تفسير سورة الزخرف

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

﴿والكتاب﴾
377
أي وإعجاز هذا الجامع لكل خير وغير ذلك من أنواع عظمته ﴿المبين﴾ أي البين في نفسه، المبين لجميع ما فيه من العظمة والشرائع والسنن، واللطائف والمعارف والمنن، بياناً عظيماً شافياً.
ولما كانوا ينكرون أن يرجعوا به عما هم فيه، وأن يكون من عند الله، أكد ما يكذبهم من قوله فيما مضى آخر الشورى أنه نور وهدىً وروح معبراً بالجعل لذلك دون الإنزال لأنه قد دل عليه جميع السور الماضية تارة بلفظه وأخرى بلفظ الوحي، فقال مقسماً بالكتاب على عظمة الكتاب، قال السمين: ومن البلاغة عندهم كون القسم والمقسم عليه من واد واحد، وهذا إن أريد بالكتاب القرآن فإن أريد به أعم منه كان بعض القسم به، وصرف القول إلى مظهر العظمة تشريفاً للكتاب: ﴿إنا جعلناه﴾ أي صيرناه ووضعناه وسميناه مطابقة لحاله بالتعبير عن معانيه بما لنا من العظمة ﴿قرآناً﴾ أي مع كونه مجموع الحروف والمعاني جامعاً، ومع كونه جامعاً فارقاً بين
378
الملتبسات ﴿عربياً﴾ أي جارياً على قوانين لسانهم في الحقائق والمجازات والمجاز فيه أغلب لأنه أبلغ ولا سيما الكنايات والتمثيلات، وصرف القول عن تخصيص نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخطاب إلى خطابهم تشريفاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهم فيما يريده بهم وتنبيهاً على سفول أمرهم في وقت نزولها فقال: ﴿لعلكم تعقلون *﴾ أي لتكونوا أيها العرب على رجاء عند من يصح منه رجاء من أن تعقلوا أنه من عندنا لم تبغوا له أحداً علينا وتفهموا معانيه وجميع ما في طاقة البشر مما يراد به من حكمه وأحكامه، وبديع وصفه ومعجز وصفه ونظامه، فترجعوا عن كل ما أنتم فيه من المغالبة، ولا بد أن يقع هذا الفعل، فإن القادر إذا عبر بأداة الترجي حقق ما يقع ترجيه، ليكون بين كلامه وكلام العاجز فرق، وسيبلغ هذا الجامع أقصاكم كما عرض على أدناكم وكل منكم يعلم أنه عاجز عن مباراة آية منه في حسن معناها، وجزالة ألفاظها وجلالة سبكها، ونظم كل كلمة منها بالمحل الذي لا يمكن زحزحتها عنه بتقديم ولا تأخير، ولا أن يبدل شيء منها بما يؤدي معناه أو يقوم مقامه، كما أن ذلك في غاية الظهور في موازنة ﴿في القصاص حياة﴾ [البقرة: ١٧٩] مع «القتل أنفى للقتل» وذلك بعض آية فكيف بآية
379
فما فوقها فتخضع له جبابرة ألبابكم وتسجد له جباه عقولكم، وتذل لعزته شوامخ أفكاركم، فتبادرون إلى تقبله وتسارعون إلى حفظه وتحمله علماً منكم بأنه فخر لكم لا يقاربه فخر، وعز لا يدانيه عز، ثم يتأمل الإنسان منكم من خالفه فيه من بعيد أو قريب ولد أو والد إلى أن تدين له الخلائق، وتتصاغر لعظمته الجبال الشواهق، والآية ناظرة إلى آية فصلت
﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا﴾ الآية [فصلت: ٤٤].
ولما كانوا ينكرون تعظيمه عناداً وإن كانوا يقرون بذلك في بعض الأوقات، قال مؤكداً لذلك وتنبيهاً على أنه أهل لأن يقسم به، ويزاد في تعظيمه لأنه لا كلام يشبه، بل ولا يدانيه بوجه: ﴿وإنه﴾ أي القرآن، وقدم الظرفين على الخبر المقترن باللام اهتماماً بهما ليفيد بادئ بدء أن علوه وحكمته ثابتة في الأم وأن الأم في غاية الغرابة عنده ﴿في أم الكتاب﴾ أي كائناً في أصل كل كتاب سماوي، وهو اللوح المحفوظ، وزاد في شرفه بالتعبير بلدى التي هي لخاص الخاص وأغرب المستغرب ونون العظمة فقال
380
مرتباً للظرف على الجار ليفيد أن أم الكتاب من أغرب الغريب الذي عنده ﴿لدينا﴾ على ما هو عليه هناك ﴿لعليّ﴾.
ولما كان العلي قد يتفق علوه ولا تصحبه في علوه حكمة، فلا يثبت له علوه، فيتهور بنيانه وينقص سفوله ودنوه، قال: ﴿حكيم﴾ أي بليغ في كل من هاتين الصفتين راسخ فيهما رسوخاً لا يدانيه فيه كتاب فلا يعارض في عليّ لفظه، ولا يبارى في حكيم معناه، ويعلو ولا يعلى عليه بنسخ ولا غيره، بل هناك مكتوب بأحرف وعبارات فائقة رائقة تعلو عن فهم أعقل العقلاء، ولا يمكن بوجه أن يبلغها أنبل النبلاء، إلا بتفهيم العلي الكبير، الذي هو على كل شيء قدير.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أخر سبحانه بامتحان خلف بني إسرائيل في شكهم في كتابهم بقوله: ﴿وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب﴾ [الشورى: ١٤] ووصى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتبري من سيئ حالهم والتنزه عن سوء محالهم فقال ﴿ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب﴾ الآية [الشورى: ١٥] وتكرر الثناء على الكتاب العربي كقوله ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً﴾ [الشورى: ٧] وقوله ﴿الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان﴾ [الشورى: ١٧] وقوله {وكذلك أوحينا إليك روحاً
381
من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} - إلى آخر السورة، أعقب ذلك بالقسم به وعضد الثناء عليه فقال ﴿حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾ ولما أوضح عظيم حال الكتاب وجليل نعمته به، أردف ذلك بذكر سعة عفوه وجميل إحسانه إلى عباده ورحمتهم بكتابه مع إسرافهم وقبيح مرتكبهم فقال: ﴿أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين﴾ ولما قدم في الشورى قوله ﴿لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً﴾ فأعلم أن ذلك إنما يكون بقدرته وإرادته، والجاري على هذا أن يسلم الواقع من ذلك ويرضى بما قسم واختار، عنف تعالى في هذه السورة من اعتدى وزاغ فقال ﴿وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم﴾ فكمل الواقع هنا بما تعلق به، وكذلك قوله تعالى ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض﴾ وقوله في الزخرف ﴿ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة﴾ إلى آخره - انتهى.
382
ولما أفهم تكرير هذا التأكيد أنهم يطعنون في علاه، ويقدحون في بديع حلاه، فعل من يكرهه ويأباه، إرادة للإقامة على ما لا يحبه الله ولا يرضاه، قال منكراً عليهم: ﴿أفنضرب﴾ أي نهملكم فنضرب أن ننحي ونسير مجاوزين ﴿عنكم﴾ خاصة من بين بني إبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿الذكر﴾ أي الوعظ المستلزم للشرف ﴿صفحاً﴾ أي بحيث يكون حالنا معكم حال المعرض المجانب بصفحة عنقه، فلا نرسل إليكم رسولاً، ولا ننزل معه كتاباً فهو مفعول له أي نضرب لأجل إعراضنا عنكم، أو يكون ظرفاً بمعنى جانباً أي نضربه عنكم جانباً، قال الجامع بين العباب والمحكم: أضربت عن الشيء: كففت وأعرضت، وضرب عنه الذكر وأضرب عنه: صرفه، وقال الإمام عبد الحق في الواعي: والأصل في ضرب عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابته فأراد أن يصرفه عن جهته ضربه بعصاه ليعدله عن جهته إلى الجهة التي يريدها، فوضع الضرب في موضع الصرف والعدل، قال الهروي: قال الأزهري: يقال: ضربت عنه وأضربت بمعنىّ واحد، ونقل النواوي عنه أنه قال: إن المجرد قليل، فالحاصل أن الضرب
383
إيقاع شيء على آخر بقوة، فمجرده متعد إلى واحد، فإن عدي إلى آخر ب «عن» ضمن معنى الصرف، وإذا زيدت همزة النقل فقيل: أضربت عنه، أفادت الهمزة قصر الفعل، وأفهمت إزالة الضرب، فمعنى الآية: أفنضرب صارفين عنكم الذكر صفحاً، أي معرضين إعراضاً شديداً حتى كأنا ضربنا الذكر لينصرف عنكم معرضاً كإعراض من ولى إلى صفحة عنقه، ثم علل إرادتهم هذا الإعراض بما يقتضي الإقبال بعذاب أو متاب فقال: ﴿أنْ﴾ أي أنفعل ذلك لأن ﴿كنتم قوماً مسرفين﴾ أي لأجل أن كان الإسراف جبلة لكم وخلقاً راسخاً، وكنتم قادرين على القيام به في تكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقدح فيما يأتي به والاستهزاء بأمره بترككم خشية من شدتكم أو رجاء من غير تذكير لتوبتكم وقد جعل حينئذ المقتضى مانعاً، فإن المسرف أجدر بالتذكير وأحوج إلى الوعظ، هذا إن كان مقرباً، وأما البعيد فإنه لا يلتفت إليه من أول الأمر، بل لو أراد القرب طرد، وعلى قراءة نافع وحمزة والكسائي بكسر «إن» على كونها شرطية يكون الكلام مسبوقاً على غاية ما يكون من الإنصاف، فيكون المعنى:
384
أنترككم مهملين فننحي عنكم الذكر والحال أنكم قوم يمكن أن تكونوا متصفين بالإسراف، يعني أن المسرف أهل لأن يوعظ ويكلم بما يرده عن الإسراف، وأنتم وإن ادعيتم أنكم مصلحون لا تقدرون أن تدفعوا عنكم إمكان الإسراف فكيف يدفع عنكم إنزال الذكر الواعظ وأنتم بحيث يمكن أن تكونوا مسرفين فتحتاجوا إليه - هذا ما لا يفعله حكيم في عباده، بل هو سبحانه للطفه وزيادة بره لا يترك دعاء عباده إلى رحمته وإن كانوا مسرفين قد أمعنوا في الشراد، والجحد والعناد، فيدعوهم بأبلغ الحجة، وهو هذا القرآن الذي هو أشرف الكتاب على لسان هذا النبي الذي هو أعظم الرسل ليهتدي من قدرت هدايته وتقوم الحجة على غيره.
ولما كان المعنى أن لا نترككم هملاً، كان كأنه قيل: هيهات منكم فلنرفعنكم كما رفعنا بني إسحاق من إسرائيل وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فلقد أرسلنا إليكم مع أنكم أعلى الناس رسولاً هو أشرفكم نسباً وأزكاكم
385
نفساً وأعلاكم همة وأرجحكم عقلاً وأوفاكم أمانة وأكرمكم خلقاً وأوجهكم عشيرة، فعطف قوله تأنيساً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأسية وتعزية وتسلية: ﴿وكم أرسلنا﴾ أي على ما لنا من القدرة على ذلك والعظمة الباهرة المقتضية لذلك.
ولما كان الإرسال يقع على أنحاء من الأشكال، ميزه بأن قال: ﴿من نبي في الأولين﴾ ثم حكى حالهم الماضية إشارة إلى استمرار حال الخلق على هذا فقال: ﴿وما﴾ أي والحال أنه ما ﴿يأتيهم﴾ وأغرق في النفس بقوله: ﴿من نبي﴾ أي في أمة بعد أمة بعد أمة وزمان بعد زمان ﴿إلا كانوا﴾ أي خلقاً وطبعاً وجبلة ﴿به يستهزءون *﴾ كما استهزأ قومك، وتقديم الظرف للإشارة إلى أن استهزاءهم به لشدة مبالغتهم فيه كأنه مقصور عليه.
386
ولما كان الاستهزاء برسول الملك استهزاء به، وكانت المماليك إنما تقام بالسياسة بالرغبة والرهبة وإيقاع الهيبة حتى يتم الجلال وتثبت العظمة، فكان لذلك لا يجوز في عقل عاقل أن يقر ملك على الاستهزاء به، سبب عن الاستهزاء بالرسل الهلاك فقال: ﴿فأهلكنا﴾ وكان الأصل الإضمار، ولكنه أظهر الضمير بياناً لما كان في الأولين من
386
الضخامة صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم فقال: ﴿أشد منهم﴾ أي من قريش الذي يستهزئون بك ﴿بطشاً﴾ من جهة العد والعدد والقوة والجلد فما ظنهم بأنفسهم وهم أضعف منهم إن تمادوا في الاستهزاء برسول الله الأعلى.
ولما ذكر إهلاك أولئك ذكر أن حالهم عن الإهلاك كان أضعف حال ليعتبر هؤلاء فقال: ﴿ومضى مثل الأولين *﴾ أي وقع إهلاكهم الذي كان مثلاً يتمثل به من بعدهم، وذكر أيضاً في القرآن الخبر عنه بما حقه أن يشير مشير المثل بل ذكر أن من عبده الأولون واعتمدوا علهي مثل بيت العنكبوت فكيف بالأولين أنفسهم فكيف بهؤلاء، فإن الحال أدى إلى أنهم أضعف من الأضعف من بيت العنكبوت فلينتظروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك، بأيدي جند الله من البشر أو الملائكة.
ولما كان التقدير: فلئن سألتهم عمن سمعوا بخبره ممن ذكرناهم من الأولين ليعترفن بما سمعوا من خبرهم لأنا لم نجعل لهم على المباهتة فيه جرأة لما طبعناهم عليه في أغلب أحوالهم من الصدق، عطف
387
عليه قولهم مبيناً لجهلهم بوقوعهم في التناقض مؤكداً له لما في اعترافهم به من العجب المنافي لحالهم: ﴿ولئن سألتهم﴾ أيضاً عما هو أكبر من ذلك وأدل على القدرة، وجميع صفات الكمال فقلت لهم: ﴿من خلق السماوات﴾ على علوها وسعتها ﴿والأرض﴾ على كثرة عجائبها وعظمتها ﴿ليقولن﴾ أي من غير توقف.
ولما كان السؤال عن المبتدأ، كان الجواب المطابق ذكر الخبر، فكان الجواب هنا: الله - كما في غيره من الآيات، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى ما يفيد من الأوصاف القدرة على كل شيء، وأنه تعالى يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء مكرراً للفعل تأكيداً لاعترافهم زيادة في توبيخهم وتنبيهاً على عظيم غلطهم، فقال معبراً بما هو لازم لاعترافهم له سبحانه بالتفرد بالإيجاد لأنه أنسب الأشياء لمقصود السورة وللإبانة التي هي مطلعها. ﴿خلقهن﴾ الذي هو موصوف بأنه ﴿العزيز العليم *﴾ أي الذي يلزم المعترف بإسناد هذا الخلق إليه أن يعترف بأنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء
388
وأن علمه محيط بكل شيء، فيقدر على إيجاده على وجه من البداعة ثم على أكمل منه ثم أبهج منه وهلم جرا إلى ما لا نهاية له - هذا هو الأليق بكمال ذاته وجليل صفاته، ونعوذ بالله من عمى المعتزلة والفلاسفة أصحاب الأذهان الجامدة والعقول الكاسدة والعرب لجهلهم يعبدون مع اعترافهم بهذا غيره، وذلك الغير لا قدرة له على شيء أصلاً، ولا علم له بشيء أصلاً، فقد كسر هذا السؤال بجوابه حجتهم، وبان به غلطهم وفضيحتهم، حتى بان لأولي الألباب أنهم معاندون.
ولما كان جوابهم بغير هاتين الصفتين ودل بذكرهما على أنهما لا زمان لاعترافهم تنبيهاً لهم على موضع الحجة، أتبعهما من كلامه دلالة على ذلك قوله التفاتاً إلى الخطاب لأنه أمكن في التقريع والتوبيخ والتشنيع وتذكيراً لهم بالإحسان الموجب للإذعان وتفصيلاً للقدرة: ﴿الذي جعل لكم﴾ فإنه لو كان ذلك قولهم لقالوا لنا ﴿الأرض مهداً﴾ أي فراشاً، قارة ثابتة وطية، ولو شاء لجعلها مزلزلة لا يثبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال، أو جعلها مائدة لا تثبت لكونها على تيار الماء، ولما جعل الأرض قراراً لأشباحكم جعل الأشباح قراراً لأرواحكم وطوقها حمل قرارها وقوة التصرف به في حضورها
389
وأسفارها ليدلكم ذلك على تصرفه سبحانه في الكون وتصريفه له حيث أراد، وأنه الظاهر الذي لا أظهر منه والباطن الذي لا أبطن منه، قال القشيري: فإذا انتهى مدة كون النفوس على الأرض حكم الله بخرابها، كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكلية قضى الله بخرابها، وأعاد الفعل تنبيهاً على تمكنه تعالى من إقامة الأسباب لتيسير الأمور الصعاب إعلاماً بأنه لا يعجزه شيء: ﴿وجعل لكم فيها سبلاً﴾ أي طرقاً تسلكونها بين الجبال والأودية، ولو شاء لجعلها بحيث لا يسلك في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك، ثم ذكر العلة الغائبة في ذلك فقال: ﴿لعلكم تهتدون﴾ أي ليكون خلقنا لها كذلك جاعلاً حالكم حال من يرجى له الهداية إلى مقاصد الدنيا في الأسفار وغيرها ظاهراً فتتوصلون بها إلى الأقطار الشاسعة والأقاليم الواسعة للأمور الرافقة النافعة، فإنها إذا تكرر سلوكها صار لها من الآثار الناشئة من كثرة التكرار ما يهدي كل مار وإلى المقاصد الأخرى وحكمتها
390
باطناً إذا تأمل الفطن حكمة مسخرها وواضعها وميسرها.
