير ممكن وقوعه أصلا وهو قولهم :﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ﴾. فإن الإتيان بالله والملائكة حتى يشاهدهم المشركون أو غيرهم، مما لا يمكن أن يكون، فلا يجوز طلبه، وليس من أنواع المعجز.
ومنه : ما لا يصلح للأنبياء ولو حصل لم يكن معجزا وهو قولهم :﴿ أو يكون لك بيت من زخرف ﴾. فإن هذا غير صالح للأنبياء، وليس بمعجز ؛ لحصول مثله عند أشباه فرعون.
ومنه : ما وعدوا بعدم إيمانهم به لو حصل، وهو قولهم :﴿ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل عليا كتابا نقرؤه... ﴾ ٢.
فلم يكن شيء مما اقترحوه في الآيات معجزا. وإنما هي أمور مستحيلة في نفسها أو لأمر آخر ؛ اقترحوها تكبرا وتعنتا وجهلا. على أنهم بعد تلك الأقوال كلها قال قائل منهم : وايم الله ! لو فعلت ذل ؛ لظننت أني لا أصدقك.
فكان الأولى في جوابهم عما اقترحوه، هو قول الرسول لهم :﴿ سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾. أي : تنزه ربي عن فعل ما اقترحتموه من المحال وما يناقض حكمته. وما أنا إلا بشر رسول على أن أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم. وقد أتيتكم بما يدل على صدق رسالتي مما أوحاه إليّ وذلك ما تحديتكم بالإتيان بمثله أو بسورة مثله في الهداية والإصلاح٣.
١ - تفسير القاسمي ١٥/٣٩٩٨ بعناية محمد فؤاد عبد الباقي الطبعة الأولى..
٢ - تفسير القاسمي بتصرف واختصار..
٣ - تفسير القاسمي ١٠/٣٩٩٩، ٤٠٠٠ بتصرف..
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
٩٤- ﴿ وما منع النّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم لهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ﴾.
﴿ وما منع النّاس ﴾. أي : الذين حكى تعنتهم، وهم مشركو قريش، من الإيمان بك حين مجيء الوحي المقرون بالمعجزات، التي تستدعي الإيمان بنبوتك وبما أنزل عليك من الكتاب إلا قولهم : أبعث الله بشرا رسولا ؟ ! إنكارا منهم أن يكون الرسول من جنس البشر، واعتقادا منهم بأن الله لو بعث رسولا إلى الخلق ؛ لوجب أن يكون من الملائكة ونحو الآية قوله تعالى :﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم... ﴾ ( يونس : ٢ ).
والآيات في ذلك كثيرة.
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
المفردات :
مطمئنين : أي : ساكنين مقيمين فيها.
التفسير :
ثم نبه تعالى على لطفه ورحمته بعباده، وأنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ؛ ليفقهوا عنه ويفهموا منه، ويمكنهم مخاطبته ومكالمته حتى لو كانت الأرض مستقرا لملائكته، لكانت رسلهم منهم، جريا على قضية الحكمة فقال سبحانه :
٩٥- ﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزّلنا عليهم من السماء مَلَكا رسولا ﴾.
أي : لو وجد في الأرض ملائكة يمشون على أقدامهم كما يمشي الإنس مطمئن أي : ساكنين في الأرض مقيمين فيها حتى يمكن الاجتماع بهم وتتلقى الشرائع منهم ؛ ﴿ لنزّلنا عليهم من السماء ملكا ﴾، أي : من جنسهم ؛ ليعلمهم الخير ويهديهم إلى الرشد ولكن طبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم ؛ لبعد ما بين الملك وبينهم، ومن ثم لم نبعث ملائكة إليهم، بل بعثنا خواص البشر ؛ لأن الله وهبهم نفوسا زكية، وأيدهم بأرواح قدسية، وجعل لهم ناحية ملكية ؛ بها يستطيعون أن يتلقوا من الملائكة، وناحية بشرية ؛ بها يبلغون رسالات ربهم إلى عباده.
وقد نبه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة وجليل تلك النعمة بقوله :
﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ﴾. ( آل عمران : ١٦٤ ).
وقوله :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾. ( التوبة : ١٢٨ ).
وقوله :﴿ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾. ( البقرة : ١٥١ ).
وإجمال القول في ذلك : إنه لو جعل الرسل ملائكة ؛ لنا استطاع الناس التخاطب معهم ولما تمكنوا من الفهم منهم، فلزم أن يجعلوا بشرا ؛ حتى يستطيعوا أداء الرسالة، كما قال سبحانه :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ﴾. ( الأنعام : ٩ ).
وقد ثبت أن جبريل عليه السلام جاء في صورة دحية الكلبي مرارا عدة فقد صح أن أعرابا جاء وعليه وعثاء السفر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الإسلام والإيمان، فأجابه عليه السلام بما أجابه ثم انصرف، ولم يعرفه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم فقال عليه السلام :( هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم ).
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
ثم أجابهم سبحانه بجواب آخر بقوله :
٩٦- ﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ﴾.
﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ﴾ أي : على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم كذبتم وعاندتم، وقرر الفخر الرازي في تفسيره : أن المعنى بالشهادة هو الشهادة على رسالته عليه الصلاة والسلام بإعجاز القرآن. أي : كفى بما أكرمني به الله تعالى من هذا المعجز شاهدا على صدقي، ومن شهد تعالى على صدقه ؛ فهو صادق، فقولكم- معشر المشركين- بعد هذا، يجب أن يكون الرسول ملكا تحكم فاسد. ١ ه.
﴿ إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ﴾. أي : أنه محيط بأحوال عباده الظاهر منها والباطن، وأعلم بمن يستحق الإحسان والرعاية، ومن هو أهل للشقاء والضلال.
وفي هذا إيماء إلى أنّ ما دعاهم إلى إنكار نبوته صلى الله عليه وسلم إلى الحسد، وحب الرياسة والتكبر عن قبول الحق، كما أن فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، على ما يلقاه من الإصرار والعناد، والإمعان في إيذائه.
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
المفردات :
أولياء : أي : نصراء جمع ولي.
ونحشرهم : أي : ونجمعهم وأصل الحشر : جمع الناس، وسوقهم إلى الحرب.
وبكما : أي : وخرسا جمع أبكم يقال : بكم، بكما أي : خرس.
وصما : أي : طرشا جمع أصم يقال : صم، يصم، صمما أي : طرش.
مأواهم : أي : محل إقامتهم. يقال : أوى، يأوي، أويا أي : أقام.
خبت : أي : سكن لهبا. يقال : خبت النار، تخبو، خبوا أي : سكن لهبها.
سعيرا : أي : توقدا. يقال : سعرت النار أسعرها، سعرا، فتسعرت، أي : أوقدتها فتوقدت.
التفسير :
٩٧- ﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ومن ضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنّم كلما خبت زدناهم سعيرا ﴾.
من يهده الله إلى طريق الرشاد ؛ لحسن استعداده فهو المهتدي، ومن يضلله ؛ لفساد طبعه، وسوء اختياره وركوبه رأسه في الغواية والعصيان كهؤلاء المعاندين ؛ فلن تجد لهم أنصارا يهدونهم ويحفظونهم من قهر الله سبحانه.
قال في ظلال القرآن :
ولقد جعل الله للهدى والضلال سننا، وترك الناس لهذه السنن يسيرون وفقها، ويتعرضون لعواقبها، ومن هذه السنن : أن الإنسان مهيأ للهدى والضلال، وفق ما يحاوله لنفسه من السير في طريق الهدى أو طريق الضلال، فالذي يستحق هداية الله بمحاولته واتجاهه ؛ يهديه الله، وهذا هو المهتدي حقا ؛ لأنه اتبع هدى الله. والذين يستحقون الضلال بالإعراض عن دلائل الهدى وآياته ؛ لا يعصمهم أحد من عذاب الله١.
