تفسير سورة النّور

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة النور من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

الناس، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لى منه مخرجًا، فوالله إن رسول الله - ﷺ - يريد أن يأمر بضربه، فأنزل الله عليه الوحي، فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي، فنزلت: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ...﴾ الآية.
وأخرج أبو يعلى مثله من حديث أنس، قال الحافظ ابن حجر: اختلف الأئمة فى هذه المواضع، فمنهم من رجح أنها نزلت فى شأن عويمر. ومنهم من رجح أنها نزلت فى شأن هلال. ومنهم من جمع بينهما؛ بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادق بمجيء عويمر أيضًا فنزلت فى شأنهما معًا. وإلى هذا جنح النووي، وتبعه الخطيب، فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك فى وقت واحد. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال، فلما جاء عويمر ولم يكن له علم بما وقع لهلال أعلمه النبي - ﷺ - بالحكم، ولذا قال فى قصة هلال: فنزل جبريل، وفي قصة عويمر قد أنزل الله فيك، فيؤول قوله: قد أنزل الله فيك؛ أي: فيمن وقع له مثل ما وقع لك. وبهذا أجاب ابن الصباغ فى "الشامل"، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين.
التفسير وأوجه القراءة
١ - قال القرطبي: مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر وغيرها، من الأحكام الدينية المفصلة. ﴿سُورَةٌ﴾. قرأ الجمهور سورة بالرفع؛ أي: هذه الآيات الآتي ذكرها سورة أنزلناها، على أنه خبر مبتدأ محذوف، وجوزوا أن يكون مبتدأ خبره محذوف؛ أي: سورة أنزلناها فيما أوحينا إليك يا محمد أو فيما يتلى عليك. قال الزجاج: وهذا قبيح (١)؛ لأنها نكرة وإنما الرفع على إضمار هذه.
وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء ﴿سُورَةٌ﴾ بالنصب بفعل محذوف يفسره المذكور بعده، فيكون من باب الاشتغال؛ أي: أنزلنا سورة أنزلناها، أو بفعل مقدر غير مفسر، تقديره: أتل
(١) زاد المسير.
205
سورة أنزلناها، أو اتبعوا سورة أنزلناها أو على الإغراء؛ أي: دونك سورة أنزلناها. قاله الزمخشري.
وسورة القرآن (١) طائفة منه محيطة بما فيها من الآيات والكلمات والعلوم والمعارف، مأخوذة من سور المدينة، وهو حائطها المشتمل عليها، وإنما أشير إليها فى قولنا هذه سورة مع عدم سبق ذكرها؛ لأنها باعتبار كونها فى شرف الذكر فى حكم الحاضر المشاهد، والتنكير مفيد للفخامة من حيث الذات، كما فى قوله: ﴿أَنْزَلْنَاهَا﴾: مفيد لها من حيث الصفة؛ أي: أنزلنا إليك من عالم القدس بواسطة جبريل، أو أعطيناكها أيها الرسول.
﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾: قرأ الجمهور يتحفيف الراء؛ أي: أوجبنا (٢) ما فيها من الأحكام إيجابًا قطعيًا، وألزمناكم العمل بها، فإن أصل الفرض قطع الشيء الصلب، والتأثير فيه، كقطع الحديد. وقيل معناه: قدرنا ما فيها من الحدود. وقيل: أوجبناها عليكم، وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة، وفيه من الإيذان بغاية وكادة الفرضية ما لا يخفى.
وقرأ (٣) عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير بتشديد الراء لتأكيد (٤) الإيجاب، أو لكثرة الفرائض فيها، كالزنا والقذف واللعان والاستئذان وغض البصر وغير ذلك.
﴿وَأَنْزَلْنَا فِيهَا﴾؛ أي: فى تضاعيف السورة وأثنائها ﴿آيَاتٍ﴾ نيطت بها الأحكام المفروضة، كما هو الظاهر، لاجميع الآيات ﴿بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: واضحات الدلالة على أحكامها المفروضة، لتكون لكم أيها المؤمنون قبسًا ونبراسًا. وقيل معنى: ﴿وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: أمثالًا (٥) ومواعظ وأحكامًا ليس فيها مشكل يحتاج إلى تأويل.
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
(٤) أبو السعود.
(٥) البحر المحيط.
206
وفي "الشهاب" قال الإِمام الرازي: ذكر الله فى أول السورة أنواعًا من الأحكام والحدود، وفي آخرها دلائل التوحيد، فقوله: ﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ إشارة إلى الأحكام وقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ إشارة إلى ما بين فيها من دلائل التوحيد ويؤيده قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى نؤمر بتذكرها.
وتكرير (١) أنزلناها مع استلزام إنزال السورة لإنزالها، لإبراز كمال العناية بشأنها، فكأنه يقول: ما أنزلتها عليكم لمجرد التلاوة، وإنما أنزلتها للعمل والتطبيق. ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: تتعظون فتتقون المحارم؛ أي: لكي تتعظوا، وتعتبروا بهذه الأحكام، وتعملوا بموجبها.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال (٢)، وحذف إحدى التائين. والباقون بالتشديد. وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على ذكر منهم، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى (٣) امتن على عباده بما أنزل عليهم فى هذه السورة من الفرائض والأحكام، وفصله لهم من أدلة التوحيد وبيناته الواضحة، التي لا تقبل جدلًا، ليعدهم بذلك؛ لأن يتعظوا ويعملوا بما جاء فيها مما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم وفي صلاحهم، فإن فى حفظ الفروج صيانة للأنساب، واطمئنانًا على سلامتها مما يشوبها، كما أن فيه أمنًا من حصول الضغائن والأحقاد، التي قد تجر إلى القتل، وارتكاب أفظع الجرائم بين الأفراد، وأمنًا على الصحة، والبعد من الأمراض التي قد تودي بحياة المرء وتوقعه فى أشد المصائب، وأعظم ألوان المهالك.
كما جاء فيها توثيق روابط المودة بين أفراد المجتمع، ففيها نظام دخول البيت للتزاور، وفيها حفظ الألسنة، وصونها عن الولوغ فى الأعراض بما لا ينبغي أن يقال، حتى لا ينتشر الفحش بين الناس. وفيها تحذير للعباد من ذلك
(١) أبو السعود.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
207
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
والخلاصة: أنه تعالى ذكر فى أول السورة أنواعًا من الأحكام والحدود الشرعية، وفي آخرها الدلائل على وحدانيته وكامل قدرته. فأشار إلى الأول بقوله: ﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ إلى الثانية بقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ والفائدة فى كل هذا اتقاء المحارم والبعد عنها، ومعرفة الله حق المعرفة، التي تجعل المرء يخضع لجلاله وعظيم سلطانه، ويشعر بأنه محاسب على كل ما يعمل من عمل قل أو كثر، فإذا تمّ له ذلك.. صلحت نظم الفرد ونظم المجتصع، وسادت السكينة والطمانينة بين الناس.
مبحث فى عقوبة الزنا
الزاني والزانية إما أن يكونا محصنين؛ أي: متزوجين، أو غير محصنين؛ أي: غير متزوجين. وعقوبة الزنا إما دنيوية، وإما أخروية. أما الدنيوية: فإن كان الزانيان محصنين، واستوفيا الشروط الآتية، وهي أن يكونا بالغين عاقلين، حرين متزوجين بعقد نكاح صحيح.. وجب رجمهما؛ أي: رميهما بالحجارة حتى يموتا. ويكون ذلك فى حقل عام للمسلمين، ليعتبر بهما غيرهما. واعتبرت (١) الحنفية الإِسلام أيضًا. وهو مردود برجمه - ﷺ - يهوديين، ولا يعارضه حديث "من أشرك بالله فليس بمحصن" إذ المراد بالمحصن فيه هو الذي يقت له من المسلم، ولا رجم على الرقيق؛ لأنه لا ينتصف.
وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة. ورواه الثقات عن النبي - ﷺ -. فقد رواه أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وزيد بن خالد وبريدة الأسلمي مع آخرين من الصحابة. وجاء فى رواياتهم: (أن رجلًا من الصحابة يسمى ماعزًا أقرّ بالزنا فرجم. وأن امرأتين من بني لخم وبني غامد أقرتا بالزنا فرجمتا على مشهد من الناس، ومرأى منهم).
(١) الخازن.
208
وإن كان الزانيان غير محصنين.. فالعقوبة مئة جلدة بمحضر جمع من المسلمين، كما بينته الآية، ليفتضج أمرهما، كما مر ذلك قريبًا، والرقيق على النصف من ذلك.
وزاد الشافعي (١): عليه تغريب الحر سنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: "البكر بالبكر، جلد مئة وتغريب عام". وليس فى الآية ما يدفعه لنسخ أحدهما بالآخر نسخًا مقبولًا، أو مردودًا. وله فى العبد ثلاثة أقوال. وقال أبو حنيفة: التغريب إلى رأي الإِمام. وقال مالك: يجلد الرجل مئة جلدة ويغرب. وتجلد المرأة ولا تغرب.
طريق إثبات الزنا
يثبت الزنا بأحد أمور ثلاثة:
١ - الإقرار به. وهذا هو الطريق الذي ثبت به الزنا فى الإِسلام، وبه أوقع النبي - ﷺ - وصحابته العقوبة على من زنى.
٢ - الحبل للمرأة بلا زوج معروف لها.
٣ - شهادة أربعة من الشهود يرونهما وهما متلبسان بالجريمة.
عقوبة الزنا الأخروية
تقدم بياننا المساوي والأضرار التي تنشأ من الزنا للأفراد والجماعات فى الدنيا، وهنا نذكر حكمه الأخروي، فنقول: اتفقت الأمة على أن الزنا من أكبر الآثام، وأنه من الذنوب التي شدد الدين فى تركها، وأغلظ فى العقوبة على فعلها، وجاء فيه من النصوص ما لم يأت فى غيره، مما حرم الله تعالى، فقد قرن بالشرك فى قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨)﴾.
(١) البيضاوي.
209
وروي عن حذيفة بن اليمان: أن النبي - ﷺ -، قال "يا معشر الناس، اتقوا الزنا، فإن فيه ست خصال، ثلاث فى الدنيا، وثلاث فى الآخرة، أما التي فى الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما التي فى الآخرة: فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار".
وعن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؛ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك". قلت: ثم أي: قال: "وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك"، قلت: ثم أي: قال: "وأن تزني بحليلة جارك"، فأنزل الله تصديقها. ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾. متفق عليه.
٢ - ثم شرع سبحانه فى تفصيل ما أجمل من الآيات البينات، فقال: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ مبتدأ خبره جملة قوله: ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ فأل فيهما موصولة بمعنى: التي، والذي. فلذلك ربط الخبر بالفاء، لما فى المبتدأ من معنى الشرط، وهو العموم، والتقدير: التي زنت من النساء، والذي زنى من الرجال، وهما حران بالغان عاقلان غير محصنين بزوجين، فاجلدوا كلا منهما مئة جلدة، عقوبة له على ما أتى من معصية الله.
والزاني (١): من وطئ المرأة من غير عقد شرعي، ولا شبهة.
والزانية: هي المرأة المطاوعة للزنى الممكنة منه، كما تبنىء عنه الصيغة. لا المزنية كرها. وكذلك الزاني، والخطاب فى هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل: للمسلمين أجمعين.
فإن قلت: لم قدمت (٢) المرأة فى آية حد الزنا، وأخرت فى آية حد السرقة؟
قلت: إن الزنا إنما يتولد بشهوة الوقاع، وهي فى المرأة أقوى وأكثر،
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات بتصرف.
210
ولكون الداعية فيها أوفر، ولولا تمكينها منه لم يقع، والسرقة إنما تتولد من الجسارة والقوة والجرأة، وهي فى الرجل أقوى وأكثر، كما مرّ فى المائدة.
والجلد (١): الضرب بالجلد، وهو بكسر الجيم قشر البدن. يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه. وقالت الحنفية: وهذا دليل على أن التغريب ليس بمشروع؛ لأن الفاء إنما يدخل على الجزاء، وهو اسم للكافي. والتغريب المروي منسوخ بالآية، كما نسخ الحبس والأذى فى قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ وقوله: ﴿فَآذُوهُمَا﴾ بهذه الآية. ذكره النسفي فى تفسيره.
تنبيه: وكان (٢) هذا الحكم عامًّا فى المحصن وغيره، وقد نسخ فى المحصن قطعًا بالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه، وهو: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم" وبالسنة المتواترة، وبإجماع أهل العلم. ويكفينا فى حق الناسخ القطع بأنه عليه السلام قد رجم ماعزًا وغيره، فيكون من باب نسخ الكتاب بالكتاب، وبالسنة المشهورة. فحد المحصن الرجم، وحد غير المحصن الجلد.
وشرائط الإحصان فى باب الرجم ستة عند أبي حنيفة، كما مرّ: الإِسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والنكاح الصحيح، والدخول. فلا إحصان عند فقد واحدة منها. وفي باب القذف: الأربع الأول والعفة.
فمعنى قولهم: حدّ الزنا رجم محصن؛ أي: مسلم حر عاقل بالغ متزوج ذي دخول. ومعنى قولهم: من قذف محصنًا؛ أي: مسلمًا حرًا عاقلًا بالغًا عفيفًا، وإذا فقدت واحدة منها فلا إحصان.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ بالرفع، وعبد الله ﴿والزان﴾ بغير ياء. وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان بزيادة.
(٣) البحر المحيط.
211
ورويس ﴿الزانيةَ والزاني﴾ بنصبهما على الاشتغال؛ أي: واجلدوا الزانية والزاني، كقولك زيدًا فاضربه، ولدخول الفاء هنا وفي أمثاله تقرير ذكر فى علم النحو، والنصب هنا أحسن منه في ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا﴾ لأجل الأمر.
وقال أبو حيان: وقد تضمنت (١) هذه السورة أحكامًا كثيرةً فيما يتعلق بالزنا، ونكاح الزناة، وقذف المحصنات، والتلاعن والحجاب وغير ذلك، فبدىء بالزنا لقبحه، وما يحدث عنه من المقاسد والعار، وكان قد نشأ فى العرب وصار من إمائهم أصحاب رايات.
﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ﴾ أيها المسلمون ﴿بِهِمَا﴾؛ أي: بالزانية والزاني ﴿رَأْفَةٌ﴾؛ أي: رحمة ورقة، وقيل: الرأفة فى دفع المكروه، والرحمة فى إيصال المحبوب. كما فى "النسفي". وتنكيرها للتقليل؛ أي (٢): لا يأخذكم شيء قليل من الرحمة والشفقة عليهما ﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: فى طاعته وإقامة حده، فتعطلوه أو تسامحوا فيه بعدم الإيجاع ضربًا، والتكميل حدًا، ولذلك قال عليه السلام: "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". وذلك أن المضروب يفعل أثناء الضرب أفعالًا غريبة، ويتضرع ويستغيث، ويسترحم، وربما يغشى عليه، فيرأف به الإِمام، أو الضارب أو بعض الحاضرين، لا سيما إذا كان أحب الناس إليه، كالولد والأخ مثلًا، فلا يستوفي حد الله وحقه، ولا يكمل جلده مئة بل ينقصه بترك شيء منها، أو بتخفيف الضرب، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك. وفيه تنبيه على أن الله تعالى إذا أوجب أمرًا قبح استعمال الرحمة فيه.
وفي الحديث: "يؤتى بوالٍ نقَّص من حدٍ سوطًا، فيقال: لم نقصت؟ فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أنت أرحم مني، انطلقوا به إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطًا. فيقال: لم زدت؛ فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيقال له: أنت أحكم مني فيؤمر به إلى النار".
قال فى "الأسئلة المقحمة": إن الله تعالى نهى عن الرأفة والرحمة، وعلى
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
212
هذا، إن وجدنا واحدًا بقلبه إشفاق على أخيه المسلم حيث وقع في المعصية هل يؤاخذ بها؟ والجواب: أنه لم يرد الرأفة الجبلية والرحمة الغريزية، فإنها لا تدخل تحت التكليف، وإنما أراد بذلك الرأفة التي تمنع عن إقامة حدود الله، وتفضي إلى تعطيل أحكام الشرع، فهي منهي عنها.
قال في "بحر العلوم": وفيه دلالة على أن المخاطبين يجب عليهم أن يجتهدوا في حد الزنى، ولا يخففوا الضرب بل يوجعوها ضربًا، وكذلك حق القذف عند الزهري، لا حدّ الشرب، وعن قتادة يخفف في حدّ الشرب والقذف، ويجتهد في حدّ الزنى.
وقرأ الجمهور ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ﴾ بالتاء لتأنيث لفظ الرأفة. وقرأ أبو عبد الرحمن (١) السلمي وأبو رزين والضحاك وابن يعمر والأعمش ﴿يأخذكم﴾ بالياء. وقرأ الجمهور: نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ﴿رَأْفَةٌ﴾ بسكون الهمزة بوزن رحمة. وقرأ أبو المتوكل ومجاهد وأبو عمران الجوني وابن كثير ﴿رأفة﴾ بفتح الهمزة وقصرها على وزن رعفة. وقرأ سعيد بن جبير والضحاك وأبو رجاء العطاردي ﴿رأفة﴾ بفتح الهمزة ومدها على وزن سآمة وكآبة، وكلها مصادر أشهرها الأول.

فصل


واختلف (٢) العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشرب، وضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا. وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب. وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال: مالك: الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرح.
(١) زاد المسير.
(٢) زاد المسير.
213
فأما ما يضرب من الأعضاء: فنقل الميموني عن أحمد في جلد الزاني، قال: يجرد ويعطى كل عضو حقه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه، ونقل يعقوب بن بختان لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا يضرب إلا في الظهر. وقال الشافعي: يتقى الفرج والوجه. وكيفية الضرب: أن يكون (١) بسوط لين له رأس واحدة، ويجرد الرجل من ثيابه إلا من إزار كما سيأتي والمرأة مما يقيها ألم الضرب، وتوضع في قفة فيها تراب للستر.
والخلاصة: ولا تأخذكم (٢) بهما رحمة ورقة في تنفيذ حكم الله تعالى؛ فتعطلوا الحدود، أو تخففوا الضرب، بل الواجب عليكم أن تتصلبوا في دين الله، ولا يأخذكم اللين والهوادة في استيفاء الحدود، وكفى برسول الله - ﷺ - أسوة لكم في ذلك، إذ قال: "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ أيها المسلمون ﴿تُؤْمِنُونَ﴾ وتصدقون ﴿بِاللَّهِ﴾ ربكم ﴿و﴾ بأنكم تبعثون للحشر في ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ أي: يوم القيامة، وتجازون بالثواب والعقاب، فإن من كان مصدّقًا بذلك لا يخالف أمر الله ونهيه، خوف عقابه على معاصيه. وفي هذا (٣) تهييج وتحريض والتهاب الغضب لله، ولدينه ولتنفيذ حدوده، وإقامة شريعته. فإن الإيمان بهما يقتضي الجد في طاعته، والاجتهاد في إجراء الأحكام.
قال الجنيد - رحمه الله -: الشفقة على المخالفين، كالإعراض عن الموافقين، وذكر اليوم الآخر؛ لتذكر ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة، والتعطيل. وإنما سمى يوم القيامة اليوم الآخر؛ لأنه لا يكون بعده ليل فيصير كله بمنزلة يوم واحد. وقد قيل: إنه تجتمع الأنوار كلها، وتصير في الجنة يومًا واحدًا، وتجتمع الظلمات كلها وتصير في النار ليلة واحدة.
﴿وَلْيَشْهَدْ﴾؛ أي: وليحضر وجوبًا نظرًا لظاهر الأمر، لكن الفقهاء قالوا
(١) الصاوي.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
214
بالاستحباب ﴿عَذَابَهُمَا﴾؛ أي: حدهما إذا أقيم عليهما ﴿طَائِفَةٌ﴾؛ أي: جماعة ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾ يحصل بهما التشهير لأمرهما، أقلهم ثلاثة، وأكثرهم عشرة فما فوقها، فإنهما إذا جلدا بمحضر من الناس كان ذلك أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، والزيادة في تأنيبهما على ما فعلا.
والطائفة (١): الفرقة التي تكون حافة حول الشيء من الطوف، أقل الطائفة ثلاثة، وقيل: اثنان، وقيل: واحد، وقيل: أربعة، وقيل: عشرة.
تنبيه: فحد غير المحصن (٢): جلد مئة وسطًا بسوط لا ثمرة له، ويجلد الرجل قائمًا وينزع عنه ثيابه إلا إزاره، ويفرق على بدنه إلا رأسه ووجهه. وتجلد المرأة قاعدةً لا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو، وجاز الحفر لها، لا له. ولا يجمع بين جلد ورجم، ولا بين جلد ونفي إلا سياسة، ويرجم مريض زنى، ولا يجلد حتى يبرأ، وحامل زنت ترجم حين وضعت، وتجلد بعد النفاس، وللعبد والأمة نصفها، ولا يحدهما سيدهما إلا بإذن الإِمام خلافًا للشافعي.
وفي الحديث: "إقامة حدّ بأرض، خير لأهلها من مطر أربعين ليلة" واعلم أن الزنا حرام وكبيرة، وقد تقدم ما فيه من المساوي والإضرار، ومن الزنى زنى النظر، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس اللعين.
٣ - ثم ذكر سبحانه شيئًا يختص بالزاني والزانية، فقال: ﴿الزَّانِي﴾؛ أي: الرجل الذي زنى، وقد تقدم حدّ الزنا، بأنه وطء الرجل للمرأة في فرجها، من غير نكاح ولا شبهة نكاح، وقيل: هو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعًا محرمًا شرعًا. ﴿لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾؛ أي (٣): الخبيث الذي من شأنه الزنا، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء ولا يتزوجها، وإنما يرغب في خبيثة من شكله، أو في مشركة. ﴿وَالزَّانِيَةُ﴾؛ أي: والمرأة التي طاوعت الزنا، ومكنت منه؛ أي: والخبيثة التي من شأنها الزنا ﴿لَا يَنْكِحُهَا﴾؛ أي: لا يتزوجها ﴿إِلَّا زَانٍ﴾ مثلها {أَوْ
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
215
مُشْرِكٌ}؛ أي: لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وإنما يرغب في نكاحها وتزوجها من هو من شكلها من الفسقة، أو المشركين؛ أي: إنما يتزوجها من هو مثلها، أو أخس منها.
وهذا حكم (١) مؤسس على الغالب المعتاد، جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني، بعد زجرهم عن الزنا بهن، يعني الغالب أن المائل إلى الزنا والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في نكاح فاسقة من شكله، أو مشركة، والمسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها فاسق مثلها، أو مشرك. فإن المشاكلة سبب الائتلاف والاجتماع، كما أن المخالفة سبب الوحشة والافتراق. فالآية تزهد في نكاح البغايا، إذ الزنا عديل الشرك في القبح، والإيمان قرين العفاف والتحصن، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ﴾ وقيل: كان نكاح الزانية محرمًا في أول الإِسلام، ثم نسخ بقوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾.
وقدم الزاني على الزانية في هذه الآية عكس ما تقدم؛ لأن الرجل في النكاح من حيث إنه هو الطالب، ومنه تبدأ الخطبة؛ ولأن الآية نزلت في فقراء المهاجرين الذين رغبوا في نكاح موسرات كن بالمدينة من بغايا المشركين، لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية.
والمعنى (٢): أن الفاسق الفاجر الذي من شأنه الزنا والفسق، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة، أو في مشركة مثله، والفاسقة المستهترة لا يرغب في نكاحها الصالحون من الرجال، بل ينفرون منها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة، ولقد قالوا في أمثالهم: إن الطيور على أشكالها تقع.
ولا شك أن هذا حكم الأعم الأغلب، كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل المتقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي، فكذا هذا، فإن الزاني قد ينكح
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
216
المؤمنة العفيفة، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف.
قال ابن جرير الطبري: (١٨/ ٧٥) وأولى الأقوال (١) في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عني بالنكاح في هذا الموضع الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات، وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان. فمعلوم إذ كان ذلك كذلك أنه لم يعن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، لا ينكح إلا بزانية أو مشركة، وإذا كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية، لا تستحل الزنا، أو بمشركة تستحله.
قال ابن كثير: ومن (٢) هاهنا ذهب الإِمام أحمد ابن حنبل - رحمه الله - إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح، حتى يتوب توبة صحيحة، لقوله تعالى: ﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وقد اختلف (٣) في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها، فقال الشافعي وأبو حنيفة: بجواز ذلك، وروي عن ابن عباس وروي عن عمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز. قال ابن مسعود: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك، فهما زانيان أبدًا وبه قال مالك.
وقال الزمخشري: فإن قلت (٤): أي فرق بين معنى الجملة الأولى، أعنى قوله: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً﴾، ومعنى الجملة الثانية، أعني قوله: ﴿وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ﴾؟
قلت: معنى الأولى وصف الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في
(١) الطبري.
(٢) ابن كثير.
(٣) الشوكاني.
(٤) الكشاف.
217
الفواجر. ومعنى الثانية، وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة. وهما معنيان مختلفان.
وعن عمرو بن عبيد ﴿لَا يَنْكِحُ﴾ بالجزم على النهي، والمرفوع فيه معنى النهي. ولكن هو أبلغ وآكد، كما أن رحمك على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة، ويتصون عنها، انتهى.
﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ﴾؛ أي: نكاح الزواني والمشركات. وقيل: الضمير يعود للزنا. قاله الفراء. ذكره ابن الجوزي. ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ لما فيه من التشبه بالفسقة، والتعرض للتهمة، والتسبب بسوء المقالة، والطعن في النسب، وغير ذلك من المقاصد اللاتي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل، فضلًا عن المؤمنين، ولذلك عبر عن كراهة التنزيه بالتحريم مبالغة في الزجر. والحكم إما مخصوص بسبب النزول، أو منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ فإنه متناول للمسافحات. وبقوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ ويؤيده ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال: "أوله سفاح وآخره نكاح" والحرام لا يحرم الحلال.
وفي الآية إشارة إلى الحذر عن أخدان السوء، والحث على مخالطة أهل الصحبة والأخدان في الله تعالى، فإن الطبع من الطبع يسرق، والمقارنة مؤثرة، والأمراض سارية. وفي الحديث: "لا تسكنوا مع المشركين، ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم وليس منا"؛ أي: لا تسكنوا مع المشركين في المسكن الواحد، ولا تجامعوا معهم في المجلس الواحد، حتى لا تسري إليكم أخلاقهم، وسيرهم القبيحة بحكم المقارنة، وللناس أشكال، وكل يطير بشكله، وكل مساكن مثله، كما قال قائلهم:
عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِيْنَهُ فَإِنَّ الْقَرِيْنَ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِيْ
فأما أهل الفساد فالفساد يجمعهم، وإن تناءت ديارهم، أما أهل السداد، فالسداد يجمعهم وإن تباعد مزارهم، ومن بلاغات الزمخشري "لا ترض لمجالستك إلا أهل مجانستك"؛ أي: لا ترض أن تكون جليس أحد من غير
218
جنسك، فإنه العذاب الشديد ليس إلا. وجاء في مسائل الفقه أن من رأى نصرانية سمينة أو جميلة فتمنى أن يكون نصرانيًا ليتزوجها كفر، فعلى العاقل أن يصون نفسه بقدر الإمكان، فإن الله تعالى غيور ينبغي أن يخاف منه كل آنٍ.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ﴾ مشددًا مبنيًا للمفعول. وقرأ أبو البرهشيم: ﴿وحرم ذلك﴾ مبنيًا للفاعل؛ أي: حرم الله ذلك. وقرأ زيد بن علي ﴿وحرم ذلك﴾ بفتح الحاء وضم الراء مخففة. وقرأ أبي بن كعب وأبو المتكل وأبو الجوزاء ﴿وحرم الله ذلك﴾ بزيادة اسم الله عز وجل مع فتح حروف حرم كلها.
والمعنى: أي إن نكاح المؤمن المتسم بالصلاح الزانية، ورغبته فيها، واندماجه في سلك الفسقة المشهورين بالزنا، محرم عليه، لما فيه من التشبه بالفساق، ومن حضور مواضع الفسق والفجور، التي قد تسبب له سوء المقالة، واغتياب الناس له، وكم في مجالسه الفساق من التعرض لاقتراف الآثام فما بالك بمزاوجة الزواني والفجار.
وجاء في الخبر: "من حام حول الحمى، يوشك أن يقع فيه".
مبحث حكم قذف غير الزوجة من النساء
٤ - ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ﴾؛ أي: يشتمون ويقذفون ﴿الْمُحْصَنَاتِ﴾؛ أي: الحرائر المكلفات العفيفات، من حرائر المسلمين فيرمونهن بالزنا، وظاهر قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ﴾ الذكور، ولكن حكم الراميات كحكمهم. ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا﴾ إلى الحكام على ما رموهن به من ذلك ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ ذكور عدول، يشهدون بأنهم رأوهن يفعلن ذلك ﴿فَاجْلِدُوهُمْ﴾؛ أي: فاضربوا أيها الحكام أولئك القاذفين ﴿ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾؛ أي: ضربة، جزاء لهم على ما فعلوا من ثلم العرض، وهتك الستر دون أن يكون ذلك بوجه الحق لظهور كذبهم بعجزهم عن الإتيان بالشهداء.
(١) زاد المسير.
219
والمراد بالمحصنات هنا (١): الأجنبيات؛ لأن رمي الأزواج؛ أي: النساء الداخلات تحت نكاح الرامين حكمه سيأتي، وتخصيص المحصنات لشيوع الرمي فيهن، وإلا فقذف الذكر والأنثى سواء في الحكم المذكور.
وبيان حكم الآية (٢): أن من قذف محصنًا، أو محصنة بالزنا، فقال له أو لها: يا زاني أو يا زانية، أو زنيت، أو يا ابن الزاني، يا ابن الزانية، أو يا ولد الزنى، أو لست لأبيك، ويا ابن فلان.. فيجب عليه جلد ثمانين إن كان القاذف حرًا، وإن كان عبدًا يجلد أربعين، وإن كان المقذوف غير محصن فعلى القاذف التعزير. وأجمعوا على أن شرائط إحصان القذف خمسة: الحرية والبلوغ والعقل والإِسلام والعفة من الزنا، حتى لو زنى في عمره مرة واحدة، ثم تاب وحسنت توبته بعد ذلك، ثم قذفه قاذف، فلا حدّ عليه، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا، أو أقام القاذف أربعة شهود يشهدون عليه بالزنا، سقط الحد عن القاذف؛ لأن الحد إنما وجب عليه لأجل الفرية وقد ثبت صدقه.
وأما الكنايات في القذف، مثل أن يقول: يا فاسق، أو يا فاجر، أو يا خبيث، أو يا مؤاجر، أو يقول امرأتي لا ترد يد لامس، فهذا ونحوه لا يكون قذفًا إلا إذا أراد بذلك القذف. وأما التعريض، مثل أن يقول: أما أنا فما زنيت، أو ليست امرأتي زانية، فليس بقذف عند الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك: يجب فيه الحد. وقال أحمد: هو قذف في حال الغضب، دون حال الرضا.
والقذف (٣) بغير الزنا مثل أن يقول: يا شارب الخمر، يا آكل الربا يا نصراني، يا يهودي، يا مجوسي، فيوجب التعزير، كقذف غير المحصن. وأكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطًا وأقله ثلاثة؛ لأن التعزير ينبغي أن لا يبلغ أقل الحد أربعين جلدة وهي حد العبيد في القذف والزنا.
والفرق بين التعزير والحد: أن الحد مقدر، والتعزير مفوض إلى رأي
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
220
الإِمام، وأن الحد يندرىء بالشبهات دونه، وأن الحد لا يجب على الصبي، والتعزير شرع فيه، والحد يطلق على الذمي إن كان مقدرًا، والتعزير لا يطلق عليه؛ لأن التعزير شرع للتطهير والكافر ليس من أهل التطهير. وانما يسمى في حق أهل الذمة إذا كان غير مقدر عقوبةً، وإن التقاوم يسقط الحد دون التعزير، وان التعزير حق العبد كسائر حقوقه، يجوز فيه الإبراء والعفو والشهادة على الشهادة، ويجري فيه اليمين، ولا يجوز شيء منها في الحد.
وفي كلمة (١) ﴿ثم﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ إشعار بجواز تأخيره الإتيان بالشهود، وفي كلمة ﴿لم﴾ إشارة إلى العجز عن الإتيان بهم، ولا بدّ من اجتماع الشهود عند الأداء عند أبي حنيفة - رحمه الله -؛ أي: الواجب أن يحضروا في مجلس واحد.
وإن جاؤوا متفرقين كانوا قذفة، وفي قوله: ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ دلالة على أنهم إن شهدوا ثلاثة يجب حدهم لعدم النصاب، وكذا إن شهدوا عميانًا، أو محدودين في قذف، أو أحدهم محدود، أو عبد لعدم أهلية الشهادة.
وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر، ونصب جلدة على التمييز، كما سيأتي في مبحث الإعراب. أي: اضربوا كل واحد من الرامين ثمانين ضربة، إن كان القاذف حرًّا، وأربعين إن كان رقيقًا، كما مرّ، لظهور كذبهم وافترائهم بعجزهم عن الاتيان بالشهداء، كما سبق.
وقوله: ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً﴾ عطف (٢) على ﴿اجلدوا﴾ داخل في حكمه تتمة له لما فيه من معنى الزجر؛ لأنه مؤلم للقلب، كما أن الجلد مؤلم للبدن وقد آذى المقذوف بلسانه فعوقب بإهدار منافعه جزاء وفاقًا؛ أي: فاجمعوا لهم بين الأمرين الجلد وترك قبول الشهادة؛ لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول، بل فسقة كما حكم الله به عليهم في آخر هذه الآية. ذكره الشوكاني.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
221
وفائدتها: تخصيص الرد بشهادتهم الناشئة عن أهليتهم الثابتة لهم عند الرمي، وهو السر في قبول شهادة الكافر المحدود في القذف بعد التوبة والإِسلام؛ لأنها ليست ناشئة عن أهليته السابقة، بل أهليته لها حدثت بعد إسلامه، فلا يتناولها الرد.
والمعنى: لا تقبلوا من القاذفين شهادةً من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند القذف ﴿أَبَدًا﴾؛ أي (١): ما داموا مصرين على عدم التوبة، وهذا هو المراد بالأبدية بدليل الاستثناء الآتي، وهذا على مذهب الإِمام الشافعي ومالك، من رد الاستثناء إلى الجملتين، وأما على مذهب أبي حنيفة من رده إلى الأخير فقط.. فالمراد بالأبد مدة حياتهم، وإن تابوا وأصلحوا.
﴿وَأُولَئِكَ﴾ القاذفون ﴿هُمُ﴾ لا غيرهم ﴿الْفَاسِقُونَ﴾؛ أي: المحكوم عليهم بالفسق؛ أي: الكاملون في الفسق، والخروج عن الطاعة، والتجاوز عن الحدود. قال في "الكبير": يفيد أن القذف من الكبائر؛ لأن الفسق لا يقع إلا على صاحبه.
والمعنى: أي (٢) وأولئك هم الخارجون عن طاعة ربهم، إذ أنهم فسقوا عن أمره، وارتكبوا كبيرة من الكبائر، باتهامهم المحصنات الغافلات المؤمنات كذبًا وبهتانًا، وهم إن كانوا صادقين فقد هتكوا ستر المؤمنات، وأوقعوا السامعين في شك من أمرهن دون أن يكون في ذلك فائدة دينية ولا دنيوية، وقد أمرنا بستر العرض إذا لم يكن في ذلك مصلحة في الدين.
٥ - ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ ورجعوا عما قالوا، وندموا على ما تكلموا. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾؛ أي: من بعدما اقترفوا ذلك الذنب العظيم، والقذف الذميم، ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أعمالهم بالتدارك، ومنه الاستسلام لحد، والاستحلال من المقذوف.
وقد (٣) اختلف في هذا الاستثناء، أيعود إلى الجملة الأخيرة فقط، وهي
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
222
جملة الحكم عليهم بالفسق، فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة أبدًا، وإن تاب، وإلى هذا ذهب من السلف القاضي شريح وسعيد بن جبير وأبو حنيفة، أم يعود إلى الجملتين الأخيرتين الثانية، وهي جملة عدم قبول الشهادة والثالثة هي جملة الحكم عليهم بالفسق، وعليه فتقبل شهادته ويرفع عنه حكم الفسق؛ لأن سبب ردها، وهو ما كان متصفًا به من الفسق بسبب القذف قد زال بالتوبة بالإجماع، فتكون شهادته مقبولة، وعلى هذا القول جمهور العلماء، منهم سعيد بن المسيب وجماعة من السلف، وهو رأي مالك والشافعي وأحمد، وهذا (١) هو القول الحق الراجح؛ لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها، مع كون الكلام واحدًا في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أن الاستثناء لا يعود إلى جملة الجلد، بل يجلد التائب كالمصر.
وقد اختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه، وأقيم عليه الحد بسببه، وقالت فرقة منهم مالك وغيره: أن توبته تكون بأن يحسن حاله ويصلح عمله، ويندم على ما فرط منه، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على ترك العود إلى مثله، وإن لم يكذب نفسه، ولا رجع عن قوله، ويؤيد هذا القول الآيات والأحاديث الواردة في التوبة، فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد.
وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب، ولو كان كفرًا، فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى، هكذا حكى الإجماع القرطبي.
وجملة قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخذة للقاذف بعد التوبة وصيرورته مغفورًا له، مرحومًا من الرحمن الرحيم، غير فاسق ولا مردود الشهادة، ولا مرفوع العدالة، كانه قيل: فحينئذٍ لا يؤاخذهم
(١) الشوكاني.
223
الله سبحانه بما فرط منهم، ولا ينظمهم في سلك الفاسقين؛ لأنه مبالغ في المغفرة والرحمة؛ أي: فإن الله ستار لذنوبهم التي أقدموا عليها، بعد أن تابوا عنها، رحيم بهم، فيزيل عنهم ذلك العار، الذي لحقهم بعدم قبول شهادتهم ووسمهم بميسم الفسوق الذي وصفوا به.
وفي الآية (١): إشارة إلى غاية كرم الله تعالى، ورحمته على عباده، بأن يستر عليهم ما أراد بعضهم إظهاره على بعض، وإن لم يظهر صدق أحدهما أو كذبه، ولتأديبهم أوجب عليهم الحد، ورد قبول شهادتهم أبدًا، وسماهم الفاسقين، وليتصفوا بصفاته الستارية والكريمية والرحيمية فيما يسترون عيوب إخوانهم المؤمنين. ولا يتبعوا عوراتهم.
حكم قذف الرجل زوجه
٦ - ثم بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات على العموم ذكر حكم نوع من أنواع القذف، وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾؛ أي: والأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ﴾ يشهدون لهم بصحة ما قذفوهن به من الفاحشة ﴿إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾؛ أي: فعلى كل منهم أن يشهد أربع شهادات بالله على أنه صادق فيما رماها به من الزنا، فجملة: ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾، هي المشهود به، وأصله (على أنه)، فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها.
٧ - ﴿وَ﴾ الشهادة ﴿الْخَامِسَةُ﴾ للأربع المتقدمة؛ أي: الجاعلة لها خمسًا بانضمامها إليهن، وهي مبتدأ خبره قوله: ﴿أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ﴾ سبحانه، وطرده من رحمته في الدنيا والآخرة ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على الملاعن ﴿إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فيما رماها به من الزنا، فإذا لاعن الرجل.. حبست الزوجة حتى تعترف فترجم، أو تلاعن.
(١) روح البيان.
224
وفي "الفتوحات" (١) قوله: ﴿أَزْوَاجَهُمْ﴾ جمع زوج بمعنى الزوجة، فإن حذف التاء منها أفصح من إثباتها، إلا في الفرائض، ولم يقيدها بالمحصنات، إشارة إلى أن اللعان يشرع في قذف المحصنة وغيرها، فهو في قذف المحصنة يسقط الحد عن الزوج، وفي قذف غيرها يسقط التعزير، كان كانت ذميةً أو أمة، أو صغيرة تحتمل الوطء بخلاف الصغيرة التي لا تحتمله، وبخلاف قذف الكبيرة التي ثبت زناها ببينة أو إقرار، فإن الواجب في قذفها التعزير، لكنه لا يلاعن لدفعه كما في كتب الفروع.
وقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ﴾ لا مفهوم لهذا القيد، فإنه يلاعن ولو كان واجدًا للشهود الذين يشهودن بزناها، وعبارة "المنهج مع شرحه": ويلاعن ولو مع إمكان بينة بزناها؛ لأنه حجة كالبينة، وصدنا عن الأخذ بظاهر قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ﴾ من اشتراط تعذر البينة الإجماع، فالآية مؤولة بأن يقال: فإن لم يرغب في البينة فيلاعن، كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾، على أن هذا القيد خرج على سبب، وسبب الآية: كان الزوج فيه فاقدًا للبينة، وشرط العمل بالمفهوم أن لا يخرج القيد على سبب فيلاعن مطلقًا لنفي الولد ولدفع العقوبة حدًا أو تعزيرًا. اهـ.
وصورة قذفها بأن يقول لها (٢): يا زانية أو زنيت، أو رأيتك تزني. قال في "بحر العلوم": إذا قال: يا زانية، وهما محصنان، فردت بلا بل أنت حدت؛ لأنها قذفت الزوج، وقذفه إياها لا يوجب الحد بل اللعان، وما لم ترفع القاذف إلى الإِمام لم يجب اللعان.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ بإضافة أربعة إلى شهداء. وقرأ أبو زرعة وعبسد الله بن سلم ﴿بأربعة﴾ بالتنوين، وهي قراءة فصيحة؛ لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة، كان الاتباع أجود من الإضافية، ولذلك رجح ابن جني هذه
(١) الجمل.
(٢) روح الببان.
(٣) البحر المحيط.
225
القراءة على قراءة الجمهور، من حيث أخذ مطلق الصفة، وليس كذلك؛ لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء، فتكون الإضافة فيها أرجح من الاتباع.
وقرأ الجمهور: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ﴾ بالياء وهو الفصيح؛ لأنه إذا كان العامل مفرغًا لما بعد إلا، وهو مؤنث، فالفصيح أن يقول: ما قام إلا هند. وقرأ أبو المتوكل وابن يعمر والنخعي ﴿تكن﴾ بالتاء الفوقية. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ﴿أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ﴾ بفتح العين بالنصب على المصدرية، وارتفع فشهادة على كونه خبرًا لمحذوف؛ أي: فالحكم أو الواجب شهادة أحدهم، أو على كونه مبتدأ خبره محذوف؛ أي: فشهادة أحدهم كافية، أو واجبة، أو فعليهم شهادة أحدهم، وبالله من صلة شهادات. ويجوز أن يكون من صلة فشهادة. قاله ابن عطية. وقال الزجاج: من رفع ﴿أربع﴾ فالمعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأ حدًا لقذف أربع. ومن نصب فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع. اهـ.
وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - وحفص والحسن وقتادة والزعفراني وابن مقسم وأبوحيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وأبان وابن سعدان ﴿أربع﴾ بالرفع خبرًا للمبتدأ. وهو فشهادة. وبالله من صلة شهادات على هذه القراءة. ولا يجوز أن يتعلق، بـ ﴿فشهادة﴾ للفصل بين المصدر ومعموله بحرف الجر. ولا يجوز ذلك. وقرأ الجمهور: ﴿وَالْخَامِسَةُ﴾ بالرفع في الموضعين. وقرأ طلحة والسلمي والحسن وقتادة والأعمش وخالد بن أياس ويقال: ابن الياس بالنصب فيهما. وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى. فالرفع على الابتداء، وما بعده الخبر. ومن نصب الأولى فعطف على أربع في قراءة من نصب أربع. وعلى إضمار فعل يدل عليه المعنى في قراءة من رفع أربع؛ أي: وتشهد الخامسة. ومن نصب الثانية فعطف على أربع. وعلى قراءة النصب في الخامسة يكون أن بعده على إسقاط حرف الجر؛ أي: بأن. وجوز أن يكون أن وما بعده بدلًا من الخامسة.
وقرأ نافع: ﴿أن لعنة﴾ بتخفيف أن، ورفع لعنة. و ﴿أن غضب﴾، بتخفيف
226
أن، وغضب فعل ماض، والجلالة بعد مرفوعة، وهي أن المخففة من الثقيلة لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن. وقرأ أبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما. والحسن ﴿أن لعنة﴾ كقراءة نافع، و ﴿أن غضب﴾ بتخفيف أن وغضب مصدر مرفوع وما بعده خبره. وهي أن المخففة من الثقيلة. وقرأ باقي السبعة: ﴿أن لعنة الله﴾، و ﴿أن غضب الله﴾ بتشديد أن ونصب ما بعدها اسمًا لها، وخبرها ما بعدها. قال ابن عطية: وأن الخفيفة على قراءة نافع في قوله: ﴿أن غضب﴾ قد وليها الفعل. قال أبو علي: وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل، إلا أن يفصل بينهما وبينه بشيء، نحو قوله: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ﴾. وقوله: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ﴾.

فصل في بيان حكم الآية


واعلم: أن الرجل إذا قذف (١) امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبية، وجوب الحد عليه إن كانت محصنة، أو التعزير إن كانت غير محصنة، غير أن المخرج منهما مختلف، فإذا قذف أجنبيًا أو أجنبية يقام عليه الحد، إلا أن يأتي بأربعة يشهدون بالزنا، أو يقر المقذوف بالزنا، فيسقط عنه الحد. وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين، أو لاعن، سقط عنه الحد. فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة؛ لأن الرجل إذا رأى مع امرأته رجلًا، ربما لا يمكنه إقامة البينة، ولا يمكنه الصبر على العار، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه. فقال تعالى: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾. وإذا أقام الزوج بينة على زناها، أو اعترفت هي بالزنا.. سقط عنه الحد واللعان إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه، فله أن يلاعن لنفيه، وإذا أراد الإِمام أن يلاعن بينهما.. بدأ بالرجل فيقيمه، ويلقنه كلمات اللعان، فيقول: قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا، وان كان قد رماها برجل بعينه.. سماه في اللعان، ويقول كما يلقنه الإِمام، وان كان ولد أو حمل يريد نفيه، يقول: وإن هذا الولد، أو هذا الحمل لَمِنَ الزنا، ما هو منى، ويقول في الخامسة: علي لعنة
(١) الخازن.
227
الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة، وإذا أتى بكلمة من كلمات اللعان من غير تلقين الإِمام، لا تحسب. فإذا فرغ الرجل من اللعان، وقعت الفرقة بينه وبين الزوجة، وحرمت عليه على التأبيد، وانتفى عنه النسب، وسقط عنه الحد، ووجب على المرأة حد الزنا. فهذه خمسة أحكام تتعلق بلعان الزوج.
٨ - ﴿وَيَدْرَأُ﴾؛ أي: يدفع ﴿عَنْهَا﴾؛ أي: عن المرأة المرمية ﴿الْعَذَابَ﴾ الدنيوي، وهو الحد. وفاعل يدرأ قوله: ﴿أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ﴾، أي: أن تحلف بالله أربعة أيمان ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: أن الزوج الذي رماني ﴿لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فيما رماني به من الزنا؛ أي: ويدفع عن المرأة الحد، شهادتها أربع شهادات بالله، إن هذا الزوج الذي رماني لمن الكاذبين فيما رماني به.
٩ - ﴿وَالْخَامِسَةَ﴾ بالنصب عطفًا على أربع شهادات؛ أي: وتشهد المرة الخامسة للمرات الأربع. كذلك قرأ (١) حفص والحسن والسلمي وطلحة والأعمش. وقرأ الباقون: بالرفع على الابتداء وخبره ﴿أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿عليها﴾؛ أي: علي ﴿إن كاَنَ﴾ هذا الزوج الذي رماني ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾: فيما رماني به من الزنا.
والغضب (٢): ثوران دم القلب لإرادة الانتقام، ولذلك قال - ﷺ -: "اتقوا الغضب، فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه". فإذا وصف الله به فالمراد لازمه، وهو الانتقام دون غيره، وتخصيص الغضب بجانب المرأة، واللعن بجانب الرجل للتغليظ عليها لكونها أصل الفجور ومادته؛ لأن الغضب أشد من اللعنة؛ لأن اللعنة مطلق الطرد من الرحمة، والغضب الطرد من الرحمة مع إرادة الانتقام منه، ولأن النساء يكثرن اللعن في العادة، فربما تجترىء على التفوه به لسقوط وقعه على قلوبهن بخلاف الغضب.
ومعنى الآية: أي (٣) ويدقع عنها العقوبة الدنيوية، وهي الحد، أن تحلف
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
228
بالله أربعة أيمان أن زوجها الذي رماها بما رماها، من الفاحشة، لمن الكاذبين فيما قال، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقًا فيما اتهمها به. وخصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله عليها؛ تغليظًا عليها؛ لأنها هي سبب الفجور ومنبعه بخديعتها وإطماعها الرجل في نفسها، كما مر آنفًا.
نبذة من أحكام اللعان
واعلم: أن الزوج إذا لاعن (١).. وجب على المرأة حدّ الزنا، فإن أرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن، فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وتقول في الخامسة: علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به. ولا يتعلق بلعانها إلا هذا الحكم الواحد، وهو إسقاط الحد عنها، ولو أقام الزوج بينة لم يسقط الحد عنها باللعان.
وعند أصحاب الرأي: لا حد على من قذف زوجته بل موجبه اللعان، فإن لم يلاعن حبس حتى يلاعن، فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة من اللعان، حبست حتى تلاعن. وعند الآخرين اللعان حجة صدقه، والقاذف إذا قعد عن إقامة البينة على صدقه لا يحبس، بل يحد، كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة. وعند أبي حنيفة: موجب اللعان وقوع الفرقة، ونفي النسب، وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعًا، وقضاء القاضي وفرقة اللعان فرقة فسخ عند الأكثرين. وبه قال الشافعي. وتلك الفرقة متأبدة حتى لو أكذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه، لا فيما له، فيلزمه الحد، ويلحقه الولد، لكن لا يرتفع تأبيد التحريم. وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق، فإذا أكذب نفسه.. جاز له أن ينكحها. وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم. وعند أبي حنيفة إذًا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل. وكل من صح يمينه.. صح لعانه حرًّا كان أو عبدًا مسلمًا كان أو ذميًا. وهو قول سعيد بن المسيب وسلمان بن يسار
(١) الفتوحات.
229
والحسن، وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم.
وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي: لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين، فإن كان أحد الزوجين رقيقًا أو ذميًا أو محدودًا في قذف، فلا لعان بينهما. وظاهر القرآن حجة لمن قال: يجري اللعان بينهما؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره.
ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو نائبه، ويغلظ اللعان بأربعة أشياء، بتعدد الألفاظ وبالمكان والزمان، وأن يكون بمحضر جماعة من الناس. أما تعدد الألفاظ فيجب، ولا يجوز الإخلال بشيء منها. وأما المكان: فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن، فإن كان بمكة فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند منبر النبي - ﷺ -. وفي سائر البلاد في الجامع عند المنبر. وأما الزمان: فهو أن يكون بعد العصر. وأما الجمع فأقله أربعة، والتغليظ بالجمع سنة، فلو لاعن الحاكم بينهما وحده جاز. وفي التغليظ بالزمان والمكان قولان. وبيان اللعان متبعًا موضعه كتب الفروع، فيطلب هناك، وكذا القذف.
١٠ - وبعد أن ذكر حكم الرامي للمحصنات وللأزواج، بين أن في هذا تفضلًا على عباده، ورحمة بهم، فقال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ﴾؛ أي: تفضله سبحانه ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيها القاذفون والمقذوفات ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ سبحانه بالستر لكم؛ أي: لولا تفضله عليكم بالستر ورحمته لكم به في القذف. وجواب ﴿لولا﴾ محذوف، تقديره: لنال الكاذب منكم عذاب عظيم. وفي قوله: عليكم (١) التفات عن الغيبة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ إلى الخطاب. والخطاب لكل من الفريقين؛ أي: القاذفين والمقذوفات، ففي الكلام تغليب صيغة الذكور على صيغة الإناث، حيث لم يقل: عليكم وعليكن.
وجملة قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿تَوَّابٌ﴾ بعوده على من يرجع عن
(١) الفتوحات.
230
المعاصي بالرحمة. ﴿حَكِيمٌ﴾؛ أي: فيما فرضه من الحدود. معطوفة على مدخول ﴿لولا﴾. وحذف (١) جواب ﴿لولا﴾ للتهويل والإشعار بضيق العبارة عن حصره، كأنه قيل: لولا تفضله عليكم ورحمته، أيها الرامون والمرميات. وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة. حكيم في جميع أفعاله وأحكامه، التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان، لكان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان. ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك.. لوجب على الزوج حدّ القذف، مع أن الظاهر صدقه؛ لأنه أعرف بحال زوجته، وأنه لا يفتري عليها؛ لاشتراكهما في الفضاحة.
وبعدما شرع لهم ذلك، لو جعل شهاداته موجبة لحدّ القذف عليه.. لفات النظر له، ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة، فجعل شهادات كل منهما، مع الجزم بكذب أحدهما حتمًا، دارئة لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية. وقد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأه عنه وأطم. وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفى. أما على الصادق فظاهر، وأما على الكاذب فهو إمهال له، والستر عليه في الدنيا، ودرأ الحد عنه، وتعريضه للتوبة، حسبما ينبىء عنه التعرض لعنوان توابيته، سبحانه ما أعظم شأنه، وأوسع رحمته وأدق حكمته.
والخلاصة (٢): أي ولولا تفضله سبحانه ورحمته بكم، وأنه قابل لتوبتكم في كل آن، وأنه حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي منها ما شرعه لكم من اللعان.. لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم، ودفع عنكم الحد باللعان، إذ لو لم يشرع لكم ذلك.. لوجب على الزوج حدّ القذف، مع أن قرائن الأحوال تدل على صدقه؛ لأنه أعرف بحال زوجه، وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الفضيحة. ولو جعل شهادته موجبة لحد الزنا عليها.. لأهمل أمرها، وكثر افتراء الزوج عليها، لضغينة قد تكون في نفسه من أهلها. وفي كل
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
231
هذا خروج من سابق الحكمة والفضل والرحمة. ومن ثم جعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما، دارئة عند العقوبة الدنيوية. وإن كان قد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهادته بأشد مما درأه عن نفسه، وهو العقاب الأخروي.
تنبيه: وكررت (١) ﴿لولا﴾ في هذا السياق أربع مرات، لاختلاف الأجوبة فيها، إذ جواب الأول منها محذوف، تقديره: لفضحكم. وجواب الثاني مذكور، وهو قوله: ﴿لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. وجواب الثالث محذوف، تقديره: لعجل لكم العذاب. وجواب الرابع مذكور. وهو قوله: ﴿مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾.
قال ابن جرير الطبري: (١٨/ ٨٦) يقول تعالى ذكره: ولولا (٢) فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم، وأنه عواد على خلقه بلطفه وطوله، حكيم في تدبيره إياهم وسياسته لهم.. لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم، وفضح أهل الذنوب منكم بذنوبكم، ولكنه ستر عليكم ذنوبكم وترك فضيحتكم بها عاجلًا رحمة منه بكم، وتفضلًا عليكم، فاشكروا نعمه وانتهوا عن التقدم عما عنه نهاكم من معاصيه. وترك الجواب في ذلك، اكتفاء بمعرفة السامع المراد منه. اهـ.
الإعراب
﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)﴾.
﴿سُورَةٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه الآيات الآتي ذكرها. أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وسوغ الابتداء بالنكرة وصفها بجملة ﴿أَنْزَلْنَاهَا﴾ والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿أَنْزَلْنَاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة القعلية في محل الرفع صفة لـ ﴿سُورَةٌ﴾. ﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول. والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلْنَاهَا﴾. وكذلك جملة ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلْنَاهَا﴾. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿أنزلنا﴾. ﴿آيَاتٍ﴾:
(١) فتح الرحمن.
(٢) الطبري.
232
مفعول به لـ ﴿أنزلنا﴾. ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: صفة لـ ﴿آيَاتٍ﴾. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾.
﴿الزَّانِيَةُ﴾: مبتدأ. ﴿وَالزَّانِي﴾: معطوف عليه. ﴿فَاجْلِدُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه المبتدأ بالشرط في العموم، كما مر. ﴿اجلدوا﴾: فعل وفاعل. ﴿كُلَّ وَاحِدٍ﴾: مفعول به. ﴿مِنْهُمَا﴾: صفة لـ ﴿واحد﴾. ﴿مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، لنيابته عن المصدر، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتفصيل ما ذكر من الآيات البينات. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ في رفعهما وجهان:
أحدهما: مذهب سيبويه، أنه مبتدأ خبره محذوف؛ أي: فيما يتلى عليكم، حكم الزانية والزاني. و ﴿الفاء﴾: في ﴿فَاجْلِدُوا﴾ على هذا الوجه: تفصيلية للحكم المتلو المجمل؛ لأنه لما تشوف السامع إلى تفصيل هذا المجمل.. ذكر حكمهما مفصلًا بقوله: ﴿فَاجْلِدُوا﴾؛ لأنه أوقع في النفس من ذكره أول وهلة.
وثانيهما: مذهب الأخفش وغيره، وهو أنه مبتدأ، والخبر جملة الأمر، كما جرينا عليه في إعرابنا؛ لأن عدم التقدير أولى من التقدير. ودخلت الفاء حينئذٍ، لشبه المبتدأ بالشرط. فالفاء: رابطة الخبر بالمبتدأ، لكونه جملة طلبية، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مستوفى عند قوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾. فجدد به عهدًا.
﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَأْخُذْكُمْ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿بِهِمَا﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿رَأْفَةٌ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿فَاجْلِدُوا﴾. {فِي دِينِ
233
اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَأْخُذْكُمْ﴾ أيضًا. وهذه الجملة دالة على جواب الشرط بعدها، أو هي نفس الجواب عند بعضهم. اهـ. "سمين". ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾، على كونه فعل شرط لها، وجملة ﴿تُؤْمِنُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُؤْمِنُونَ﴾. ﴿وَالْيَوْمِ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿الْآخِر﴾: صفة لـ ﴿اليوم﴾. وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم تؤمنون بالله، واليوم الآخر، فلا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة. ﴿وَلْيَشْهَدْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: لام الأمر. ﴿يشهد﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. ﴿عَذَابَهُمَا﴾: مفعول به. ﴿طَائِفَةٌ﴾: فاعل. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: صفة لـ ﴿طائفة﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا﴾.
﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)﴾.
﴿الزَّانِي﴾: مبتدأ. ﴿لَا يَنْكِحُ﴾: فعل وفاعل مستتر. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿زَانِيَةً﴾: مفعول به. ﴿أَوْ مُشْرِكَةً﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان حال الفاسق الخبيث. ﴿وَالزَّانِيَةُ﴾: مبتدأ. ﴿لَا يَنْكِحُهَا﴾: فعل ومفعول به. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿زَانٍ﴾: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنه اسم منقوص. ﴿أَوْ مُشْرِكٌ﴾ معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ﴾ فعل ونائب فاعل. ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ متعلق به. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لبيان حكم نكاح الزواني والمشركات.