ولما كان إنزال الماء من العلو في غاية العجب لا سيما إذا كان في وقت دون وقت، وكان إنبات النبات به أعجب، وكان دالاً على البعث ولا بد، وكان مقصود السورة أنه لا بد من ردهم عن عنادهم بأعظم الكفران إلى الإيمان، والخضوع له بغاية الإذعان، قال دالاً على كمال القدرة على ذلك وغيره بالتنبيه على كمال الوصف بالعطف وبإعادة الموصول الدال على الفاعل المذكر بعظمته للتنبيه على أن الإعادة التي هذا دليلها هي سر الوجود، فهي أشرف مما أريد من الآية الماضية بمهد الأرض وسلك السبل: ﴿والذي نزل﴾ أي بحسب التدريج، ولولا قدرته الباهرة لكان دفعة واحدة أو قريباً منها ﴿من السماء﴾ أي المحل العالي ﴿ماء﴾ عذباً لزروعكم وثماركم وشربكم بأنفسكم وأنعامكم ﴿بقدر﴾ وهو بحيث ينفع الناس ولا يضر بأن يكون على مقدار حاجاتهم، ودل على عظمة الإنبات بلفت القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أنه الدليل الظاهر على ما وصل به من نشر الأموات فقال مسبباً عن ذلك: ﴿فأنشرنا﴾ أي أحيينا، والمادة تدور على الحركة والامتداد
391
والانبساط ﴿به﴾ أي الماء ﴿بلدة﴾ أي مكاناً يجتمع الناس فيه للإقامة معتنون بإحيائه متعاونون على دوام إبقائه ﴿ميتاً﴾ أي كان قد يبس نباته وعجز أهله عن إيصال الماء إليه ليحيى به، ولعله أنث البلد وذكر الميت إشارة إلى أن بلوغها في الضعف والموت بلغ الغاية بضعف أرضه في نفسها وضعف أهله عن إحيائه وقحط الزمان واضمحلال ما كان به من النبات.
ولما كان لا فرق بين جمع الماء للنبات من أعماق الأرض بعد أن كان تراباً من جملة ترابها وإخراجه كما كان رابياً يهتز بالحياة على هيئته وألوانه وما كان من تفاريعه أغصانه بأمر الله وبين جميع الله تعالى لما تفتت من أجساد الآدميين وإخراجه كما كان بروحه وجميع جواهره وأعراضه إلا أن الله قادر بكل اعتبار وفي كل وقت بلا شرط أصلاً، والماء لا قدرة له إلا بتقدير الله تعالى، كان فخراً عظيماً لأن تنتهز الفرصة لتقدير ما هم له منكرون وبه يكفرون من أمر البعث، فقال تعالى إيقاظاً لهم من رقدتهم بعثاً من موت سكرتهم: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الإخراج العظيم لما تشاهدونه من النبات ﴿تخرجون﴾ من الموت الحسي والمعنوي بأيسر أمر من أمره تعالى وأسهل شأن
392
فتخرجون في زمرة الأموات من الأرض ثانياً ﴿فإذا أنتم بشر تنتشرون﴾ [الروم: ٢٠] وتخرجون من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان فإذا أنتم حكماء عالمون.
ولما انتهزت هذه الفرصة، وسوغ ذكرها ما أثره سوء اعتقادهم من عظيم الغصة، شرع في إكمال ما يقتضيه الحال من الأوصاف، فقال عائداً إلى أسلوب العزة والعلم للإيماء إلى الحث على تأمل الدليل على بعث الأموات بانتشار الموات معيداً للعاطف تنبيهاً على كمال ذلك الوصف الموجب لتحقيق مقصود السورة من القدرة على ردهم بعد صدهم: ﴿والذي خلق الأزواج﴾ أي الأصناف المتشاكلة التي لا يكمل شيء منها غاية الكمال إلا بالآخر على ما دبره سبحانه في نظم هذا الوجود ﴿كلها﴾ من النبات والحيوان، وغير ذلك من سائر الأكوان، لم يشاركه في شيء منها أحد.
ولما ذكر الأزواج، وكان المتبادر إلى الذهن إطلاقها على ما هو من نوع واحد، دل على أن المراد ما هو أعم، فقال ذاكراً ما تشاكل في الحمل وتباين في الجسم: ﴿وجعل لكم﴾ لا لغيركم فاشكروه ﴿من الفلك﴾ أي السفن العظام في البحر ﴿والأنعام﴾ في البر ﴿ما تركبون *﴾ وحذف العائد لفهم المعنى تغليباً للمتعدي بنفسه في الأنعام على المتعدي بواسطة في الفلك.
393
ولما ذكر النعمة الناشئة عن مطلق الإيجاد، ذكر بنعمة الراحة فيه فقال معللاً: ﴿لتستووا﴾ أي تكونوا مع الاعتدال والاستقرار والتمكن والراحة ﴿على ظهوره﴾ أي ظهور كل من ذلك المجعول، فالضمير عائد على ما جمع الظهر نظراً للمعنى تكثيراً للنعمة، وأفرد الضمير رداً على اللفظ دلالة على كمال القدرة بعظيم التصريف براً وبحراً أو تنبيهاً بالتذكير على قوة المركوب لأن الذكر أقوى من الأنثى.
ولما أتم النعمة بخلق كل ما تدعو إليه الحاجة، وجعله على وجه دال على ما له من الصفات، ذكر ما ينبغي أن يكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم، فقال دالاً على عظيم قدر النعمة وعلو غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي: ﴿ثم تذكروا﴾ أي بقلوبكم، وصرف القول إلى وصف التربية حثاً على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال: ﴿نعمة ربكم﴾ الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها لكم وما تعرفونها من غيرها.
ولما كان الاعتدال عليه أمراً خارقاً للعادة بدليل ما لا يركب من الحيوانات في البر والجوامد في البحر وإن كان قد أسقط العجب فيه كثرة إلفه ذكر به فقال: ﴿إذا استويتم عليه﴾ ولما كان تذكر النعمة
394
يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال: ﴿وتقولوا﴾ أي بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان. ولما كان الاستواء على ذلك مقتضياً لتذكر النقص بالاحتياج إليها في بلوغ ما ركبت لأجله وفي الثبات عليها وخوف العطب منها وتذكر أن من لا يزال يحسن إلى أهل العجز الذين هم في قبضته ابتداء وانتهاء من غير شيء يرجوه منهم لا يكون إلا بعيداً من صفات الدناءة وأن استواءه على عرشه ليس كهذا الاستواء المقارن لهذه النقائص وأنه ليس كمثله شيء، كان المقام للتنزيه فقال: ﴿سبحان الذي سخر﴾ أي بعلمه الكامل وقدرته التامة ﴿لنا هذا﴾ أي الذي ركبناه سفينة كان أو دابة ﴿وما﴾ أي والحال أنا ما ﴿كنا﴾ ولما كان كل من المركوبين في الواقع أقوى من الركاب، جعل عدم إطاقتهم له وقدرتهم عليه كأنه خاص به، فقال مقدماً للجار دلالة على ذلك: ﴿له مقرنين﴾ أي ما كان في جبلتنا إطاقة أن يكون قرناً له وحده لخروج قوته من بين ما نعالجه ونعانيه عن طاقتنا
395
بكل اعتبار ولا مكافئين في القوة غالبين ضابطين، مطيقين من أقرن الأمر: أطاقه وقوي عليه فصار بحيث يقرنه بما شاء.
396
ولما كان كل راكب شيئاً من هذين الصنفين مستحضراً كل حين أنه ينقلب بطن شقة أسفاره إلى محل قراره، ذكرهم سبحانه بذلك أن ظهر هذه الأرض لهم مثل ظهور السفن والدواب يسبحون بها في لجج أمواج الزمان وتصاريف الحدثان، هم على ظهرها مسافرون، ولكنهم لطول الإلف عنه غافلون، وقليلاً ما يذكرون، وأنهم على خطر فيما صاروا إليه من ظهور هذه الأشياء يوشك أن يكون سبب موتهم ومثير هلكهم وقوتهم، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن ربنا كان ابتداؤنا لا نعلم شيئاً ولا نقدر على شيء، والآن نحن متى شئنا ساكنون، ومهما أردنا منتشرون ﴿وإنا إلى ربنا﴾ المحسن إلينا بالبداءة والإقرار على هذه التنقلات على هذه المراكيب لا إلى غيره ﴿لمنقلبون﴾ أي لصائرون ومتوجهون وسائرون بالموت وما بعده إلى الدار الآخرة انقلاباً لا إياب معه إلى هذه الدار، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي، وأكد لأجل إنكارهم للبعث حتى لا يزالوا مراقبين
396
للمنعم عليهم، ويجوز أن يكون المعنى أنه لما أمرهم بالمراقبة على نعمة الركوب، عبر بالانقلاب تذكيراً بنعمته عليهم في حال الدعة والسكون قبل الانقلاب وبعده، أي وإنا بعد رجوعنا إلى نعمة ربنا لمنقلبون أي وإنا في نعمة في كل حال، روى أحمد وأبو داود والترمذي - وقال: حسن صحيح - والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه وضع رجله في الركاب وقال: بسم الله، فلما استوى على الدابة قال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا - الآية، ثم حمد الله ثلاثاً وكبر ثلاثاً ثم قال: سبحانك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، ثم ضحك، وأخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل مثله، وقال: «يعجب الرب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري»
روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أردفه على دابة، فلما استوى عليها كبر ثلاثاً وحمد الله ثلاثاً وسبح ثلاثاً وهلل الله واحدة ثم استلقى عليه فضحك ثم أقبل علي فقال: ما من امرىء مسلم يركب دابته فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عليه يضحك إليه كما ضحكت إليك» وروى أحمد ومسلم وأبو داود
397
والنسائي والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا ركب راحلته ثلاثاً ثم قال: «سبحان الذي سخر لنا هذا الآية، ثم يقول: اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا السفر واطو لنا البعيد، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصبحنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا، وكان إذا رجع إلى أهله قال: آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربينا حامدون»
وروى أحمد عن أبي لاس الخزاعي رضي الله عنه قال: «حملنا رسول الله صلى الله عليه وآله على إبل من إبل الصدقة إلى الحج، فقلنا: يا رسول الله! ما نرى أن تحملنا هذه، فقال: ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما أمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عز وجل». ولما علم بهذا الاعتراف منه وما تبعه من التقريب أن العالم كله متزاوج بتسخير بعضه لبعض، فثبت أن خالقه مباين له لا يصح أصلاً أن يكون محتاجاً بوجه لأنه لا مثل له أصلاً، كان موضع التعجيب من نسبتهم الولد إليه سبحانه: فقال لافتاً القول عن خطابهم للإعراض المؤذن بالغضب: ﴿وجعلوا﴾ أي ولئن سألتهم ليقولن كذا اللازم منه قطعاً لأنه لا مثل ﴿له﴾ والحال أنهم نسبوا له وصيروا بقولهم قبل
398
سؤالك إياهم نسبة هم حاكمون بها حكماً لا يتمارون فيه كأنهم متمكنون من ذلك تمكن الجاعل فيه يجعله ﴿من عباده﴾ الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم ﴿جزءاً﴾ أي ولداً هو لحصرهم إياه في الأنثى أحد قسمي الأولاد، وكل فهو جزء من والده، ومن كان له جزء كان محتاجاً فلم يكن إلهاً وذلك لقولهم: الملائكة بنات الله، فثبت بذلك طيش عقولهم وسخافة آرائهم.
ولما كان هذا في غاية الغلظة من الكفر، قال مؤكداً لإنكارهم أن يكون عندهم كفر: ﴿إن الإنسان﴾ أي هذا النوع الذي هم بعضه ﴿لكفور مبين﴾ أي مبين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر بياناً لذلك لكل أحد هذا ما يقتضيه طبعه بما هو عليه من النقص بالشهوات والحظوظ ليبين فضل من حفظه الله بالعقل على من سواه من جميع المخلوقات بمجاهدته لعدو وهو بين جنبيه مع ظهور قدرة الله الباهرة بذلك.
ولما كان كأنه قيل إنكاراً عليهم وتهكماً بهم حيث لم يرضوا بأن جعلوا لمن إليه الجعل من عباده جزءاً حتى جعلوه شر الجزئين الإناث، وهم أشد الناس نفرة منهن: أوهب له ذلك الجزء الذي جعلتموه إناثاً غيره قسراً بحيث لم يقدر أن ينفك عنه كما قدم في السورة
399
التي قبله عن نفسه المقدس أنه يهب لمن يشاء إناثاً ولا يقدر على التقصير عنهن بوجه، عادله بقوله عائداً إلى الخطاب لأنه أقعد في التبكيت على اختيار الغي عن الصواب: ﴿أم اتخذ﴾ أي عالج هو نفسه فأخذ بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم ﴿مما يخلق﴾ أي يجدد إبداعه في كل وقت كما اعترفتم ﴿بنات﴾ فلم يقدر بعد التكليف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزئين إليكم، ونكر لتخصيصهم اتخاذه ببعض هذا الصنف الذي شاركه فيه غيره، وعطف على قوله «اتخذ» ليكون منفياً على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار: ﴿وأصفاكم﴾ وهو السيد وأنتم عبيده ﴿بالبنين﴾ أي الجزء الأكمل لديكم المستحق لأن يكون دائماً مستحضراً في الخاطر فلذلك عرفه ولأنهم ادعوا أن هذا النوع كله خاص بهم لم يشاركهم في شيء منه، فكان هذا الكفر الثاني أعرق في المحال من الأول للزيادة على مطلق الحاجة بالسفه في أنه رضي بالدون الخسيس فلم يشاركهم في شيء من الأعلى، بل جعل لهم ذلك خالصاً صافياً عن أدنى ما يشوبه من كدر.
ولما كانت نسبة الولد إليه سبحانه مما لا يبنغي أن يخطر بالبال على حال من الأحوال.
400
وكانت نسبته على سبيل الحقيقة أبعد منها على طريق المثال بأن يقال: الملائكة عنده في العزة بمنزلة البنات عند الأب، قال مرشداً إلى أن ما قالوه لو كان على قصد التمثيل في غاية القباحة فضلاً عن أن يكون على التحقيق، عائداً إلى الإعراض المؤذن بالمقت والإبعاد: ﴿وإذا﴾ أي جعلوا ذلك والحال أنه إذا ﴿بشر﴾ من أي مبشر كان ﴿أحدهم﴾ أطلق عليه ذلك تنبيهاً على أنه مما يسر كالذكر سواء في أن كلاً منهما ولد وتارة يسر وتارة يضر وهو نعمة من الخالق لأنه خير من العقم ﴿بما ضرب﴾ وعدل عن الوصف بالربوبية لأنه قد يدعى المشاركة في مطلق التربية إلى الوصف الدال على عموم الرحمة، فتأمله بمجرده كاف في الزجر عن سوء قولهم فقال: ﴿للرحمن﴾ أي الذي لا نعمة على شيء من الخلق إلا وهي منه ﴿مثلاً﴾ أي جعل له شبهاً وهو الأنثى، وعبر به دونه أن يقول: بما جعل، موضع «بما ضرب» تعليماً للأدب في حقه سبحانه في هذه السورة التي مقصودها العلم الموجب للأدب وزيادة في تقبيح كفرهم لا سيما إن أرادوا الحقيقة بالإشارة إلى أن الولد لا يكون إلا مثل الوالد، لا يتصور أصلاً أن يكون خارجاً عن شبهه في خاص أوصافه.
401
ولما كان تغير الوجه لا سيما بالسواد لا يدرك حق الإدراك إلا بالنهار، عبر بما هو حقيقة في الدوام نهاراً وإن كان المراد هنا مطلق الدوام: ﴿ظل﴾ أي دام ﴿وجه مسوداً﴾ أي شديد السواد لما يجد من الكراهة الموصلة إلى الحنق بهذه البشارة التي أبانت التجربة عن أنها قد تكون سارة ﴿وهو كظيم﴾ أي حابس نفسه على ما ملئ من الكرب فكيف يأنف عاقل من شيء ويرضاه لعبده فضلاً عن مكافيه فضلاً عن سيده - هذا ما لا يرضى عاقل أن يمر بفكره فضلاً عن أن يتفوه به.
ولما كان الملك لا يأخذ في جنده إلا من يصلح للجندية بالمجالدة والمجادلة أو بإحداهما، نبه على إنكار آخر بأن الإناث لا يصلحن لشيء من هذين الوصفين، فقال معبداً لإنكار الثالث تنبيهاً على أنه بالغ جداً في إثارة الغضب: ﴿أو من﴾ أي اتخذ من لا يرضونه لأنفسهم.
.. لنفسه مع أنفتهم منه واتخذ من ﴿ينشؤا﴾ أي على ما جرت به عوائدكم على قراءة الجماعة، ومن تنشؤونه وتحلونه بجهدكم على قراءة ضم الباء وتشديد الشين ﴿في الحلية﴾ أي في الزينة فيكون كلا على أبيه لا يصلح لحرب ولا معالجة طعن ولا ضرب ﴿وهو﴾
402
أي والحال أنه، وقدم لإفادة الاهتمام قوله: ﴿في الخصام﴾ إذا احتيج إليه ﴿غير مبين﴾ أي لا يحصل منه إبانة مطلقة كاملة لما يريده لنقصان العقل وضعف الرأي بتدافع الحظوظ والشهوات وتمكن السعة، فلا دفاع عنده بيد ولا لسان.
403
ولما كان ربما ظن أن المحذور إنما هو جعلهم عيهم السلام إناثاً بقيد النسبة إليه سبحانه، نبه على أن ذلك قبيح في نفسه مطلقاً لدلالته على احتقارهم وانتقاصهم فهو كفر ثالث إلى الكفرين قبله: نسبة الولد إليه سبحانه ثم جعل أخص النوعين، فقال: ﴿وجعلوا﴾ أي مجترئين على ما لا ينبغي لعاقل فعله ﴿الملائكة الذين هم﴾ متصفون بأشرف الأوصاف أنهم ﴿عباد الرحمن﴾ العامة النعمة الذي خلقهم فهم بعض من يتعبد له وهم عباده وحقيقة لأنهم ما عصوه طرفه عين، فهم أهل لأن يكونوا على أكمل الأحوال، وقراءة «عند» بالنون شديدة المناداة عليهم بالسفه، وذلك أن أهل حضرة الملك الذين يصرفهم في المهمات لا يكونون إلا على أكمل الأحوال وعنديته أنهم لم يعصوه قط وهم محل مقدس عن المعاصي مشرف بالطاعات وأهل الاصطفاء،
403
وذكر المفعول الثاني للجعل الذي بمعنى التعبير الاعتقادي والقول فقال: ﴿إناثاً﴾ وذلك أدنى الأوصاف خلقاً وذاتاً وصفة، ثم دل على كذبهم في هذا المطلق ليدل على كذبهم في المقيد من باب الأولى فقال تهكماً بهم وتوبيخاً لهم وإنكاراً عليهم إظهاراً لفساد عقولهم بأن دعاويهم مجردة عن الأدلة: ﴿أشهدوا﴾ أي حضروا حضوراً هم فيه على تمام الخبرة ظاهراً وباطناً - هذا هو معنى قراءة الجماعة، وأدخل نافع همزة التوبيخ على أخرى مضمومة بناء الفعل للمفعول تنبيهاً على عجزهم عن شهود ذلك إلا بمن يشهدهم إياه، وهو الخالق لا غيره، ومدها في إحدى الروايتين زيادة في المادة عليهم بالفضيحة، وسهل الثانية بينها وبين الواو إشارة إلى انحطاط أمرهم وسفول آرائهم وأفعالهم، وجميع تقلباتهم وأحوالهم كما سيكشف عنه الزمان ونوازل الحدثان ﴿خلقهم﴾ أي مطلب الخلق في أصله أو عند الولادة أو بعدها على حال من الأحوال حضوراً أوجب لهم تحقق ما قالوا بأن لم يغيبوا عن شيء من الأحوال الدالة على ذلك أعم من أن تكون تلك الشهادة حسية بنظر العين أو معنوية بعلم ضروري أو استدلالي بعقل أو سمع.