﴿ فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم ﴾. أي : يسحبون عليها كقوله سبحانه :﴿ يوم يسحبون في النار على وجوههم... ﴾ ( القمر : ٤٨ ). والوجه أكرم شيء في الإنسان فهو مجمع المحاسن وفيه أهم الحواس كالعين والأذن والذوق والشم ومن شأن الإنسان أن يدافع عن وجهه وأن يحميه بيده فإذا اشتد هول القيامة تحمل الكافر عذب النار بوجهه ؛ لأنه يلقى في جهنم مغلولة يداه إلى عنقه فلا يستطيع أن يدفع عن وجهه العذاب قال تعالى :﴿ أفمن يتّقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة... ﴾ ( الزمر :‌‌‌‌‌٢٤ ).
وقال في ظلال القرآن : ونحشرهم يوم القيامة في صورة مهينة يتكفأون على وجوههم.
وقال القاشاني : أي : ناكسي الرءوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية.
﴿ عميا وبكما وصما ﴾. أي : مطموسين محرومين من جوارحهم التي تهديهم في هذا الزحام ؛ جزاء ما عطلوا هذه الجوارح في الدنيا عن إدراك دلائل الهدى.
روى البخاري ومسلم : عن أنس رضي عنه أنه قال : قيل : يا رسول الله، كيف يمشي الناس على وجوههم ؟ قال :( الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم )٢.
وروى الترمذي : أن الناس ثلاثة أصناف في الحشر : مشاة، وركبانا، وعلى وجوههم٣.
وإن نرى في الدنيا من الحيوان ما هو طائر ومنه ما هو ماش، ومنه ما هو زاحف، كالحيات وهوام الأرض، والقسم الأخير من الأقسام الثلاثة في الحديث أقرب إلى هيئة الزواحف بحيث يبقى الوجه في الأرض وتحيط به زوائد كالأرجل الحيوانية، وهو يهيم على وجهه.
والخلاصة : أنهم يبعثون في أقبح صورة وأشنع منظر وقد جعل الله لهم بين عمي البصر، وعدم النطق، وعدم السمع، مع كونهم مسحوبين على وجوههم، كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه.
فائدة :
جاء في تفسير الخطيب ما يأتي :
وأما قوله تعالى :﴿ عميا وبكما وصما ﴾. فقد استشكله شخص على ابن عباس فقال : أليس قد قال تعالى :﴿ ورأى المجرمون النار... ﴾ ( الكهف : ٥٣ ). وقال تعالى :﴿ سمعوا لها تغيظا وزفيرا ﴾. ( الفرقان : ١٢ ). وقال تعالى :﴿ دعوا هنالك ثبورا ﴾. ( الفرقان : ١٣ ). وقال تعالى :﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها... ﴾ ( النحل : ١١١ ). وقال تعالى حكاية عن الكفار :﴿ والله ربّنا ما كنا مشركين ﴾٤ فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال تعالى : هنا :﴿ عميا وبكما وصما ﴾ ؟ أجاب ابن عباس وتلامذته منه من وجوه :
الأول : قال ابن عباس :﴿ عميا ﴾ لا يرون شيئا يسرهم ﴿ صما ﴾ لا يسمعون شيئا يسرهم ﴿ بكما ﴾ لا ينطقون بحجة.
الثاني : قال : في رواية عطاء ﴿ عميا ﴾ عن النظر أي : عما جعله الله تعالى لأوليائه و﴿ بكما ﴾ عن مخاطبة الله تعالى ومخاطبة الملائكة المقربين ﴿ صما ﴾ عن ثناء الله تعالى عنهم.
الثالث : قال مقاتل : إنه حين يقال لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون ؛ يصيرون عميا ؛ بكما، صما، أما قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون.
الرابع : أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا أن يطالعون كتبهم ولا أن يسمعوا لإلزام حجة الله تعالى عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله تعالى عميا، بكما، صما، قال الفخر الرازي : والجواب الأول أولى ؛ لأن الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون٥.
﴿ مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ﴾.
خبت أي : سكن لهيبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ﴿ زدناهم سعيرا ﴾ أي : توقدا. بأن تبدل لحومهم وجلودهم، فتعود ملتهبة مستعرة.
قال الزمخشري :
كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء، جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم، تأكلها وتفنيها، ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة ؛ ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث، ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد.
١ - في ظلال القرآن بقلم سيد قطب ١٥/٦٩..
٢ - أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا:
رواه البخاري في التفسير (٤٧٦٩) وفي الرقاق (٦٥٢٣) ومسلم في صفة القيامة (٢٨٠٦) وأحمد في مسنده (١٢٩٧٩) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهم أن رجلا قال: يا نبي الله، يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال: (أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا أن يمشيه على وجهه يوم القيامة) قال قتادة: بلى وعزة ربنا..

٣ - يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا:
رواه الترمذي في التفسير (٣١٤٢)، وأحمد في مسنده (٨٤٣٣) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى اللهم علي وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم) قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟! قال: (إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أمَا إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن..

٤ - الأنعام ٢٣ وتمام الآية: ﴿ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين﴾..
٥ - تفسير الخطيب الشربيني ج ٢ ص ٣٢٣..
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
المفردات :
رفاتا : أي : فتاتا. يقال : رفته، يرفته، رفتا، أي : فتته.
التفسير :
٩٨- ﴿ ذلك جزاءهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا إنا لمبعوثون خلقا جديدا ﴾.
أي : هذا العذاب جزاءهم ؛ لأنهم استنكروا البعث واستبعدوا وقوعه وقالوا : أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك وقد تلف لحمنا وبقينا عظاما بل رقت عظامنا فصارت رفاتا تعاد مرة أخرى ؟ استنكارا منهم وتعجبا من أن يحصل ذلك.
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
المفردات :
لا ريب فيه : أي : لا شك فيه، يقال : رابني هذا الأمر يريبني ريبا، وأرابني، أي : حدث لي منه شك. والريبة : الشك، جمعه : الريب.
كفورا : أي : جحودا للحق.
التفسير :
٩٩- ﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم... ﴾
أي : ألم يعلموا ويتدبروا أن الذي خلق السماوات والأرض ابتداعا على غير مثال سابق، وأقامهما بقدرته- قادر على أن يخلق أمثالهم من الخلق مرة أخرى، وكيف لا يقدر على إعادتهم والإعادة أهون من الابتداء.
﴿ وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ﴾. أي : وجعل لإعادتهم وقيامهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها، لا يعلمها إلا هو كما قال سبحانه :﴿ وما نؤخره إلا لأجل معدود ﴾ ( هود : ١٠٤ ).
وخلاصة ذلك : قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس، وإعادتهم إلى الحياة بالبعث، وقد جعل لميقات إعادتهم أجلا وهو يوم القيامة الذي لا شك فيه فلا وجه لإنكاره.
﴿ فأبى الظالمون إلا كفورا ﴾.
أي : بعد قيام الحجة عليهم ووضوح الدليل أمامهم، أبوا إلا جحودا وتماديا في باطلهم وضلالهم، فكان جزاءهم عادلا بعد منطق الدلالات ومنطق المشاهدات ووضوح الآيات.