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)﴾
234
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الذين﴾: مبتدأ. ﴿يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿لَمْ يَأْتُوا﴾: جازم وفعل مجزوم وفاعل. ﴿بِأَرْبَعَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يأتوا﴾. ﴿شُهَدَاءَ﴾: مضاف إليه مجرور بالفتحة، لمنعه من الصرف، لمكان ألف التأنيث الممدودة، والجملة معطوفة على جملة ﴿يرمون﴾. ﴿فَاجْلِدُوهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لخبر الموصول المتضمن معنى الشرط. ﴿اجلدوهم﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ. ﴿ثَمَانِينَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿جَلْدَةً﴾: تمييز له منصوب به والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان نوع آخر من حدود الزنا. ﴿وَلَا تَقْبَلُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَقْبَلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿فَاجْلِدُوهُمْ﴾. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف، حال من ﴿شَهَادَةً﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿شَهَادَةً﴾ مفعول به. ﴿أَبَدًا﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ ﴿تَقْبَلُوا﴾. ﴿وَأُولَئِكَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أولئك﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل، أو مبتدأ ثان. ﴿الْفَاسِقُونَ﴾: خبر عن ﴿أولئك﴾، أو خبرهم، والجملة الاسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ﴾ على كونها خبر الموصول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر، في محل النصب على الاستثناء. ﴿تَابُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. ﴿وَأَصْلَحُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَابُوا﴾. واختلف في هذا الاستثناء، فقيل: هو متصل؛ لأن المستثنى منه في الحقيقة ﴿الذين يرمون﴾، والتائبون من جملتهم لكنهم مخرجون من الحكم. وهذا شأن المتصل. وقيل: هو منقطع؛ لأنه لم يقصد إخراجه من الحكم السابق، بل قصد به إثبات أمر آخر، وهو أن التائب لا يبقى فاسقًا؛ ولأنه غير داخل في صدر الكلام؛ لأنه غير فاسق اهـ. "شهاب". وهذا التوجيه ضعيف جدًّا، إذ يلزم عليه، أن يكون كل استثناء منقطعًا، لجريان التوجيه المذكور فيه تأمل. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿الفاء﴾: تعليلية. ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لها. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان. والجملة الاسمية مستأنفة،
235
مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الذين﴾: مبتدأ أول. ﴿يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجمله صلة الموصول ومتعلق ﴿يرمون﴾ محذوف، تقديره: بالزنا. ﴿وَلَمْ يَكُنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لم يكن﴾: جازم ومجزوم. ﴿لَهُمْ﴾: خبر ﴿يَكُنْ﴾ مقدم على اسمها. ﴿شُهَدَاءُ﴾: اسمها مؤخر. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾: بدل من ﴿شهداء﴾. ويجوز أن تكون ﴿إِلَّا﴾: بمعنى غير. فتكون ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾: نعتًا لـ ﴿شُهَدَاءُ﴾. وقد ظهر عليها إعراب إلا على حد قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾. ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ، لشبه الموصول بأسماء الشروط في العموم. ﴿شهادة أحدهم﴾: مبتدأ شأن ومضاف إليه. ﴿أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ﴾ بالرفع خبر للمبتدأ الثاني ومضاف إليه. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿شَهَادَاتٍ﴾، أو ﴿بشهادة﴾. فالمسألة من باب التنازع، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للأول، والجملة من المبتدأَ الأول وخبره، مستأنفة مسوقة لبيان أحكام اللعان، وهو مبسوط في كتب الفقه. وقرأ الجمهور: ﴿أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ﴾ بالنصب، فيكون خبر فـ ﴿شَهَادَةُ﴾ مقدرًا، إما مقدمًا، تقديره: فعليهم شهادة أحدهم، أربع شهادات. أو مؤخرًا، تقديره: فشهادة أحدهم، أربع شهادات كائنة، أو واجبة. أو هو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: فالواجب شهادة أحدهم: أربع منصوب على المفعولية المطلقة، والعامل فيه مصدر مثله. نظيره قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا﴾ وقد ناب هنا عن المصدر عدده، ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وكسرت همزة ﴿إن﴾ لوجود اللام المزحلقة و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: وما بعدها في محل النصب معمول ﴿شَهَادَاتٍ﴾، أو شهادة؛ لأن أصله يشهد على أنه صادق، فحذف الجار وكسرت ﴿إن﴾، وعلق العامل عنها لأجل اللام في الخبر.
﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٧)﴾.
236
﴿وَالْخَامِسَةُ﴾ ﴿الواو﴾: اعتراضية. ﴿الخامسة﴾: مبتدأ؛ أي: الشهادة الخامسة. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لَعْنَتَ اللَّهِ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية. للمبتدأ، والتقدير: والخامسة إثبات لعنة الله عليه، والجملة الاسمية معترضة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، في محل الجزم بأن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على الملاعن؛ أي: الزوج. ﴿مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف دل عليه ما قبله؛ أي: إن كان من الكاذبين فيما رماها به، فعليه لعنة الله سبحانه، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة. ويقرأ: الخامسة، بالنصب على تقدير ويشهد الخامسة، والتقدير: ويشهد الخامسة بأن لعنة الله عليه. ويجوز أن يكون بدلًا، من الخامسة. ذكره أبو البقاء.
﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨)﴾.
﴿وَيَدْرَأُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يدرأ﴾: فعل مضارع. ﴿عَنْهَا﴾: متعلق به. ﴿الْعَذَابَ﴾: مفعول به، ﴿أَن﴾: حرف نصبـ ﴿تَشْهَدَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية وفاعله ضمير يعود على الملاعنة ﴿أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿شَهَادَاتٍ﴾: أو بـ ﴿تَشْهَدَ﴾. والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقدير: ويدرأ عنها العذاب شهادة أربع شهادات بالله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية في قوله: والذين يرمون المحصنات. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾: خبره. و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿إن﴾ ومعموليها في محل النصب معمول لـ ﴿تَشْهَدَ﴾، ولكنه علق عنه باللام: وذلك كسرت همزة ﴿إن﴾، والأصل أن تشهد أربع شهادات، على أنه لمن الكاذبين.
﴿وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)﴾.
﴿وَالْخَامِسَةَ﴾: بالنصب معطوف على ﴿أَرْبَعَ﴾؛ أي: وتشهد الخامسة. ﴿أَنَّ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿غَضَبَ اللَّهِ﴾: اسمها. ﴿عَلَيْهَا﴾: جار ومجرور خبر
237
﴿أن﴾. وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر، مجرور بحرف جر محذوف؛ أي: وتشهد الخامسة على كون ﴿غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾. وبالرفع مبتدأ، والخبر جملة أن غضب الله عليها. ﴿إِن﴾ حرف شرط. ﴿كَانَ﴾ في محل الجزم بـ ﴿أن﴾، واسمها ضمير يعود على الزوج. ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ خبرها. وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: إن كان من الصادقين، فعلي غضب الله.
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)﴾.
﴿وَلَوْلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿لولا﴾: حرف امتناع لوجود. ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾ مبتدأ ومضاف إليه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا، تقديره: ولولا فضل الله عليكم موجود. ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ معطوف على ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾، وجواب ﴿لولا﴾ محذوف، تقديره: لبين الحق في ذلك، وعاجل بالعقوبة لمن يستحقها، وجملة ﴿لولا﴾ مستأنفة، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه. ﴿تَوَّابٌ﴾ خبر أول له ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان له. وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر، معطوف على ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾ على كونه مبتدأ محذوف الخبر، وتقديره: ولولا كون الله توابًا حكيمًا موجود.. لنال الكاذب منهما عذاب عظيم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿سُورَةٌ﴾: السورة: في اللغة المنزلة السامية، والمكانة الرفيعة. قال النابغة:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أعْطَاكَ سُوْرَةً تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُوْنَهَا يَتَذَبْذَبُ
وسميت المجموعة من الآيات لها بدء ونهاية: سورةً، لشرفها وارتفاعها، كما يسمى السور للمرتفع من الجدار.
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ قال في المفردات: الزنى: يقصر، وقد يمد، فيقال: الزناء، ويصح أن يكون الممدود مصدر المفاعلة، والنسبة إليه زنوى. انتهى. فبنية الزنا والزناء بالقصر، والمد قال الفرزدق:
أَبَا خَالِدٍ مَنْ يَزْنِ يُعْلَمْ زِنَاؤُهُ وَمَنْ يَشْرَبِ الْخُرْطُوْمَ يُصْبِحْ مُسَكَّرَا
قال الفراء: المقصور من زنى الثلاثي والممدود من زاني الرباعي. يقال:
238
زاناها مزاناة وزناء، وخرجت فلانة تزاني وتباغي، وقد زنى بها. وجمع الزاني زناة، كالطاغي والطغاة والباغي والبغاة. وجمع الزانية الزواني كالجارية والجواري، وزناة تزنية نسبه إلى الزنا، وهو ولد زنية بفتح الزاي وكسرها.
﴿رَأْفَةٌ﴾: في "المختار" والرأفة: أشد الرحمة، وقد رؤف بالضم، رآفة ورأف به يرأف مثل قطع يقطع. ورئف به من باب طرب، كله من كلام العرب، فهو رؤوف على وزن فعول. ورؤف على وزن فعل اهـ.
﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الشهود: الحضور. والعذاب: الإيجاع الشديد، قال بعضهم: العذاب: إكثار الضرب بعذبة السوط؛ أي: بطرفه. وقيل: غير ذلك. وفي تسميته عذابًا دليل على أنه عقوبة، ويجوز أن يسمى عذابًا؛ لأنه ألم مانع من معاودة، كما يسمى نكالًا؛ أي: عقابًا يردع عن المعاودة. والطائفة: فرقة يمكن أن تكون حافة حول الشيء، وحلقة من الطوف. والمراد به جمع يحصل به التشهير والزجر.
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ الرمي يقال في الأعيان كالسهم والحجر، ويقال: في المقال كناية عن الشتم كالقذف، فإنه في الأصل الرمي بالحجارة ونحوها مطلقًا. قال في "الإرشاد": في التعبير عن التفوه، بما قالوا في حقهن بالرمي المنبي عن صلابة الآلة، وإيلام المرمي، وبعده إيذان بشدة تأثيره فيهن. والمحصنات: العفائف وهو بالفتح، يقال: إذا تصور حصنها من نفسها وبالكسر يقال: إذا تصور حصنها من غيرها، والحصن في الأصل معروف، ثم تجوز به في كل تحرز. ومنه درع حصينة لكونها حصنًا للبدن وفرس حصان؛ لكونه حصنًا لراكبه، وامراة حصان، للعفيفة. وأصل الإحصان المنع، سميت العفيفة (محصنة)؛ لأنها منعت نفسها عن القبيح. ومنه الحصين؛ لأنه يمنع من الأعداء. (يدرأ)؛ أي: يدفع من الدرء، وهو الدفع.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان
239
والبديع:
فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا﴾ حيث حذف المبتدأ أو الخبر. وأشير إليها بالمبتدأ المحذوف. مع عدم سبق ذكرها؛ لأنها باعتبار كونها في شرف الذكر في حكم الحاضر المشاهد.
منها: التنكير في سورة للتفخيم؛ أي: هذه صورة عظيمة الشأن جليلة القدر أنزلها الله سبحانه.
ومنها: الإطناب بتكرير لفظ أنزلنا في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾؛ لإبراز كمال العناية بشأنها، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام، للعناية والاهتمام به.
ومنها: التهييج والإلهاب في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: التحريض وإثارة الغضب لله إلهاب الحفاظ لدين الله وحكمه. وكذا في قوله: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ لما في النهي والشرط من التحريض، وإثارة المؤمنين على أن يتصلبوا في دينهم، وأن لا تأخذهم هوادة أولين، في تنفيذا أمرهم به، لاستيفاء حدوده.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾؛ لأن ظاهر النظم يشعر بأن الزاني لا ينكح المؤمنة العقيفة، وأن الزانية لا ينكحها المؤمن التقي، ولما كان ذلك غير ظاهر الصحة، كان لا بد من حمل الأخبار على الأعم الأغلب، كما في قولك لا يفعل الخير إلا الرجل المتقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾؛ لأن أصل الرمى القذف بالحجارة، أو بشيء صلب، ثم استعير للقذف باللسان، بجامع الإيذاء في كل، لكونه جناية بالقوَل، كما قال النابغة: وجرح اللسان كجرح اليد.
ومنها: صيغ المبالغة في قوله: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقوله: ﴿تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ فان فعولًا وفعيلًا وفعالًا من أوزان المبالغة، وكلها تفيد بلوغ النهاية في هذه الصفات.
240
ومنها: الطباق بين ﴿الصَّادِقِينَ﴾ و ﴿الْكَاذِبِينَ﴾.
ومنها: حذف جواب لولا للتهويل في قوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ وللإشعار بضيق العبارة عن حصره، حتى يذهب الوهم في تقديره كل مذهب، فيكون أبلغ في البيان، وأبعد في التهويل والزجر.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ فقد التفت من الغيبة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ إلى الخطاب لتسجيل المنة على المخاطبين، بحيث لا تبقى لديهم أعذار واهية، يتشبثون بها إذا هم تجاوزوا حدود ما بينه لهم.
ومنها: التغليب في قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ فقد غلب صيغة الذكور على صيغة الإناث حيث لم يقل عليكم وعليكن؛ لأنه بصدد مخاطبة الفريقين؛ أي: القاذفين والمقذوفات.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
تتمة: في التعبير بالإحصان في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ إشارة لطيفة إلى أن قذف العفيف من الرجال أو النساء موجب لحد القذف، وأما إذا كان الشخص معروفًا بالفجور، أو مشهورًا بالاستهتار، والمجون فلا حد على قاذفه؛ لأنه كرامة للفاسق الماجن، فتدبر.
دقيقة: لماذا عدل عن قوله: ﴿تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ إلى قوله: ﴿تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ مع أن الرحمة تناسب التوبة، والجواب أن الله عز وجل، أراد الستر على العباد بتشريع اللعان بين الزوجين، فلو لم يكن اللعان مشروعًا، لوجب على الزوج حد القذف، مع أن الظاهر صدقه ولو أكتفى لعانه.. لوجب على الزوجة حدّ الزنا، فكان من الحكمة وحسن النظر لهما جميعًا، أن شرع هذا الحكم، ودرأ عنهما العذاب بتلك الشهادات. فسبحانه ما أوسع رحمته وأجلّ حكمته.
قال بعضهم: وإنما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ ولم يقل: ولولا فضل عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله {مَا زَكَى
241
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}، لنعلم أن العبادات وإن كثرت فإنها من نتائج الفضل والإحسان. اللهم اجعلنا من أهل الفضل والعطاء والمحبة والولاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
242
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩)﴾
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه
243
الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات.. ذكر في هذه الآيات العشر، براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله - ﷺ -.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ...﴾ الآيات، مناسبة (٢) هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصص أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وبين عقاب من اتهمها بالإفك، وشديد عذابه يوم القيامة، وأسهب في هذا.. أعقب ذلك ببيان حكم عام، وهو أن كل من أَتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور، فهو مطرود من رحمة الله تعالى، بعيد عن دار نعيمه، معذب في جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحًا.
قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما برأ عائشة مما رميت به من الإفك، ثم ذكر أن رامي المحصنات الغافلات مطرود من رحمة الله تعالى.. أردف ذلك دليلًا ينفي الريبة عن عائشة بأجلى وضوح. ذلك أن السنة الجارية بين الخلق، مبنية على مشاكلة الأخلاق، والصفات بين الزوجين، فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. ورسول الله تعالى من أطيب الطيبين، فيجب كون الصديقة من أطيب الطيبات، على مقتضى المنطق السليم، والعادة الشائعة بين الخلق.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ...﴾ الآيات، إلى قوله: ﴿وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حكم قذف المحصنات الأجنبيات، وحكم قذف الزوجات، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك، وبسط ذلك غاية البسط، وكان مما يسهل السبيل إلى التهمة في كل هذا وجود الخلوة بين رجل وامرأة.. أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام، حتى لا يوجد بحال تورث
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
244
التهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة، إلى أن الإنسان قد يكون في بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ...﴾ من آية (١١) إلى آية (٢٢)، سبب نزولها (١): ما أخرجه البخاري في (ج ٦ ص / ١٩٨) قال: حدثنا أو الربيع سليمان بن داود، وأفهمني بعضه أحمد قال: حدثني فليح عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص الليثي وعبيد بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - ﷺ -، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله منه. قال الزهري: وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم أوعى من بعض له اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضًا، زعموا أن عائشة قالت: "كان رسول الله - ﷺ - إذا أراد أن يخرج سفرًا، أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فاقرع بيننا في غزاة، وهي غزوة المريسيع، وتسمى أيضًا غزوة بني المصطلق، وكانت في السنة الرابعة، وقيل: في السادسة، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك، وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحيل، فلمست صدري فإذا عقد لي جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، فأقبل الذين يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا، لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، وإنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج، فاحتملوه وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل، وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فأممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينما
(١) البخاري.
245
أنا جالسة، غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، وأتاني وكان يراني قبل الحجاب، يعني قبل نزول الحجاب، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ فاستيقظت باسترجاعه حتى أناخ راحلته فوطىء يدها، فركبتها فانطلق يقول بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا معرسين في نحو الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهرًا، والناس يفيضون من قول أصحاب الإفك، ويريبني في وجيهي أني لا أرى من النبي - ﷺ - اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلم، ثم يقول: كيف تيكم، لا أشعر بشيء من ذلك، حتى نقهت، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع متبرزنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرية، أو في التنزه، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي، فعثرت في مرطها. فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت: أتسبين رجلًا شهد بدرًا، فقلت: يا هنتاه ألم تسمعوا ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا إلى مرض.
فلما رجعت إلى بيتي، دخل عليّ رسول الله - ﷺ - فسلم، فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذٍ أربد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله - ﷺ -، فأتيت أبوي، فقلت لأمي ما يتحدث به الناس، فقالت: يا بنية هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله، أو لقد يتحدث الناس بهذا! قالت: فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرفأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت، فدعا رسول الله - ﷺ - علي بن أبي طالب، وأسامة بن زبد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيرًا. وأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله - ﷺ - بريرة، فقال: يا بريرة، هل رأيت فيها شيئًا يريبك،
246
فقالت بريرة: لا، والذي بعثك بالحق، إن رأيت منها أمرًا أغمصه عليها قط، أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن العجين، فتأتي الداجن، فتأكله. فقام رسول الله - ﷺ - من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. فقال رسول الله - ﷺ -: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا وقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا. وما كان يدخل على أهلي إلا معي". فقام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن الحضير، فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله - ﷺ - قائم على المنبر، فنزل وخفضهم حتى سكتوا وسكت.
وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتي ويومًا، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك، إذ دخل رسول الله - ﷺ -، فجلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيَّ ما قيل قبلها. وقد مكث شهرًا لا يوحى إليه في شأني شيء.
قالت: فتشهَّد ثم قال: يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب.. تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله - ﷺ - مقالته، قلص دمعي حتى ما أحسُّ منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله - ﷺ - قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - ﷺ -. فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله - ﷺ - فيما قال. قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - ﷺ -. قالت: وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في أنفسكم، وصدقتم به، ولئن قلت لكم: إني بريئة،
247
والله يعلم إني لبريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم إني بريئة منه لتصدِّقُنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف، إذ قال: فصبر جميل، وإلله المستعان على ما تصفون. ثم تحولت على فراشي، وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل الله في شأني وحيًّا، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - ﷺ - في النوم رؤيا يبرئني الله بها. فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي ينزل عليه. فلما سرى عن رسول الله - ﷺ -، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله، فقد برأك الله. فقالت أمى: قومى إلى رسول الله. فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله. فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ الآيات العشر. فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعدما قاله لعائشة. فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لى، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، وكان رسول الله - ﷺ - يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقالت: يا زينب ما علمت ما رأيت؟ فقالت: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرًا. قالت: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله تعالى بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك". الحديث أخرجه البخاري في غير ما موضع. وكذا أخرجه مسلم مختصرًا. والترمذي وغيرهم.
وقال عروة: لم يسم لي من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة، كما قال الله تعالى. قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال:
248
فَإِنَّ أبِيْ وَوَالِدَتِيْ وَعِرْضِيْ لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ...﴾ الآية، سبب (١) نزول هذه الآية: ما أخرجه الطبراني عن الضحاك بن مزاحم، قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي - ﷺ - خاصة، إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني بسند رجاله ثقات، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: هذه الآية نزلت في عائشة حين رماها المنافق بالبهتان والفرية، فبرأها الله تعالى من ذلك.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت، قال: جاءت امرأة من الأنصار ققالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على الحال التي لا أحب أن يرائي عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتيني آت فيدخل علي وأنا على تلك الحال. فكيف أصنع؟ فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ...﴾ الآية. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام، ليس فيها ساكن، فأنزل الله ﴿ليس عليكم جناح...﴾ الآية "القرطبي".
التفسير وأوجه القراءة
١١ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا﴾ واختلقوا ﴿بِالْإِفْكِ﴾؛ أي: بأشد الكذب وأبلغه، وتكلموا به. مأخوذ (٢) من الإفك وهو القلب؛ أي: الصرف؛ لأنه مأفوك عن وجهه وسننه. والمراد به ما أفك على عائشة - رضي الله عنها -، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الأمانة والعفة والشرف، فمن رماها بالسوء.. قلب الأمر عن وجهه. ﴿عُصْبَةٌ﴾ خبر إن؛ أي: جماعة قليلة. ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون، هم زيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعباد بن المطلب وحمنة بنت جحش وهي زوجة طلحة بن عبيد الله وعبد الله بن أبي بن سلول ومن ساعدهم؛ أي: إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة، جماعة كائنة منكم في
(١) لباب النقول.
(٢) روح البيان.
249
كونهم موصوفين بالإيمان وعبد الله بن أبي أيضًا كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرًا، وإن كان رئيس المنافقين خفية.
والمعنى: أي (١) إن الذين جاؤوا بالكذب والبهتان في حق عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون، تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس، لمقاصد لهم أخفوها. والله عليم بما يفعلون. والعصبة والعصابة: جماعة من العشرة إلى الأربعين، وفي التعبير بعصبة: بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون، وأنهم هم الذين ينشرونه، لا أنهم عدد كثير من الناس.
وقوله: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ﴾ كلام مستأنف؛ أي: لا تظنوا أيها المؤمنون ذلك الإفك والكذب ﴿شَرًّا لَكُمْ﴾؛ أي: ضررًا لكم، والخطاب فيه للنبي - ﷺ -، وأبي بكر وعائشة وصفوان، وكل من ساءه ذلك الإفك، تسلية لهم أول الأمر، ﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: لا تظنوا أن فيه فتنة وشرًّا، بل هو خير لكم لاكتسابكم به الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاءً مبينًا ومحنة ظاهرة، وإظهار كرامتكم على الله تعالى بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر في براءتكم وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن يتكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيرًا، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية، والآداب التي لا تخفى على من تأملها.
فإن (٢) قصة الإفك كانت في حق النبي - ﷺ - وفي حق عائشة وأبويها، وفي حق جميع الصحابة امتحانًا لهم وتهذيبًا، فإن البلاء للأولياء كاللهب للذهب، كما قال - ﷺ -: "إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" وقال - ﷺ -: "يبتلى الرجل على قدر دينه"؛ أي: وذلك لأن الله سبحانه غيور على قلوب خواص عباده المحبوبين، فإذا حصلت مساكنة بعضهم إلى بعض.. أجرى الله تعالى ما يرد كل واحد منهم عن صاحبه، ويرده إلى حضرته. وأن النبي - ﷺ - لما قيل له: أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، فساكنها وقال: "يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة".
(١) المراغي.
(٢) المراح.
250
وفي بعض الأخبار أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، إني أحبك وأحب قربك. اهـ. فأجرى الله تعالى حديث أهل الإفك، حتى رد الله سبحانه رسوله عن عائشة إلى الله بانحلال عقدة حبها عن قلبه، ورد عائشة عنه - ﷺ - إلى الله تعالى، حتى قالت لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك.
والشر (١) ما زاد ضره على نفعه، والخير ما زاد نفعه على ضره. وأما الخير الذي لا شر فيه فهو الجنة، والشر الذي لا خير فيه فهو النار. ووجه كونه خيرًا لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين، وصيرورة قصتها هذه شرعًا عامًا.
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ﴾؛ أي: على كل إنسان ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من تلك العصبة. فاللام بمعنى على، والمرء: الإنسان، والرجل كالمرء، والألف فيه للوصل. ﴿مَا اكْتَسَبَ﴾؛ أي: جزاء ما اجترح ﴿مِنَ الْإِثْمِ﴾ والذنب بقدر ما خاض فيه، فإن بعضهم تكلم، وبعضهم كالمسرور الراضي بما سمع، وبعضهم أقل وبعضهم أكثر، فقدر العقاب يكون بقدر الخوض في الإثم، وفي "التأويلات النجمية" على حسب سعايتهم وفساد ظنهم، وهتك حرمة حرم نبيهم يكون عقابهم. انتهى.
﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ﴾؛ أي: تحمل معظم ذلك الإثم وأكثره ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أولئك العصبة؛ أي: والذي ابتدأ به، ورغب في إشاعته، وهو عبد الله بن أبي ﴿له﴾؛ أي: لذلك المتولي ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: شديد في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبإظهار نفاقه على رؤوس الأشهاد، وأما في الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العلم الحكيم، وقد كان وأول من اختلقه لإمعانه في عداوة رسول الله - ﷺ -.
واختلف (٢) في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم. فقيل: هو عبد الله بن أبي، وقيل: هو حسان، والأول هو الصحيح. وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي - ﷺ - جلد في الإفك رجلين وامرأة، وهو مسطح بن أثاثة
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
251
حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وقيل: جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ولم يجلد مسطحًا؛ لأنه لم يصرح بالقذف، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح، وقيل: لم يجلد أحدًا منهم.
قال القرطبي: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء، أن الذين حدُّوا: حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحدٍّ لعبد الله بن أبيّ، ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام النبي - ﷺ - فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم حسان ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وكان مسطح في آخر عمره مكفوف البصر، وهو ابن خالة أبي بكر الصديق، وصار حسان في آخر عمره أعمى أشل اليدين.
واختلفوا في وجه تركه - ﷺ - لجلد عبد الله بن أبيّ. فقيل: لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة، وحَدَّ من عداه؛ ليكون ذلك تكفيرًا لذنبهم. كما ثبت عنه - ﷺ - في الحدود أنه قال: "إنها كفارة لمن أقيمت عليه"، وقيل: ترك حده تألُّفًا لقومه واحترامًا لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين، وأطفاءً لنائرة الفتنة، فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه، كما في "صحيح" مسلم.
وقيل (١): الذي تولى كبره حسان كما تقدم، والعذاب العظيم عناه وحده، وضرب صفوان له بالسيف على رأسه. وقال له:
تَوَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّيْ فَإِنَّنِيْ غُلاَمٌ إِذَا هُوْجِيْتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ
وَلَكِنَّنِيْ أَحْمِيْ حِمَايَ وَأَتقِيْ مِنَ الْبَاهِتِ الرَّامِيْ الْبَرِيْءِ الظَّوَاهِرِ
وأنشد حسان أبياتًا يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُ بِرِيْبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُوْمِ الْغَوَافِلِ
حَلِيْلَةُ خَيْرِ النَّاسِ دِيْنًا وَمَنْصِبًا نَبِيُّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتِ الْفَوَاضِلِ
(١) البحر المحيط.
252
عَقِيْلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ كِرَامِ الْمَسَاعِيْ مَجْدُهَا غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَة قَدْ طَيَّبَ اللهُ خَيْمَهَا وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٍ وَبَاطِلِ
فَإنْ كَانَ مَا بُلَّغْتِ عَنِّيَ قُلْتُهُ فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِيْ إِلَيَّ أَنَامِلِيْ
وَكيفَ وَوِدِّيْ مَا حَيِيْتُ وَنُصْرَتِيْ بِآلِ رَسُوْلِ اللهِ زَيْنِ الْمَحَافِلِ
لَهُ رُتَبٌ عَالٍ عَلَى النَّاسِ فَضْلُهَا تَقَاصَرَ عَنْهَا سُوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ
وقرأ الجمهور: (١) ﴿كِبْرَهُ﴾ بكسر الكاف. وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهشيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف، والكِبْرُ والكُبْرُ مصدران لكَبُرَ الشيء إذا عَظُمَ، لكن استعمال العرب الضم ليس إلا في السن يقال: هذا كبر القوم؛ أي: كبيرهم سنًا أو مكانة، وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة (الكُبر الكُبر) بضم. وقيل: كبره بالضم معظمه، وبالكسر البداءة بالإفك. وقيل: بالكسر الإثم.
ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله - ﷺ - ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات، وعاتبهم وغيرهم وزجرهم بتسعة زواجر:
الأول: هذا.
والثاني: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ...﴾ إلخ.
والثالث: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ...﴾ إلخ.
والرابع: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ...﴾ إلخ.
والخامس: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ...﴾ إلخ.
والساس: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ...﴾ إلخ.
(١) البحر المحيط.
253
والسابع: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ...﴾ إلخ.
والثامن: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...﴾ إلخ.
والتاسع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ...﴾ إلى ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ اهـ. "شيخنا". ذكره في "الفتوحات".
١٢ - قال: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ لولا هنا تحضيضية، بمعنى (هلا) جيء بها تأكيدًا للتوبيخ والتقريع، ومبالغة في معاتبتهم، ومعناها (١): إذا دخلت على الماضي التوبيخ واللوم على ترك الفعل، إذ لا يتصور الطلب في الماضي، وإذا دخلت على المضارع فمعناها الحض على الفعل والطلب له، فهي في المضارع بمعنى الأمر؛ أي: هلا إذ سمعتم الإفك إيها الخائضون؛ أي: الشارعون في القول الباطل ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: بأبناء دينهم ﴿خَيْرًا﴾؛ أي: عفافًا وصلاحًا، وفيه عدول إلى الغيبة لتأكيد التوبيخ فإن مقتضى الإيمان الظن بالمؤمن خيرًا، وذب الطاعنين فيه، فمن ترك هذا الظن والذب، فقد ترك العمل بمقتضى الإيمان.
المراد بأنفسهم أبناء جنسهم ودينهم، النازلون منزلة أنفسهم، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ فإن المراد لا يعيب بعضكم بعضًا، فإن المؤمنين كنفس واحدة إذ كان الواجب أن يظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوا الإفك ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غيره من غير توقف ولا تردد بأمثالهم من آحاد المؤمنين خيرًا؛ أي: كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم، فهو في أم المؤمنين أبعد.
والمعنى: هلا ظن المؤمنون والمؤمنات بامثالهم من المؤمنين خيرًا وعفافًا وقت سماعهم ذلك الإفك، ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: وقال المؤمنون ﴿هَذَا﴾ الإفك المنسوب إلى عائشة - رضي الله عنها - ﴿إِفْكٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: كذب ظاهر بين كونه إفكًا، فكيف بالصديقة بنت الصديق أم المؤمنين حرمة رسول الله - ﷺ -.
(١) روح البيان.
وإنما عدل (١) عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر، ولم يقل: ظننتم بانفسكم خيرًا وقلتم، ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات، وليدل التصريح بلفظ الإيمان، على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه، ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وهذا من الأدب الحسن، الذي قل القائم به والحافظ، وليتك تجد من يسمع فيسكت، ولا يشيع ما سمعه بإخوانه.
وإنما (٢) جاز الفصل بين لولا وفعله بالظرف؛ لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه، ولذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، وذلك لأن ذكر الظرف أهم. فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله؛ أي: هلا إذ سمعتم (٣) ما قال أهل الإفك في عائشة.. ظننتم بمن اتهم بذلك خيرًا وعفافًا؛ لأن الإيمان يحملكم على إحسان الظن ويكفكم عن إساءتكم الظن بأمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم، وهلا قلتم حينئذٍ هذا إفك ظاهر، فإن الذي وقع لم يكن فيه ما يرتاب منه.
ذاك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرةً على راحلة صفوان وقت الظهيرة والجيش أجمعه يشاهد ذلك، ورسول الله بين أظهرهم، ينفي كل شك، وإنما قيل لحسد في القلوب كامن وبغض في النفوس مكتوم.
وقيل المعنى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ أي: هذا (٤) إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ﴾ من العصبة الكاذبة، وهم حسان ومسطح ﴿وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾ وهي حمنة بنت جحش ﴿بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: بأمهاتهم أو بأخواتهم أو بأهل دينهم ﴿خَيْرًا﴾؛ أي: صلاحًا وعفافًا ﴿وَقَالُوا هَذَا﴾ القذف لعائشة ﴿إِفْكٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: كذب ظاهر لا حقيقة له.
١٣ - ثم علّل سبحانه كذب الآفكين، ووبخهم على ما اختلقوه وأذاعوه بقوله (٥):
(١) النسفي.
(٢) البيضاوي.
(٣) المراغي.
(٤) زاد المسير.
(٥) البحر المحيط.
﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ﴾ وهذا إما من تمام ما يقوله المؤمنون؛ أي: وقالوا: هلا جاء الخائضون ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ على ما قالوا، أو ابتداء كلام من الله سبحانه؛ أي: هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة، بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا، وما رموها به؛ أي: يشهدون بأنهم عاينوا ما رموها به. فجعل الله (١) سبحانه فصلًا بين الرمي الصادق والرمي الكاذب ثبوت أربعة شهداء وانتفائها.
وقرأ الضحاك وعاصم الجحدري بأربعة منونة. ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ﴾ الأربعة؛ أي: فحين لم يقيموا بينةً على ما قالوا ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المفسدون الخائضون في الإفك ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: في حكمه وشرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة.. ﴿هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾؛ أي: الكاملون في الكذب المشهود عليه بذلك، المستحقون لإطلاق الاسم عليهم دون غيرهم.
١٤ - ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ ولولا هنا (٢) امتناعية؛ أي: امتناع الشيء لوجود غيره. والخطاب للسامعين والمسلمين جميعًا؛ أي: ولولا تفضله سبحانه عليكم أيها المسلمون ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ بضروب النعم التي من أجلها الإمهال للتوبة ﴿وَ﴾ رحمته لكم في ﴿الْآخِرَةِ﴾ بضروب الآلاء، التي من جملتها العفو والمغفرة بعد التوبة المقدران لكم ﴿لَمَسَّكُمْ﴾ عاجلًا ﴿فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ﴾؛ أي: بسبب الإفك الذي أفضتم وخضتم فيه، فما موصولة، والباء صببية. ويصح أن تكون مصدرية.
والمعنى: حينئذٍ لمسكم بسبب إفاضتكم وخوضكم فيه؛ أي: في الإفك ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ في الدنيا والآخرة؛ أي: شديد يستحقر دونه التوبيخ والجلد الذي وقع لهم، غير ابن سلول فإن عذابه محتم في الآخرة، كما تقدم في قوله: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ...﴾. إلخ؛ أي: لعجل لكم العقاب في الدنيا، من جراء عا خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان.
١٥ - ثم بين سبحانه وقت حلول العذاب الذي كانوا يستحقونه لولا الفضل والرحمة بقوله: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ بحذف إحدى التاءين ظرف للمس أو للإفاضة؛ أي:
(١) زاد المسير.
(٢) روح البيان.
256
أي: لمسكم ذلك العذاب العظيم، وقت تلقيكم واستقبالكم ومواجهتكم ذلك الإفك، وأخذكم إياه من المخترعين ﴿بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ يأخذه ويرويه بعضكم من بعض. وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل، فيقول له: ما وراءك، فيحدثه بحديث الإفك، حتى شاع وانتشر، فلم يبق بيت ولا دار إلا طارَ فيه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تَلَقَّوْنَهُ﴾ بفتح الثلاث وشد القاف، وشد التاء البزي وأدغم ذال إذ في التاء، وكذلك النحويان أبو عمر والكسائي وحمزة؛ أي: يأخذه بعضكم من بعض وقرأ عمر بن الخطاب ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ بتاء واحدة خفيفة مضمومة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مضمومة خلفيفة، من ألقى يلقي. وقرأ معاوية وابن السميقع مثله إلا أنهما فتحا التاء والقاف من لقي الثلاثي، وقرأ ابن مسعود ﴿إذ تتلقونه﴾ بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف. وقرأ ابن بن كعب وعائشة ومجاهد وأبو حيوة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي ﴿تلقونه﴾ بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف. ومعناه: إذ تسرعون بالكذب. يقال: ولق يلق إذا أسرع في الكذب. وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر ﴿تألقونه﴾ بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق. وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني ﴿تيلقونه﴾ بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة، كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا تيجل مضارع وجلت. وقال سفيان: سمعت أمي تقرأ ﴿إذ تثقفونه﴾ يعني مضارع ثقف. قال: وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود.
﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: تقولون بأفواهكم كلامًا مختصًا بالأفواه لا مساعد له من القلوب؛ لأنه ليس تعبيرًا عما تعلمه وتعتقده قلوبكم، وإنما (٢) قيد بالأفواه، مع أن القول لا يكون إلا بالفم؛ لأن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب أولًا، ثم يترجم عنه اللسان. وهذا الإفك ليس إلا قولًا يجري على الألسنة من غير علم به في القلب. نظير قوله تعالى: {يَقُولُونَ
(١) البحر المحيط وزاد المسير.
(٢) النسفي.
257
بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}، وهو حرام لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
والمعنى (١): وتقولون قولًا مختصًا بالأفواه، من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في القلوب؛ لأنه ليس بتعبير عن علم به في قلوبكم؛ أي: إن قولهم هذا مختص بالأفواه، من غير أن يكون واقعًا في الخارج، معتقدًا في القلوب. وقيل: إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله: ﴿ويطير بجناحيه﴾ والضمير في قوله: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ﴾ راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له، وتظنون حديث الإفك ﴿هَيِّنًا﴾؛ أي: شيئًا سهلًا لا تبعة له، أو ليس له كثير عقوبة، أو شيئًا يسيرًا لا يلحقكم فيه إثم، حيث سكتم عن إنكاره.
وجملة قوله: ﴿وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ حال من ضمير المفعول؛ أي: وتحسبون ذلك الإفك هينًا، والحال أنه عند الله عظيم ذنبه وعقابه. وفي كلام بعض السلف: لا تقولن لشيء من سيئاتك نقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وقيل المعنى: وتحسبونه هينًا؛ أي: ذنبًا صغيرًا وهو عند الله عظيم؛ أي: ذنب كبير.
ومعنى الآية (٢): ولولا تفضله ورحمته لكم لمسكم ذلك العذاب وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك، وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه. وقولكم قولًا بأفواه دون أن يكون له منشأ في القلوب يؤيده، وظنكم إياه هينًا سهلًا لا يعبأ به، وهو من العظائم والكبائر عند الله تعالى.
وخلاصة ذلك: أنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها.
١ - تلقي الإفك بالألسنة، فقد كان الرجل يلقى أخاه، فيقول له: ما وراءك، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر، حتى لم يبق بيت ولا نادٍ إلا طار فيه، فهم قد فعلوا جهد المستطاع في نشره.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
258
٢ - أنه قول بلا روية ولا فكر، فهو قول باللسان لا يترجم عما في القلب، إذ ليس هناك علم يؤيده، ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه.
٣ - استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له، وهو عند الله عظيم الوزر، مستحقة لشديد العقوبة.
١٦ - و ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ وهذا عتاب لجميع المؤمنين؛ أي: هلا إذ سمعتم حديث الإفك ﴿قُلْتُمْ﴾ تكذيبًا للخائضين فيه المفترين له ﴿مَا يَكُونُ﴾ وينبغي ﴿لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ الإفك العظيم، ولا يمكننا أن نخوض فيه، ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه ﴿سُبْحَانَكَ﴾؛ أي: ننزهك يا ربنا، عن أن تجعل لنبيك زوجة فاجرة، حالة كوننا متعجبين ممن تفوه بهذا الحديث. ﴿هَذَا﴾ الإفك الذي لا يصح لأحد أن يتكلم به. ﴿بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: كذب عظيم عند الله، التقاول به مصدر بهته؛ أي: قال: عليه ما لم يفعله. كما في "التأويلات النجمية".
وأصل سبحانك (١)، للتعجب من عظم الأمر. ومعنى التعجب في كلمة التسبيح: أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة نبيه فاجرة. وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة، كامرأة نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة؛ لأن النبي - ﷺ - مبعوث إلى الكفار ليدعوهم، فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه، والكفر غير منفر عندهم وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات.
والمعنى: أي (٢) وهلا حين سمعتموه ممن بدأ به، وانتحله، أو ممن تابعه في القول قلتم تكذيبًا له، وتهويلًا لشأن ما ارتكبه من الجرم: لا يحل لنا أن نتكلم بهذا، ولا ينبغي لنا أن نتفوه به. سبحانك رب هذا كذب صراح، يحير السامعين أمره، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس بيت النبوة الذي هو بالعليا من الإجلال والاحترام، وعظيم المكانة. وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة. فماذا يبقى
(١) النسفي.
(٢) المراغي.
259
للمؤمنين بعدئذ، أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة وينبوع الطهر، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين، وشريف الأخلاق، وإنا لنبرأ إليك ربنا منه، أن تلوكه ألسنتنا، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفاك أثيم، سولت له نفسه أن يكون الوسيلة في انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين.
وخلاصة هذا: تنزه ربنا أن يرضى بظلم هؤلاء القاذفين، وأن لا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا، وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق، وأن توسم زوج نبيه بالفجوز، والعقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا؛ لأن فيه إيذاء للنبي - ﷺ - والله يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر الله بسترها، ولأن في إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلقًا بأخلاق الله، والنبي يقول: "تخلقوا بأخلاق الله".
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين ﴿لولا﴾ و ﴿قلتم﴾؟
قلت: للظروف شأن، وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع غيرها. انتهى.
قلت (١): وما ذكره من أدوات التحضيض يوهم أن ذلك مختص بالظرف، وليس كذلك بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل، فتقول: لولا زيدًا ضربت، وهلا عمرًا قتلت.
وقال الزمخشري أيضًا: فإن قلت: فأي فائدةٍ في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلًا؟.
قلت: الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم، أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك وينزجروا عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم. فإن قلت: ما معنى يكون، والكلام بدونه تام، لو قيل: ما لنا أن نتكلم بهذا؟
(١) البحر المحيط.
260
قلت: معناه: ما ينبغي ويصح؛ أي: ما ينبغى لنا أن نتكلم بهذا، ولا يصح لنا. ومثله قوله: ﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾.
١٧ - ثم حذر عباده المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا، فقال: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه الوعظ والنصح والتذكير بالعواقب؛ أي: ينصحكم الله سبحانه، ويذكركم أيها الخائضون في أمر عائشة. ويعظكم بهذه الواعظ، التي بها تعرفون عظم هذا الذنب، وكبر هذا الجرم، وأن فيه النكال والعقاب بالحد في الدنيا، والعذاب في الآخرة، كراهية ﴿أَنْ تَعُودُوا﴾ وترجعوا، أو من أن تعودوا، أو في أن تعودوا. ﴿لِمِثْلِهِ﴾؛ أي: لمثل هذا القذف. ﴿أَبَدًا﴾؛ أي: مدة حياتكم، أو ما دمتم أحياء مكلفين. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: مصدقين بالله وبرسوله وباليوم الآخر، تتعظون بعظات الله، وتأتمرون بأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه، فإن ذلك من مقتضى الإيمان الكامل، فإن الملك من مقتضى الإيمان الكامل. وفي قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إيماء (١) إلى أن الإيمان يمنع من فعل هذا. وفيه (٢) حث لهم على الاتعاظ، وتهييج عظيم، وتقريع بالغ؛ لأن من شأن المؤمن الاحتراز مما يشينه من القبائح.
قال في "الكبير": يدخل في هذا من قال وسمع ولم ينكر، لاستوائهما في فعل ما لا يجوز، وإن كان المقدم أعظم ذنبًا.
١٨ - ﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ﴾؛ أي: ويفصل الله سبحانه وتعالى لأجلكم أيها المؤمنون في كتابه. ﴿الْآيَاتِ﴾ الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب دلالة وأضحة، لتتعظوا وتتأدبوا بها؛ أي: ينزلها مبينة ظاهرة الدلالة على معانيها، لا أنه يبينها بعد أن لم تكن كذلك. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى. ﴿عَلِيمٌ﴾ بأحوال جميع مخلوقاته جلائلها ودقائقها، لا يخفى عليه شيء منها. فيجازي المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبير شؤونكم وفيما كلفكم به، مما فيه سعادتكم في معاشكم ومعادكم. وبه تسمو نفوسكم وترقى إلى عالم الأرواح، وتكونون خير
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
الأمم في ساسات الشعوب وعمارة الأرض وإقامة ميزان العدل بين أفرادها.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ ولقد صدق الله سبحانه وعده، وعمر أسلافنا الأولون ما كان معروفًا في ذلك الحين، وبثوا فيه فضائل الدين وسماحته، حتى صاروا مضرب الأمثال، فلما انحرفوا عن الصراط المستقيم والنهج القويم، تقلص ظلهم، وذهب ريحهم، وصاروا أذلاء مستعبدين، بعد أن كانوا سادةً حاكمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
١٩ - ولما كان من أنفع المواعظ بيان ما يستحقه المذنب من العقاب على جرمه بين ذلك بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ هم عبد الله بن أبيّ ومن تبعه في حديث الإفك ﴿يُحِبُّونَ﴾؛ أي: يريدون ﴿أَنْ تَشِيعَ﴾ وتنتشر ﴿الْفَاحِشَةُ﴾ ويظهر خبرها بين الناس. والفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. والمراد هنا الزنا.
﴿فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، وأخلصوا دينهم لله سبحانه. وأحصنوا فروجهم عن المحرمات، كعائشة وصفوان ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لأولئك الذين أشاعوا الفاحشة بسبب ذلك. ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: موجع بإقامة حدّ القذف عليهم ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ واللعن والذم من الناس لهم فيها. ﴿و﴾ بعذاب النار في ﴿الْآخِرَةِ﴾ وبئس القرار.
قال ابن الشيخ (١): ليس معناه مجرد وصفهم بأنهم يحبون شيوعها في حق الذين آمنوا من غير أن يشيعوا ويظهروا، فإن ذلك لا يوجب الحد في الدنيا، بل المعنى: أن الذين يشيعون الفاحشة والزنا في الذين آمنوا، كعائشة وصفوان عن قصد ومحبة لإشاعتها، وفي "الإرشاد" يحبون شيوعها، ويتصدون مع ذلك لإشاعتها وإنما لم يصرح به اكتفاء بذكر المحبة، فإنها مستتبعة له لا محالة.
وفي "الصحيح": أن رسول الله - ﷺ - قال: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وعنه - ﷺ - أنه قال: "لا يستر عبد
(١) روح البيان.
مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة، ومن أقال عثرة مسلم، أقال الله عثرته يوم القيامة". و ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ﴾ جميع الأمور وخصوصًا ما في ضمائر من أحب الإشاعة، فردوا الأمور إلى ربكم ترشدوا ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾ فلا ترووا ما لا علم لكم به، وابنوا الأمر في الحد وغيره على الظواهر، والله يتولى السرائر.
٢٠ - ثم كرر فضله ورحمته على عباده، للمنة عليهم بترك المعاجلة بالعقاب. فقال: ﴿وَلَوْلَا﴾ هنا امتناعية، حذف جوابها لدلالة ما قبلها عليه؛ أي: ولولا ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾؛ أي: تفضله ﴿عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾؛ أي: إنعامه لكم. وجملة ﴿وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ معطوفة على فضل الله؛ أي: ولولا فضله عليكم ورحمته لكم، وأنه بليغ الرأفة والرحمة بكم، لعاجلكم بالعقاب على ما صدر منكم، ومن رأفته بعباده أن لا يعاجلهم بذنوبهم. ومن رحمته لهم أن يقدم إليهم بمثل هذا الإعذار والإنذار.
وفي الآيتين إشارات:
منها: أن أهل الإفك كما يعاقبون على الإظهار، يعاقبون بإسرار محبة الإشاعة، فدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين، كوجوب كف الجوارح والقول عما يضرهم. وفي الحديث: "أيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة، وهو منها برىء، يرى أن يشينه بها في الدنيا، كان حقًا على الله أن يرميه بها في النار". فالصنيع الذي ذكر من أهل الإفك ليس صنيع أهل الإيمان، فإن من صنيع أهل الإيمان ما قاله عليه السلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا". وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كنفس واحدة، إذا اشتكى منها عضو، تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر". فمن أركان الدين: مظاهرة المسلمين، وإعانة أهل الدين وإرادة الخير بكافة المؤمنين. والذي يود الفتنة وافتضاح الناس فهو شر الخلق كالخناس.
ومنها: أن ترك المعاجلة بالعذاب تعريض للتوبة. فدل على أن عذاب الآخرة، إنما هو من تقدير الإصرار.
ومنها: غاية كرم الله ورحمته وفضله على عباده، حيث يتفضل عليهم، ويرحمهم ويزكيهم عن أوصافهم الذميمة مع استحقاقهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فإنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، ولو كان للعذاب.. لكان من جهتهم بسوء اختيارهم. عصمنا الله وإياكم من الأوصاف الذميمة الموجبة للعذاب الأليم، وشرفنا بالأخلاق الحميدة، الباعثة على الدرجات والتنعمات في دار النعيم.
والمعنى (١): ولولا أن الله تفضل عليكم، وأبقاكم بعد الخوض في الإفك، ومكنكم من التلافي بالتوبة لهلكتم، لكنه لرأفته بعباده لا يدع ما هو أصلح للعبد وإن جنى على نفسه.
٢١ - وبعدئذٍ حذر عباده من اتباع وساوس الشيطان فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾؛ أي: لا تسلكوا سبل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره بإشاعتكم الفحشاء في الذين آمنوا بروايتكم إياها عمَّن نقلها إليكم، والخطوات (٢) في الأصل جمع خطوة بضم الخاء، وهي ما بين القدمين كما سيأتي في مباحث اللغة، ثم استعمل اتباع الخطوات في الاقتداء، وإن لم يكن ثمة خطو. والمراد بها هنا سيرة الشيطان وطريقته. والمعنى: لا تسلكوا الطرق التي يدعوكم إليها الشيطان، ويوسوس بها في قلوبكم ويزينها لأعينكم، ومن جملتها إشاعة الفاحشة في المؤمنين وحبّها.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿خطوات﴾ بضم الخاء والطاء. وقرأ عاصم والأعمش بضم الخاء وإسكان الطاء.
ثم ذكر سبب النهي، فقال: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾؛ أي: ومن اتبع وسلك طرق الشيطان، ومسالكه ومذاهبه.. فقد ارتكب الفحشاء والمنكر. فقوله:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
264
﴿فَإِنَّهُ﴾؛ أي: فإن الشيطان ﴿يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ علة للجزاء موضعه؛ لأن دأبه أن يستمر آمرًا لغيره بهما. والفحشاء ما أفرط قبحه من المنكرات كالزنا. والمنكر كل ما ينكره الشرع. وضمير إنه للشيطان. وقيل: للشأن. والأولى أن يكون عائدًا إلى من يتبع خطوات الشيطان؛ لأن من اتبع الشيطان صار مقتديًا به في الأمر بالفحشاء والمنكر. وعبارة أبي السعود هنا. وقيل: إن الضمير في أنه عائد على من؛ أي: فإن المتبع للشيطان يأمر الناس بهما؛ فإن شأن الشيطان هو الإضلال، فمن اتبعه فإنه يترقى من رتبة الضلال والفساد إلى رتبة الإضلال والإفساد.
والمعنى: أي ومن اتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر، فإنه لا يأمر إلا بهما. ومن هذا شأنه لا ينبغي اتباعه ولا طاعته.
ثم أكد منته على عباده، فقال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ لكم بهذه البيانات، والتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وشرع الحدود المكفرة لها.. ﴿مَا زَكَى﴾؛ أي: ما طهر من دنس الذنوبـ ﴿مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾! ﴿من﴾: الأولى بيانية، والثانية: زائدة، و ﴿أَحَدٍ﴾ في حيز الرفع على الفاعلية. ﴿أَبَدًا﴾؛ أي: آخر الدهر لا إلى نهاية، وجملة ﴿زَكَى﴾ جواب ﴿لَوْلَا﴾ الامتناعية.
والمعنى: أي (١) ولولا فضل الله عليكم ورحمته لكم، بتوفيقكم للتوبة التي تمحو الذنوب، وتغسل أدرانها.. ما طهر أحد منكم من ذنبه ما دام حيًا، وكانت عاقبته النكال والوبال. ولعاجلكم بالعقوبة، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾.
وقال الكسائي (٢): إن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ معترض. وقوله: ﴿مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ جواب لقوله أولًا وثانيًا. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ يفيد (٣) أنهم قد طهروا وتابوا،
(١) المراغى.
(٢) الشوكاني.
(٣) الفتوحات.
265
وهو كذلك يعني: غير عبد الله بن أبيّ، فإنه استمر على الشقاوة حتى هلك. اهـ. شيخنا.
وقرأ الجمهور: ﴿زكى﴾ بالتخفيف. وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بالتشديد؛ أي: ما طهره الله. وقراءة التخفيف أرجح لقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ من عباده بالتفضُّل عليهم، والرحمة لهم؛ أي: ولكن الله جلت قدرته يطهر من يشاء من خلقه بقبول توبتهم من تلك الذنوب، التي اجترحوها تفضلًا منه ورحمة، كما فعل بمن سلم من داء النفاق، ممن وقع في حديث الإفك، كحسان ومسطح وغيرهما. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿سَمِيعٌ﴾ لما تقولون بأفواهكم من القذف وإثبات البراءة. ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في قلوبكم، من محبة إشاعة الفاحشة أو كراهتها، ومجازيكم بكل ذلك. وفي هذا حث لهم على الإخلاص في التوبة، والابتعاد جهد المستطاع عن المعصية، وارتكاب الأوزار والآثام: وتهييج عظيم لعباده التائبين ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه.
٢٢ - ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ﴾؛ أي: ولا يحلف أصحاب الفضل والدرجة في الدين ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿و﴾ أصحاب ﴿السعة﴾ في المال على ﴿أَنْ﴾ لا ﴿يُؤْتُوا﴾ ولا يعطوا شيئًا من الأموال ولا يحسنوا بالإنفاق. فهو على إسقاط الخافض، وتقدير: لا. وهو كثير شائع ﴿أُولِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: أصحاب القرابة. وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى تقدير: لا؛ أي: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم، وإن كانت بينهم شحناء لذنب اقترفوه.
وقوله: ﴿وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (١) صفات لموصوف واحد، جيء بها بطريق العطف، تنبيهًا على أن كلًّا منها علة مستقلة، لاستحقاق الإيتاء؛ لأن الكلام فيمن كان كذلك؛ لأن مسطحًا قريب ومسكين ومهاجر. والمعنى: ولا يحلف أولو الفضل والسعة، على أن لا يعطوا ناسًا جامعين لصفة القرابة
(١) روح البيان.
266
والمسكنة والهجرة نفقة من أموالهم. ومسطح (١) كان ابن خالة أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -، وكان من المهاجرين وممن شهد بدرًا، وكان مسكينًا، وكان ما نسب إليه داعيًا أبا بكر أن لا يحسن إليه، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح.
وقرأ الجمهور: ﴿وَلَا يَأْتَلِ﴾. وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم والحسن وأبو العالية وابن أبي عبلة. ﴿ولا يتأل﴾ بهمزة مفتوحة بين التاء واللام وتشديد اللام على وزن يتعل. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهشيم: ﴿أن تؤتوا﴾ بالتاء على الالتفات ويناسبه ﴿ألا تحبون﴾.
﴿وَلْيَعْفُوا﴾؛ أي: وليتجاوز أولو الفضل عن ذنب الخائضين، الذي أذنبوه عليهم، وجنايتهم التي اقترفوها، من عفا الربع إذا درس. والمراد: محو الذنب، حتى لا يبقى له أثر. ﴿وَلْيَصْفَحُوا﴾؛ أي: وليعرضوا عن لومهم بالإغضاء عن الجاني، والإغماض عن جنايته.
قال الراغب: الصفح ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو. وقد يعفو الإنسان ولا يصفح. اهـ. وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد ﴿ولتعفوا ولتصفحوا﴾ بالتاء بأمر خطاب الحاضرين.
أي (٢): وليتركوا عقوبتهم على ذلك، بحرمانهم مما كانوا يؤتونهم، وليعودوا لهم إلى مثل الذي كان لهم عليهم من الأفضال. ثم ذكر سبحانه ترغيبًا عظيمًا لمن عفا وصفح فقال: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ بهمزة الاستفهام التوبيخي؛ أي: ألا تحبون يا أرباب الفضل والسعة، أن يستر الله عليكم ذنوبكم بأفضاله عليكم، والجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح الله عنك. فحينئذٍ قال الصديق: بلى والله، نحب أن يغفر لنا ربنا. ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وكفر عن يمينه. وقال والله لا أنزعها منه أبدًا. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿غَفُورٌ﴾ لذنوب من أطاعه واتبع أمره.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
267
﴿رَحِيمٌ﴾ به، لا يعذبه على ما كان له من زلة قد استغفر منها وتاب إليه من فعلها، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم. وفي هذا ترغيب عظيم في العفو، ووعد كريم عليه بالمغفرة من الذنوب. وحث على مكارم الأخلاق.
وفي "معجم الطبراني الكبير" أنه أضعف له النفقة التي كان يعطيه إياها قبل القذف؛ أي: أعطاه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك. وقال بعضهم:
مَنْ كَانَ يَرْجُوْ عَفْوَ مَنْ فَوْقَهُ فَلْيَعْفُ عَنْ ذَنْبِ الَّذِيْ دُوْنَهُ
٢٣ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُون﴾؛ أي: يقذفون بالزنا ﴿الْمُحْصَنَاتِ﴾؛ أي: العفائف مما رمين به من الفاحشة والزنا، وأجمعوا على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حدّ القذف. ﴿الْغَافِلَاتِ﴾ عن الفاحشة على الإطلاق، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها، ولا من مقدماتها أصلًا. ففيها من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس من المحصنات ﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾؛ أي: المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات، والمحظورات وغيرها، إيمانًا حقيقيًا تفصيليًا، كما ينبىء عنه تأخير المؤمنات عما قبلها، مع أصالة وصف الإيمان. والمراد بها عائشة الصديقة - رضي الله عنها -. والجمع باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة، والانتساب إلى رسول الله - ﷺ - كما في قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥)﴾ ونظائره.
وجملة قوله: ﴿لُعِنُوا﴾ خبر ثان؛ أي (١): لعنوا وطردوا من رحمة الله تعالى بسبب ما قالوا في المحصنات وهتكوا حرمتهن ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾؛ حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبدًا. وأصل اللعنة: الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع عن قبول فيضه وتوفيقه، ومن الإنسان دعاء على غيره.
﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: لأولئك الرامين مع ما ذكر من اللعن الأبدي ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
(١) روح البيان.
268
لعظم ذنوبهم. قال مقاتل: هذا خاص في عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق.
وفي "الشواكاني" وقد (١) اختلف في هذه الآية، هل هي خاصة أم عامة؟ فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة - رضي الله عنها -. وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أبي رأس المنافقين. وقال الضحاك والكلبي: هذه الآية هي في عائشة وسائر أزواج النبي - ﷺ - دون سائر المؤمنون والمؤمنات، فمن قذف إحدى أزواج النبي - ﷺ -، فهو من أهل هذه الآية.
قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية: أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه - ﷺ -. ومن قذف غيرهن.. فقد جعل الله له التوبة، كما تقدم في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ وقيل: إن هذه الآية خاصة بمن أصر على القذف، ولم يتب. وقيل: إنها تعم كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين. واختاره الناس. وهو الموافق لما قرره أهل الأصول، من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل: إنها خاصة بمشركي مكة؛ لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إنما خرجت لتفجر. قال أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة.. فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد وهجر سائر المؤمنين لهم وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين. وإن كان المراد من قذف عائشة خاصة، كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبي رأس المنافقين. وإن كان في مشركي مكة فإنهم ملعونون.
وقيل المعنى (٢): ﴿لُعِنُوا﴾؛ أي: عذبوا ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ بالحد وفي ﴿وَالْآخِرَةِ﴾ بالنار ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هو عذاب الكفر.
والخلاصة: أي (٣) إن الذين يتهمون بالفاحشة العفيفات الغافلات عنها، المؤمنات بالله ورسوله يبعدون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، ولهم في الآخرة عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم، فهم مصدر قالة السوء في المؤمنات،
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
269
وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، والقدوة السيئة لمن يتكلم بها، فعليهم وزرها ووزر من تكلم بها. كما ورد في الحديث "من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
٢٤ - ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ هذه الجملة مقررة لما قبلها، مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم وتعيين اليوم لزيادة التهويل، بما فيه من العذاب الذي لا يحيط به وصف. والعامل في الظرف الاستقرار الذي تعلق به الخبر، والتقدير: وعذاب عظيم كائن لهم، ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ﴾ إلخ. وإنما (١) لم يجعل منصوبًا بالمصدر وهو عذاب؛ لأن شرط عمله عند البصريين أن لا يوصف وهنا قد وصف، وأجيب عن هذا، بأن الظرف يتسع فيه ما لا يتسع في غيره. اهـ. من "السمين".
وتقديم (٢) ﴿عَلَيْهِمْ﴾ على الفاعل، للمسارعة إلى بيان كون الشهادة ضارة لهم. والشهادة معناها: قول صادر عن علم، حصل بمشاهدة بصر، أو بصيرة؛ أي: تشهد عليهم ألسنتهم بغير اختيار منهم ذنوبهم التي اقترفوها. فالمشهود به محذوف. وهذا قبل أن يختم على أفواههم، فلا تعارض بينه وبين قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾ ﴿وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فتخبر كل جارحة بما صدر من أفاعيل صاحبها، لا أن كلاً منها تخبر بجنايتها المعهودة فقط. فالموصول عبارة عن جميع أعمالهم السيئة.