ولما كان الجواب قطعاً: لا، قال مهدداً لهم مؤكداً لتهديدهم
404
بالسين لظنهم أن لا بعث ولا حساب ولا حشر ولا نشر فقال: ﴿ستكتب﴾ بكتابة من وكلناهم بهم من الحفظة الذين لا يعصوننا فنحن نقدرهم على جميع ما نأمرهم به - هذا على قراءة الجماعة بالتاء والبناء للمفعول، وعظم الكتابة تفخيماً للوعيد وإكباراً لما اشتمل عليه من التهديد في قراءة النون المفيدة للعظمة والبناء للفاعل ونصب الشهادة ﴿شهادتهم﴾ أي قولهم فيهم أنهم إناث الذي لا ينبغي أن يكون إلا بعد تمام المشاهدة، فهو قول ركيك سخيف ضعيف - بما أشار إليه التأنيث في قراءة الجماعة ﴿ويسألون﴾ عنها عند الرجوع إلينا، ويجوز أن يكون في السين استعطاف إلى التوبة قبل كتابة ولا علم لهم به، فإنه قد روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات، لعله يسبح الله أو يستغفر» رواه الشعبي والبغوي من طريقه والطبراني والبيهقي من طريق جعفر عن القاسم عن أبي أمامة والبيهقي من رواية بشر بن نمير عن القاسم نحوه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه
405
من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء عن عروة بن رويم عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه، وروى الحاكم وقال: صحيح الإسناد عن أم عصمة العوصية رضي الله تعالى عنها قال: «ما من مسلم يعمل ذنباً إلا وقف الملك ثلاث ساعات، فإن استغفر من ذنبه لم يوقعه عليه ولم يعذب يوم القيامة».
ولما ذكر أنهم يسألون بطريق الأولى عن العبادة، نبه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم، فقال معجباً منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه: ﴿وقالوا﴾ أي بعد عبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله: ﴿لو شاء الرحمن﴾ أي الذي له عموم الرحمة ﴿ما عبدناهم﴾ لأن عموم الرحمة يمنع الإقرار على ما لا ينبغي ولكنه لم يشأ عدم عبادتنا لهم فعبدناهم طوع مشيئته، فعبادتنا لهم حق، ولولا أنها حق يرضاه لنا لعجل لنا العقوبة.
ولما كان كأنه قيل: بماذا يجابون عن هذا، قال منبهاً على جوابهم بقوله دالاً على أن أصول الدين لا يتكلم فيها إلا بقاطع: ﴿ما لهم بذلك﴾
406
أي بهذا المعنى البعيد عن الصواب الذي قصدوا جعله دليلاً على حقية عبادتهم لهم وهو أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق ويرضاه ويأمر به، ومن أن الملائكة إناث، وأكد الاستغراق بقوله: ﴿من علم﴾ أي لأنه لو لزم هذا لكان وضعه بعموم الرحمة حينئذ اضطرارياً لا اختيارياً فيؤدي إلى نقص لا إلى كمال، ولكان أيضاً ذلك يؤدي إلى إيجاب أن يكون الناس كلهم مرضياً عنهم لكونهم على حق، وذلك مؤد بلا ريب إلى كون النقيضين معاً حقاً، وهو بديهي الاستحالة.
ولما كان العلم قد ينتفي والمعلوم ثابت في نفسه قال نافياً لذلك: ﴿إن هم﴾ أي ما هم ﴿إلا يخرصون﴾ أي يكذبون في هذه النتيجة التي زعموا أنها دلتهم على رضى الله سبحانه لكفرهم فإنها مبنية على أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق، والذي جرأهم على ذلك أنهم يجددون على الدوام القول بغير تثبت ولا تحر، فكان أكثر قولهم كذباً، فصاروا لذلك يجترئون على تعمد القول للظن الذي لا يأمن صاحبه من الوقوع في صريح، وسيأتي تمام إبطال هذه الشبهة بقوله تعالى ﴿قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين﴾ وأن ذلك هو المراد لا ما طال الخبط فيه لإهمال في السوابق واللواحق الموجبة لسوق المقال، مطابقاً لمقتضى الحال،
407
وقد جهلوا في هذا الكلام عدة جهالات: ادعاء الولدية للغني المطلق، وكون الولد أدنى الصنفين، وعبادتهم لهم مع أنفسهم منهم بغير دليل، واحتياجهم على صحة فعلهم بتقدير علم على ذلك وهو قد نهاهم عنه بلسان كل رسول، وظنهم أنه لا يشاء إلا ما هو الحق المؤدي إلى الجميع بين النقيضين إذ لا ريب فيه ولا خفاء به.
ولما كان الإيمان بالملائكة الذين هم جند الملك من دعائم أصول الدين، وكان الإيمان بالشيء إن لم يكن على ما هو عليه الشيء ولو بأدنى الوجوه كان مختلاً، وأخبر سبحانه أنهم وصفوهم بغير ما هم عليه ففرطوا بوصفهم بالبنات حتى أنزلوهم إلى الحضيض وأفرطوا بالعبادة حتى أعلوهم عن قدرهم فانسلخوا في كلا الأمرين من صريح العقل بما أشار إليه ما مضى، أتبع ذلك أنهم عريئون أيضاً من صحيح النقل، فقال معادلاً لقوله ﴿أشهدوا خلقهم﴾ إنكاراً عليهم بعد إنكار، موجباً ذلك أعظم العار، لافتاً القول عن الوصف بالرحمة تنبيهاً بمظهر العظمة على أن حكمه تعالى متى برز لم يسع سامعة إلا الوقوف عنده والامتثال على كل حال وإلا حل به أعظم النكال: ﴿أم آتيناهم﴾
408
بما لنا من العظمة ﴿كتاباً﴾ أي جامعاً لما يريدون اعتقاده من أقوالهم هذه ﴿من قبله﴾ أي القرآن أخبرناهم فيه أنا جعلناهم إناثاً وأنا لا نشاء إلا ما هو حق نرضاه ونأمر به ﴿فهم﴾ أي فتسبب عن هذا الإيتاء أنهم ﴿به﴾ أي وحده ﴿مستمسكون﴾ أي موجدون الاستمساك به وطالبون للثبات عليه في عبادة غير الله، وفي أن ذلك حق لكونه لم يعاجلهم بالعقوبة، وفي وصفهم الملائكة بالأنوثة، وفي غير ذلك من كل ما يرتكبونه باطلاً، والإنكار يقتضي نفي ما دخل عليه من إيتاء الكتاب كما انتفى إشهاده لهم خلقهم، وهذه المعادلة التي لا يشك فيها من له بصر بالكلام تدل على صحة كون الإشارة في ﴿ما لهم بذلك من علم﴾ شاملة لدعواهم الأنوثة في الملائكة.
ولما كان الجواب قطعاً عن هذين الاستفهامين: ليس لهم ذلك على مطلق ما قالوا ولا مقيده من صريح عقل ولا صحيح نقل إلى من يصح النقل عنه من أهل العلم بالأخبار الإلهية، نسق عليه قوله إرشاداً إليه: ﴿بل قالوا﴾ أي في جوابهم عن قول ذلك واعتقاده مؤكدين إظهاراً جهلاً أو تجاهلاً لأن ذلك لم يعب عليهم إلا لظن أنه لا سلف لهم أصلا فيه، فإذا ثبت أنه عمن تقدمهم انفصل النزاع:
409
﴿إنا وجدنا آباءنا﴾ أي وهم أرجح منا عقولاً وأصبح أفهاماً ﴿على أمة﴾ أي طريقة عظيمة يحق لها أن تقصد وتؤم مثل رحلة بمعنى شيء هو أهل لأن يرحل إليه، وكذا قدوة ونحوه.
وقراءة الكسر معناها حالة حسنة يحق لها أن تؤم ﴿وإنا على آثارهم﴾ أي خاصة لا على غيرها ونحن في غاية الاجتهاد والقص للآثار وإن لم نجد عيناً نتحققها.
ولما علم ذلك من حالهم، ولم يكن صريحاً في الدلالة على الهداية، بينوا الجار والمجرور، وأخبروا بعد الإخبار واستنتجوا منه قولهم استئنافاً لجواب من سأل: ﴿مهتدون﴾ أي نحن، فإذا ثبت بهذا الكلام المؤكد أنا ما أتينا بشيء من عند أنفسنا ولا غلطنا في الاتباع واقتفاء الآثار، فلا اعتراض علينا بوجه، هذا قوله في الدين بل في أصوله التي من ضل في شيء منها هلك، ولو ظهر لأحد منهم خلل في سعي أبيه الدنيوي الذي به يحصل الدينار والدرهم ما اقتدى به أصلاً وخالفه أي مخالفة، ما هذا إلا لمحض الهوى وقصور النظر، وجعل محطه الأمر الدنيوي الحاضر، لا نفوذ لهم في المعاني بوجه.
ولما كان ترك المدعو للدليل واتباعه للهوى غائظاً موجعاً ومنكئاً مولماً، قال يسليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاطفاً على قوله: ﴿وكذلك﴾
410
أي ومثل هذا الفعل المتناهي في البشاعة فعلت الأمم الماضية مع إخوانك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ثم فسر ذلك بقوله: ﴿ما أرسلنا﴾ مع ما لنا من العظمة.
ولما كانت مقالة قريش قد تقدمت والمراد التسلية بغيرهم، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين فلا أمة لغيره في زمانه ولا بعده يسليه بها، سلاه بمن مضى، وقدم ذكر القبلية اهتماماً بالتسلية وتخليصاً لها من أن يتوهم أنه يكون معه في زمانه أو بعده نذير، وإفهاماً لأن المجدد لشريعته إنما يكون مغيثاً لأمته وبشيراً لا نذيراً لثباتهم على الدين بتصديقهم جميع النبيين فقال تعالى: ﴿من قبلك﴾ أي في الأزمنة السالفة حتى القريبة منك جداً، فإن التسلية بالأقرب أعظم، وأثبت الجار لأن الإرسال بالفعل لم يعم جميع الأزمنة وأسقط هذه القبلية في «سبأ» لأن المراد فيها التعميم لأنه لم يتقدم لقريش ذكر حتى يخص من قبلهم. ولما كان أهل القرى أقرب إلى العقل وأولى بالحكمة والحكم، قال: ﴿في قرية﴾ وأعرق في النفي بقوله: ﴿من نذير﴾ وبين به أن موضع الكراهة والخلاف الإنذار على مخالفة الأهواء ﴿إلا قال مترفوها﴾ أي أهل الترفه بالضم وهي النعمة والطعام الطيب والشيء الطريق يكون خاصة بالمترف، وذلك موجب للقلة وهو موجب للراحة والبطالة
411
الصارف عن جهد الاجتهاد إلى سفالة التقليد، وهو موجب لركون الهواء ولو بان الدليل، وهو موجب للبغي والإصرار عليه واللجاجة فيه والتجبر والطغيان، ومعظم الناس في الأغلب أتباع لهؤلاء: ﴿إنا وجدنا آباءنا﴾ أي وهم أعرف منا بالأمور ﴿على أمة﴾ أي أمر جامع يستحق أن يقصد ويؤم وطريقة ودين، وأكدوا قطعاً لرجاء المخالف من لفتهم عن ذلك ﴿وإنا على آثارهم﴾ لا غيرها، ثم بينوا الجار والمجرور وأخبروا خبراً ثانياً واستأنفوا لإتمام مرادهم قولهم إيضاحاً لأن سبب القص القدوة: ﴿مقتدون﴾ أي مستنون أي راكبون سنن طريقهم لازمون له لأنهم مقتدون لأن تقدم عليهم، وحالنا أطيب ما يكون في الاستقامة وأقرب وأسرع.
412
ولما كان كأنه قيل: فقال كل نذير: فما أصنع؟ أجاب بقوله: ﴿قل﴾ أي يا أيها النذير - هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة ابن عامر وحفص وعاصم يكون التقدير أن السامع قال: فما قال النذير في جوابهم؟ فأجيب بقوله: قال إنكاراً عليهم: ﴿أولو﴾ أي أتقتدون بآبائكم على كل حال وتعدونهم مهتدين ولو ﴿جئتكم﴾ والضمير
412
فيه للنذير، وفي قراءة أبي جعفر: أو لو جئتكم للنذر كلهم ﴿بأهدى﴾ أي أمر أعظم في الهداية وأوضح في الدلالة ﴿مما وجدتم﴾ أي أيها المقتدون بالآباء ﴿عليه آباءكم﴾ كما تضمن قولكم أنكم تقتفون في اتباعهم بالآثار في أعظم الأشياء، وهو الدين الذي الخسارة فيه خسارة للنفس وأنتم تخالفونهم في أمر الدنيا إذا وجدتم طريقاً أهدى من التصرف فيها من طريقهم ولو بأمر يسير، ويفتخر أحدكم بأنه أدرك من ذلك ما لم يدرك أبوه فحصل من المال أكثر مما حصل، فيا له من نظر ما أقصره، ومتجر ما أخسره.
ولما كان من المعلوم أن النذر قالوا لهم ما أمروا به؟ فتشوف السامع إلى جوابهم لهم، أجيب بقوله: ﴿قالوا﴾ مؤكدين رداً لما قطع به كل عاقل سمع هذا الكلام من أنهم يبادرون النظر في الدليل والرجوع إلى سواء السبيل: ﴿إنا بما أرسلتم به﴾ أي أيها المدعون للإرسال من أي مرسل كان، ولو ثبت ما زعمتموه من الرسالة ولو جئتمونا بما هو أهدى ﴿كافرون﴾ أي ساترون لما ظهر من ذلك جهدنا حتى لا يظهر لأحد ولا يتبعهم فيه مخلوق.
ولما علم بهذا أن أمرهم وصل إلى العناد المسقط للاحتجاج،
413
سبب عنه قوله موعظة لهذه الأمة وبياناً لما خصها به من الرحمة: ﴿فانتقمنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي استحقوا بها ﴿منهم﴾ فأهلكناهم بعذاب الاستئصال، وعظم أثر النقمة بالأمر بالنظر فيها في قوله: ﴿فانظر﴾ أي بسبب التعرف لذلك وبالاستفهام إشارة إلى أن ذلك أمر هو جدير لعظمه بخفاء سببه فقال: ﴿كيف كان عاقبة﴾ أي آخر أمر ﴿المكذبين *﴾ أي إرسالنا فإنهم هلكوا أجمعون، ونجا المؤمنون أجمعون، فليحذر من رد رسالتك من مثل ذلك.
ولما ذكر لهم الأدلة وحذرهم بالأخذ وتحرر أنهم مع التقليد لا ينفكون عنه، ذكرهم بأعظهم آبائهم ومحط فخرهم وأحقهم بالاتباع للفوز بأتباع الأب في ترك التقليد أو في تقليده إن كان لا بد لهم من التقليد لكونه أعظم الآباء ولكونه مع الدليل، فقال عاطفاً على ما تقديره للإرشارة إلى تأمله وإمعان النظر فيه: اذكر لهم ذلك: ﴿وإذ﴾ أي واذكر لهم حين ﴿قال﴾ أعظم آبائهم ومحط فخرهم والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن أهل الكتاب وغيرهم ﴿إبراهيم لأبيه﴾ من غير أن يقلده كما أنتم قلدتم آبائكم، ولما كانت مخالفة الواحد للجمع شديدة، ذكر لهم حاله فيها بياناً لأنهم أحق منهم بالانفكاك عن
414
التقليد ﴿وقومه﴾ الذين كانوا هم القوم في الحقيقة لاحتوائهم على ملك جميع الأرض كما قلت: إنا لكم سواء ولما كانوا لا يتخيلون أصلاً أن أحداً يكون مخالفاً لهم، أكد بالحرف وإظهار نون الوقاية فقال: ﴿إنني﴾ وزاد بالنعت بالمصدر الذي يستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره لكونه مصدراً وإن وقع موقع الصفة باللفظ الدال على أنه مجسد من البراءة جعله على صورة المزيد لزيادة التأكيد فقال: ﴿براء﴾ ومن ضمه جعله وصفاً محضاً مثل طوال في طويل ﴿مما تعبدون﴾ في الحال والاستقبال مهما كان غير من اشتبه، فإنهم كانوا مشركين فلا بد من الاستثناء ومن كونه متصلاً، قال الإمام أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني في كتاب بيان نظم القرآن ما حاصله: سر قول السلف أن الكلمة هنا أي الآية في قوله كلمة باقية ﴿لا إله إلا الله﴾ أن النفي والتبرئة واحد فإنني براء بمنزلة لا، وقوله ﴿مما تعبدون﴾ بمنزلة إله إذا كل معبود يسمى إلهاً فآل ذلك إلى: لا إله ﴿إلا الذي فطرني﴾ قال: فقد ضممت بهذا التأويل إلى فهمك الأول الذي استفدته من الخبر فهم المعرفة الحقيقية الذي أفاد له طباعك
415
بالعبرة، ونبه بالوصف بالفطر على دليل اعتقاده أي الذي شق العدم فأخرجني منه ثم شق هذه المشاعر والمدرك، ومن كان بهذه القدرة الباهرة كان منفرداً بالعظمة.