المعنى الإجمالي :
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم ؛ أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها ؛ آمنوا به وصدقوا برسالته ؛ فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي استبعادهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فأجابهم : بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة ؛ لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة ؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقي من قومه، أن الهداية والإيمان بيد الله، ولا قدرة للنبي على شيء من ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له. وسيلقى المكذبون جزاءهم في نار جهنم بما كسبت بما كسبت أيديهم ودسوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي وإنكار البعث والحساب.
وهم يعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة، أخرى ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : لو كنتم تملكون خزائن رزق ربي ؛ لبخلتم خشية الفقر ؛ لأن الإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل، والله هو الغني الجواد، يمنح ما شاء لمن شاء، وينزل المعجزات ما شاء لا ما شاء الناس وهو في ذلك كله حكيم عليم.

سبب نزول الآيات :

روى الطبري بإسناده١ عن ابن عباس أن نفرا من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالوا له : يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث- يعنون القرآن- تطلب به مالا ؛ جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف ؛ سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ؛ ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا من الجن، تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده ؛ بذلنا لك أموالا في طلب الطب حتى نبرأك منه- وكانوا يسمعون التابع من الجن ؛ رئيا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من شيء ممال تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم ) فقالوا : يا محمد، فإن كنت صادقا فيما تقول : فسل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلادا، ويفجر لنا فيها الأنهار، كأنهار الشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل، فإن صدقوك ؛ صدقناك، ثم قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، تعينك على معاشك. فقال :( ما بعثت بهذا )، قالوا : فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فإن لربك إن شاء فعل، كما تقول، وقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقول عبد الله بن أبي أمية- وهو ابن عاتكة، عمة الرسول- : لا أومن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ترقى فيه وإنا ننظر إليك حتى تأتيها، فتأتي بنسخة منشورة معك وبنفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حزينا ؛ لما رأى من تباعدهم عن الهدى فأنزل الله عز وجل، تسلية له صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك... ﴾ الآية٢.
المفردات :
خشية الإنفاق : أي : خوف الفقر.
قتورا : أي : مقترا بخيلا، يقال : قتر عليه، يقتر، قترا، وقتر أي : ضيق عليه.
التفسير :
١٠٠- ﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ﴾.
المراد من الإنفاق هنا : الفقر، يقال : أنفق فلان إذا افتقر، وقال أبو عبيدة : أنق، وأملق، وأعدم، وأصرم، بمعنى : أي : قل لهم أيها الرسول : إنكم لو تملكون التصرف في خزائن الله ؛ لأمسكتم خشية الفقر : أي : خشية أن تزول وتذهب مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا.
﴿ وكان الإنسان قتورا ﴾. أي بخيلا شحيحا، والقتر، والإقتار، والتقتير : هو التقصير في الإنفاق.
قال النيسابوري :
وهذا الخبر لا ينافي ما قد يوجد في الناس ممن هو كريم جواد ؛ لأن اللام في الإنسان للجنس أي : هذا الجنس من شأنه الشح، إذا كان باقيا على طبعه ؛ لأنه خلق محتاجا إلى ضرورات المسكن والملبس والمطعوم والمنكوح، ولا بد له في تحصيل هذه الأشياء من المال، فبه تندفع حاجاته وتتم الأمور المتوقفة على التعاون، فلا جرم يحب المال ويمسكه لأيام الضرورة والفاقة، ومن الناس من يحب المال محبة ذاتية لا عرضية، فإذا الأصل في الإنسان هو البخل. والجود منه إنما هو أمر تكلفي أو عرضي ؛ طلبا للثناء أو الثواب. وقيل : المراد بهذا، الإنسان المعهود السابق، ممن قالوا : لن نؤمن لك ؛ حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا... فبيّن الله تعالى : أنهم لو ملكوا خزائن الأرض ؛ لبخلوا بها١.
وقال ابن كثير :
إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه، فإن البخل والجزع والهلع صفة له، كما قال تعالى :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا. إلا المصلّين ﴾ ( المعراج : ٢٢، ١٩ ).
وشبيه بهذه الآيات قوله سبحانه :
﴿ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ﴾. ( النساء : ٥٣ ).
أي : لو أن لهم نصيبا في ملك الله ؛ لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير، وقد جاء في الصحيحين :( يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه )٢.
وجاء في تفسير الخطيب ما يأتي :
فإن قيل : قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم ؛ أجيب من وجوه :
الأول : أن الأصل في الإنسان البخل ؛ لأنه خلق محتاجا والمحتاج لا بد وأن يحبس ما به يدفع الحاجة، وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجوز به لأسباب من الخارج، فثبت أن الأصل في الإنسان البخل.
الثاني : أن الإنسان إنما يبذل ؛ لطلب الثناء والحمد، وليخرج من عهدة الواجب، فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل.
الثالث : أن المراد بهذا الإنسان المعهود السابق، وهم الذين قالوا :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر من الأرض ينبوعا ﴾٣.
١ - تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ١٥/٩٧..
٢ - أخرجه البخاري في ٩٧- كتاب التوحيد، ١٩- باب حدثنا معاذ ابن فضالة حديث ٢٠١٢ عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة وجاء في شرح النووي على صحيح مسلم ج ٧ ص ٨٠ السح الصب الدائم، والليل والنهار منصوبان على الظرف ومعنى لا يغيضها شيء أي: لا ينقصها يقال: غاض الماء وغاضه الله لازم ومتعد وفي رواية أبي هريرة في مسلم: (قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم أنفقْ أنفقْ عليك). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى)..
٣ - تفسير الخطيب الشربيني ج ٢ ص ٣٢٥..
﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إنّي لأظنّك يا موسى مسحورا ( ‍١٠١ ) قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنّك يا فرعون مثبورا ( ١٠٢ ) فأراد أن يستفزّهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا ( ١٠٣ ) وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ( ١٠٤ ) ﴾
المفردات :
بيّنات : أي : واضحات.
مسحورا : أي : مخبول العقل.
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر فيما سلف ما اقترحوه من الآيات وأبان لهم أن الرسل ليس من شأنهم أن يقتحموا على الله شيئا- ذكر هنا أنه قد أنزل على موسى مثل ما اقترحتم وأعظم منه، ولم تُجْد فرعون وقومه شيئا ؛ فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا فائدة لكم فيما اقترحتموه من الآيات، وكفاكم الآيات العلمية التي أنزلها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لم تؤمنوا بعد ظهور تلك الحجج ؛ أهلككم كما أهلك فرعون بالغرق، وفي ذلك تسلية لرسوله بذكر ما جرى لموسى مع فرعون وما جوزي به فرعون وقومه.
التفسير :
١٠١- ﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات... ﴾
أي : ولقد أعطينا موسى تسع آيات واضحات الدلالة على صحة نبوته وصدقه، حين أرسل إلى فرعون وقومه فلم يؤمنوا بها، كما قال تعالى :﴿ فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ﴾. ( يونس : ٧٥ ) وقال :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا... ﴾ ( النمل : ١٤ ).
وقد ذكر سبحانه في كتابه العزيز ست عشرة معجزة لموسى عليه السلام.
تتمثل فيما يلي :
١- انقلاب العصا حية.
٢- تلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها.
٣- اليد البيضاء.
٨، ٧، ٦، ٥، ٤- الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع والدم١.
٩- شق البحر. ٢
١٠- انفلاق الحجر في قوله :﴿ فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتى عشرة عينا... ﴾ ( البقرة : ٦٠ )٣.
١١- إظلال الجبل في قوله :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلّة... ﴾ ( الأعراف : ١٧١ ).
١٢- إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه٤.