وقيل المعنى (٣): تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم. وقيل: تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم، بما تكلموا به، وأيديهم وأرجلهم بما عملوا بها في الدنيا. وأن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم.
وقرأ الأخوان (٤) حمزة والكسائي والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان ﴿يشهد﴾ بياء من تحت؛ لأنه تأنيث مجازي، ووقع الفصل، وباقي السبعة بالتاء.
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
أي: ولهم (١) ذلك العذاب الذي لا يقدر قدره، يوم يجحدون ما اكتسبوا في الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، من قول أو فعل. إذ ينطقها الله سبحانه بقدرته، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ﴾.
وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي - ﷺ - قال: "إذا كان يوم القيامة، عرف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول: كذبوا. فيقال: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا. فيقال: احلفوا فيحلفون. ثم يصمهم الله، فتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، ثم يدخلهم النار". ويرى فريق من المفسرين أن الشهادة هنا ليست الشهادة باللسان، لئلا يعارض قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾ بل شهادة الإثبات والبيان. إذ كل ما يعمله الإنسان في الدنيا من قول أو فعل تنطبع له صورة على العضو الذي فعله، فالكلمة يقولها تنطبع لها صورة على اللسان، واليد التي تمتد لفعل شيء والرجل التي تخطو إلى عمل، كل ذلك يحفظ على نفس الجارحة التي فعلته، فما أشبه ذلك بالصور التي تؤخذ اليوم لأصابع المجرمين وبصمات أيديهم وأرجلهم في فلم تحقيق الشخصية للرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى ضبط أولئك المجرمين. فما ينطبع إذ ذاك على اللسان واليد والرجل يكون كافيًا جد الكفاية في إثبات الجرم على أولئك المجرمين والطغاة الظالمين.
٢٥ - ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة. ﴿يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾؛ أي: يعطيهم الله سبحانه جزاءهم الحق الثابت، الذي لا شك في ثبوته على أعمالهم موفرًا كاملًا. والتوفية (٢) بذل الشيء وافيًا. والواقي الذي بلغ التمام والدين الجزاء والحق منصوب على أنه صفة للدين.
والمعنى: أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
271
الثابت الواجب الذي هم أهله وافيًا كاملًا. ﴿وَيَعْلَمُونَ﴾ عند معاينتهم الأهوال والخطوب ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿هُوَ الْحَقُّ﴾؛ أي: الثابت الوجود ﴿الْمُبِينُ﴾؛ أي: الظاهر حقيته، لما أنه أبان لهم حقية ما كان يعدهم به في الدنيا من الجزاء.
والخلاصة (١): أي في هذا اليوم يوفيهم الله جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن ما كانوا يوعدون به في حياتهم الدنيا من العذاب هو الحق الذي لا شك فيه. ويزول عنهم كل ريب كان قد ألم بهم في الدار الأولى.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما من يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". رواه الشيخان.
قال صاحب "الكشاف": ولو قلبت القرآن كله، وفتشت عما أوعد به العصاة، لم تر أن الله قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة - رضوان الله عليها -، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة، كل واحد منها كافٍ في بابه. ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث.. لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعًا، وتوعدهم بالعظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا. وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله. اهـ.
وقرأ زيد بن علي (٢): ﴿يُوَفِّيهِمُ﴾ مخففًا من أوفى، وقرأ من عداه: بالتشديد من وفي. وقرأ الجمهور ﴿الحق﴾ بالنصب صفة لدينهم. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة: بالرفع على أنه صفة للجلالة. وروي ذلك عن ابن مسعود. قال أبو عبيدة: ولولا كراهة خلاف الناس.. لكان الوجه الرفع، ليكون نعتًا لله عز وجل، ولتكون موافقة لقراءة أبيّ. وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبي
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
272
﴿يوفيهم الله الحق دينهم﴾ قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضي؛ لأنه احتج بما هو مخالف للسواد إلأعظم، ولا حجة فيه أيضًا؛ لأنه لو صح أنه مصحف أبي كذلك جاز أن يكون دينهم بدلًا من الحق.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: ﴿هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾؟ قلت: معناه: ذو الحق المبين، العادل الذي لا ظلم في حكمه، والمحق الذي لا يوصف بباطل، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء، ولا إحسان محسن. فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه. انتهى.
وفي الآية أمور (١):
منها: بيان جواز اللعنة على من كان من أهلها. قال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: الصفات المقتضية للعن ثلاث: الكفر، والبدعة، والفسق. وله في كل واحدة، ثلاث مراتب:
الأولى: اللعن بالوصف الأعم، كقولك: لعنة الله على الكافرين، أو المبتدعة، أو الفسقة.
والثانية: اللعن بأوصاف أخص منه، كقولك: لعنة الله على اليهود والنصارى، أو على القدرية والخوارج والروافض، أو على الزناة، والظلمة وآكل الربا. وكل ذلك جائز، ولكن في لعن بعض أصناف المبتدعة خطر؛ لأن معرفة البدعة غامضة، فما لم يرد فيه لفظ مأثور ينبغي أن يمنع منه العوام؛ لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله، ويثير نزاعًا وفسادًا بين الناس.
والثالثة: اللعن علي الشخص، فينظر فيه، إن كان ممن ثبت كفره شرعًا، فيجوز لعنه إن لم يكن فيه أذى على مسلم، كقولك: لعنة الله على النمرود وفرعون وأبي جهل؛ لأنه ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر، وعرف ذلك شرعًا. ان كان ممن لم يثبت حال خاتمته بعد، كقولك: زيد لعنه الله، وهو يهودي أو
(١) روح البيان.
273
فاسق، فهذا فيه خطر؛ لأنه ربما يسلم، أو يتوب فيموت مقربًا عند الله تعالى، فكيف يحكم بكونه ملعونًا.
ومنها: شهادة الاْعضاء، وذلك بإنطاق الله تعالى، فكما تشهد على المذنبين بذنوبهم تشهد للمطيعين بطاعتهم، فاللسان يشهد على الإقرار وقراءة القرآن، واليد تشهد بأخذ المصحف، والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد، والعين تشهد بالبكاء، والأذن تشهد باستماع كلام الله تعالى. وقيل (١): شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة، وشهادتها في المحبة اليوم معجلة من صفرة الوجه وتغير اللون ونحافة الجسم وانسكاب الدموع وخفقان القلب وغير ذلك.
٢٦ - ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة، فقال: ﴿الْخَبِيثَاتُ﴾ من النساء ﴿لِلْخَبِيثِينَ﴾ من الرجال لا يتجاوزونهم ﴿وَالْخَبِيثُونَ﴾ من الرجال ﴿لِلْخَبِيثَاتِ﴾ من النساء؛ لأن المجانسة من دواعي الألفة ودوام العشرة ﴿وَالطَّيِّبَاتُ﴾ من النساء ﴿لِلطَّيِّبِينَ﴾ من الرجال، لما قد عرفت من الإنس بمن يحاكيك في الصفات، ويجانسك في الفضل والكمال. ﴿وَالطَّيِّبُونَ﴾ منهم أيضًا ﴿لِلطَّيِّبَاتِ﴾ منهن، لا تجاوزوهن إلى من عداهن. وإذا كان رسول الله - ﷺ - من أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين.. استبان أن الصديقة - رضي الله عنها - من أطيب الطيبات، واستبان بطلان ما أشاعه المرجفون من أهل الإفك.
قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين (٢): المعنى: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل. قال الزجاج: ومعناه: لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء. ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء. وهذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبيث، ومدح للذين برؤوها.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
274
وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً﴾. فالخبيثات الزواني والطيبات العفائف. وكذا الخبيثون والطيبون.
والإشارة في قوله: ﴿أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ راجعة إلى الطيبين والطيبات؛ أي: أولئك الطيبون والطبيات، ومنهم صفوان وعائشة مبرؤون مما يقول الخبيثون من الرجال والخبيثات من النساء. وقيل: الإشارة إلى أزواج النبي - ﷺ - وقيل: إلى رسول الله - ﷺ - وعائشة وصفوان بن المعطل. وقيل: عائشة وصفوان فقط. قال الفراء: وجمع كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ والمراد أخوان.
وقال في "الأسئلة المقحمة" (١): آية الإفك نزلت في عائشة وصفوان، فكيف ذكرها بلفظ الجمع؟ والجواب: لأن الشين وعار الزنا والمعرة بسببه تتعدى إلى رسول الله - ﷺ -؛ لأنه زوجها وإلى أبي بكر الصديق؛ لأنه أبوها، وإلى عامة المسلمين؛ لأنها أمهم، فذكر الكل بلفظ الجمع؛ أي: أولئك الموصوفون بعلو الشأن، يعني أهل البيت مبرؤون؛ أي: منزهون مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة في جميع الأعصار والأطوار إلى يوم القيامة. ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لأولئك المبرئين ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب التي اقترحوها من قبل. ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾؛ أي: كثير أو حسن عند ربهم في جنات النعيم.
روي: أن (٢) عائشة كانت افتخرت بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها:
منها: أن جبريل عليه السلام أتى بصورتها في سرقة حرير، وقال: هذه زوجتك. وروي أنه أتى بصورتها في راحته.
ومنها: أن النبي - ﷺ - لم يتزوج بكرًا غيرها، وقبض رسول الله - ﷺ - في حجرها وفي يومها ودفن في بيتها. وكان ينزل عليه الوحي وهي معه في اللحاف. ونزلت براءتها من السماء. وأنها ابنة الصديق وخليفة رسول الله - ﷺ -. وخلقت
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
275
طيبة، ووعدت مغفرةً ورزقًا كريمًا، وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله - ﷺ -، المبرأة من السماء.
وفي "القرطبي": قال (١) بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام، لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد. وأن مريم لما رميت بالفحشاء برأها الله على لسان ولدها عيسى عليه السلام، وأن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله بالقول، ما رضي لها براءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. اهـ.
٢٧ - ولما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان، لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء. فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين. وأيضًا أن الإنسان يكون في بيته وتكون خلوته على حالة قد لا يحب أن يراه عليها غيره. فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية هي قوله: ﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا﴾ لستم تملكونها ولا تسكنونها ﴿غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ التي تسكنونها بملك أو إجارة، أو إعارة مثلًا.
ووصف (٢) البيوت بمغايرة بيوتهم خارجة مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه، وإلا فالمؤجر والمعير لا يدخلان إلا بإذنٍ ﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾؛ أي: حتى تستأذنوا الدخول ممن يملك الإذن من أصحابها، وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، وحتى يؤذن لكم. فالدخول بالإذن من الآداب الجميلة والأفعال المرضية المستتبعة لسعادة الدارين، مأخوذ من الاستئناس، بمعنى الاستسلام من آنس الشيء إذا أبصره مكشوفًا فعلم به، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو لا. ومن الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش، لما أن المستأنس مستوحش، خائف أن لا يؤذن له، فإذا أذن له.. استأنس، ولهذا يقال في جواب القادم المستأذن مرحبًا: أهلًا وسهلًا؛ أي:
(١) القرطبي.
(٢) روح البيان.
276
وجدت مكانًا واسعًا وأتيت أهلًا لا أجانب، ونزلت مكانًا سهلًا لا حزنًا ليزول به استيحاشه وتطيب نفسه. فيؤول المعنى إلى أن يؤذن لكم، فهو من باب الكناية، حيث ذكر الاستئناس اللازم وأريد الإذن الملزوم.
﴿وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾؛ أي: على سكانها عند الاستئذان، بأن يقول الواحد منكم: السلام عليم، أأدخل - ثلاث مرات - فإن أذن له، دخل وسلم ثانيًا، وإلا رجع. كما ورد في الحديث. وقال عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم. والظاهر مطلق الاستئذان، فيكفي فيه المرة الواحدة. وفي الحديث الاستئذان ثلاث يعني كمالُهُ فإن أذِنَ له وإلا فليرجع، ولا يزيد على ثلاث، إلا أن يتحقق أن من في البيت لم يسمع. ذكره في "البحر".
واختلفوا هل (١) يقدم الاستئذان على السلام أو بالعكس. فقيل: يقدم الاستئذان، فيقول: أأدخل، سلام عليكم، لتقديم الاستئناس في الآية على السلام. وقال الأكثرون: يقدم السلام على الاستئذان. فيقول السلام عليكم أأدخل. وهو الحق؛ لأن البيان منه - ﷺ - للآية كان هكذا. وتقدير الآية: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وهو كذلك في مصحف ابن مسعود. ويكون كل من السلام والاستئذان ثلاث مرات يفصل بين كل مرتين بسكونٍ يسير، فالأول: إعلام، والثاني: للتهيء، والثالث: استئذان في الدخول أو الرجوع. وإذا أتى الباب، لم يستقبله من تلقاء وجهه، بل يجيء من جهة ركنه الأيمن أو الأيسر. وقيل: إن وقع بصره على أحد في البيت، قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان ثم يسلم. اهـ. "خازن".
وروى (٢) الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: استأذنت على النبي - ﷺ - فقال: من هذا؟ فقلت: أنا. فقال النبي - ﷺ -: أنا أنا. كأنه كره ذلك. قال علماؤنا: إنما كره النبي - ﷺ - ذلك؛ لأن قوله: أنا لا يحصل به تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه، كما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأبو
(١) الخازن بتصرف.
(٢) القرطبي.
277
موسى الأشعري؛ لأن في ذكر الاسم إسقاط كلمة السؤال والجواب، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - ﷺ - وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟ وفي "صحيح مسلم" أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري. الحديث اهـ. من "القرطبي".
وقد أدب الله سبحانه عباده المؤمنين بآداب نافعة في بقاء الود وحسن العشرة بينهم ومن ذلك: أن لا يدخلوا بيوت غيرهم إلا بعد الاستئذان والسلام، حتى لا يطلعوا على عورات غيرهم، ولا ينظروا إلى ما لا يحل لهم النظر إليه، ولا يقفوا على الأحوال التي يطويها الناس في العادة، ويستحفظون من اطلاع أحد عليها، إلى أن في هذا تصرفًا في ملك غيرك، فلا بد أن يكون برضاه.
﴿ذَلِكُمْ﴾ الاستئذان والتسليم والانتظار حتى يؤذن لكم. ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من (١) الدخول بغتة بغير استئذان، ولو على الأم، فإنها تحتمل أن تكون عريانة. أو من الدخول على عادة الجاهلية، حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتًا غير بيته، يقول: حييتم صباحًا، حييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد.
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ متعلق بمحذوف تقديره: أمرتكم بالاستئذان كي تذكروا وتتعظوا وتعلموا بموجبه. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد اهـ. "مراح".
واعلم: أن (٢) السلام من سنة المسلمين، وهو تحية أهل الجنة، ومجلبة للمودة، وناف للحقد والضغينة. روي عنه عليه السلام قال: "لما خلق الله تعالى آدم، ونفخ فيه الروح، عطس، فقال: الحمد لله، فقال الله تعالى: يرحمك ربك يا آدم. اذهب إلى هؤلاء الملائكة وملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه. قال: هذه تحيتك وتحية ذريتك".
(١) أبو السعود.
(٢) روح البيان.
278
ثم اعلم: أنه إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق، أو قتل نفس بغير حق، أو ظهور منكر يجب إزالته، فحينئذ لا يجب الاستئذان والتسليم، فإن كان ذلك مستثنى بالدليل، وهو ما قاله الفقهاء: من أن مواقع الضرورات مستثناة من قواعد الشرع؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. قال صاحب "الكشاف": وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة، قد تركوا العمل بها، وباب الاستئذان من ذلك. اهـ.
٢٨ - ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا﴾؛ أي: في تلك البيوت ﴿أَحَدًا﴾ ممن يملك الإذن، على أنَّ من لا يمكله من النساء والولدان والعبيد وجدانه كفقدانه، فلا يدخله حتى يأذن له من يملك الإذن، وهو رب الدار، أو لم تجدوا فيها أحدًا أصلًا. ﴿فَلَا تَدْخُلُوهَا﴾ فاصبروا ﴿حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾؛ أي (١): من جهة من يملك الإذن عند إتيانه، فإن في دخول بيت فيه النساء والولدان اطلاعٌ على العورات، وفي دخول البيوت الخالية اطلاعٌ على ما يعتاد الناس إخفاءه، مع أن التصرف في ملك الغير محظور مطلقًا. والمعنى: إن لم تجدوا في البيوت التي لغيركم أحدًا ممن يستأذن عليه فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بدخولها من جهة من يملك الإذن.
والظاهر (٢): أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله: ﴿غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾.
﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ﴾؛ أي: وإن قال لكم أهل البيت الذي تستأذنون فيه، ﴿ارْجِعُوا﴾؛ أيْ انصرفوا، ﴿فَارْجِعُوا﴾؛ أي: فاذهبوا ولا تقفوا على أبواب الناس؛ أي: إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع، سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أم لا، فارجعوا ولا تلحُّوا بتكرير الاستئذان. كما في الوجه الأول، أو لا تلحُّوا بالإصرار على الانتظار على الأبواب إلى أن يأتي الإذن، كما في الثاني. فإنَّ ذلك مما يجلب الكراهة في قلوب الناس، ويقدح في المروءة أيَّ قدحٍ.
﴿هُوَ﴾؛ أي: الرجوع والانصراف ﴿أَزْكَى﴾ وأطهر ﴿لَكُمْ﴾ مما لا يخلو عنه
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
الوقوف على الأبواب من دنس الدناءة والرزانة. وأفضل لكم في دينكم ودنياكم؛ لأن رب الدار قد يستوحش ويتأذى بوقوف غيره على بابه بعد منع الاستئذان. ولما في ذلك من الدناءة والتسكع على بيوت الناس، وربما ظُنَّ بأهل البيت سوءٌ من وقوف الأجانب على أبوابهم، ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ لا تخفى عليه من أعمالكم خافية، فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه، فيجازيكم عليه. وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت، وطلب الدخول على غيره، والنظر لما لا يحل.
٢٩ - ولما بين سبحانه حكم البيوت المسكونة.. بين حكم البيوت غير المسكونة، فقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿جُنَاحٌ﴾؛ أي: إثم ولا حرج في ﴿أَنْ تَدْخُلُوا﴾ بغير استئذان ﴿بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾؛ أي: غير معدة لمسكنى قوم معينين، وطائفة مخصوصة فقط، بل هي معدة لينتفع ويتمتع بها من يحتاج ويضطر إليها كائنًا من كان، من غير أن يتخذها سكنًا. كالفنادق والحوانيت والحمامات والرُّبَط ونحوها؛ فإنها معدة لمصالح الناس كافةً، كما ينبىء عنه قوله تعالى: ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ فإنه صفة للبيوت؛ أي: لكم فيها حق التمتع والانتفاع بها، كالمبيت فيها والاستكنان بها من الحر والبرد، وإيواء الأمتعة والرحال، والشراء والبيع، والاغتسال فيها، وغير ذلك مما يليق بحال البيوت وداخلها، كقضاء حاجة الإنسان من البول والغائط. فلا بأس في دخولها بغير استئذان من قُوَّام الرباطات وأصحاب الحوانيت ومتصرفي الحمامات ونحوهم؛ لأن السبب الذي لأجله منع دخول البيت وهو الاطلاع على عورات الناس والوقوف على أسرارهم غير موجود فيها.
روي: أن أبا بكر قال: يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا لنختلف في تجارتنا، فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾؛ أي: ما تظهرون بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة. ﴿وَمَا تَكْتُمُونَ﴾؛ أي: ما تضمرون من حب الاطلاع على عورات الناس، أو من قصد
280
ريبة أو فساد، وفيه وعيد لمن لم يتأدب بآداب الله في دخول بيوت الغير.
الإعراب
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِين﴾: ناصب واسمه. ﴿جَاءُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِالْإِفْكِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جاء﴾. ﴿عُصْبَةٌ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: صفة لـ ﴿عُصْبَةٌ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَحْسَبُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿شَرًّا﴾: مفعول ثان لحسب. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿شَرًّا﴾. والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتسلية النبي - ﷺ -، ولكل من تأسف بذلك الإفك. ﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب. ﴿هُوَ خَيْرٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية. ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لامرىء. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿اكْتَسَبَ﴾: فعل ماض وفاعله، ضمير مستتر يعود على ﴿امْرِئٍ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوذف تقديره: ما اكتسبه. ﴿مِنَ الْإِثْمِ﴾: جار ومجرور حال من العائد المحذوف. ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الذي﴾: مبتدأ. ﴿تَوَلَّى كِبْرَهُ﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول صلة الموصول. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿تَوَلَّى﴾. ﴿له﴾: خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ ثان مؤخر. ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾. والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، أعني الموصول، وجملة الأول مستأنفة.
﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)﴾.
﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلا، متضمن معنى الزجر والتوبيخ. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، متعلق
281
بـ ﴿ظَنَّ﴾ الذي هو مدخول ﴿لَوْلَا﴾. ﴿سَمِعْتُمُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾: معطوف على ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾. ﴿بِأَنْفُسِهِمْ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الأول لـ ﴿ظن﴾. ﴿خَيْرًا﴾: مفعول ثان له، وجملة ﴿ظَنَّ﴾: مستأنفة. ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿ظَنَّ﴾. ﴿هَذَا إِفْكٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿مُبِينٌ﴾: صفة ﴿إِفْكٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾.
﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣)﴾
﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلا أيضًا. ﴿جَاءُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿شهداء﴾. ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جَاءُوا﴾، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ ﴿الْكَاذِبُونَ﴾. ﴿لَمْ يَأْتُوا﴾: جازم وفعل مجزوم وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿بِالشُّهَدَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿يَأْتُوا﴾ ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِذْ﴾. ﴿أولئك﴾: مبتدأ. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿الْكَاذِبُونَ﴾. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْكَاذِبُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب ﴿إِذْ﴾. وجملة ﴿إِذْ﴾ مع جوابها معطوفة على جملة ﴿لَوْلَا جَاءُوا﴾.
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤)﴾.
﴿وَلَوْلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وَلَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود. ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾. ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾: معطوف على ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور، حال من الفضل والرحمة. ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: معطوف على الدنيا، والتقدير: حالة كونهما كائنين في الدنيا والآخرة، وخبر ﴿لَوْلَا﴾ محذوف وجوبًا لقيام جواب ﴿لَوْلَا﴾ مقامه تقديره: موجودان، والجملة الاسمية شرط لـ ﴿لَوْلَا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَمَسَّكُمْ﴾
282
(اللام): رابطة لجواب ﴿لَوْلَا﴾. ﴿مسكم﴾: فعل ومفعول. ﴿فِي﴾: حرف جر وسبب. ﴿مَا﴾: موصولة في محل الجر بـ ﴿فِي﴾. الجار والمجرور متعلق بـ ﴿مسكم﴾. ﴿أَفَضْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيه﴾: متعلق به والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير ﴿فيه﴾. ﴿عَذَابٌ﴾: فاعل لـ ﴿مسكم﴾. ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْلَا﴾، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ معطوفة على جملة ﴿لَوْلَا﴾ الأولى.
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى، متعلق بـ ﴿أَفَضْتُمْ﴾، أو بـ ﴿مسكم﴾. ﴿تَلَقَّوْنَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول. والجملة في محل الخفض، مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَلَقَّوْنَهُ﴾. ﴿وَتَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَلَقَّوْنَهُ﴾. ﴿بِأَفْوَاهِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تقولون﴾. ﴿مَا﴾: موصولة في محل النصب مفعول ﴿تقولون﴾؛ لأنه بمعنى تذكرون. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَكُمْ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿عِلْمٌ﴾. ﴿عِلْمٌ﴾: اسم ﴿لَيْسَ﴾، وجملة ﴿لَيْسَ﴾: صلة ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَتَحْسَبُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به أول. ﴿هَيِّنًا﴾: مفعول ثان. والجملة معطوفة على جملة ﴿لَيْسَ﴾. ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: واو الحال. ﴿هو﴾: مبتدأ. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: حال من ﴿عَظِيمٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿عَظِيمٌ﴾: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من المفعول ﴿تحسبونه﴾.
﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧)﴾.
﴿وَلَوْلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لولا﴾: حرف تحضيض وتوبيخ. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿قُلْتُمْ﴾. ﴿سَمِعْتُمُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿قُلْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَكُونُ﴾: فعل ناقص. ﴿لَنَا﴾: خبر ﴿يَكُونُ﴾ مقدم. ﴿أَنْ﴾: حرف
283
نصب. ﴿نَتَكَلَّمَ﴾: في تأويل مصدر مرفوع، على كونه اسم ﴿يَكُونُ﴾ والتقدير: ما يكون التكلم بهذا كائنًا لنا. وجملة ﴿يَكُونُ﴾: في محل النصب مقول ﴿قُلْتُمْ﴾. ﴿بِهَذَا﴾ متعلقان بـ ﴿نَتَكَلَّمَ﴾ ﴿سُبْحَانَكَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف، تقديره: نسبحك سبحانًا. والجملة المحذوفة، في محل النصب مقول ﴿قُلْتُمْ﴾، أو حال من فاعل ﴿قُلْتُمْ﴾، والتقدير: هلا قلتم، ما ينبغي لنا، أن نتكلم بهذا، حال كونكم متعجبين من هذا الأمر، العجيب الغريب. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿بُهْتَانٌ﴾: خبر. ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة ﴿بُهْتَانٌ﴾. والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْتُمْ﴾. ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿أَنْ تَعُودُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن المصدرية، والجملة في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض المتعلق بـ ﴿يَعِظُكُمُ﴾، والتقدير: يعظكم من عودكم لمثله أبدًا. ﴿لِمِثْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَعُودُوا﴾. ﴿أَبَدًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تَعُودُوا﴾ أيضًا. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبر، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنتم مؤمنين، فلا تعودوا لمثله. وجملة الشرط مستأنفة.
﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)﴾.
﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَعِظُكُمُ﴾. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿يبين﴾. ﴿الْآيَاتِ﴾: مفعول به. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر أول. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يبين﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يُحِبُّونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية. والجمله في تأويل مصدر منصوب على المفعولية. والتقدير: إن الذين يحبون شيوع الفاحشة. ﴿فِي الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَشِيعَ﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: صفة ثانية لـ ﴿عَذَابٌ﴾. ﴿وَالْآخِرَةِ﴾:
284
معطوف على ﴿الدُّنْيَا﴾. والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع، خبر ﴿أن﴾. وجملة ﴿أن﴾: مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَأَنْتُمْ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿لَا تَعْلَمُون﴾: خبره. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾.
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠)﴾.
﴿وَلَوْلَا﴾: ﴿الواو﴾: اسئنافية. ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود. ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾: مبتدأ. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾: معطوف على ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾. وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا، تقديره: موجودات. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان. وجملة ﴿أَن﴾ في تأويل مصدر معطوف على ﴿فَضْلُ﴾؛ أي: وكون الله رؤوفًا رحيمًا موجودًا. وجواب ﴿لَوْلَا﴾ محذوف، تقديره: لعاجلكم بالعقوبة. وجملة ﴿لَوْلَا﴾: مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)﴾
﴿يَا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات. ﴿أي﴾: من الإضافة. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب أو الرفع صفة لـ ﴿أي﴾. وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَتَّبِعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿يَتَّبِعْ﴾: فعل مضارع، مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونه، فعل شرط لها. وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَان﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿فَإِنَّهُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَأْمُرُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿الشَّيْطَانِ﴾. ﴿بِالْفَحْشَاءِ﴾: متعلق به.
285
﴿وَالْمُنْكَرِ﴾: معطوف على ﴿الفحشاء﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾. وجملة ﴿إن﴾ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَلَوْلَا﴾: ﴿الواو﴾: استنافية. ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود. ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾: معطوف عليه، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا، تقديره: موجودات. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿زَكَى﴾: فعل ماض. ﴿مِنْكُمْ﴾: حال من ﴿أَحَدٍ﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿أَحَدٍ﴾: فاعل ﴿زَكَى﴾. ﴿أَبَدًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿زَكَى﴾. والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْلَا﴾ لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿لَوْلَا﴾: مستأنفة. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكن الله﴾: ناصب واسمه. ﴿يُزَكِّي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿مِنْ﴾: اسم موصول، في محل النصب مفعول به. وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلة الموصول. وجملة ﴿يُزَكِّي﴾ في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾. وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على جملة ﴿لَوْلَا﴾. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾: مبتدأ وخبر أول. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان له. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يُزَكِّي﴾.
﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿يَأْتَلِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الياء. ﴿أُولُو﴾: فاعل ملحق بجمع المذكر السالم. ﴿الْفَضْلِ﴾: مضاف إليه. ﴿مِنْكُمْ﴾: حال من الفاعل. ﴿وَالسَّعَةِ﴾: معطوف على ﴿الْفَضْلِ﴾. والجملة مستأنفة. ﴿أَنْ يُؤْتُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل. ﴿أُولِي الْقُرْبَى﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾: معطوفان على ﴿أُولِي الْقُرْبَى﴾. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿المهاجرين﴾. وجملة ﴿يُؤْتُوا﴾ في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، مع تقدير ﴿لَا﴾ النافية؛ أي: عدم إيتاء ﴿أُولِي الْقُرْبَى﴾: والجار المحذوف متعلق بـ ﴿يَأْتَلِ﴾.
286
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿وَلْيَعْفُوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. و (اللام): لام الأمر. ﴿يعفوا﴾: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بلام الأمر. والجملة معطوفة على جملة ﴿يَأْتَلِ﴾. ﴿وَلْيَصْفَحُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿وَلَا يَأْتَلِ﴾ أيضًا. ﴿أَلَا تُحِبُّونَ﴾: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تُحِبُّونَ﴾: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ﴾: ناصب وفعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. والجملة في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية؛ أي: ألا تحبون مغفرة الله لكم. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾: مبتدأ وخبر أول. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿يَغْفِر﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٢٣)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. ﴿الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ﴾: صفتان للمحصنات. ﴿لُعِنُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: متعلق به. ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: معطوف على ﴿الدُّنْيَا﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿وَلَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو ﴿لُعِنُوا﴾.
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بالاستقرار. الذي تعلق به الجار والمجرور في قوله: ﴿وَلَهُمْ﴾ والتقدير: عذاب عظيم كائن لهم، يوم تشهد عليهم، ويجوز تعلقه بالمصدر، وهو عذاب؛ لأن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها. ﴿تَشْهَدُ﴾: فعل مضارع. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿أَلْسِنَتُهُمْ﴾: فاعل. ﴿وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾: معطوفان عليه. والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَشْهَدُ﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه.
287
وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبره. وجملة ﴿كان﴾: صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما كانوا يعملونه. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿يُوَفِّيهِمُ﴾. ﴿يَوْمَ﴾: مضاف، ﴿إِذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان مضاف ليوم والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة، والتقدير: يوم إذ تشهد عليهم ألسنتيهم الخ. ﴿يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿دِينَهُمُ﴾: مفعول ثان. ﴿الْحَقَّ﴾: صفة لـ ﴿دِينَهُمُ﴾. ﴿وَيَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُوَفِّيهِمُ﴾. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿هو﴾ ضمير فصل. ﴿الْحَقَّ﴾: خبر أن. ﴿الْمُبِينُ﴾: صفة لـ ﴿الْحَقُّ﴾. وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي ﴿يعلمون﴾.
﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)﴾.
﴿الْخَبِيثَاتُ﴾: مبتدأ. ﴿لِلْخَبِيثِينَ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان سنة الله في خلقه، في أن يسوق كل صنف إلى صنفه، وأن يقع كل طير على شكله. ﴿وَالْخَبِيثُونَ﴾: مبتدأ. ﴿لِلْخَبِيثَاتِ﴾: خبر. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَالطَّيِّبَاتُ﴾: مبتدأ. ﴿لِلطَّيِّبِينَ﴾: خبر. والجملة معطوفة. ﴿وَالطَّيِّبُونَ﴾: مبتدأ. ﴿لِلطَّيِّبَاتِ﴾: خبر للمبتدأ. والجملة معطوفة. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿مُبَرَّءُونَ﴾: خبر. والجملة مستأنفة. ﴿مِمَّا﴾: متعلق بـ ﴿مُبَرَّءُونَ﴾. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: يقولونه. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَغْفِرَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَرِزْقٌ﴾: معطوف على ﴿مغفرة﴾. ﴿كَرِيمٌ﴾: صفة ﴿رزق﴾. والجملة الاسمية خبر ثان لـ ﴿أُولَئِكَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)﴾
﴿يَا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿هَا﴾: حرف تنبيه زائد. وجملة النداء مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول صفة لـ ﴿أي﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿لَا تَدْخُلُوا﴾: ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَدْخُلُوا﴾:
288
فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿بُيُوتًا﴾: مفعول به. ﴿غَيْر﴾: صفة لـ ﴿بُيُوتًا﴾. ﴿بُيُوتِكُمْ﴾: مضاف إليه. وجملة النهي جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر، وغاية بمعنى إلى. ﴿تَسْتَأْنِسُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن المضمرة وجوبًا. بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى. ﴿وَتُسَلِّمُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَسْتَأْنِسُوا﴾. ﴿عَلَى أَهْلِهَا﴾: جار ومجرور تعلق بـ ﴿تسلموا﴾ وجملة ﴿تَسْتَأْنِسُوا﴾ صلة أن المضمرة. أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى. تقديره: إلى استئناسكم، وتسليمكم على أهلها. الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَدْخُلُوا﴾. ﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بخير. والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلا. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه وجملة ﴿تَذَكَّرُونَ﴾: خبره. وجملة لعل مستأنفة، مسوقة لتعليل فعل محذوف، تقديره: أنزل هذا عليكم لكي تتذكروا به.
﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)﴾.
﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط لها. ﴿لَمْ تَجِدُوا﴾ مضارع مجزوم بلم ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَجِدُوا﴾. ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به؛ لأنه من وجد الضالة، فيتعدى لمفعول واحد. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَدْخُلُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يُؤْذَنَ﴾: فعل مضارع منصوب، بأن مضمرة بعد حتى. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يُؤْذَنَ﴾. والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾، بمعنى إلى. تقديره: إلى إذن أهلها لكم الجار والمجرور متعلق بـ ﴿لَا تَدْخُلُوهَا﴾. ﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم بإن الشرطية، على كونه فعل شرط لها. ﴿لَكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿ارْجِعُوا﴾: فعل أمر، وفاعل مبني على
289
حذف النون. والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾. ﴿فَارْجِعُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب. ﴿ارْجِعُوا﴾: فعل وفاعل. والجملة في محل الجزم، جواب ﴿إن﴾ الشرطية. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿أَزْكَى﴾: خبر. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩)﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدم. ﴿جُنَاحٌ﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾: مستأنفة. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَدْخُلُوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية. ﴿بُيُوتًا﴾: مفعول به. ﴿غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾: صفة لـ ﴿بُيُوتًا﴾. والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في دخولكم بيوتًا. والجار المحذوف، صفة لـ ﴿جناح﴾. ﴿فِيهَا﴾: خبر مقدم. ﴿مَتَاعٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿لَكُمْ﴾: صفة ﴿مَتَاعٌ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب، صفة ثانية لـ ﴿بُيُوتًا﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿ما﴾: موصولة في محل النصب مفعول به لـ ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿تُبْدُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما تبدونه. ﴿وَمَا تَكْتُمُونَ﴾: معطوف على ﴿مَا تُبْدُونَ﴾. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْإِفْكِ﴾: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان، لا تشعر به حتى يفجأك. وأصله الإفك؛ لأنه قول مأفوك عن وجهه؛ أي: مصروف عن وجهه كما مر في مبحث التفسير.
﴿عُصْبَةٌ﴾: والعصبة وكذا العصابة الجماعة، وكثر إطلاقها على العشرة فما
290
فوقها إلى الأربعين. ﴿كِبْرَهُ﴾ بكسر الكاف وضمها وسكون الباء؛ أي: معظمه فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه.
﴿لَوْلَا﴾ كلمة بمعنى: هلا تفيد التحضيض، والحث على فعل ما بعدها. ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر مكشوف ﴿أَفَضْتُمْ﴾؛ أي: خضتم في حديث الإفك.
﴿تَلَقَّوْنَهُ﴾؛ أي: تتلفونه ويأخذه بعضكم من بعض. يقال: تلقى القول من فلان وتلقنه وتلقفه ولقفه إذا أخذ من لفظه وفهمه. وفي "الإرشاد" التلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة، خلا أن في الأول: معنى الاستقبال، وفي الثاني معنى الخطف والأخذ بسرعة. وفي الثالث: معنى الحذق والمهارة اهـ. "أبو السعود". وفي "الشهاب"، الأفعال المذكورة متقاربة المعاني، إلا أن في التلقي معنى الاستقبال. وفي التلقن الحذق في التناول.
وفي التلقن الاحتيال فيه، كما ذكره الراغب. وقوله: معنى الاستقبال، المراد به المقابلة والمواجهة، كما في كتب اللغة.
﴿سُبْحَانَكَ﴾: تعجب ممن تفوه به. ﴿بُهْتَانٌ﴾؛ أي: كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته. ﴿يَعِظُكُمُ﴾؛ أي: ينصحكم. ﴿تَشِيعَ﴾: تنشر.
﴿خُطُوَاتِ﴾: جمع خطوة بفتح الخاء وضمها وسكون الطاء. وكل ما كان على وزن فعل بكسر الفاء أو فعل بفتح الفاء مع سكون العين فيهما. يجوز فيه إذا أردنا جمعه جمعًا مؤنثًا سالمًا، الإتباع والفتح والتسكين. فنقول في خطوة خطوات بضمتين، وخطوات بضم ففتح. وخطوات بضم فسكون والخطوة بضم الخاء في الأصل هي ما بين القدمين؛ أي: ما بين رجلي الخاطي. وبالفتح المرة الواحدة من الخطو، ثم استعمل اتباع الخطوات في الاقتداء، وإن لم يكن ثمة خطوٌّ.
يقال: اتبع خطوات فلان ومشى على عقبه، إذا استن بسنته، والمراد هاهنا، سيرة الشيطان وطريقته.
﴿الْفَحْشَاءِ﴾: الخصلة المفرطة في القبح، وهي الزنا. وفي "الروح"
291
والفحشاء والفاحشة: ما عظم قبحه عرفًا وعقلًا، سواء كان فعلًا أو قولًا.
﴿وَالْمُنْكَر﴾: ما ينكره الشرع. وقال أبو الليث: المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة. وفي "المفردات" المنكر كل شيء تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف في استقباحه العقول، وتحكم بقبحه الشريعة.
﴿زَكَى﴾: طهر من دنس الذنوب. ﴿وَلَا يَأْتَلِ﴾: ﴿لَا﴾: ناهية والفعل مجزوم بحذف الياء لأنه معتل بها كما مر يقال: ائتلى يأتلي بوزن انتهى ينتهي من الألية كهدية. ومعناها: الحلف. يقال: ألية وألايا بوزن هدية وهدايا اهـ. شيخنا. وفي "المختار" آلى يؤلي إيلاءً إذا حلف وتألى وائتلى مثله. قلت: ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾. والألية: اليمين. وجمعها ألايا اهـ. وعبارة "أبو السعود" ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾ في الدين وكفى به دليلًا على فضل الصديق، والسعة في المال اهـ. فالفضل الزيادة في الدين، والسعة: الغنى.
﴿وَلْيَعْفُوا﴾ عن ذنبهم. ﴿وَلْيَصْفَحُوا﴾؛ أي: ليعرضوا عن لومهم، فإن العفو أن يتجاوز عن الجاني. والصفح: أن يتناسى جرمه. وقيل: العفو بالفعل، والصفح بالقلب اهـ. زاده. وقال الراغب: الصفح: ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو. وقد يعفو الإنسان ولا يصفح.
﴿الْغَافِلَاتِ﴾؛ أي: السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر؛ لأنهن لم يجربن الأمور، ولم يرَزَنَّ الأحوال، فلا يفطنَّ لما تفطن له بالمجرِّبات العرَّافات. قال الشاعر:
وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطِفْلَةٍ مَيَّالَةٍ بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِيْ عَلَى أَسْرَارِهَا
لهوت تلاهيت ولعبت بطفلة بالفتح؛ أي: امرأة ناعمة لينة. يقال: امرأة طفلة الأنامل؛ أي: رخصتها لينتها، ميالة مختالة وبلهاء، غافلة لا مكر عندها ولا دهاء، فلذلك تطلعني على ضمائرها. وقال في "التعريفات" الغفلة عن الشيء، هو أن لا يخطر ذلك بباله. اهـ.
292
﴿لُعِنُوا﴾؛ أي: طردوا من رحمة الله في الآخرة، وعذبوا في الدنيا بالحد. ﴿يُوَفِّيهِمُ﴾ التوفية بذل الشيء وافيًا. والوافي الذي بلغ التمام. والدين الجزاء، ومنه (كما تدين تدان). ﴿الْحَقَّ﴾ الثابت الذي يحق لهم لا محالة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾؛ أي: وعده ووعيده. ﴿هُوَ الْحَقّ﴾؛ أي: العدل الذي لا جور فيه.
﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ قال الراغب: كل شيء يشرف في بابه، فإنه يوصف بالكرم، وقال بعضهم: الرزق الكريم: هو الكفاف الذي لا منّة فيه لأحد في الدنيا، ولا تبعة له في الآخرة.
﴿الْخَبِيثَاتُ﴾: وقال الراغب: الخبيث ما يكره رداءة وخساسةً محسوسًا كان إو معقولًا. وذلك يتناول الباطل في الاعتماد. والكذب في المقال، والقبيح في الفعال ﴿وَالطَّيِّبَات﴾: وأصل الطيب ما يستلذه الحواس.
﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾؛ أي: حتى تستأذنوا إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت، وبدونه يستوحشون، يشق عليهم الدخول. ﴿تَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: تتعظون. ﴿أَزْكَى﴾؛ أي: أطهر. ﴿جُنَاحٌ﴾؛ أي: خرج. ﴿مَتَاعٌ﴾؛ أي: حق تمتع ومنفعة، كإيواء الأمتعة والرحال.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق في قوله: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وكذلك قوله: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾. فقد طابق بين الشر والخير، وبين الهين والعظيم.
ومنها: الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر في قوله: ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فإنه كان الأصل ظننتم. وفي قوله: قالوا: فإنه كان الأصل وقلتم.
وسياق الكلام أن يقال: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرًا وقلتم. عدل
293
عن مقتضى السياق إلى ما قال مبالغةً في التوبيخ، وإشعارًا بأن الإيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم، وذب الطاعنين عنهم، كما يذبونهم عن أنفسهم. اهـ. "كرخي".
ومنها: التحضيض في قوله: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾؛ أي: هلا جاؤوا، وغرضه التوبيخ واللوم.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿فِي مَا أَفَضْتُمْ﴾ لتهويل أمره.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ تعريضًا واشعارًا بأن هذه الإفك ليس إلا قولًا يجري على ألسنتكم، ويدور في أفواهكم، من غير ترجمة عن علمٍ به في القلب.
ومنها: التعجب في قوله: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ ففيه تعجب ممن يقول ذلك والأصل في ذكر هذه الكلمة ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أن يسبح الله تعالى، عند رؤية العجيب من صنائعه تنزيهًا له من أن يخرج مثله عن قدرته. ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه.
ومنها: التقديم والتأخير في قوله: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ﴾ قدم الظرف لفائدة هامة، وهي بيان أنه كان من الواجب أن ينزجروا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ شبه سلوك طريق الشيطان، والسير في ركابه بمن يتتبع خطوات الآخر. خطوةً خطوةً بطريق الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿أَنْ يُؤْتُوا﴾؛ أي: أن لا يؤتوا، حذفت منه لدلالة المعنى عليه، وهو كثير في اللغة.
ومنها: صيغة التعظيم في قوله: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ والمراد به أبو بكر الصديق.
294
ومنها: العموم في قوله: ﴿يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ وإن كان الكلام مسوقًا في عائشة، والمقصود بذكرهن على العموم وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات، فما الظن بوعيد من وقع في قذف سيدتهن.
ومنها: المجاز العقلي، في شهادة الأيدي والأرجل.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿يَعْمَلُونَ﴾ و ﴿تَعْلَمُونَ﴾.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾، ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿تُبْدُونَ﴾ و ﴿تَكْتُمُونَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
295
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)﴾
296
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه (١) الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى عن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها منعًا للقيل والقال والاطلاع على عورات الناس وأسرارهم.. أمر رسوله أن يرشد المؤمنين إلى غضّ البصر عن الحارم، لمثل السبب المتقدم، إذ ربما كان ذلك ذريعة إلى وقوع المقاصد وانتهاك الحرمات التي نهى الدين عنها.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما أمر بغضّ الأبصار، وحفظ الفروج ونحوهما، مما يفضي إلى السفاح.. أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامى؛ لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع، وحفظ الإنساب الذي يستدعي مزيد الشفقة على الأولاد، وحسن تربيتهم، ودوام الألفة بينهم. ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه. ثم رغب في مكاتبة الأرقاء، ليصيروا أحرارًا في أنفسهم وفي أموالهم يتزوجون كما يشاؤون. وبعدئذ أردف ذلك بالنهي عن إكراه الإماء على الفجور - إن أردن العفة - ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا.
ثم ختم هذا، ببيان أنه أنزل عليكم في هذه السورة وفي غيرها، آيات مبينات لكل ما أنتم في حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة وعقوبات رادعة وقصص عجيبة من الماضين وأمثال مضروبة، لتكون عبرة وذكرى لكم.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (٢) لما ذكر أنه أنزل في هذه السورة آيات مبينات لكل ما يحتاج إليه الناس، في صلاح أحوالهم في معاشهم ومعادهم من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق.. بين أنه نور السماوات والأرض بما بث فيهما من الآيات الكونية، والآيات التي أنزلها على رسله دالة على وجوده ووحدانيته،
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
297
وسائر صفاته من قدرة وعلم، إلى نحو أولئك، هادية إلى صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر نوره لعباده، وهدايته إياهم على أتم الوجوه.. بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ...﴾ الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه لما بين أحوال المؤمنين، وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وبه يستمسكون بالعمل الصالح، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم.. أردف ذلك ببيان حال أضدادهم وهم الكفار، فذكر أنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران والبوار، وفي الدنيا في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض. وضرب لكلتا الحالتين مثلًا يوضحها أتم الإيضاح والبيان.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما (١) أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا أن جابر بن عبد الله: حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، يعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن. فقالت أسماء: ما أقبح هذا. فأنزل في ذلك ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ...﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت صرتين من فضة، واتخذت جزعًا، فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الجزع، فصوت، فأنزل الله ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ...﴾ الآية.
(١) لباب النقول.
298
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن السكن في "معرفة الصحابة"، عن عبد الله بن صبيح عن أبيه، قال: كنت مملوكًا لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتاب، فنزلت ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب جميعًا عن أبي معاوية واللفظ لأبي كريب حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: كان عبد الله بن أبي بن سلول يقول لجارية: له اذهبي فابغينا شيئًا. فأنزل الله عز وجل: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وأخرج مسلم أيضًا من طريق آخر تنتمي إلى الأعمش عن أبي سفيان بهذا الحديث. وفيه أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة فكان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي - ﷺ -، فأنزل الله عز وجل ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ الآية.
وأخرج الحاكم من طريق أبي الزبير، عن جابر قال: كانت مسيكة لبعض الأنصار فقالت: إن سيدي يكرهني على البغاء، فنزلت: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ...﴾ الآية.
وأخرج البزار والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كانت لعبد الله بن أبي جارية تزني في الجاهلية، فلما حرم الزنا، قالت: لا والله، لا أزني أبدًا، فنزلت: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٣٠ - ولما ذكر سبحانه حكم الاستئذان، أتبعه بذكر حكم النظر على العموم، فيندرج فيه غضّ البصر من المستأذن. كما قال - ﷺ -: "إنما جعل الإذن من أجل
299
البصر". فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وخص (١) على غيرهم لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر هم أحق من غيرهم بها، وأولى بذلك ممن سواهم. وقيل: إن في الآية دليلًا على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم ومقول القول أمر قد حذف لدلالة جوابه عليه، تقديره: قل لهم: غضوا. ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾؛ أي: يكفوا أبصارهم عن الحرام. والغض (٢) إطباق الجفن، بحيث يمنع الرؤية. ومنه قول جرير:
وَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ فَلاَ كَعْبًا بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا
وقول عنترة:
وَأَغُضُّ طَرْفِيْ مَا بَدَتْ لِيْ جَارَتِيْ حَتَّى تُوَارِيْ جَارَتِيْ مَأْوَاهَا
و (من) في قوله: ﴿مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ زائدة، أو تبعيضية. وإليه ذهب الأكثرون؛ لأن الغالب أن الاحتراز عن النظرة الأولى لا يمكن؛ لأنها تقع بغير قصد، فوقع العفو عنها. سواء قصدها، أو لم يقصدها، ولا يجوز أن يكرر النظر إلى الأجنبية. لقوله - ﷺ -: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة". وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه.
ومعنى ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾: أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم. وقيل: المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا تحل له رؤيتها، ولا مانع من إرادة المعنيين فالكل يدخل تحت حفظ الفرج. والفرج الشق بين الشيئين، كفرجة الحائط. والفرج ما بين الرجلين، وكنى به عن السوءة، وكثر حتى صار كالصريح فيه.
وأتى بمن التبعيضية (٣) في جانب الأبصار دون الفروج، مع أن المأمور به حفظ كل واحد منهما عن بعض ما تعلقا به. فإن المستثنى من البصر كثير، فإن الرجل يحل له النظر إلى جميع أعضاء أزواجه، وأعضاء ما ملكت يمينه. وكذا لا
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
300
بأس عليه في النظر إلى شعور محارمه، وصدورهن، وأيديهن، وأعضائهن، وسوقهن وأرجلهن وكذا لا بأس عليه في النظر من أمة الغير حال عرضها للبيع، ومن الحرة الأجنبية إلى وجهها وكفيها وقدميها. في رواية القدم بخلاف المستثنى من الفرج فإنه شيء نادر قليل، وهو فرج زوجته وأمته. فلذلك أطلق لفظ الفرج، ولم يقيد بما استثنى منه لقلته، وقيد غضّ البصر بحرف التبعيض.
والمعنى (١): ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾؛ أي: قل أيها الرسول للمؤمنين، كفوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، ولا تنظروا إلا إلى ما يباح لكم النظر إليه، فإن وقع البصر على محرم من غير قصد، فليصرفوا أبصارهم عنه سريعًا. كما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: سألت النبي - ﷺ - عن نظرة الفجأة؟ فأمرني أن أصرف بصري. وروى أبو داود أن النبي - ﷺ - قال لعلي: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة". كما مر. وفي "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول - ﷺ -: "إياكم والجلوس على الطرقات". قالوا: يا رسول الله، لا بدّ لنا من مجالسنا نتحدث فيها. فقال - ﷺ -: "إن أبيتم فاعطوا الطريق حقه". قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غضّ البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
والحكمة في ذلك (٢): أن في غض البصر سدًا لباب الشر، ومنعًا لارتكاب المآثم والذنوب. ولله در أحمد شوقي حيث يقول:
نَظْرَةٌ فَابْتِسَامَة فَسَلاَمُ فَكَلاَمٌ فَمَوْعِدٌ فَلِقَاءُ
﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ بمنعها من عمل الفاحشة، أو بحفظها من أن أحدًا ينظر إليها. وقد جاء في الحديث: "احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك".
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
301
﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من غض البصر وحفظ الفروج. ﴿أَزْكَى لَهُمْ﴾؛ أي: أطهر لهم من دنس الريبة، وأنفع لهم دينًا ودنيا. فقد قالوا: النظر بريد الزنا ورائد الفجور. ولله در شاعرهم:
كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَعَلَتْ فِيْ قَلْبِ فَاعِلِهَا فِعْلَ السِّهَامِ بِلاَ قَوْسٍ وَلاَ وَتَرِ
وَالْمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا فِيْ أعْيُنِ الْعِيْنِ مَوْقُوْفٌ عَلَى الْخَطَرِ
يَسُرُّ نَاظِرَهُ مَا ضَرَّ خَاطِرَهُ لاَ مَرْحَبًا بِسُرُوْرٍ عَادَ بِالضَّرَرِ
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَبِيرٌ﴾؛ أي: عليم ﴿بِمَا يَصْنَعُونَ﴾؛ أي: بما يصنع المؤمنون وغيرهم من سائر العباد، فلا يخفى عليه شيء مما يصدر منهم من الأفعال. كإجالة النظر، واستعمال سائر الحواس، وماذا يراد بذلك فليكونوا على حذر منه تعالى في حركة وسكون، وفي كل ما يأتون وما يذرون.
روي (١) عن عيسى بن مريم عليه السلام، أنه قال: إياكم والنظرة، فإنها تزرع في القلب شهوة، وفي الأثر "يا ابن آدم لك النظرة الأولى، فما بال الثانية". وفي الحديث: "اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة، أصدقوا إذا حدثتم، أوفوا إذا وعدتم، وأدوا ما ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم".
٣١ - وبعد أن أمر سبحانه رسوله بأمر المؤمنين بغضّ أبصارهم.. أمره بأن يأمر المؤمنات بذلك فقال: ﴿وَقُلْ﴾ يا محمد ﴿لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، من عورات الرجال والنساء (ما بين السرة والركبة) عند أبي حنيفة وأحمد. وعند مالك ما عدا الوجه والأطراف. والأصح من مذهب الشافعي أنها لا تنظر إليه كما لا ينظر هو إليها. وإذا نظرت إلى ما عدا ذلك، أعني ما بين السرة والركبة بشهوة حرم، وبدونها لا يحرم، ولكن غض البصر عن الأجانب أولى بهن وأجمل، لما روى أبو داود والترمذي عن أم سلمة
(١) روح البيان.
302
أنها كانت عند رسول الله - ﷺ -، وميمونة، إذا أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله - ﷺ -: "احتجبا منه". فقلت: يا رسول الله أليس هو لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "أو عمياوان أنتما، أو لستما تبصرانه".
والحاصل (١): أن الله سبحانه أمر المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا للمرأة أن تنظر إلى الرجل، فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها. وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس إبليس على رأسها، فزينها لمن ينظر، وإذا أدبرت جلس على عجيزتها فزينها لمن ينظر. اهـ. "قرطبي". وخص (٢) سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليبًا، كما في سائر الخطابات القرآنية.
وظهر التضعيف في يغضضن، ولم يظهر في يغضوا؛ لأن لام الفعل من الأول متحركة، ومن الثاني ساكنةً. وهما في موضع جزم جوابًا للأمر. وبدأ سبحانه في الموضعين بالغضّ قبل حفظ الفرج؛ لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج. والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه.
ومعنى يغضضن من أبصارهن كمعنى يغضوا من أبصارهم، فيستدل به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم عليهن. وكذلك يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم، وقد اشتملت هذه الآية على خمسة وعشرين ضميرًا للإناث، ما بين مرفوع ومجرور، ولم يوجد لها نظير في القرآن في هذا الشأن. اهـ. "كرخي".
﴿وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق، ويسترنها حتى لا يراها أحد، ولا خلاف (٣) بين الأئمة في وجوب ستر العورة عن أعين الناس. واختلفوا كما سبق في العورة ما هي. فقال أبو حنيفة: عورة الرجل ما تحت
(١) الفتوحات.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
303
سرته إلى تحت ركبته، والركبة عورة. وفي "نصاب الاحتساب" من لم يستر الركبة ينكر عليه برفق؛ لأن في كونها عورةً اختلافًا مشهورًا. ومن لم يستر الفخد يعنف عليه ولا يضرب؛ لأن في كونا عورة خلاف بعض أهل الحديث. ومن لم يستر السوءة يؤدب إذ لا خلاف في كونها عورة انتهى.
ومثل الرجل الأمة، وبالأولى بطنها وظهرها؛ لأنه موضع مشتهى. والمكاتبة وأم الولد والمدبرة كالأمة. وجميع الحرة عورة إلا وجهها وكفيها. والصحيح عنده أن قدميها عورة خارج الصلاة، لا في الصلاة.
وقال مالك: عورة الرجل فرجاه وفخذاه. والأمة مثله. وكذا المدبرة والمعتقة إلى أجل، والحرة كلها عورة: إلا وجهها ويديها، ويستحب عنده لأم الولد أن تستر من جسدها ما يجب على الحرة ستره. والمكاتبة مثلها.
وقال الشافعي وأحمد: عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وليست الركبة من العورة، وكذا الأمة والمكاتبة وأم الولد والمدبرة والمعتق بعضها. والحرة كلها عورة سوى الوجه والكفين عند الشافعي، وعند أحمد سوى الوجه فقط على الصحيح. وأما سرة الرجل فليست من العورة بالاتفاق، كما في "فتح الرحمن".
﴿وَلَا يُبْدِينَ﴾؛ أي: ولا يظهرن ﴿زِينَتَهُنَّ﴾ للأجانب؛ أي: ما يتزين به من الحلية وغيرها. وهي ثلاثة أمور (١): أحدها: الثياب، وثانيها: الحلي كالخاتم والسوار. وثالثها: الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها، والغمزة في خديها، والحناء في كفيها وقديها، وفي النهي عن إبداء الزينة نهيٌ عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالأولى.
ثم استثنى سبحانه من هذا النهي فقال: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ كالجلباب والخمار ونحوهما مما على الكف والقدمين من الحلية ونحوها.
المراد بالزينة هنا محلها من البدن، وهو الوجه والكفان، كذلك يراد بها
(١) المراح.
304
البدن في قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ إلخ. وأما في قوله: ﴿لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ فالمراد ما يتزين. ذكره "الجمل".
قال القرطبي في "تفسيره" الزينة (١) على قسمين، خلقية ومكتسبة. فالخلقية وجهها، فإنه أصل الزينة، والزينة المكتسبة ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها، كالثياب والحلي والكحل والخضاب. ومنه قوله تعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾.
وقول الشاعر:
يَأْخُذْنَ زينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى... وَإِذَا عَطَلْتَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ
قال ابن الشيخ (٢): الزينة ما تزينت به المرأة، من حلي أو كحل، أو ثوب أو صبغ، فما كان منها ظاهرًا كالخاتم والفتخة، وهي ما لا فص فيه من الخاتم، والكحل والصبغ فلا بأس بإبدائه للأجانب بشرط الأمن من الشهوة. وما خفي منها كالسوار والدملج، وهي حلقة تحملها المرأة على عضدها، والوشاح والقرط فلا يحل لها إبداؤها إلا للمذكورات فيما بعد بقوله: ﴿إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾... الآية.
والخلاصة: أي (٣) ولا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه مما جرت العادة بظهوره كالخاتم والكحل فلا يؤاخذن إلا في إبداء ما خفي منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة؛ لأن هذه الزينة واقعة في مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها إلا لمن استثنى في الآية بعد. وهي: الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن.
ولما نهى عن إبداء الزينة أشد إلى إخفاء بعض مواضعها، فقال: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ﴾؛ أي: وليلقين ويضعن خمرهن ﴿عَلَى جُيُوبِهِنّ﴾ ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن عن الأجانب، حتى لا يرى منها شيء. والمراد بالجيب هنا محله وهو العنق، وإلا فهو في الأصل طوق القيص. كما سيأتي.
(١) القرطبي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
305
قال المفسرون: إن (١) نساء الجاهلية، كن يسدلن خمرهن من خلفهن، وكانت جيوبهن من قدام واسعة، فكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن فنهين عن ذلك، وأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب، لتستر بذلك ما كان يبدو. قالت عائشة - رضي الله عنها -: رحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ شققن مروطهن فاختمرن بها.
وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق. والخمر جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها. والجيوب: جمع جيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، مأخوذ من الجوب وهو القطع، وهذا هو معناه الحقيقي، الذي فسر به الجمهور. وقال مقاتل: إن معنى على جيوبهن: على صدورهن، فيكون في الآية مضاف محذوف؛ أي: على مواضع جيوبهن.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَلْيَضْرِبْنَ﴾ بإسكان اللام التي للأمر. وقرأ عياش عن أبي عمرو: بكسرها على الأصل؛ لأن أصل لام الأمر الكسر، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس. وقرأ الجمهور: ﴿بِخُمُرِهِنَّ﴾ بتحريك الميم، وقرأ طلحة بن مصرف: بسكونها. وقرأ الجمهور: ﴿جُيُوبِهِنَّ﴾ بضم الجيم. وقرأ ابن كثير وبعض الكوفيين: بكسرها. وكثير من متقدمي النحويين لا يجوَّزون هذه القراءة. وقال الزجاج: يجوز أن يبدل من الضمة كسرة. فأما ما روي عن حمزة من الجميع بين الضم والكسر فمحال، لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء.
ثم كرر سبحانه النهي عن إبداء الزينة لأجل ما سيذكره من الاستثناء، فقال: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾؛ أي: ولا يظهرن زينتهن الخفية المنهية عن إبدائها للأجانب، كالسوار والدملج والوشاح والقرط ونحوها، فضلًا عن إبداء مواقعها. كرره لبيان من يحل له الإبداء، ومن لا يحل له.
وفي "الخطيب": ولا يبدين زينتهن؛ أي: الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب. وهي ما عدا الوجه والكفين. اهـ.
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني والبحر المحيط.
306
وقال أبو الليث (١): لا يظهرن مواضع زينتهن، وهو الصدر والساق والساعد والرأس؛ لأن الصدر موضع الوشاح، والساق موضع الخلخال، والساعد موضع السوار، والرأس موضع الإكليل، فقد ذكر الزينة وأراد بها موضع الزينة، انتهى.
﴿إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾؛ أي: إلا لأزواجهن وسادتهن، فإن البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب. وجملة المستثنيات اثنا عشر نوعًا، آخرها أو الطفِل. اهـ. "شيخنا".
وقدم البعولة على غيرهم؛ لأنهم المقصود خصوصًا، إذا كان النظر لتقوية الشهوة، إلا أنه يكره له النظر إلى الفرج بالاتفاق، حتى إلى فرج نفسه؛ لأنه يروى أنه يورث الطمس والعمى. وفي كلام عائشة - رضي الله عنها - ما رأى منى، ولا رأيت منه؛ أي: العورة.
قال في "النصاب": إن الزينة الباطنة يجوز إبداؤها لزوجها وذلك لاستدعائه ورغبته فيها. ولذلك لعن رسول الله - ﷺ - السلقاء والمرهاء. فالسلقاء: التي لا تختضب. والمرهاء: التي لا تكتحل.
﴿أَوْ آبَائِهِنَّ﴾ وإن عَلَوْا سواء كانوا من جهة الذكران أو الإناث. ﴿أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾، وإن عَلوا، سواء كانوا من النسب أو الرضاع. ﴿أَوْ أَبْنَائِهِنَّ﴾ وإن سفلوا من النسب أو الرضاع. ﴿أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾ من غيرهن، وإن سفلوا. ﴿أَوْ إِخْوَانِهِنَّ﴾ من النسب أو الرضاعِ. جمع أخ، كالإخوة. فهو جمع له أيضًا. ﴿أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ﴾ كذلك ﴿أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ﴾ كذلك.
والمراد (٢) بأبناء بعولتهن: ذكور أولاد الزوج، ويدخل في قوله: ﴿أَوْ أَبْنَائِهِنَّ﴾ أولاد الأولاد، وإن سفلوا. وأولاد بناتهن، وإن سفلوا. وكذا آباء البعولة يدخل فيه آباء الآباء، وآباء الأمهات، وإن علوا. وكذلك أبناء البعولة، وإن سفلوا وكذلك أبناء الإخوة والأخوات.
(١) بحر العلوم.
(٢) الشوكاني.
307
وذهب الجمهور: إلى أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم. وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يستترن منهم حذرًا من أن يصفوهن لأبنائهم. والمعنى: إن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية، إلا ابن العم والخال. وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب. اهـ. "كرخي". وليس في الآية ذكر الرضاع وهو كالنسب. وقال الشعبي وعكرمة: ليس العم والخال من المحارم.
والمعنى: أي (١) قل يا محمد للمؤمنات لا يظهرن هذه الزينة الخفية إلا لأزواجهن فإنهم المقصودون بزينتهن، والمأمورات نساؤهم بصنعها لهم، حتى إن لهم ضَرْبَهُنَّ على تركها، ولهم النظر إلى جميع بدنهن. أو لآباء النساء، أو لآباء الأزواج، أو لأبنائهن أو لأبناء أزواجهن، أو لإخوانهن، أو لأبناء الإخوة، أو لأبناء الأخوات؛ لكثرة المخالطة بينهم وبينهن، وقلة توقع الفتنة من قبلهم، ولأن الطباع السليمة تأبى أن تفتتن بالقريبات إلا أنهن محتاجات إلى صحبتهم في الأصفار للركوب أو النزول.
﴿أَوْ﴾ إلا لـ ﴿نِسَائِهِنَّ﴾؛ أي: نساء (٢) أهل دينهن المختصات بهن بالصحبة والخدمة، من حرائر المؤمنات. فإن الكوافر لا يتأثمن عن وصفهن للرجال، فيكون تصور الأجانب إياها بمنزلة نظرهم إليها. فإن وصف مواقع زينة المؤمنات للرجال الأجانب معدود من جملة الآثام عند المؤمنات.
فالمراد بنسائهن نساء أهل دينهن. وهذا قولُ أكثر السلف، فإنهم جعلوا المرأة اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية في حكم الرجل الأجنبي، فمنعوا المسلمة من كشف بدنها عندهن؛ إلا أن تكون أمةً لها. كما منعوها من التجرد عند الأجانب. والظاهر أن العلة شيئان: عدم المجانسة دينًا، فإن الإيمان والكفر فرق بينهما. وعدم الأمن من الوصف المذكور. وإضافة النساء إليهن تدل على
(١) المراغى.
(٢) روح البيان.
308
اختصاص ذلك بالمؤمنات. وقال الإِمام: قول السلف محمول على الاستحباب. والمذهب أن امراد بقوله: أو نسائهن، جميع النساء.
﴿أَوْ﴾ إلا لـ ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ من الإماء، أما العبيد (١) فقد اختلفوا فيهم، فقال قوم: عبد المرأة محرم لها. فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفًا، وله أن ينظر إلى مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم. وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة. وقد روي أنَّ عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها. وقال قوم: هو كالأجنبي معها. وهو رأي ابن مسعود والحسن وابن سيرين. ومن ثم قالوا: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، فهو بمنزلة الأجنبي منها، خصيًا كان أو فحلًا. وهو قول أبي حنيفة. وعليه عامة العلماء، فلا يجوز لها الحج ولا السفر معه وإن جاز رؤيته إياها إذا وجد الأمن من الشهوة.
وقال ابن الشيخ (٢): فإن قيل: ما الفائدة في تخصيص الإماء بالذكر بعد قوله: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾؟ فالجواب - والله أعلم - أنه تعالى لما قال: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ دل ذلك على أن المرأة لا يحل لها أن تبدي زينتها للكافرات، سواء كن حرائر أو إماءً لغيرها أو لنفسها، فلما قال: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ مطلقًا؛ أي: مؤمنات كن أو مشركات، علم أنه يحل للأمة أن تنظر إلى زينة سيدتها مسلمةً كانت الأمة أو كافرة، لما في كشف مواضع الزينة الباطنة لأمتها الكافرة في أحوال استخدامها إياها من الضرورة التي لا تخفى. ففارقت الحرة الكافرة بذلك.
﴿أَوِ﴾ إلا لـ ﴿التَّابِعِينَ﴾ الذين يتبعون القوم إلى بيوتهم، ليصيبوا من فضل طعامهم لا غرض ولا همة لهم إلا ذلك. ﴿غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ﴾ والحاجة إلى النساء حالة كونهم ﴿مِنَ الرِّجَالِ﴾ الذين طعنوا في السن، ففنيت شهواتهم إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم. وقيل (٣): المراد بغير أولي الإربة من الرجال الحمقى الذين لا حاجة لهم في النساء. وقيل: العنين. وقيل: الخصي - من قطع خصيتاه -،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
309
وقيل: المجبوب - من قطع ذكره -. وقيل: المخنث، وهو الذي في أعضائه لين، وفي لسانه تكسر في أصل الخلقة، فلا يشتهي النساء، ولا حاجة لهذا التخصيص، بل المراد بالآية ظاهرها، وهم من يتبع أهل البيت، ولا حاجة له في النساء ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال. فيدخل من هؤلاء من هو بهذه الصفة ويخرج من عداه.
قال ابن عطية: ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزَّمِن الموقوذ بزمانته. وقال بعضهم (١): قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ محكم. وقوله: و ﴿التَّابِعِينَ﴾ مجمل. والعمل بالمحكم أولى، فلا رخصة للمذكورين من الخصي ونحوه في النظر إلى محاسن النساء، وإن لم يكن هناك احتمال الفتنة.
وفي "الكشاف": لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشرائهم، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم. انتهى. وعن ميسون بنت بحدل زوجة معاوية، أن معاوية دخل عليها ومعه خصي، فتقنعت منه، فقال: هو خصي، فقالت: يا معاوية، أترى المثلة تحلل ما حرم الله من النظر؟ فتعجب من فطنتها وفهمها. ذكره في "كتاب النصاب".
وفي "البستان" أنه لا يجوز خصاء بني آدم؛ لأنه لا منفعة فيه؛ لأنه لا يجوز للخصي أن ينظر إلى النساء، كما لا يجوز للفحل. بخلاف خصاء سائر الحيوانات، ألا ترى أن خصي الغنم أطيب لحمًا، وأكثر شحمًا. وقس عليه غيره.
وروى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان يدخل على أزواج النبي - ﷺ - مخنث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل رسول الله - ﷺ - يومًا وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأةً - بنت غيلان -، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبي - ﷺ -: "ألا أرى هذا يعرف ما هاهنا،
(١) روح البيان.
310
لا يدخل عليكن فاحجبوه". زاد أبو داود في رواية: "وأخرجوه إلى البيداء، يدخل كل جمعة فيستطعم".
وقرأ ابن عامر وأبو بكر (١): ﴿غَيْرِ﴾ بالنصب على الحال أو الاستثناء. وباقي السبعة بالجر على النعت. وعطف قوله: ﴿أَوِ الطِّفْلِ﴾ على من الرجال، فقسم التابعين غير أولي الإربة إلى قسمين: رجال، وأطفال. والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم. ولذلك وصفه بالجمع في قوله: ﴿الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا﴾ ولم يطلعوا ﴿عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ ولم يكشفوها للمجامعة؛ أي: حال كون غير أولي الإربة من الرجال البالغين، أو من الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والقدرة على ملامسة النساء وفي مصحف أبيّ ﴿الأطفال﴾؛ أي (٢): الذين لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع، فيطلعوا عليها. وقيل: لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر. وقيل: لم يطيقوا أمر النساء. وقيل: لم يبلغوا حد الشهوة. وقيل: الطفولية اسم للصبي ما لم يحتلم.
وفي "الروضة": وجعل الإِمام أمر الصبي ثلاثة درجات (٣):
إحداها: أن لا يبلغ أن يحكي ما رأى.
والثانية: أن يبلغه ولا يكون فيه ثوران شهوة.
والثالثة: أن يكون فيه ذلك.
فالأول: حضوره كغيبته، ويجوز التكشف له من كل وجه. والثاني: كالمحرم. والثالث: كالبالغ. واعلم أن الصبي لا تكليف عليه، وإذا جعلناه كالبالغ، فمعناه: أنه يلزم المنظور إليها الاحتجاب منه كما أنه يلزمها الاحتجاب من المجنون قطعًا.
قلت: وإذا جعلنا الصبي كالبالغ لزم الولي أن يمنعه النظر، كما يلزمه أن يمنعه من الزنا وسائر المحرمات. والله أعلم. اهـ.
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
(٣) الفتوحات.
311
وقال الفناري في تفسير الفاتحة: حد الطفل من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخًا إلى انقضاء ستة أعوام. وقال في "فتح القريب": العورة كل ما يستحى منه إذا ظهر. وسيأتي البسط عنه في مبحث المفردات.
وقال بعضهم (١): يفهم من عبارة الطفل، أن التقوى منع الصبيان حضرة النساء بعد سبع سنين، فإن ابن السبع، وإن لم يكن في حد الشهوة، لكنه في حد التمييز، مع أن بعض من لم يبلغ حدّ الحلم مشتهًى، فلا خير في مخالطة النساء. وفي "ملتقط الناصري" الغلام إذا بلغ مبلغ الرجال، ولم يكن صبيحًا فحكمه حكم الرجال. وإن كان صبيحًا فحكمه حكم النساء، وهو عورة من قرنه إلى قدمه، يعني لا يحل النظر إليه عن شهوة، فأما السلام والنظر بلا شهوة فلا بأس به. ولهذا لم يؤمر بالنقاب، ويكره مجالسة الأحداث والصبيان والسفهاء؛ لأنه يذهب بالمهابة. كما في "البستان".
قال في "أنوار المشارق": يحرم على الرجل النظر إلى وجه الأمرد إذا كان حسن الصورة، سواء نظر بشهوة أم لا. وسواء أمن الفتنة أم خافها. ويجب على من في الحمام أن يصون نظره ويده وغيرهما عن عورة غيره. وأن يصون عورته عن نظر غيره. ويجب الإنكار على كاشف العورة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿عَوْرَاتِ﴾ بسكون الواو. وهي لغة أكثر العرب. لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع. وروي عن ابن عباس تحريك واو عورات بالفتح. والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة.
ثم نهى عن إظهار وسوسة العلي بعد النهي عن إبداء مواضعه، فقال: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ﴾ الأرض ﴿لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ﴾؛ أي: ما يخفينه من الرؤية. ﴿مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾؛ أي: خلاخلهن؛ أي (٣): لا يضربن النساء المؤمنات بأرجلن الأرض،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
312
ليتقعقع ويصوت خلخالهن. فيعلم أنهن ذوات خلخال. فإن ذلك مما يورث الرجال ميلًا إليهن، ويوهم أن لهن ميلًا إليهم. وإذا كان إسماع صوت خلخالها للأجانب حرامًا.. كان رفع صوتها بحيث يسمع الأجانب كلامها حرامًا بطريق الأولى؛ لأن صوت نفسها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها. ولذلك كرهوا أذان النساء؛ لأنه يُحتاج فيه إلى وقع الصوت.
وفي "الشهاب": وهذا سد لباب المحرمات، وتعليم للأحوط، وإلا فصوت النساء ليس بعورة عند الشافعي، فضلًا عن صوت خلخالهن. اهـ.
وفي "القرطبي": من فعل ذلك منهن فرحًا بحليهن فهو مكروه، ومن فعل ذلك منهن تبرجًا وتعرضًا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال، إن فعل ذلك عجبًا حرم، فإن العجب كبيرة، وإن فعل ذلك تبرجًا لم يحرم. اهـ.
وللنساء أفانين في هذا الباب (١)، فقد يجعلن الخرز ونحوه في جوف الخلخال، فإذا مشين ولو هونًا كان له رنين وصوت خاص، ومن الناس من تهيجه وسوسة الحلي أكثر مما يهيجه رؤيته.
﴿وَتُوبُوا﴾ وارجعوا من عمل المعاصي ﴿إِلَى﴾ طاعة ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى حالة كونكم ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين عليها ﴿أيها المؤمنون﴾ بالله ورسوله، إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط في أمره ونهيه، سيما في الكف عن الشهوات. و ﴿أيها المؤمنون﴾ تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتمًا. وفي هذه الآية دليل على أن الذنب لا يخرج العبد عن الإيمان؛ لأنه تعالى قال: ﴿أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ بعدما أمر بالتوبة التي تتعلق بالذنب. ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: تفوزون بسعادة الدارين. وصَّى الله سبحانه جميع المؤمنين بالتوبة والاستغفار؛ لأن العبد الضعيف لا ينفك عن تقصير يقع منه وإن اجتهد في رعاية تكاليف الله تعالى.
(١) المراغي.
313
والمعنى: أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، من غض البصر وحفظ الفرج، وترك دخول بيوت غيركم بلا استئذان ولا تسليم، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة. وأخرج أحمد والبخاري والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عمر قال: سمعت النبي - ﷺ - يقول: "أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه كل يوم مئة مرة".
ومن شرط التوبة (١): الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على أن لا يعود إليه. ورد الحقوق إلى أهلها. لا كما يظن الناس الآن، أنها كلمة تلاك باللسان، دون أن يكون لها أثر في القلب ولا عزم على عدم العود، حتى إن كثيرًا ممن يزعمون أنهم تابوا من الذنب يحكون ما فعلوه من الآثام على وجه الفخر والاستلذاذ بذكره، وهذا دليل على أنهم كاذبون في توبتهم، مراؤون في أفعالهم.
والجمهور (٢) على فتح الهاء، وإثبات ألفٍ بعد الهاء في ﴿أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وهي ها، التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر: ﴿أيه المؤمنون﴾ هنا، و ﴿يا أيه الساحر﴾ في الزخرف. و ﴿أيه الثقلان﴾ في الرحمن بضم الهاء وصلًا، وإذا وقف سكن. ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين استثقلت الفتحة على الهاء، فاتبعت حركتها حركة ما قبلها، فضمت الهاء إتباعًا للرسم، وضم ها، التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك وهي شقيق ابن سلمة وقد رسمت هذه المواضع الثلاثة دون ألف، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف. والباقون بدونها اتباعًا للرسم، ولموافقة الخط للفظ. وثبتت في غير هذه المواضع، حملًا لها على الأصل نحو ﴿يا أيها الناس﴾، ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾. وبالجملة فالرسم سنة متبعة. اهـ. "سمين".
وقال بعضهم: إن الله (٣) سبحانه وتعالى طالب المؤمنين جميعًا في هذه
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات والبحر المحيط.
(٣) روح البيان.
314
الآية بالتوبة. ومن آمن بالله وترك الشرك.. فقد تاب، وصحت توبته ورجوعه إلى الله، وإن خطر عليه خاطر، أو جرى عليه معصية في حين التوبة، فإن المؤمن إذا جرى عليه معصية.. ضاق صدره واهتم قلبه، وندم روحه ورجع سره. اهـ.
٣٢ - ولما أمر سبحانه بغض الأبصار، وحفظ الفروج.. أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة، وسكون دواعي الزنا، ويسهل بعده غض البصر عن المحرمات، وحفظ الفرج عما لا يحل. فقال: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ جمع أيم (١). والأيم: من لا زوج له من الرجال والنساء، بكرًا كان أو صبيًا. وقال أبو عمرو والكسائي: اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل، هي المرأة التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا. قال أبو عبيد: يقال: رجل أيم، وامرأة أيم. وأكثر ما يكون من النساء. وهو كالمستعار في الرجال. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
لِلَّهِ دَرُّ بَنِيْ عَلِيّ أَيِّمٌ مِنْهُمْ وَنَاكِحْ
والخطاب في الآية للأولياء. وقيل: للأزواج. والأول: أرجح. وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها. وقد خالف في ذلك أبو حنيفة. والمعنى: زوجوا أيها الأولياء من لا زوج له من أحرار قومكم وحرائر عشيرتكم، فإن النكاح سبب لبقاء النوع، وحافظ من السفاح. والمراد بذلك مديد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك كإمدادهم بالمال، وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة.
واختلف أهل العلم في النكاح (٢)، هل ومباح، أو مستحب، أو واجب. فذهب إلى الأول الشافعي وغيره. إلى الثاني مالك وأبو حنيفة، إلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك، فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية.. وجب عليه، إلا فلا. والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية.
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
315
وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة؛ لقوله - ﷺ - في الحديث الصحيح - بعد ترغيبه في النكاح -: "ومن رغب عن سنتي فليس مني"، ولكن مع القدرة عليه وعلى مؤنه.
والمراد بالأيامى هنا الأحرار والحرائر. وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله تعالى: ﴿وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾؛ أي: وزوجوا أيها السادات الصالحين؛ أي: المؤمنين من عبادكم وإمائكم لحصن دينهم. وهم الذين تنزلونهم منزلة الأولاد في المودة، في بذل المال والمنافع. وقال في "الوسيط": معنى الصلاح هاهنا: الإيمان. وتقييد (١) الأرقاء بالصالحين دون الأحرار فلأن من لا صلاح له من الأرقاء بمعزل من أن يكون خليقًا بأن يعتني مولاه بشأنه ويشفق عليه ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بدّ منه شرعًا وعادةَ من بذل المال والمنافع، بل حقه أن لا يستبقيه عنده. وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر، فإن الغالب فيهم الصلاح، بخلاف المماليك؛ ولأنهم مستقلون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم.
وقيل المعنى: وزوجوا أيها السادات الصالحين والصالحات من عبادكم وإمائكم؛ أي (٢): القادرين والقادرات على النكاح، والقيام بحقوق الزوجية، بأن يقوم العبد بما يلزم لها، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج. أو المراد بالصلاح أن لا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح.
والخلاصة: أن في الآية أمرًا للأولياء بتزويج من لهم عليهم حق الولاية، وللسادة بتزويج العبيد والإماء. والجمهور قد حملوا الأمر على الاستحسان، لا على الوجوب؛ لأنه قد كان في عصر النبي - ﷺ -، وفي سائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء، ولم ينكر ذلك أحد عليهم. والظاهر أن الأمر يكون للوجوب إذا خيفت الفتنة، وغلب على الظن حصول السفاح من الرجل أو المرأة.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
316
وفي الآية دليل على أن المملوك لا يزج نفسه، إنما يزوجه مالكه. وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن لكره عبده وأمته على النكاح. وقال مالك: لا يجوز. وقرأ مجاهد والحسن: ﴿من عبيد﴾، بالياء مكان الألف وفتح العين. ذكره في "البحر".
فإن قلت (١): قد أطلق سبحانه في هذه الآية الكريمة العبد والأمة على الغلام والجارية. وقد قال النبي - ﷺ - في الحديث الصحيح كما رواه مسلم: "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، كلُّ النساء إماء الله، ولكن ليقل غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي".
قلت: إن ذلك إنما يكره إذا قاله على طريق التطاول على الرقيق، والتحقير لشأنه، والتعظيم لنفسه. فسقط التعارض. والحمد لله تعالى.
ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار، فقال: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ﴾؛ أي: لا تمتنعوا أيها الأولياء من تزويج الأحرار والحرائر بسبب فقرهم؛ لأنهم إن يكونوا فقراء عادمي المال ﴿يُغْنِهِمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ ورزقه؛ أي (٢): لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون زواجها. ففي فضل الله سبحانه ما يغنيهم، والمال غاد ورائح. والله سبحانه يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب. قال بعضهم: من صح افتقاره إلى الله.. صح استغناؤه بالله.
قال الزجاج (٣): حث الله سبحانه على النكاح، وأعلم أنه سبب لنفي الفقر، ولا يلزم أن يكون هذا حاصلًا لكل فقير إذا تزوج، فإن ذلك مقيد بالمشيئة، وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا. وإنما كان النكاح يسبب الغنى؛ لأن العقد الديني يجلب العقد الدنيوي، إما من حيث لا يحتسبه الفقير، أو من حيث أن النكاح سبب للجد في الكسب، والكسب ينفي الفقر. وقيل المعنى: إنه يغنيه بغنى النفس. وقيل المعنى: إن يكونوا فقراء إلى
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
317
النكاح.. يغنيهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى. ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ﴾ فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك.
وجملة قوله: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿وَاسِعٌ﴾؛ أي: ذو سعة وغنى. فلا انتهاء لفضله، ولا حد لقدرته، فهو يسع هذين الزوجين وغيرهما. ﴿عَلِيمٌ﴾ بأحوال خلقه، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. مؤكدة لما قبلها، ومقررة لها.
والمعنى: أنه سبحانه ذو سعة، ولا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده، عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء، ويفقر من يشاء. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله". أخرجه ابن ماجه في سننه، والترمذي والنسائي أيضًا.
٣٣ - وبعد أن بيَّن سبحانه حال القادرين على النكاح ووسائله.. بين حال العاجزين عن تلك الوسائل، فقال: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ﴾؛ أي: وليطلب العفة عن الزنا، والحرام والاجتناب عنه. ﴿الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ﴾ ولا يقدرون ﴿نِكَاحًا﴾؛ أي: سبب نكاح ووسيلته وهو المال. وقيل: النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة، كاللحاف اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس؛ أي: وليجتهد (١) في العفة وقمع الشهوة من لا يجد أسباب نكاح من مهر ونفقة - فإنه لا معنى لوجدان نفس العقد والتزوج - وذلك بالصوم. كما قال عليه السلام: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" معناه: إن الصوم يضعف شهوته، ويقهرها على طلب الجماع، فيحصل بذلك صيانة الفرج وعفته. والأمر في ﴿ليستعفف﴾ محمول على الوجوب في صورة التوقان.
ثم قيد سبحانه هذا الأمر بغايةِ هي قوله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ
(١) الشوكاني.
318
فَضْلِهِ}؛ أي: وليجتهدوا في الاستعفاف حتى يرزقهم الله سبحانه رزقًا يستغنون به، ويتمكنون بسببه من النكاح.
والخلاصة: أي وليجتهد في العفة وصون النفس من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله، حتى يصل إلى بغيته من النكاح، ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ﴾؛ أي: والمماليك الذين يطلبون المكاتبة والإعتاق على المال ﴿مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وأيديكم من عبيدكم وإماءكم، ليصيروا أحرارًا، والموصول في محل رفع مبتدأ خبره ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾؛ أي: فصيروهم أحرارًا بعقد الكتابة. والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط. ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده؛ أي: وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب. والأمر فيه للندب؛ لأن الكتابة عقد يتضمن الإرفاق، فلا تجب كغيرها.
﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ﴾؛ أي: في أولئك المماليك ﴿خَيْرًا﴾؛ أي: أمانةً ورشدًا، وقدرةً على أداء مال الكتابة بتحصيله من وجه حلال، وصلاحًا بحيث لا يؤدي الناس بعد العتق وإطلاق العنان. وهو شرط في استحباب (١) عقد الكتابة المفهوم من قوله تعالى: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾. فاللام من انتفاء هذا القيد، انتفاء الاستحباب، لا انتفاء الجواز.

فصل في بيان معنى الكتابة وحكمها وكيفيتها


والكتابة لغة: مصدر كاتب يكاتب كتابة وكتابًا ومكاتبة. نظير قاتل يقاتل قتالًا ومقاتلة. وشرعًا: أن يقول (٢) السيد لمملوكه: كاتبتك على كذا من المال، ويسمى مالًا معلومًا، تؤدي ذلك في نجمين، أو في نجوم معلومة، في كل نجم كذا. فإذا أديت ذلك.. فأنت حر، ويقبل العبد ذلك. فإذا أدى العبد ذلك المال عتق، ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة. وإذا عتق بأداء المال، فما فضل
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
319
في يده من المال فهو له، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في الكتابة في العتق. وإذا عجز عن أداء المال، كان لمولاه أن يفسخ كتابته، ويرده إلى الرق. وما في يده من المال فهو لسيده لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - ﷺ -: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم". أخرجه أبو داود.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ أمر إيجاب، يجب على السيد أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيرًا إذا سأل العبد ذلك على قيمته، أو على أكثر من قيمته، وإن سأل على أقل من قيمته لا يجب. وهو قول عطاء وعمرو بن دينار. لما روي أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه - وكان كثير المال - فأبى، فانطلق سيرين إلى عمر فشكاه، فدعاه عمر فقال له: كاتبه، فأبى، فضربه بالدرَّة، وتلا ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ فكاتبه.
ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي؛ لأنه عقد جوز إرفاقًا بالعبد. ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل، حتى يؤديه على مهلٍ، فيحصل المقصود. وجوز أبو حنيفة الكتابة حالة منجمة بنجم واحد.
ومعنى المفاعلة (١) في هذا العقد: أن المولى يكتب؛ أي: يفرض، ويوجب على نفسه أن يعتق المكاتب إذا أدى البدل، ويكتب العبد على نفسه أن يؤدي البدل من غير إخلال. وأيضًا بدل هذا العقد مؤجل منجم على المكاتب، والمال المؤجل يكتب فيه كتاب على من عليه المال غالبًا.
واختلفوا في معنى: ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ فقال ابن عمر: قوةً على الكسب. وهو قول مالك والثوري. وقيل: مالًا. روي أن عبدًا لسلمان الفارسي قال له: كاتبني، قال: ألك مال؟ قال: أتريد أن تطعمني أوساخ الناس، ولم يكاتبه. قيل: لو أراد به المال لقال: إن علمتم لهم خيرًا. وقيل: صدقًا وأمانةً. وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في العبد، الاكتساب مع الأمانة، فأحب أن لا يمنع من الكتابة إذا كان هكذا. وقيل: معنى الخير، أن يكون العبد عاقلًا بالغًا.
(١) روح البيان.
320
فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما؛ لأن الابتغاء منهما لا يصح. وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق.
والمعنى: أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم أن يكاتبوهم على أداء مال معين نجومًا، ليصيروا بعد أدائها أحرارًا، ويكونوا قادرين على الكسب، وأداء ما كوتبوا عليه مع الأمانة والصدق فكاتبوهم، ويكونون بعد إنتهاء الأجل وأداء ما أوجبوه على أنفسهم أحرارًا في رقابهم وفي كسبهم.
ثم حث المؤمنين جميعًا على تحرير الرقاق، فقال: ﴿وَآتُوهُمْ﴾؛ أي: واعطوا أيها السادة المكاتبين شيئًا ﴿مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾؛ أي: أعطاكم، وليس لكم فيه فضل، فإن الله ربكم ورب عبيدكم، وأموالكم ملكه. أو أعطوا أيها الحكام المكاتبين سهامهم التي جعلها الله لهم في بيت المال في مصارف الزكاة بقوله: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾؛ أي: وفي تحرير الأرقاء.
وعلى القول بأن الخطاب للسادة.. فالواجب إما أن يعطوهم شيئًا من المال، أو يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه. وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار. وقيل: الثلث. وقيل: الربع. وقيل: العشر. ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم وسياق الكلام معهم، فإنهم المأمورون بالكتابة. وقال الحسن والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: ﴿وَآتُوهُمْ﴾ لجميع الناس.
ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك.. نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا، فقال: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا﴾؛ أي: لا تجبروا أيها السادة ﴿فَتَيَاتِكُمْ﴾؛ أي: إمائكم، فإن كلا من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة. وباعتبار المفهوم الأصلي، وهو أن الفتى: الطري من الشباب، ظهر مزيد مناسبة الفتيات لقوله: ﴿عَلَى الْبِغَاءِ﴾ وهو الزنا من حيث صدوره عن الشواب؛ لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبًا، دون ما عداهن من العجائز والصغار.
﴿عَلَى الْبِغَاءِ﴾؛ أي: على الزنا، مصدر بغت المرأة تبغي بغاءً، إذا زنت وفجرت، وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها. ثم الإكراه إنما يحصل متى حصل
321
التخويف بما يقتضي تلف النفس، أو تلف العضو. وأما باليسير من التخويف فلا تفسير مكرهة ﴿إِنْ أَرَدْنَ﴾ تلك الفتيات ﴿تَحَصُّنًا﴾؛ أي: تعفيفًا عن الزنا؛ أي: جعلن أنفسهن في عفة كالحصن. وهذا (١) القيد، ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا. وإخراج ما عداها من حكمه، بل للمحافظة على عادتهم المسمرة، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه. وكان لعبد الله بن أبيّ ست جوارٍ جميلةٍ، وهي معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وفتيلة، يكرههن على الزنا. وضرب عليهن ضرائب، جمع ضريبة - وهي الغلة المضروبة على العبيد - والجزية، فشكت اثنتان إلى رسول الله - ﷺ - وهي معاذة ومسيكة، فنزلت.
وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى، فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه من إمائه، فضلًا عن أمرهن وإكراههن عليه، لا سيما عند إرادتهن التعفف. وفي (٢) ذلك إشارة إلى أن للسادة إكراههن على النكاح، فليس للأمة أن تمتنع على السيد إذا زوجها.
وفي "الخازن" واختلف العلماء (٣) في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ على أقوالٍ:
أحدها: إن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطًا فيه.
الثاني: إنما شرط إرادة التحصن؛ لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن؛ فإنها تبغي بالطبع طوعًا.
الثالث: (إنَّ) (إنْ) بمعنى إذا؛ أي: إذا أردن، وليس معناه الشرط؛ لأنه لا
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
322
يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصنًا. كقوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: إذا كنتم مؤمنين.
القول الرابع: إن في هذه الآية تقديمًا وتأخيرًا، فيكون هذا القيد راجعًا إلى الأيامى. ويكون تقدير الكلام؛ أي: وانكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنًا، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء. اهـ.
وقيل (١): إن هذا الشرط ملغى. وقيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن. وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه. فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال، ولا للحرام، كما فيمن لا رغبة لها في النكاح. والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن.
ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: ﴿لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: لا تكرهوهن أيها السادة على الزنا، لتطلبوا بهذا الإكراه حطام هذه الحياة الدنيا. والعرض (٢) ما لا يكون له ثبوت. ومنه استعار المتكلمون العرض، لما لا ثبات له قائمًا بالجوهر. كاللون والطعم. وقيل: الدنيا عرض حاضر، تنبيهًا على أن لا ثبات لها.
والمعنى: لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال من كسبهن وبيع أولادهن. وهذا التعليل أيضًا خارج مخرج الغالب.
والمعنى: أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب؛ لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلًا لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها إذا لم يكن مبتغيًا بكراهها عرض الحياة الدنيا.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
323
﴿وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ﴾؛ أي: ومن يكره منكم أيها السادة الإماء على البغاء ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ﴾؛ أي: من بعد إكراهكم إياهن، فهو مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: من بعد كونهن مكرهات على البغاء ﴿غَفُورٌ﴾ لهن ما قد يعرض لهق في تضاعيف الزنا، وتكراره من شائبة المطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصرًا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار. ﴿رَحِيمٌ﴾ بهن بعدم مؤاخذتهن على البغاء، وفي هذا التفسير جواب عما يقال: إن المكرهة على الزنا غير آثمة.
ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن مسعود وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير ﴿لهن غفور رحيم﴾ بزيادة لهن، وتوسيط (١) الإكراه بين اسم إن وخبرها للإيذان. بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة.
وفيه دلالة على أن المكرهين محرومون منهما بالكلية. وحاجتهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم، باعتبار أنهن وإن كن مكرهات، لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة ما بحكم الجبلة البشرية. كما مرّ آنفًا. أو أتي بالمغفرة لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه، والتشديد في تحذير المكرهين، ببيان أنهن حيث كنَّ عرضة للعقوبة. لولا أن تداركتهن المغفرة والرحمة، مع قيام العذر في حقهن، فما حال من يكرههن في استحقاق العقاب. اهـ. "أبو السعود".
وفي "الكواشي" المغفرة هاهنا عدم الإثم؛ لأنها لا إثم عليها إذا أكرهت على الزنا بقتل أو ضرب مفضٍ إلى تلف النفس، أو تلف العضو. وأما الرجل فلا يحل له الزنا، وإن أكره عليه؛ لأن الفعل من جهته ولا يتأتى إلا بعزيمة منه فيه، فكان كالقتل بغير حق، لا يبيحه الإكراه بحال. انتهى. وقيل: إن المعنى: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم، إما مطلقًا أو بشرط التوبة.
٣٤ - ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام.. شرع (٢) في وصف القرآن
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
324
بصفات ثلاث:
الأول: كونه آيات مبينات. والثانية: كونه مثلًا. والثالثة: كونه موعظة. فقال: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون في هذه السورة الكريمة آيات مبينات، لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب والتبيين في الحقيقة لله تعالى. وإسناده إلى الآيات مجاز عقلي.
وقرأ (١) ﴿مبينات﴾ بفتح الياء الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر؛ أي: بين الله في هذه إلسورة وأوضح آياتٍ تضمنت أحكامًا وحدودًا وفرائض. فتلك الآيات هي المبينة ويجوز أن يكون المراد مبينًا فيها ثم اتبع، فيكون المبين في الحقيقة غيرها. وهي ظرف للمبين. وقرأ باقي السبعة والحسن وطلحة والأعمش بكسر الياء. فإما أن تكون متعدية؛ أي: مبينات غيرها من الأحكام والحدود. فأسند ذلك إليها مجازًا. وإما أن تكون لا تتعدى؛ أي: بينات في نفسها، لا تحتاج إلى موضح، بل هي واضحة. لقولهم في المثل:
قد بين الصبح لذي عينين؛ أي: قد ظهر ووضح.
﴿وَمَثَلًا﴾ معطوف على آيات؛ أي: وأنزلنا (٢) إليكم مثلًا كائنًا ﴿مِنَ﴾ قبيل أمثال ﴿الَّذِينَ خَلَوْا﴾؛ أي: مضوا ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء. فتنتظم قصة عائشة الحاكية لقصة يوسف وقصة مريم في القرابة وسائر الأمثال الواردة انتظامًا واضحًا، فإن في قصتهما ذكر تهمة من هو بريء مما اتهم به. فيوسف اتهمته زليخا، ومريم اتهمتها اليهود مع براءتهما.
أي: وأنزلنا إليكم قصة غريبة من جنس قصص الذين خلوا من قبلكم في الغرابة. وهي (٣) قصة عائشة - رضي الله عنها - فإنها كقصة يوسف ومريم، ولقد
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان بتصرف.
(٣) البيضاوي.
325
برأ الله سبحانه أربعة بأربعة. برأ يوسف بلسان الشاهد، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بانطاق ولدها، وبرأ عائشة بتلك الآيات. وفي هذا تخويف لهم، أن يلحقهم ما لحق من قبلهم من المكذبين. ﴿و﴾ أنزلنا إليكم ﴿مَوْعِظَةً﴾ وتذكرةً ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: للذين يتقون الشرك والكبائر، يتعظون بها وينزجرون عما لا ينبغي لهم من المحرمات والمكروهات، وسائر ما يخل بمحاسن الآداب، ومدار (١) العطف هو التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي، فالموعظة ما وعظ به في الآيات. من (٢) قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾ وقوله: ﴿يعظكم أن تعودوا لمثله أبدا﴾ وخص المتقين بالذكر مع شمول الموعظة للكل حسب شمول الإنزال؛ لأنهم المنتفعون بها، المغتنمون لآثارها، المقتبسون من أنوارها. وأما غير المتقين، فإن الله سبحانه قد ختم على قلوبهم، وجعل على بصرهم غشاوةً عن سماع المواعظ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشتمل عليه الآيات.
والمعنى: أي ولقد أنزلنا إليكم آيات القرآن مبينات لما أنتم في حاجة إليه من الأحكام والآداب.. كما أنزلنا قصصًا من أخبار الأمم السالفة، كقصة يوسف وقصة مريم، وفيهما شبه بقصة عائشة. وفيهما عظة لمن اتقى الله وخاف عقابه، وخشي عذابه.
وأثر عن علي - كرم الله وجهه - في وصف القرآن. فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضلّه الله اهـ.
فإن قلت: لم قال (٣) هنا: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا﴾ بذكر واو العطف. وقال فيما سيأتي: ﴿لقد أنزلنا﴾ بدون الواو، وزاد هنا ﴿إِلَيْكُمْ﴾ بخلاف ما سيأتي؟
قلت: لأن اتصال ما هنا بما قبله أشد. إذ قوله هنا: ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) فتح الرحمن.
326
مصروف إلى الجمل السابقة من قوله: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾ إلى آخره، وفيه معطوفان بالواو، فناسب ذكرها بالعطف، وذكر ﴿إِلَيْكُمْ﴾ ليفيد أن الآيات المبينات نزلت في المخاطبين في الجمل السابقة. وما ذكر بعدُ خالٍ عن ذلك، فناسبه الاستئناف والحذف.
٣٥ - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى مثلين:
أحدهما: في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور.
والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في غاية الظلمة.
أما المثل الأول: فقوله تعالى: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: مظهرهما (١) ومبديهما وموجدهما من العدم بكمال القدرة الأزلية.
وقال ابن عباس: أي الله هادي أهل السماوات والأرض، فهم بنوره يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون. فمعنى النور هو الهداية؛ أي: ذو نور؛ أي: ذو هداية لأهلهما. وقيل: معناه (٢) الله منور السماوات والأرض. نور السماء بالملائكة. ونور الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقيل: زين الأرض بالنبات والأشجار.
واعلم: أن النور على أربعة أوجه (٣):
أولها: نور يظهر الأشياء للأبصار وهو لا يراها، كنور الشمس وأمثالها، فهو يظهر الأشياء المخفية في الظلمة ولا يراها.
وثانيها: نور البصر، وهو يظهر الأشياء للإبصار ولكنه يراها. وهذا النور أشرف من الأول.
وثالثها: نور العقل، وهو يظهر الأشياء المعقولة المخفية في ظلمة الجهل
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
327
للبصائر، وهو يدركها ويراها.
ورابعها: نور الحق تعالى، وهو يظهر الأشياء المعدومة المخفية في العدم للأبصار والبصائر من الملك والملكوت، وهو يراها في الوجود. كما كان يراها في العدم؛ لأنها كانت موجودة في علم الله، وإن كانت معدومة في ذاتها، فما تغير علم الله، ورؤيته بإظهارها في الوجود، بل كان التغير راجعًا إلى ذوات الأشياء وصفاتها عند الإيجاد والتكوين. ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾؛ أي: صفة نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة، وهو القرآن المبين، كما في "الإرشاد". فهو تمثيل له في جلاء مدلوله، وظهور ما تضمنه من الهدى بالمشكاة المنعوتة.
والمراد بالمثل الصفة العجيبة؛ أي: صفة نوره العجيب، وإضافته إلى ضميره تعالى، دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره. كما في "البيضاوي".
﴿كَمِشْكَاةٍ﴾؛ أي: كصفة كوة، غير نافذة في الجدار في الإنارة. قال بعض أهل المعاني: معنى الآية، كمثل مصباح في مشكاة. فهو من المقلوب ذكره ابن الجوزي.
﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك المشكاة ﴿مِصْبَاحٌ﴾؛ أي: سراج ضخم ثاقب ﴿الْمِصْبَاحُ﴾؛ أي: ذلك المصباح كائن ﴿فِي زُجَاجَةٍ﴾؛ أي: في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر. وفائدة جعل المصباح في زجاجة. والزجاجة في كوة، غير نافذة شدة الإضاءة؛ لأن المكان، كلما تضايق، كان أجمع للضوء. بخلاف الواسع، فالضوء ينتشر فيه. وخص الزجاج؛ لأنه أحكى الجواهر لما فيه.
﴿الزُّجَاجَةُ﴾؛ أي: تلك الزجاجة والقنديل ﴿كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾؛ أي: نجم متلألىء وقَّاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته، كالمشتري والزهرة والمريخ ودرازى الكواكب عظامها المشهورة ومحل الجملة الأولى الرفع على أنها صفة لزجاجة، واللام مغنية عن الرابط كأنه قيل فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب دري. وفي إعادة المصباح والزجاجة معرفين عقب ذكرهما منكرين. والإخبار بما بعدهما مع انتظام الكلام، بأن يقال: كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها
328
كوكب دري من تفخيم شأنها بالتفسير بعد الإبهام ما لا يخفى.
﴿يُوقَدُ﴾ ذلك المصباح؛ أي: يبتدأ إيقاد ذلك المصباح ﴿مِنْ﴾ زيت ﴿شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾؛ أي: كثيرة المنافع؛ لأن الزيت يسرج به، وهو إدام، ودهان ودباغ ويوقد بحطب الزيتون وبثفله، ورماده يغسل به الأبريسم. ولا يحتاج في استخراج دهنه إلى عصار. وفيه زيادة الإشراق، وقلة الدخان. وهو مصحة من الباسور. ﴿زَيْتُونَةٍ﴾ بدل من شجرة خصها من بين سائر الأشجار؛ لأن دهنها أضوأ وأصفى. قال في إنسان العيون: شجرة الزيتون تعمِّر ثلاثة آلاف سنة. وهو أول شجرة نبت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، ونبتت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة. ودعا لها سبعون نبيًا بالبركة. منهم إبراهيم، ومنهم محمد - ﷺ - فإنه قال مرتين: "اللهم بارك في الزيت والزيتون" اهـ. "مراح".
﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾؛ أي: لا شرقية تطلع عليها الشمس في وقت شروقها فقط. ولا غربية تقع عليها حين الغروب فقط، بل بحيث تقع عليها طول النهار، فلا يسترها عن الشمس في وقت من النهار شيء، كالتي على قمة جبل، أو صحراء. فتكون ثمرتها أنضج، وزيتها أصفى. أولا في مضحى، تشرق الشمس عليها دائمًا فتحرقها، ولا في مغيباة تغيب عنها دائمًا فتتركها نيئًا، أو لا نابتة في شرق المعمورة نحو كنكدزٍ وديار الصين. ولا في غربها، نحو طنجة وطرابلس وديار قيروان. بل في وسطها، وهو الشام. فإن زيتونته أجود الزيتون أو في خط الاستواء بين المشرق والمغرب. وهي قبة الأرض، فلا توصف بأحد منهما، فلا يصل إليها حر ولا برد مضران. وقبة الأرض وسط الأرض عامرها خرابها. وهو في مكان تعتدل فيه الأزمان في الحر والبرد، ويستوي الليل والنهار فيها أبدًا، لا يزيد أحدهما على الآخر؛ أي: يكون كل منهما اثنتي عشرة ساعة.
وعبارة "المراغي" هنا: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: الله هادي أهل السماوات والأرض، بما نصب من الأدلة في الأكوان. وبما أنزل على رسله من الآيات البينات فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلال ينجون.
﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾، سبحانه؛ أي: صفة نور الله عَزَّ وَجَلَّ في قلب المؤمن. وهو
329
النور الذي يهتدى به ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾؛ أي: كصفة نور مشكاة؛ أي: كوة غير نافذة في شدة الإشراف والإضاءة، أو مثل أدلته التى بثها في الآفاق. وهدى بها من شاء من عباده، كمثل نور مشكاة فيها ﴿مِصْبَاحٌ﴾؛ أي: سراج ضخم ثاقب، له الصفات الآتية. ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾؛ أي: ذلك المصباح في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر ﴿الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾؛ أي: تلك الزجاجة، كأنها كوكب ضخم مضيء من دراري النجوم.
النجوم وعظامها: كالزهرة والمشتري.
﴿يُوقَدُ﴾ ذلك المصباح والسراج ﴿مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾؛ أي: رويت وشربت فتيلته وخيطه من زيت شجرة زيتونة، كثيرة المنافع زرعت على جبل عال، أو صحراء واسعة، فهي ضاحية للشمس لا يظللها جبل ولا شجر، ولا يحجبها عنها حاجب من حين طلوعها إلى حين غروبها. فزيتها أشد ما يكون صفاء. ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ﴾ فحسب ﴿وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ فحسب بل هي شرقية غربية، تصيبها الشمس من حين طلوعها إلى حين غروبها. كما يقال: فلان لا مسافر ولا مقيم، إذا كان يسافر أحيانًا ويقيم أخرى.
وقوله: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا﴾؛ أي: يقرب زيتها. صفة لشجرة أيضًا؛ أي: من شجرة مباركة موصوفة بأنه يكاد زيتها لشدة صفائه ﴿يُضِيءُ﴾ المكان بنفسه ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ أصلًا. وهذه (١) الجملة معطوفة على جملة محذوفة وقعت حالًا، والتقدير: يكاد زيتها يضيء، لو مسته نار ولو لم تمسسه نار؛ أي: تضيء كائنًا على كل حال، من وجود الشرط وعدمه. فالجملة حالية جيء بها لاستقصاء الأحوال، حتى في هذه الحال.
والمعنى: أن هذا الزيت في صفائه وإنارته، يكاد يضيء بنفسه على كل حال؛ أي: سواء مسته النار أو لم تمسسه، وفي "السمين" قوله: ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ جواب لو محذوف؛ أي: لأضاء لدلالة ما تقدم عليه.
(١) روح البيان.
330
والمعنى: أي (١) زيتها لصفائه وبريقه ولمعانه، كأنه يضيء بنفسه دون أن تمسه النار؛ لأن الزيت إذا كان خالصًا صافيًا ثم ربي من بعد يرى كأن له شعاعًا، فإذا مسته النار ازداد ضوءًا على ضوء. كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد نورًا على نور وهدى على هدى.
قال يحيى بن سلام: قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له، لموافقته إياه، وهو المراد من قوله - ﷺ -: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله".
وارتفاع ﴿نُورٌ﴾ على أنه خبر لمبتدأ محذوف و ﴿عَلَى نُورٍ﴾ متعلق بمحذوف، هو صفة لـ ﴿نور﴾ مؤكدة له؛ أي: ذلك النور الذي عبر به عن القرآن، ومثلت صفته العجيبة الشأن، بما فصل من صفة المشكاة؛ أي: نور المصباح نور كائن على نور؛ أي: نور متضاعف. فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت، وزهرة القنديل، وضبط المشكاة لأشعته، فليس عبارةً عن مجموع نورين اثنين فقط. بل المراد به التكثير. كما يقال: فلان يضع درهمًا على درهم. ولا يراد به درهمان.
أي: نور المصباح نوره مترادف متضاعف، قد تناصرت فيه المشكاة والزجاجة. والمصباح والزيت حتى لم يبق بقية مما يقوي النور، ويزيده إشراقًا، ويمده بإضاءة. ذلك أن المصباح إذا كان في مكان ضيق كالمشكاة.. كان أضوأ له، وأجمع لنوره بخلاف المكان الواسع، فإن الضوء ينبعث فيه وينتشر. والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه.
فإن قلت: ولم مثل الله نوره؛ أي: معرفته في قلب المؤمن بنور المصباح، دون نور الشمس، مع أن نورها أتم؟
قلت: لأن المقصود، تمثيل النور في القلب. والقلب في الصدر، والصدر في البدن كالمصباح، والمصباح في الزجاجة والزجاجة في القنديل. وهذا التمثيل لا يتقيم إلا فيما ذكر؛ ولأن نور المعرفة له آلات يتوقف هو على اجتماعها
(١) المراغي.
331
كالذهن والفهم والعقل واليقظة وغيرها من الصفات الحميدة. كما أن نور القنديل يتوقف على اجتماع القنديل والزيت والفتيلة وغيرها، أو لأن نور الشمس يشرق متوجهًا إلى العالم السفلي، ونور المعرفة يشرق متوجهًا إلى العالم العلوي كنور المصباح. ولكثرة نفع الزيت، وخلوصه عما يخالطه غالبا، وقع التشبيه في ثوره دون نور الشمس مع أنه أتم من نور المصباح. اهـ. "فتح الرحمن".
﴿يَهْدِي اللَّهُ﴾ سبحانه هداية (١) خاصةً موصلة إلى المطلوب حتمًا، وليس المراد بالداية هنا مجرد الدلالة. ﴿لِنُورِهِ﴾؛ أي: لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن. ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ هدايته من عباده، بأن يوقفهم لفهم ما فيه من دلائل حقيته، وكونه من عند الله من الإعجاز، والإخبار عن الغيب، وغير ذلك من موجبات الإيمان. وهذا من قبيل الهداية الخاصة. ولذا قال: من يشاء من عباده. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية، وملاكها ليس إلا مشيئته. وأن تظاهر الأسباب بدونها بمعزل عن الإفضاء إلى المطلوب.
والمعنى: أي (٢) يوفق الله من يشاء من عباده لإصابة الحق، بالنظر والتدبر، وتوجيه الفكر لسلوك الطريق العبادة الموصلة إليه. ومن لم يتدبر، فهو كالأعمى. سواء لديه جنح الليل الدامس، وضحوة النهار الشامس. وعن علي - رضي الله عنه - ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ونشر فيهما الحق وبثه فأضاء له بنوره.
﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿الْأَمْثَالَ﴾؛ أي: الأشباه ويبينها ﴿لِلنَّاسِ﴾ تقريبًا إلى الأفهام، وتسهيلًا لسبل الإدراك؛ أي: يبين الأشياء بأشباهها ونظائرها، تقريبًا لها إلى الأفهام والأذهان، وتسهيلًا لإدراكها؛ لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس، وتصويره بصورته يزيده وضوحًا وبيانًا. وهذا من قبيل الهداية العامة. ولذا قال: للناس.
والمعنى: أي ويسوق الله الأمثال للناس في تضاعيف هدايتهم، بحسب ما تدعو إليه حالهم، لما فيها من الفوائد في النصح والإرشاد. إذ بها تتفتق الأذهان
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
332
للوصول إلى الحق، وبها تأنس النفس بتصويرها المعاني بصور المحسوسات التي تألفها، وتدين بها. ولأمر ما كثرت في القرآن الكريم فقلما ساق حجاجًا، أو أقام دليلًا إلا أردفه بالمثل ليكون أدعى إلى الإقناع، وأرجىء للاقتناع.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء من ضرب الأمثال وغيره من دقائق المعقولات، والمحسوسات، وحقائق الجليات، والخفيات ﴿عَلِيمٌ﴾ لا يغيب عن علمه شيء من الأشياء معقولًا كان أو محسوسًا، ظاهرًا أو باطنًا، فيعطي هدايته من يستحقها ممن صفت نفوسهم، واستعدوا لتلقي أحكام الدين وآدابه. وكذلك يجعل وسائلها على ضروب شتى، بحسب اختلاف أحوال عباده، لتقوم له الحجة عليهم.
وفي هذا وعد وبشارة لمن تدبر الأمثال ووعاها، ووعيد وإنذار لن يتفكر فيها ولم يكترث بها. فإنه لا يصل إلى الحق ولا يهتدي لطريقه.
وخلاصة ذلك: ما قاله ابن عباس - رضي الله عنه -: هذا مثل نور الله، وهداه في قلب المؤمن. فكما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته ازداد ضوءًا على ضوء، يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى، قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد هدًى على هدًى، ونورًا على نور.

فصل في بيان القراءة الجارية في الآية


وقرأ علي (١) بن أبي طالب وأبو جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن علي وثابت بن أبي حفصة ومسلمة بن عبد الملك وأبو عبد الرحمن السلمي والقورصي وعبد الله بن عياش بن أبي ريعة: ﴿اللَّهُ نَوَّرَ﴾ فعلًا ماضيًا. ﴿السَّمَاوَاتَ وَالْأَرْضَ﴾ بالنصب.
وقرأ أبو (٢) رجاء العطاردي ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد وابن أبي عبلة: ﴿في زَجاجة الزَّجاجة﴾ بفتح الزاي فيهما. وقرأ معاذ القاري وعاصم
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير والبحر المحيط.
333
الجحدري وابن يعمر بكسر الزاي فيهما. وقرأ الجمهور: بضم الزاي فيهما. وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وابن كثير: ﴿درى﴾ بضم الدال وتشديد الراء والياء من غير مد ولا همز، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه. ويحتمل أن يكون أصله الهمز، فأبدل وأدغم.
وقرأ أبو عمرو والكسائي وأبان عن عاصم بكسر ﴿دريىء﴾ بكسر الدال وتخفيف الياء ممدودًا مهموزًا. وهو بناء كثير في الأسماء، نحو سكين. وفي الأوصاف نحو: سكِّير قال ابن قتيبة: المعنى على هذا إنه من الكواكب الدرارىء، وهي اللاتي يدرأن عليك؛ أي: يطلعن. وقال الزجاج: هو مأخوذ من درأ يدرأ إذا اندفع منقضًا فتضاعف نوره. يقال: تدارأ الرجلان إذا تدافعا. وقرأ عبد الله بن عمر والزهري والمفضل عن عاصم ﴿درى﴾ بكسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مد. وقرأ عثمان بن عفان وابن عباس وعاصم الجحدري ﴿دريىء﴾ بفتح الدال وكسر الراء ممدودًا مهموزًا. وقرأ أبيّ بن كعب وسعيد بن المسيب وقتادة وزيد والضحاك ﴿دريّ﴾ بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مد ولا همز. وقرأ ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وابن يعمر ﴿درىء﴾ بفتح الدال وكسر الراء مهموزًا مقصورًا. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم والوليد بن عتبة عن ابن عامر ﴿دريىء﴾ بضم الدال وتخفيف الياء مع إثبات الهمزة والمد.
وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - وأبو بكر عن عاصم والحسن وزيد بن علي وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش: ﴿توقد﴾ بضم التاء والدال؛ أي: الزجاجة؛ أي: مصباحها مضارع أوقدت مبنيًا للمفعول. وقرأ (١) نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: ﴿يوقد﴾ بالياء مضمومة مع ضم الدال؛ أي: المصباح. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿توقد﴾ بفتح الحروف الأربعة وتشديد القاف فعلًا ماضيًا من باب تفعل؛ أي: المصباح أيضًا؛ لأنه هو الذي يوقد. وقرأ
(١) البحر المحيط.
334
الحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم: ﴿توقد﴾ بفتح الحروف الثلاثة الأولى، وضم الدال مضارع توقد، وأصله تتوقد؛ أي: الزجاجة يعني مصباحها. وقرأ عبد الله ﴿وقد﴾ بغير تاء وشدد القاف جعله فعلًا ماضيًا؛ أي: وقد المصباح. وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضًا كذلك. إلا أنه بالياء من تحت ﴿يوقد﴾ وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن. وأصله يتوقد؛ أي: المصابح إلا أن حذف التاء في تتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف. وفي يتوقد شاذ جدًّا؛ لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة. وله وجه من القياس. وهو حمله على يعد، إذ حمل يعد على تعد في حذف الواو. وكذلك هذا لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء، وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلًا.
وقرأ الجمهور: ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ بالخفض على أنه صفة لزيتونة. وقرأ الضحاك بالرفع؛ أي: لا هي شرقية ولا غربية. والجملة في موضع الصفة. وقرأ الجمهور: ﴿تَمْسَسْهُ﴾ بالتاء، وابن عباس والحسن بالباء من تحت وحسنه الفصل وإن تأنيث النار مجازي. وهو مؤنث بغير علامة.
٣٦ - وقوله: ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ تعلق بمحذوف، صفة لمشكاة، والتقدير: مثل نوره سبحانه كمثل نور مشكاة وكوة كائنة في بيوت ومساجد. ﴿أَذِنَ اللَّهُ﴾ سبحانه وأمر ﴿أَنْ تُرْفَعَ﴾؛ أي: أن تبنى تلك البيوت والمساجد رفيعةً وتطهر وتنظف من الأنجاس والأقذار. وقيل: تعظم فلا يذكر فيها الفحش من القول.
وقد كره (١) بعض العلماء تعليم الصبيان في المساجد، ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة. فلو كان بغير أجرة، لمنع أيضًا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون من الأقذار والأوساخ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد. وقد أمر رسول الله - ﷺ - بتنظيفها وتطييبها. فقال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وسل سيوفكم، وإقامة حدودكم، ورفع أصواتكم
(١) المراح والقرطبي.
335
وخصوماتكم، وجمروها في الجمع، واجعلوا لها على أبوابها المطاهر".
وفي "الفتوحات" قوله: ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ فيه ستة أوجه:
أحدها: أنه صفة لمشكاة؛ أي: كمشكاة كائنة في بيوت؛ أي: في بيت من بيوت الله.
الثاني: أنه صفة لمصباح.
الثالث: أنه صفة لزجاجة.
الرابع: أنه متعلق بتوقد، وعلى هذه الأقوال لا يوقف على عليم.
والخامس: أنه متعلق بمحذوف. كقوله تعالى: ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ﴾؛ أي: سبحوه في بيوت.
السادس: أنه متعلق بيسبح؛ أي: يسبح رجال في بيوت. ولفظ فيها حينئذٍ مكرر للتوكيد. كقوله تعالى: ﴿فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ﴾ وعلى هذين القولين فيوقف على عليم. اهـ. "سمين".
قيل (١): المراد بالبيوت هنا، جميع المساجد. فقد قال ابن عباس: بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض. وقيل: المراد بها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي، الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلةً. وبيت المقدس بناه داود وسليمان. ومسجد المدينة، ومسجد قباء، بناهما رسول الله - ﷺ -. اهـ. "خازن".
وقيل: المراد بها (٢) بيوت بيت المقدس. روي ذلك عن الحسن.
وقيل: بيوت النبي - ﷺ - رواه مجاهد. وقيل: هي البيوت كلها، والقول الأول أظهر لقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾.
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
336
وقد يقال: على تقدير تعلقه بمشكاة أو بمصباح، أو بتوقد ما الوجه، في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيوت، ولا تكون المشكاة الواحدة، ولا المصباح الواحد إلا في بيت واحد. وأجيب بأن هذا من الخطاب، الذي يفتح أوله بالتوحيد، ويختم بالجمع، كقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ ونحوه.