ولما كان الله سبحانه - وله المنّ - قد أنعم بعد الإيجاد بما أشار إليه من العقل والحواس المهيئ، للهداية من غير طلب، فكان جديراً بأن يمنح قاصده بأعظم هداية قال مسبباً عن قطعه العلائق من سواه، مؤكداً لأجل من ينكر وصوله إلى حد عمي عنه أسلافه ﴿فإنه سيهدين﴾ أي هداية هي الهداية إلى ما لاح لي من الحقائق من كل ما يصلحني لتوجهي إليه وتوكلي عليه، لا مرية عندي في هذا الاعتقاد، وقد أفاد بهذه المقترنة بالسين هدايته في الاستقبال بعد أن أفاد بقوله المحكي في الشعراء ﴿فهو يهدين﴾ الهداية في الحال وكأنه خص هذا بالسين لأجل ما عقبها به من عقبه، فجعل هدايتهم هدايته ﴿وجعلها﴾ أي جعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة التي هي التوحيد بدليله ﴿كلمة باقية في عقبه﴾ أي ذريته دعا وهو مجاب الدعوة في قوله: ﴿وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام﴾ وفي قوله ﴿ومن ذريتي ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم﴾ :﴿لعلهم يرجعون *﴾ أي ليكون حالهم حال
416
من ينظر إليهم إن حصل منهم مخالفة واعوجاج حال من يرجى رجوعه، فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه، ويجوز أن يتعلق بما يتعلق به «إذ» أي اذكر لهم قول أبيهم ليكون حالهم عند من يجهل العواقب حال من يرجى رجوعه عن تقليد الجهلة من الآباء إلى اتباع هذا الأب الذي اتباعه لا يعد تقليداً لما على قوله من الأدلة التي تفوت الحصر فتضمن لمتبعها حتماً تمام النصر، وفي سوقه المترجي إشارة إلى أنهم يكونون صنفين: صنفاً يرجع وآخر لا يرجع.
417
ولما كان من المعلوم أن السامع يقول لمن أحاط علمه بهم ويعلم سرهم وعلنهم: يا رب! بل رجعوا، أجيب بقوله: ﴿بل﴾ أي لم يرجعوا بل استمروا لأجل إظهاري لقدرتي على القلوب بإقحام أربابها برضاهم واختيارهم في أقبح الخطوب وأفحش الذنوب على ترك الطريق المنيع والصراط الأقوم وزاغوا عنه زيغاً عظيماً، واستمروا في ضلالهم وتيههم ولم أعاجلهم بالعقوبة لأني ﴿متعت﴾ بإفراده ضميرهم سبحانه لأن التمتيع يتضمن إطالة العمر التي لا يقدر عليها ظاهراً ولا باطناً سواه وأما الانتقام فقد يجعله بأيدي عباده من الملائكة وغيرهم فهو من وادي ﴿سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين﴾ [
417
القلم: ٤٥] ﴿هؤلاء﴾ أي الذين بحضرتك من المشركين وأعداء الدين ﴿وآباءهم﴾ فمددت من الأعمار مع سلامة الأبدان ومتانة الأركان، وإسباغ النعم والإعفاء من البلايا والنقم، فأبطرتهم نعمي وأزهدتهم أيادي جودي وكرمي، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل ﴿حتى جاءهم الحق﴾ بهذا الدين المتين ﴿ورسول مبين﴾ أي أمره ظاهر في نفسه، لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهية تنبئك بالخبر وهو مع ظهوره في نفسه مظهر لكل معنىً يحتاج إليه، و ﴿متعت﴾ بالخطاب من لسان الرسول المنزل عليه هذا الكتاب لأنه يدعو انتهازاً للفرصة لعله يجاب بما يزيل الغصة يقول: يا رب! قد أقمتهم لمن يجهل العواقب في مقام من يرجى رجوعه فما قضيت بذلك بل متعت إلى آخره.
ولما كان التقدير: فلم يردهم التمتيع بإدرار النعم عليهم وإسراعنا بها إليهم مع وضوح الأمر لهم، بل كان الإنعام عليهم سبباً لبطرهم، وكان البطر سبباً لتماديهم على الاستعانة بنعمتنا على عصيان أمرنا وهم يدعون أنهم أتبع الناس للحق وأكفهم عن الباطل، عطف عليه قوله؛ ﴿ولما جاءهم الحق﴾ أي الكامل في حقيته بمطابقة الواقع إياه من غير إلباس ولا اشتباه، الظاهر في كماله لكل من له أدنى لب بما عليه القرآن من الإعجاز في نظمه، وما عليه ما يدعو إليه
418
من الحكمة من جميع حكمه، والتصادق مع ما يعلمونه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل أن يبدلوه ومن أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام من التوحيد، زادوا على تلك الغفلة التي أدى إليها البطر بالنعمة ما هو شر من ذلك وهو التكذيب بأن ﴿قالوا﴾ مكابرة وعناداً وحسناً وبغياً من غير وقفة ولا تأمل: ﴿هذا﴾ مشيرين إلى الحق الذي يطابقه الواقع، فلا شيء أثبت منه وهو القرآن وغيره مما أتى به من دلائل العرفان ﴿سحر﴾ أي خيال لا حقيقة له، ولما كان الحال مقتضياً من غير شك ولا وقفة لمعرفتهم لما جاء به وإذعانهم له قالوا مؤكدين لمدافعه ما ثبت في النفوس من ذلك: ﴿وإنا به كافرون﴾ أي عريقون في ستره بخصوصه حتى لا يعرفه أحد ولا يكون له تابع.
ولما أخبر عن طعنهم في القرآن أتبعه الإخبار عن طعنهم فيمن جاء به تغطية لأمره عملاً بأخبارهم في ختام ما قبلها عن أنفسهم بالكفر زيادة وإمعاناً فيما كانت النعم أدتهم إليه من البطر فقال: ﴿وقالوا﴾ لما قهرهم ما ذكروا به مما يعرفونه من أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النبوة والرسالة، وكذا من بعده من أولاده فلم يتهيأ لهم الإصرار على العناد بإنكار أن يكون النبي من البشر قول من له أمر عظيم في التصرف في الكون والتحكم على الملك الذي
419
لا يسأل عما يفعل، فأنكروا التخصيص بما أتوا به من التخصيص في قولهم: ﴿لولا﴾ أي هل لا ولولا.
ولما كان إنزال القرآن نجوماً على حسب التدريج، عبروا بما يوافق ذلك فقالوا: ﴿نزل﴾ أي من المنزل الذي ذكره محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا بقسر وغلظة كلمة على من يطلبهم لإصلاح حالهم ﴿هذا القرآن﴾ أي الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وادعى أنه جامع لكل خير، ففيه إشارة إلى التحقير ﴿على رجل من القريتين﴾ أي مكة والطائف، ولم يقل: إحدى - اغتناء عنها بوحدة رجل ﴿عظيم﴾ أي بما به عندهم من العظمة والجاه والمال والسن ونحو ذلك وهم عالمون أن شأن الملك إنما هو إرسال من يرتضونه لا من يقترحه الرعية، ويعلمون أن للملك المرسل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغني المطلق لكنهم جهلوا - مع أنه هو الذي أفاض المال والجاه - أنه ندب إلى الزهد فيهما والتخلي عنهما، وأنه لا يقرب إليه إلا إخلاص الإقبال عليه الناشئ عن طهارة الروح وذكاء الأخلاق وكمال الشمائل والتحلي بسائر الفضائل والتخلي عن جميع الرذائل، فقد
420
جعلوا لإفراطهم في الجهل الحالة البهيمية شرطاً للوصول إلى الحالة الملكية المضادة لها بكل اعتبار.
ولما تضمن قولهم إثبات عظمة لأنفسهم بالاعتراض على الملك، قال منكراً عليهم موبخاً لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردوداً إليهم ولا موقوفاً عليهم بل هو إلى الله وحده ﴿والله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ [الأنعام: ١٢٤] ﴿أهم﴾ أي أهؤلاء الجهلة العجزة ﴿يقسمون﴾ أي على التجدد والاستمرار: ولفت القول عن إفراد الضمير إلى صفة الرحمة المضافة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشريفاً له وإظهاراً لعلي قدره: ﴿رحمت ربك﴾ أي إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه بأنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم بتأهيلهم للإنقاذ من الضلال، وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسباً وأفضلهم حسباً وأعظمهم عقلاً وأصفاهم لباً وأرحمهم قلباً ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر بحسب شهواتهم وهم لا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك.
ولما نفى أن يكون لهم شيء من القسم قال جواباً لمن كأنه
421
قال: فمن القاسم؟ دالاً على بعدهم عن أن يكون إليهم شيء من قسم ما أعد لأديانهم بما يشاهدونه من بعدهم عن قسم ما أعد لأبدانهم، لافتاً القوم عن صفة الإحسان إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنها تأبى المشاركة في شيء وتقتضي التفرد: ﴿نحن قسمنا﴾ أي بما من العظمة ﴿بينهم﴾ أي في الأمر الذي يعمهم ويوجب تخصيص كل منهم بما لديهم ﴿معيشتهم﴾ التي يعدونه رحمة ويقصرون عليها النعمة ﴿في الحياة الدنيا﴾ التي هي أدنى الأشياء عندنا، وإشار إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل، وأما الآخرة فعبر عنها بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتعاونوا على ذلك فلم يبق منهم أحد فكيف يدخل في الوهم أن يجعل إليهم شيئاً من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود، وبها سعادة الدارين: ﴿ورفعنا﴾ بما لنا من نفوذ الأمر ﴿بعضهم﴾ وإن كان ضعيف البدن قليل العقل ﴿فوق بعض﴾ وإن كان قوياً عزيز العقل ﴿درجات﴾ في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظر حال الوجود، فإنه لا بد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم، تفاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم ليقتسموا الصنائع، والمعارف والبضائع، ويكون كل ميسر لما خلق له، وجانحاً إلى ما هي له لتعاطيه، فلم يقدر أحد من دنيء أو غني أن يعدو قدره
422
وترتقي فوق منزلته.
ولما ذكر ذلك، علله بما ثمرته عمارة الأرض فقال: ﴿ليتخذ﴾ أي بغاية جهده ﴿بعضهم بعضاً﴾ ولما كان المراد هنا الاستخدام دون الهزء لأنه لا يليق التعليل به، أجمع القراء على ضم هذا الحرف هنا فقال: ﴿سخرياً﴾ أي أن يستعمله فيما ينوبه أو يتعسر أو يتعذر عليه مباشرته ويأخذ للآخر منه من المال ما هو مفتقر إليه، فهذا بماله، وهذا بأعماله، وقد يكون الفقير أكمل من الغني ليكمل بذلك نظام العالم لأنه لو تساوت المقادير لتعطلت المعايش، فلم يقدر أحد أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة، أيتصور عاقل أن يتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا، قال ابن الجوزي: فإذا كانت الأرزاق بقدر الله لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة - انتهى. وهذا هو المراد بقوله تعالى صارفاً القول عن مظهر العظمة والسلطان إلى الوصف بالإحسان إظهاراً لشرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ورحمة ربك﴾ أي المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمى غيرك رحمة ﴿خير مما يجمعون﴾ من الحطام الفاني فإنه وإن تأتي فيه خير باستعماله في وجوه البر بشرطه، فهذا بالنسبة إلى النبوة، وما قارنا
423
مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش.
424
ولما دلت صريح آية التمتيع وتلويح ما بعدها أن البسط في الرزق الموجب للعلو مع أنه خسيس المنزلة ناقص المقدار مقتض للخروج عن السواء، وكان التقدير: فنحن نخص بهذا الخير للأفراد في الأدوار الآحاد من الأبرار لنستنقذ بهم من شئنا من الضلال ونعطي الحطام للعتاة الطغام الأرذال ابتلاء للعباد ليبين لهم أهل البغي من أهل الرشاد، ولولا ما اقتضته حكمتنا بترتيب هذا الوجود على الأسباب من المفاوتة بين الناس لقيام الوجود لساوينا بينهم، وعطف: عليه قوله مذكراً بلطفه بالمؤمنين وبره لهم برفعه ما يقضتي لهم شديد المجاهدة وعظيم المصابرة والمكابدة لحال تزل فيه الأقدام عن سنن الهدى من الميل والإصغاء إلى مظان الغنى والملك وتمام المكنة والعظمة: ﴿ولولا أن يكون الناس﴾ أي أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم ﴿أمة واحدة﴾ أي في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارها وهممهم إلا من عصم الله ﴿لجعلنا﴾ أي في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لم يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضنا لها
424
﴿لمن يكفر﴾ وقوله: ﴿بالرحمن﴾ أي العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها للمبعد الممقوت، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لولا العلة التي ذكرها سبحانه من الرفق بالمؤمنين.
ولما كان تزيين الظرف دائماً بحسب زينة المظروف، دل على ما لهم من ملابسهم ومراكبهم وغير ذلك من أمورهم بزينة المنازل، فقال مبدلاً من ﴿لمن﴾ بدل الاشتمال لأن سوقه على طريق الإبدال أروع: ﴿لبيوتهم﴾ أي التي ينزلونها ﴿سقفاً﴾ أي هذا الجنس في قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالموحدة بدليل قراءة الباقين بضمتين جمعاً ﴿من فضة﴾ كأنه خصها لإفادتها النور ﴿ومعارج﴾ أي من فضة، وهي المصاعد من الدرج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج ﴿عليها يظهرون﴾ أي يعلون ويرتقون على ظهورها إلى المعالي ﴿ولبيوتهم أبواباً﴾ أي من فضة أيضاً.
ولما كان إفراد السرير يوهم أنه واحد يدار به على الكل، جمع ليفهم أن لكل واحد ما يخصه من الأسرة بخلاف السقف فإنه لا يهوم ذلك فلعله قرئ بإفراده وجمعه، فقال: ﴿وسرراً﴾ بالجمع خاصة، ودل
425
على هدوء بالهم وصفاء أوقاتهم وأحوالهم بقوله: ﴿عليها يتكئون﴾ ودل على ما لا يتناهى من غير ذلك بقوله: ﴿وزخرفاً﴾ أي ذهباً وزينة عامة كاملة.
ولما كان لفظ الزخرف دالاً على كون ذلك أمراً ظاهرياً متلاشياً عند التحقيق، دل عليه بقوله مؤكداً لما تقرر في النفوس من أن السادة في مثل ذلك، وما كان مقرراً عندهم من أن السعيد في الأول سعيد في الآخرة على تقدير كونها: ﴿وإن﴾ أي وما ﴿كل ذلك﴾ أي الأمر البعيد عن الخير لكونه في الأغلب مبعداً مما يرضينا، ولأن صاحبه لا يزال فقيراً وإن استوسقت له الدنيا ملكاً وملكاً، لأنه لا بد أن يبقى في نفسه شيء لا تبلغه قدرته فهو لا يزال مغبوناً ﴿لما﴾ أي إلا - هذا على قراءة عاصم وحمزة بالتشديد: وهي في قراءة الباقين بالتخفيف فارقة بين النافية والمخففة، وما مؤكدة والخبر هو ﴿متاع الحياة الدنيا﴾ أي التي اسمها دال على دناءتها وأن لها ضرة هي الآخرة، وهو منقطع بالموت، فلذلك اقتضت رحمته أن لا يضيق على المؤمنين في الأغلب لأن السعة تنقصهم في الآخرة ويطول الحساب ﴿والآخرة﴾ التي لا دار تعدلها بل لا دار الحقيقة إلى هي.
426
ولما كانت الإضافة إلى الجليل دالة على جلالة المضاف إليه فقال: ﴿عند ربك﴾ وأشار بالوصف بالرب إلى أن الجلالة بالحسن والراحة، وبالإضافة إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى الغايات ﴿للمتقين﴾ أي الذين هم دائماً واقفون عن أدنى تصرف إلا بدليل لا يشاركهم فيها غيرهم، وهذا لما ذكر عمر رضي الله عنه كسرى وقيصر وما كانا فيه من النعم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا ترضى أن يكون لهم الدنيا ولنا الأخرى» ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة من الجبابرة من زخرفة الأبنية وتركيب السقوف وغيرها من مساوئ الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة بالكفر قرب الساعة حتى لا تقوم الساعة على من يقول: الله، وفي زمن الدجال من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث إنهم لا عداد لهم في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة، وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك.
ولما كان التقدير: ولكنا لم نجعل ذلك علماً منا بأن الناس كادوا يكونون أمة واحدة وإن كنا نقيض من جبلناه على الخير على الإيمان لكن ينقصه ما أوتي في الدنيا من خطر في الآخرة لأن من وسع عليه في دنياه اشتغل في الأغلب عن ذكر الله فنفرت منه الملائكة ولزمته الشياطين، فساقه ذلك إلى كل سوء، ومن يتق الله فيديم ذكره يؤيده
427
بملك فهو له معين، عطف عليه قوله معبراً عن غفلة البصيرة بالعشا الذي هو ضعف البصر تصوراً لمن ينسى ذكر الله بأقبح صورة تنفيراً عن ذلك ﴿من يعش﴾ أي يفعل فعل المعاشي، وهو من شاء بصره بالليل والنهار أو عمي على قراءة شاذه وردت عن يعقوب بفتح الشين وركب الأمور متجاوزاً ﴿عن ذكر الرحمن﴾ الذي عمت رحمته، فلا رحمة على أحد إلا وهي منه كما فعل هؤلاء حين متعناهم وآباءهم حيث أبطرهم ذلك، وهو شيء يسير جداً، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظراً ضعيفاً كنظر من عشي بصره ﴿نقيض﴾ أي نقرر ونسلط ونقدر عقاباً ﴿له﴾ على إعراضه عن ذكر الله ﴿شيطاناً﴾ أي شخصاً نارياً بعيداً من الرحمة يكون غالباً محيطاً به مضيقاً عليه مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل ﴿فهو له قرين﴾ مشدود به كما يشد الأسير، ملازم فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعامياً عن ذكر الله، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى، كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يبشره بكل خير، فذكر الله حصن حصين من الشيطان، متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث، قال في القاموس:
428
العشى مقصور: سوء البصر بالليل والنهار أو العمى، عشى كرضى ودعا، والعشوة بالضم والكسر: ركوب الأمر على غير بيان، قال ابن جرير: وأصل العشو النظر بغير ثبت لعلة في العين، وقال الرازي في اللوامع: وأصل اللغة أن العين والشين والحرف المعتل يدل على ظلام وقلة وضوح في الشيء.
ولما كانت ﴿من﴾ عامة، وكان القرين للجنس، وأفرده لأنه نص على كل فرد، فكان التقدير: فإنهم ليحملونهم على أنواع الدنايا ويفتحون لهم أبواب الرذائل والبلايا، ويحسنون لهم ارتكاب القبائح والرزايا، عطف عليه قوله مؤكداً لما في أنفس الأغلب - كما أشار إليه آخر الآية - أن الموسع عليه هو المهتدي، جامعاً دلالة على كثرة الضال: ﴿وإنهم﴾ أي القرناء ﴿ليصدونهم﴾ أي العاشين ﴿عن السبيل﴾ أي الطريق الذي من حاد عنه هلك، لأنه لا طريق في الحقيقة سواه.