١٤، ١٣- الجدب، ونقص الثمرات في قوله :﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ﴾ ( الأعراف : ١٣٠ ).
١٥- الطمس على أموالهم من الحنطة والدقيق والأطعمة٥.
١٦- إزالة العقدة من لسان موسى، أي : أهب الله العجمة عن لسانه وصار فصيحا، وقد اختلفوا في المراد من هذه الآيات التسع.
جاء في تفسير النيسابوري وابن جرير الطبري من طرق عدة عن ابن عباس : أن الآيات التسع هن : العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه على بني إسرائيل.
وعن الحسن : الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور٦.
وقيل : المراد بالآيات : الأحكام فقد أخرج الإمام أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجة أن اليهوديين قال أحدهما لصاحبه ؛ انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله، فأتاه صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى ﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بيّنات... ﴾ فقال عليه الصلاة والسلام :( لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ؛ ليقتله ولا تقذفوا محصنة، وأنتم يا يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت ) فقبلا يده ورجله وقالا : نشهد أنك نبي قال : فما يمنعكما أن تسلما ؟ قالا : إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود.
قال الإمام فخر الدين الرازي : هو أجود ما قيل في الآيات التسع. وقال الشهاب الخفاجي : وهذا هو التفسير الذي عليه المعول في الآية.
ورأى أن عد الأحكام من الآيات البينات فيه بعد ؛ لأن كل رسالة سماوية تشتمل على أحكام وآداب.
فلماذا خص الله موسى بتسع آيات ؟
الراجح أنها معجزات أيد الله بها موسى، وقد أيد الله موسى بأكثر من تسع آيات، فعد بعض المفسرين جانبا منها وترك بعضهم جانبا آخر.
إلا أن تخصيص العدد بالذكر لا يقدح في الزيادة عليه هكذا قال الأصوليون : ولكن الذوق يأبى ألا يكون للتخصيص فائدة والذي يدور في خلدي أن سبب التخصيص هو أن مرجع معجزاته إلى تسعة أنواع كالسنين ونص الثمرات مثلا فإنهما نوع واحد٧ والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم يمكن أن تكون آية واحدة تشمل ألوانا من العذاب عذب الله بها أهل مصر، ليفكروا جديا في صدق رسالة موسى.
﴿ فاسأل بني إسرائيل ﴾. والخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان ؛ لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت والمسئولون هم مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه.
﴿ إذ جاءهم٨ فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ﴾٩.
أي : فذهب موسى إلى فرعون وأظهر آياته ودعاه بالإيمان بالله ولإرسال بني إسرائيل معه، فقال له فرعون ؛ إني لأظنك يا موسى مخلص العقل، ومن ثم ادعيت ما دعيت، مما لا يقول مثله كامل العقل حصيف الرأي، وهذا كقوله :﴿ إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ﴾. ( الشعراء : ٢٧ ).
١ - ورد ذلك في الآية ١٣٣ من سورة الأعراف وهي:
﴿فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين﴾.
﴿والطوفان﴾ ما طاف بهم وغشي أماكنهم، وهو في اللغة: المطر الغالب والماء الذي يغشى كل شيء والسيل المغرق. (القمل) صغار الذر وقيل: أولاد الجراد واحدتها: قملة، وهي غير القملة المعروفة التي جمعها قمل (والضفادع) معروفة واحدها: ضفدع وضُفدع.
والمعنى: أرسل الله على آل فرعون السيول تهلك مزروعاتهم والجراد يجتاح ثمارهم والقمل والضفادع فامتلأت بها بيوتهم، والدم تلوثت به مياههم فاستكبروا مع كل هذه لبلايا وكانوا مجرمين..

٢ - ورد ذلك في الآية ٩٠ من سورة يونس وفيها: ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدرك الغرق قال آمنت... ﴾ وفي الآية ٧٧ من سورة طه: ﴿فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا... ﴾.
٣ - ورد ذلك أيضا في الآية ٦٠ من سورة البقرة، وفي الآية ١٦٠ من سورة الأعراف..
٤ - ورد ذلك في سورة البقرة الآية ٥٧، وفي الأعراف الآية ١٦٠، وفي طه الآية٨٠، حيث تقول الآية: ﴿وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى﴾ والمن: شيء حلو مثل العسل أبيض كالثلج كان ينزل بالليل على شجرهم، والسلوى طائر السمان..
٥ - ورد ذلك في الآية ٨٨ من سورة يونس، والطمس: هو محق الأموال وإهلاكها..
٦ - تفسير النيسابوري ١٥/٩٨، وقارن بتفسير المراغي ١٥/١٠٤..
٧ - تفسير النيسابوري..
٨ - ﴿إذ جاءهم﴾ يتعلق بآياتنا أو ينتصب بإضمار اذكر، أو هو للتعليل والمراد: فاسألهم يخبروك؛ لأنه جاءهم أي: جاء آباءهم وانظر تفسير النيسابوري..
٩ - ﴿مسحورا﴾ بمعنى: سحرت فخولط عقلك. أو بمعنى: ساحر، على النسب أو حقيقة. وهو يناسب قلب العصا ثعبانا..
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر فيما سلف ما اقترحوه من الآيات وأبان لهم أن الرسل ليس من شأنهم أن يقتحموا على الله شيئا- ذكر هنا أنه قد أنزل على موسى مثل ما اقترحتم وأعظم منه، ولم تُجْد فرعون وقومه شيئا ؛ فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا فائدة لكم فيما اقترحتموه من الآيات، وكفاكم الآيات العلمية التي أنزلها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لم تؤمنوا بعد ظهور تلك الحجج ؛ أهلككم كما أهلك فرعون بالغرق، وفي ذلك تسلية لرسوله بذكر ما جرى لموسى مع فرعون وما جوزي به فرعون وقومه.
المفردات :
مثبورا : أي : مصروفا عن الخير، من قولهم، ما أثبرك عن هذا ؟ أي : ما أصرفك ؟ ويجوز أن يكون بمعنى : هالكا، من قولهم : ثبر ؛ يثبر، ثبورا، أي : هلك.
التفسير :
٢٠١_ ﴿ قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا ربّ السماوات والأرض بصائر١ وإنّي لأظنّك يا فرعون مثبورا ﴾.
أي : قال موسى لفرعون : لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات التسع٢ إلا رب السماوات والأرض ؛ لأنه هو الذي يقدر عليها وهي واضحات تبصرك بصدقي، وإني لأظنك يا فرعون مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر، أو هالكا إذا لم ترجع عن عنادك٣.
١ - البصائر: جمع بصيرة بمعنى: مبصرة، أي: بينة أو المراد: الحجج، يجعلها كأنها بصائر العقول، وتكون بمعنى: عبرة..
٢ - في تفسير المجلس الأعلى للشئون الإسلامية المسمى: المنتخب في تفسير القرآن الكريم: أن هذه الآيات التسع هي: ١- العصا، ٢- اليد البيضاء، ٣- الطوفان، ٤- الجراد والضفادع والقمل والدم، ٥- الجدب ونقص الثمار، ٦ – فلق البحر، ٧- انبجاس الماء من الحجر، ٨- نتق الجبل كأنه ظله، ٩- خطاب موسى لربه..
٣ - قال الفراء: ﴿مثبورا﴾ أي: ملعونا محبوسا عن الخير من قولهم: ما ثبرك عن هذا أي: ما منعك وصرفك، وقال مجاهد وقتادة: أي: هالكا من الثبور وهو الهلاك، وفي آية أخرى: ﴿لا تدعو اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا﴾. (الفرقان: ١٤)..