وقيل: معنى في بيوت، في كل واحد من البيوت فكأنه قال: في كل بيت، أو في كل واحد من البيوت. وقوله: ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ معطوف على ﴿ترفع﴾؛ أي: وأمر أن يذكر فيها اسمه. واسم (١) الله تعالى كل ما يصح أن يطلق عليه بالنظر إلى ذاته كلفظ الجلالة، أو باعتبار صفة من صفاته السلبية كالقدوس، أو الثبوتية كالعليم. أو باعتبار فعل من أفعاله كالخالق. لكنها توفيقية عند بعض العلماء. وذكر الله هنا عام في كل ذكر توحيدًا كان أو تسبيحًا أو تحميدًا أو تكبيرًا أو تلاوة قرآن، أو مذكرة علوم شرعية، أو ما كان آلةً لها، أو آذانًا، أو إقامة، أو نحوها.
والمعنى مثل نوره كمشكاة، كمصباح موضوع في مشكاة كائنة في بيوت أمر الله بتطهيرها من الأنجاس الحسية، والمعنوية، كاللغو ورفث الحديث. وأمر بذكره فيها، وإخلاص العبادة له.
﴿يُسَبِّحُ لَهُ﴾ سبحانه ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك البيوت، وينزهه ويقدسه عما لا يليق به. ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾؛ أي: في أول النهار وآخره. ﴿رِجَالٌ﴾ فاعل ﴿يسبح﴾. وخصوا بالذكر؛ لأن النساء ليس عليهن حضور المسجد لجمعة ولا لجماعة. اهـ. "سمين".
ولفظ فيها تكرير، لقوله: في بيوت للتأكيد والتذكير، لما بينهما من الفاصلة. إن قلنا إن قوله: ﴿في بيوت﴾ متعلق بـ ﴿يسبح﴾. وللإيذان بأن التقديم للاهتمام، لا لقصر التسبيح على الوقوع في البيوت فقط. والتسبيح تنزيه الله
(١) روح البيان.
337
تعالى عما لا يليق به، وجعل عامًا في جميع العبادات قولًا كان أو فعلًا أو نيةً. ولكن أريد به هنا الصلوات المفروضة. كما ينبىء عنه تعيين الأوقات، بقوله: ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾؛ أي: بالغدوات والعشيات.
فالمراد بالغدو وقت صلاة الفجر؛ لأنها مؤداة فيه. وبالآصال ما عداه من أوقات صلوات الظهر والعصر والعشائين؛ لأن الأصيل يجمعها ويشملها. كما في "الكواشي" وغيره؛
٣٧ - أي: يسبح له فيها رجال موصوفون بأنهم ﴿لَا تُلْهِيهِمْ﴾؛ أي: لا تشغلهم من غاية الاستغراق في مقام الشهود، وهو في محل رفع صفة أولى لرجال. ﴿تِجَارَةٌ﴾؛ أي: تقليب المال لغرض الربح؛ أي: التصرف في رأس المال طالبًا الربح. وتخصيص (١) التجارة لكونها أقوى الصوارف عندهم، وأشهرها؛ أي: لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ﴿وَلَا بَيْعٌ﴾ لأموالهم، ﴿ولا﴾ شراء لأموال غيرهم. فالبيع ضابطه إعطاء المثمن وأخذ الثمن، والشراء إعطاء الثمن وأخذ المثمن؛ أي: ولا فرد من أفراد البيوع. وعطف البيع على التجارة من عطف الخاص على العام، لشمول التجارة للبيع والشراء. وإن كان في غاية الربح. وإفراده بالذكر من اندراجه تحت التجارة، لكونه أهم من قسمي التجارة، فإن الربح يتحقق بالبيع، ويتوقع بالشراء؛ أي: ربح الشراء متوقع في ثاني الحال عند البيع، فلم يكن ناجزًا كربح البيع، فإذا لم يلههم المقطوع، فالمظنون أولى.
فإن قلت: لم عطف البيع على التجارة مع شمولها له؟
قلت: لأن التجارة هي التصرف في المال، لقصد الربح، والبيع أعم من ذلك، فعطفه عليها لئلا يتوهم القصور على بيع التجارة، أو أريد بالتجارة الشراء لقصد الربح، وبالبيع البيع مطلقًا. اهـ. "فتح الرحمن".
﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ بالتسبيح والتمجيد، أو عن حضور المسجد لإقامة الصلاة كما في "الخازن". ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾؛ أي: وعن إقامتها، وأدائها جماعة في مواقيتها من غير تأخير؛ لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي
(١) روح البيان.
338
الصلاة. وقد أسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال، وعوض عنها الإضافة.
قال الراغب: قوله تعالى: ﴿لَا تُلْهِيهِمْ﴾ الآية. ليس ذلك نهيًا عن التجارة وكراهيةً لها، بل نهى عن التهافت والاشتغال عن الصلوات والعبادات بها. انتهى.
قال ابن الشيخ: إقامة الصلاة إتمامها برعاية جميع ما اعتبره الشرع من الأركان والشروط والسنن والآداب، فمن تساهل في شيء منها.. لا يكون مقيمًا لها.
﴿وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾؛ أي: إعطاء المال الذي فرض إخراجه للمستحقين. وإيراده هاهنا، وإن لم يكن مما يفعل في البيوت، لكونه قرين إقامة الصلاة لا يفارقها في عامة المواضع. وقيل: المراد بالزكاة طاعة الله والإخلاص فيها، إذ ليس لكل مؤمن مال.
ومعنى الآية: ينزه الله (١) ويقدسه في أول النهار وآخره، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها، ولابيوعهم، ولا تجارتهم عن ذكر ربهم. وهو خالقهم ورازقهم. إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم، وأنفع مما بأيديهم. فما عندهم ينفد وما عند الله باقٍ. ويؤدون الصلاة في مواقيتها، على الوجه الذي رسمه الدين، ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم، تطهيرًا لأنفسهم من الأرجاس. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ الآية. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾.
وقرأ الجمهور (٢) ابن كَثير وحفص عن عاصم ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: ﴿يُسَبِّحُ﴾ بالياء التحتانية المضمومة والباء الموحدة المشددة المكسورة، و ﴿رجال﴾ فاعل له. وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة ومعاذ القارىء ﴿تسبح﴾ بالتاء الفوقانية المضمومة وكسر الباء المشددة، و ﴿رجال﴾ فاعل له.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
339
وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم والبختري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمنهال عن يعقوب والمفضل وأبان ﴿يسبح﴾ بالياء المضموة التحتانية، والباء الموحدة المفتوحة على صيغة المبني للمفعول، وأحد المجرورات الثلاثة المذكورة بعده في وضع المفعول الذي لم يسم فاعله. والأولى منها الذي يلي الفعل؛ لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة. وعلى هذه القراءة، فرجال مرفوع بفعل محذوف، تقديره: يسبحه رجال، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: المسبحون له رجال.
وقرأ أبو جعفر: ﴿تسبح﴾ بالتاء الفوقية المضمومة، وفتح الباء الموحدة على صفة المبني للمجهول. قال الزمخشري: ووجه هذه القراءة أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة. والمراد ربُّها كـ: صِيْدَ عليه يومان. والمراد وحشهما انتهى.
ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير التسبيحة الدال عليه تسبح؛ أي: تسبح له هي؛ أي: التسبيحة. كما قالوا.
﴿ليجزى قومًا﴾ في قراءة من بناه للمفعول، ليجزى هو؛ أي: الجزاء. وقرأ أبو مجلز ﴿والإيصال﴾ بدل الآصال.
وقوله: ﴿يَخَافُونَ﴾ يجوز أن يكون نعتًا ثانيًا لرجال، وأن يكون حالًا من مفعول تلهيهم. ﴿يَوْمًا﴾ مفعول به، لا ظرف على الأظهر، وهو يوم القيامة. ﴿تَتَقَلَّبُ﴾ صفة لـ ﴿يومًا﴾، كما سيأتي في مبحث الإعراب؛ أي: يسبح له فيها رجال يخافون عذاب يوم تتقلب وتضطرب ﴿فِيهِ الْقُلُوبُ﴾ والأفئدة من شدة الهول والفزع. ﴿و﴾ تشخص فيه الأبصار من الهلع والحيرة، والرعب والخوف.
وقرأ ابن محيصن ﴿تقلب﴾ بإدغام التاء في التاء؛ أي: يخافون (١) يومًا
(١) المراغي.
340
تتقلب في ذلك اليوم القلوب بين طمع في النجاة وخوف من الهلاك، وتتقلب فيه الأبصار من أي ناحية يؤمر بهم، أمن ناحية اليمين، أم من ناحية الشمال. ومن أي ناحية يعطون كتابهم، أمن قبل إليمين، أم من قبل الشمال؛ أي: فإنهم وإن بالغوا في ذكر الله تعالى، والطاعات خائفون لعلمم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته.
وقيل: تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك إلى اليقين، وتنفتح الأبصار من الأغطية. وقيل: يتقلب القلب في الجوف فيرتفع إلى الحنجرة، فلا ينزل ولا يخرج. ويتقلب البصر فيشخص من هول الأمر وشدته. ونحو الآية قوله: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ وقوله: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾.
٣٨ - ثم بين مآل أمرهم وحسن عاقبتهم، فقال: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ واللام (١) فيه للعاقبة والصيرورة لا للعلة متعلقة بمحذوف تقديره: يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ليجزيهم الله سبحانه أحسن ما عملوا؛ أي: حسن ما عملوا. فالمفاضلة ليست على بابها، فالمحترز عنه، المجازاة على العمل القبيح. فالمعنى: ليجزيهم الله سبحانه على ما عملوا من الحسنات حسبما وعدهم، من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله، وإلى سبع مئة ضعف.
قال تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ ولا يجزون على ما عملوا من السيئات؛ أي: عملوا ما عملوا ليصير مآل أمرهم، وعاقبته الجزاء الحسن، فليست اللام للعلة، كما مر آنفًا؛ لأن هذه مرتبة عامة المؤمنين، وتلك الأوصاف إنما هي لكامل الإيمان.
﴿وَيَزِيدَهُمْ﴾ سبحانه ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وإحسانه وكرمه أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم، ولم تخطر ببالهم. وهو العطاء الخاص لا لعمل؛ أي: فلا يقتصر في
(١) الصاوي.
إعطائهم على جزاء أعمالهم، بل يعطون أشياء لم تخطر ببالهم. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿يَرْزُقُ﴾ ويعطي ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ إعطاءه ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ أي: من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، أو أن عطاءه لا نهاية له. والرزق: العطاء الجاري، والحساب: استعمال العدد؛ أي: يفيض ويعطي من يشاء ثوابًا لا يدخل تحت حساب الخلق. يقال: فلان ينفق بغير حساب؛ أي: يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه، فهو كناية عن كون الله يعطيهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. بغير نهاية فوق ما وعدهم به. وهذا تذييل ووعد كريم، بأنه تعالى يعطيهم فوق أجور أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب.
قال بعض السلف (١): نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة.. تركوا كل شغل وبادروا إليها؛ أي: لا في أصحاب الصفة، وأمثالهم الذين تركوا التجارة ولزموا المسجد، فإنه تعالى قال: ﴿وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ وأصحاب الصفة وأمثالهم لم يكن عليهم الزكاة. اهـ.
٣٩ - ولما ضرب (٢) الله سبحانه المثل للمؤمنين بأشرف الأمثال وأعلاها.. ضرب المثل للكفار بأشر الأشياء وأخسها، فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾.
والحاصل: أن الله سبحانه ضرب للكفار مثلين: مثل لأعمالهم الحسنة بقوله: ﴿كَسَرَاب﴾ الخ، ومثل لأعمالهم السيئة بقوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾ الخ. والاسم الموصول مبتدأ أول، و ﴿كَفَرُوا﴾ صلته، و ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ مبتدأ ثان، ﴿كَسَرَابٍ﴾ خبر الثاني. والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول.
أي: والذين كفروا بالله ورسوله، أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وعتق الأرقاء، وعمارة البيت، وسقاية الحاج، وإغاثة الملهوفين، وقرى الأضياف، وإراقة الدماء، ونحو ذلك، مما لو قارنه الإيمان لاستتبع الثواب ولا تتوقف صحته على نية كائنة، كسراب ﴿بِقِيعَةٍ﴾؛ أي: كائن في قيعة. فالباء
(١) روح البيان.
(٢) الصاوي.
342
بمعنى في. والسراب هو شبه (١) ماء يرى نصف النهار، عند شدة الحر في البراري، يظنه من رآه ماء. فإذا قرب منه، لم ير شيئًا، وسمي سرابًا؛ لأنه يتسرب؛ أي: يجرى كالماء. ويسمى آلًا أيضًا. قال الشاعر:
إِذَا أَنَا كَالَّذِيْ يَجْرِيْ لِوِرْدٍ إِلَى آلٍ فَلَمْ يُدْرِكْ بِلاَلاَ
والقيعة: جمع قاع، كجيرة جمع جار، وهي الأرض المنبسطة المستوية، قد انفجرت عنها الجبال.
﴿يَحْسَبُهُ﴾؛ أي: يتوهمه ويظنه ﴿الظَّمْآنُ﴾ أي: العطشان. وكذا كل من رآه ﴿مَاءً﴾ حقيقةً، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع شموله لكل من يراه كائنًا من كان من العطشان، والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشبه. وهو الابتداء المطمع والانتهاء المؤيسى. ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ﴾؛ أي: جاء ما توهمه ماءً، وعلق به رجاءه ليشرب منه، فهو غاية لمحذوف؛ أي: يستمر سائرًا إليه حتى إذا جاءه. ﴿لَمْ يَجِدْهُ﴾؛ أي: لم يجد ما حسبه ماء. ﴿شَيْئًا﴾ أصلًا، لا متحققًا ولا متوهمًا، كما يراه من قبل، فضلًا عن وجدان ماءٍ فيزداد عطشًا.
كذلك الكافر، يحسب أن عمله كصدقة ينفعه، حتى إذا مات وقدم على ربه، لم يجد عمله؛ أي: لم ينفعه. ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ﴾ سبحانه؛ أي: وجد وعد الله بالجزاء على عمله، والمعنى: وجد عذاب الله له، عند مجيئه.
﴿فَوَفَّاهُ﴾؛ أي: أعطاه وافيًا كاملًا ﴿حِسَابَهُ﴾؛ أي: حساب عمله وجزاءه. يعني: ظهر له بعد ذلك، من سوء الحال، ما لا قدر عنده، للخيبة والقنوط أصلًا. كمن يجيء إلى باب السلطان للصلة، فيضرب ضربًا وجيعًا.
والحاصل (٢): أنه شبه حال الكافر من حيث اعتقاده، أن عمله الصالح ينفعه في الآخرة، فإذا جاء يوم القيامة، لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم، والعذاب الأليم، فتغير ظن النفع العظيم إلى تيقن الضُّر العظيم.
(١) الخازن.
(٢) الصاوي.
343
فعظمت حسرته، بحال الظمآن الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب تعلق به، فإذا جاءه لم يجده شيئًا، وإفراد (١) الضمير الراجع إلى الذين كفروا في قوله: ﴿فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ لإرادة الجنس، أو لإرادة كل واحد منهم. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ لا يشغله حساب عن حساب؛ لأنه عالم بجميع المعلومات، فلا يشق عليه الحساب.
وقرأ مسلمة بن محارب (٢): ﴿بقيعاه﴾ بهاء مدورة. كما يقال: رجل عزهاه. وروي أنه قرأ ﴿بقيعات﴾ بتاء مبسوطة. قيل: يجوز أن تكون الألف متولدة من إشباع العين على الأول. وجمع قيعة على الثاني. وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة أنهم قرؤوا ﴿الظمآن﴾ بغير همز. والمشهور عنهم الهمز.
وحال معنى الأية: أنه (٣) سبحانه وتعالى شبه الأعمال الصالحة التي يعملها، من جحدوا توحيد الله وكذبوا بهذا القرآن وبمن جاء به ويظنون أنها تنفعهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب في العاقبة آمالهم، ويلقون خلاف ما قدروا بالسراب، يراه من اشتد به العطش، فيحسبه ماء فيطلبه ويظن أنه قد حصل على ما يبغي، حتى إذا جاءه لم يجد شيئًا، هكذا حال الكافرين يحسبون أعمالهم نافعةً منجية لهم من بأس الله، حتى إذا جاءهم العذاب يوم القيامة، لم تنفعهم ولم تغنهم من عقابه، إلا كما ينتفع بالسراب من اشتد ظمؤه، واحتاج إلى ما به يروي غلته.
ثم بين شديد عقابه بقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾؛ أي: ووجد عقاب الله الذي توعد به الكافرين أمامه، وتحول ما كان يظنه نفعًا عظيمًا إلى ضرر محقق، وتجيؤه الزبابية تعتله وتسوقه إلى جهنم، وتسقيه الحميم والفساق، ونحو الآية قوله: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾، ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ لا يشغله حساب عبد عن حساب آخر.
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
344
وخلاصة ما سلف: أن الخيبة والخسران في الآخرة لمن عملوا صالح الأعمال في الدنيا، كصلة الأرحام وإغاثة الملهوفين ونحو ذلك، وظنوا أنها تنجيهم من عذاب ربهم، وهم مع ذلك جاحدوا وحدانية الله، مكذبون لرسله، فما مثلهم إلا مثل من اشتد ظمؤه ورأى السراب فخاله ماء، وظن أنه قد وجد ضالته فسعى إليه حتى إذا جاءه لم يجد شيئًا، ورجع بخفي حنين.
هذه حالهم في الآخرة،
٤٠ - أما حالهم في الدنيا فكما قال تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾ معطوف على كـ ﴿سراب﴾، ولكنه على (١) حذف مضاف واحد، تقديره: أو كذي ظلمات، ودل على هذا المضاف قوله تعالى: ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ فالضمير يعود إلى المضاف المحذوف، وهو قول أبي علي، أو على حذف مضافين، تقديره: أو كأعمال ذي ظلمات، فقدر ذي، ليصح عود الضمير إليه في قوله: ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ﴾. وقدر أعمال، ليصح تشبيه أعمال الكفار، بأعمال صاحب الظلمات، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات. وقيل: لا حاجة إلى حذف ألبتة.
والمعنى: أنه شبه أعمال الكفار في حيلولتها بين القلب، وما يهتدى به بالظلمة، وأما الضميران في ﴿أَخْرَجَ يَدَهُ﴾ فيعودان على محذوف دل عليه المعنى؛ أي: إذا أخرج يده من فيها اهـ. "سمين".
و ﴿أَوْ﴾ فيه إما للتقسيم؛ لأن أعمال الكفار تنقسم إلى قمسين، قسم: كالسراب، وهو العمل الصالح. وقسم: كالظلمات، وهو العمل السيء. اهـ. "شيخنا".
وفي "البيضاوي": أن ﴿أَوْ﴾ فيه، إما للإباحة، فإن أعمالهم لكونها لاغية، لا منفعة لها، كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق، كالظلمات المتراكمة، من لجج البحر والسحاب والأمواج. فكانه قال: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بهذه الظلمات. أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، وإن
(١) الفتوحات.
345
كانت سيئةً فكالظلمات. أو للتقيم باعتبار وقتين، فإنها كالظلمات في الدنيا، وكالسراب في الآخرة. اهـ.
أي: والذين كفروا أعمالهم كسراب، أو كظلمات كائنة. ﴿فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾؛ أي: في بحر عميق كثير الماء. منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر. ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ صفة ثانية لبحر؛ أي: يستر ذلك البحر، ويغطيه بالكلية موج. والموج: ما ارتفع من الماء. ﴿مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ مبتدأ وخبر. والجملة صفة لـ ﴿مَوْجٌ﴾؛ أي: من فوق ذلك الموج الأول موج آخر؛ أي: أمواج متراكمة بعضها على بعض. ﴿مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾؛ أي: غيم. صفة لـ ﴿مَوْجٌ﴾ الثاني؛ أي: من فوق الموج الثاني، الأعلى سحاب غطى النجوم، وحجب أنوارها، وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعفها، حتى كأنها بلغت السحاب، ﴿ظلمات﴾؛ أي: هذه المذكورات من الأمواج والسحاب، ظلمات متكاثفة متراكمة، ﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾.
وفي "الخازن" (١): معناه أن البحر اللجي، يكون قعره مظلمًا جدًّا بسبب غمورة الماء وكثرته وارتفاعه، فإذا تردافت الأمواج ازدادت الظلمة، فإن كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى. ووجه الشبه، أن الله عز وجل، ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات، ظلمة البحر، وظلمة الأمواج وظلمة السحاب. وكذلك الكافر له ثلاث ظلمات، ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول وظلمة العمل.
وقيل: شبه بالبحر اللجي قلبه، وبالموج ما يتغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الختم والطبع على قلبه، ولكن هذا بعيد عن لغة العرب. كما في "الشوكاني". قال أبيّ بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلم، كلامه ظلمة وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة في النار.
والمعنى (٢): أو الذين كفروا أعمالهم القبيحة كظلمات كائنة في بحر عميق،
(١) الخازن.
(٢) المراح.
346
يعلوه موج كائن من فوقه موج كائن من فوق ذلك الموج الثاني سحاب ستر ضوء النجوم. وما تقدم ذكره ظلمات متراكمة، وهي ظلمة البحر وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الثاني، وظلمة السحاب. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات. كما أن قوله تعالى: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ بيان لغاية قوة النور. إلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به.
وقرأ سفيان (١) بن حسين ﴿أو كظلمات﴾ بفتح الواو، جعلها واو عطف تقدمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه، الخالي عن محض الاستفهام، وقرأ الجمهور: ﴿سحاب﴾ بالتنوين. ﴿ظلمات﴾ بالرفع، على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذه، أو تلك ظلمات. وقرأ البزي وابن محيصن ﴿سحاب ظلمات﴾ بإضافة ﴿سحاب﴾ إلى ﴿ظلمات﴾، وجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة. وقرأ قنبل ﴿سحابٌ﴾ بالتنوين، ﴿ظلمات﴾ بالجر بدلًا من ﴿ظلمات﴾ الأولى.
ثم بالغ سبحانه، في هذه الظلمات المذكورة، بقوله: ﴿إِذَا أَخْرَجَ﴾؛ أي: من (٢) ابتلي بهذه الظلمات، أو الحاضر فيها، وإضماره من غير ذكره لدلالة المعنى عليه، دلالة واضحة ﴿يَدَهُ﴾، وهي أقرب أعضائه المرئية إليه، وجعلها بمرأى منه قريبةً من عينه لينظر إليها. ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾؛ أي: لم يقرب أن يراها لشدة الظلمة فضلًا عن أن يراها.
قال الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها، لم يكد. وقال الفراء إن ﴿يكد﴾ زائدة.
والمعنى: إذا أخرج يده لم يرها. كما تقول: ما كدت أعرفه. وقال المبرد، يعني: لم يرها إلا من بعد الجهد. قال النحاس: أصح الأقوال في هذا، أن المعنى: لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يرها رؤيةً بعيدةً، ولا قريبةً.
وجملة قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ مقررة لما قبلها، من
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
347
كون أعمال الكفرة على تلك الصفة.
والمعنى: ومن لم يجعل الله له هدايةً، فماله من هداية. قال الزجاج: ذلك في الدنيا. والمعنى من لم يهده الله لم يهتد؛ أي: ومن لم يشأ الله سبحانه أن يهديه لنور القرآن، ولم يوفقه للإيمان به فما له من نور؛ أي: فما له هداية ما من أحد أصلًا.
وقيل المعنى: من لم يجعل الله له نورًا يمشي به يوم القيامة، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة.
وخلاصة ذلك: من لم يوله الله نور توفيقه ولطفه، فو في ظلمة الباطل لا نور له.
الإعراب
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان أحكام كلية شاملة. ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: كافةً يندرج فيها، حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت، اندراجًا كليًّا. ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿قُلْ﴾، ومقوله محذوف، تقديره: قل للمؤمنين غضوا أبصاركم، لدلالة جوابه عليه، وهو ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾: ﴿يَغُضُّوا﴾: فعل مضارع وفاعل مجزوم بالطلب السابق. ﴿مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿مِنْ﴾ قيل: تبعيضية. وقيل: زائدة. وقيل: ابتدائية. والجملة الفعلية جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿يَغُضُّوا﴾ على كونه مجزومًا بالطلب. ﴿ذَلِكَ أَزْكَى﴾: مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَزْكَى﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿خَبِيرٌ﴾: خبره والجملة مستأنفة. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾. ﴿يَصْنَعُون﴾: فعل وفاعل. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما يصنعرنه.
348
﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ﴾.
﴿وَقُلْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضير مستتر يعود على محمد. ﴿لِلْمُؤْمِنَاتِ﴾: متعلق به، ومقوله محذوف، تقديره: اغضضن من أبصاركن، والجملة معطوفة على جملة ﴿قُلْ﴾ الأولى. ﴿يَغْضُضْنَ﴾: فعل مضارع، وفاعل في محل الجزم بالطلب السابق، مبني على السكون، لاتصاله بنون الإناث. ﴿مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَغْضُضْنَ﴾ والجملة جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَيَحْفَظْنَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَغْضُضْنَ﴾. ﴿فُرُوجَهُنَّ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَلَا يُبْدِينَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿يُبْدِين﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث. ﴿زِينَتَهُنّ﴾: مفعول به ومضاف إليه. والجملة معطوفة على جملة ﴿يَغْضُضْنَ﴾ على كونها جوابية. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب بدل من ﴿زينتهن﴾. ﴿ظَهَرَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿ظَهَرَ﴾. والجملة صلة الموصول. ﴿وَلْيَضْرِبْن﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. و ﴿اللام﴾: لام الأمر. ﴿يضربن﴾: فعل مضارع في محل الجزم بلام الأمر. مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث: في محل الرفع فاعل. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ﴾. ﴿بِخُمُرِهِنّ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة، أو تبعيضية. ﴿خمرهن﴾: مفعول به. ﴿عَلَى جُيُوبِهِنّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يضربن﴾. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿يُبْدِينَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث. والجملة معطوفة على جملة ﴿وليضربن﴾. ﴿زِينَتَهُنَّ﴾ مفعول به ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿لِبُعُولَتِهِنَّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُبْدِينَ﴾، ﴿أَوْ آبَائِهِنّ﴾: معطوف على ﴿بعولتهن﴾ ومضاف إليه.
349
﴿أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾.
﴿أَوْ آبَاءِ﴾: معطوف على ﴿بُعُولَتِهِنَّ﴾، وهو مضاف ﴿بُعُولَتِهِنَّ﴾: مضاف إليه. ﴿أَوْ أَبْنَائِهِنّ﴾: معطوف على بعولتهن أيضًا. ﴿أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾: معطوف ومضاف إليه. ﴿أَوْ إِخْوَانِهِنَّ﴾ معطوف علي بعولتهن. ﴿أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ﴾: معطوف ومضاف إليه. وكذا قوله: ﴿أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ معطوفان على بعولتهن. ﴿أَوْ مَا﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿بُعُولَتِهِنّ﴾. ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾: فعل وفاعل. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أو ما ملكته أيمانهن. ﴿أَوِ التَّابِعِينَ﴾: معطوف على ﴿بعولتهن﴾ مجرور بالياء ﴿غَيْرِ﴾: بالجر صفة لـ ﴿التَّابِعِينَ﴾، وبالنصب على الاستثناء. أو على الحال، وهو مضاف. ﴿أُولِي﴾ مضاف إليه مجرور بالياء المحذوفة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. أولي مضاف. ﴿الْإِرْبَةِ﴾: مضاف إليه. ﴿مِنَ الرِّجَالِ﴾: حال من ﴿التَّابِعِينَ﴾. ﴿أَوِ الطِّفْلِ﴾: معطوف على ﴿بُعُولَتِهِنّ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الطِّفْلِ﴾؛ لأنه بمعنى الأطفال. ﴿لَمْ يَظْهَرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ والجملة صلة الموصول. ﴿عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَظْهَرُوا﴾.
﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
﴿وَلَا يَضْرِبْنَ﴾: ﴿الواو﴾؛ عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿يَضْرِبْنَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث. ﴿بِأَرْجُلِهِنَّ﴾: متعلق به والمفعول محذوف، تقديره: الأرض. والجملة معطوفة على جملة ﴿وَلَا يُبْدِين﴾. ﴿لِيُعْلَمَ﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يعلم﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل، وعلم هنا بمعنى عرف، يتعدى لمفعول
350
واحد؛ أي: ليعلم الرجال ما يخفين. والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعلم الرجال ﴿مَا يُخْفِينَ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَضْرِبْنَ﴾. ﴿يُخْفِين﴾: فعل وفاعل مبني على السكون لاتصاله بنون الإنالث. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما يخفينه. ﴿مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾: جار ومجرور حال من ﴿ما﴾ الموصولة، أو من العائد المحذوف. ﴿وَتُوبُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿توبوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون. و ﴿الواو﴾: فاعل. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من فاعل ﴿توبوا﴾. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، أو مستأنفة. ﴿أَيُّهَ الْمُؤْمِنُون﴾: (أي): منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، في محل النصب مبني على الضم. (ها): حرف تنبيه زائد، تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة مبني بسكون على الألف المحذوفة لفظًا، لالتقاء الساكنين، وخطًا تبعًا للرسم، للفظ على قاعدة رسم المصحف العثماني؛ لأن اتباعها واجب. ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: صفة لأي، تابع للفظه. وجملة النداء واقعة في جواب الطلب، لبيان المخاطبين، لا محل لها من الإعراب. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تُفْلِحُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لعل﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها؛ أي: توبوا إلى الله سبحانه، لكي تفلحوا.
﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)﴾.
﴿وَأَنْكِحُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿مِنْكُمْ﴾: حال من الأيامى. ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾: معطوف على ﴿الْأَيَامَى﴾. ﴿مِنْ عِبَادِكُمْ﴾: حال من ﴿الصالحين﴾. ﴿وَإِمَائِكُمْ﴾: معطوف على ﴿عِبَادِكُمْ﴾. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتقرير حكم النكاح. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿يَكُونُوا﴾: فعل ناقص واسمه مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فُقَرَاءَ﴾: خبر ﴿يَكُونُوا﴾. ﴿يُغْنِهِمُ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. وعلامة جزمه حذف حرف العلة. ولفظ الجلالة فاعل له. {مِنْ
351
فَضْلِهِ}: متعلق به. وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة مسوقة لتعليل النهي المحذوف، تقديره: لا تمتنعوا أيها الأولياء من تزويج الأحرار والحرائر، بسبب فقرهم؛ لأنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿وَاسِعٌ﴾: خبر له، ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان. والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾.
﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. و (اللام): حرف أمر وجزم. ﴿يستعفف﴾: فعل مضارع، مجزوم بلام الأمر. ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾. ﴿لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾: فعل وفاعل ومفعول. والجملة صلة الموصول. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى. ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُغْنِيَهُمُ﴾. والجملة الفعلية صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، تقديره: إلى إغناء الله سبحانه إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يستعفف﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول، منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب، فكاتبوهم، أو مبتدأ خبره جملة ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾. والأول أرجح لمكان. ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾. ﴿كاتبوا﴾: فعل وفاعل. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مفعول به. والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. والجملة صلة الموصول. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَبْتَغُونَ﴾. ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾: فعل وفاعل. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: مما ملكته أيمانكم. ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لما في الموصول من معنى الشرط. ﴿كاتبوهم﴾: فعل وفاعل ومفعول. والجملة إما مفسرة للمحذوف، لا محل لها من الإعراب، أو خبر المبتدأ في محل الرفع. ﴿إِنْ﴾؛ حرف شرط جازم. ﴿عَلِمْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾: الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فِيهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِمْتُمْ﴾. ﴿خَيْرًا﴾: مفعول
352
به. وجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية محذوف، دل عليه ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾؛ أي: إن علمتم فيهم خيرًا، فكاتبوهم. وجملة الشرط مستأنفة. ﴿وَآتُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول معطوف على ﴿كاتبوا﴾؛ لأنه بمعنى أعطى ﴿مِنْ مَالِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿آتوهمِ﴾، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ما يستعينون به على أداء النجوم. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الجر صفة للمال. ﴿آتَاكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: آتاكموه، وهو العائد على الموصول. الجملة صلة الموصول.
﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُكْرِهُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾: الناهية. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾. ﴿فَتَيَاتِكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿عَلَى الْبِغَاءِ﴾ متعلق بـ ﴿تُكْرِهُوا﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿أَرَدْنَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿تَحَصُّنًا﴾: مفعول به وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها تقديره إن أردن تحصنًا لا تكرهوهن على البغاء. والجملة الشرطية معترضة، لا محل لها من الإعراب. ﴿لِتَبْتَغُوا﴾: اللام: حرف جر وتعليل. ﴿تبتغوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾. والجملة الفعلية، مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره لابتغائكم ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُكْرِهُوا﴾. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿من﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ. والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُكْرِهْهُنَّ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على ﴿من﴾ مجزوم بمن الشرطية، على كونه فعل شرط لها. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ﴾: جار ومجرور ومضاف
353
إليه متعلق بـ ﴿غَفُورٌ﴾. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لـ ﴿إن﴾. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إن﴾: في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿من﴾: الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ﴾.
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. و (اللام): موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿آيَاتٍ﴾: مفعول به. ﴿مُبَيِّنَاتٍ﴾: صفة لها. والجملة الفعلية جواب القسم. وجملة القسم مستأنفة، مسوقة لبيان حقيقة الآيات المنزلة. ﴿وَمَثَلًا﴾: معطوف على آيات. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: صفة لمثلًا. ﴿خَلَوْا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾: حال من فاعل ﴿خَلَوْا﴾، أو متعلق بـ ﴿خَلَوْا﴾. ﴿وَمَوْعِظَةً﴾: معطوف على ﴿آيَاتٍ﴾. ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾: صفة لـ ﴿موعظة﴾.
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿نُورُ السَّمَاوَاتِ﴾: خبر ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. والجملة مستأنفة. ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾: (الكاف): اسم بمعنى مثل، في محل الرفع خبر، وهو مضاف. ﴿مشكاة﴾: مضاف إليه. ويجوز إعراب الكاف: حرف جر والجار والمجرور خبر ﴿مَثَلُ﴾. والجملة من المبتدأ والخبر، جملة مفسرة لما قبلها، لا محل لها من الإعراب. ﴿فِيهَا﴾: خبر مقدم. ﴿مِصْبَاحٌ﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾. ﴿الْمِصْبَاحُ﴾: مبتدأ ﴿فِي زُجَاجَةٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ. والجملة تفسير لما قبلها، لا محل لها من الإعراب. ﴿الزُّجَاجَةُ﴾: مبتدأ ﴿كَأَنَّهَا﴾:
354
ناصب واسمه. ﴿كَوْكَبٌ﴾: خبره. ﴿دُرِّيٌّ﴾: صفة لـ ﴿كَوْكَبٌ﴾. وجملة ﴿كأن﴾: في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة من المبتدأ والخبر، جملة مفسرة لما قبلها، لا محل لها من الإعراب. ﴿يُوقَدُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿الْمِصْبَاحُ﴾. ﴿مِنْ شَجَرَةٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُوقَدُ﴾، ولكنه على تقدير مضاف، من زيت شجرة. والجملة الفعلية في محل النصب، حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: ﴿فِي زُجَاجَةٍ﴾، العائد إلى المصباح، تقديره: المصباح كائن وفي زجاجة حالة كونه يوقد من زيت شجرة. ﴿مُبَارَكَةٍ﴾: صفة لـ ﴿شَجَرَةٍ﴾. ﴿زَيْتُونَةٍ﴾: بدل ﴿مِنْ شَجَرَةٍ﴾. ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ﴾: صفة ثانية لـ ﴿شَجَرَةٍ﴾، وزيدت ﴿لا﴾ لتفيد النفي، فلا تكون فاصلة بين الصفة والموصوف. ﴿وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾: معطوف على ﴿شَرْقِيَّةٍ﴾. ﴿يَكَادُ﴾: فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة. ﴿زَيْتُهَا﴾: اسمها. وجملة ﴿يُضِيءُ﴾: خبرها. وجملة ﴿يَكَادُ﴾ في محل الجر صفة ثالثة لـ ﴿شَجَرَةٍ﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على جملة شرط محذوف، وقعت حالًا من فاعل ﴿يُضِيءُ﴾، تقديره: يضيء زيتها لو مسته نار لأضاء، ولو لم تمسسه نار لأضاء. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَمْسَسْهُ﴾ فعل ومفعول مجزوم بلم. ﴿نَارٌ﴾: فاعل. والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. وجوابها محذوف، تقديره: لأضاء ذلك الزيت. وجملة ﴿لو﴾ في محل النصب على الحال، معطوفة على شرط محذوف. كما قدرناه آنفًا، والتقدير: يكاد زيتها يضيء، حالة مس النار إياه، وحالة عدم مسها إياه. ﴿نُورٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: نور المصباح الذي شبه به الحق، نور على نور؛ أي: نور بالزيت كائن من نور بالنار. ﴿عَلَى نُورٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نُورٌ﴾؛ أي: هذا النور نور كائن مع نور، فعلى بمعنى مع. والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان فخامة ذلك النور. ﴿يَهْدِي اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير تنفيذ مشيئته تعالى: ﴿لِنُورِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَهْدِي﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَهْدِي﴾. وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من يشاؤه. ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. والجملة معطوفة على جملة ﴿يَهْدِي﴾.
355
﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿يضرب﴾. ﴿اللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة. ﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معطوقة على جملة ﴿يضرب﴾.
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧)﴾.
﴿فِي بُيُوتٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿مشكاة﴾؛ أي: كمصباح مشكاة كائنة في بيوت، أو لمصباح، أو لزجاجة، أو متعلق بـ ﴿يُوقَدُ﴾. وعلى هذا لا يوقف على عليم. ولك أن تقف على عليم، فتعلقه بمحذوف، تقدير: سبحوه في بيوت، أو بيسبح. ﴿أَذِنَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿بُيُوتٍ﴾. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب. ﴿تُرْفَعَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿بُيُوتٍ﴾. والجملة في تأويل مصدر، مجرور بحرف جر محذوف. تقديره: أذن الله في رفعها وتطهيرها، وهي المساجد، والجار المحذوف متعلق بـ ﴿أَذِنَ﴾ ﴿وَيُذْكَر﴾ معطوف على ترفع. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿يذكر﴾ ﴿اسْمُهُ﴾ نائب فاعل. ﴿يُسَبِّحُ﴾: فعل مضارع ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿يُسَبِّحُ﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق به أيضًا. ﴿بِالْغُدُوِّ﴾: جار ومجرور حال من ﴿رِجَالٌ﴾. ﴿وَالْآصَالِ﴾: معطوف على ﴿الغدو﴾؛ أي: ملتبسين بالغدو والآصال. ﴿رِجَالٌ﴾: فاعل ﴿يُسَبِّحُ﴾ وجملة ﴿يُسَبِّحُ﴾ في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿بُيُوتٍ﴾. ﴿لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل. والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿رِجَالٌ﴾ ﴿وَلَا بَيْعٌ﴾: معطوف على ﴿تِجَارَةٌ﴾. ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّه﴾: متعلق بـ ﴿تُلْهِيهِمْ﴾. ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ معطوفات على ﴿ذِكْرِ اللَّهِ﴾. ﴿يَخَافُون﴾: فعل وفاعل. ﴿يَوْمًا﴾: مفعول به. والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿رِجَالٌ﴾. أو في محل النصب حال من مفعول ﴿تُلْهِيهِمْ﴾. ﴿تَتَقَلَّبُ﴾: فعل مضارع. ﴿فِيه﴾: متعلق بـ ﴿تَتَقَلَّبُ﴾. ﴿الْقُلُوبُ﴾: فاعل لتتقلب. ﴿وَالْأَبْصَارُ﴾: معطوف على القلوب.
356
﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٨)﴾.
﴿لِيَجْزِيَهُمُ﴾ (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يجزيهم الله﴾: فعل مضارع ومفعول أول، وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿أَحْسَنَ مَا﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، وجملة ﴿عَمِلُوا﴾ صلة الموصول. وجملة ﴿يجزيهم﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام. الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: فعلوا ما ذكر من التسبيح والصلاة والزكاة لجزاء الله سبحانه إياهم أحسن ما عملوا، أى رجاء جزائه سبحانه. ﴿وَيَزِيدَهُمْ﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على ﴿يجزيهم﴾ ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ متعلقان به. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿يَرْزُقُ مَنْ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة. وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة الموصول. ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَرْزُقُ﴾، أو حال من فاعل ﴿يَرْزُقُ﴾.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾: مبتدأ ثان. ﴿كَسَرَابٍ﴾: جار ومجرور خبر للمبتدأ الثاني. والمبتدأ الثاني مع خبره، خبر الأول. وجملة الأول مستأنفة، مسوقة لبيان حال عمل الكفار، بعد أن بين المؤمنين بضرب مثل لهم، بقوله: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾. ﴿بِقِيعَةٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿سراب﴾. ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل. ﴿مَاءً﴾: مفعول ثان له. والجملة الفعلية في محل الجر، صفة ثانية لـ ﴿سراب﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لهما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على ﴿الظَّمْآنُ﴾ والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَجِدْهُ شَيْئًا﴾: فعل ومفعولان مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿الظَّمْآنُ﴾. والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا
357
محل لها من الإعراب. وجملة ﴿إِذَا﴾ في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ و ﴿حَتَّى﴾ متعلقة بمحذوف وقعت غاية له، تقديره: واستمر ذاهبًا إليه إلى عدم وجدانه شيئًا، وقت مجيئه إياه. والجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿يَحْسَبُهُ﴾. ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على جواب ﴿إِذَا﴾. ﴿عِنْدَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه، في محل المفعول الثاني لوجد؛ أي: وجد الله كائنًا عنده. ﴿فَوَفَّاهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿وفاه حسابه﴾: فعل ومفعولان معطوف على وجد. وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)﴾.
﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتقسيم. ﴿كَظُلُمَاتٍ﴾: جار ومجرور معطوف على قوله كسراب. ﴿فِي بَحْر﴾: جار ومجرور صفة لظلمات. ﴿لُجِّيٍّ﴾: صفة لبحر؛ أي: منسوب إلى اللج. ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل. والجملة في محل الجر، صفة ثانية لـ ﴿بَحْرٍ﴾. ﴿مِنْ فَوْقِهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَوْجٌ﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية في محل الرفع صفة لموج الأول. ﴿مِنْ فَوْقِهِ﴾ خبر مقدم. ﴿سَحَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة في محل الرفع صفة لموج الثاني. ﴿ظُلُمَاتٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه ظلمات. والجملة جملة مفسرة لما قبلها لا محل لها من الإعراب. ﴿بَعْضُهَا﴾: مبتدأ. ﴿فَوْقَ بَعْضٍ﴾: خبر. والجملة في محل الرفع صفة لظلمات. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَخْرَجَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على المبتلى بتلك الظلمات. ﴿يَدَهُ﴾: مفعول به. والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إِذَا﴾. والظرف متعلق بالجواب. ﴿لَمْ يَكَدْ﴾: جازم وفعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، واسمها ضمير يعود على صاحب اليد. ﴿يَرَاهَا﴾: فعل ومفعول به لأنها بصرية، وفاعله ضمير يعود على صاحب اليد. والجملة الفعلية في محل النصب خبر يكد. وجملة {لَمْ
358
يَكَدْ} جواب ﴿إِذَا﴾. وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة مسوقة لبيان حال من في تلك الظلمات. ﴿وَمَنْ﴾. ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَمَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يَجْعَلِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بلم. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لجعل. ﴿نُورًا﴾ مفعول أول له. والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب من الشرطية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿له﴾: خبر مقدم ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿نُورٍ﴾: مبتدأ مؤخر مجرور لفظًا، مرفوع محلًا. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة من الشرطية مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَغُضُّوا﴾ الغضّ: إطباق الجفن، بحيث يمنع الرؤية. اهـ. "سمين". وفي "المصباح": غض الرجل صوته وطرفه ومن صوته ومن طرفه غضًا من باب قتل إذا خفض. ومنه يقال: غض من فلان غضًا، وغضغضه إذا انتقصه. اهـ. وأدغم أحد المثلين هنا في الثاني بخلاف قوله الآتي: يغضضن. وذلك لأن الثاني هنا متحرك، فأدغم فيه الأول، وفيما سيأتى ساكن، فلم يتأت إدغام الأول فيه أشار له "القرطبي".
﴿فُرُوجَهُمْ﴾: جمع فرج، والفرج الشق بني الشيئين، كفرجة الحائط، والفرج ما بين الرجلين، وكنى به عن السوأة، وكثر حتى صار كالصريح فيه.
﴿أَزْكَى لَهُمْ﴾؛ أي: أطهر لهم من دنس الريبة، وأفعل هنا: إما مجرد عن معنى التفضيل، أو المراد أنه أزكى من كل شيءٍ نافعٍ، أو أبعد عن الريبة اهـ. "شهاب".
﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾: يقال: بدا الشيء بدوًا وبدوًا؛ أي: ظهر ظهورًا بينًا. وأبدى إذا أظهر. والزينة ما تزينت به المرأة، من حلي أو كحل، أو غير ذلك.
359
﴿بِخُمُرِهِنَّ﴾ الخمر بضم الخاء والميم جمع خمار بكسر الخاء، وهو ما تغطي به المرأة رأسها والستر عمومًا، ويجمع على أخمرة وخمر بضم الخاء وسكون الميم وخمر بضمتين.
﴿عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ جمع حبيب. والجيب من القميص طوقه، وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد. والجيب أيضًا: القلب والصدر. وعند العامة، الجيب: هو كيس يخاط في جانب الثوب من الداخل، ويجعل فمه من الخارج.
﴿إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ﴾ والبعولة: الأزواج، واحدهم بعل. قال في "المفردات" البعل هو الذكر من الزوجين، وجمعه بعولة كفحل وفحولة اهـ.
﴿أَوْ إِخْوَانِهِنَّ﴾ جمع أخ، كالأخوة، فهو جمع له أيضًا. وفي "المصباح" الأخ لامه محذوفة، وهي واو. وترد في التثنية على الأشهر، فيقال: أخوان، وفي لغة، يستعمل منقوصًا، فيقال: أخان، وجمعه إخوة وإخوان بكسر الهمزة فيهما وضمها لغة. وقيل جمعه بالواو والنون، وعلى آخاء وزان آباء أقل. والأنثى أخت، وجمعها أخوات، وهو جمع مؤنث سالم اهـ.
﴿أَوِ التَّابِعِينَ﴾: جمع تابع. قال ابن عباس: التابع: هو الأحمق العنين. وقيل: هو الذي لا يستطيع غشيان النساء، ولا يشتهيهن. وقيل: غير ذلك. كما مر في "مبحث التفسير". وبعضهم فسر التابعين بالممسوحين، وهو ظاهر.
﴿غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ﴾؛ أي: غير أصحاب الإربة، والحاجة إلى النساء، والإربة الحاجة. وفي "المصباح" الإرب بفتحتين، والإربة بالكسر، والمأربة بفتح الراء وضمها الحاجة، والجمع المآرب. والأرب في الأصل مصدر من باب تعب. يقال: أرب الرجل إلى الشيء إذا احتاج إليه فهو آرب على فاعل. والإرب بالكسر، يستعمل في الحاجة وفي العضو. والجمع آراب مثل حمل وأحمال اهـ.
﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾. والطفل: جنس، وضع موضع الجمع، اكتفاءً بدلالة الوصف عليه، كالعدو، في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي﴾ قال في "المفردات" الطفل: الولد ما دام ناعمًا، ويطلق على المثنى
360
والجمع. والطفيلي رجل معروف بحضور الدعوات. وقال الفناري: حد الطفل من أول ما يولد إلى انقضاء ستة أعوام. والعورات جمع عورة، وهي ما يريد الإنسان ستره من بدنه، وغلب في السوءتين. الدبر والقبل، وأصلها من العار، وذلك لما يلحق في ظهورها من العار؛ أي: المذمة ولذلك سمي النساء عورة، ومن ذلك العوراء؛ أي: الكلمة القبيحة، كما في "المفردات" وقال أهل اللغة: سميت العورة عورة لقبح ظهورها. ولغض الأبصار عنها، مأخوذ من العور، وهو النقص والقبح، ومنه عور العين اهـ. والعامة: على عورات بسكون الواو، وهي لغة عامة العرب، سكنوها تخفيفًا لحرف العلة.
﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ الأيامى مقلوب أيايم، جمع أيّم، كيتامى مقلوب يتايم جمع يتيم. فقلب قلب مكان، ثم أبدلت الكسرة فتحة والياء ألفًا فصار أيامى. والأيم: من لا زوج له من الرجال والنساء بكرًا كان أو ثيبًا. وقال في "المفردات". الأيم المرأة التي لا بعل لها، وقد قيل: للرجل الذي لا زوج له، وذلك على طريق التشبيه بالمرأة لا على التحقيق اهـ.
وفي "السمين" قوله: ﴿الْأَيَامَى﴾: جمع أيم بزنة فيعل، يقال منه آم يئيم، كباع يبيع، وقياس جمعه أيائم كسيد وسيائد، وأيامى فيه وجهان، أظهرها من كلام سيبويه - رحمه الله تعالى - أنه جمع على فعالى غير مقلوب، وكذلك يتامى. وقيل: إن الأصل أيائم ويتايم في أيم ويتيم فقلبا. وعن رسول الله - ﷺ -: "اللهم إني أعوذ بك من العيمة والغيمة، والأيمة والكزم والقرم" قلت: أما العيمة بالمهملة فشدة شهوة اللبن، وبالمعجمة شدة العطش، والأيمة طول العزبة والكزم شدة شهوة الأكل، والقرم شدة شهوة اللحم اهـ.
﴿وَالصَّالِحِينَ﴾؛ أي: الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه. وفي "المفردات" الصلاح: ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال.
﴿مِنْ عِبَادِكُمْ﴾ جمع عبد؛ أي: رقيق، وله جموع كثيرة، تبلغ نحو اثنين وعشرين صيغة، منها، عبيد وأعابد، وأعبد ذكرتها في كتابي "سلم المعراج على خطبة المنهاج".
361
﴿وَإِمَائِكُمْ﴾ جمع أمة، وهي الرقيقة غير الحرة، ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ﴾ استعفف من استفعل، والعفة حصول حالة للنفس، تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف: المتعاطي لذلك، بضرب من الممارسة والقهر، والاستعفاف طلب العفة، والمعنى يجتهد في العفة وقمع الشهوة.
﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ﴾ والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، يراد بها شرعًا إعتاق المملوك، بعد أداء شيء من المال منجمًا؛ أي: في موعدين أو أكثر فيقول له: كاتبتك على كذا درهمًا، ويقبل المملوك ذلك، فإذا أداه عتق وصار أحق بمكاسبه، كما صار أحق بنفسه، ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق منى إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك، أو كتبت لك الوفاء بالمال، وكتبت عليَّ العتق، وله أحكام مبسوطة في كتب الفقه. وفي "الأساس" و"اللسان" كتب عليه كذا قضي عليه، وكتب الله الأجل والرزق، وكتب على عباده الطاعة، وعلى نفسه الرحمة، وهذا كتاب الله؛ أي: قدره. قال الجعدي:
يَا بِنْتَ عَمِّيْ كِتَابُ اللهِ أَخَّرَنِيْ عَنْكُمْ وَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلاَ
فالمكاتبة: مفاعلة من الجانبين؛ لأن السيد كتب على نفسه العتق، والعبد كتب على نفسه النجوم. اهـ. "شخينا".
﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ﴾ جمع فتاة. وفي "المختار" والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقد فتى بالكسر فتاء بالفتح والمد، فهو فتى السن؛ أي: بين الفتاء والفتى أيضًا السخي الكريم، وجمع الفتى في القلة فتية، وفي الكثرة فتيان وجمع الفتاة فتيات اهـ.
﴿عَلَى الْبِغَاءِ﴾ البغاء: الزنا، وبغت فلانة بغاءً وهي بغي طلوب للرجال، وهن بغايا. ومنه قيل: للإماء البغايا؛ لأنهن كن يباغين في الجاهلية، يقال: قامت البغايا على رؤوسهم. وفي "المصباح" وبغت المرأة تبغي بغاء بالكسر والمد من باب رمى إذا فجرت، وهي بغي، والجمع البغايا، وهو وصف مختص بالمرأة، فلا يقال: للرجل بغي. قاله الأزهري. والبغي القينة، وإن كانت عفيفة، لثبوت الفجور لها في الأصل. قاله الجوهري. ولا يراد به الشتم؛ لأنه اسم جعل
362
كاللقب، والأمة تباغى؛ أي: تزاني اهـ.
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: منورهما، وإنما أولناه باسم الفاعل؛ لأن حقيقة النور كيفية؛ أي: عرض يدرك بالبصر، فلا يصح حمله على الذات الأقدس اهـ. "شيخنا". وعبارة "البيضاوي" النور في الأصل، كيفية تدركها بالباصرة أولًا، وتدرك بواسطتها سائر المبصرات، كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى، لا يصح إطلاقه على الله سبحانه، إلا بتقدير مضاف، كقولك زيد عدل بمعنى ذو عدل، أو على معنى منور السماوات والأرض. وفي "القرطبي" واختلف العلماء في تأويل هذه الآية. فقيل: المعنى؛ أي: به وبقدرته أنارت أضواؤهما، واستقامت أمورهما، وقامت مصنوعاتهما. فالكلام على التقريب للذهن، كما يقال: الملك نور أهل البلد؛ أي: به قوام أهلها، وصلاح جملتها، وفلان قمر الزمن، وشمس العصر. ومنه قول النابغة:
فَإنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوْكُ كَوَاكِبُ إِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
وقول الآخر:
هَلَّا قَصَدْتَ مِنَ الْبِلاَدِ لِمُفْضِلٍ قَمَرِ الْقَبَائِلِ خَالِدِ بْنِ يَزِيْدِ
ومن ذلك قول الشاعر:
إِذَا سَارَ عَبْدُ اللهِ مِنْ مَرْوَ لَيْلَةً فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُوْرُهَا وَجَمَالُهَا
وقول الآخر:
نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى نُوْرًا وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ عَمُوْدَا
فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه، على طريقة المدح، لكونه أوجد الأشياء المنورة وأوجد أنوارها ونورها.
﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ المشكاة: الكورة غير النافذة. وقيل: هي الحديدة، أو الرصاصة التي يوضع فيها الزيت. وقيل: هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح. وقيل: ما يعلق فيه القنديل من الحديدة. وفي "القاموس" وشرحه
363
المشكاة: كل كوة غير نافذة، وكلل ما يوضع فيه، أو عليه المصباح. وقيل: المشكاة حبشية معربة، ورسمت بالواو كالصلاة والزكاة.
﴿زُجَاجَةٍ﴾ الزجاج بفتح الزاي وضمها، وكسرها: جسم شفاف يصنع من الرمل والقلى، والإناء: والقطعة منه، زجاجة بتثليث الزاي أيضًا. وأراد به قنديلًا من زجاج صافي أزهر.
﴿مِصْبَاحٌ﴾ المصباح: السراج الضخم الثاقب. ﴿كَوْكَبٌ﴾ والكوكب: كل نجم مضيء. ﴿دُرِّيٌّ﴾؛ أي: مضيء، بضم الدال من غير همز، وبالتشديد منسوب إلى الدرّ، شبه به لصفائه وإضاءته. ويجوز أن يكون أصله الهمز، ولكن خففت الهمزة، وهو فعيل من الدر، وهو دفع الظلمة بضوئه. ويقرأ بالكسر على معنى الوجه الثاني، ويكون على فعيل كسكين وصديق. وفي "المختار"، الدرء الدفع، وبابه قطع، وذرأ طلع مفاجاة، وبابه خضع. ومنه كوكب دري كسكيت لشدة توقده وتلألئه، ودري بالضم منسوب إلى الدر. وفيه أيضًا، ومن المجاز درأ الكوكب إذا طلع كأنه يدرأ الظلام، ودرأت النار أضاءت.
﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: يبين الله للناس الأشباه والنظائر. تقريبًا للمعقول من المحسوس. اهـ. "بيضاوي".
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ قال في "المفردات" أصل البيت: مأوى الإنسان بالليل. ثم قد يقال: من غير اعتبار الليل فيه. وجمعه أبيات وبيوت، لكن البيوت بالمسكن أخص، والأبيات بالشعر. ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر، ومن صوف ووبر، وبه شبه بيت الشعر، وعبر عن مكان الشيء، بأنه بيته. والمراد بالبيوت هنا: المساجد كلها، لقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم في الأرض. اهـ.
والإذن في الشيء: الإعلام بإجازته والرخصة فيه. وقال الإِمام الراغب: والرفع يقال: تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعليتها من مقرها. كقوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ وتارةً في الناء إذا طولته كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ وتارةً في الذكر إذا توهته، كقوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)﴾.
364
وتارة في المنزلة إذا شرفتها، كقوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾.
﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا﴾ والتسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المرُّ السريع في عبادة الله، فإن السبح المر السريع في الماء، أو في الهواء، ويستعمل باللام وبدونها أيضًا. وجعل عامًا في العبادات قولًا كان أو فعلًا أو نية، أريد به هاهنا الصلوات المفروضة، كما ينبىء عنه تعين الأوقات، بقوله تعالى: ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ و (الغدو) في الأصل مصدر، يقال غدا يغدو غدوًا من باب سما، أي دخل في وقت الغدوة، وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. والمصدر لا يقع فيه الفعل فأطلق على الوقت حسبما يشعر اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل، وهو العشي؛ أي: من زوال الشمس إلى طلوع الفجر. وقيل: الآصال جمع أصيل، وهو الوقت بين العصر والمغرب، ويجمع أيضًا على أصائل وأصل وأصلان.
﴿لَا تُلْهِيهِمْ﴾ يقال: ألهاه عن كذا، إذا شغله عما هو أهم. ﴿تِجَارَةٌ﴾ قال في "المفردات": التجارة: التصرف في رأس المال طالبًا للربح، وليس في كلامهم تاء بعدها جيم، غير هذه اللفظة. ﴿بَيْعٌ﴾ والبيع إعطاء المثمن وأخذ الثمن، والشراء إعطاء الثمن وأخذ المثمن. كما مرّ.
﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ قال الزجاج: إنما حذفت الهاء؛ لأنه يقال: أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل إقوامًا، ولكن قلبت الواو ألفًا فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي أقمت الصلاة إقامًا، فأدخلت الهاء عوضًا من المحذوف، وقامت الإضافة هنا في التعويض، مقام الهاء المحذوفة. وهذا إجماع من النحويين. انتهى.
﴿يَخَافُونَ﴾ والخوف: توقع مكروه عن إمارة مظنونة أو معلومة. كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن إمارة مظنونة أو معلومة، ويضاد الخوف والأمن. اهـ. من "الروح". ﴿تَتَقَلَّبُ﴾ والتقلب: التصرف والتغير من حال إلى حال، وقلب الإنسان سمي به لكثرة تقلبه من وجه إلى وجه، والبصر يقال: للجارحة الناظرة، وللقوة التي فيها.
﴿كَسَرَابٍ﴾ السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحو، كأنه ماء
365
تنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها، ويضرب به المثل في الكذب والخداع. يقال: أخدع من السراب، وسمي سرابًا؛ لأنه يسرب؛ أي: يجري كالماء. يقال: سرب الفحل؛ أي: مضى وسار، ويسمى الآل أيضًا. ولا يكون إلا في البرية والحر، فيغتر به الظمآن.
﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ﴾ في "المختار" حسبت زيدًا صالحًا، بالكسر أحسبه بالفتح والكسر محسبةً، ومحسبةً بكسر السين وفتحها، وحسبانًا بالكسر ظننته. اهـ. وفي "المصباح" وحسبت زيدًا قائمًا، أحسبه، ما باب تعب، في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا على غير قياس، وحسبانًا بمعنى ظننت. اهـ.
﴿الظَّمْآنُ﴾: العطشان؛ أي: وكذا غيره من كل من يراه، وخص الظمآن؛ لأنه أحوج إليه من غيره، فالتشبيه به أتم. اهـ. "شيخنا". وهو صفة من ظمىء بالكسر يظمأ، والظميء بالكسر ما بين الشربتين والورودين، والظمأ: العطش الذي يحدث من ذلك. اهـ. "الروح".