ولما كانت الحيدة عن السبيل إلى غير سبيل، بل إلى معاطب لا يهتدي فيها دليل، عجباً، أتبعه عجباً آخر فقال: ﴿ويحسبون﴾ أي العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ: ﴿أنهم مهتدون﴾ أي عريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين.
ولما كان من ضل عن الطريق، ومن ظن أنه على صواب لا يكاد
429
يتمادى بل ينجلي له الحال عن قرب ضم إلى العجبين الماضيين عجباً ثالثاً بياناً له على ما تقديره: ونملي لهذا العاشي استدراجاً له وابتلاء لغيره ونمد ذلك طول حياته ﴿حتى﴾ وحقق الخبر بقوله: ﴿إذا﴾ ولما علم من الجمع فيما قيل أن المراد الجنس، وكان التوحيد أدل دليل على تناول كل فرد، فكان التعبير به أهول، وكان السياق دالاً على من الضمير له قال: ﴿جاءنا﴾ أي العاشي، ومن قرأ بالتثنية أراد العاشي والقرين ﴿قال﴾ أي العاشي تندماً وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل: ﴿يا ليت بيني وبينك﴾ أيها القرين ﴿بعد المشرقين﴾ أي ما بين المشرق والمغرب على التغليب - قاله ابن جرير وغيره، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر؛ ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام: ﴿فبئس القرين﴾ أي إني علمت أنك الذي أضلني وأوصلني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض وأحسست في هذا الوقت بذلك الذي كنت تؤذيني به أنه أذى
430
بالغ، فكنت كالذي يحك جسمه لما به من قروح متأكلة حتى يخرج منه الدم فهو في أوله يجد له لذة بما هو مؤلم له في نفسه غاية الإيلام.
ولما كان الإيلام قد يؤذي الجسد، وكان التقدير حتماً بما هدى إليه السياق فيقال لهم: فلن ينفعكم ذلك اليوم يوم جئتمونا إذ تمنيتهم هذا التمني حين عاينتم تلك الأهوال اشتراككم اليوم في يوم الدنيا في الظلم وتمالؤكم عليه ومنافرة بعضكم لبعض، عطف عليه قوله: ﴿ولن ينفعكم اليوم﴾ أي في الدنيا شيئاً من نفع أصلاً ﴿إذ﴾ حين ﴿ظلمتم﴾ حال كونكم مشتركين في الظلم متعاونين عليه متناصرين فيه، وكل واحد منكم يقول لصاحبه سروراً به وتقرباً إليه وتودداً: يا ليت أنا لا نفترق أبداً فنعم القرين أنت، فيقال لهم توبيخاً: ﴿أنكم في العذاب﴾ أي العظيم، وقدمه اهتماماً بالزجر به والتخويف منه ﴿مشتركون﴾
431
أي اشتراككم فيه دائماً ظلمكم أنفسكم ظلماً باطناً بأمور أخفاها الطبع على القلوب وهو موجب للارتباك في أشراك المعاصي الموصلة إلى العذاب الظاهر يوم التمني ويوم القيامة عذاباً ظاهراً محسوساً، وذلك كمن يجرح جراحة بالغة وهو مغمي عليه فهو معذب بها قطعاً، ولكنه لا يحس إلا إذا أفاق فهو كما تقول لأناس يريدون أن يتمالؤوا على قتل نفس محرمة: لن ينفعكم اليوم إذ تتعاونون على قتله اشتراككم غداً في الهلاك بالسجن الضيق والضرب المتلف وضرب الأعناق، مرادك بذلك زجرهم عن ظلمهم بتذكيرهم بأنهم يصلون إلى هذا الحال ويزول ما هم فيه من المناصرة فلا ينفعهم شيء منها - والله الموفق، فالآية من الاحتباك، وبه زال عنها ما كان من إعراب المعربين لها موجباً للارتباك «فيا ليت» - إلى آخره، دال على تقدير ضده ثانياً «ولن ينفعكم» - إلى آخره، دال على تقدير مثله أولاً.
432
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد الإرادة لإقبالهم يكاد يقتل نفسه أسفاً إدبارهم، وكان هذا الزجر الذي لا يسمعه من له أدنى
432
عقل إلا خلع قلبه فرجع عن غيه وراجع رشده قد تلا عليهم فلم ينتفعوا به، فكان كأنه قيل: إن هؤلاء لصم عمي محيط بهم الضلال إحاطة لا يكادون ينفكون عنه من كل جانب، فلا وصول لأحد إلى إسماعهم ولا تبصيرهم ولا هدايتهم، قال بانياً عليه مسبباً عنه تخفيفاً على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يقاسي من الكرب في المبالغة في إبلاغهم حرصاً على إقبالهم والغم من إعراضهم بهمزة الإنكار الدالة على نفي ما سيقت له: ﴿أفأنت﴾ أي وحدك من غير إرادة الله تعالى ﴿تسمع الصم﴾ وقد أصممناهم بما صببنا في مسامع أفهامهم من رصاص الشقاء ﴿أو تهدي العمي﴾ الذين أعميناهم بما غشينا به أبصار بصائرهم من أغشية البلادة والخسارة، فصار ما اختارون لأنفهسم من العشى عمياً مقروناً بصممهم ﴿ومن كان﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿في ضلال مبين﴾ أي بين في نفسه أن ضال وأنه محيط بالضلال مظهر لكل أحد ذلك، فهو بحيث لا يخفى على أحد، فالمعنى: ليس شيء من ذلك إليك، بل هو إلى الله القادر على كل شيء، وأما أنت فليس عليك إلا البلاغ.
433
ولما كان هذا كالمؤيس منهم، وكان اليأس من صلاح الخصم موجباً لتمني الراحة منه بموت أحدهما، سبب عن التقديرين قوله مبيناً أن الإملاء لهم ليس لعجز عنهم ولا لإخلاف في الوعد، مؤكداً بالنون و «ما» ثم «أنا» والاسمية لمن يظن خلاف ذلك، ولأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشرف عنده سبحانه وتعالى معظم لديه فذهابه به مما يستبعد، ومن حقه أن ينكر، وكذا إراءته ما توعدهم به لأن المظنون إكرامهم لأجله: ﴿فإما نذهبن بك﴾ أي من بين أظهرهم بموت أو غيره ﴿فإنا منهم﴾ أي الذين تقدم التعريض بأنهم صم عمي ضلال لأنهم لن تنفعهم مشاعرهم ﴿منتقمون﴾ أي بعد فراقك لأن وجودك بين أظهرهم هو سبب تأخير العذاب عنهم ﴿أو نرينك﴾ وأنت بينهم ﴿الذي وعدناهم﴾ أي من العذاب وعبر فيه بالوعد ليدل على الخير بلفظه وعلى الشر بأسلوبه فيعم ﴿فإنا﴾ بما تعلم من عظمتنا التي أنت أعلم الخلق بهم ﴿عليهم مقتدرون﴾ على كلا التقديرين، وأكد ب «أن» لأن أفعالهم أفعال من ينكر قدرته، وكذا بالإتيان
434
بنون العظمة وصيغة الافتعال، وأحد هذين التقديرين سبق العلم الأزلي بأنه لا يكون، فالآية من أدلة القدرة على المحال لغيره وهي كثيرة جداً، وقد أكرم الله نبينا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أن يريه شيئاً يكرهه في أمته حتى قبض.
ولما أوقف سبحانه السامع بهاتين الشرطيتين بين الخوف والرجاء لبيان الاستبداد بعلم الغيب تغليباً للخوف، وأفهم السياق وإن كان شرطاً أن الانتقام منهم أمر لا بد منه، وأنه لا قدرة لأحد على ضرهم ولا نفعهم إلا الله، سبب عنه قوله: ﴿فاستمسك﴾ أي أطلب وأوجد بجد عظيم على كل حال الإمساك ﴿بالذي أوحي إليك﴾ من حين نبوتك وإلى الآن في الانتقام منهم وفي غيره.
ولما كان المقام لكثرة المخالف محتاجاً إلى تأكيد يطيب خواطر الأتباع ويحملهم على حسن الاتباع، علل ذلك بقوله: ﴿إنك على صراط﴾ أي طريق واسع واضح جداً: ﴿مستقيم﴾ موصل إلى المقصود لا يصح أصلاً أن يلحقه شيء من عوج، فإذا فعلت ذلك لم يضرك شيء من نقمتهم.
ولما أثبت حسنه في نفسه المتقضي للزومه، عطف عليه نفعه
435
لهم. وأكد لإنكارهم فقال: ﴿وإنه﴾ أي الذي أوحى إليك في الدنيا ﴿لذكر﴾ أي شرف عظيم جداً وموعظة وبيان، عبر عن الشرف بالذكر للتنبيه على أن سببه الإقبال على الذكر وعلى ما بينه وشرعه والاستمساك به والاعتناء بشأنه: ﴿لك ولقومك﴾ قريش خصوصاً والعرب عموماً وسائر من اتبعك ولو كان من غيرهم من جهة نزوله على واحد منهم وبلسانهم، فكان سائر الناس تبعاً لهم ومن جهة إيراثه الطريقة الحسنى والعلوم الزاكية الواسعة وتأثيره الظهور على جميع الطوائف والإمامة لقريش بالخصوص كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان ما أقاموا الدين» فمن أقام هذا الدين كان شريفاً مذكوراً في ملكوت السماوات والأرض، قال ابن الجوزي: وقد روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سئل: لمن هذا الأمر، من بعدك، لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: لقريش - وهذا يدل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن، وأن قومه يخلفونه من بعده في الولاية بشرف القرآن الذي أنزل على رجل
436
منهم - انتهى.
ولما كان التقدير: فسوف تشرفون على سائر الملوك وتعلمون، عطف عليه قوله: ﴿وسوف تسألون﴾ أي تصيرون في سائر أنواع العلم محط رحال السائلين دنياً ودنيا بحيث يسألكم جميع أهل الأرض من أهل الكتاب ومن غيرهم عما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم لما يعتقدون من أنه لا يوازيكم أحد في العلم بعد أن كنتم عندهم أحقر الأمم ضعفاً وجهلاً كما وقع لبني إسرائيل حيث رفعهم الله، وكان ذلك أبعد الأشياء عند فرعون وآله، ولذلك كانوا يتضاحكون استهزاء بتلك الآيات وينسبون الآتي بها إلى ما لا يليق بمنصبه العالي من المحالات، وتسألون عن حقه وأداء شكره وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له، وهذا بوعد صادق لا خلف فيه أصلاً.
ولما أبطل سبحانه إلهية غيره التي أدى إليها الجهل، واستمر إلى أن ختم بالعلم الموجب لمعرفة الحق، فكان التقدير إبطالاً لشبهتهم الوهمية القائلة ﴿لو شاء الرحمن ما عبدناهم﴾ : فاستحضر جميع ما أوحى إليك وتأمله غاية التأمل، هل ترى فيه خفاء في الإلهية لشيء دون الله، عطف عليه قوله نفياً لدليل سمعي كما أشير إليه بقوله ﴿أم آتيناهم كتاباً﴾ ﴿واسأل من أرسلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة. ولما كان الممكن تعرفه من آثار الرسل إنما هو لموسى وعيسى ومن بينهما من أنبياء بني
437
إسرائيل عليهم الصلاة والسلام الحافظ لسنتهم من التوراة والإنجيل والزبور وسفر الأنبياء، قال مثبتاً للجار المفهم لبعض الزمان: ﴿من قبلك﴾.
ولما كان أتباعهم قد غيروا وبدلوا فلم تكن بهم ثقة، عبر بالرسل فقال: ﴿من رسلنا﴾ أي بقراءة أتباعهم لكتبهم التي حرفوا بعضها، وجعلت كتابك مهيمنا عليها فإنهم إذا قرؤوها بين يديك وعرضوها عليك علمت معانيها وفضحت تحريفهم وبينت اتفاق الكتب كلها برد ما ألبس عليهم من متشابهها إلى محكمها، فالمراد من هذا نحو المراد من آية يونس ﴿فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك﴾ [رقم: ٩٤] ومن آية الأنبياء ﴿هذا ذكر من معي وذكر من قبلي﴾ [رقم: ٢٤] مع زيادة الإشارة إلى تحريفهم، فالمسؤول في الحقيقة القرآن المعجز على لسان الرسول الذي شهدت له جميع الرسل الذين أخذ عليهم العهد بالإيمان به والمتابعة له، وبهذا التقرير ظهر ضعف قول من قال: إن المراد سؤال الرسل حقيقة لما جمعوا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت المقدس ليلة الإسراء، فإنه ليس المراد من هذا إلا تبكيت الكفار من العرب وممن عزهم من أهل الكتاب بقولهم: دينكم خير من دينه وأنتم أهدى سبيلاً منه، فإنهم
438
إذا أحضروا كتبهم علمت دلالتها القطعية على اختصاصه سبحانه بالعبادة كما بينته في كتابي هذا يرد المتشابه منها إلى المحكم، وجعلها ابن جرير مثل قوله تعالى ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ [النساء: ٥٩] وقال: ومعلوم أن معنى ذلك: فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فاستغنى بذكر الرسل عن ذكر الكتب. وهو عين ما قلته، ولو كان المراد حقيقة السؤال وسؤال جميع الرسل لقال «قبلك» بإسقاط «من» ليستغرق الكل - والله أعلم.
ولما ذكر المسؤول مفخماً له بما اقتضته العبارة من الإرسال والإضافة إليه، ذكر المسؤول عنه بقوله تعالى: ﴿أجعلنا﴾ أي أبحنا وأمرنا ورضينا على ما لنا من العظمة والقدرة التامة، مما ينافي ذلك، وقرر حقارة ما سواه بقوله: ﴿من دون﴾ وزاد بقوله: ﴿الرحمن﴾ أي الذي رحمته عمت جميع الموجودات ﴿آلهة﴾ ولما كان قد جعل لكل قوم وجهة يتوجهون في عبادتهم إلهاً، وشيئاً محسوساً بغلبة الأوهام على الأفهام يشهدونه وكان ربما تعنت به متعنت، قال محترزاً: ﴿يعبدون﴾ أي من عابد ما بوجه ما.
439
ولما كان المترفون مولعين بأن يزدروا من جاءهم بالرد عن أغراضهم الفاسدة بنوع من الازدراء كما قال كفار قريش ﴿لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم﴾ ولا يزالون يردون هذا وأمثاله من الضلال حتى يقهرهم ذو الجلال بما أتتهم به رسله إما بإهلاكهم أو غيره وإن كانوا في غاية القوة، أورد سبحانه قصة موسى عليه الصلاة والسلام شاهدة على ذلك بما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام من نحو ذلك ومن إهلاكه على قوته وإنجاء بني إسرائيل على ضعفهم، وتسلية للنبي صلى عليه وسلم وترجية.
440
ولما كان التقدير: فلقد أرسلنا جميع رسلنا وهم أشرف الخلق بالتوحيد الذي جئت به، وما كنا في إرسالنا إياهم مراعين لما يريده الأمم من جاه أو مال أو غير ذلك، فلا وجه للاتكال عليك فيما أرسلناك به من التوحيد وغيره، ولا لمعاداتك فيه، عطف عليه أول من أرشد إلى سؤال أتباعهم فقال مؤكداً أجل ما يعاندون به من إنكار الرسالة، وأتى بحرف التوقع لما اقتضاه من الأمر بسؤال الرسل عليهم الصلاة والسلام: ﴿ولقد أرسلنا﴾ أي بما ظهر من عظمتنا.
ولما كان الإرسال منه سبحانه ليس على حسب العظمة في الدنيا
440
بما يراه أهلها كما قال هؤلاء ﴿لولا نزل هذا القرآن﴾ - الآية، قال مناقضاً لهم: ﴿موسى﴾ أي الذي كان فرعون يرى أنه أحق الناس بتعظيمه لأنه رباه وكفله ﴿بآياتنا﴾ أي التي قهر بها عظماء الخلق وجبابرتهم، فدل ذلك على صحة دعواه وعلى جميع الآيات لتساويها في القدرة وخرق العادة. ولما كان السياق لسؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرسل عن أمر التوحيد، كانت الآيات كافية، فلم يذكر السلطان لأنه للقهر والغلبة: ﴿إلى فرعون﴾ أي لأنه طغى وبغى وادعى أنه هو الرب الأعلى ووافقه الضالون: ﴿وملأه﴾ الذين جعلهم آلهة دونه وعبدهم قومهم فلم يقرهم على ذلك لأنا ما رضيناه ﴿فقال﴾ بسبب إرسالنا ﴿إني رسول﴾ وأكد لأجل إنكارهم ما أنكره قومك من الرسالة. ولما كان الإحسان سبباً للإذعان قال: ﴿رب العالمين*﴾ أي مالكهم ومربيهم ومدبرهم.
ولما كانوا قد فعلوا من الرد لرسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاستهزاء بها ما فعلته قريش، قال مسلياً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومهدداً لهم تسبيباً عما تقديره: فقالوا له ائت بآية، فأتى بها على ما تقدم غير مرة بما هو كالشمس بياناً وحسناً: ﴿فلما جاءهم بآياتنا﴾ بالإتيان بآيتي
441
اليد والعصا اللتين شهدوا فيهما عظمتنا ودلتاهم على قدرتنا على جميع الآيات ﴿إذا هم﴾ أي بأجمعهم استهزاء برسولنا، وطال ما يضحك عليهم هو ومن آمن برسالته وبما جاء به عنا يوم الحسرة والندامة ﴿منها يضحكون﴾ أي فاجؤوا المجيء بها من غير توقف ولا كسل بالضحك سخرية واستهزاء.
ولما كان ربما ظن ظان أن في الآيات ما يقبل شيئاً من ذلك، بين حالها سبحانه بقوله: ﴿وما﴾ أي والحال أنا ما ﴿نريهم﴾ على ما لنا من الجلال والعلو والكمال، وأعرق في النفي بإثبات الجار وأداة الحصر لأجل من قد يتوهم أنهم معذورون في ضحكهم فقال: ﴿من آية إلا هي أكبر﴾ أي في الرتبة ﴿من أختها﴾ أي التي تقدمت عليها بالنسبة إلى علم الناظرين لها لأن الآدمي لما له من النسيان إذا أتاه الثاني من المتساويين رأى جميع من أتاه ناسياً ولا بعض من أتى الأول فيقطع بأنه أكبر منه، أو أن هذا كناية عن أنها كلها في نهاية العظمة كما قال شاعرهم:
«من تلق منهم
442
تقل لاقيت سيدهم»... أو أن بينها في الكبر عموماً وخصوصاً من وجه، وأحسن من ذلك ما أشار إليه ابن جرير من أن كل آية أوضح في الحجة عليهم وأوكد مما قبلها، لأنها دلت على ما دلت عليه وزادت ما أفادته المعاضدة من الضخامة فصارت هي مع ما قبلها أكبر مما قبلها عند ورودها وإقامة الحجة بها.