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر فيما سلف ما اقترحوه من الآيات وأبان لهم أن الرسل ليس من شأنهم أن يقتحموا على الله شيئا- ذكر هنا أنه قد أنزل على موسى مثل ما اقترحتم وأعظم منه، ولم تُجْد فرعون وقومه شيئا ؛ فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا فائدة لكم فيما اقترحتموه من الآيات، وكفاكم الآيات العلمية التي أنزلها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لم تؤمنوا بعد ظهور تلك الحجج ؛ أهلككم كما أهلك فرعون بالغرق، وفي ذلك تسلية لرسوله بذكر ما جرى لموسى مع فرعون وما جوزي به فرعون وقومه.
المفردات :
أن يستفزهم : أي : أن يستخفهم ويخرجهم من أرض مصر بالقتل أو النفي والمراد : موسى وقومه.
التفسير :
١٠٣_ ﴿ فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا ﴾.
فأراد فرعون ﴿ أن يستفزهم من الأرض ﴾ أي : يفزعهم ويزعجهم بما يحملهم على خفة الهرب فرقا منه. أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال والضمير لموسى وقومه. والأرض : أرض مصر أو الأرض التي أذن لهم بالمسير إليها وسكناها وهي فلسطين وقوله تعالى :﴿ فأغرقناه ومن معه جميعا ﴾ أي : فحاق به مكره ؛ لأن تعقبهم بجنوده بعد ما أذن لهم بالسفر من مصر إلى فلسطين ؛ ليرجعهم إلى عبوديته ؛ فدمره الله تعالى وجنوده بالإغراق.
المعنى الإجمالي :
بعد أن ذكر فيما سلف ما اقترحوه من الآيات وأبان لهم أن الرسل ليس من شأنهم أن يقتحموا على الله شيئا- ذكر هنا أنه قد أنزل على موسى مثل ما اقترحتم وأعظم منه، ولم تُجْد فرعون وقومه شيئا ؛ فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا فائدة لكم فيما اقترحتموه من الآيات، وكفاكم الآيات العلمية التي أنزلها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لم تؤمنوا بعد ظهور تلك الحجج ؛ أهلككم كما أهلك فرعون بالغرق، وفي ذلك تسلية لرسوله بذكر ما جرى لموسى مع فرعون وما جوزي به فرعون وقومه.
١٠٤- ﴿ وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ﴾.
وقلنا من بعده، أي : من بعد إغراق فرعون ﴿ لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ﴾ وهي أرض كنعان بلد أبيهم إسرائيل التي وعدوا بها ﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾ أي : قيام الساعة ؛ ﴿ جئنا بكم لفيفا ﴾ أي : جمعا مختلطا أنتم وعدوكم. ثم يحكم بينكم وبينهم، ويميز سعداءكم من أشقياءكم.
﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشّرا ونذيرا ( ١٠٥ ) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلا ( ١٠٦ ) قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجدا ( ١٠٧ ) ويقولون سبحان ربّنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ( ١٠٨ ) ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ( ١٠٩ ) قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أياما تدعو فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( ١١٠ ) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبّره تكبيرا ( ١١١ ) ﴾
المفردات :
الحق : هو الثابت الذي لا يزول، والقرآن مشتمل على كثير من ذلك كدلائل التوحيد وتعظيم الملائكة ونبوة الأنبياء وإثبات البعث والقيامة.
المعنى الإجمالي :
في ختم السورة وضحت الآيات سمو القرآن وجلالة قدره، وبينت : أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه نزل مفرقا ؛ ليسهل حفظه، ولتثبت أحكامه وأسراره، ثم هونت الآيات من شأن المعاندين ووبختهم واحتقرتهم، وبينت : أن كفرهم لا ينقص من قيمة القرآن، فسيان إيمانهم به ووعد إيمانهم، فإن الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب كانوا لا يتمالكون أنفسهم إذا سمعوا القرآن أن يخروا لله ساجدين، يغمرهم التأثر والبكاء.
ثم أردفت الآيات ببيان أنكم إن ناديتم الله أو الرحمان فالأمر سواء، وأمرت الرسول أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت وختمت الصورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتنبيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير، فيلخص الختام محور السورة التي دارت عليه والذي بدأت به ثم ختمت به.
التفسير :
١٠٥- ﴿ وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل وما أرسلناك إلا مبشّرا ونذيرا ﴾.
أنزلنا هذا القرآن نأمر فيه بالعدل والإنصاف، والأخلاق الحميدة والأمور المستحسنة، وننهى فيه عن الظلم والأفعال الذميمة.
قال بعض المفسرون :
الحق هو الثابت، كما أن الباطل هو الزاهق، ولا ريب أن هذا الكتاب يشتمل على دلائل التوحيد، وصفات ذي الجلال والإكرام، وعلى تعظيم الملائكة، وإقرار النبوات، وإثبات المعاد، وعلى أصول الأديان والملل، التي لا يتطرف إليها النسخ والتبديل، وكل هذه الأمور تدل على المعنى المذكور ؛ لأنها مما تبقى ببقاء الدهور١.
﴿ وبالحق نزل ﴾ ؛ فالحق مادته والحق غايته، ومن الحق قوامه، وبالحق اهتمامه، الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود، والذي خلق الله السماوات والأرض قائمين به، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه، فالحق سداه ولحمته، والحق مادته وغايته٢ قال تعالى :﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه... ﴾ ( فصلت : ٤٢ ).
﴿ وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ﴾. ما أرسلناك يا محمد إلا مبشرا بالجنة لمن أطاعنا واستجاب لأمرنا ففعل المأمورات اجتنب المنهيات- ومنذرا بالنار لمن عصانا وأعرض عن هدينا وخالف أمرنا ونهينا.
١ - تفسير النيسابوري ١٥/١٠٠..
٢ - في ظلال القرآن بقلم: سيد قطب: ١٥/٧٢ بتصرف..
المعنى الإجمالي :
في ختم السورة وضحت الآيات سمو القرآن وجلالة قدره، وبينت : أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه نزل مفرقا ؛ ليسهل حفظه، ولتثبت أحكامه وأسراره، ثم هونت الآيات من شأن المعاندين ووبختهم واحتقرتهم، وبينت : أن كفرهم لا ينقص من قيمة القرآن، فسيان إيمانهم به ووعد إيمانهم، فإن الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب كانوا لا يتمالكون أنفسهم إذا سمعوا القرآن أن يخروا لله ساجدين، يغمرهم التأثر والبكاء.
ثم أردفت الآيات ببيان أنكم إن ناديتم الله أو الرحمان فالأمر سواء، وأمرت الرسول أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت وختمت الصورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتنبيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير، فيلخص الختام محور السورة التي دارت عليه والذي بدأت به ثم ختمت به.
المفردات :
فرقناه : نزلناه مفرقا على حسب الحوادث. وقيل : فرقنا فيه الحق من الباطل.
على مكث : أي : على مهل. وقرئ على مكث بفتح الميم، وكلاهما بمعنى التؤدة والتأني.
التفسير :
١٠٦- ﴿ وقرآنا فرقناه لتقرأه على النّاس على مكث ونزّلناه تنزيلا... ﴾
﴿ وقرآنا١ فرقناه ﴾ أي : جعلنا نزوله مفرقا منجما، وقرئ : فرقناه بالتشديد٢.
قال ابن عباس : لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة٣.
﴿ لتقرأه على الناس على مكث ﴾ أي : على مهل وتؤدة وتثبت، فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم.