﴿بِقِيعَةٍ﴾ القيعة بمعنى القاع، أو جمع قاع، وهو: المنبسط المستوى من الأرض. وفي "المصباح" والقاع: المستوى من الأرض، والجمع أقواع وقيعان، فصارت الواو ياء لكسر ما قبلها، والقيعة مثل القاع، وهو أيضًا من الواوي، وبعضهم يقول: وجمع. وقال الهروي: والقيعة جمع القاع، مثل جيرة وجار. وفي "الأساس" هوكسراب بقيعة وبقاع، ونزلوا بسراب قيعان، ولهم قاعة واسعة وهي عرصة الدار، وأهل مكة يسمون سفل الدار القاعة، ويقولون: فلان في العلية، ووضع قماشة في القاعة. وفي "القاموس" و"التاج" ما يفهم منه أن القاع أرض سهلة مطمئنة، قد انفرجت منها الجبال والآكام، ويجمع على أقواع وأقوع، وقيع وقيعان وقيعة.
﴿لُجِّيٍّ﴾ اللجي العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج، وهو معظم البحر، هكذا قال الزمخشري، وقال غيره: منسوب إلى اللجة بالتاء، وهي أيضًا معظمه،
366
فاللجي هو الماء الكثير العميق.
﴿مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ وأصل السحب الجر، وسمي به السحاب إما لجر الريح أو لجره الماء.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: دخول من الجارة على غض الأبصار، دون الفروج في قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ إشعارًا بأن باب النظر موسع دون الفرج؛ لأنه ينظر من المحارم ما سوى العورة، بخلاف الفرج، فإنه لا يحل له إلا فرج حليلته.
ومنها: تقديم غض الأبصار على حفظ الفروج إيذانًا بأن النظر بريدة الزنا، ورائده الذي لا يخطىء.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾؛ لأن المراد عما حرم الله تعالى، لا عن كل شيء، فحذف ذلك أكتفاءً بفهم المخاطبين.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾؛ لأن المراد منه مواقع الزينة، وهو من باب إطلاق اسم الحال على المحل. قال الزمخشري: وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر والتصون. وفي قوله: ﴿عَلَى جُيُوبِهِنّ﴾؛ لأن المراد على أعناقهن، وإلا فهو في الأصل طوق القميص.
ومنها: الاحتراس في قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ فقد أقحم هذا الاعتراض ليبشع ذلك الإكراه عند المخاطب، ويحذره من الوقوع فيه، ولكي يستيقظ أنه كان ينبغي له أن يأنف من هذه الرذيلة، وإن لم يكن زاجز شرعي ووجه التبشيع عليه أن مضمون الآية النداء عليه، بأن أمته خير منه؛ لأنها آثرت التحصن عن الفاحشة، وهو يأبى إلا إكراهها.
367
ومنها: إطلاق المصدر على اسم الفاعل، للمبالغة في قوله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بمعنى منورهما، عبر عنه بالمصدر، كأنه عين نورهما. قال الشريف الرضي: وفي الآية استعارة على تفسير بعض العلماء. والمراد عندهم أنه هادي أهل السماوات والأرض، بصوادع برهانه، ونواصع بيانه، كما يهتدى بالأنوار الثاقبة والشهب اللامعة.
ومنها: التشبيه المرسل في قوله: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ الآية. فقد جاء التشبيه هنا بواسطة الأداة، وهي الكاف. والمراد النور الذي شبه به الحق، نور متضاعف قد اجتمع فيه المشكاة والزجاجة، والمصباح، والزيت، حتى لم تبق بقية مما يقوى النور. واختلفوا في هذا التشبيه، هل هو تشبيه تمثيل؛ أي: مركب قصد فيه تشبيه جملة بجملة، من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء، بل قصد تشبيه هداه وإتقانه، صنعته في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة، من النور الذي تتخذونه، وهو أبلغ صفات النور عندكم. أو تشبيه غير تمثيل؛ أي: غير مركب قصد فيه مقابلة جزءٍ بجزءٍ، وأجاز "القرطبي" الوجهين فراجعه.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ وقد تكلم علماء البيان كثيرًا عن هذا الطباق، والمقصود منه.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ إشعارًا بفخامة شأنه، وبأنه لا أرشق ولا أجمل منه.
ومنها: تشابه الأطراف في هذه الآية، وهو أن ينظر المتكلم إلى لفظة وقعت في آخر جملة من الفقرة في النثر، أو آخر لفظة وقعت في آخر المصراع الأول في النظم، فيبتدىء بها، تأمل في تشابه أطراف هذه الجمل المتلاحقة ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ ومن أمثلته في الشعر، قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف:
368
إِذَا نَزَلَ الْحَجَّاجُ أَرْضًا مَرِيْضَةً تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِيْ بِهَا غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا
سَقَاهَا فَرَوَّاهَا بِشُرْبٍ سِجَالُهُ دِمَاءُ رِجَالٍ يَحْلِبُوْنَ حِرَاهَا
ومنها: الإطناب بذكر الخاص بعد العام، تنويهًا بشأنه في قوله: ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾؛ لأن الصلاة من ذكر الله تعالى.
ومنها: فن الغلو في قوله: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ والغلو: الإفراط في وصف الشيء المستحيل، عقلًا وعادةً، وهو ينقسم إلى قمسين: مقبول وغير مقبول:
القسم الأول: فالمقبول لا بد أن يقربه المتكلم إلى القبول، بأداة التقريب، إلا أن يكون الغلو في مدح النبي - ﷺ - فلا غلو حينئذٍ. ويجب على المتكلم أن يسبكه في قالب التخيلات، التي تدعو العقل إلى قبولها في أول وهلة، كالآية الكريمة، فإن إضاءة الزيت من غير مس النار مستحيلة عقلًا، ولكن لفظة يكاد قربته فصار مقبولًا.
والقسم الثاني: وهو الغلو غير المقبول، كقول أبي نواس:
وَأَخَفْتَ أهْلَ الشِّرْكِ حَتَّى أَنَّهُ لَتَخَافُكَ النُّطَفُ الَّتِيْ لَمْ تُخْلَقِ
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ فقد أسند إلى القلوب والأبصار التقلب والاضطراب من الهول والفزع، وحق الإسناد أن يكون لصاحبها.
ومنها: التشبيه التمثيلي الرائع في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب﴾ إلخ. وكذلك في قوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ الآية. ووجه التشبيه، أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر، ويعتقد أن له ثوابًا عند الله تعالى، وليس كذلك، فإذا وفي عرصات القيامة، لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم، والعذاب الأليم. فعظمت حسرته، وتناهى غمه، فشبه حاله بحال الظمآن، الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب في البر.. تعلق قلبه، فإذا جاءه.. لم يجده شيئًا، فكذلك حال الكافر، يحسب أن عمله نافعة، فإذا احتاج إلى عمله.. لم يجده أغنى عنه شيئًا.
369
ومنها: العطف على محذوف في قوله: ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾ فإنه معطوف على مقدر، وليست الجملة معطوفة على ﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ بل على ما يفهم منه، بطريق التمثيل، من عدم وجدان الكفرة، من أعمالهم المذكورة عينًا، ولا أثرًا، كأنه قيل: حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم، التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعةً لهم في الآخرة، لم يجدوها شيئًا، ووجدوا حكم الله وقضاءه لهم بالمرصاد.
ومنها: المبالغة في التشبيه في قوله: ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾؛ أي: لم يقرب أن يراها. فضلًا عن أن يراها.
ومنها: التقسيم أو التنويع في قوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
370
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (٤٤) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)﴾
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وصف (١) قلوب المؤمنين
(١) المراغي.
371
بالنور والهداية وقلوب الكافرين بالظلمة.. أردف ذلك بذكر دلائل التوحيد وساق منها أربعةً.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر لي الآيات السابقة ما يدل على وجوده من أحوال السماء والأرض والآثار العلوية، وأحوال الحيوان.. ذكر هنا أن هذه وغيرها آيات واضحات، دالة على وجود الخالق المدبر للكون، لا خفاء فيها.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الأدلة الواضحة على توحيده، وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي من يشاء، من عباده إلى صراط مستقيم.. أعقبه بدر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون: آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون. فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه.. أبوا وخافوا أن يحيف عليهم. والمؤمن الصادق الإيمان، إذا ما دعي إلى الله والرسول.. قال: سمعًا وطاعةً.
ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها، ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الإيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعًا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان؛ لأن طاعتهم معروفة، لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم: أطيعوا الله حقًّا، لا رياءً، فإن أبيتم، فإنما علي التبليغ، وعليكم السمع والطاعة. فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم، فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآيات. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين أن من أطاع الرسول.. فقد اهتدى إلى الحق، ومن اهتدى إلى الحق، فجزاؤه دار النعيم.. أردف ذلك وعده الكريم، بأنه سيجعل المؤمنين المطيعين لله ورسوله، خلفاء في الأرض، ويؤيدهم
372
بالنصرة والإعزاز، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدو أمنًا، فيعبدون الله وحده، وهم آمنون. ومن جحد هذه النعم من بعد ذلك.. فقد عصى ربه، وكفر أنعمه.
قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) بشر المؤمنين بأنه سيمكن لهم في الأرض، ويجعل لهم من بعد الخوف أمنًا.. أردف ذلك بأمرهم، بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة شكرًا له، على ما أنعم به عليهم. وإحسانًا إلى عباه البائسين الفقراء، كما أحسن إليهم بتبديل ذلهم عزةً، وضعفم قوةً. ثم أعقبه برفع استبعاد تحقق الوعد السابق، مع كثرة عددهم وعُددهم، وبعدئذ ذكر أن مآلهم إلى النار وبئس القرار.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم من مرسل الحسن، قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل الآخر منازعة، فدعي إلى النبي - ﷺ - وهو محق أذعن وعلم أن النبي - ﷺ - سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي - ﷺ - أعرض. فقال: "انطلق إلى فلان"، فأنزل الله ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ...﴾ الآية، سبب (٢) نزول هذه الآية: ما أخرجه الحاكم بسنده، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: لما قدم رسول الله - ﷺ - وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتي نكون آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، فنزلت: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ إلى قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ يعني بالنعمة ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ هذا حديث صحيح الإسناد لم
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
373
يخرجاه وأقرّه الذهبي.
التفسير وأوجه القراءة
٤١ - والاستفهام (١) في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ للتقرير. والمراد من الرؤية، رؤية القلب. فإن التسبيح الآتي لا يتعلق به نظر البصر؛ أي: قد علمت يا محمد علمًا يشبه المشاهدة في القوة واليقين بالوحي، أو الاستدلال، أن الله سبحانه وتعالى، ينزهه على الدوام في ذاته وصفاته وأفعاله، عن كل ما لا يليق بشأنه من نقص، وآفة أهل السماوات والأرض، من العقلاء وغيرهم، وعبر بـ ﴿مَن﴾ الموضوعة للعقلاء، تغلبًا لهم على غيرهم.
﴿وَالطَّيْرُ﴾ بالرفع عطف على من، جمع طائر، كركب وراكب. والطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء. وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في جملة ما في الأرض، لعدم استقرارها قرار ما فيها؛ لأنها تكون بين السماء والأرض غالبًا؛ أي: تسبحه تعالى حالة كونها ﴿صَافَّات﴾؛ أي: باسطات أجنحتها في الهواء تصففن. وأصل الصف البسط. ولهذا سمي اللحم القديد صفيفًا؛ لأنه يبسط.
والمعنى: أي (٢) ألم تعلم يا محمد، أو أيها المخاطب، بالدليل أن الله سبحانه ينزهه آنًا فآنًا، في ذاته وصفاته وأفعاله، جميع ما في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم، تنزيهًا تفهمه أرباب العقول السليمة، إذ كل المخلوقات في وجودها وبقائها، دالة على وجود خالق لها، متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص. وخصّ التنزيه بالذكر، مع دلالة ما فيهما على اتصافه بجميع أوصاف الكمال، من جراء أن سياق الكلام لتقبيح شأن الكفار الذين أخلوا بالتنزيه، فجعلوا الجمادات شركاء له سبحانه، ونسبوا له اتخاذ الولد إلى نحو أولئك، تعالى ربنا عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
374
كما ذكر الطير، مع دخولها في جملة ما في الأرض، من قبل أنها غير مستقرة فيهما. وكثرة لبثها في الهواء، وهو ليس من السماء ولا من الأرض، ولاستقلالها ببديع الصنع، وإنبائها عن كمال قدرة خالقها، ولطف تدبير مبدعها، فإن منح تلك الأجرام الثقيلة، الوسائل التي تتمكن بها من الوقوف في الجو، وتتحرك كيف تشاء، وارشادها إلى طريق استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينًا وشمالًا حجة واضحة الدلالة، على كمال قدرة الصانع المجيد، وحكمة المبدع المعيد. وفي ذلك تقريع للكفار، وتوبيخ لهم، حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له، يعبدونها كعبادته عز وجل.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَالطَّيْرُ﴾ مرفوعًا عطفًا ﴿مَنْ﴾، و ﴿صَافَّاتٍ﴾ نصب على الحال وقرأ الأعرج: والطيرَ، بالنصب على أنه مفعول معه، وقرأ الحسن وخارجة عن نافع: والطير صافات برفعهما مبتدأ وخبرًا، تقديره: يسبحن. قيل: وتسبيح الطير حقيقي. قاله الجمهور.
﴿كُلٌّ﴾؛ أي: كل واحد من المخلوقات ﴿قَدْ عَلِمَ﴾ هو ﴿صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾؛ أي: دعاءه وتسبيحه، اللذين ألهمهما الله تعالى إياه، فالضمائر (٢) كلها عائدة على كل. قيل: والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر للتأكيد، والصلاة قد تسمى تسبيحًا. وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك وألهمها إليه، لا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية.
والمعنى: إن (٣) كل مصل ومسبح يعلم ما يجب عليه من الصلاة والتسبيح اللذين كلف بهما، وليس بالبعيد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة، التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
انظر إلى النحل كيف تبني بيوتها السداسية الأشكال، التي لا يتمكن من
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
(٣) المراغى.
375
بنائها فطاحل المهندسين، إلا بدقيق الآلات. وإلى العنكبوت، كيف تفعل الحيل اللطيفة، لاصطياد الذباب. وإلى الندب يستلقي في ممر الثور، حتى إذا قرب منه ورام نطحه، شبَّث ذراعيه بقرنيه، ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ثم يفترسه. وهذا التسبيح محمول عند البعض على ما كان بلسان المقال، فإنه يجوز أن يكون لغير العقلاء أيضًا تسبيح حقيقة، لا يعمله إلا الله، ومن شاء من عباده. كما في "الكواشي". وقال بعضهم: تسبيح الحيوان والجماد محمول على ما كان بلسان الحال، فإن كل شيء يدل بوجوده وأحواله على وجود صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بشانه.
وروي عن أبي ثابت قال: كنت جالسًا عند محمد بن جعفر الباقر، فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس، وبعد طلوعها؛ قلت: لا. قال: فإنهن يقدسن ربهن، ويسألنه قوت يومهن. وقال بعض العلماء: إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالًا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء. وهذا دليل على أن الله تعالى يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه. وقال مجاهد: الصلاة للبشر، والتسبيح لما عداهم.
وقيل: إن الضمير (١) في ﴿قَدْ عَلِمَ﴾ يعود على الله سبحانه؛ أي: كل فصل منهم ومسبح، قد علم الله سبحانه صلاته وتسبيحه. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾؛ أي: بما يفعلونه من الطاعة والصلاة والتسبيح، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، طاعتها، ومعصيتها، وعلمه محيط بها، ومجازيهم عليها.
والمعنى على هذا القول أي: كل واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له، وتسبيحه إياه. والأول أرجح، لاتفاق القراء على رفع كل. ولو كان الضمير في ﴿علم لله﴾، لكان نصب (كل) أولى. وذكر بعض المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء. وقرأ الحسن (٢) وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمرو ﴿تفعلون﴾ بتاء الخطاب. وفيه وعيد وتخويف لكفرة الثقلين، حيث لا تسبيح لهم
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
376
طوعًا واختيارًا.
٤٢ - ثم بين سبحانه، أن المبدأ منه والمعاد إليه. فقال: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ لأنه الخالق لهما، ولما فيهما من الذوات والصفات، وهو المتصرف في جميعها إيجادًا وإعدامًا، إبداءً وإعادةً. ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه خاصة لا إلى غيره ﴿الْمَصِيرُ﴾ والرجوع بالفناء، والبعث بعد الموت، فعلى العاقل أن يعبد هذا المالك القوي، ويسبحه باللسان الصوري والمعنوي.
والمعنى: أن لله سبحانه وتعالى ملك السماوات والأرض، وهو الحاكم المتصرف فيهما إيجادًا وإعدامًا، بدءًا وإعادةً، وإليه وحده مصيركم ومعادكم، فيوفيكم أجور أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، فأحسنوا عبادته، واجتهدوا في طاعته، وقدموا لأنفسكم صالح الأعمال.
٤٣ - ثم ذكر سبحانه دليلًا آخر على وحدانيته وقدرته من الآثار العلوية، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ والاستفهام فيه للتقرير. والرؤية هنا بصرية، والخطاب فيه لمحمد - ﷺ -، أو لكل ما يصلح للخطاب. والإزجاء: سوق الشيء برفق وسهولة، كما سيأتي. والسحاب: الغيم. سمي به (١) لانسحابه في الهواء؛ أي: انجراره والمراد هنا: قطع السحاب بقرينة إضافة بين إلى ضميره؛ لأنه لا يضاف إلا إلى متعدد. قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، ولولاه لأفسد المطر ما يقع عليه.
والمعنى: قد رأيت يا محمد، أو أيها المخاطب، رؤية بصرية أن الله يسوق غيمًا إلى حيث يشاء.
﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ﴾ سبحانه ويجمع ﴿بَيْنَهُ﴾؛ أي: بين أجزائه، فيضم بعضه إلى بعض، ويجمعه بعد تفرقه، فيجعله شيئًا واحدًا بعد أن كان قطعا، ليقوى ويتصل ويكثف.
(١) روح البيان.
377
قال الفراء: إن الضمير في بينه راجع إلى جملة السحاب، كما تقول: الشجر قد جلست بينه؛ لأنه جمع وإفراد الضمير باعتبار اللفظ. اهـ. وقرأ (١) ورش: ﴿يولف﴾ بالواو. وباقي السبعة بالهمز. وهو الأصل.
﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ﴾؛ أي: ثم يجعل سبحانه السحاب ﴿رُكَامًا﴾؛ أي: متراكمًا متراكبًا مجتمعًا بعضه فوق بعض، فإنه إذا اجتمع شيء فوق شيء، فهو ركوم مجتمع. ﴿فَتَرَى﴾؛ أي: تبصر أيها الناظر ﴿الْوَدْقَ﴾؛ أي: المطر إثر تكاثف السحاب وتراكمه. وجملة قوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾؛ أي: من ثقبه، حال (٢) من الودق؛ لأن الرؤية بصرية. والخلال جمع خلل، كجبال وجبل. وقيل: هو مفرد، كحجاب. وهو فرجة بين الشيئين. والمراد هاهنا: مخارج القطر. والمعنى: حال كون ذلك الودق، يخرج من أثناء ذلك السحاب، وفتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض.
وقرأ ابن مسعود (٣) وابن عباس والضحاك وأبو العالية ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني ﴿من خلله﴾ بالإفراد.
﴿وَيُنَزِّلُ﴾ سبحانه ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من الغمام، فإن كل ما علاك سماء، وسماء كل شيء أعلاه. ﴿مِنْ جِبَالٍ﴾؛ أي: من قطع عظام، تشبه الجبال في العظم كائنة ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في السماء، فإن السماء من المؤنثات السماعية. ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ مفعول (ينزل) على أن ﴿من﴾ تبعيضية، والأوليان لابتداء الغاية، على أن الثانية بدل اشتمال من الأولى بإعادة الجار. والبرد محركةً الماء المنعقد؛ أي: ما يبرد من المطر في الهواء فيصلب، كما في "المفردات".
والمعنى: ويُنزل الله سبحانه مبتدئًا من السماء من جبال كائنة فيها بعض برد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل بسكون النون من أنزل، والباقون بفتحها وتشديد الزاي من نزل من باب فعل المضعف. قال بعضهم (٤): إن الله تعالى
(١) البحر المحيط.
(٢) روض البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روض البيان.
378
خلق جبالًا كثيرة في السماء، من البرد والثلج، ووكل بها ملكًا من الملائكة، فإذا أراد أن يرسل البرود والثلج على قطر من أقطار الأرض، يأمره بذلك، فثلج هناك ما شاء الله تعالى، بوزن ومقدار في صحبة كل حبة منها ملك يضعها حيث أمر بوضعها.
والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد.. اجتمعت هناك، وصارت سحابًا، فإن لم يشتد البرد.. تقاطرت مطرًا وإن اشتد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها.. نزل بردًا. وقد يبرد الهواء بردًا مفرطًا، فينقبض وينعقد سحابًا، وينزل منه المطر، أو الثلج، وكل ذلك مستند إلى إرادة الله تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح. وفي "شرح القانون" الفرق بين الدخان والبخار، هو أن تركيب الدخان من الأجزاء الأرضية والنارية، وتركيب البخار من المائية والهوائية. فيكون البخار ألطف من الدخان.
﴿فَيُصِيبُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِهِ﴾؛ أي: بما ينزل من البرد. والباء للتعدية ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ من عباده، فيناله ما يناله من ضرر في نفسه وماله، نحو الزرع والضرع والثمرة. ﴿وَيَصْرِفُهُ﴾؛ أي: يصرف سبحانه ذلك البرد ويرده ﴿عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾ فيأمن غائلته وضرره. ﴿يَكَادُ﴾ ويقرب ﴿سَنَا بَرْقِهِ﴾؛ أي: ضوء برق السحاب، فإن السنا بالقصر بمعنى الضوء، وبالمد بمعنى الرفعة والعلو، والبرق لمعان السحاب. ﴿يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار﴾؛ أي: يخطف الأبصار الناظرة له، ويسلبها من فرط الإضاءة، وسرعة ورودها. فسبحان من يظهر الضد من الضد.
وقرأ الجمهور: ﴿سَنَا﴾ مقصورًا. ﴿بَرْقِهِ﴾ مفردًا. وقرأ طلحة بن مصرف ﴿سناء﴾ ممدودًا. ﴿برقه﴾ بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء. وهي المقدار من البرق، كالغرفة واللقمة، وعنه بضم الباء والراء، أتبع حركة الراء لحركة الباء. كما أتبعت في ظلمات. وأصلها السكون. والسناء بالمد ارتفاع الشأن، كأنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان، فإن ذلك صيِّب، لا يحس به بصر.
379
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَذْهَبُ﴾ بفتح الياء والهاء، وأبو جعفر ﴿يذهب﴾ بضم الياء وكسر الهاء. وخرج ذلك على زيادة الباء؛ أي: يذهب الأبصار، أو على أن الباء، بمعنى من، والمفعول محذوف، تقديره: يذهب النور من الأبصار.
٤٤ - ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ بالمعاقبة (٢) بينهما، أو بنقص أحدهما أو زيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد، والظلمة والنور، وغيرها مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر، من إزجاء السحاب، وما يترتب عليه.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الذي فصل من الإزجاء إلى التقليب ﴿لَعِبْرَةً﴾؛ أي: لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم، ووحدته، وكمال قدرته، وإحاطة عمله بجميع الأشياء، ونفاذ مشيئته، وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي. ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾؛ أي: لأصحاب العقول الكامله، والبصائر السليمة؛ أي: لكل من يبصر بقلبه، وجارحته.
ويقال: لقوة القلب المدركة: بصيرة وبصر، ولا يكاد يقال: للجارحة بصيرة. كما في "المفردات"، يعني لمن له بصيرة يعبر بها من المذكور إلى معرفة المدبر الحكيم. وسئل سعيد بن المسيب: أي العبادة أفضل؟ قال: التفكر في خلقه، والتفقه في دينه. فعلى العاقل الاعتبار آناء الليل، وأطراف النهار.
وخلاصة معنى الآيتين (٣): انظر أيها الرسول الكريم، إلى السحاب يسوقه الله بقدرته، أول ما ينشئه، ثم يجمع بين ما تفرق من أجزائه، ثم يجعل بعضه متراكمًا فوق بعض، فينزل المطر من فوقه، وحينًا ينزل منه قطعًا كبيرة من البرد، كأنها الجبال فيصيب بما ينزل منه من يشاء من عباده، فيناله الخير والنفع العميم أو الضرر الشديد، إذا كان فوق الحاجة، ويصرفه عمن يشاء أن يصرفه عنه. وإلى ما في هذا السحاب من برق يضيء بشدة وسرعة، حتى ليكاد يخطف الأبصار.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة، إذ فيه توليد الضد من الضد. ففيه توليد النار من الماء.
وانظر أيضًا إلى اختلاف الليل والنهار، وتقلبهما بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وإلى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، إن في هذا لعبرة لمن اعتبر، وعظة لمن تأمل فيه، ممن له عقل. فهو واضح الدلالة على أن له مدبرًا ومقلبًا لا يشبهه شيء. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار". أخرجه البخاري ومسلم.
٤٥ - ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَلَقَ﴾ وأوجد ﴿كُلَّ دَابَّةٍ﴾؛ أي: كل حيوان يدب ويمشي على الأرض، والدابة كل ما يحرك أمامه قدمًا، ويدخل فيه الطير. اهـ من "البحر".
﴿مِنْ مَاءٍ﴾؛ أي (١): من الماء، الذي هو أحد جزء مادته؛ أي: أحد العناصر الأربعة، على أن يكون التنوين فيه للوحدة الجنسية، فدخل فيه آدم المخلوق من تراب، وعيسى المخلوق من روح، أو خلقها من ماء مخصوص، الذي هو النطفة؛ أي: ماء الذكر والأنثى على أن يكون التنوين للوحدة النوعية، فيكون تنزيلًا للغالب منزلة الكل، إذ من الحيوان ما يتولد لا عن نطفة.
قال في "الكواشي": تنكير ماء مؤذن أن كل دابة مخلوقة من ماء مختص بها، وهو النطفة، فجميع الحيوان سوى الملائكة والجن مخلوق من نطفة، وتعريف الماء في قولى تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ نظرًا إلى الجنس الذي خلق عنه جميع الحيوان؛ لأن أصل جميع الخلق من الماء.
وعبارة أبي حيان هنا: فإن قلت: لم نكر الماء هنا، وعرفه في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾؟
(١) روح البيان.
381
قلتُ: لأن المعنى هنا: خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بهذه الدابة، أو من ماء مخصوص أو هو النطفة. وهناك قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس، الذي وجنس الماء، وهو الأصل الذي هو من العناصر الأربعة.
قالوا: خلق الله ماء فجعل بعضه ريحًا، فخلق منها الملائكة، وجعل بعضه نارًا فخلق منها الجن، وبعضه طينًا فخلق منه آدم، انتهى.
والمعنى على القول الأول؛ أي (١): والله سبحانه وتعالى خلق كل حيوان يدب على الأرض، من ماء هو جزء مادته، وخص الماء بالذكر من بين ما يتركب منه من المواد لظهور احتياج الحيوان إليه، ولا سيما بعد كمال تركيبه، ولامتزاج الأجزاء الترابية به. ويخرج من هذا العموم الملائكة، فإنهم خلقوا من نور، والجان فإنهم خلقوا من نار.
وعبارة "الجمل" هنا: وهذا بحسب الأغلب في حيوانات الأرض المشاهدة، وإلا فالملائكة خلقوا من النور، وهم أكثر المخلوقات عددًا، والجن خلقوا من النار وهم بقدر تسعة أعشار الإنس، وآدم خلق من الطين، وعيسى خلق من الريح الذي نفخه جبريل في حبيب مريم، والدود يخلق من نحو الفاكهة ومن العفونات. اهـ. "شيخنا".
فإن قلت: لم خص (٢) الدابة بالذكر، مع أن غيرها مثلها، كما شمله قوله في سورة الأنبياء: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾؟
قلت: لأن القدرة فيها أظهر وأعجب منها في غيرها. وقرأ (٣) الجمهور ﴿خلق﴾ فعلًا ماضيًا كل بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش ﴿خالق﴾ اسم فاعل مضاف إلى كل.
(١) المراغي.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) البحر المحيط.
382
ثم فصل سبحانه أقسام الحيوان، مما يدب على وجه الأرض، فقال: ﴿فَمِنْهُمْ﴾؛ أي: فمن الدوابـ ﴿مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ كالحيات والحوت ونحوهما. ولما (١) كانت الدابة تشمل المميز وغير المميز غلب المميز، فأعطى ما وراءه حكمه، كأن الدواب كلهم مميزون. فمن ثمة قال: فمنهم بضمير العقلاء، وإنما قال: يمشي على وجه المجاز، وإن كان حقيقة المشي بالرجل؛ لأنه جمعه مع الذي يمشي على وجه التبع، يعني أن تسمية حركة الحية مثلًا ومرورها مشيًا، مع كونها زحفًا للمشاكلة، فإن المشي حقيقة وقطع المسافة والمرور عليها، مع قيد كون ذلك المرور على الأرجل، وإشارة إلى كمال القدرة، وإنها مع عدم وجود آلة المشي كأنها تمشي. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْن﴾ كالإنس والطير ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ كالأنعام والوحوش والفرس والبغال والحمير. ومنهم من يمشي على أكثر من أربع، كالعقارب والعنكبوت والحيوان، والمعروف بأم أربع وأربعين. وإنما لم يذكر هذا القسم. إما لندوره، أو لأنه عند المشي يعتمد على أربع فقط، أو لدخوله في قوله: ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ مما ذكر ومما لم يذكر، بسيطًا كان أو مركبًا، على ما شاء من الصور والأعضاء، والهيئات والحركات والطبائع، والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته.
وفي "الإرشاد": وإنما لم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع، كالعناكب ونحوها، من الحشرات لعدم الاعتداد بها. وقال في "فتح الرحمن"؛ إنما تركها؛ لأنها في الصورة كالتي تمشي على أربع، أو لأنها إنما تمشي على أربع منها.
وتذكير (٢) الضمير في (منهم)، لتغليب العقلاء، والتعبير عن الأصناف بـ (من)، ليوافق التفصيل الإجمال، وهو (هم) في (منهم)، والترتيب حيث قدم الزاحف على الماشي على رجلين، وهو على الماشي على أربع؛ لأن المشي بلا آلة أدخل في القدرة من المشي على الرجلين، وهو أثبت لها بالنسبة إلى من مشى على أربع. وفي "فتح الرحمن" قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ الآية، فيه
(١) النسفي.
(٢) روح البيان.
383
مجاز التغليب، حيث استعمل ﴿من﴾ وهي لمن يعقل في غيره، لوقوعه تفصيلًا لما يعمهما، وهو كل دابة. وفيه أيضًا مجاز التشبيه إذ إسناد ما ذكر إلى الحية، زحف لا مشي، لكنه يشبهه في السير. اهـ.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: قادر، فيفعل ما يشاء كما يشاء، فلا يمنعه مانع؛ أي: إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء لذو قدرة تامة، فلا يتعذر عليه شيء أراده. وعلى الجملة فاختلاف هذه الحيوانات في الأعضاء والقوى ومقادير الأبدان والأعمال. والاختلاف لا بد أن يكون بتدبير مدبر حكيم مطلع على أحوالها، وأسرار خلقها، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، تعالى الله عما يقول الجاحدون علوًا كبيرًا.
٤٦ - ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أنزلنا عليك يا محمد دلائل واضحات، على طريق الحق والرشاد، لكن لا يصل إلى فهمها إلا من أوتي بصيرة نيرة، وفطرة سليمة تضيء له الفكر، حتى يسير على نهج الحق، ويبتعد عن الغي والضلال.
ومن ثم قال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَهْدِي﴾ ويرشد ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ هدايته ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: إلى طريق سويٍّ لا اعوجاج فيه، موصل إلى الجنة، وإلى رضا الله سبحانه، وهو إخلاص العبادة له وحده، والإنابة إليه.
٤٧ - ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ﴾؛ أي: ويقول هؤلاء المنافقون: صدقنا بالله وبالرسول. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في بِشْرٍ المنافق، خاصم يهوديًا في أرض، فدعاه إلى كعب بن الأشرف من أحبار اليهود، ودعاه اليهودي إلى النبي - ﷺ - ثم تحاكما إلى رسول الله - ﷺ - فحكم لليهودي، فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام، فقال: نتحاكم إلى عمر - رضي الله عنه -، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي: قضى لي النبي - ﷺ - فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: بلى. فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر - رضي الله عنه - بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي،
لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله - ﷺ -. فصيغة الجمع للإيذان بأن للقائل طائفةً يساعدونه ويتابعونه في تلك المقالة، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانًا، والقاتل منهم واحد.
﴿وَأَطَعْنَا﴾ هما في الأمر والنهي، والإطاعة فعل يعمل بالأمر لا غير؛ لأنها الانقياد، وهو لا يتصور إلا بعد الأمر، بخلاف العبادة وغيرها. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى﴾ ويعرض عن قبول حكمهما ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: جماعة من القائلين ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ القول المذكور ﴿وَمَا أُولَئِكَ﴾ الذين يدعون الإيمان والإطاعة، ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في الاعتقاد والعمل ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ حقيقة؛ أي: بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان، بل هم ممن في قلوبهم مرض، وقد مرنوا على النفاق، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
وخلاصة ذلك: لا يدخل في زمرة المؤمنين من يقول آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، ثم يعرض عما تقتضيه الطاعة، ويتجاوز إلى غير المؤمنين.
٤٨ - ثم بين هذا التولي بقوله: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾؛ أي: وإذا دعي هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله ﴿لِيَحْكُمَ﴾ الرسول ﴿بَيْنَهُمْ﴾ فيما اختصموا فيه بحكم الله تعالى. فالضمير في يحكم راجع إلى الرسول؛ لأنه المباشر للحكم، وإن كان الحكم حكم الله حقيقة. وذكر الله لتفخيمه - ﷺ - والإيذان بجلالة قدره عنده تعالى. ﴿وإذ فريق﴾ وجماعة ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من المنافقين ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن قبول الحكم، ومستكبرون عن اتباع حكمه؛ لأنه لا يحكم إلا بالحق.
وقرأ أبو جعفر ليحكم في الموضعين مبينًا للمفعول.
والمعنى: فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه - ﷺ - لكون الحق عليهم، وعلمهم بأنه عليه السلام يحكم بالحق عليهم، ولا يقبل الرشوة. وهذا شرح للتولي، ومبالغة فيه. وإذا الثانية للفجأة جواب إذا الأولى الشرطية. وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية، خلافًا للأكثرين من النحاة؛ لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١)﴾.
٤٩ - ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ﴾؛ أي: الحكم لهم لا عليهم ﴿يَأْتُوا إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى الرسول حالة كونهم ﴿مُذْعِنِينَ﴾؛ أي: منقادين لحكمه لجزمهم بأنه يحكم لهم فقوله: ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتُوا﴾؛ لأن الإتيان والمجيء يتعديان بإلى، أو بـ ﴿مُذْعِنِينَ﴾؛ لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة.
والمعنى (١): أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم.. جاؤوا إلى الرسول مطيعين، لعلمهم بأنه يحكم لهم؛ لأنه لا يحكم إلا بالحق، فإذعانهم لم يكن عن اعتقاد أن حكمه الحق، بل لأنه وافق هواهم، ومن جراء هذا لمَّا خالف الحق قصدهم، عدلوا عنه إلى غيره.
٥٠ - ثم فصل، ما يحتمل أن يكون السبب في عدولهم، عن قبول حكمه - ﷺ - إذا كان الحكم عليهم، بقوله: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ والاستفهام فيه للإنكار والاستقباح لإعراضهم المذكور، وبيان لمنشأة؛ أي: أذلك الإعراض لأنه في قلوبهم مرض؛ أي: نفاق وكفر. ﴿أَمِ﴾ لأنهم ﴿ارْتَابُوا﴾؛ أي: شكوا في أمر نبوته عليه السلام، مع ظهور حقيقتها ﴿أَمْ﴾ لأنهم ﴿يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾؛ أي: يجورا عليهم في الحكم، ويظلماهم فيه.
وفي "الفتوحات": والاستفهام (٢) في قوله: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ﴾ للإنكار لكن النفي المستفاد به لا يتسلط على هذه الأمور الثلاثة؛ لأنها واقعة لهم وقائمة بهم. والواقع لا ينفي وإنما هو متسلط على منشئيتها وسببيتها لإعراضهم؛ أي: ليس منشؤه شيئًا من هذه الثلاثة، بل منشؤه شيء آخر وهو ظلمهم، فبينه بالإضراب الانتقالي بقوله: ﴿بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. اهـ. "شيخنا".
(١) المراغي.
(٢) جمل.
386
و ﴿أَمْ﴾ في الموضعين منقطعة، تقدر عند الجمهور ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام، تقديره: بل أرتابوا بل أيخافون. ومعنى الاستفهام هنا التقرير والتوقيف والتوبيخ ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار؛ إبهامًا عليهم. وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة، ويبالغ به تارة في الذم وتارة في المدح. اهـ. "سمين".
ثم أضرب عن الكل، وأبطل منشئيته، وحكم بأن المنشأ شيء آخر من شنائعهم حيث قال: ﴿أُولَئِكَ﴾ المعرضون عن حكم الله تعالى. ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأصحاب الحقوق عليهم؛ أي (١): ليس إعراضهم عن الحكم لواحد من هذه الثلاثة، بل لأنهم هم الظالمون؛ أي: يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، ويتم لهم جحوده، فيأبون المحاكمة إليه لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يقضي عليهم بالحق.
والحاصل: أنه (٢) ليس ذلك الإعراض لشيء مما ذكر.
أما الأولان: فلأنه لو كان الإعراض لشيء منهما لأعرضوا عنه عليه السلام عند كون الحق لهم، ولما أثنوا إليه مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذٍ أيضًا. وأما الثالث فلانتفائه رأسًا، حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلًا، لمعرفتهم وتيقنهم أمانته - ﷺ -، وثباته على الحق، فمناط النفي المستفاد من الإضراب في الأولين هو وصف منشئيتهما في الإعراض فقط، مع تحققهما في نفسهما.
وفي الثالث: هو الوصف مع عدم تحققه في نفسه.
وفي الرابع: هو الأصل والوصف جميعًا.
ومعنى الآية: أي (٣) أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه - ﷺ - أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق أم سببه أنهم ارتابوا وشكوا في نبوته، عليه السلام على
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
387
ظهور أمرها؟ أم سببه أنهم يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم؟
وخلاصة ذلك: لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم بالكفر والنفاق، أو عروض شك في الدين، أو خوف من أن يجور الله ورسوله عليهم، أيًّا كان الأمر، فهو كفر وضلال، والله عليم بما انطوت عليه قلوبهم من المرض.
ثم أبطل السببين الأولين، وأثبت الثالث، فقال: ﴿بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾؛ أي: ليس العدول إلا للسبب الأول فحسب، فهم ما عدلوا إلا لما في قلوبهم من المرض والنفاق، وظلمهم لأنفسهم بمخالفة أمر ربهم، ومعصيتهم له فيما أمرهم به، من الرضا بحكم رسوله - ﷺ - فيما أحبوا وكرهوا، والتسليم لقضائه.
٥١ - وبعد أن نفى عنهم الإيمان الحق، بين صفات المؤمن الكامل، فقال: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِين﴾ بالنصب، على أنه خبر ﴿كَانَ﴾ وأن وما في حيزها اسمها. ﴿إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: إلى كتابه ﴿وَرَسُولِهِ﴾؛ أي: وإلى سنة رسوله - ﷺ - ﴿لِيَحْكُمَ﴾ الرسول ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وبين خصومهم، سواء كانوا منهم أو من غيرهم ﴿أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا﴾ الدعاء وأجبناه ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرهما بالإجابة، والقبول، والطاعة موافقة الأمر طوعًا، وهي تجوز لله ولغيره، كما في "فتح الرحمن".
وقرأ الجمهور (١): قول المؤمنين بالنصب على أنه خبر كان، وأن يقولوا اسما، وهذا أقوى صناعةً؛ لأن الأولى جعل الأعرف اسم كان، وأن يقولوا أوغل في التعريف؛ لأن الفعل المصدَّر بأن لا سبيل إلى تنكيره، بخلاف قول المؤمنين، فإنه يجوز تنكيره، بعزل الإضافة عنه.
والمعنى: إنما كان قول المؤمنين المخلصين عند الدعوة خصوصية، قولهم: سمعنا وأطعنا.
وقرأ علي (٢) وابن أبي إسحاق والحسن قول المؤمنين بالرفع، وهذا أفيد
(١) المراح.
(٢) المراح.
بحسب المعنى، لأن محط الفائدة هو الخبر، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر فائدة، وأظهر دلالة على الحديث.
والمعنى: إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين خصوصيةً قولهم: سمعنا وأطعنا، لا قولًا آخر. وهذا تعليم أدب الشرع، بمعنى أنَّ ما يجب أن يسلك المؤمنون كذا.
وقرأ أبو جعفر (١) والجحدري وخالد بن إلياس: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾، مبنيًا للمفعول، والمفعول الذي لم يسم فاعله، هو ضمير المصدر؛ أي: ليحكم هو؛ أي: الحكم.
والمعنى: ليفعل الحكم بينهم. ومثله قولهم: جمع بينهما، وألف بينهما، وقوله تعالى: ﴿وحيل بينهم﴾.
﴿وَأُولَئِكَ﴾ المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: الناجون من غضب الله وسخطه، ومن عذاب النار،
٥٢ - وبعد أن رتب الفلاح على هذا النوع، من الطاعة، أتبعه ببيان أن كل طاعة لله ورسوله موجبة للفوز. فقال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بامتثال ما أمرا به، واجتناب ما نهيا عنه كائنًا من كان ﴿وَيَخْشَ اللَّهَ﴾ على ما مضى من ذنوبه، أن يكون مأخوذًا بها، فيحمله ذلك على الطاعة وترك المعاصي. ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ فيما بقي من عمره بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
وأصله (٢): يتقيه، فحذف الياء للجزم فصار يتقه بكسر القاف والهاء. ثم سكن القاف تخفيفًا على خلاف القياس؛ لأن ما هو على صيغة فعل إنما يسكن عينه إذا كانت كلمة واحدة، نحو كَتْفِ في كَتِف فسُكِّن وسطه، كما سُكِّن وسط كَتْفٍ.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
﴿فَأُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالطاعة والخشية والاتقاء ﴿هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ بالنعيم المقيم. والخلود في جنات النعيم، والتقلب في رضا المولى الكريم، لا من عداهم. وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه. وإنما فسرنا الفلاح فيما سبق بالنجاة والفوز هنا بالنعيم؛ لأن باب التخلية مقدم على باب التحلية، ولأنه المناسب لسياق الكلام.
وقرأ حفص (١) ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ بإسكان القاف وكسر الهاء، باختلاس على نية الجزم، إجراء للمعتل مجرى الصحيح على لغة من قال: لم أر زيدًا بإسكان الراء. ولم أشتر طعامًا، بإسكانها أيضًا. يسقطون الياء للجازم، ثم يسكنون الحرف الذي قبلها. ومنه قول الشار: قالت سليمى اشتر لنا دقيقًا.
وقرأ الباقون بكسر القاف؛ لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره، ولكن قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وورش عن نافع: ﴿ويتقهي﴾ بياء موصولة. وقرأ قالون عن نافع: ﴿ويتقه﴾ بكسر الهاء، لا يصل بها الياء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ﴿ويتقه﴾ بإسكان الهاء.
٥٣ - ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه.. أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا، فقال: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: أقسم المنافقون، وحلفوا بالله سبحانه وتعالى ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾؛ أي: أقصى مراتب اليمين، وغايتها ونهايتها في الوكادة والشدة. قيل (٢): جهد اليمين أن يحلف بالله ولا يزيد على ذلك شيئًا. وقيل: بتعداد أسماء الله وصفاته. وأصله من القسامة، وهي أيمان تقسم على المتهمين في الدم، ثم صار اسمًا لكل حلف. والجهد بالفتح: الطاقة. والأيمان جمع يمين، واليمين في اللغة: القوة. وفي الشرع: تقوية أحد طرفي الخبر بذكر الله. قال الإِمام الراغب: اليمين في الحلف مستعار من اليد، اعتبارًا بما يفعله المجاهد والمعاهد عنده من المصافحة.
(١) الشوكاني وزاد المسير.
(٢) الخازن.
390
قال في "الإرشاد" (١): جهد أيمانهم، نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله المحذوف الذي هو في حيز النصب، على أنه من فاعل أقسموا؛ أي: أقسموا بالله تعالى يجهدون أيمانهم جهدًا. ومعنى جهد اليمين: بلوغ غايتها بطريق الاستعارة من قولهم: جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها؛ أي: أقسموا جاهدين بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة، فمن قال: أقسم بالله، فقد جهد يمينه. ومعنى الاستعارة: أنه لما لم يكن لليمين وسعٌ وطاقةٌ، حتى يبلغ المنافقون أقصى وسع اليمين، وطاقتها، كان أصله، يجهدون أيمانهم جهدًا، ثم حذف الفعل، وقدم المصدر، فوضع موضعه مضافًا إلى المفعول، نحو فضرب الرقاب، انتهى.
وقيل: هو منتصب على الحال، والتقدير: مجتهدين في أيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك وطاقتك جاهدًا. ﴿لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ﴾؛ أي: بالخروج إلى الغزو، فإنهم كانوا يقولون لرسول الله - ﷺ -: أينما كنت تكن معك، ولئن خرجت خرجنا معك، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا.
﴿لَيَخْرُجُنّ﴾ إلى الغزو جواب لأقسموا؛ لأن اللام الموطئة للقسم في قوله: ﴿لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ﴾ جعلت ما يأتي بعد الشرط المذكور جوابًا للقسم، لا جزاء للشرط. وكان جزاء الشرط مضمرًا، مدلولًا عليه بجواب القسم، وجواب القسم وجزاء الشرط، لما كانا متماثلين، اقتصر على جواب القسم، على القاعدة المشهورة عندهم، عند اجتماع القسم والشرط.
والمعنى: أي (٢) وحلفوا بالله جاهدين أيمانهم بالغين غايتها، لئن أمرتهم بالخروج للجهاد، والغزو.. ليلبن الطلب، وليخرجن كما أمرت.
والخلاصة: أنهم أغلظوا الإيمان، وشددوها في أن يكونوا طوع أمرك ورهن إشارتك، وقالوا: أينما كنت نكن معك، فإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فرد الله عليهم وزجرهم عن التفوه بهذه الإيمان الفاجرة، وأمره
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
391
أن يقول بهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد، لهؤلاء المنافقين ﴿لَا تُقْسِمُوا﴾؛ أي: لا تحلفوا بالله، على ما تدعون من الطاعة والخروج إلى الجهاد، إن أمرتم به. وهاهنا تمّ الكلام، ثم ابتدأ فقال: ﴿طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾ وارتفاع طاعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف. والجملة (١) تعليل للنهي المذكور؛ أي: لا تقسموا؛ لأن طاعتكم نفاقية، واقعة باللسان فقط، من غير مواطأة من القلب، وإنما عبر عنها بمعروفة، للإيذان بأن كونها كذلك مشهور معروف لكل أحد. كذا في "الإرشاد".
ويجوز أن يكون طاعة مبتدأ خبرها محذوف؛ لأنها قد خصصت بالصفة.
والمعنى: طاعة معروفة بالإخلاص وصدق النية خير لكم، وأمثل من قسمكم باللسان؛ فالمطلوب منكم هي، لا اليمين الكاذبة المنكرة.
وفي "التاويلات النجمية": ﴿قُلْ لَا تُقْسِمُوا﴾ بالكذب قولًا، بل أطيعوا فعلًا. فإنه ﴿طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾؛ بالأفعال غير دعوى القيل والقال. وقرأ زيد بن علي واليزيدي ﴿طَاعَةٌ﴾ بالنصب على المصدر لفعل محذوف؛ أي: أطيعوا طاعة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون﴾ من الأعمال، وما تضمرونه من المخالفة، لما تنطق به ألسنتكم، ومطلع (٢) على سرائركم، ففاضحكم ومجازيكم عليه. والتفت من الغيبة إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في تبكيتهم،
٥٤ - ولمَّا بكتهم بأنه مطلع على سرائرهم تلطف بهم، فأمرهم بطاعة الله، وطاعة الرسول، وهو أمر عام للمنافقين وغيرهم، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ سبحانه بأداء تكاليفه ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ باتباعه طاعةً ظاهرة وباطنةً بخلوص اعتقاد، وصحة نية.
وهذا التكرير منه تعالى (٣)، لتأكيد وجوب الطاعة عليهم، فإن قوله: ﴿لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾ في حكم الأمر بالطاعة. وقيل: إنهما مختلفان.
فالأول: نهي بطريق الرد، والتوبيخ. والثاني: أمر بطريق التكليف لهم والإيجاب عليهم.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
392
ثم أكد الأمر السابق، وبالغ في إيجاب الامتثال به، والحمل عليه بالترغيب والترهيب بقوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ خطاب للمأمورين، وأصله، فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: فإن تتولوا وتعرضوا عن هذه الطاعة، إثر ما أمرتم بها، وجواب الشرط قوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ﴾؛ أي: فاعلموا إنما عليه - ﷺ - ﴿مَا حُمِّلَ﴾؛ أي: ما كلف، وأمر به من تبليغ الرسالة، وقد فعل ﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾؛ أي: ما أمرتم به من الإجابة والطاعة. ولعل (١) التعبير هنا بالتحمل للإشعار بثقله، وكونه مؤونة وكلفة باقية في عهدتهم بعد، كأنه قيل: وحيث توليتم عن ذلك، فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل، فهو وعيد لهم. وقيل: جواب الشرط محذوف، تقديره: فلا ضرر عليه. وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ...﴾ إلخ. تعليل لذا المحذوف.
والمعنى: أي فإن (٢) تتولوا عن الطاعة، بعد أن أمركم الرسول بها.. فما ضررتم الرسول بشيء، بل ضررتم أنفسكم؛ لأنه عليه ما أمر به، من تبليغ الرسالة، وقد فعل، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة، فإن أنتم لم تفعلوا وتوليتم.. فقد عرضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه.. فقد خرجتم من الضلال إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم.
﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ﴾؛ أي: وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به من الطاعة.. ﴿تَهْتَدُوا﴾ إلى الحق الذي هو المقصد الأسنى، الموصل إلى كل خير، والمنجي من كل شر. وتأخيره (٣) عن بيان حكم التولي، لما في تقديم الترهيب من تأكيد الترغيب وجملة قوله: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ﴾ محمد - ﷺ -. ويبعد أن يحمل على الجنس، كما في "الشوكاني"؛ لأنه أعيد معرفًا. ﴿إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ مقررة لما قبلها؛ أي: ما عليه إلا التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح، وقد فعل، وإنما بقي ما حملتم، فإن أديتم فلكم، وإن توليتم فعليكم.
والمعنى: أي وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه.. تهتدوا إلى
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
393
الحق الموصل إلى كل خير، المنجي من كل شر، وما الرسول إلا ناصح، وهاد ومبلغ لكم، فإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم أصبتم طريق الصواب، وإن خالفتموه.. أوقعتم أنفسكم في الهلكة.
والخلاصة: أن الرسول فعل ما يجب عليه من أداء الرسالة، وقد بقي عليكم أن تفعلوه. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾.
قيل: يجوز (١) أن يكون قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ ماضيًا، وتكون الواو لضمير الغائبين، وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله - ﷺ - أن يقول لهم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة. والأول أرجح، ويؤيده الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ ويؤيده أيضًا قراءة البزي ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ بتشديد التاء، وإن كانت ضعيفة، لما فيها من جمع الساكنين.
٥٥ - ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الخطاب لعامة الكفرة. و (من) تبعيضية، أو له - ﷺ - ولمن معه من المؤمنين. و (من) بيانية؛ أي: الذين هم أنتم. وتوسيط الظرف بين المعطوفين لإظهار أصالة الإيمان. والمفعول الثاني محذوف، تقديره: الاستخلاف في الأرض، وتمكين دينهم، وتبديل خوفهم بالأمن.
وأما قوله: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ فهو جواب لقسم محذوف، تقديره: وعدهم الله، وأقسم ليستخلفنهم في الأرض. وهذا الجواب، قال على المفعول المحذوف، أو جواب للوعد، بتنزيل وعده تعالى منزلة القسم لتحقق إنجازه لا محالة.
وهذه الجملة مقررة لما قبلها، من أن طاعتهم لرسول الله - ﷺ - سبب لهدايتهم، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات،
(١) الشوكاني.
394
بالاستخلاف لهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم من الأمم، وهو وعد يعم جميع الأمة.
وقيل: هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم، بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله.. فقد أطاع الله تعالى ورسوله - ﷺ -. وقد أبعد من قال: إنها مختصة بالخلفاء الأربعة، أو بالمهاجرين، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة، وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وظاهر قوله: ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ كل من استخلفه الله سبحانه في أرضه، فلا يخص ذلك ببني إسرائيل، ولا أمة من الأمم دون غيرها.
والمعنى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات استخلافهم في الأرض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم بالأمن. وأقسم سبحانه: وعزتي وجلالي، ليجعلنهم خلفاء في الأرض، متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم، استخلافًا كائنًا، كاستخلاف الذين من قبلهم، وهم بنو إسرائيل، استخلفهم الله في مصر والشام، بعد إهلاك فرعون والجبابرة. وظاهر الآية العموم كما مر آنفًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ﴾ بفتح الفوقية على البناء للفاعل. وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم بضمها على البناء للمفعول وكسر اللام، فالموصول مرفوع.
وجملة قوله: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ معطوفة على ليستخلفنهم، داخلة تحت حكمه، كائنة من جملة الجواب. والمراد بالتمكين هنا، التثبيت والتقرير؛ أي: يجعله الله ثابتًا مقررًا، ويوسع لهم في البلاد، ويظهر دينهم على جميع الأديان. والمراد بالدين هنا الإِسلام؛ أي: وليثبتن الله لهم دينهم الذي اختار لهم، ويجعلنه مقررًا ثابتًا، بحيث يستمرون على العمل بأحكامه من غير منازع.
(١) الشوكاني.
395
قال في "التأويلات النجمية": يعني (١) يمكن كل صنف من الخلفاء حمل أمانته التي ارتضى لهم من أنواع مراتب دينهم، فإنهم أئمة أركان الإِسلام، ودعائم الملة الناصحون لعباده، الهادون من يسترشد في الله حفاظ الدين. وهم أصناف: قوم حفاظ أخبار الرسول عليه السلام، وحفاظ القرآن، وهم بمنزلة الخزنة. وقوم هم علماء الأصول من الرادِّين على أهل العناد، أصحاب البدع بواضح الأدلة، غير مخلطين الأصول بعلوم الفلاسفة وشبههم، فإنها مهلكة عظيمة، لا يسلم منها إلا العلماء الراسخون، والأولياء القائمون بالحق، وهم بطارقة الإِسلام وشجعانه. وقوم هم الفقهاء، الذين إليهم الرجوع في علوم الشريعة من العبادات وكيفية المعاملات، وهم في الدين بمنزلة الوكلاء، والمتصرفين في الملك.
وذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أولًا، وهو جعلهم ملوكًا، وذكر التمكين ثانيًا، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطروِّ، بل على وجه الاستقرار والثبات، بحيث يكون الملك لهم ولعقبهم من بعدم.
وجملة ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ معطوفة على التي قبلها؛ أي: وليجعلن لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمنا، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه، بحيث لا يخشون إلا الله سبحانه، ولا يرجون غيره، وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلا في السلاح، ولا يمسمون ويصبحون إلا على ترقب لنزول المضرة بهم من الكفار، ثم كانوا في غاية الأمن والدعة، وأذل الله لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض، ومكنهم منها، فلله الحمد.
وقال أبو العالية (٢): لما أظهر الله عَزَّ وَجَلَّ رسوله - ﷺ - على جزيرة
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
396
العرب.. وضعوا السلاح، وآمنوا، ثم قبض الله نبيه - ﷺ - فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عليهم الخوف، فغيروا، فغير الله ما بهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ بالتشديد من بدل المضعف، واختارها أبو عبيد. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر والحسن بالتخفيف من أبدل. واختارها أبو حاتم، وهما لغتان. وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى. فقراءة التشديد أرجح من قراءة التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتشديد فرقًا، وأنه يقال: بدلته؛ أي: غيرته، وأبدلته أزلته، وجعلت غيره. قال النحاس: وهذا القول صحيح.
والمعنى: أي (٢) وعد الله المؤمنين منكم المصلحين لأعمالهم ليورثنهم أرض المشركين من العرب والعجم، وليجعلنهم ملوكها وساستها كما استخلف بني إسرائيل بالشام حين أهلك الجبابرة، وجعلهم ملوكها وسكانها. وقد وفي سبحانه بوعده، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأخذ الجزية من مجوسي هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس في مصر، والنجاشى ملك الحبشة.
ولما قُبض - ﷺ - إلى الرفيق الأعلى.. قام بالأمر بعده الخلفاء الراشدون، فنهجوا منهجه، وملكوا خزائنهم، واستعبدوا أبناء القياصرة، وصدق قول رسوله - ﷺ -: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ أمتي ما زوي لي منها".
﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾؛ أي: وليجعلن دين الإِسلام راسخًا قويًا مقررًا، ثابت القدم، ويعظم أهله في نفوس أعدائه، الذين يواصلون الليل بالنهار، في التدبير لإطفاء أنواره، لتعفوا آثاره. ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾؛
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
397
أي: وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن. قال الربيع بن أنس: كان النبي - ﷺ - وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله سبحانه بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله تعالى، ثم إن رجلًا من الصحابة قال: يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "لن تصبروا إلا يسيرًا، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم، محتبيًا ليس فيه حديدة" فأنزل الله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ إلى آخر الآية. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)﴾.
وجملة ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ في محل النصب حال من ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد؛ أي: وعد الله الذين آمنوا بالاستخلاف والتمكين، حالة كونهم مستمرين على عبادتي وتوحيدي. ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم.
وجملة ﴿لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ حال من الواو في ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾؛ أي: يعبدونني (١) حالة كونهم غير مشركين بي في العبادة شيئًا من الأشياء.
وقيل معناه: لا يراؤون بعبادتي أحدًا، وقيل معناه: لا يخافون غيري، وقيل معناه: لا يحبون غيري.
﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ وارتد ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾؛ أي: بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمر على الكفر، ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب، فإن الإصرار (٢) عليه بعد مشاهدة دلائل التوحيد كفر مستأنف، زائد على الأصل، أو من كفر هذه النعمة العظيمة بعد ذلك الوعد الصحيح. ﴿فَأُولَئِك﴾ الكافرون لهذه النعم ﴿هُمُ﴾
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
398
لا غيرهم ﴿الْفَاسِقُونَ﴾؛ أي: الكاملون في الفسق والخروج عن الطاعة، وفي الطغيان حدود الكفر.
قال المفسرون: أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان - رضي الله عنه - فلما قتلوه غير الله ما بهم من الأمن وأدخل عليهم الخوف الذي رفع عنهم، حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانًا متحابين. والله تعالى لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وفي الحديث: "إذا وضع السيف في أمتي، لا يرفع عنها إلى يوم القيامة".
٥٦ - وجملة قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ معطوفة (١) على مقدر يدل عليه السياق، كأنه قيل لهم: فآمنوا واعملوا صالحًا، وأقيموا الصلاة إلخ. وقيل: معطوف على ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾. وقيل: التقدير: فلا تكفروا، وأقيموا الصلاة؛ أي: أدوا الصلوات الخمس في مواقيتها بأركانها وشروطها وآدابها، وأعطوا الزكاة المفروضة في أموالكم إلى مستحقيها.
﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾؛ أي: اتبعوا الرسول محمد - ﷺ -، فيما أمركم به ونهاكم عنه، فهو من باب التكميل. ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾؛ أي: لكي تنالوا رحمة الله سبحانه في الدنيا والآخرة؛ أي: افعلوا ما ذكر من الإقامة والإيتاء والإطاعة، راجين أن يرحمكم الله سبحانه وتعالى بسبب امتثالكم هذه المأمورات. فهو متعلق بالأوامر الثلاثة. وكرر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد، وخصه بالطاعة لأن طاعته طاعة الله تعالى. ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم، كما يشعر به الحذف، على ما تقرر في علم المعاني، من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم.