ولما كان التقدير: فاستمروا على كفرهم ولم يرجعوا لشيء من الآيات لأنا أصممناهم وأعميناهم وأحطنا بهم الضلال لعلمنا بحالهم، عطف عليه قوله: ﴿وأخذناهم﴾ أي أخذ قهر وغلبة ﴿بالعذاب﴾ أي كله لأنا واترنا عليهم ضرباته على وجه معلم بأنا قادرون على ما نريد منه فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ﴿آيات مفصلات﴾ والقطع: البرد الكبار الذي لم يعهد مثله ملتهباً بالنار، وموت الأبكار، فكانت آيات على صدق موسى عليه الصلاة والسلام بما لها من الإعجاز، وعذاباً لهم في الدنيا موصولاً بعذاب الآخرة، فيا لها من قدرة باهرة وحكمة ظاهرة ﴿لعلهم يرجعون﴾ أي ليكون حالهم عند ناظرهم الجاهل بالعواقب حال من يرجى رجوعه.
ولما كان فرعون في كثير من الضربات التي كان يضربه بها
443
سبحانه - كما مضى في الأعراف عن التوراة - يقول لموسى عليه الصلاة والسلام: قد أخطأت والرب بار وأنا وشعبي فجار، فصلينا بين يدي الرب فإنه ذو إمهال وأناة، فيصرف عني كذا، فإذا صرف الله ذلك عنهم عاد على ما كان عليه من الفجور، كان فعله ذلك فعل من لا يعتقد أنه موسى عليه الصلاة والسلام نبي حقيقة، بل يعتقد أنه ساحر، وأن أفعاله إنما هي خيال، فكذلك عبر عن هذا المعنى بقوله عطفاً على ما تقديره، فلم يرجعوا: ﴿وقالوا﴾ أي فرعون بالمباشرة وأتباعه بالموافقة له: ﴿يا أيها الساحر﴾ فنادوه بأداة البعد مع الإفهام بقالوا دون «نادوا» أنه حاضر إشارة إلى بعده من قلوبهم، والتعبير بهذا توبيخ لقريش بالإشارة إلى أنهم وغيرهم ممن مضى يرمون الرسول بالسحر ويقرون برسالته عند الحاجة إلى دعائه في كشف ما عذبهم ربهم به، وذلك قادح فيما يدعون من الثبات والشجاعة والعقل والإنصاف والشهامة، وذلك كما وقع لقريش لما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف» فقحطوا، فلما اشتد عليهم البلاء أتى أبو سفيان بن حرب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة الشريفة فقال: يا محمد! إنك قد جئت بصلة الأرحام وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا لهم فأغيثوا، فلا شك أن ترجمة حالهم هذا الذي ذكره الله من التناقض الذي لا يرضاه لنفسه عاقل، وهو وصفه بالسحر
444
وطلب الدعاء منه يمنع اعتقاد أنه ساحر، واعتقاد أنه ساحر يمنع طلب الدعاء منه عند العاقل ﴿ادع لنا ربك﴾ أي المحسن إليك بما يفعل معك من هذه الأفعال التي نهيتنا بها إكراماً لك ﴿بما﴾ أي بسبب ما ﴿عهد عندك﴾ من أنه يفعل من وضعها ورفعها على ما تريد على ما أخبرتنا أنه إن آمنا أكرمنا، وإن تمادينا أهاننا، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكداً تقريباً لحالهم البعيدة من الاعتداء بما يخبر به شاهد الوجود: ﴿إننا لمهتدون﴾ أي اهتداء ثابتاً يصير لنا وصفاً لازماً عند كشف ذلك عنا.
ولما كان العاقل لا يخبر عن نفسه إلا بما هو صحيح، فكيف إذا كان عظيماً بين قومه فكيف إذا أكد ذلك بأنواع من التأكيد، فكان السامع لهذا الكلام يقطع بصدقه، بين تعالى ما يصحح أن حالهم حال من يعتقد أنه ساحر بأنهم أسرعوا الخيانة بالكذب فيه من غير استحياء ولا خوف، فقال معبراً بالفاء دلالة على ذلك: ﴿فلما كشفنا﴾ على ما لنا من العظمة التي ترهب الجبال ﴿عنهم العذاب﴾ أي الذي أنزلناه بهم ﴿إذا هم ينكثون﴾ أي فاجؤوا الكشف بتجديد النكث بإخلاف بعد إخلاف ﴿ونادى فرعون﴾ أي زيادة على نكثه ﴿في قومه﴾ أي الذين لهم غاية القيام معه، وأمر كلاً منهم أن يشيع قوله إشاعة تعم البعيد كما تشمل القريب فتكون كأنها مناداة إعلاماً
445
بأنه مستمر على الكفر لئلا يظن بعضهم أنه رجع. ولما كان كأنه قيل: لم نادى؟ أجاب بقوله: ﴿قال﴾ أي خوفاً من إيمان القبط لما رأى من أن ما شاهدوا من باهر الآيات مثله يزلزل ويأخذ بالقلوب: ﴿يا قوم﴾ مستعطفاً لهم بإعلامهم بأنهم لحمة واحدة، ومستنهضاً بوصفهم بأنهم ذوو قوة على ما يحاولونه، مقرراً لهم على عذره في نكثه بقوله: ﴿أليس لي﴾ أي وحدي ﴿ملك مصر﴾ أي كله، فلا اعتراض على بني إسرائيل ولا غيرهم، لينتج له ذلك على زعمه أن غلبته على بني إسرائيل ومقاهرته على إخراجهم من تحت يده بغى على من له الملك فتكون فساداً فلا بأس عليه إذا خدع من فعل به ذلك بما عاهده عليه عند مس الضر، ولم يقرأ بالصرف ليكون نصاً على مراده من العلمية، ولأن المصر يطلق على المدينة الواحدة، والتنوين يأتي للتحقير وهو ضد مراده.
ولما كان قد حصل له مما رأى من الآيات وورد عليه من تلك الضربات بأنواع المثلات ما أدهشه بحيث صار في عداد من
446
يشك أتباعه في ملكه، دل عليه بما بناه من الحال: ﴿وهذه﴾ أي والحال أن هذه ﴿الأنهار﴾ وكأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره، ونحو ذلك من أموره فقال: ﴿تجري من تحتي﴾ أي من أي موضع أردته بما لا يقدر عليه غيري، وزاد في التقرير بقوله: ﴿أفلا تبصرون﴾ أي الذي ذكرته لكم فتعلموا ببصائر قلوبكم أنه لا ينبغي لأحد أن ينازعني، وهذا لعمري قول من ضعفت قواه وانحلت عراه.
447
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير: أفهذا الذي جاء يسلبنا عبيدنا بني إسرائيل خير عندكم مني؟ نسق عليه قوله: ﴿أم أنا خير﴾ مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء، ونقل ابن الجوزي وغيره من المفسرين عن سيبويه وأستاذه الخليل أنها معادلة لتقريرهم بالإبصار، فكأنه قال: أفلا تبصرون ما ذكرتكم به فترون لعدم إبصاركم أنه خير مني أم أنا خير منه لأنكم لا تبصرون، وكان هو أحق بهذه النصيحة منهم فإنه أراهم الطريق الواضحة إلى الضلال والموصلة إليه من غير مشقة ولا تعب بقوله: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء، فيكون ذلك احتباكاً تقديره: أفلا تبصرون ما
447
نبهتكم عليه، فذكر الإبصار أولاً دليلاً على حذف مثلها ثانياً والخيرية ثانياً دليلاً على حذف مثلها أولاً، وحقر من عظمة الآتي له بتلك الآيات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لئلا يسرع الناس إلى اتباعه لأن آياته - لكونها من عند الله - كالشمس بهجة وعلواً وشهرة فقال: ﴿من هذا﴾ فكنى بإشارة القريب عن تحقيره، ثم وصفه بما يبين مراده فقال: ﴿الذي هو مهين﴾ أي ضعيف حقير قليل ذليل، لأنه يتعاطى أموره بنفسه، وليس له ملك ولا قوة يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً ﴿ولا يكاد يبين﴾ أي لا يقرب من أن يعرب عن معنىً من المعاني لما في لسانه من الحبسة فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان يستجلب القلوب ويدهش الألباب فيكثر أتباعه ويضخم أمره، وقد كذب في جميع قوله، فقد كان موسى عليه الصلاة والسالم أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله الذي أرسله له وأمره إياه ولكن الخبيث أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لأتباعه لأن موسى عليه الصلاة والسلام ما دعا بإزالة حبسته بل بعقدة منها.
ولما كان عند فرعون وعند من كان مثله مطموس البصيرة فاقد
448
الفهم وقوفاً مع الوهم أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الأعراض الدنيوية، والتحلي بحلي الملوك، سبب عن ادعائه لرسالته عن ملك الملوك اللازمة للقرب منه قوله: ﴿فلولا﴾ ولما كانت الكرامات والحبى والخلع تلقى على المكرم بها إلقاء، عبر به فقال: ﴿ألقي﴾ أي من أيّ ملق كان ﴿عليه﴾ من عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة ﴿أسورة﴾ جمع أسورة - قاله الزجاج، وصرف لصيرورته على وزن المفرد نحو علانية وكراهية، والسوار: ما يوضع في العصم من الحلية ﴿من ذهب﴾ ليكون ذلك أمارة على صدق صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات ﴿أو جاء معه﴾ أي صحبته عندما أتى إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم ﴿الملائكة﴾ أي هذا النوع، وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله: ﴿مقترنين﴾ أي يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن
449
إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه، فأهلكه الله بها إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله أهلكه الله به، واستصغر موسى عليه الصلاة والسلام وعابه بالفقر والغي فسلطه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئاً إلا غلبه - أفاده القشيري.
ولما كان كلامه هذا واضعاً له عند من تأمل لا رافعاً، وكان قد مشى على أتباعه لأنهم مع المظنة دون المنة، فهم أذل شيء لمن ثبتت له رئاسته دنيوية وإن صار تراباً، وأعصى شيء على من لم تفقه له الناس وإن فعل الأفاعيل العظام، تشوف السامع إلى ما يتأثر عنه فقال: ﴿فاستخف﴾ أي بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب ﴿قومه﴾ الذين لهم قوة عظيمة، فحملهم بغروره على ما كانوا مهيئين له في خفة الحلم ﴿فأطاعوه﴾ بأن أقروا بملكه وأذعنوا لضخامته واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان كلامه كما مضى أعظم موهن لأمره وهو منقوض
450
على تقدير متانته بأن موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نبينا وعليه وسلم أتى بما يغني عما قاله من الأساورة وظهور الملائكة بأنه مهما هددهم فعله ومهما طلبوه منه أجابهم إليه، فلم يكن للقبط داع إلى طاعة فرعون بعدما رأوا من الآيات إلا المشاكلة في خباثة الأرواح، علل ذلك سبحانه بقوله مؤكداً لما يناسب أحوالهم فيرتضي أفعالهم وهم الأكثر: ﴿إنهم كانوا﴾ أي بما في جبلاتهم من الشر والنفاق لأنهم كانوا ﴿قوماً﴾ أي عندهم قوة شكائم توجب لهم الشماخة إلا عند من يقهرهم بما يألفون من أسباب الدنيا ﴿فاسقين﴾ أي عريقين في الخروج عن طاعة الله إلى معصية، قد صار لهم ذلك خلقاً ثانياً، وكأن مدة محاولة الكليم عليه الصلاة والسلام لهم كانت قريبة، فلذلك عبر بالفاء في قوله: ﴿فلما آسفونا﴾ أي فعلوا معناه ما يغضب إغضاباً شديداً بإغضاب أوليائنا كما في الحديث القدسي «مرضت فلم تعدني» لنكثهم مرة بعد مرة وكرة في إثر كرة ﴿انتقمنا منهم﴾ أي أوقعنا بهم على وجه المكافأة لما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة مكروهة
451
كأنها بعلاج ﴿فأغرقناهم﴾ في اليم ﴿أجمعين﴾ إهلاك نفس واحدة لم يفلت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم، وهذا لا يكون في العادة إلا بعد علاج كثير أو اعتناء كبير.
ولما كان إهلاكهم بسبب إغضابهم لله وبالكبر على رسله، كانوا سبباً لأن يتعظ بحالهم من يأتي بعدهم فلذلك قال تعالى: ﴿فجعلناهم﴾ أي بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه ﴿سلفاً﴾ متقدماً لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة وقدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال سبحانه عز من قائل وتبارك وتعالى ﴿وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار﴾ [القصص: ٤١] :﴿ومثلاً﴾ أي حديثاً عجيباً سائراً مسير المثل ﴿للآخرين﴾ الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين، فمن قضى أن يكون على مثل حالهم عمل مثل أعمالهم، ومن أراد
452
النجاة مما نالهم تجنب أفعالهم، فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر، وجعل له منهم مثلاً يجترئ به على شره، ويقوى على خبثه ومكره، فيجعل الشرير ما أوتوه من الدنيا من النعمة والحبرة الرفاهية والنصرة مثلاً له في التوصل إليه مما كانوا عليه من الظلم، ويجعل الخير إهلاكهم مثلاً له فيبعد عن أفعالهم لينجو من مثل نكالهم، يقول أحدهم: أخذ الفلانيون أخذ آل فرعون، أي لم يفلت منهم إنسان ونحو ذلك من أمثالهم في جميع أحوالهم، ونقول نحن: إنا نهلك من ظلم وتمادى في ظلمه بعد تحذيرنا له وغشم وإن عظم آله وأتباعه، وظن عزه وامتناعه، كدأب آل فرعون، ويقول من أريد به الشر: ليس على ظهرها أحد يبقى إن خاف العواقب فأحجم عن شهواته وانهمك في رياض أهويته وإرادته وشهي طيباته وكذا ذاته كما وقع لفرعون فإنه لم يرجع لشيء عن رئاسته، وبلوغ النهاية من صلفه ونفاسته إلى أن ذهب به كما ذهب بغيره سواء سار بسيره أو بغير سيره، ولقد ضل به قوم وأضلوا، وحلوا لمن داناهم
453
عرى الدين فزلوا، وما كفاهم ذلك حتى ادعوا أنه من أعز المقربين لأن الذي كان آخر كلامه الإيمان، فجب ما كانا قبله ولم يتدنس بعده فمات طاهراً مطهراً ليس فيه شيء من الدنس مع أن ذلك ما كان إلا عند اليأس حيث لا نفع فيه، وغروا الضعفاء بأن قالوا: إنه لا صريح في القرآن بعذابه بعد الموت تعمية عن الدليل القطعي المنتظم من قوله تعالى ﴿وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين﴾ [يونس: ٨٣] ﴿وإن المسرفين هم أصحاب النار﴾ [غافر: ٤٣] المنتج من غير شك أن فرعون من أصحاب النار، وقوله تعالى ﴿فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين﴾ [القصص: ٤٠] ﴿وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون﴾
وقوله تعالى ﴿كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد﴾ إلى أن قال ﴿إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب﴾ [ص: ١٤] غير ذلك من محكم الآيات وصريح الدلالات البينات، وكذا غير فرعون وقومه من الصالحين والطالحين جعلهم سبحانه سلفاً ومثلاً للآخرين، فمن أراد به خيراً يسر له مثل خير احتذى به، ومن أراد به شراً أضله بمثل سوء اقتدى به، فقد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لتمام قدرته على اختراع الأشياء بأسباب وبغير أسباب، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر، فاقتدى
454
به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة، وصاروا يفرحون بما لا يرضاه عاقل ولا يراه، وضربه قومك مثلاً لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا: ﴿ولما ضرب ابن مريم﴾ أي ضربه ضارب منهم ﴿مثلاً﴾ لآلهتهم ﴿إذا قومك﴾ أي الذين أعطيناهم قدرة على القيام بما يحاولونه ﴿منه﴾ أي ذلك المثل ﴿يصدون﴾ أي يضجون ويعلون أصواتهم سروراً بأنهم ظفروا على زعمهم بتناقض، فيعرضون به عن إجابة دعائك، يقال: صد عنه صدوداً: أعرض، وصد يصد ويصل: ضج - قاله في القاموس، فلذلك قال ابن الجوزي: معناهما جميعاً - أي قراءة ضم الصاد وقراءة كسرها - يضجون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يعرضون، قال ابن برجان: والكسر أعلى القراءتين - انتهى.
وذلك أن قريشاً قالوا كما مضى في الأنبياء ﴿إنا وما نعبد في جهنم﴾ مقتض أن يكون عيسى كذلك، وأن نستوي نحن وآلهتنا به، فإنه مما عبد ونحن راضون بمساواته لنا - إلى آخر ما قالوا
455
وما رد عليهم سبحانه به من الآية من العام الذي أريد به الخصوص كما هو مقتضى كلامهم ولسانهم في أن الأصل في «ما» لما لا يعقل، وذلك هو المراد من قوله تعالى حاكياً عنهم: ﴿وقالوا أآلهتنا﴾ التي نعبدها من الأصنام والملائكة ﴿خير أم هو﴾ أي عيسى فنحن راضون بأن نكون معه.
ولما اشتد التشوف إلى جوابهم، وكان قد تقدم الجواب عنه في الأنبياء، قدم عليه هنا أن مرادهم بذلك إنما هو المماحكة والمماحلة والمراوغة والمقاتلة فقال تعالى: ﴿ما ضربوه﴾ أي ما ضرب الكفار: ابن الزبعري حقيقة وغيره من قومك مجازاً، المثل لآلهتهم بعيسى عليه الصلاة والسلام ﴿لك إلا جدلاً﴾ أي لإرادة أن يقتلوك عن دعوتك مغالطة وهم عالمون بأن ما ألزموك به غير لازم ولم يعتقدوا لزومه قط لأن الكلام ما كان إلا في أصنامهم، ولأن الخصوص في كلامهم شائع، ولأنه قد عقب بما يبين الخصوص ويزيل اللبس على تقدير تسليمه، فلم يقتدوا قط بما ألزموا به أنه لازم ﴿بل هم قوم﴾ أي أصحاب قوة على القيامة بما يحاولونه ﴿خصمون﴾ أي شديدو الخصام قادرون على اللدد، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن
456
أبي إمامة رضي الله عنهم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ الآية».