﴿ ونزّلناه تنزيلا ﴾ أي : على حسب المصالح والحوادث، فقد كان القرآن كتاب الحياة يعالج أخطاءها، ويقوم عوجها، ويجيب على أسئلة السائلين، ويرد على شبه المخالفين، وإذا تتبعنا أسباب نزول القرآن ؛ ظهرت الحكمة واضحة، في تفريق القرآن ونزوله نجوما ؛ لأن النفوس إذا وقعت في مشكلة ؛ تشوفت إلى آيات تحلها، وتأخير الآيات إلى وقت الحاجة ؛ يجعل النفوس تتعلق بها وتتذكر قصتها كلما قرأتها.
فمشروعية التيمم، وحد اللعان، وحد القذف، وحد الزنا، وتحريم الخمر، وتحريم التخلف عن الجهاد، وتحريم التبني، وكثير من الأحكام المشابهة، كانت قضايا ومشاكل في المجتمع تحتاج إلى حل وبيان فكانت آيات القرآن تنزل إثر كل مشكلة توضح حكمها، وتبين حلها.
ففي كتب الصحاح : أن المسلمين تأخروا في بعض الغزوات ؛ ليبحثوا عن عقد للسيدة عائشة، ولم يكن معهم ماء ؛ فنزلت آية التيمم.
وأن رجلا اتهم زوجته بالزنا ؛ فنزلت آية اللعان.
واتهم بعض الناس السيدة عائشة بالزنا مع صفوان ابن المعطل ؛ فنزل حد القذف.
وسكر بعض المسلمين وأساء للآخرين ؛ فنزل تحريم الخمر.
وتخلف ثلاثة من المسلمين عن غزوة تبوك ؛ فنزلت سورة التوبة تفضح المنافقين وتلوم المتخلفين.
وكان التبني معروفا في الجاهلية وصدر الإسلام، ثم حرم القرآن التبني وأمر الله رسوله أن يتزوج مطلقة ابنه المتبني، ليشرع بنفسه للناس إبطال هذه العادة.
وهكذا نجد أن نزول القرآن مفرقا في عشرين سنة كان فرصة مناسبة ؛ ليشرع الأحكام، ويبين الحدود، ويوضح الحلال والحرام، وكان الصحابة يتسابقون إلى العمل بالآيات قبل أن يحفظوها، فطبقوا القرآن سلوكا وهديا، وتعبدا وعملا، مع عنايتهم به قراءة وحفظا.
أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه أنه قال : تعلموا القرآن خمس آيات، خمس آيات، فإن جبريل عليه السلام كان ينزل خمسا خمسا، وكذلك أخرج ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري، والمراد : أن الغالب كذلك ؛ فقد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه.
١ - قرآنا منصوب بفعل محذوف يفسره فرقناه..
٢ - قال الطبري: اختلف القراء في قراءة ذلك فقرأته عامة قراء الأمصار: فرقناه بتخفيف الراء من فرقناه بمعنى: أحكمناه وفصلناه وبيناه، وذكر عن ابن عباس: أنه كان يقرؤه بتشديد الراء فرقناه بمعنى: نزلناه شيئا بعد شيء، آية بعد آية، وقصة بعد قصة، وأولى القراءتين بالصواب القراءة الأولى..
٣ - تفسير النيسابوري ١٥/١٠١..
المعنى الإجمالي :
في ختم السورة وضحت الآيات سمو القرآن وجلالة قدره، وبينت : أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه نزل مفرقا ؛ ليسهل حفظه، ولتثبت أحكامه وأسراره، ثم هونت الآيات من شأن المعاندين ووبختهم واحتقرتهم، وبينت : أن كفرهم لا ينقص من قيمة القرآن، فسيان إيمانهم به ووعد إيمانهم، فإن الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب كانوا لا يتمالكون أنفسهم إذا سمعوا القرآن أن يخروا لله ساجدين، يغمرهم التأثر والبكاء.
ثم أردفت الآيات ببيان أنكم إن ناديتم الله أو الرحمان فالأمر سواء، وأمرت الرسول أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت وختمت الصورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتنبيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير، فيلخص الختام محور السورة التي دارت عليه والذي بدأت به ثم ختمت به.
المفردات :
الخرور : السقوط بسرعة.
الأذقان : واحدها ذقن : وهو مجتمع اللحيين.
التفسير :
١٠٧- ﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ﴾.
أي : قل لهؤلاء الضالين القائلين لك :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾ : آمنوا بهذا القرآن أم لا يؤمنوا به، فإن إيمانكم به لن يزيد في خزائن رحمة الله، ولا ترككم الإيمان به ينقص ذلك.
قال النيسابوري : وهو أمر وعيد وتهديد وخذلان.
وفي ظلال القرآن :
أمر الله رسوله أن يجبه القوم بهذا الحق، ويدع لهم أن يختاروا طريقهم. إن شاءوا آمنوا بالقرآن وإن شاءوا لم يؤمنوا، وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم، ويضع أمام أنظارهم نموذجا من تلقي الذين أوتوا العلم من قبله، من اليهود والنصارى المؤمنين لهذا القرآن، لعل لهم فيه قدرة وأسوة وهم الأميون الذين لم يأتوا علما ولا كتابا١.
١ - في ظلال القرآن بقلم سيد قطب ١٥/٧٢..
المعنى الإجمالي :
في ختم السورة وضحت الآيات سمو القرآن وجلالة قدره، وبينت : أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه نزل مفرقا ؛ ليسهل حفظه، ولتثبت أحكامه وأسراره، ثم هونت الآيات من شأن المعاندين ووبختهم واحتقرتهم، وبينت : أن كفرهم لا ينقص من قيمة القرآن، فسيان إيمانهم به ووعد إيمانهم، فإن الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب كانوا لا يتمالكون أنفسهم إذا سمعوا القرآن أن يخروا لله ساجدين، يغمرهم التأثر والبكاء.
ثم أردفت الآيات ببيان أنكم إن ناديتم الله أو الرحمان فالأمر سواء، وأمرت الرسول أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت وختمت الصورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتنبيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير، فيلخص الختام محور السورة التي دارت عليه والذي بدأت به ثم ختمت به.
التفسير :
١٠٨، ١٠٧- ﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجّدا. ويقولون سبحان ربّنا إن كان وعد ربّنا لمفعولا ﴾.
أي : وإن تكفروا به فإن الذين أوتوا العلم بالله وآياته من قبل نزوله من مؤمني أهل الكتابين إذا يتلى عليهم هذا القرآن يخرون تعظيما له وتكريما١. ويسجدون لله حمدا وشكرا على إنجاز وعده ويقولون في سجودهم : تنزه ربنا عن خلف الوعد. إنه كان وعده مأتيا.
والخلاصة : أنكم إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم، وفيه تسلية للرسول، وازدراء لشأنهم.
قال الزمخشري :
أمر بالأعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وألا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل، وهم العلماء الذين قرءوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع، قد آمنوا به وصدقوه، وثبت عندهم أن النبي العربي، الموعود في كتبهم، فإذا تتلى عليهم خروا سجدا، وسبحوا الله تعظيما لأمره، ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة، وبشر به من بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله ﴿ إن كان وعد ربنا لمفعولا ﴾.
١ - تفسير الطبري ١٥/١٢٠..
المعنى الإجمالي :
في ختم السورة وضحت الآيات سمو القرآن وجلالة قدره، وبينت : أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه نزل مفرقا ؛ ليسهل حفظه، ولتثبت أحكامه وأسراره، ثم هونت الآيات من شأن المعاندين ووبختهم واحتقرتهم، وبينت : أن كفرهم لا ينقص من قيمة القرآن، فسيان إيمانهم به ووعد إيمانهم، فإن الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب كانوا لا يتمالكون أنفسهم إذا سمعوا القرآن أن يخروا لله ساجدين، يغمرهم التأثر والبكاء.
