تفسير سورة ص

التفسير القيم
تفسير سورة سورة ص من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

تأمل قوله، كيف تجد تحته معنى بديعا ؟ وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم، بل تبقى مفتحة كما هي. وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها. كما قال تعالى :﴿ إنها عليهم مؤصدة ﴾ [ الهمزة : ٨ ] أي مطبقة مغلقة. ومنه سمي الباب :«وصيدا ». وهي ﴿ مؤصدة * في عمد ممددة ﴾ قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها. كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب.
قال مقاتل : يعني أبوابها عليهم مطبقة. فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم. ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.
وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاءوا، ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم، ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت.
وأيضا إشارة إلى أنها دار أمن، لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب، كما كانوا يحتاجون إلى ذلك في الدنيا.
وقد اختلف أهل العربية في الضمير العائد من الصفة على الموصوف في هذه الجملة.
فقال الكوفيون : التقدير مفتحة لهم أبوابها. والعرب تعاقب بين الألف واللام والإضافة، فيقولون : مررت برجل حسن العين، أي عينه. ومنه قوله تعالى :﴿ فإن الجحيم هي المأوى ﴾ [ النازعات : ٣٩ ] أي مأواه. وقال بعض البصريين : التقدير مفتحة لهم الأبواب منها. فحذف الضمير وما اتصل به. وقال : هذا التقدير في العربية أجود من أن يجعل الألف واللام بدلا من الهاء والألف ؛ لأن معنى الألف واللام ليس من معنى الهاء والألف في شيء ؛ لأن الهاء والألف اسم، والألف واللام دخلتا للتعريف. فلا يبدل حرف من اسم، ولا ينوب عنه.
قالوا : وأيضا لو كانت الألف واللام بدلا من الضمير لوجب أن يكون في ﴿ مفتحة ﴾ ضمير، للجنات، ويكون معنى : مفتحة هي، ثم أبدل منها الأبواب، ولو كان كذلك لوجب نصب الأبواب، لكون ﴿ مفتحة ﴾ قد رفع ضمير الفاعل فلا يجوز أن يرفع به اسم آخر، لامتناع ارتفاع فاعلين بفعل واحد. فلما ارتفع ﴿ الأبواب ﴾ دل على أن ﴿ مفتحة ﴾ خال من ضمير، و﴿ الأبواب ﴾ مرتفعة به.
وإذا كان في الصفة ضمير تعين نصب الثاني، كما تقول :«مررت برجل حسن الوجه ». ولو رفعت الوجه ونونت «حسنا » لم يجز.
فالألف واللام إذا للتعريف ليس إلا. فلا بد من ضمير يعود على الموصوف الذي هو ﴿ جنات عدن ﴾ ولا ضمير في اللفظ. فهو محذوف، تقديره : الأبواب منها.
وعندي أن هذا غير مبطل لقول الكوفيين. فإنهم لم يريدوا بالبدل إلا أن الألف واللام خلف وعوض عن الضمير تغني عنه. وإجماع العرب على قولهم :«حسن الوجه »، و«حسن وجهه » : شاهد بذلك.
وقد قالوا : إن التنوين بدل من الألف واللام، بمعنى أنهما لا يجتمعان، وكذلك المضاف إليه يكون بدلا من التنوين والتنوين بدل من الإضافة بمعنى التعاقب والتوارد. ولا يريدون بقولهم : هذا بدل من هذا : أن معنى البدل معنى المبدل منه، بل قد يكون في كل منهما معنى لا يكون في الآخر.
فالكوفيون أرادوا أن الألف واللام في ﴿ الأبواب ﴾ أغنت عن الضمير لو قيل : أبوابها، وهذا صحيح. فإن المقصود الربط بن الصفة والموصوف بأمر يجعلها له لا مستقلة، فلما كان الضمير عائدا على الموصوف نفي توهم الاستقلال، وكذلك لام التعريف فإن كلا من الضمير واللام يعين صاحبه، هذا يعين مفسره وهذا يعين ما دخل عليه. وقد قالوا في :«زيد نعم الرجل » : أن الألف واللام أغنت عن الضمير. والله أعلم.