457
ولما تضمن هذا أنه غير مهان، صرح به على وجه الحصر قصر قلب لمن يدعي أنه مقصور على الإلهية فقال: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هو﴾ أي عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿إلا عبد﴾ وليس هو بإله ﴿أنعمنا﴾ أي بما لنا من العظمة والإحسان ﴿عليه﴾ أي بالنبوة والإقدار على الخوارق ﴿وجعلناه﴾ بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته ﴿مثلاً﴾ أي أمراً عجيباً مع وضوحه وجلائه فيه خفاء وموضع شبهة بأن جعلناه من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ليضل بذلك من يقف مع المحسوسات، ودللنا على الحق فيه بما منحنا به من الخوارق وزكاء الأخلاق وطيب الشيم والإعراق إسعاداً لمن أعليناه بنور قلبه وصفاء لبه إلى إحسان النظر في المعاني ﴿لبني إسرائيل﴾ الذين هم أعلم الناس به، بعضهم بالمشاهدة وبعضهم بالنقل القريب، فلما جاءهم على تلك الحالة الجلية في كونها حقاً بما كان على يديه ويدي أمه من الكرامات، آمن به من بصره الله منه بالحق من أمره بما كان فيه
457
من الكرامات، وكان كلما رأى رجلاً منهم على منهاجه في أعماله وكرامته اهتدى إلى الحق من أمره، وقال: هذا مثله عيسى عليه الصلاة والسلام فانتفع بالنبي ومن تبعه بإحسان، فنال من الله الرضوان، وقال أيضاً هذا الموفق مستبصراً في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام: مثله في ذلك مثل أبيه آدم عليه الصلاة والسلام في إخراجه من أنثى بلا ذكر، بل آدم عليه الصلاة والسلام أعجب، ومثل ابن خالته يحيى وجده إسحاق عليهما الصلاة والسلام في إخراج كل منهما بسبب هو في غاية الضعف، هذه أمثاله الحسنة وقال من أراد الله به الضلال منهم غير ذلك من المحال، فلما جعلوا له أمثال السوء ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وقال ابن برجان: خصهم - أي بني إسرائيل - بالذكر لأنهم المفتونون بالدجال المسارعون إليه، ثم قال: وإنما المثل في ذلك متى جاء الدجال بتلك الآيات يدعو إلى نفسه فيعارض ما يأتي به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وتأييده بروح القدس، أي فيضل عن الأمر الواضح من أراد الله فتنته - انتهى، والأحسن أن يكون معنى كونه مثلاً أنه جعل أمره واضحاً جداً بحيث أنه يمثل به فيكون موضحاً لغيره، ولا يحتاج هو إلى مثل يوضحه عند من له أدنى بصيرة.
ولما كان التقدير: فلو شئنا لجعلنا الناس كلهم من أنثى بلا ذكر، ولو شئنا لساويناكم بهم في ذلك الذي ضربناه عليهم من الذل عندما
458
جعلوا له مثل السوء فزدنا ما أنتم فيه من الذل والحقارة عن سائر الأمم بأن سلطانهم عليكم حتى استباحوكم، ولو شئنا لمحوناكم أجمعين عن وجه الأرض فتركناها بيتاً؟ لا أنيس بها، عطف عليه قوله: ﴿ولو﴾ معبراً بصيغة المضارع إشارة إلى دوام قدرته على تجديد الإبداع فقال: ﴿نشاء لجعلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ما هو أغرب مما صنعناه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿منكم﴾ أي جعلاً مبتدئاً منكم، إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى من غير ذكر وجعلنا آدم عليه الصلاة والسلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر وإما بالبدلية ﴿ملائكة في الأرض يخلفون *﴾ أي يكونون خلفاً لكم شيئاً بعد شيء بعد إعدامكم فجعلناهم مثلاً لكم كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون المعنى: لجعلنا بعضكم ملائكة بأن نحول خلقتهم فنجعلهم خلفاً لمن تحولوا عنهم ونخلف بعضهم بعضاً، فإنهم من جملة عبادنا أجسام تقبل التوليد كما تقبل الإبداع، وعلى كلا التقديرين فذلك إشارة إلى أن الملائكة ذوات ممكنة من جملة عبيده سبحانه، يصرفهم في مراده إن شاء في السماء، وإن شاء في الأرض، لا شيء منكم إلا وهو بعيد جداً عن رتبة الإلهية إرشاداً لهم إلى الاعتقاد
459
الحق في أمره سبحانه بشمول قدرته وكمال علمه اللازم منه أنه لا إله إلا هو.
ولما ذكر سبحانه الإعدام والخلافة بسببه فرضاً، ذكر أن إنزاله إلى الأرض آخر الزمان أمارة على إعدام الناس تحقيقاً، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم: ﴿وإنه﴾ أي عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿لعلم للساعة﴾ أي نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي إعدامه الخلائق كلهم بالموت، وكذا ما نقل عنه من أنه كان يحيى وكذا إبراؤه الأسقام سبب عظيم للقطع بالساعة التي هي القيامة، فهو سبب للعلم بالأمرين: عموم الإعدام وعموم القيام.
ولما كان قريش يستنصحون اليهود يسألونهم - لكونهم أهل الكتاب - عن أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان النصارى مثلهم في ذلك، وكان كون عيسى عليه الصلاة والسلام من أعلام الساعة أمراً مقطوعاً به عند الفريقين، أما النصارى فيقولون: إنه الذي أتى إليهم ورفع إلى السماء كما هو عندنا، وأما اليهود فيقولون: إنه إلى الآن لم يأت، ويأتي بعد، فثبت بهذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام فيما أخبر الله تعالى عنه من إنعامه عليه، ومن أنه من أعلام الساعة بشهادة الفرق الثلاثة اليهود والنصارى والمسلمين ثباتاً عظيماً جداً، فصارت كأنها مشاهدة، فلذلك سبب عما سبق قوله على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، لافتاً القول إلى مواجهتهم مؤكداً في مقابلة
460
إنكارهم لها بما ثبت من شهادة الفرق الثلاثة: ﴿فلا تمترن﴾ أي تشكوا أدنى شك وتضطربوا أدنى اضطراب وتجحدوا أدنى جحد وتجادلوا أدنى جدل ﴿بها﴾ أي بسببها، يقال: مرى الشيء وامتراه: استخرجه، ومراه مائة سوط: ضربه، ومراه حقه، أي جحده، والمرية بالضم والكسر: الجدل والشك ﴿واتبعون﴾ أي أوجدوا تبعكم بغاية جهدكم ﴿هذا﴾ أي كل ما أمرتكم به من هذا وغيره ﴿صراط﴾ أي طريق واسع واضح ﴿مستقيم﴾ أي لا عوج فيه.
ولما حثهم على السلوك لصراط الولي الحميد بدلالة الشفوق النصوح الرؤوف الرحيم، حذرهم من العدو البعيد المحترق الطريد، فقال دالاً على عظيم فتنته بما له من التزيين للمشتهى والأخذ من المأمن والتلبيس للمشكل والتغطية للخوف بالتأكيد، لما هم تابعون من ضده على وجه التقليد: ﴿ولا يصدنكم﴾ أي عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي ﴿الشيطان﴾ ولما كان كأنه قيل
461
ما له يصدنا عن سبيل ربنا؟ ذكر العلة تحذيراً في قوله: ﴿إنه لكم﴾ أي عامة، وأكد الخبر لأن أفعال التابعين لكم أفعال من ينكر عداوته: ﴿عدو مبين﴾ أي واضح العداوة في نفسه مناد بها، وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب، عداوة ناشئة عن الحسد، فهي لا تنفك أبداً.
ولما قدم سبحانه أنه أنعم على عيسى عليه الصلاة والسلام وجعله مثلاً لبني إسرائيل، ولوح إلى اختلافهم وأن بعضهم نزل مثله على غير ما هو به، وحذر من اقتدى بهم في نحو ذلك الضلال، وأمر باتباع الهادي، ونهى عن اتباع المضل، صرح بما كان من حالهم حين أبرزه الله لهم على تلك الحالة الغريبة، فقال عاطفاً على ما تقدم تقديره بعد قوله تعالى ﴿وجعلناه مثلاً﴾ :﴿ولما جاء عيسى﴾ أي إلى بني إسرائيل بعد موسى عليهما الصلاة والسلام: ﴿بالبينات﴾ أي من الآيات المسموعة والمرئية، ﴿قال﴾ منبهاً لهم: ﴿قد جئتكم﴾ ما يدلكم قطعاً على أنه آية من عند الله وكلمة منه أيضاً ﴿بالحكمة﴾ أي الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه ولا يدفع إلا بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال.
462
ولما كان المراد بالحكمة ما نسخ من التوراة وغيره من كل ما أتاهم به، فكان التقدير: لتتبعوه وتتركوا ما كنتم عليه أمراً خاصاً هو من أحكم الحكمة فقال: ﴿ولأبين لكم﴾ أي بياناً واضحاً جداً ﴿بعض الذي تختلفون﴾ أي الآن ﴿فيه﴾ ولا تزالون تجددون الخلافة بسببه، وهذا البعض الظاهر بما يرشد إليه ختام الآية أنه المتشابه الذي كفروا بسببه بينه بياناً يرده إلى المحكم، ويحتمل أن يكون بعض المتشابه، وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه، فالمحكم ما لا لبس فيه، والمتشابه ما يكون ملبساً، وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم، أو يعجز فيقول: الله أعلم، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ولا يتزلزل، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره فيشبه كأهل الاتحاد الجوامد المفتونين بالمشاهدة ويؤول بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن.
ولما صح بهذا أن الذي أرسله الملك الأعلى الذي له الأمر
463
كله، فهو فعال لما يشاء، وكان الحامل على الانتفاع بالرسل عليهم الصلاة والسلام التقوى، سبب عنه قوله تعالى: ﴿فاتقوا الله﴾ أي خافوه لما له من الجلال بحيث لا تقدموا على شيء إلا ببيان منه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجوه إلا بإذنه ﴿وأطيعون *﴾ فيما أنقلكم إليه وأبينه لكم مما أبقيكم عليه، فإني لا آخذ شيئاً إلا عنه، ولا أتلقى إلا منه، فطاعتي لأمره بما يرضيه هي ثمرة التقوى، وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه.
464
ولما أمرهم بطاعته، علل ذلك بما أزال تهمته ما يطاع فيه، فقال مؤكداً لما في أعمالهم من المجاملة المؤذنة بالتكذيب: ﴿إن الله﴾ أي الذي اختص بالجلال والجمال، فكان أهلاً لأن يتقى ﴿هو﴾ أي وحده ﴿ربي وربكم﴾ نحن في العبودية بإحسانه إلينا وسيادته لنا على حد سواء، فلولا أنه أرسلني لما خصني عنكم بهذه الآيات البينات ﴿فاعبدوه﴾ بما آمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباع ما ظهر على يدي فصار هو الآمر لا أنا.
ولما كان دعاؤه إلى الله بما لا حظ له عليه الصلاة والسلام فيه دل قطعياً على صدقه ولا سيما وقد اقترن بالمعجزات مع كونه في
464
نفسه في غاية الخفية لا يستطاع بعضه بوجه، أشار إلى ذلك كله بقوله على وجه الاستنتاج مما مضى مرغباً فيه دالاً على اقتضائه الطاعة ﴿هذا﴾ أي الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه ﴿صراط﴾ أي طريق واسع جداً واضح ﴿مستقيم﴾ لا عوج له.
ذكر ما يدل على أنه أتى بالحكمة من الإنجيل:
قال متى أحد مترجميه الأربعة وقد خلطت تراجمهم وأغلب السياق لمتى: فلما خرج يسوع وجاء إلى نواحي صور وصيدا إذا بامرأة كنعانية - وقال مرقس: يونانية - خرجت من تلك التخوم تصيح وتقول: ارحمني يا رب يا ابن داود! ابنتي بها شيطان رديء، فلم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه وسألوه قائلين: اصرف هذه المرأة لأنها تصيح خلفنا، أجاب وقال لهم: لم أرسل إلا إلى الخراف من بيت إسرائيل، فأتت وسجدت له قائلة: يا رب أعني فأجاب: ليس هو جيداً أن يؤخذ خبز البنين فيعطى للكلاب، فقالت: نعم! يا رب،
465
والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها، حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة عظيمة أمانتك يكون لك كما أردت، فبرئت ابنتها منه تلك الساعة، وقال مرقس: فقال لها من أجل هذه الكلمة اذهبي، قد خرج الشيطان من ابنتك، فهذبت إلى ابنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها، فجاؤوا إليه بأخرس أصم فطلبوا إليه أن يضع يده عليه، فأخرجوه وحده من الشعب، وترك أصابعه في أذنيه، وتفل ثم مس لسانه ونظر إلى السماء وشهد وقال: الفاثاً الذي هو التفتح، وللوقت انفتح سمعه وسمع، وانحل رباط لسانه وتكلم مستوياً، ووصاهم أن لا يقولوا لأحد شيئاً فأتاهم فكانوا ينكرون كثيراً ويبهتون جداً، قائلين: ما أحسن كل شيء! يصنع الخرس يتكلمون والصم يسمعون، وقال مرقس: ثم جاء إلى بيت صيدا فقدموا إليه أعمى، وطلبوا منه أن يلمسه، فأخذ بيد الأعمى ثم أخرجه خارجاً من القرية، وتفل في عينيه ووضع يده عليه وسأله: ما ينظر؟ قال: أنظر الناس مثل الشجر يمشون، فوضع يده أيضاً على عينيه، فأبصر حيناً ونظر إلى كل شيء ظاهراً، قال: ثم جاء إلى ناحية قيسارية فيلقس فسأل تلاميذه: ماذا يقول الناس في ابن
466
الإنسان؟ فقال قوم: يوحنا المعمدان، وآخرون: إليا، وآخرون: إرميا، وواحد من الأنبياء، فقال لهم: فأنتم ماذا تقولون؟ أجاب سمعان بطرس - وقال: أنت هو المسيح، أجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأنه ليس جسد يسعى وأبواب الجحيم لا تقوى عليه ولك أعطي ملكوت السماوات، وما ربطته الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وما حللته على الأرض يكون محلولاً في السماوات، وبدأ يسوع من ذلك الوقت يخبر تلاميذه أنه ينبغي أن يمضي إلى يروشليم ويقبل الآماً كثيرة من المشايخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وقال: من أراد أن يخلص نفسه فليهلكها، وهن أهلك نفسه من أجلي وجدها، وما ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداء لنفسه، وقال لوقا: وكان جمع كثير ينطلق فالتفت لهم وقال لهم: من يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته نعم حتى نفسه، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً، من منكم يريد أن يبني برجاً ولا يجلس أولاً ويحسب
467
نفقته؟ وهل له ما يكمله لكيما يستهزىء به كل من ينظره إذا وضع الأساس ولم يقدر على إكماله، وأي ملك يخرج إلى محاربة ملك آخر فلا يجلس أولاً ويفكر هل يستطيع أن يلقي بعشرة آلاف الموافي إيه في عشرين ألفاً إلا فما دام بعيداً منه يرسل رسلاً رسل سلامة، وهكذا كل منكم إن لم يرفض كل شيء له لا يقدر أن يكون لي تلميذاً، وذكر لوقا أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان في وليمة فقال مثلاً لأنهم كانوا يتخيرون المتكآت فقال لهم: متى دعاك أحد إلى عرس فلا تجلس في أول الجماعة، فلعله قد دعا هناك أكرم منك عليه فيأتي الذي دعاه فيقول له: يا حبيب! ارتفع إلى فوق، حينئذ يكون لك مجداً قدام المتكئين معك لأن كل من يرتفع يتضع، وكل من يتضع يرتفع، وقال للذي دعاه: وإذا صنعت وليمة فلا تدع أحباءك ولا إخوتك ولا أقاربك ولا أغنياء جيرانك لعلهم أن يدعوك أيضاً فيكون لك مكافأة، لكن إذا صنعت طعاماً فادع المساكين والعور والضعفاء والعميان، وطوباك لأنه ليس لك ما يكافئونك، ومجازاتك تكون في قيامة الصديقين، فسمع واحد من المتكئين ذلك، فقال له: طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله، وقال متى: وجاء تلاميذ يسوع إليه وقالوا له: من هو العظيم في ملكوت
468
السماوات، فدعا طفلاً وأقامه بينهم وقال: الحق أقول: إن لم ترجعوا وتكونوا مثل الصبيان لا تدخلوا ملكوت السماوات، ومن اتضع مثل هذا الصبي فهو العظيم في ملكوت السماوات، ومن قبل صبياً مثل هذا باسمي فقد قبلني، قال مرقس: ومن قبلني فليس يقبلني فقط بل والذي أرسلني، وقال لوقا: ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني، والذي هو الصغير فيكم هو الأكبر، قال متى: ومن شك أحد هؤلاء الصغار المؤمنين فخير أن يعلق حجر الرحى في رقبته، ويغرق في البحر، الويل للعالم من الشكوك لكمن الويل للإنسان الذي يأتي منه الشكوك، إن شكتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك، فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعرج أو أعشم من أن يكون لك يدان أو رجلان وتلقى في نار الأبد، وقال مرقس: وتذهب إلى جهنم حتى لا تطفأ نارها ولا يموت دورها - انتهى.