٥٧ - ﴿لَا تَحْسَبَنّ﴾ يا محمد، أو يا من يصلح للخطاب كائنًا من كان ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مفعول أول للحساب. ﴿مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ (٢)؛ أي: معجزين لله عن إدراكهم لاهلاكهم في قطر من الأقطار بما رحبت، فائتين عنه، وإن هربوا منها
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
399
كل مهرب ﴿وَمَأْوَاهُمُ﴾؛ أي: مسكنهم ومقرهم في الآخرة ﴿النَّارُ﴾؛ أي: نار جهنم.
والجملة الاسمية معطوفة على جملة النهي بتأويلها بجملة خبرية؛ أي: لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض، فإنهم مدركون، ومأواهم النار. ﴿وَلَبِئْسَ﴾ وقبح ﴿الْمَصِيرُ﴾ والمرجع لهم النار. والجملة جواب لقسم محذوف. والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لبئس المصير، والمرجع لهم. هي؛ أي: النار.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء الفوقية؛ أي: لا تحسبن يا محمد. وقرأ حمزة وابن عامر وأبو حيوة ﴿لا يحسبن﴾ بالياء التحتيَّة، فيكون الموصول فاعلًا على هذه القراءة والمفعول الأول محذوف، أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين في الأرض. قال النحاس: وما علمت أحدًا بصريًا، ولا كوفيًا إلا وهو يخطىء قراءة حمزة.
وفي الآية (٢): إشارة إلى كفران النعمة، فإن الذين أنفقوا النعمة في المعاصي، وغيروا ما بهم من الطاعات مأواهم نار القطيعة. قال علي - رضي الله عنه -: أقل ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه.
ومعنى الآيتين (٣): وأقيموا أيها الناس الصلاة على الوجه الذي رسمه الله في مواقيتها، ولا تضيعوها، وآتوا الزكاة التي فرضها الله على أهلها، لما فيها من الإحسان إلى الفقير والمسكين وذوي البؤس والحاجة، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم به، ونهاكم عنه، لعل ربكم أن يرحمكم فينجيكم من شديد عذابه، ثم بين أن الكافرين سيحل بهم النكال، ولا يجدون مهربًا مما أوعدهم به ربهم فقال: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: لا تظن أيها الرسول الكافرين يجدون مهربًا في الأرض إذا أردنا إهلاكهم، بل نحن قادرون على أخذهم،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
400
والبطش بهم متى أردنا. وبعدئذٍ بين مآلهم في الآخرة، فقال: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾؛ أي: كما أنا سنضيف عليهم في الدنيا، وننكل بهم، ولا يفلتون من عذابنا سنجعل عاقبة أمرهم نارًا تلظّى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.
والخلاصة: أنه سيلحقهم سخطنا في الدنيا، وسينالهم الذل والصغار، وسيكون مصيرهم في الآخرة سعيرًا وحميمًا وغساقًا، جزاءً وفاقًا، إنهم كذبوا بآياتنا كذابًا.
الإعراب
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿لَمْ تَرَ﴾: جازم ومجزوم وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير هذه الحقيقة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يُسَبِّحُ﴾: فعل مضارع ﴿لَهُ﴾ متعلق به. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. وجملة ﴿يُسَبِّحُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾. وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى؛ لأن الرؤية هنا قلبية تتعدى إلى مفعولين؛ لأن تسبيع المسبحين لا تتعلق به رؤية البصر. ﴿وَالطَّيْرُ﴾: معطوف على ﴿مَنْ﴾. ﴿صَافَّاتٍ﴾ حال من الطير ومفعول صافات محذوف؛ أي: باسطات أجنحتها. ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿عَلِمَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على كل، أو على الله. وقال أبو البقاء: إن عودته على كل أرجح؛ لأن القراءة برفع كل على الابتداء، فيرجع ضمير الفاعل إليه. ولو كان فيه ضمير اسم الله لكان الأولى نصب كل، لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سبببها، فيصير كقولك: زيدًا ضرب عمرو غلامه. ﴿صَلَاتَهُ﴾: مفعول به. ﴿وَتَسْبِيحَهُ﴾: معطوف عليه. وجملة ﴿عَلِمَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ.
401
﴿عَلِيمٌ﴾: خبره. والجملة مستأنفة. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. وجملة ﴿يَفْعَلُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لله﴾: خبر مقدم. ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة مستأنفة. ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾: خبر مقدم. ﴿الْمَصِيرُ﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة على ما قبلها.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: (الهمزة): فيه للاستفهام التقريري. ﴿لم تر﴾: جازم وفعل مجزوم، وفاعل مستتر. تقديره أنت. والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يُزْجِي سَحَابًا﴾: فعل وفاعل مستتر، يعود على الله ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾. وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي تر، إن قلنا إنها قلبية، ويصح كونها بصرية، تقديره: ألم تر إزجاء الله سحابًا. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿يُؤَلِّفُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على ﴿يُزْجِي﴾. ﴿بَيْنَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُزْجِي﴾. ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعولان معطوف على ﴿يُؤَلِّفُ﴾. ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿ترى الودق﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به مطعوف على ﴿يَجْعَلُهُ﴾. ﴿يَخْرُجُ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿الْوَدْقَ﴾. ﴿مِنْ خِلَالِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَخْرُجُ﴾. والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿الْوَدْقَ﴾. ﴿وَيُنَزِّلُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة معطوفة على جملة ﴿يُزْجِي﴾ على كونها خبرًا لـ ﴿أَنَّ﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ينزل﴾. فـ ﴿مِنْ﴾: ابتدائية. ﴿مِنْ جِبَال﴾: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله، بدل اشتمال. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿جِبَال﴾. ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ينزل﴾. وهو في موضع مفعول الإنزال وهي تبعيضية. وفي "الفتوحات" قد ذكرت ﴿مَنْ﴾ هنا ثلاث مرات. فالأولى: ابتدائية
402
باتفاق المفسرين. والثانية: قيل زائدة. وقيل تبعيضية. وقيل: ابتدائية على جعل مدخولها بدلًا مما قبله بإعادة الجار. والثالثة: فيها هذه الأقوال الثلاثة. وتزيد بقول رابع: وهو أنها لبيان الجنس انتهى. ﴿فَيُصِيبُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿يصيب﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على ينزل. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يصيب﴾. ﴿مَنْ﴾ مفعول به لـ ﴿يصيب﴾. وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. والعائد محذوف، تقديره: من يشاء إصابته. ﴿وَيَصْرِفُهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على يصيب. ﴿عَنْ مَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يصرف﴾ وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة ﴿من﴾ الموصولة ﴿يَكَادُ﴾: فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة. ﴿سَنَا بَرْقِهِ﴾ اسمها ومضاف إليه. وجملة ﴿يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار﴾ في محل النصب خبر ﴿يَكَادُ﴾. وجملة ﴿يَكَادُ﴾ في محل الجر صفة لـ ﴿بَرَدٍ﴾.
﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (٤٤) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)﴾.
﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَالنَّهَارَ﴾: معطوف على الليل. والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لَعِبْرَةً﴾: اسمها مؤخر. واللام فيه حرف ابتداء. ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾: جار ومجرور مضاف إليه صفة ﴿لَعِبْرَةً﴾. وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لبيان أصناف الخلق. ﴿مِنْ مَاءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾؛ أي: من نطفة. بحسب الأغلب. ﴿فَمِنْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿منهم﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، عطف مفصل على مجمل. ﴿يَمْشِي﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على من. ﴿عَلَى بَطْنِهِ﴾: متعلق به. والجملة
403
الفعلية صلة ﴿مِنْ﴾ الموصولة ﴿وَمِنْهُمْ﴾ خبر مقدم. ﴿من﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿يَمْشِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر على ﴿من﴾. ﴿عَلَى رِجْلَيْنِ﴾: متعلق بـ ﴿يَمْشِي﴾. والجملة الفعلية صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ إعرابه نظير ما قبله، ومعطوف عليه ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة مستأنفة. وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾، ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧)﴾.
﴿لَقَدْ﴾: اللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَنْزَلْنَا آيَاتٍ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿مُبَيِّنَاتٍ﴾: صفة ﴿آيَاتٍ﴾. والجملة الفعلية لقسم محذوف، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَهْدِي﴾ خبره. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿من﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿يَشَاءُ﴾ وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: جار ومجرور، وصفة متعلق بـ ﴿يَهْدِي﴾. ﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ إلى ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به. والجملة في محل النصب مقول ليقولون. ﴿وَبِالرَّسُولِ﴾ معطوف على بالله. ﴿وَأَطَعْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنَّا﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿يَتَوَلَّى فَرِيقٌ﴾: فعل وفاعل معطوف على يقولون. ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لـ ﴿فَرِيقٌ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَتَوَلَّى﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية ﴿ما﴾: حجازية. ﴿أُولَئِكَ﴾: اسمها. ﴿بِالْمُؤْمِنِين﴾: خبرها. والباء: زائدة. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ﴿فَرِيقٌ﴾ لتخصصه بالصفة.
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُم
404
الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)}.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يسقبل من الزمان، متضمن معنى الشرط. ﴿دُعُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿دُعُوا﴾. ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونا فعل شرط لها. ﴿لِيَحْكُمَ﴾ (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يحكم﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة. جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الرسول. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يحكم﴾ والجملة مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لحكمه. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿دُعُوا﴾. ﴿إِذَا﴾ فجائية، قائمة مقام الفاء، في ربط الجواب بشرطه. وهو ﴿إِذَا﴾ الأولى، حرف لا محل لها من الإعراب. ﴿فَرِيقٌ﴾: مبتدأ. ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة له. ﴿مُعْرِضُونَ﴾: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية جواب ﴿إذا﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿إذا﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾. ﴿وَإِنْ يَكُنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿يَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص. مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿لَهُمُ﴾: خبر ﴿يَكُنْ﴾ مقدم على اسمها. ﴿الْحَقُّ﴾: اسما مؤخر. ﴿يَأْتُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتُوا﴾. ﴿مُذْعِنِينَ﴾ حال من فاعل ﴿يَأْتُوا﴾. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إذا﴾.
﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)﴾.
﴿أَفِي﴾ الهمزة فيه: للاستفهام التقريري. جيء بها للمبالغة في الذم. ﴿في قلوبهم﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَرَضٌ﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة، مسوقة لتقسيم الأمر في صدودهم عن حكومته، إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله. ﴿أَمِ﴾: حرف عطف منقطعة، تقدر ببل الإضرابية. وهمزة الاستفهام التقريري. ﴿ارْتَابُوا﴾: فعل وفاعل. والجملة معطوفة على الجملة التي
405
قبلها. ﴿أَمِ﴾: عاطفة متقطعة تقدر ببل. وهمزة الاستفهام التقريري. ﴿يَخَافُونَ﴾ فعل وفاعل. والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿يَحِيفَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل منصوب بأن. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَحِيفَ﴾. ﴿وَرَسُولُهُ﴾ معطوف على الجلالة. والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أم يخافون حيف الله ورسوله عليهم. ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب وابتداء. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الظَّالِمُونَ﴾: خبر المبتدأ والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر بمعنى ما النافية وإلا المثبتة. أو تقول: ﴿إن﴾: حرف نصب مكفوفة عن العمل. ﴿ما﴾: كافة. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: خبرها مقدم على اسمها. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط. ﴿دُعُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿دُعُوا﴾. ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة. والجملة في محل الخفض بضافة ﴿إِذَا﴾ إليها. والظرف متعلق بقول المؤمنين. ﴿لِيَحْكُمَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يحكم﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الرسول. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يحكم﴾. والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لحكمه. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿دُعُوا﴾. ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل. والجملة في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم كان مؤخرًا، والتقدير: إنما كان قول سمعنا وأطعنا قول المؤمنين، وقت دعوتهم إلى الله، ورسوله ليحكم بينهم. وجملة كان مستأنفة. وإنما ترجح نصب قول المؤمنين على رفعه؛ لأنه متى اجتمع معرفتان فالأولى جعل أوغلهما في التعريف اسمًا لكان. ولكن سيبويه لم يفرق بينهما. ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ مقول محكي ليقولوا. وإن شئت قلت: ﴿سَمِعْنَا﴾ فعل وفاعل. والجملة في محل النصب مقول ليقولوا. ﴿وَأَطَعْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على سمعنا. ﴿وَأُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾: خبر. والجملة مستأنفة.
406
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ. والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُطِعِ اللَّهَ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿وَيَخْشَ اللَّهَ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على ﴿من﴾ معطوف على ﴿يُطِعِ﴾ على كونه فعل شرط لمن. ﴿وَيَتَّقْهِ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على من معطوف على يطع، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وسكنت القاف على قراءة حفص للتخفيف، أو مجزوم بسكون القاف إجراء للمعتل مجرى الصحيح، كما مر في مبحث القراءة. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْفَائِزُونَ﴾ خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة من الشرطية مستأنفة. ﴿وَأَقْسَمُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿أقسموا﴾: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿أقسموا﴾. ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، أو حال من فاعل ﴿أقسموا﴾؛ أي: مجتهدين في أيمانهم. ﴿لَئِنْ﴾ (اللام): موطئة للقسم. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿أَمَرْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿لَيَخْرُجُنَّ﴾ اللام: موطئة للقسم مؤكدة للأولى. ﴿يخرجن﴾: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة، لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة: لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، ونون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب. ولم يبن الفعل هنا؛ لأن النون لم تباشره. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم مستأنفة. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: إن أمرتهم، يخرجون. وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه، لا محل لها من الإعراب. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿لَا﴾ ناهية جازمة. ﴿تُقْسِمُوا﴾: فعل
407
وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿طَاعَةٌ﴾ مبتدأ ﴿مَعْرُوفَةٌ﴾ صفته. وسوغ الابتداء بالنكرة هذا الوصف. والخبر محذوف، تقديره: خير لكم، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمركم الذي أنتم عليه طاعة معروفة؛ أي: نفاقية لسانية. قال الواسطي: وهذا الوجه أولى؛ لأن الخبر محط الفائدة، وعليه فالمعنى: أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة، معلومة لا يشك فيها، ولا يرتاب اهـ. "كرخي". والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿خَبِيرٌ﴾ خبره. ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة ﴿ما﴾ الموصولة. وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على أطيعوا الله. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، من أمرم بالإطاعة وأردتم بيان حكم ما إذا تتولوا عن الطاعة فأقول لكم. ﴿إن تولوا﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. وعلامة جزمه حذف النون؛ لأن أصله تتولوا فحذفت إحدى التاءين للتخفيف. ﴿فَإِنَّمَا﴾: الفاء: رابطة الجواب. ﴿إنما﴾: أداة حصر. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿ما﴾: موصولة في محل الرفع مبتدأ مؤخر. ﴿حُمِّلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر يعود على ﴿ما﴾. والجملة الفعلية صلة الموصول. والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونا جوابًا لها. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَعَلَيْكُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَا حُمِّلْتُم﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية
408
في محل الجزم، معطوفة على الجملة التي قبلها، على كونها جواب ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿تُطِيعُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿تَهْتَدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿عَلَى الرَّسُولِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الْبَلَاغُ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿الْمُبِينُ﴾ صفته. والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول. والجملة مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿آمَنُوا﴾. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ (اللام): واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: وأقسم. ﴿يستخلفنهم﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله. ونون التوكيد الثقيلة، ومفعول به في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب.
﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
﴿كَمَا﴾ الكاف: حرف جر. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿اسْتَخْلَفَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿الَّذِينَ﴾ مفعول به. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ جار ومجرور صلة الموصول. والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾: مع صلتها
409
في تأويل مصدر، مجرور بالكاف، تقديره: كاستخلافه الذين من قبلهم، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف، لوقوعه صفة لمصدر محذوف، تقديره: ليستخلفنهم استخلافًا كائنًا، كاستخلاف الذين من قبلهم. ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يمكنن﴾: فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب، والجازم مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم، معطوفة على جملة القسم، في قوله: ﴿ليستخلفنهم﴾: ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يمكنن﴾ ﴿دِينَهُمُ﴾: مفعول به. ﴿الَّذِي﴾ اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿دِينَهُمُ﴾. ﴿ارْتَضَى﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَهُمْ﴾. متعلق به. والجملة صلة الموصول. والعائد محذوف، تقديره ارتضاه لهم. ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. (واللام): موطئة للقسم. ﴿يبدلنهم﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به أول، ونون توكيد ثقيلة. والجملة معطوفة على جملة ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ليبدلنهم﴾. ﴿أَمْنًا﴾ مفعول ثان ليبدلن. ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ ﴿يعبدون﴾: فعل مضارع وفاعل مرفوع بثبات النون. والنون نون الوقاية. والياء مفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة على الأرجح، استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب. كأنه قيل: ما بالهم بعد ذلك. فقيل: يعبدونني. ويجوز أن تكون حالًا من مفعول ليستخلفنهم؛ أي: حالة كونهم عابدين إياي. ﴿لَا يُشْرِكُونَ﴾. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِي﴾: متعلق به. ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به، أو مفعول مطلق. والجملة الفعلية في محل النصب بدل من جملة ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ أو حال من فاعل ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾؛ أي: يعبدونني حالة كونهم موحدين. وهو جيد. ولك أن تجعلها استئنافية كسابقتها. ﴿وَمَنْ﴾ الواو: استئنافية. ﴿وَمَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع. مبتدأ. والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما ﴿كَفَرَ﴾ فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من. ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ متعلق بـ ﴿كَفَرَ﴾ ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب. ﴿أولئك﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير
410
فصل. ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ خبر. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿وَمَنْ﴾ على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿وَمَنْ﴾ الشرطية، مستأنفة.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)﴾
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة معطوفة على محذوف، معلوم من السياق، تقديره: فآمنوا واعملوا صالحًا وأقيموا الصلاة، أو معطوفة على وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول. قال الزمخشري: وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل؛ لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ كلاهما فعل وفاعل ومفعول به معطوفان على ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ناصب واسمه. وجملة ﴿تُرْحَمُونَ﴾: خبر ﴿لعل﴾. مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)﴾.
﴿لَا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَحْسَبَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لَا﴾ مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب. والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر، في محل النصب مفعول أول لحسب. وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول ﴿مُعْجِزِينَ﴾ مفعول ثان لحسب ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن في ﴿مُعْجِزِينَ﴾ ومتعلق ﴿مُعْجِزِينَ﴾ محذوف، تقديره: لنا. ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّار﴾ مبتدأ وخبر، أو بالعكس. والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ عطف خبر على إنشاء، على رأي بعضهم، أو معطوفة على مقدر، تقديره: بل هم مقهورون مدركون ومأواهم الخ. وهذا أولى؛ لأنه يكون عطف خبر على خبر. ﴿وَلَبِئْسَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. و (اللام): موطئة للقسم. ﴿بئس﴾: فعل ماض جامد لإنشاء الذم. ﴿الْمَصِيرُ﴾ فاعل والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا، تقديره: مصيرهم، يعني النار. والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف. وجملة القسم مستأنفة.
411
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالطَّيْرُ﴾ جمع طائر، كريب وراكب. والطائر كل ذي جناح يسبح أى الهواء قال أبو عبيدة: وقطرب: الطير يقع على الواحد والجمع. وقال ابن الأنباري: الطير جماعة، وتأنيثها أكثر من التذكير. وفي "المصباح" الطائر على صيغة اسم الفاعل، من طار يطير طيرانًا، وهو له أى الجو كمشي الحيوان أى الأرض، ويعدى بالهمزة. والتضعيف. فيقال: طيرته وأطرته. وجع الطائر طير كصحب وصاحب. وجمع الطير طيور وأطيار.
﴿صَافَّاتٍ﴾ أي: باسطات أجنحتهن أى الهواء، من الصف، وهو البسط. ﴿يُزْجِي سَحَابًا﴾ أي: يسوق سوقًا برفق، والإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة لينساق، غلب أى سوق شيء يسير، أو غير معتد به. ومنه البضاعة المزجاة، فإنها يزجيها كل أحد، ويدفعها لقلة الاعتداد بها. ففيه إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى، ما لا يعتد به. وفي "المختار" زجى الشيء تزجية، دفعه برفق، وتزجى بكذا اكتفى به. وأزجى الإبل ساقها. والمزجي الشيء القليل تسوقه. وفي "القاموس" وشرحه زجا يزجو زجوًا وزجى تزجية وأزجى إزجاء وازدجاه: ساقه، ودفعه برفق. يقال: كيف تزجي أيامك؛ أي: كيف تدفعها. وزجى فلان حاجتي؛ أي: سهل تحصيلها، وأزجى الأمر أخره وأزجى الدرهم روجه.
وسمي السحاب سحابًا لانسحابه في الهواء؛ أي: انجراره، هو اسم جنس يصح إطلاقه على سحابة واحدة وما فوقها. والمراد هاهنا، قطع السحاب بقرينة إضافة بين إلى ضميره، فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد كما مر.
﴿رُكَامًا﴾: الركام بضم الراء المتراكم بعضه فوق بعض. قال في "المفردات": يقال: سحاب مركوم؛ أي: متراكم، والركام ما يلقى بعضه على بعض. وفي" المختار" ركم الشيء إذا جمعه، وألقى بعضه على بعض، وبابه نصر، وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع. والركام الرمل المتراكم. والسحاب
412
ونحوه. اهـ.
﴿فَتَرَى الْوَدْقَ﴾: الودق: المطر، قيل: هو خاص بالضعيف. وقيل: هو المطر ضعيفًا كان أو شديدًا، وهو في الأصل مصدر. يقال: ودق السحاب يدق من باب وعد، وفي "المفردات" الودق قيل: ما يكون خلال المطر، كأنه غبار، وقد يعبر به عن المطر اهـ.
﴿مِنْ خِلَالِهِ﴾؛ أي: من ثقبه. وفي "القرطبي" الخلال جمع خلل، كجبال جمع جبل. وهي فرجه ومخارج القطر منه. وقد تقدم أى البقرة، أن كعبًا قال: إن السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل المطر من السماء.. لأفسد ما يقع عليه من الأرض. اهـ. ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ البرد: محركة الماء المنعقد؛ أي: ما يبرد من المطر أى الهواء، فيصلب. كما في "المفردات".
﴿سَنَا بَرْقِهِ﴾ في "المختار" السنا: مقصورًا، ضوء البرق الساطع، والسنا أيضًا: هو نبت يتداوى به، وهو من ذي الواو، يقال: سنا يسنوا سنًا؛ أي: أضاء يضيء اهـ. "سمين". والسناء من الرفعة مصدود، والشيء الرفيع وأسناه رفعه، وسناه تسنية فتحه وسهله. وفي "القاموس" البرق واحد بروق السحاب، أو ضرب ملك السحاب، وتحريكه إياه لينساق. فترى النيران. وفي "إخوان الصفا" البرق: نار، تنقدح من احتكاك تلك الأجزاء الدخانية، في جوف السحاب.
﴿يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ أي: يخطفها بسرعة، جمع بصر، بمعنى الجارحة. ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ أي: يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا، أى قصر ذاك، حتى يعتدلا، ويغير أحوالهما بالحر والبرد.
﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ أي: لأهل العقول والبصائر، جمع بصيرة. ويقال: لقوة القلب المدركة بميرة وبصر، ولا يكاد يقال للجارحة يصيرة. كما أى "المفردات". ﴿كُلَّ دَابَّةٍ﴾ الدب والدبيب مشي خفيف، ويستعمل ذلك أى الحيوان وفي الحشرات أكثر، كما في "المفردات". والدابة هنا: ليست عبارة عن مطلق ما يمشي ويتحرك، بل هي إسم للحيوان الذي يدب على الأرض، ومسكنه
413
هنالك، فيخرج منها الملائكة والجن، فإن الملائكة خلقوا من نور، والجن من نار. وقال في "فتح الرحمن": خلق كل حيوان يشاهد في الدنيا، ولا يدخل فيه الملائكة والجن؛ لأنا لا نشاهدهم. اهـ.
والمعنى: خلق كل حيوان يدب على الأرض.
﴿يَمْشِي﴾ والمشي: ضابطه، هو قطع المسافة، والمرور عليها، مع قيد كون ذلك المرور على الأرجل. ﴿وَأَطَعْنَا﴾ من الإطاعة، وهو فعل يعمل بالأمر، لا غير؛ لأنها الانقياد، وهو لا يتصور إلا بعد الأمر، كما مر. ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ والحكم بالشيء، أن تقضي بأنه كذا، وليس بكذا، سواء ألزمت بذلك غيرك، أو لم تلزمه.
﴿مُعْرِضُونَ﴾ يقال: أعرض إذا أظهر عرضه؛ أي: ناحيته. ﴿مُذْعِنِينَ﴾؛ أي: منقادين. ﴿مَرَضٌ﴾؛ أي: فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال. ﴿ارْتَابُوا﴾ شكوا في نبوتك. ﴿أَنْ يَحِيفَ﴾ والحيف الجور، والظلم، والميل في الحكم إلى أحد الجانبين. يقال: حاف في قضيته؛ أي: جار فيما حكم.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: فعل مضارع مجزوم بحذف النون؛ لأن أصله تتولوا بتاءين، إحداهما تاء المضارعة، والأخرى تاء المطاوعة؛ لأن ماضيه تولى من باب تفعل الخماسي.
﴿إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ البلاغ اسم مصدر لبلغ المضعف، فهو بمعنى التبليغ، الذي هو مصدر بلغ. ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ قال الراغب: الخلافة النيابة عن الغير. إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف. وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض.
﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ﴾ التمكين جعل الشيء مكانًا لآخر. يقال: مكن له في الأرض؛ أي: جعلها مقرًا له. يقال: مكنتك ومكنت لك مثل نصحتك ونصحت لك.
414
﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ التبديل جعل الشيء مكان آخر، وهو أعم من العوض، فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول، والتبديل يقال: للتغير وإن لم تأت ببدله.
﴿أَمْنًا﴾ وأصل الأمن طمأنينة النفس، وزوال الخوف. ﴿وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي: المرجع. يقال: صار إلى كذا؛ أي: انتهى إليه. ومنه صير الباب لمصيره الذي ينتهي إليه في تنقله وتحركه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿وَالطَّيْرُ﴾ بعد قوله: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في جملة ما في الأرض لعدم استقرارها فيها قرار ما فيها؛ لأنها تكون بين السماء والأرض.
ومنها: فن العنوان في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ الآية. وهو فن انفرد به القليل من علماء البيان، ويسمونه فن العنوان، وعرفوه بأنه أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف، أو فخر، أو مدح، أو عتاب، أو هجاء، أو غير ذلك من الفنون، ثم يأتي لقصد تكميله وتوكيده، بأمثلة من ألفاظ، تكون عنوانات لأخبار متقدمة، وقصص سالفة، ومنه نوع عظيم جدًّا، وهو ما يكون عنوانًا للعلوم، وذلك أن تذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح العلوم، ومداخل لها، والآية التي نحن بصددها، فيها عنوان العلم المعروف بالآثار العلوية، والجغرافيا الرياضية وعلم الفلك.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿يصيب﴾ وقوله: ﴿يصرفه﴾.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ إذ ليس المراد التقليب المادي للأشياء الذاتية، وإنما استعير لتعاقب الليل والنهار.
ومنها: الجناس التام في قوله: ﴿يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار﴾، ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾
415
المراد بالأول العيون الباصرة، وبالثانية العقول المدركة.
ومنها: الإجمال ثم التفسير في قوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ الآية. فقد ذكر سبحانه أولًا الجنس الأعلى، حيث قال: كل دابة، فاستغرق أجناس كل ما دب، ثم فسر هذا الجنس الأعلى، بالأجناس المتوسطة. حيث قال: ﴿فَمِنْهُمْ﴾ و ﴿مِنْهُمْ﴾
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ فقد سمي الزحف على البطن مشيًا على سبيل الاستعارة المكنية، كما قالوا في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر. ويقال فلان لا يتمشى له أمر.
ومنها: التغليب في قوله: ﴿مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ لأنه لما اختلط غير العاقل بالعاقل في قوله كل دابة، عبر بـ ﴿من﴾ تغليبًا للعاقل على غيره لشرفه.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾.
ومنها: حسن التقسيم في قوله: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ الآية. لأن الآية لم تبق قسمًا يقع في القلوب، من الصوارف عن القبول، إلا جاءت به، ألا ترى أنه تعالى بعد قوله: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ ذكر الريبة؛ لأنه لا بد أن يكون الصارف عن الإجابة لحكم الله ورسوله، إما إبطان الكفر، وإظهار الإِسلام، وهو المرض، أو التشكك والتردد، والتذبذب في حكم الله، هل هو جار على العدل، أو على غيره، وذلك هو الريبة. أو يكون الصارف خوف الحيف الذي لا يشعر به رجاء الإنصاف، فلم يبق قسم من الصوارف إلا ذكر فيها.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ شبه الإيمان التي يحلف بها المنافقون بالغين، فيها أقصى المراتب في الشدة، والتوكيد بـ ﴿من﴾ يجهد نفسه في أمر سياق لا يستطيعه، ويبذل أقصى وسعه وطاقته بطريق الاستعارة التصريحية.
ومنها: المشاكلة في قوله: ﴿عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾؛ أي: عليه أمر
416
التبليغ، وعليكم وزر التكذيب.
ومنها: الطباق بين الخوف والأمن في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
417
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)﴾
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى لما (١) نهى فيما سلف عن
(١) المراغي.
418
دخول الأجانب في البيوت، إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها، وبين أن في ذلك الخير كل الخير لهم، فإن لم يجدوا فيها أحدًا رجعوا، لما لذلك من كبير الأثر في المجتمع الإِسلامي بصيانة الآداب العامة، ومنع القيل والقال، وحفظ الأعراض والإنساب.. استثنى في هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض، ودخول المملوكين على سادتهم، وبين أن الاستئذان لا يكون في جميع الأوقات، بل في ثلاث أوقات، هي عورات لأرباب البيوت لما فيها من رفع الكلفة، وقلة التحفظ في الستر. ثم ذكر أن النساء الطاعنات في السن، إذا لم يطمعن في الزواج، فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر أن للمماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث بلا استئذان، ولا إذن من أهل البيت.. ذكر هنا أنه لا حرج على أهل هذه الأعذار الثلاثة، في تركهم للجهاد وما يشبهه، وذلك يستلزم عدم الاستئذان منه - ﷺ -، فلهم القعود من غير استئذان، ولا إذن كما لا حرج عمن ذكروا بعدهم في الأكل، من البيوت المذكورة في الآية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول، أمرهم بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول - ﷺ -، كتشاور في قتال أحد، أو في حادث عرض، وبين أن من يفعل ذلك.. فهو من كامل الإيمان. ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه، ثم أمر المؤمنين أن يبجلوا نبيهم، ولا يسموه باسمه، بل يقولون يا نبي الله، ويا رسول الله. وليحذروا أن يخالفوا أمره. وسنته وشريعته، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه، فهو مردود على فاعله وقائله، كائنًا من كان. وقد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما أن النبي - ﷺ - قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".
419
وقال أبو حيان (١): لما افتتح الله سبحانه وتعالى، هذه السورة بقوله: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا﴾ وذكر أنواعًا من الأوامر والحدود، مما أنزله على الرسول عليه السلام.. اختتمها بما يجب له عليه السلام، على أمته من التتابع. والتشايع على ما فيه مصلحة الإِسلام، ومن طلب استئذانه، إن عرض لأحد منهم عارض، ومن توقيره في دعائهم إياه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...﴾ الآية، روي (٢) أن سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله - ﷺ - بعث وقت الظهيرة إلى عمر - رضي الله عنه - غلامًا من الأنصار، يقال له: مدلج بن عمرو، وكان عمر نائمًا فدق عليه الباب، ودخل، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء، فقال: لوددت لو أن الله تعالى نهى آبانا وأبناءنا، وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن فانطلق معه إلى رسول الله - ﷺ -، فوجد الآية قد نزلت فخر ساجدًا، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب - رضي الله عنه - الوحي.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (٣) عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان الرجل يذهب بالأعمى والأعرج والمريض إلى بيت أبيه، أو بيت أخيه أو بيت أخته أو بيته عمته أو بيت خالته، فكانت الزمنى يتحرجون من ذلك، يقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم. فنزلت هذه الآية رخصةً لهم ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ...﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما أنزل الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ تحرج المسلمون، وقالوا الطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
420
أحد، فكف الناس عن ذلك، فنزل ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ إلى قوله: ﴿مَفَاتِحَهُ﴾ الآية.
وأخرج الضحاك قال: كان أهل المدينة، قبل أن يبعث النبي - ﷺ -، لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا مريض، ولا أعرج؛ لأن الأعمى لا يبصر طيب الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم. وأخرج عن مقسم قال: كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج فنزلت هذه الآية.
وأخرج (١) الثعلبي في "تفسيره" عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: خرج الحارث غازيًا مع رسول الله، فخلف على أهله خالد بن زيد، فحرج أن يأكل من طعامه، وكان مجهودًا، فنزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ الآية، وأخرج البزار بسند صحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير فيدفعون مفاتيحهم إلى زمناهم ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما أحببتم، وكانوا يقولون إنه لا يحل لنا أنهم أذنوا عن غير طيب نفس، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾.
وأخرج ابن جرير عن الزهري أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هنا، فقال: أخبرني عبد الله بن عبد الله، قال: إن المسلمين كانوا إذا غزوا، خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون لا ندخلها وهم غيب، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية رخصةً لهم. وأخرج عن قتادة قال: نزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ في حي من العرب، كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده، وكان يحمله بعض يوم، حتى يجد من يأكله معه، فربما قعد، والطعام بين يديه،
(١) لباب النقول.
421
لا يجد من يؤاكله حتى يمسي، فيضطر إلى الأكل وحده. قال: بعض الشعراء:
إِذَا ما صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ أَكِيْلًا فَإِنَّيْ لَسْتُ آكُلُهُ وَحْدِيْ
وأخرج عن عكرمة وأبي صالح، قالا: كانت الأنصار، إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فنزلت رخصةً لهم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ...﴾ الآية، أخرج (١) ابن إسحاق والبيهقي في "الدلائل" عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما، قالوا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب، نزلوا بمجمع الأسيال من رومة بئر المدينة قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنعمى إلى جانب أحد، وجاء رسول الله - ﷺ -، الخبر فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه وعمل المسلمون فيه، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يأتون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم، من رسول الله - ﷺ -، ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين، إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها، يذكر ذلك لرسول الله - ﷺ -، يستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن له، وإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك المؤمنين ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (٢) أبو نعيم في الدلائل من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله.
التفسير وأوجه القراءة
٥٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ رجوع (٣) إلى
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
(٣) البيضاوي.
422
تتمة الأحكام السالفة، بعد الفراغ من الإلهيات، الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيره، والوعد عليها، والوعيد على الإعراض عنها. والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال. واللام في قوله: ﴿ليستأذنكم﴾ لام الأمر، والاستئذان (١) طلب الإذن، والإذن في الشيء إعلام بإجازته، والرخصة فيه؛ أي: يا أيها الذين أمنوا بالله ورسوله من الرجال والنساء، ليطلب منكم الإذن في الدخول عليكم الأناس، الذين ملكت أيديكم من العبيد والإماء الكبار. ﴿وَ﴾ الصبيان ﴿الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ﴾ أي لم يصلوا أوان البلوغ والاحتلام، القاصرون عن درجة البلوغ المعهود. والتعبير عن البلوغ بالاحتلام، لكونه أظهر دلائله، وبلوغ الغلام صيرورته بحال لو جامع لأنزل.
قرأ الجمهور ﴿الحلم﴾ بضمتين. وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وطلحة ﴿الحلم﴾ بسكون اللام وهي لغة تميم، حالة كون الذين لم يبلغوا الحلم كائنين ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها الأحرار ﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾ ظرف (٢) زمان ليستأذن؛ أي: ليستأذنوا في الدخول عليكم ثلاثة أوقات في اليوم والليلة؛ لأنها ساعات غرة وغفلة، أو منصوب على المصدرية؛ أي: ثلاث استئذانات. ورجح هذا الوجه أبو حيان. وعبر بالمرات عن الأوقات؛ لأن أصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين، لا نفس الأوقات.
ثم فسر تلك الأوقات بقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾ لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة. ومحله النصب، على أنه بدل من ثلاث مرات، بدل تفصيل من مجمل؛ أي: ليستأذنوا ثلاثة أوقات وقتًا من قبل صلاة الصبح. ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ﴾ وتنزعون ﴿ثِيَابَكُمْ﴾ التي تلبسونها في النهار؛ أي: ووقتًا حين تخلعون ثيابكم عن أبدانكم لأجل القيلولة، وهي الاستراحة وسط النهار سواء كان معها نوم أم لا.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
423
وقوله: ﴿مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾ بيان للحين، وهي شدة الحر عند انتصاف النهار؛ أي (١): حين ذلك الوقت الذي هو الظهيرة. وقيل (من) بمعنى في؛ أي: تضعونها في الظهيرة، أو بمعنى اللام؛ أي: من أجل حر الظهيرة.
والتصريح (٢) بمدار الأمر، أعني وضع الثياب في هذا الحين، دون الأول والآخر، لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها ووقوعها في النهار، الذي هو مظنة لكثرة الورود والصدور، ليس من التحقق والاطراد بمنزلة ما في الوقتين، فإن تحقق التجرد واطراده فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به.
ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث، فقال: ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾ الآخرة ضرورة، أنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف، وهو كل ثوب تغطيت به؛ أي: وقتًا بعد صلاة العشاء الآخرة.
وإنما خص (٣) سبحانه هذه الثلاثة الأوقات؛ لأنها ساعات الخلوات، ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يجوز أن يراه أحد من العبيد والصبيان، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات. وغير العبيد والصبيان يستأذن في جميع الأوقات.
ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل، فقال: ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ﴾ كائنة، ﴿لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون والمؤمنات بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه الثلاثة المذكورة ثلاث عورات لكم؛ أي: ثلاثة أوقات يختل فيها عادةً ستر عورات لكم. أو المعنى هذه ثلاث خلوات لكم. كما في "تنوير المقياس"، والعورة: الخلل الذي يرى منه ما يراد ستره. وسميت الأوقات المذكورة عورات مع أنها ليست نفس العورات، بل هذه أوقات العورات، على طريق تسمية الشيء باسم ما يقع فيه، مبالغة في كونه محلًا له.
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
424
قرأ (١) ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وحفص عن عاصم ﴿ثلاث عورات﴾ برفع الثاء المثلثة من ثلاث.
والمعنى: هذه الأوقات هي ثلاث عورات؛ لأن الإنسان يضع فيها ثيابه، فربما بدت عورته. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ﴿ثلاث عورات﴾ بنصب المثلثة. قال أبو علي وجعلوه بدلًا من قوله: ﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾ والأوقات ليست بعورات، ولكن المعنى أنها أوقات ثلاث عورات، فلما حذف المضاف أعرب بإعراب المحذوف.
وقرأ (٢) أبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير والأعمش ﴿عَوْرَاتٍ﴾ فتح الواو وهي لغة هديل بن مدركة وبني تميم.
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون الأحرار والحرائر في تمكينهم من الدخول عليكم ﴿وَلَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: ولا على المماليك والخدم والصبيان ﴿جُنَاحٌ﴾ أي: حرج وإثم في الدخول عليكم بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر، والاطلاع على العورات، ولعدم تكليف الصبيان. ﴿بَعْدَهُنّ﴾ أي: بعد مضي هذه الأوقات الثلاثة. فرفع الحرج عن الفريقين جميعًا؛ أي: بعد (٣) كل واحدة من تلك العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كل وقتين منهن، فالاستئذان لهؤلاء مشروع فيها، لا بعدها. ولغيرهم في جميع الأوقات. وهذه الجملة مستأنفة، مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة. ويجوز أن تكون في محل رفع صفةً لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها. والمعنى: من ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
ثم بين العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات، بقوله: ﴿طَوَّافُونَ﴾ وهو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم يعني المماليك والصبيان جوالون ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيها الأحرار والحرائر للخدمة طوافًا كثير، يذهبون ويجيؤون. والطواف: الدوران
(١) زاد المسير.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
425
حول الشيء. ومنه الطواف بالبيت. كما سيأتي في مباحث الصرف. ومنه أيضًا الحديث في الهرة: "إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات"؛ أي: هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن؛ أي: يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن، إلا في تلك الأوقات الثلاثة. والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان.
ومعنى ﴿بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أي: بعضكم يطوف، أو طائف، وهم المماليك والصغار على بعض، وهم الأحرار والكبار. وهذه (١) الجملة بدل مما قبلها، أو مؤكدة لها.
والمعنى: أن كلا منكم يطوف على صاحبه، العبيد على الموالي، والموالي على العبيد؛ أي: هم يطوفون عليكم للخدمة، وأنتم تطوفون عليهم للاستخدام. ولو كلفهم الاستئذان في كل طوفة؛ أي: في هذه الأوقات الثلاثة وغيرها.. لضاق الأمر عليهم. فلذا رخص لكم في ترك الاستئذان فيما وراء هذه الأوقات.
وقرأ ابن أبي عبلة (٢): ﴿طوافين﴾ بالنصب على الحال من ضمير عليهم. وقال الحسن: إذا بات الرجل خادمه معه، فلا استئذان عليه، ولا في هذه الأوقات الثلاثة. والإشارة في قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إلى مصدر الفعل الذي بعده، والكاف صفة لمصدر محذوف.
﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: يبين الله سبحانه وتعالى لكم أيها المؤمنين، الآيات الدالة على الأحكام تبيينًا كائنًا مثل تبيين هذه الآيات المذكورة هنا؛ أي: ينزلها مبينة واضحة الدلالات عليها. لا أنه تعالى بينها بعد أن لم تكن كذلك. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ أي: مبالغ في العلم بجميع المعلومات جليلها ودقيقها، فيعلم أحوالكم. ﴿حَكِيمٌ﴾ في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشًا ومعادًا.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
426
وحاصل معنى الآية: أي لا يدخل (١) أيها المؤمنون، في بيوتكم عبيدكم، وإمائكم، ثلاث مرات في ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم إلا بإذن قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة وكل ذلك مظنة انكشاف العورة، وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت خلع ثياب اليقظة، ولبس ثياب النوم. وخص هذه الأوقات الثلاثة، لأنها ساعات الخلوة، ووضع الثياب والالتحاف باللحاف. وهكذا حكم حال الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم، ثم علل طلب الاستئذان بقوله: ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾؛ أي: لأن هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم، يختل فيها التستر عادة.
وبعد أن بين حكم هذه الأوقات الثلاث، بين حكم ما عدا ذلك، فقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ أي: ليس عليكم معشر أرباب البيوت، ولا على الذين ملكت أيمانكم من العبيد والإماء، ولا على الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم حرج، ولا إثم في غير هذه العورات الثلاث.
والخلاصة: لا حرج ولا إثم على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون وصبيانهم الصغار بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاث. أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال.
ثم علل الإباحة في غيرها بقوله: ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾؛ أي: هؤلاء المماليك والصبيان الصغار يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن؛ لأنهم يخدمونهم، أو لاحتياج الأقارب إليهم. كما أن السادة والأقارب يطوفون على ذوى قراباتهم ومماليكهم إذا عرضت لهم حاجة إليهم.
ثم بين فضله على عباده في بيان أحكام دينهم لهم. فقال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي: ومثل ذلك التبيين لتلك الأحكام يبين لكم
(١) المراغي.
427
أيها المؤمنون شرائع دينكم وأحكامه، والله عليم بما يصلح أحوال عباده. حكيم في تدبير أمورهم، فيشرع لهم ما يصلح أحوالهم في المعاش والمعاد.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس، ترك الناس ثلاث آيات، فلم يعملوا بهن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ الآية. وقوله في النساء: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ الآية. وقوله في الحجرات: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
وعن عكرمة عن ابن عباس، أن رجلين من أهل العراق، سألاه عن الاستئذان في العورات الثلاث، التي أمر الله بها في القرآن، فقال: إن الله ستير يحب الستر، كأن الناس ليس لهم ستور على أبوابهم. وحجال في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه، أو ولده، أو يتيمه في حجره، وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات، ثم بسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور، واتخذوا الحجال، فرأوا أن ذلك قد كفاهم، من الاستئذان الذي أمروا به.
ففيه (١) دليل على أن الحكم إذا ثبت لمعنى، فإذا زال المعنى، زال الحكم، فالتبسط في اللباس والمعاش والسكنى، ونحوها مرخص فيه، إذا لم يؤد إلى كبر واغترار. قال عمر - رضي الله عنه -: إذا وسع الله عليكم، فوسعوا على أنفسكم. ويقال: اليسار مفسدة للنساء، لاستيلاء شهواتهن على عقولهن. وفي الحديث: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". يعني: إذا أتى الله عبده نعمته من نعم الدنيا، فليظهرها من نفسه، وليلبس ثيابًا نظيفةً، يليق بحاله، ولتكن نيته في لبسه إظهار نعمة الله عليه، ليقصده المحتاجون لطلب الزكاة والصدقات، وليس لبس الخلق مع اليسار من التواضع.
وفي الآية رخصة في اتخاذ العبيد والإماء للخدمة، لمن قام بحقهم. وبيان أن حق الموالي عليهم الخدمة. ودلت الآية على أن من لم يبلغ، وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع. وينهي عن ارتكاب القبائح، فإنه تعالى أمرهم بالاستئذان في
(١) روح البيان.
428
الأوقات المذكورة. وفي الحديث: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم على تركلها وهم أبناء عشر". وإنما يؤمر بذلك ليعتاده، ويسهل عليه بعد البلوغ، ولذا كره إلباسه ذهبًا أو حريرًا لئلا يعتاده، والإثم على الملبس، كما في "القهستاني".
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - إذا بلغ الصبي عشر سنين، كتبت له حسناته، ولم تكتب سيئاته، حتى يحتلم. قال في الأشباه، وتصح عبادة الصبي، وإن لم تجب عليه، واختلفوا في ثوابها. والمعتمد أنه له، وللمعلم ثواب التعليم. وكذا جميع حسناته، وليس كالبالغ في النظر إلى الأجنبية، والخلوة بها. فيجوز له الدخول على النساء إلى خمس عشرة سنة. كما في "الملتقط"، فإن قلت: كيف أمر الله تعالى بالاستئذان لهم، مع أنهم غير مكلفين؟ قلت: الأمر في الحقيقة لأوليائهم ليؤدبوهم. كذا في "فتح الرحمن".
٥٩ - ولما بين الله سبحانه حكم الأرقاء والصبيان، الذين هم أطوع للأمر، وأقبل لكل خير.. أتبعه بحكم البالغين الأحرار بقوله: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ﴾ الأحرار الأجانب (١)، فخرج العبد البالغ، فإنه لا يستأذن في الدخول على سيدته في غير الأوقات الثلاثة المذكورة كما قال في التتمة: يدخل العبد على سيدته بلا إذنها بالإجماع. ﴿مِنْكُمُ﴾ أيها المؤمنون ﴿الْحُلُمَ﴾؛ أي: سن الاحتلام والبلوغ. ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ أي: فليطلبوا الإذن في الدخول عليكم إن أرادوا الدخول. ﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ﴾ بلغوا الحلم ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: كما يستأذن الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ الآية. فالمعنى: فليستأذنوا استئذانًا كائنًا مثل استئذان المذكورين قبلهم، بأن يستأذنوا في جميع الأوقات، ويرجعوا إن قيل لهم: ارجعوا.
والمعنى: إن (٢) هؤلاء الذين بلغوا الحلم، يستأذنون في جميع الأوقات، في أوقات العورات الثلاث وفي غيرها. كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار،
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء.
وذكر الله (١) سبحانه في هذه الآية حكم الأطفال إذا بلغوا، ولم يذكر حكم ما ملكت أيماننا، مع أن ما قبلها فيه ذكر المماليك والأطفال؛ لأن حكم ما ملكت اليمين واحد، كبارهم وصغارهم، وهو الاستئذان في الساعات الثلاث التي ذكرت في الآية قبل فقط. وقرأ الحسن ﴿الحلْم﴾ بسكون اللام فحذف الضمة لثقلها. كما مر.
ثم أكد نعمه عليهم ببيان أحكام دينهم بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما بين لكم ما ذكر غاية البيان ﴿يُبَيِّنُ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿لَكُمُ﴾ أيها المؤمنون ﴿الْآيَاتِ﴾؛ أي: آيات أحكامه مما فيه سعادتكم في دنياكم وآخرتكم. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بأحوال خلقه ظواهرها وبواطنها، فيجازيهم عليها. ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما دبره وشرعه لهم. كرره للتأكيد والمبالغة في الأمر بالاستئذان.
فائدة: فإن قلت: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ الآية. ختم (٢) هذه الآية بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ بالإضافة إلى ضميره. وختم ما قبلها وما بعدها بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ بالتعريف بأل، فما الفرق بينها، وبينهما؟
قلت: الفرق أن ما قبلها وما بعدها يشتملان على علامات يمكننا الوقوف عليها. وهي في الأولى: ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾ وفي الأخيرة: ﴿مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ الآية. فختم الآيتين بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ وأما بلوغ الأطفال، فلم يذكر له علامات يمكننا الوقوف عليها، بل تفرد تعالى بعلمه بذلك، فخصها بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ بالإضافة إليه. اهـ. "فتح الرحمن".
٦٠ - ولما بين سبحانه، حكم الحجاب، حين إقبال الشباب، أتبعه بحكمه حين إدباره، فقال: ﴿وَالْقَوَاعِدُ﴾ مبتدأ. جمع قاعد بلا هاء، ليدل حذفها على أنه قعود
(١) المراغي.
(٢) فتح الرحمن.
430
الكبر لا قعود الجلوس. كما قالوا: امرأة حامل، ليدل بحذف الهاء على أنه حمل حبل، لا حمل متاع. ويقال: قاعدة في بيتها بمعنى جالسة في بيتها، وحاملة على ظهرها. ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ حال من الضمير المستكن في القواعد؛ أي: والعجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل حالة كونهن من النساء ﴿اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ وزواجًا، صفة للقواعد لا للنساء؛ أي: لا يطمعن في النكاح لكبرهن، فاعتبر فيهن القعود عن الحيض والحمل والكبر أيضًا؛ لأنه ربما ينقطع الحيض والرغبة فيهن باقية. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ﴾ الجملة خبر المبتدأ؛ أي: فليس عليهن إثم ووبال في ﴿أَنْ يَضَعْنَ﴾ وينزعن ﴿ثِيَابَهُنَّ﴾؛ أي: الثياب الظاهرة كالجلباب والإزار فوق الثياب، والقناع فوق الخمار عند الرجال الأجانب، لا الثياب التي على العورة الخاصة. وإنما جاز لهن ذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا رغبة للرجال فيهن، فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن تخفيفًا عليهن.
ثم استثنى حالةً من حالاتهن. فقال: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ حال من فاعل يضعن؛ أي: حالة كونهن غير مظهرات للزينة الخفية، التي أمرن بإخفائها في قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ﴾ كالسوار والخلخال والقلادة.
والمعنى (١): من غير أن يردن بوضع الجلابيب إظهار زينتهن، ولا متعرضات بالتزين لينظر إليهن الرجال. والتبرج التكشف والظهور للعيون. ومنه بروج مشيدة، وبروج السماء. ومنه قولهم سفينة بارجة؛ أي: لا غطاء عليها.
وقال في "فتح الرحمن"، فإن قلت: كيف أباح تعالى بذلك للقواعد من النساء، وهن العجائز، التجرد من الثياب بحضرة الرجال؟
قلت: المراد بالثياب الزائدة على ما يسترهن.
والمعنى: أي (٢) والنساء اللواتي قعدن عن الولد كبرًا، وقد يئسن من التبعل، فلا يطمعن في الأزواج، فليس عليهن إثم، ولا حرج في أن يخلعن
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
431
ثيابهن الظاهرة، كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار، إذا كن لا يبدين زينة خفية، كشعر ونحر وساق لدى المحارم وغير المحارم من الغرباء.
وخلاصة ذلك: أنه لا جناح على القواعد من النساء أن يجلسن في بيوتهن بدرع وخمار ويضعن الجلباب، ما لم يقصدن بذلك الزينة، وإظهار ما يجب إخفاؤه. هذا إذا لم يكن فيهن بقية من جمالٍ تورث الشهوة، فإن كان فيهن ذلك، فلا يدخلن أى حكم الآية.
﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ﴾ أي؛ وإن يطلبن العفة بترك وضع الثياب. وهو مبتدأ خبره ﴿خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ من وضعها لبعده من التهمة؛ أي: استعفافهن بعدم إلقاء الجلباب خير لهن من الإلقاء؛ أي: وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن، فلبسها كالشباب، كان ذلك خيرًا لهن من خلعها، لتباعدهن حينئذٍ عن التهمة. ولقد قالوا: لكل ساقطة في الحي لاقطة.
وقرأ ابن مسعود (١): ﴿وأن يعففن﴾ بغير سين. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه (٢) الآية دلالة، على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال. وأما شعرها فيحرم النظر إليه كشعر الشابة.
ثم توعد من يخالف تلك الأوامر فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَمِيعٌ﴾ بما يجري بينهن وبين الرجال من الأحاديث والمقاولات ﴿عَلِيمٌ﴾ بمقاصدهن، لا تخفى عليه خافية من أمرهن، فاحذروا أن يسول لكم الشيطان مخالفة ما به أمر، وعنه نهى، فهو سبحانه سميع لما يقوله كل قائل، عليم بمقاصده. فيجازي كلا على عمله الظاهر والباطن، وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير.
واعلم: أن العجوز (٣) إذا كانت بحيث لا تشتهى جاز النظر إليها لا من الشهوة. وفيه إشارة إلى أن الأمور إذا خرجت عن معرض الفتنة، وسكنت نائرة الآفات سهل الأمر، وارتفعت الصعوبة، وأبيحت الرخص، ولكن التقوى فوق
(١) الشوكاني.
(٢) زاد المسير.
(٣) روح البيان.
432
أمر الفتوى. كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾
وفي الحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به، حذرًا مما به بأس". قال ابن سيرين: ما غشيت امرأة قط، لا في يقظة ولا في نوم، غير أم عبد الله. وإني لأرى المرأة في المنام، فاعلم أنها لا تحل لي، فأصرف بصري. قال بعضهم: ليت عقلي في اليقظة كعقل ابن سيرين في المنام.
واعلم: أن عدم رجاء النكاح إنما هو من طرف الرجل لا من طرف العجوز غالبًا، فإنه حكي أن عجوزًا مرضت، فأتى ابنها بطبيب، فرآها متزينة بأثواب مصبوغة فعرف حالها، فقال: ما أحوجها إلى الزوج. فقال الابن: ما للعجائز والأزواج. فقالت: ويحك أنت أعرف من الطبيب.
وحكي: أنه لما مات زوج رابعة العدوية، استأذن عليها الحسن البصري وأصحابه، فأذنت لهم بالدخول عليها، وأرخت سترًا، وجلست وراء الستر. فقال لها الحسن وأصحابه: إنه قد مات بعلك ولا بد لك منه. قالت: نعم وكرامةً. قالت: من أعلمكم حتى أزوِّجه نفسي، فقالوا: الحسن البصري. فقالت: إن أجبتني في أربع مسائل فأنا لك. فقال: سلي إن وفقني الله أجبتك. فقالت: ما تقول: لو مت أنا وخرجت من الدنيا، مت على الإيمان أم لا؟ قال: هذا غيب لا يعلمه إلا الله. ثم قالت: ما تقول: لو وضعت في القبر وسألني منكر ونكير أأقدر على جوابهما أم لا. قال: هذا غيب أيضًا. ثم قالت: إذا حشر الناس يوم القيامة وتطايرت الكتب أأعطى كتابي بيميني أم بشمالي. قال: هذا غيب أيضًا. ثم قالت: إذا نودي في الخلق: فريق أى الجنة، وفريق أى السعير، كنت أنا من أي الفريقين؟ قال: هذا غيب أيضًا. قالت: من كان ليس له علم هذه الأربعة، كيف يشتغل بالتزوج. ثم قالت: يا حسن أخبرني كم خلق الله العقل؛ قال: عشرة أجزاء تسعة للرجال وواحد للنساء. ثم قالت: يا حسن كم خلق الله الشهوة. قال: عشرة أجزاء، تسعة للنساء وواحد للرجال. قالت: يا حسن أنا أقدر على حفظ تسعة أجزاء من الشهوة بجزء من العقل. وأنت لا تقدر على حفظ جزء من الشهوة بتسعة أجزاء من العقل. فبكى الحسن وخرج من عندها.
433
وعن سليمان بن داود عليهما السلام، الغالب على شهوته أشد من الذي يفتح المدينة وحده.
٦١ - ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى﴾ أي: على فاقد البصر ﴿حَرَجٌ﴾ أي: إثم ووبال ﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ﴾ وهو من كان في رجله اعوجاج يمنعه من الاعتدال في المشي، أو من الاستواء في الجلوس. ﴿حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ﴾ أي: على من به آفة؛ أي: ليس (١) على هؤلاء الثلاثة حرج في مؤاكلتهم مع الأصحاء، كانت هذه الطوائف يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذرًا من استقذارهم إياهم، وخوفًا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم. فإن الأعمى ربما سبقت إليه عين مؤاكلة ولا يشعر به. والأعرج يتفسح في مجلسه، فيأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه. والمريض لا يخلو عن حالة تؤذي قرينه؛ أي: برائحة كريهة أو جرح يبدو، أو أنف يسيل، أو نحو ذلك. فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ إلخ؛ أي: لا بأس لهم بأن يأكلوا مع الناس ولا مأثم عليهم. وعلى هذا التأويل فـ (على) على معناها.
وقال ابن (٢) عباس، لما أنزل الله سبحانه قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله عَزَّ وَجَلَّ عن أكل الأموال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول، فلا يستوفي من الطعام حقه. فأنزل الله هذه الآية.
فعلى هذا التأويل يكون (على) بمعنى في، أي: ليس في الأعمى. والمعنى: ليس عليكم أى مؤاكلة الأعمى والمريض والأعرج حرج.
وقيل: نزلت ترخيصًا لهؤلاء، أى الأكل من بيوت من سماهم في باقي الآية. وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل في طلب الطعام فإذا لم يكن
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
434
عنده شيء، ذهب بهم إلى بيت أبيه أو بيت أمه، أو بعض من سمى الله تعالى. فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك، ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: كان المسلمون إذا غزوا دفعوا مفاتيح بيوتهم إلى الزمنى، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون: لا ندخلها وأصحابها غيب. فأنزل الله تعالى هذه الآية رخصة لهم.
وقيل: نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد، فعلى هذا التأويل، تم الكلام عند قوله: ﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾
وقوله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ كلام مستأنف.
والحاصل (١): أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض، إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء، أو دخول بيوتهم.. فيكون ﴿وَلَا عَلَى﴾ متصلًا بما قبله، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف، التي يشترط فيها وجود البصر،
وعدم العرج وعدم المرض.. فقوله: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ ابتداء كلام، غير متصل بما قبله.
قيل: لما نزلت: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ قالوا لا يحل لأحد منا، أن يأكل عند أحد، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ أي: لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوت أولادكم وعيالكم وأزواجكم بغير إذن بالعدل، فالكلام على حذف (٢) مضاف وإلا فانتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيت نفسه معلوم، فلا حاجة إلى بيانه؛ لأن بيت ولده أو زوجته كبيته، فنسبه إليه لما جاء في الحديث من قوله - ﷺ -: "أنت ومالك لأبيك". وقوله - ﷺ -: "إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه" فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد، وذكر بيوت الآباء وبيوت الأمهات، ومن بعدهم. وقيل (٣): إنما ذكره مع كونه معلومًا، ليعطف عليه ما بعده في اللفظ، وليساويه في الحكم.
(١) الشوكاني.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) المراغي.