وقد أعرب الزمخشري هذه الآية إعرابا اعترض عليه فيه. فقال :﴿ جنات عدن ﴾ معرفة كقوله :﴿ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب ﴾ [ مريم : ٦١ ] وانتصابها على أنها عطف بيان :﴿ لحسن مآب ﴾ ( ص : ٤٩ ) و«مفتحة » حال، والعالم فيها ما في «المتقين » من معنى الفعل. وفي «مفتحة » ضمير الجنات، والأبواب بدل من الضمير، تقديره : مفتحة هي الأبواب، كقولهم : ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال. هذا إعرابه.
فاعترض عليه أن ﴿ جنات عدن ﴾ ليس فيها ما يقتضي تعريفها. وأما قوله :﴿ التي وعد الرحمن عباده ﴾ فبدل لا صفة. وبأن ﴿ جنات عدن ﴾ لا يسهل أن تكون عطف بيان ﴿ لحسن مآب ﴾، على قوله. لأن جريان المعرفة على النكرة عطف بيان لا قائل به. فإن القائل قائلان :
أحدهما : أنه لا يكون إلا في المعارف، كقول البصريين.
والثاني : أنه يكون في المعارف والنكرات بشرط المطابقة، كقول الكوفيين وأبي على الفارسي.
وقوله : أن في ﴿ مفتحة ﴾ ضمير الجنات. فالظاهر خلافه. فإن الأبواب مرتفع به ولا ضمير فيه.
وقوله : إن ﴿ الأبواب ﴾ بدل اشتمال. فبدل الاشتمال قد صرح هو وغيره : أنه لا بد فيه من الضمير. وإن نازعهم فيه آخرون، ولكن يجوز أن يكون الضمير ملفوظا به. وأن يكون مقدرا. وهاهنا لم يلفظ به. فلا بد من تقدير، أي الأبواب منها. فإذا كان التقدير : مفتحة لهم هي الأبواب منها : كان فيه تكثير للإضمار وتقليله أولى.
إن لفظ «اليد » جاء في القرآن على ثلاثة أنواع : مفردا، ومثنى، ومجموعا :
فالمفرد : كقوله :﴿ بيده الملك ﴾ [ الملك : ١ ]. والمثنى : كقوله :﴿ خلقت بيدي ﴾ والمجموع : كقوله :﴿ عملت أيدينا ﴾ [ يس : ٧١ ].
فحيث ذكر اليد مثناة. أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدى الفعل بالباء إليهما، وقال :﴿ خلقت بيدي ﴾. وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها، ولم يعد الفعل بالباء.
فهذه ثلاثة فروق : فلا يحتمل ﴿ خلقت بيدي ﴾ من المجاز ما يحتمله :﴿ عملت أيدينا ﴾ [ يس : ٧١ ] فإن كل أحد يفهم من قوله ﴿ عملت أيدينا ﴾ ما يفهمه من قوله : عملنا وخلقنا، كما يفهم ذلك من قوله :﴿ فبما كسبت أيديكم ﴾ [ الشورى : ٣٠ ].
وأما قوله ﴿ خلقت بيدي ﴾ فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى، فكيف وقد دخلت عليها الباء ؟ فكيف إذا ثنيت ؟
وسر الفرق : أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه كقوله :﴿ بما قدمت يداك ﴾ [ الحج : ١٠ ]، ﴿ فبما كسبت أيديكم ﴾ [ الشورى : ٣٠ ] وأما إذا أضيف إليه الفعل، ثم عدي بالباء إلى يده مفردة أو مثناة، فهو مما باشرته يده، ولهذا قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه :«إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا : خلق آدم بيده، وغرس جنة الفردوس بيده، وكتب التوراة بيده »، فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك، ولا كانت لآدم رضي الله عنه فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن «أهل الموقف يأتونه يوم القيامة، فيقولون : يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده » وكذلك قال آدم لموسى – عليهما السلام - في محاجته له :«اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده » وفي لفظ آخر :«كتب لك التوراة بيده » وهو من أصح الأحاديث.
وكذلك الحديث المشهور :«أن الملائكة قالوا : يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون، وينكحون، ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الأخرى، فقال الله تعالى : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له : كن فكان ».
وهذا التخصيص إنما فهم من قوله :﴿ خلقت بيدي ﴾ فلو كان مثل قوله :﴿ ما عملت أيدينا ﴾ لكان هو والأنعام في ذلك سواء. فلما فهم المسلمون أن قوله :﴿ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ﴾ [ ص : ٧٥ ] يوجب له تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له، وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه : كانت التسوية بينه وبين قوله :﴿ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ﴾ [ يس : ٧١ ]
خطأ محضا.
Icon