ثم أردفت الآيات ببيان أنكم إن ناديتم الله أو الرحمان فالأمر سواء، وأمرت الرسول أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت وختمت الصورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتنبيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير، فيلخص الختام محور السورة التي دارت عليه والذي بدأت به ثم ختمت به.
١٠٩- ﴿ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ﴾.
ويخر هؤلاء الذين أوتوا العلم على الوجوه سجدا، باكين من خوف الله، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعا وخضوعا لأمر الله وطاعته.
إنه مشهد مصور لحالة شعورية غامرة، يرسم تأثير هذا القرآن في القلوب المتفتحة لاستقبال فيضه ؛ العارفة بطبيعته وقيمته بسبب ما أوتيت من العلم قبله١.
قال النسفي : ومعنى الخرور للذقن : السقوط على الوجه كما خص الذقن، لأن أقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض عند السجود الدقن.
وفي حاشية الجمل : فالخرور الأول للسجود، والآخر لشدة البكاء. أو الأول : في حالة سماع القرآن أو قراءته، والثاني : في سائر الحالات٢ أو المراد : أن السجود يتكرر منهم في حالات متعددة ؛ خشوعا لله واعترافا بفضله.
تنبيه :
قال القاسمي :
دل نعت هؤلاء ومدحهم بخرورهم باكين ؛ على استحباب البكاء والتخشع، فإن كل ما حمد فيه من النعوت والصفات التي وصف الله تعالى بها من أحبه من عباده، يلزم الاتصاف بها، كما أن ما ذم منها من مقته منهم، يجب اجتنابه٣.
وقد ذكر الإمام الغزالي في ( الإحياء ) : أن من آداب التلاوة البكاء مستحب مع القراءة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا )٤. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قرأتم سجدة سبحان ؛ فلا تجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم ؛ فليبك قلبه، وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن. فمن الحزن ينشأ البكاء، ووجه إحضار الحزن، أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد، والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره، فيحزن لا محالة ويبكي. فإن لم يحضره ؛ حزن وبكاء، كما يحضر أرباب القلوب الصافية، فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب.
وقد روى البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ليس منا من لم يتغن بالقرآن )٥.
وروى الترمذي عن ابن عباس : قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى )٦.
وأخرج مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم )٧.
١ - في ظلا ل القرآن ١٥/٧٣..
٢ - حاشية الجمل على الجلالين ٢/٦٥٤..
٣ - تفسير القاسمي ١٠/٤٠١٠..
٤ - فإن لم تبكوا فتباكوا:
رواه ابن ماجة في إقامة الصلاة (١٣٣٧) من حديث عبد الرحمان بن السائب قال: قدم علينا سعد بن أبي الوقاص وقد كف بصره فسلمت عليه قال: من أنت؟ فأخبرته فقال: مرحبا بابن أخي بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فتغنوا به فمن لم يتغن به؛ فليس منا)..

٥ - ليس منا من لم يتغن بالقرآن:
رواه البخاري في التوحيد (٧٥٢٧) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وزاد غيره: (يجهر به). ورواه أبو داود في الصلاة (١٤٧١، ١٤٦٩) والدارمي في الصلاة (١٤٩٠) وفي فضائل القرآن (٣٤٨٨) وأحمد في مسنده (١٤٧٩) من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن)..

٦ - عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله:
رواه الترمذي في فضائل الجهاد (١٦٣٩) وقال: حديث ابن عباس حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن زريق. قلت: شعيب هذا، ضعّفه بعضهم..

٧ - لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن:
رواه الترمذي في فضائل الجهاد (١٦٣٣) وفي الزهد (٢٣١١) والنسائي في الجهاد (٣١٠٨) وأحمد في مسنده (١٠١٨٢) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى اللهم علي وسلم: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)..

المعنى الإجمالي :
في ختم السورة وضحت الآيات سمو القرآن وجلالة قدره، وبينت : أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه نزل مفرقا ؛ ليسهل حفظه، ولتثبت أحكامه وأسراره، ثم هونت الآيات من شأن المعاندين ووبختهم واحتقرتهم، وبينت : أن كفرهم لا ينقص من قيمة القرآن، فسيان إيمانهم به ووعد إيمانهم، فإن الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب كانوا لا يتمالكون أنفسهم إذا سمعوا القرآن أن يخروا لله ساجدين، يغمرهم التأثر والبكاء.
ثم أردفت الآيات ببيان أنكم إن ناديتم الله أو الرحمان فالأمر سواء، وأمرت الرسول أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت وختمت الصورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتنبيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير، فيلخص الختام محور السورة التي دارت عليه والذي بدأت به ثم ختمت به.
المفردات :
ادعوا الله أو ادعوا الرحمان : أي : سموه بهذين الاسمين.
أياما تدعو فله الأسماء الحسنى : ما زائدة، والمعنى : ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أي : هذين الاسمين تدعون فله أحسن الأسماء والحسنى مؤنث الأحسن.
ولا تخافت بها : خفت الرجل بقراءته : إذا لم يبينها برفع الصوت، وتخافت القوم : تسأروا فيما بينهم.
التفسير :
١١٠- ﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾.
قل لهؤلاء المشركين : سموا الله باسم الله، أو اسم الرحمان، فأي اسم تسمونه فهو حسن، وهو تعالى له الأسماء الحسنى ولا شبهة لكم من أن تعدد الأسماء يستوجب تعدد المسمى، وإذا قرأت القرآن في صلاتك، فلا ترفع صوتك به ؛ لئلا يسمع المشركون فيسبونك ويؤذونك، ولا تسر به فلا يسمع المؤمنون، وكن وسطا في قراءتك.
قال الطبري والنيسابوري والنسفي : عن ابن عباس : أن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يا الله يا رحمان، فقال : إن محمدا ينهانا أن نعبد إلهين، وهو يدعو إلها آخر. وقيل : إن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمان، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم ؛ فنزلت١.
وفي تفسير القاسمي :
﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان ﴾. رد لما أنكره المشركون من تسمية الرحمان، وإذن بتسميته بذلك، أي : سموه بهذا الاسم أو بهذا و( أو ) للتخيير. ﴿ أيّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى ﴾ أي : أيُّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم فهو حسن. وقد وضع موضعه قوله :﴿ فله الأسماء الحسنى ﴾ ؛ للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه، إذ حسن جميع أسماءه يستدعي حسن دينك الاسمين، فأقيم فيه دليل الجواب مقامه وهو أبلغ. ومعنى كونها أحسن الأسماء : أنها مستقلة بمعاني الحمد والتقديس والتعظيم٢ وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ﴾. ( الأعراف : ١٨٠ ).
وقد روى الطبري بإسناده : عن أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن لله تسعا وتسعون اسما كلهن في القرآن من أحصاهن ؛ دخل الجنة ). ومعناه : من عرف معانيها وآمن بها وقيل : معناه : من أحصاها بحسن الرعاية لها وتخلق بما يمكنه من العمل بمعانيها٣ وقد وردت أسماء الله الحسنى كاملة في الحديث الذي رواه الترمذي في الجامع الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، ووردت في تفسير الجلالين، ثم شرحت معاني هذه الأسماء شرحا مستفيضا في حاشية الجمل على الجلالين٤.
﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾.
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت ؛ لما كانوا يقابلون به صلاته من استهزاء وإيذاء، أو من نفور وابتعاد، ولعل الأمر كذلك ؛ لأن التوسط بين الجهر والخفاء أليق بالوقوف في حضرة الله تعالى.
وروي : أن الرسول صلى الله عليه وسله طاف بالليل على دور الصحابة، فكان أبو بكر يخفي صوته، وكان عمر يرفع صوته، وفي الصباح سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر عن قراءته فقال يا رسول الله، أناجي ربي وقد علم حاجتي، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عمر فقال : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وأمر عمر أن يخفض صوته قليلا ؛ فنزلت الآية على حسب ذلك، وقيل معناه : لا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار، وعن عائشة وأبي هريرة ومجاهد : أن الصلاة هنا : الدعاء. وقد يروى هذا مرفوعا قال الحسن : لا يرائي بعلانيتها ولا يسيء بسريرتها٥.
١ - تفسير النيسابوري ١٥/١٠٢ وتفسير النسفي ٢/٢٥٥، وقال أبو جعفر الطبري: ولدخول ما في قوله: ﴿أياما تدعوا﴾ وجهان: أحدهما: أن تكون صلة كما قيل: ما إن رأيت كالليلة ليلة- تفسير الطبري ١٥/١٢٢..
٢ - تفسير القاسمي ١٠/٤٠١١، ٤٠١٢ وهذا المعنى في تفسير النيسابوري ١٥/١٠٢..
٣ - انظر حاشية الجمل ٢/٦٥٥، وفيها أن الإمام النووي فسر الإحصاء بالحفظ وهكذا فسره البخاري والأكثرون، ويؤيده أن في رواية الصحيح: (من حفظها دخل الجنة) ونرى أن حفظهما لا بد أن يرافقه فهم معناها والعمل بمقتضاه..
٤ - انظر حاشية الجمل على الجلالين ٢/٦٥٥ – ٦٦٧ وأسماء الله الحسنى كما وردت في الحديث الصحيح هي (الله الذي لا إله إلا هو الرحمان، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواحد، الماجد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعال، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور)..
٥ - وردت هذه الآراء في تفسير الطبري وتفسير النيسابوري..
المعنى الإجمالي :
في ختم السورة وضحت الآيات سمو القرآن وجلالة قدره، وبينت : أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه نزل مفرقا ؛ ليسهل حفظه، ولتثبت أحكامه وأسراره، ثم هونت الآيات من شأن المعاندين ووبختهم واحتقرتهم، وبينت : أن كفرهم لا ينقص من قيمة القرآن، فسيان إيمانهم به ووعد إيمانهم، فإن الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب كانوا لا يتمالكون أنفسهم إذا سمعوا القرآن أن يخروا لله ساجدين، يغمرهم التأثر والبكاء.
ثم أردفت الآيات ببيان أنكم إن ناديتم الله أو الرحمان فالأمر سواء، وأمرت الرسول أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت وختمت الصورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتنبيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير، فيلخص الختام محور السورة التي دارت عليه والذي بدأت به ثم ختمت به.
١١١- ﴿ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ﴾.
وقل : الحمد والشكر لله الذي لم يتخذ ولدا ؛ لعدم حاجته إليه، ولم يكن له شريك في الملك ؛ لأنه وحده منشئه، ولم يكن له ناصر يعطيه عزة من ذل لحقه، وعظم ربك تعظيما يليق به.
وقد وصف سبحانه نفسه بثلاث صفات :
١- أنه لم يتخذ لدا، فإن من يتخذ الولد يمسك جميع النعم لولده، ولأن الولد يقوم مقام الوالد بعد انقضاء أجله وفنائه- تنزل ربنا عن ذلك- ومن كان كذلك لم يستطع الإنعام في كل الحالات فلا يستحق الحمد على الإطلاق.
وفي هذا رد على اليهود الذين قالوا : عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
٢- أنه ليس له شريك في الملك، إذ لو كان له ذلك لم يعرف أيهما المستحق للحمد والشكر، ولكان عاجزا ذا حاجة إلى معونة غيره، ولم يكن منفردا بالملك والسلطان.
٣- أنه لم يكن له ولي من الذل أي : لم يوال أحدا من أجل مذلة به يدفعها بموالاته.
والخلاصة : أنه ليس له ولد يحبس نعمه عليه، وليس له شريك يوقف أعماله في الملك، ولا ناصر يدفع العدو المذل له، وإذا تنزه ربنا عن ذلك ؛ فقد أمن الناس نضوب موارده، وأصبحت أبوابه مفتحة لكل قاصد، فلتغترف أيها العبد من مناهله، ولتعلم أنه لا يحابيك لأجل أهلك ولا نسلك ولا دينك، ولو كنت ابن نبي من الأنبياء أو عظيم من العظماء١.
﴿ وكبره تكبيرا ﴾ أي : وعظم ربك أيها الرسول بما أمرناك أن تعظمه به من قول وفعل، وأطعه فيما أمرك به ونهاك عنه.
قال الإمام فخر الدين الرازي : تكبير الله تعالى وتنزيهه يكون :
١- بتكبيره في ذاته ؛ باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غني عن كل موجود.
٢- بتكبيره في صفاته ؛ باعتقاد أنه مستحق لكل صفات الكمال متنزه عن صفات النقص.
٣- بتكبيره في أفعاله ؛ فتعتقد أنه لا يجري شيء في ملكه إلا وفق حكمته وإرادته.
٤- بتكبيره في أحكامه ؛ بأن تعتقد أنه ملك مطاع، له الأمر والنهي، والرفع والخفض، وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه، يعز من يشاء ويذل من يشاء.
٥- تكبيره في أسمائه، فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفات الجلال والإكرام.
أخرج عبد الرازق عن عبد الكريم بن أبي أمية قال : كان رسول لله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب ؛ علمه هذه الآية٢.
وروى الطبري بإسناده عن القرظي : أنه كان يقول في هذه الآية ﴿ الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا... ﴾ قال : إن اليهود والنصارى قالوا : اتخذ الله ولدا، وقالت العرب : لبيك لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون المجوس : لولا أولياء الله ؛ لذل الله، فأنزل الله :﴿ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبّره-أنت يا محمد على ما يقولون- تكبيرا ﴾٣.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ماذ الجهني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( آية العز :﴿ الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ﴾ ).
وقال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية :
قل يا محمد : الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا فيكون مربوبا لا ربا ؛ لأن رب الأرباب لا ينبغي أن يكون له ولد، ولم يكن له شريك في الملك ؛ فيكون عاجزا ذا حاجة إلى معونة غيره ضعيفا، ولا يكون إلها من يكون محتاجا إلى معين، ولم يكن له ولي من الذل، يقول : ولم يكن له حليف حالفه من الذل الذي به ؛ لأن من كان ذا حاجة إلى نصرة غيره فذليل مهين، ولا يكون من كان ذليلا مهينا يحتاج إلى ناصر ؛ إلها يطاع، وكبره تكبيرا وعظمه تعظيما يليق به سبحانه٤.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والشكر لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
اللهم، أنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه. اللهم، اجعل عملا خالصا لوجهك وتقبله منا إنك أنت السميع البصير، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
١ - تفسير المراغي ١٥/١١١..
٢ - تفسير النيسابوري ١٥/١٠٤، بتصرف وقارن بتفسير المراغي ١٥/١١١..
٣ - تفسير الطبري ١٥/١٢٦..
٤ - تفسير الطبري ١٥/١٢٦ بتصرف..
Icon