435
﴿أَوْ﴾ تأكلوا من ﴿بُيُوتِ آبَائِكُمْ﴾ وإن علوا، جمع أب. والأب الوالد؛ أي (١): حيوان يتولد من نطفته حيوان آخر. ﴿أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ وإن علون. جمع أم زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق. والأم بإزاء الأب؛ أي: الوالدة. وقرأ طلحة: ﴿إمهاتكم﴾ بكسر الهمزة. ﴿أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ جمع أخ. والأخ: هو المشارك لآخر في الولادة من الطرفين، أو من أحدهما، أو من الرضاع، ويستعار لكل مشارك لغيره في القبيلة، أو في الدين، أو في صنعة، أو في معاملة، أو في مودة أو في غير ذلك من المناسبات. ﴿أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ﴾ جمع أخت. والأخت تأنيث الأخ. وجعل التاء فيها كالعوض عن المحذوف منه. ﴿أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ﴾ جمع عم. والعم أخ الأب، والعمة أخته. وأصل ذلك من العموم، وهو الشمول ومنه العامة لكثرتهم، وعمومهم في البلد، ومنه العمامة أيضًا لشمولها الرأس. ﴿أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ﴾ مع عمة. وهي أخت الأب كما مر آنفًا. ﴿أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ﴾ جمع خال. والخال أخو الأم. والخالة أختها. ﴿أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ﴾ جمع خالة. وإنما نفى (٢) سبحانه الحرج في الأكل من بيوت هؤلاء المذكورين، لما علم بالعادة، أن هؤلاء تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم من الأقارب.
وقيد بعض العلماء (٣)، جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم، وقال آخرون: لا يشترط الإذن. قيل: وهذا إذا كان الطعام مبذولًا، فإن كان محرزًا دونهم لم يجز لهم أكله.
ثم قال سبحانه: ﴿أَوْ﴾ أن تأكلوا من ﴿مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ أي: أو من البيوت التي تملكون التصرت فيها بإذن أربابها، وذلك كالوكلاء والعبيد والخزان، فإنهم يملكون التصرف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته، بإعطائهم مفاتحه.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
436
وقال بعضهم (١): هو ما يكون تحت أيديهم، وتصرفهم من ضيعة، أو ماشية وكالةً أو حفظًا، فملك المفاتح حينئذٍ كناية عن كون المال في يد الرجل، وحفظه.
والمعنى: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من أموال لكم عليها يد، لكن لا من أعيانها، بل من أتباعها وغلاتها، كثمر البستان، ولبن الماشية، فلا حرج على وكيل الرجل، وقيمه في ضيعته وماشيته، أن يأكل من ثمر الضيعة ويشرب من لبن الماشية، ولكن لا يحمل ولا يدخر. وهذا إذ لم يجعل له أجرًا على ذلك، فإن جعل له أجرًا فلا يحل له أكل شيء منها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿ملكتم﴾ بفتح الميم واللام خفيفة. وقرأ ابن جبير: بضم الميم وكسر اللام مشددة. وقرأ الجمهور ﴿مَفَاتِحَهُ﴾ جمع مفتح. وابن جبير: ﴿مفاتيحه﴾ جمع مفتاح. وقتادة وهارون عن أبي عمرو: مفتاحه مفردًا.
﴿أَوْ﴾ من بيوت ﴿صَدِيقِكُمْ﴾ قرىء بكسر الصاد اتباعًا لحركة الدال، حكاه حميد الخزاز. والصديق يكون للواحد والجمع. والصداقة: صدق الاعتقاد في المودة، كما سيأتي في مبحث اللغة. والمعنى: أو من بيوت أصدقائكم، الذين يصدقونكم المودة، وتصدقونهم، وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية، فإنهم أرضى بالتبسط، وأسر به من كثير من الأقرباء. هذا إذا علم رضاهم بذلك بالإذن، أو بشاهد الحال، ولا فرق بينهم وبين غيرهم، إذا وجد الإذن صراحةً.
وعن الحسن، أنه دخل يومًا بيته، فرأى جماعة من أصدقائه، قد أخذوا طعامًا من تحت سريره، وهم يأكلون فتهلل وجهه سرورًا، وقال: هكذا وجدناهم، يعني: من لقي من البدريين.
وعن جعفر الصادق، من عظم حرمة الصديق، أن جعله الله تعالى من الإنس والثقة والانبساط، ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ. وقيل: لأفلاطون من أحب إليك أخوك أو صديقك؟ فقال: لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي، ولكن أنى هو، فقد أثر عن هشام بن عبد الملك أنه قال: نلت ما نلت
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
437
حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه.
قال المفسرون (١): هذا كله إذا علم رضا صاحبك بصريح الإذن، أو بقرينة دالة كالقرابة والصداقة ونحو ذلك. ولذلك خص هؤلاء بالذكر لاعتيادهم التبسط فيما بينهم. والمعنى: ليس عليكم جناح، في أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها، وان لم يحضروا ويعلموا من غير أن تتزودوا وتحملوا.
قال الإِمام الواحدي في "الوسيط": وهذه الرخصة في أكل مال القرابات، وهم لا يعلمون ذلك كرخصته لمن دخل حائطًا، وهو جائع أن يصيب من ثمره، أو مر في سفر بغنم، وهو عطشان أن يشرب من رسلها توسعةً منه تعالى، ولطفًا بعباده، ورغبةً بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النظر.
وإنما خص هؤلاء بالذكر لأنهم اعتادوا التبسط بينهم، والرضا فيهم محقق غالبًا. والمقصود من هذه الآية، إثبات الإباحة في الجملة، لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات.
قال ابن زيد (٢): وهذا شيء قد إنقطع، إنما كان في أوله، ولم يكن لهم ستور أبواب، أو كانت الستور مرخاة فربما دخل الرجل البيت، وليس فيه أحد، وربما وجد الطعام وهو جائع، فسوغ له أن يأكل منه. ثم قال: ذهب ذلك اليوم، البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا. اهـ.
ثم استأنف سبحانه، حكمًا آخر من نوع ما قبله، فقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿جُنَاحٌ﴾؛ أي: ماثم في ﴿أَنْ تَأْكُلُوا﴾ من بيوتكم حال كونكم ﴿جميعًا﴾؛ أي: مجتمعين ﴿أَوْ﴾ حال كونكم ﴿أَشْتَاتًا﴾ أي: متفرقين، جمع شت، بمعنى: متفرق على أنه صفة، كالحق، أو بمعنى تفرق على أنه مصدر، وصف به مبالغةً، وأما شتى فجمع شتيت، كمرضى ومريض؛ أي: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم، مجتمعين أو متفرقين. وقد كان بعض العرب، يتحرج أن يأكل وحده، حتى يجد له أكيلًا يؤاكله فيأكل معه. وبعض العرب،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
438
كان لا يأكل إلا مع ضيف، ومنه قول حاتم:
إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِيْ لَهُ أَكِيْلًا فَإِنِّي لَسْتُ آكُلُهُ وَحْدِيْ
وفي الحديث: "شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده ومنع رفده". وإنما ذم هذا؛ لأنه بخل بالقرى. وقال أكثر المفسرين: نزلت في بني ليث بن عمرو، وهم حي من كنانة، كانوا يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده، ويمكث يومه حتى يجد ضيفًا يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئًا، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه، لا يتناوله من الصباح إلى الرواح. وربما كان معه الإبل الحفل، فلا يشرب من ألبانها، حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدًا أكل. فاعلم الله سبحانه وتعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه. هذا قول ابن عباس.
وقيل: نزلت في قوم من الأنصار، كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم. فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا، جميعًا؛ أي: مجتمعين، أو أشتاتًا؛ أي: متفرقين. قال النسفي رحمه الله، دل قوله تعالى: ﴿جَمِيعًا﴾ على جواز التناهد في الأسفار، وهو إخراج كل واحد من الرفقة نفقة على قدر نفقة صاحبه؛ أي: على السوية. وقال بعضهم: في خلط المال ثم أكل الكل منه والأولى أن يستحل كل منهم غذاء كل، أو يتبرعون لأمين، ثم يتبرع لهم الأمين، اهـ. "من الروح".
ثم شرع سبحانه، يبين ما ينبغي رعايته، حين دخول البيت، بعد أن ذكر الرخصة فيه، فقال: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا﴾ أي: فإذا دخلتم، أيها المؤمنون بيوتًا، من البيوت المذكورة، أو غيرها، مسكونة كانت، أو غير مسكونة ولو مسجدًا.
﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: فابدأوا (١) بالسلام على أهلها، الذين هم بمنزلة أنفسكم، لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية، والنسبية الموجبة لذلك، فالله تعالى، جعل أنفس المسلمين، كالنفس الواحدة، على حد قوله تعالى: {وَلَا
(١) المرح.
439
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقيل: معنى فسلموا على أنفسكم؛ أي: قولوا: السلام؛ أي: من الله علينا، وعلى عباد الله الصالحين. فإن الملائكة ترد عليهم، إن لم يكن بها أحد، وإلا فقولوا السلام عليكم. وقال ابن عباس: إن لم يكن في البيت أحد، فليقل السلام علينا من ربنا، وعلى عباد الله الصالحين. وإذا دخل المسجد، فليقل السلام على رسول الله وعلينا من ربنا.
وقال قتادة: إذا دخلت بيتك، فسلم على أهلك، فهم أحق بالسلام ممن سلمت عليهم، وإذا دخلت بيتًا لا أحد فيه، فقل السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال القفال: وإن كان في البيت أهل الذمة، فليقل السلام على من اتبع الهدى.
واختلفوا في البيوت (١). فقيل: المراد غير البيوت التي تقدم ذكرها. وقيل: المراد البيوت المذكورة سابقًا. وعلى القول الأول فقال الحسن والنخعي: هي المساجد وقيل: المراد بالبيوت هنا، هي كل البيوت المسكونة وغيرها، المساجد وغيرها. فيسلم على أهل المسكونة. وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه. قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح.
وانتصاب ﴿تَحِيَّةً﴾ على المصدرية المعنوية بسلموا؛ لأنه بمعنى التسليم؛ أي: سلموا تسليمًا وتحية. ثابتةً ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ أي: بأمره مشروعةً من لدنه. ويجوز (٢) أن يكون صلة تحية، فإنها طلب الحياة التي من عنده تعالى. والتسليم طلب السلامة من الله للمسلم عليه. ﴿مُبَارَكَةً﴾ أي: مستتبعة بزيادة الخير والثواب ودوامها. ﴿طَيِّبَةً﴾ أي: تطيب بها نفس المستمع.
والمعنى (٣): حيوا تحية ثابتة بأمره تعالى، مشروعة من لدنه، يرجى بها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع. وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: إذا دخلت على أهلك، فسلم عليهم تحية من عند الله، مباركة
(١) الشوكاني بتصرف.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
440
طيبة. أخرجه الجاري وغيره.
روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: أوصاني النبي - ﷺ - بخمس خصال. قال: "يا أنس، أسبغ الوضوء يزد في عمرك، وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت - يعني بيتك - فسلم على أهلك، يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك، يا أنس ارحم الصغير، ووقر الكبير، تكن من رفقائي يوم القيامة".
والإشارة في قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إلى مصدر الفعل الذي يذكر بعده؛ أي: مثل ذلك التبيين الذي بيناه في هذه الآية ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَكُمُ﴾ أيها المؤمنون ﴿الْآيَاتِ﴾ الدالة على الأحكام؛ أي: ينزلها مبينة واضحة الدلالات عليها ﴿لعلكم﴾؛ أي: لكي تفهموا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام والآداب، وتعلموا بموجبها، وتفوزوا بذلك سعادة الدارين، فهو تأكيد لما قبله.
والمعنى (١): هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحل لكم فيها، عرفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه، لكي تفقهوا أمره ونهيه وأدبه، وبذا تفوزون سعادة الدارين، ويكون لكم المقام المحمود عند ربكم.
وفي الحديث: "إذا دخلتم بيوتكم، فسلموا على أهلها، وإذا طعم أحدكم طعامًا، فليذكر اسم الله عليه، فإن الشيطان إذا سلم أحدكم لم يدخل بيته معه، وإذا ذكر الله على طعامه، قال: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإن لم يسلم حين يدخل بيته، ولم يذكر الله على طعامه، قال: أدركتم العشاء والمبيت".
والتسليم (٢) على الصبيان العقلاء أفضل من تركه، كما في "البستان". ولا يسلم على جماعة النساء الشواب، كيلا يحصل بينهما معرفة، وانبساط، فيحدث من تلك المعرفة فتنة، ولا يبتدىء اليهود والنصارى بالسلام، فإنه حرام. لأنه إعزاز الكافر وذا لا يجوز. وكذا السلام على أهل البدعة والفسقة، ولو سلم على من لا يعرفه فظهر ذميًا، أو مبتدعًا أو فاسقًا، يقول: استرجعت سلامي تحقيرًا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
441
له، ولو احتاج إلى سلام أهل الكتاب يقول: السلام على من أَتبع الهدى، ولو رد يقول: وعليكم فقط. وقد مر ما يتعلق بالسلام، مشبعًا في سورة النساء، عند قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّة﴾ الآية. فراجعه.
٦٢ - ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ نزلت حين جمع النبي عليه السلام المسلمين يوم الجمعة، ليستشيرهم في أمر الغزو، وكان يثقل المقام عنده على البعض، فيخرج بغير إذنه، أو في حفر الخندق، وكان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله - ﷺ -، وكان الحفر من أهم الأمور، حتى حفر رسول الله بنفسه، وشغل عن أربع صلوات، حتى دخلت في حد القضاء، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي: الكاملون في الإيمان وهو مبتدأ خبره قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ عن صميم قلوبهم، وأطاعوهما في جميع الأحكام في السر والعلانية. ﴿وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ﴾ - ﷺ - ﴿عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ إلى آخره. معطوف على آمنوا، داخل معه في حيز الصلة؛ أي: على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد، والحروب والمشاورة في الأمور، وصلاة الاستسقاء وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع. ووصف الأمر بالجمع للمبالغة، في كونه سببًا لاجتماع الناس، فإن الأمر لكونه مهمًا عظيم الشأن، صار كأنه قد جمع الناس، فهو من قبيل إسناد الفعل إلى السبب؛ أي: والذين إذا كانوا معه على أمر جامع ﴿لَمْ يَذْهَبُوا﴾ من المجمع. ولم يفترقوا عنه لعروض عذر تجوز معه الإقامة في المسجد، كالزكام والصداع، فإن كان العذر يمنع المكث في المسجد، كالحيض والجنابة والإسهال، فإنهم لا يحتاجون إلى الاستئذان من النبي - ﷺ -، بل هم مأذون لهم شرعًا اهـ. "شيخنا".
﴿حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ - ﷺ - في الذهاب فيأذن لهم، واعتبر في كمال الإيمان عدم الذهاب قبل الاستئذان؛ لأنه المميز للمخلص من المنافق. وقرأ اليماني (على أمر جميع).
والحال: أن الأمر الجامع، أو الجميع هو الذي يعم نفعه، أو ضرره. وهو الأمر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب. قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإِمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن.
442
ثم قال: لمزيد التأكيد: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾؛ أي: يطلبون الاذن منك، رعاية للأدب، وتعظيمًا لهذا الأمر. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ حق الإيمان لا غير المستأذنين، وهذا أدب على نهج سابقه، فكما أرشدهم من قبل إلى الاستئذان، حين الدخول، أمرهم بالاستئذان حين الانصراف، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع. روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس، فليسلم، فإذا أراد أن يقوم، فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة".
ولما ذكر ما يلزم المؤمن، من الاستئذان، أعقبه بما يفعله الرسول حينئذٍ، فقال: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ﴾ الفاء فيه: فاء الفصيحة؛ أي: إذا عرفت يا محمد، أن الكاملين في الإيمان هم الجامعون بين الإيمان بهما، وبين الاستئذان.. فأقول لك: إذا طلبوا منك الإذن في الانصراف والذهاب ﴿لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾ أي: لبعض أمرهم المهم، أو خطبهم المسلم.
والشأن (١) الحال والأمر، ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور، كما في "المفردات". ولم يقل لشؤونهم بل قيد بالبعض تغليظًا عليهم في أمر الذهاب عن مجلس رسول الله - ﷺ -، مع العذر المبسوط ومساس الحاجة.
﴿فَأْذَنْ﴾ يا محمد، في الانصراف والذهب عن مجلسك، لحاجة مهمة ﴿لِمَنْ شِئْتَ﴾ الإذن له ﴿مِنْهُمْ﴾ وأمنع من شئت، على حسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها.
والمعنى: إن شئت فأذن، وإن شئت فلا تأذن. فالأمر مفوض إليك؛ أي: فإذا استأذنوك لبعض ما يعرض لهم من مهام أمورهم، فأذن لمن شئت منهم أن ينصرف لقضاء ما عرض له بحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها، كما وقع لعمر - رضي الله عنه - حين خرج مع النبي - ﷺ - في غزوة تبوك، حيث استأذن في الرجوع إلى أهله، فأذن له - ﷺ - وقال له: "ارجع فلست بمنافق".
(١) روح البيان.
443
﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾؛ أي: للمستأذنين الذين أذنت لهم ﴿اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى بعد الإذن، فإن الاستئذان، وإن كان لعذر قوي، لا يخلو عن شائنة تفضيل أمر الدنيا على الآخرة. ففيه إشارة إلى أن الأفضل، أن لا يحدث المرء نفسه بالذهاب، فضلًا عن الذهاب، أو أن الاستغفار في مقابلة تمسكهم بآداب الله تعالى، في الاستئذان؛ أي: وادع الله لهم، أن يتفضل عليهم بالعفو، والغفران عن تبعات ما بينه وبينهم. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾ أي: كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين. ﴿رَحِيمٌ﴾ كثير الرحمة بهم، فلا يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
وفي الآية بيان حفظ الأدب، بأن الإِمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من أمور المسلمين، ينبغي أن لا يرجعوا إلا بإذنه، ولا يخالفوا أمير السرية، ويرجعوا بالإذن إذا خرجوا للغزو ونحوه، وللإمام أن يأذن، وله أن لا يأذن إلا على ما يرى. فمن تفرق بغير إذن صار من أهل الهوى والبدع. وكان عليه السلام إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد رجل الخروج وقف حيث رواه، فيأذن له إن شاء.
٦٣ - وبعد أن ظهر في هذه السورة شرف الرسول، ولا سيما في هذه الآية التي بهرت العقول، أردف هذا ما يؤكده، فقال: ﴿لَا تَجْعَلُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُم﴾ إما مصدر مضاف (١) إلى الفاعل؛ أي؛ لا تجعلوا دعوته وأمره إياكم في الاعتقاد والعمل بها ﴿كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ أي: لا تقيسوا دعوته إياكم إلى شيء من الأمور، على دعوة بعضكم بعضًا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة، والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته - ﷺ - واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة، بل أجيبوه فورًا وإن كنتم في الصلاة. إذا كان أمره فرضًا لازمًا. وهذا قول المبرد والقفال: ومختار أبي العباس، وأقرب إلى نظم الآية. كما قاله ابن عادل والرازي وغيره.
وقيل (٢): لا تجعلو دعاء الرسول ربهُ مثل ما يدعو صغيركم وكبيركم، فإنه
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
444
قد يجاب، وقد يرد، فإن دعوات الرسول مستجابة، فاحذروا سخطه، فإن دعاءه مجاب، ليس كدعاء غيره. وهذا كما قاله ابن عباس. وإما مصدر مضاف إلى المفعول. والمعنى: لا تجعلوا نداءكم إياه، وتسميتكم له، كنداء بعضكم بعضًا باسمه، مثل يا محمد، ويا ابن عبد الله، ويا أبا القاسم، ورفع الصوت به والنداء وراء الحجرات، بل نادوه بغاية التوقير. وبلقبه المعظم، مثل يا نبي الله ويا رسول الله، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ مع التواضع، وحفض الصوت، فلا تنادوه باسمه، ولا بكنيته. وروي هذا أيضًا عن ابن عباس. وقال أبو الليث في "تفسيره": وفي الآية بيان توقير معلم الخير؛ لأن رسول الله - ﷺ -، كان معلم الخير، فأمر الله بتوقيره، وتعظيمه، معرفة حق الأستاذ. وفيه معرفة أهل الفضل. قال في "حقائق البقليّ": إحترام الرسول من احترام الله، ومعرفته من معرفته، والأدب في متابعته، من الأدب مع الله تعالى.
وقرأ الحسن (١) ويعقوب في رواية: ﴿نبيكم﴾ بنون مفتوحة وباء موحدة مكسورة، وياء تحتانية مشدة، بدل قراءة الجمهور ﴿نبيكم﴾ ظرفًا. قال صاحب "اللوامح": وهو النبي - ﷺ - على البدل من الرسول.
ثم توعد المنصرفين خفية بغير استئذان، فقال: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ﴾ أي: يخرجون من المسجد خفيةً من بين الناس واحدًا واحدًا، حالة كونهم ﴿لِوَاذًا﴾ أي: متلاوذين بالناس؛ أي: متسترين بهم؛ أي: يعلم الله الذين يخرجون من الجماعة، قليلًا قليلًا على خفية.
و ﴿قد﴾ (٢) هنا للتحقيق: بطريق الاستعارة لاقتضاء الوعيد إياه، كما أن رب يجيء للتكثير، وفي "الكواشي" قد هنا مؤذنة بقلة المتسللين؛ لأنهم كانوا أقل من غيرهم. وقيل: قد هنا بمعنى ربما مفيدة للتكثير.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
445
وقرأ يزيد بن قطيب (١): ﴿لِوَاذًا﴾ بفتح اللام، فاحتمل أن يكون مصدر، لاذ الثلاثي، ولم يقبل؛ لأنه لا كسرة قبل الواو، فهو كطاف طوافًا، واحتمل أن يكون مصدر لاوذ الرباعي، وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو. واللواذ من الملاوذة. وهو أن تستتر بشيء مخافة من يراك. وقيل: اللواذ الفرار من الجهاد. وبه قال الحسن. ومنه قول حسان:
وَقُرَيْشٌ تَجُوْلُ مِنْكُمُ لِوَاذَا لَمْ تُحَافِظْ وَجَفَّ مِنْهَا الْحُلُوْمُ
والتسلل: الخروج بخفية.
والمعنى: قد يعلم الله الذين يخرجون متسللين من المسجد في الخطبة، واحدًا بعد واحد، من غير استئذان، خفيةً مستترين بشيء. وإن عملهم هذا إن خفي على الرسول - ﷺ -، فلا يخفى على من يعلم السر والنجوى، ومن لا يعزب عنه مثقال ذرة، ويعلم الدواعي التي تحملهم على ذلك، ولديه الجزاء على ما يفعلون.
روى أبو داود أنه كان من المنافقين، من يثقل عليه استماع الخطبة، والجلوس في المسجد، فإذا استأذن أحد من المسلمين، قام المنافق إلى جنبه يستتر به، فأنزل الله سبحانه الآية.
والفاء في قوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ لترتيب الحذر (٢)، أو الأمر به، على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم، فإنه مما يوجب الحذر ألبتة، فإن قلت (٣): كيف عدى (خالف) بعن مع أنه يتعدى بنفسه؟
قلت: ضمن خالف بمعنى أعرض، أو عدل فعداه تعديته، أو يقال: عن متعلقه بمحذوف تقديره: يخالفونه تعالى، ويعدلون عن أمره أو هي زائدة على قول الأخفش. والضمير في أمره إما لله؛ لأنه الآمر حقيقة، أو للرسول؛ لأنه المقصود بالذكر.
(١) أبو السعود.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) روح البيان.
446
أي: فليحذر ويجتنب الذين يخالفون أمره تعالى، ويعرضون عن طاعة رسوله - ﷺ - من ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي: محنة وبلية في الدنيا، إما في البدن أو في المال، أو في الولد، كالمرض والقتل والهلاك وتسلط السلطان الجائر عليهم ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: شديد في الآخرة وقال بعضهم: ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي: بلية تظهر نفاقهم ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: عاجل في الدنيا، انتهى.
وكلمة (أو) لمنع الخلو دون الجمع، واعادة الفعل صريحًا للاعتناء بالتحذير، وفي ترتيب العذابين على المخالفة، دلالة على أن الأمر للوجوب، فيجب امتثال أمره، وتحرم مخالفته.
والآية تعم كل من خالف أمر الله تعالى، وأمر رسوله - ﷺ - واستمر على التقليد، من بعد ما تبين له الهدى، وظهر له الصواب، من الخطأ، وبعد أن أقام الأدلة على أنه نور السماوات والأرض. ثم حذر كل مخالف لرسوله،
٦٤ - ثم ختم السورة ببيان أنه المالك للموجودات بأسرها، خلقًا وملكًا وتصرفًا وإيجادًا وإعدامًا، بدءًا وإعادةً، فقال: ﴿أَلَا﴾ أي: انتبهوا أيها العباد، من سنة الغفلة، واعتقدوا بقلوبكم، وقولوا بالسنتكم ﴿إِنَّ لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: جميع ما فيهما من الموجودات بأسرها خلقًا وملكًا بدءًا وإعادةً. ﴿قَدْ﴾ يقال فيها، ما قيل في السابقة آنفًا ﴿يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع، التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق، فيجازيكم بحسب ذلك، ويعلم هنا بمعنى علم. ﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ﴾ معطوف على ﴿مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾. ﴿وَيَوْمَ﴾ مفعول به، لا ظرف؛ أي: يعلم ما أنتم عليه من الأحوال، ويعلم تحقيقًا يوم ترجعون إليه؛ أي: يوم يرد الخلائقق إليه للمجازاة، فيجازيكم فيه بما عملتم.
أو المعنى يعلم ما أنتم عليه أيها العباد، ويعلم يوم يرد المنافقون، المخالفون للأمر إليه تعالى، للجزاء والعقاب. فيرجعون من المرجع المتعدي، لا من الرجوع اللازم، والعلم بوقت وقوع الشيء، مستلزم للعلم بوقوعه على أبلغ وجه.
447
وقرأ الجمهور (١): يرجعون مبنيًا للمفعول. وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو، مبنيًا للفاعل، من الرجوع اللازم. والتفت من ضمير الخطاب في أنتم إلى ضمير الغيبة في يرجعون. ويجوز أن يكون، ما أنتم عليه خطابًا عامًا، ويكون يرجعون للمنافقين. والظاهر من السياق، أن هذا الوعيد للمنافقين، كما في "الشوكاني".
﴿فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا﴾؛ أي: يخبر الخلائق بما عملوا في الدنيا، فلا يعاقبهم ولا يثيبهم إلا بعد إخبارهم بما عملوا وبيانه، أو يخبر المنافقيق بما عملوا في الدنيا، من الأعمال السيئة، التي من جملتها مخالفة الأمر؛ أي (٢): يظهر لهم على رؤوس الأشهاد، ويعلمهم أي شيء شنيع عملوا في الدنيا، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء، وعبر عن إظهاره بالتنبئة، لما بينهما من الملابسة، في أنهما سببان للعلم، تنبيهًا على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه، غافلين عن سوء عاقبته، لغلبة أحكام الكثرة الخلقية الإمكانية، وآثار الأمزجة الطبيعية الحيوانية نشأتهم.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وإن كان المنافقون يجتهدون في ستر أعمالهم عن العيون، وإخفائها.
ومعنى الآية (٣): في أنه تعالى مالك السماوات والأرض، وأنه عالم بما يعمل العباد، كما قال: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١)﴾.
وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ ثم هدد وتوعد، فقال: ﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا﴾؛ أي: ويوم يرجع الخلائق إلى ربهم
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
448
حين العرض والحساب، فيخبرهم بما فعلوا في الدنيا، من جليل وحقير وكبير وصغير، كما قال: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)﴾ وقال: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
ثم ذكر ما هو، كالدليل على ما سلف بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؛ أي: إنه سينبئهم بما عملوا في حياتهم الأولى؛ لأنه ذو علم بكل شيء، وإحاطة به، وهو موف كل عامل أمر عمله، يوم يرجعون إلى حكمه، إذ لا حَكَم يومئذٍ إلا هو.
قال بعضهم: كل ما ألهاك عن مولاك فهو دنياك، فعلى العاقل أن يقطع حبل العلاقات ويتصل بخالق البريات، ويتفكر في أمره، ويحاسب نفسه، قبل أن يجيء يوم الجزاء والمكافآت، فإن عقب هذه الحياة ممات، وهذا البقاء ليس على الدوام والثبات، وفي الأثر: ما قال الناس: "لقوم طوبى لكم إلا وقد خبأ لهم الدهر يوم سوء" قال الشاعر:
إِنَّ اللَّيَالِيَ لَمْ تُحْسِنْ إلَى أَحَدٍ إِلَّا أَسَاءَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ إِحْسَانِ
وقال الآخر:
أحْسَنتَ ظَنَكَ بِالأيَّامِ إذْ حَسُنَتْ وَلَمْ تَخفْ شَرَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ
وقال آخر:
لَا صِحَّةُ الْمَرْءِ فِيْ الدُّنْيَا تُؤَخِّرُهُ وَلاَ يُقَدِّمُ يَوْمَا مَوْتَهُ الْوَجَعُ
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾.
﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة في محل النصب، مبني على الضم. ﴿ها﴾: حرف تنبيه. ﴿الَّذِين﴾: صفة لأي. ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول وجملة النداء مستأنفة، مسوقة لبيان حكم الاستئذان. ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ﴾: اللام: لام
449
الأمر. ﴿يستأذنكم﴾: فعل ومفعول به، مجزوم بلام الأمر. ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل. والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ملكتهم أيمانكم. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف عليه الموصول الأول. ﴿لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ﴾: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَبْلُغُوا﴾. ﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، أو على المفعولية المطلقة، فإن قدرت بمعنى: ثلاثة أوقات، فهي ظرف، وإن قدرت بمعنى: ثلاث استئذانات، فهي مفعول مطلق. ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه في محل النصب، بدل من ثلاث مرات. ﴿وَحِينَ﴾ معطوف على محل ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾ وهو مضاف. ﴿تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿حين﴾. ﴿مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾: حال من حين؛ أي: حال كون ذلك الوقت من الظهيرة. أو متعلق بـ ﴿تَضَعُونَ﴾. ومن بمعنى في. ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، في محل النصب، معطوف على ما قبله، على كونه بدلًا من ثلاث مرات. ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ﴾ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه الأوقات ثلاث عورات. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور، صفة لـ ﴿ثَلَاثُ﴾؛ أي: كائنات لكم. وبالنصب، بدل من محل ما قبله. والجملة مستأنفة.
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدم. ﴿وَلَا عَلَيْهِمْ﴾: معطوف على ﴿عَلَيْكُمْ﴾. ﴿جُنَاحٌ﴾: اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر. ﴿بَعْدَهُنَّ﴾: ظرف ومضاف إليه صفة لـ ﴿جُنَاحٌ﴾. وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل الرفع، صفة لـ ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ﴾؛ أي: هن ثلاث عورات، موصوفة بعدم جناح بعدهن عليكم ولا عليهم. ﴿طَوَّافُونَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم طوافون ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿طَوَّافُونَ﴾. والجملة مستأنفة. ﴿بَعْضُكُمْ﴾: مبتدأ. ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، أي: بعضكم طائف على بعض. والجملة بدل تفصيل لما قبلها. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾: فعل
450
وفاعل. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق به. ﴿الْآيَاتِ﴾: مفعول به. والجملة مستأنفة، والتقدير: ويبين الله لكم الآيات، تبيينًا كائنًا، مثل تبيين هذه الآية. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر أول. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط. ﴿بَلَغَ الْأَطْفَالُ﴾: فعل وفاعل. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها. والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿مِنْكُمُ﴾: حال من ﴿الْأَطْفَالُ﴾. ﴿الْحُلُمَ﴾: مفعول به. ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ وجوبًا. و (اللام): لام الأمر. ﴿يستأذنوا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بلام الأمر. والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، مسوقة لتقرير حكم ﴿الْأَطْفَالُ﴾. ﴿كَمَا﴾: الكاف حرف جر. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾: المصدرية. ﴿ما﴾: مع صلتها في تأويل مصدر، مجرور بالكاف، تقديره: كاستئذان الذين قبلهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: فليستأذنوا استئذانًا كائنًا كاستئذان الذين من قبلهم. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿آيَاتِهِ﴾: مفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾: جملة اسمية مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)﴾.
﴿وَالْقَوَاعِدُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿القواعد﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾: حال من القواعد. ﴿اللَّاتِي﴾: صفة لـ ﴿القواعد﴾، لا للنساء. ﴿لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. ﴿فَلَيْسَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه المبتدأ بالشرط العموم؛ لأن الألف واللام في القواعد، موصولة
451
بمعنى واللاتي قعدن. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَيْهِنَّ﴾: خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾. ﴿جُنَاحٌ﴾: اسمها مؤخر. وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَضَعْنَ﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث. ﴿ثِيَابَهُنَّ﴾: مفعول به. ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ﴾: حال من فاعل ﴿يَضَعْنَ﴾. ﴿بِزِينَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿مُتَبَرِّجَاتٍ﴾. وجملة يضعن مع أن المصدرية، في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: فليس عليهن جناح في وضعهن ثيابهن. الجار والمجرور متعلق بجناح، أو صفة له. ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَسْتَعْفِفْنَ﴾: فعل مضارع وفاعل في محل النصب، مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة. والجملة الفعلية مع أن المصدرية، في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء. ﴿خَيْرٌ﴾: خبره. ﴿لَهُنَّ﴾: متعلق بخير. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: والقواعد. فهو نظير قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان. والجملة مستأنفة.
﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَى الْأَعْمَى﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾. ﴿حَرَجٌ﴾: اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر. وجملة ﴿لَيْسَ﴾ مستأنفة. ﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: زائدة. زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. ﴿عَلَى الْأَعْرَجِ﴾ معطوف على الأعمى. ﴿حَرَجٌ﴾: معطوف على ﴿حَرَجٌ﴾. وكذلك قوله: ﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ﴾: معطوف على قوله: ﴿عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾. ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم لمبتدأ مؤخر، محذوف معلوم من السياق، تقديره: ولا على أنفسكم حرج، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْ تَأْكُلُوا﴾: فعل وفاعل
452
منصوب بـ ﴿أَن﴾. ﴿مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية، في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في أكلكم من بيوتكم، والجار المحذوف، متعلق بالمبتدأ المحذوف، والتقدير: ولا على أنفسكم حرج في أكلكم من بيوتكم. وقوله: ﴿أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ﴾ معطوفات على ﴿بُيُوتِكُمْ﴾ ومضافة إلى ما بعدها، على كونها مجرورة بـ ﴿من﴾.
﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
﴿أَوْ﴾: حرف عطف. ﴿ما﴾: اسم موصول، في محل الجر معطوف على ﴿بُيُوتِكُمْ﴾. ﴿مَلَكْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿مَفَاتِحَهُ﴾: مفعول به. والجملة صلة ﴿ما﴾ الموصولة. والعائد ضمير مفاتحه. ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾: معطوف على ﴿بُيُوتِكُمْ﴾ أيضًا. ولكنه على حذف مضاف، تقديره: أو بيت صديقكم. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدم. ﴿جُنَاحٌ﴾: اسمها مؤخر. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان حكم آخر، من جنس ما بين قبله، حيث كان فريق من المؤمنين كبني ليث بن عمرو، يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، كما في "الجمل". ﴿أَنْ تَأْكُلُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من فاعل ﴿تَأْكُلُوا﴾. ﴿أَوْ أَشْتَاتًا﴾: معطوف عليه؛ أي: حالة كونكم مجتمعين، أو متفرقين. والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في أكلكم مجتمعين أو متفرقين، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جُنَاحٌ﴾. ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ﴾: ﴿الفاء﴾ استئنافية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط. ﴿دَخَلْتُمْ بُيُوتًا﴾: فعل وفاعل ومفعول على السعة. والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها. والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿فَسَلِّمُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾، ﴿سلموا﴾: فعل
453
وفاعل. ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿إذا﴾: لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿تَحِيَّةً﴾ مفعول مطلق معنوي لـ ﴿سلموا﴾ منصوب به على حد قعدت جلوسًا. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة أولى لتحية. ﴿مُبَارَكَةً﴾: صفة ثانية لها. ﴿طَيِّبَةً﴾: صفة ثالثة لها. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكُمُ﴾: متعلق به. ﴿الْآيَاتِ﴾: مفعول به. والجملة مستأنفة. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾: خبره. وجملة ﴿لعل﴾: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر ﴿كان﴾. ﴿عَلَى أَمْرٍ﴾: متعلق بـ ﴿كان﴾ ﴿جَامِعٍ﴾: صفة أمر. ﴿لَمْ يَذْهَبُوا﴾: جازم وفعل وفاعل. والجملة جواب ﴿إذا﴾. وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَسْتَأْذِنُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد حتى الجارة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَذْهَبُوا﴾؛ أي: لم يذهبوا إلى استئذانهم الرسول.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: خبره. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾. وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء
454
الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن المستأذنين هم الكاملون في الإيمان، وأردت بيان حكم ما إذا استأذنوك.. فأقول لك: ﴿إذا استأذنوك﴾: ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط. ﴿اسْتَأْذَنُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها. ﴿فَأْذَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾. ﴿إئذن﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿لمن﴾: جار ومجرور متعلق به. والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾. وجملة ﴿إذا﴾ في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿شِئْتَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: لمن شئته. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور، حال من العائد المحذوف. ﴿وَاسْتَغْفِرْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على ﴿إئذن﴾. ﴿لَهُمُ﴾: متعلق باستغفر ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول له. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان لها. وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾.
﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَجْعَلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية. والجملة مستأنفة. ﴿دُعَاءَ الرَّسُولِ﴾: مفعول أول. ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه حال من الرسول. ﴿كَدُعَاءِ﴾: الكاف اسم بمعنى مثل في محل النصب، مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾. الكاف مضاف. ﴿دعاء﴾: مضاف إليه. ﴿دعاء﴾: مضاف ﴿بَعْضِكُمْ﴾: مضاف إليه. ﴿بَعْضًا﴾: مفعول به لـ ﴿دعاء﴾. ﴿قَدْ﴾: حرف بمعنى: ربما مفيدة للتكثير. ﴿يَعْلَمُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿يَتَسَلَّلُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَتَسَلَّلُونَ﴾. ﴿لِوَاذًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة المعنوية؛ لأنه بمعنى ﴿يَتَسَلَّلُونَ﴾ تسللًا، أو يلاوذون لواذًا، ويجوز نصبه على الحال بمعنى ملاوذين.
455
﴿فَلْيَحْذَرِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت علم الله المتسللين، وأردتم بيان ما هو الأحوط لكم.. فأقول لكم ليحذروا. و (اللام): لام الأمر. ﴿يحذر﴾: مجزوم بلام الأمر. ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿يُخَالِفُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول عن زائدة ﴿أَمْرِهِ﴾: مفعول به.
﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)﴾.
﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾: ناصب وفعل ومفعول به وفاعل. والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿يحذر﴾. والتقدير: فليحذر الذين يخالفون أمره إصابة فتنة إياهم. ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل وصفة معطوفة على جملة ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾، أو إصابة عذاب أليم إياهم. ﴿أَلَا﴾: حرف استفتاح وتنبيه. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب اسم إن مؤخر. وجملة إن مستأنفة. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على السماوات. ﴿قَدْ﴾: حرف تكثير بمعنى رب التكثيرية. ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ. ﴿عَلَيْهِ﴾: خبره. والجملة الاسمية صلة ﴿ما﴾ الموصولة. وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: حال لازمة للجلالة. ﴿وَيَوْمَ﴾: معطوف على مفعول يعلم. ﴿يُرْجَعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به. والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾. ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿ينبئهم﴾: فعل ومفعول أول وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿ينبئهم﴾. وجملة ﴿عَمِلُوا﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما عملوه. وجملة ﴿ينبئهم﴾ في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر المبتدأ. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
456
التصريف ومفردات اللغة
﴿لِيَسْتَأْذِنْكُم﴾: استأذن من باب استفعل. فالسين والتاء فيه للطلب، فهو على بابه؛ لأن الاستئذان، طلب الإذن. والإذن في الشيء: إعلام بإجازته، والرخصة فيه، كما مر. ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم﴾ يشمل العبيد والإماء.
﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ﴾؛ أي: وقت البلوغ، إما بالاحتلام، وإما ببلوغ خمس عشرة سنة من حلم بفتح اللام. قال في "القاموس": الحلم بالضم، والاحتلام الجماع في النوم. والاسم الحلم كعنق. انتهى. وفي "المفردات" ليس الحلم في الحقيقة هو العقل، لكن فسروه بذلك، في نحو قوله: أولو الأحلام لكونه من مسببات العقل. ويسمى البلوغ بالحلم، لكونه جديرًا صاحبه بالحلم اهـ.
﴿تَضَعُونَ﴾ تخلعون. ﴿الظَّهِيرَةِ﴾: وقت اشتداد الحر حين انتصاف النهار. قال في "القاموس": الظهيرة حد انتصاف النهار. وإنما ذلك في القيظ. ﴿عَوْرَاتٍ﴾ جمع عورة. من أعور الفارس، إذا اختلت حاله. والعورة في الأصل الخلل. ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه، ويتعين ستره.
﴿طَوَّافُونَ﴾: صيغة مبالغة من الطواف. والطواف: الدوران حول الشيء. ومنه الطائف لمن يدور حول البيت حافًّا. ومنه استعير الطائف من الجن، والخيال والحادثة وغيرها.
﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾؛ أي: أوان البلوغ، كرره للتأكيد كما مر. واعلم (١): أن بلوغ الصغير بالإحبال والإنزال والاحتلام. وبلوغ الصغيرة بهما وبالحيض والحبل. فإن لم يوجد فيهما شيء من العلامات المذكورة فيبلغان حين تم لهما خمس عشرة سنة. كما هو المشهور. وبه يفتى لقصر أعمار أهل زماننا. قال بعض الصحابة: كان الرجل فيمن قبلكم لا يحتلم حتى يأتي عليه ثمانون سنة. قال وهب: إن أصغر من مات من ولد آدم ولد مائتي سنة. وأدنى مدة
(١) روح البيان.
457
البلوغ للغلام اثنتا عشرة سنة، وللجارية تسع سنوات.
﴿وَالْقَوَاعِدُ﴾: جمع قاعد بلا هاء، لاختصاصها بالمرأة. قال في "القاموس": القاعد التي قعدت عن الولد، وعن الحيض، وعن الزوج. وفي "المصباح" وقعدت المرأة عن الحيض، أسنت وانقطع حيضها، فهي قاعد بغير تاء. والجمع قواعد. وقعدت عن الزوج فهي لا تشتهيه، ولولا تخصيصهن بذلك، لوجبت التاء، نحو ضاربة وقاعدة من القعود، بمعنى الجلوس.
﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾؛ أي: مظهرات للزينة. وحقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه، من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها. والبرج: محركة سعة العين، يرى بياضها محيطًا بسوادها كله، لا يغيب منه شيء، إلا أنه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال، بإبداء زينتها، وإظهار محاسنها للرجال. فالبرج يعطي معنى الاتساع، يقال: برج يبرج برجًا من باب تعب، اتسع أمره في الأكل والشرب ونحوهما. وبرجت عيناه اتسعت، بحيث يرى بياضها محدّقًا بالسواد كله، والبرج الركن والحصن والقصر، وكل بناء مرتفع على شكل مستدير، أو مربع. ويكون منفردًا، أو قسمًا من بناية عظيمةٍ. وجمعه برج بضمتين وأبراج وأبرجة. والبرج أيضًا أحد بروج السماء، وهي اثنا عشر. كما مر. والبارجة: سفينة كبيرة للقتال، وتجمع على بوارج، ومن أمثالهم ما فلان إلا بارجة، قد جمع فيه كل الشر؛ أي: إنه شرير.
﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ﴾: استفعال من العفة، وهي حصول حالة للنفس، تمتنع بها عن غلبة الشهوة ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ والحرج لغة الضيق، ويراد به في الدين الإثم، (الأعمى) مفتقد البصر.
﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ﴾ من العروج، وهو ذهاب في صعود. وعرج مشى مشي العارج؛ أي: الذاهب في صعود. يقال: عرج يعرج من باب دخل، إذا أصابه شيء في رجله، فمشى مشية العرجان. وعرج كطرب إذا صار ذلك خلقة له.
﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ﴾ صفة من المرض. والمرض الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان. ﴿أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ والأكل تناول المطعم أكلًا، أو
458
شربًا. والبيوت جمع بيت. والبيت في الأصل مأوى الإنسان بالليل. وقد يقال: من غير اعتبار الليل فيه. لكن البيوت بالمسكن أخص، والأبيات بالشعر.
﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ جمع مفتح. والمفاتيح جمع مفتاح. كلاهما آلة الفتح. والفتح: إزالة الإغلاق والإشكال. ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ من الصداقة. والصداقة صدق الاعتقاد في المودة. وذلك مختص بالإنسان. دون غيره. والصديق من صدقك في مودته. قال أبو عثمان: الصديق من لا يخالف باطنه باطنك، كما لا يخالف ظاهره ظاهرك إذ ذاك يكون الانبساط إليه مباحًا في كل شيء من أمور الدين والدنيا. ونعم ما قيل: صديقك من صدقك، لا من صدَّقك. ويطلق على الواحد والجمع. وكذلك الخليط والقطين والعدو.
﴿أَوْ أَشْتَاتًا﴾ جمع شت بمعنى تفرق. وفي "المختار" أمر شت بالفتح؛ أي: متفرق. يقال: شت الأمر يشت بالكسر من باب ضرب شتًا وشتاتًا، بفتح الشين فيهما؛ أي: تفرق ﴿أَمْرٍ جَامِعٍ﴾؛ أي: خطب جلل يستعان فيه بأرباب التجارب، والآراء، كقتال عدو أو تشاور في حادث قد عرض.
﴿يَتَسَلَّلُونَ﴾ ينسلون واحدًا بعد واحد، أو قليلًا قليلًا. وفي "أبي السعود" التسلل: الخروج من البين على التدريج والخفية اهـ. يقال: تسلل الرجل؛ أي: انسرق من الناس وفارقهم، بحيث لا يعلمون.
﴿لِوَاذًا﴾: واللِّواذ والملاوذة التستر. يقال: لاذ فلان بكذا، إذا استتر به. واللواذ مصدر لاوذ، وإنما صحت الواو فيه، وإن انكسر ما قبلها ولم تقلب ياء، كما قلبت في قيام وصيام؛ لأنها صحت في الفعل، نحو لاوذ، فلو أعلت في الفعل لأعلت في المصدر. نحو القيام والصيام لقلبها ألفًا في قام وصام. وأما مصدر لاذ بكذا يلوذ به، فمعتل نحو لاذ به يلوذ لياذًا، مثل صام صيامًا وقام قيامًا. واللواذ والملاوذة: التستر في خفية.
﴿يُخَالِفُونَ﴾: يقال: خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه، وخالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه. والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو فعله.
459
﴿فِتْنَةٌ﴾؛ أي: بلاء وامتحان في الدنيا. وقال أبو بكر بن طاهر: الفتنة مأخوذ بها والبلاء معفو عنه ومثاب عليه. ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: عذاب مؤلم موجع في الآخرة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: ﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾ إلخ.
ومنها: الإجمال بعد التفصيل في ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ﴾.
ومنها: تسمية الشيء باسم ما يقع فيه، مبالغة في كونه محلًا له في قوله: ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ﴾ حيث سمى الأوقات المذكورة عورات، مع أنها ليست نفس العورات، بل هي أوقات العورات.
ومنها: الإيضاح في قوله: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ الآية. وهو أن يذكر المتكلم كلامًا في ظاهره لبس، ثم يوضحه في بقية كلامه. وهنا في هذه الآية ترد على ظاهرها أربعة أسئلة:
أولها: ما الفائدة في الإخبار برفع الجناح، عمن أكل من بيته، وكيف يظن أن على من أكل من بيته جناحًا؟ فالجواب عنه أن يقال: فائدة الإخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته التوطئة، ليبنى عليه ما يعطفه على جملته من البيوت، التي قصد إباحة الأكل منها. فإنه إذا علم، أن الإنسان لا جناح عليه أن يأكل من بيته، فكذلك لا جناح عليه أن يأكل من هذه البيوت، ليشير إلى أن أموال هذه القرابة، كمال الإنسان، وإذا تساوت هذه الأموال، سرى ذلك التساوي إلى الأزواج، فيكون سبحانه، قد أدمج في ذلك الحض، على صلة الأرحام، ومعاملتهم معاملة الإنسان نفسه.
وثانيها: لم لم يذكر بيوت الأولاد، كما ذكر بيوت غيرهم من الأقارب القريبة؟ فالجواب عنه: أن يقال: إن أموال الأولاد كمال نفسه، فتصرف الوالدين
460
فيها، كتصرفهم في أموالهم أنفسهم، لأن ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه.
وثالثها: ما فائدة قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ وظاهر الحال، أن هذا داخل في قوله: ﴿مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾؟ قلنا: يحتمل أن يراد بما في البيوت، المال التليد العتيد، وما ملك الإنسان مفاتحه، المال الطريف المكتسب، الذي يتسبب الإنسان في تحصيله، ويتعب في اكتسابه.
ورابعها: كيف وقعت التسوية بين الصديق، وبين هؤلاء الأقارب؟ قلنا: سر التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب، تعريف حق الصديق، الذي ساوى باطنه ظاهره في إخلاص المودة. ولا يكون صديقًا حتى يكون كذلك.
وقد اشتملت هذه الآية، على تسعة أضرب من فنون البديع:
١ - صحة التقسيم، وذلك لاستيعاب الكلام، جميع أقسام الأقارب القريبة، بحيث لم يغادر منها شيئًا.
٢ - التهذيب، وذلك في انتقال الكلام على مقتضى البلاغة في هذا المكان، فإن مقتضى البلاغة، تقديم الأقرب فالأقرب. كما جاء فيها.
٣ - حسن النسق، وذلك في اختياره. ﴿أَوْ﴾: لعطف الجمل، وهي تدل على الإباحة.
٤ - الكناية، فقد كنى سبحانه عن الأموال، بالبيوت التي هي حرز الأموال ومقرها، من باب تسمية الشيء بما جاوره، كقولهم: سال الميزاب، وجرى النهر.
٥ - المناسبة: وذلك بمناسبة الألفاظ بعضها بعضًا في الزنة، وهي واضحة في لفظة آبائكم وإخوانكم وأعمامكم وأخوالكم.
٦ - المثل: وذلك في قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ خرج مخرج المثل السائر، الذي يصح أن يتمثل به في كل واقعة، تشبه واقعته.
461
٧ - التذييل، فإن الكلام الذي خرج مخرج المثل جاء تذييلًا لمعنى الكلام المتقدم، لقصد توكيده وتقريره.
٨ - المطابقة: وذلك في قوله: ﴿جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ فإن هاتين اللفظتين تضادتا تضادًا، أوجب لهما وصفهما بالمطابقة؛ لأن المعنى جميعًا أو متفرقًا.
٩ - المقارنة: وذلك في موضعين:
أحدهما: اقتران التمثيل بالتذييل، كما تقدم بيانه.
والثاني: اقتران المطابقة بالتمكين، فإن فاصلة هذا الكلام في غاية التمكين.
ومنها: الطباق بين ﴿جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾؛ لأن المعنى مجتمعين ومتفرقين.
ومنها: الإطناب، بتكرير لفظ الحرج لترسيخ الحكم في الأذهان في قوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾؛ لأن الأمر لما كان سببًا في جمعهم، نسب الجمع إليه مجازًا اهـ. "سمين".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
462
مجمل ما حوته هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - عقوبة الزاني والزانية.
٢ - عقوبة قاذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
٣ - حكم قذف الزوجات.
٤ - قصص الإفك وبراءة أم المؤمنين عائشة.
٥ - آداب الزيارة.
٦ - أمر المؤمنين بغض الأبصار وحفظ الفروج.
٧ - نهي النساء عن إبداء زينتهن لغير بعولتهن إلخ.
٨ - أمر المؤمنين بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء، فالمجتمع الإِسلامي كأنه أسرة واحدة.
٩ - أمر من لم تتوافر له وسائل النكاح، لعدم وجود المال، أو سواه، بالعفة حتى يغنيه الله تعالى.
١٠ - بيان أن الأعمال الصالحة، التي يعملها الكافرون في الدنيا، لا تجدي عنهم نفعًا يوم القيامة، بل تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
١١ - الأدلة التي نصبها الله في الأكوان علويها وسفليها شاهدة بوحدانيته.
١٢ - المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
١٣ - وصف المؤمنين الصادقين.
١٤ - وعد الله عباده المؤمنين، بأنه يستخلفنهم في الأرض، وينشر دينهم الذي ارتضى لهم.
١٥ - استئذان الموالي والأطفال في أوقات ثلاث، إذا أرادوا الدخول على أهليهم.
463
١٦ - رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في الجهاد.
١٧ - لا حرج في الأكل من بيوت الآباء والأمهات إلخ. بلا إذن.
١٨ - نهي المؤمنين عن الانصراف، من مجلس رسول الله - ﷺ -، إذا كانوا معه في أمر جامع.
١٩ - إباحة إذنه لهم إن شاء، حين الطلب.
٢٠ - بيان أن مجلس الرسول مبجل موقر، وليس كمجلس المؤمنين بعضهم مع بعض (١).
والله أعلم
* * *
(١) انتهينا من تفسير سورة النور، في اليوم التاسع والعشرين، من شهر الله المحرم في تاريخ: ٢٩/ ١/ ١٤١٣ هـ. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
464
سورة الفرقان
سورة الفرقان: مكية كلها، عند الجمهور. كذا أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه من طرق عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عن ابن الزبير. قال القرطبي: وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها، نزلت بالمدينة. وهى قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
وهى سبع وسبعون آية (١)، وثمان مئة واثنتان وسبعون كلمة، وثلاث آلاف وسبع مئة وثلاثة وستون حرفًا.
الناسخ والمنسوخ: وجملة ما فيها من المنسوخ آيتان (٢):
أولاهما: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ إلى قوله: ﴿وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ نسخها بقوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾.
والآية الثانية، قوله: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ منسوخة في حق الكفار، بآية السيف، وبعض معناها محكم في حق المؤمنين.
علة التسمية: سميت (٣) بسورة الفرقان؛ لأن بها الفرق بين الحق والباطل، لاشتمالها على أحكام التوحيد وأدلته، ومكارم الأخلاق وأحوال العباد.
فضلها: أخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن حبان والبيهقي في "سننه" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت هشام بن حكيم، يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - ﷺ -، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى
(١) المراح.
(٢) الناسخ والمنسوخ لابن حزم.
(٣) الصاوي.
465
سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله - ﷺ -، فقلت: كذبت، فإن رسول الله - ﷺ - قد أقرأنيها على غير ما قرأته، فانطلقت أقوده إلى رسول الله - ﷺ -، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله - ﷺ -: "أرسله أقرئنا هشام". فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله - ﷺ -: "كذلك أنزلت". ثم قال: "أقرئنا عمر". فقرأت القراءة التي أقرأني. فقال رسول الله - ﷺ -: "كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه".
وعن النبي - ﷺ - (١): "من قرأ سورة الفرقان، لقي الله، وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأدخل الجنة بغير نصب" ولكن هذا الحديث موضوع.
المناسبة: مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها (٢)، أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول، وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم، توقف انفصال واحد منهم على إذنه، وحذر من يخالف أمره، وذكر أن له ملك السماوات والأرض، وأنه تعالى عالم بما هم عليه، ومجازيهم على ذلك، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار. ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى، منزه في صفاته عن النقائص، كثير الخير. ومن خيره أنه نزل الفرقان على رسوله منذرًا لهم، فكان في ذلك إطماع في خيره، وتحذير من عقابه.
وفي "المراغي": مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه (٣):
١ - أنه سبحانه اختتم السورة السابقة، بكونه مالكًا لما في السماوات والأرض، مصرفًا له على ما تقتضيه الحكمة البالغة، والمصلحة العامة مع النظام البديع، والوضع الأنيق وأنه سيحاسب عباده يوم القيامة على ما قدموا من العمل خيرًا كان أو شرًا. وافتتح هذه بما يدل على تعاليه في ذاته وصفاته، وأفعاله، وعلى حبه لخير عباده بإنزال القرآن لهم هاديًا، وسراجًا، منيرًا.
(١) البيضاوي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
466
٢ - اختتم السورة السالفة، بوجوب متابعة المؤمنين للرسول - ﷺ - مع مدحهم على ذلك، وتحذيرهم من مخالفة أمره خوف الفتنة، والعذاب الأليم، وافتتح هذه بمدح الرسول، وإنزال الكتاب عليه، لإرشادهم إلى سبيل الرشاد وذم الجاحدين لنبوته، بقولهم: إنه رجل مسحور، وإنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق إلى آخر ما قالوا.
٣ - في كل من السورتين وصف السحاب، وإنزال الأمطار، وإحياء الأرض الجزر. فقال في السالفة: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ إلخ. وقال في هذه: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا﴾ إلخ.
٤ - ذكر في كل منهما، وصف أعمال الكافرين يوم القيامة، وأنها لا تجزيهم فتيلًا ولا قطميرًا، فقال في الأولى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ إلخ. وقال في هذه: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾.
٥ - وصف النشأة الأولى للإنسان في أثنائهما. فقال في الأولى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾. وفي الثانية: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا﴾. والله أعلم
* * *
467

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (٣) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (٤) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٦) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٩) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (١١) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (١٢) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (١٥) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (١٩) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
468
الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (٢٠)}.
حوت هذه السورة توحيد الله، وإثبات نبوة محمد - ﷺ -، وبيان صفات النبي - ﷺ -، والرد على من أنكروا نبوته - ﷺ -. ثم بيان أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من الأهوال. ثم ختمت بأوصاف عباده المخلصين، الذين يمشون على الأرض هونًا. ثم ذكر جلال الله، وتصرفه في خلقه، وتفرده بالخلق والتقدير.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (١) سبحانه، لما وصف نفسه بصفات العزة والجلال، وبين وجه الحق في ذلك، أردفه حكاية أباطيل عبدة الأوثان، الذين اتخذوا من دونه آلهة تعجيبًا لأولي النهى من حالهم، وتنبيهًا إلى خطأ أفعالهم، وتسفيهًا لأحلامهم. فقد انحرفوا عن منهج الحق، وركبوا المركب الذي لا يركبه إلا كل آمن الرأي مسلوب العقل.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما تكلم أولًا في التوحيد، ثم في الرد على عبدة الأوثان، أردف ذلك بالرد على الطاعنين في نبوة محمد - ﷺ -، وقد قسموا مطاعنهم قسمين، مطاعن في القرآن، ومطاعن فيمن نزل عليه القرآن.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما حكى شبهتهم فيما يتعلق بالمنزل، وهو القرآن، ساق شبهتهم في المنزل عليه، وهو الرسول على الوجه الذي ذكره. ثم فند تلك الشبه، وبين سخفها، وأنها لا تصلح مطعنًا في النبي. ثم حكى عنهم نوعًا ثالثًا من أباطيلهم، وهو تكذيبهم بيوم القيامة. ثم وصف ما أعد للكافرين فيه، مما يشيب من هوله الولدان من نار تلظى، يسمعون لها تغيظًا وزفيرًا،
(١) المراغي.
469
ووضعهم فيها مقرنين في الأصفاد، ونداؤهم إذ ذاك بقولهم يا ثبوراه. ثم أتبع ذلك بما يؤكد حسرتهم وندامتهم، بوصف ما يلقاه المتقون في جنات النعيم. مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن هذا ما وعدهم به ربهم الذي لا خلف لوعده.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر ما أعد لأولئك المكذبين بيوم القيامة، من الشدائد والأهوال في النار، ودعائهم على أنفسهم، بالويل والثبور.. أردفه ذكر أحوالهم مع معبوداتهم من دون الله، وتوبيخهم على عبادة من عبدوا من الملائكة وغيرهم. ثم ذكر أن معبوداتهم تكذبهم فيما نسبوه إليهم، ثم بين أن العابدين لا يستطيعون دفعًا عن أنفسهم، ولا يجدون من يستنصروه به.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (١) سبحانه، لما ذكر مقالتهم التي طعنوا فيها على رسوله بقولهم: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ زاعمين أن هذا مما لا ينبغي للرسول أن يفعل مثله، أردف ذلك بالاحتجاج عليهم، بأن محمدًا ليس بدعًا في الرسل، فكلهم كانوا يفعلون فعله. وفي هذا تسلية للرسول - ﷺ -، وتصبير له على أذاهم. ثم بين أن سنته، أن يبتلي بعض الناس ببعض، فيبتلي الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم، فيناصبوهم العداء، ويؤذوهم ليعلم أيهم يصبر، وأيهم يجزع، وهو البصير بحال الصابرين، وحال الجازعين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (٢) ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير وابن أبي حاتم عن خثيمة قال: قيل للنبي - ﷺ -: إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها، لا ينقصك ذلك عندنا شيئًا في الآخرة، وإن شئت جمعتهما لك في الآخرة.
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
470
Icon