وإن شكتك عينك فاقلعها وألقها عنك فخير لك أن تدخل الحياة بعين واحدة من أن يكون لك عينان وتلقى في جهنم، وقال مرقس: وكل شيء بالنار يملح وكل ذبيحة تملح بالملح جيد هو الملح، فإن فسد الملح فبماذا يملح فليكن فيكم الملح، ويكون سلام بعضكم بعضاً، وقال لوقا: ثم قال: من أجل
469
أقوام يقولون: إنهم صديقون ويحقرون البقية، هذا المثل رجلان صعدا إلى الهيكل ليصليا، أحدهما فريسي والآخر عشار، فأما الفريسي فإنه كان يصلي بهذا في نفسه: اللهم إني أشكرك لأني لست مثل سائر الناس العاصين الظلمة الفجار، ولا مثل هذا العشار، فكان قائماً من بعيد ولا يرى أن يرفع عينيه إلى السماء، وكان يضرب على صدره ويقول: اللهم اغفر لي فإني خاطئ، أقول لكم: إن هذا نزل إلى بيته أمر من ذلك لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ولك من يضع نفسه يرتفع، ثم قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم، فلما نظرهم التلاميذ نهروهم فقال: دعوا الصبيان يأتوا إليّ ولا تمنعوهم لأن ملكوت الله لمثل هؤلاء، الحق أقول لكم، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها، وقال متى: انظروا لا تحقروا أحد هؤلاء الصغار، لم يأت ابن الإنسان إلا ليطلب ويخلص من كان ضالاً، ماذا تظنون إذا كان الإنسان مائة خروف فضل منها واحد ليس يترك التسعة والتسعين في الجبل، ويمضي يطلب الضال؟ وقال لوقا: حتى يجده، الحق أقول لكم، إنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل، هكذا ليس مشيئة ربي الذي في السماوات أن يهلك أحد من هؤلاء الصغار، وقال لوقا: ودنا منه
470
العشارون والخطأة ليسمعوا منه فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين: هذا يقبل الخطأة ويأكل معهم، فقال لهم: أي رجل منكم له مائة خروف فيتلف واحد منها ليس يترك التسعة والتسعين في البرية ويمضي إلى الضال حتى يجده، فإذا وجده حمله على منكبيه فرحاً، ويأتي به إلى بيته ويدعو أصدقاءه وجيرانه ويقول لهم: افرحوا معي لوجودي خروفي الضال، أقول لكم: إنه يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب أكثر من التسعة والتسعين الصديق الذين لا يحتاجون إلى توبة، وأي امرأة لها عشرة دراهم يتلف واحد منها أليس توقد سراجاً وتكنس بيتها وتطلبه مجتهدة حتى تجده، فإذا وجدته دعت أحبابها وجاراتها قائلة: افرحوا لي لوجودي درهمي الضال، هكذا أقول لكم: يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب، وقال: إنسان له ابنان فقال الأصغر يا أبتاه! أعطني نصيبي من مالك فقسم بينهما ماله، وبعد أيام قليلة جمع الأصغر كل شيء له وسافر إلى كورة بعيدة، وبذر
471
ماله هناك بعيش بذخ، فلما نفد كل شيء له حدث جوع شديد في تلك الكورة فافتقر وانقطع إلى رجل منها فأرسله إلى حقله يرعى خنازير، وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلا يعطى ذلك، ففكر في نفسه وقال: كم من أجراء أبي يفضل عنهم الخبز وأنا ههنا أهلك جوعاً، أقوم أمضي إلى أبي وأقول: يا أبتاه! أخطأت في السماء وبين يديك، ولست بمستحق أن أدعى لك ابناً لكن اجعلني كأحد أجرائك فجاء إليه فنظره أبوه فتحنن وأسرع واعتنقه وقبله فقال: يا أبتاه! أخطأت في السماء وقدامك، ولست بمستحق أن ادعى لك ابناً، فقال أبوه لعبيده: قدموا الحلة الأولى وألبسوه وأعطوه خاتماً في يده، وحذاء في رجليه، وائتوا بالعجل المعلوف واذبحوه ونأكل ونفرح لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وضالاً فوجد، فبدؤوا يفرحون، وكان ابنه الأكبر في الحقل، فلما جاء وقرب من البيت سمع المزاهر واتفاق الأصوات والرقص، فدعا واحداً من الغلمة وسأله فقال له: إن أخاك قدم، وذبح أبوك
472
العجل المعلوف، فغضب ولم يرد أن يدخل، فخرج أبوه وطلب إليه فقال: كم لي من سنة أخدمك ولم أخالف لك وصية قط ولم تعطني جدياً واحداً أتنعم به مع أصدقائي، فلما جاء ابنك هذا الذي أكل مالك مع الزناة ذبحت له العجل المعلوف، فقال له: يا بني! أنت معي في كل حين وفي كل شيء هو لي، وينبغي لك أن تسر وتفرح لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش، وضالاً فوجد.
وقال: رجل كان غنياً يلبس الأرجوان وكان يتنعم كل يوم ويلذ، ومسكين كان اسمه العازر مطروحاً عند بابه مضروباً بقروح، وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة ذلك الغني، وكانت الكلاب تأتي وتلطع قروحه، فلما مات ذلك المسكين أخذته الملائكة إلى حصن إبراهيم، ومات ذلك الغني وقبو فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب، فنظر إبراهيم من بعيد والعازر في حصنه، فنادى: يا أبتاه إبراهيم! ارحمني وأرسل العازر ليبل طرف إصبعه بما يبرد لساني لأني معذب في اللهب، فقال له إبراهيم: يا ابني اذكر أنك قد قتلت جيرانك في حياتك والعازر في بلائه والآن فهو يستريح ههنا وأنت تعذب، ومع ذلك فبيننا وبينكم أهوية عظيمة نائية لا يقدر أحد على العبور من ههنا إليكم، ولا من هنا إلينا،
473
قال له: أسألك يا أبتاه أن ترسله إلى بيت أبي، فإن خمسة أخوة لكي يناشدهم لئلا يأتوا إلى موضع هذا العذاب، قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم، فقال له: يا أبتاه إبراهيم! إن لم يمض إليهم واحد من الأموات ما يتوبون؟ فقال له: إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء فليس إن قام واحد من الأموات يصدقونه، وقال لتلاميذه: سوف تأتي الشكوك والويل، الذي تأتي الشكوك من قبله خير له لو علق حجر رحى الحماز في عنقه ويطرح في البحر من أن يشك أحداً من هؤلاء الضعفاء - والله أعلم.
ولما كان الطريق الواضح القديم موجباً للاجتماع عليه، والوفاق عند سلوكه، بين أنهم سببوا عنه بهذا الوعظ غير ما يليق بهما بقوله: ﴿فاختلف﴾ وبين أنهم أكثروا الاختلاف بقوله: ﴿الأحزاب﴾ أي إنهم لم يكونوا فرقتين فقط، بل فرقاً كثيرة. ولما كانت العادة أن يكون الخلاف بين أمتين وقبيلتين ونحو ذلك، وكان اختلاف الفرقة الواحدة عجباً، بين أنهم من أهل القسم فقال: ﴿من بينهم﴾ أي اختلافاً ناشئاً ابتدأ من بين بني إسرائيل الذين جعلناهم مثلاً لهم:
474
وقال لهم: قد جئتكم بالحكمة، فسبب عن اختلافهم قوله: ﴿فويل﴾ وكان أن يقال: لهم، ولكنه ذكر الوصف الموجب للويل تعميماً وتعليقاً للحكم به. ولما كان في سياق الحكمة، وهو وضع الشيء في أتقن مواضعه، جعل الوصف الظلم الذي أدى إليه الاختلاف فقال: ﴿للذين ظلموا﴾ أي وضعوا الشيء في غير موضعه مضادة لما أتاهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به من الحكمة ﴿من عذاب يوم أليم﴾ أي مؤلم، وإذا كان اليوم مؤلماً لما الظن بعذابه.
ولما عم الظالمين بالوعيد بذلك اليوم فدخل فيه قريش وغيرهم، أتبعه ما هو كالتعليل مبرزاً له في سياق الاستفهام لأنه أهول فقال: ﴿هل﴾ وجرد الفعل إشارة إلى شدة القرب حتى كأنه بمرأى فقال: ﴿ينظرون﴾ أي ينتظرون ﴿إلا الساعة﴾ أي ساعة الموت العام والبعث والقيام، فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه.
ولما قدم الساعة تهويلاً تنبيهاً على أنها لشدة ظهور دلائلها كأنها مرئية بالعين هزاً لهم إلى تقليب أبصارهم لتطلب رؤيتها، أبدل منها زيادة في التهويل قوله تعالى: ﴿أن تأتيهم﴾ وحقق احتمال
475
رؤيتها بقوله: ﴿بغتة﴾ ولما كان البعث قد يطلق على ما يجهل من بعض الوجوه، أزال هذا الاحتمال بقوله: ﴿وهم لا يشعرون﴾ أي لا يحصل لهم بعين الوقت الذي يجيء نوع من أنواع العلم، ولا بما كالشعرة منه.
ولما كانت الساعة تطلق على الحبس بالموت وعلى النشر بالحياة، بين ما يكون في الثاني الذي هم له منكرون من أحوال المبعوثين على طريق الاسئتناف في جواب من يقول: هل يقومون على ما هم عليه الآن؟ فقال: ﴿الأخلاء﴾ أي في الدار ﴿يومئذ﴾ أي إذ تكون الساعة وهي ساعة البعث التي هي بعض مدلول الساعة ﴿بعضهم لبعض عدو﴾ ولما ينكشف لهم من أن تأخيرهم في الحياة هو السبب في عذابهم، فيقول التابع للمتبوع: أنت غررتني فضررتني، ويقول المتبوع: بل أنت كبرتني فصغرتني، ورفعتني فوضعتني، ونحو هذا من الكلام المؤلم أشد الإيلام ﴿إلا المتقين﴾ الذين تقم أمرهم بالتقوى وحثهم عليها.
ولما أفهم هذا أنهم لا عداوة بينه، بل يكونون في التواد على أضعاف ما كانوا عليه في الدنيا لما ظهر لهم من توادهم فيها وتناصرهم هو أفضى بهم إلى الفوز الدائم برضوان الله، وصل به حالاً بين فيها ما يتلقاهم به من تواد فيه سبحانه تشريفاً لهم وتسكيناً لما يقتضيه ذلك
476
المقام من الأهوال: ﴿يا عباد﴾ أي مقولاً لهم هذا، فخص بالإضافة إليه كما خصوه بالعبادة ﴿لا خوف﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿عليكم اليوم﴾ أي في الآخرة مما يحويه ذلك اليوم العظيم من الأهوال والأمور الشداد والزلازل ﴿ولا أنتم تحزنون﴾ أي لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به.
ولما ناداهم بما يطمع فيه سائر أهل الموقف لأن كل حزب يقولون: نحن عباده، خص المرادين بما يوئس غيرهم ولئلا يكون الوصف بالتقوى موقفاً لمن سمعه اليوم من الكفار عن الدخول وكانوا لا يستطيعون ذلك، فوصف سبحانه المتقين بما يهون الوصول إلى درجتهم على غيرهم فقال: ﴿الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذه الحقيقة ﴿بآياتنا﴾ الظاهر عظمتها في نفسها أولاً وبنسبتها إلينا ثايناً ﴿وكانوا﴾ أي دائماً بما هو لهم كالجبلة والخلق ﴿مسلمين﴾ أي منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد، فبذلك يصلون إلى حقيقة التقوى التامة.
477
ولما ذكر ما لهم بشارة لهم وترغيباً لغيرهم في اللحاق بهم على وجه فيه إجمال، شرح ذلك بقوله: ﴿ادخلوا الجنة﴾ ولما كانت الدار
477
لا تكمل إلا بالرفيق السار، قال تعالى: ﴿أنتم وأزواجكم﴾ أي نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله ﴿كانوا مسلمين﴾ ﴿تحبرون﴾ أي تكرمون وتزينون فتسرون سروراً يظهر أثره عليكم مستمراً يتجدد أبداً.
ولما كان هذا أمراً سائقاً إلى حالهم سابقاً لمن كان واقفاً عنهم إلى وصالهم، أقبل على ما لعله يوقفه الاشتغال بلهو أو مال محركاً لما جهل منه، ومنبهاً على ما غفل عنه، فقال عائداً إلى الغيبة ترغيباً في التقوى: ﴿يطاف عليهم﴾ أي المتقين الذين جعلناهم بهذا النداء ملوكاً ﴿بصحاف﴾ جمع صحفة وهي القصعة ﴿من ذهب﴾ فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم.
ولما كانت آنية الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل، جرى على ذلك المعهود، فعبر بجمع القلة في قوله: ﴿وأكواب﴾ جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له، قد تفوق عن شيء منه اليد أو الشفقة أو يلزم منها بشاعة في شيء من دائر الكوز، وإيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتزيد أوصافه عن أذى
478
أو نحو ذلك.
ولما رغب فيها بهذه المغيبات، أجمل بما لا يتمالك معه عاقل عن المبادرة إلى الدخول فيما يخصها فقال: ﴿وفيها﴾ أي الجنة. ولما كانت اللذة محصورة في المشتهى قال تعالى: ﴿ما تشتهيه الأنفس﴾ من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة وغيرها جزاء لهم على ما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا، ولما كان ما يخص المبصرات من ذلك أعظم، خصها فقال: ﴿وتلذ الأعين﴾ من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم تعالى، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.
ولما كان ذلك لا يكمل طيبه إلا بالدوام، قال عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وألذ مبشر لجميع المقبلين على الكتاب، والملتفت إليهم بالترغيب في هذا الثواب، بشارة لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بما قدمه في أول السورة وأثنائها من بلوغ قومه نهاية العقل والعلم والموصلين إلى أحسن العمل الموجب للسعادة: ﴿وأنتم فيها خالدون﴾ لبقائها وبقاء كل ما فيها، فلا كلفة عليكم أصلاً من خوف من زوال ولا حزن من فوات.
ولما كان التقدير: الجنة التي لمثلها يعمل العاملون، عطف عليه قوله مشيراً إلى فخامتها بأداة البعد: ﴿وتلك الجنة﴾ أي العالية المقام ﴿التي﴾ ولما كان الإرث أمكن للملك، وكان مطمح النفوس إلى المكنة
479
في الشيء مطلقاً لا يبعد، بني للمفعول قوله تعالى: ﴿أورثتموها﴾ ولما كان ما حصله الإنسان بسعيه ألذ في نفسه لسرورة بالتمتع به وبالعمل الذي كان من سببه، قال تعالى: ﴿بما﴾ وبين أن العمل كان لهم كالجبلة التي جبلوا عليها، فالمنّة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم بقوله: ﴿كنتم تعملون﴾ أي مواظبين على ذلك لا تفترون.
ولما كان الأكل أعم الحاجات وأعم الطلبات، قال تعالى مبيناً أن جميع أكلهم تفكه ليس فيه شيء تقوتاً لأنه لا فناء فيها لقوة ولا غيرها لتحفظ بالأكل ولا ضعف ﴿لكم فيها فاكهة﴾ أي ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً. ولما كان ما يتفكه في الدنيا قليلاً قال تعالى: ﴿كثيرة﴾ ودل مع الكثرة على دوام النعمة بقصد التفكه بكل شيء فيها بقوله: ﴿منها﴾ أي لا من غيرها مما يلحظ فيه التقوت ﴿تأكلون﴾ فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع، لا يؤخذ منه شيء إلا خلف مكانه مثله أو أكثر منه في الحال.
ولما ذكر ما للقسم الثاني من الإخلاء وهم المتقون ترغيباً
480
لهم في التقوى، أتبعه ما لأضدادهم اهل القسم الأول تحذيراً من مثل أعمالهم، فقال استئنافاً مؤكداً في مقابلة إنكارهم: ﴿إن المجرمين﴾ أي الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل ﴿في عذاب جهنم﴾ أي النار التي من شأنها لقاء داخلها بالتجهم والكراهة والعبوسة كما كان يعمل عند قطعه لأولياء الله تعالى ﴿خالدون﴾ لأن إجرامهم كان طبعاً لهم لا ينفكون عنه أصلاً ما بقوا.
ولما بين إحاطته بهم إحاطة الظرف بمظروفه، وكان من المعلوم أن النار لا تفتر عمن لابسته إلا بمفتر بمنعها بماء يصبه عليها أو تقليل من وقودها أو غير ذلك خرقاً للعادة، بين أن لا يعتريها نقصان أصلاً كما يعهد في عذاب الدنيا لأنهم هم وقودها فقال تعالى: ﴿لا يفتر عنهم﴾ أي يقصد إضعافه بنوع من الضعف، فنفي التفتير نفي للفتور من غير عكس، قال البيضاوي: وهو من فترت عنه الحمى - إذا سكنت، والتركيب للضعف.
ولما كان انتظار الفرج مما يخفف عن المتضايق، نفاه بقوله:
481
﴿وهم فيه مبلسون *﴾ أي ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج.
ولما كان ربما ظن من لا بصيرة له أن هذا العذاب أكبر وأكثر مما يستحقونه، أجاب سبحانه بقوله ليزيد عذابهم برجوعهم باللائمة على نفسوهم ووقوعهم في منادمات الندامات: ﴿وما ظلمناهم﴾ نوعاً من الظلم لأنه تعالى مستحيل في حقه الظلم ﴿ولكن كانوا﴾ جبلة وطبعاً وعملاً وصنعاً دائماً ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿الظالمين﴾ لأنهم بارزوا المنعم عليهم بالعظائم ونووا أنهم لا ينفكون عن ذلك بقوا، والأعمال بالنيات، ولو كانوا يقدرون على أن لا يموتوا لما ماتوا.
ولما كان من مفهوم الإبلاس السكوت، أعلم بأن سكوتهم ليس دائماً لأن الإنسان إذا وطن نفسه على حالة واحدة ربما خف عنه بعد الألم، فقال مبيناً أنهم من البعد بمحل كبير لا يطمعون معه في خطاب الملك، وأنهم مع علمهم باليأس يعلقون آمالهم بالخلاص كما يقع للمتمنين للمحالات في الدنيا ليكون ذلك زيادة في المهم: ﴿ونادوا﴾ ثم بين أن المنادي خازن النار فقال مؤكداً لبيان البعد بأداته: ﴿يا مالك﴾ وقراءة «يا مال» للإشارة إلى أن العذاب أوهنهم
482
عن إتمام الكلام، ولذا قالوا: ﴿ليقض علينا﴾ أي سله سؤالاً حتماً أن القضاء الي لا قضاء مثله، وهو الموت على كل وحد منا، وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا: ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك فلم يروا لله عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة، فلا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه، ولذلك جعل النار دركات كما كانت الجنة درجات، ويجوز أن تكون عبارتهم بذلك تغييظاً له بما رأوا من ملابسة النار من تأثير فيه، ونداؤهم لا ينافي إبلاسهم لأنه السكوت عن يأس، فسكوتهم المقيد باليأس دائم، فلذلك سألوا الموت، والحاصل أنهم لا يتكلمون ما يدل على رجاء الفرج بل هم ساكتون أبداً عن ذلك.
.. اليأس لا على رجاء الفرج باللحاق برتبة المتقين.
ولما ذكر نداءهم، استأنف ذكر جوابهم بقوله: ﴿قال﴾ أي مالك عليه الصلاة والسلام مؤكداً لأطماعهم لأن كلامهم هذا بحيث يفهم الرجاء ويفهم بأن رحمة الله تعالى التي هي موضع الرجاء خاصة
483
بغيرهم ﴿إنكم ماكثون﴾.
484
ولما ذكر سبحانه الساعة عند عيسى عليه الصلاة والسلام فقال ﴿وإنه لعلم للساعة﴾ وأكد أمرها وشرح بعض أحوالها إلى أن ختم بما دل على انحلال عزائمهم ولين شكائمهم، وكانوا غير مقرين بذلك، قال مؤكداً جواباً لمن يبصر بعض البصر فيقول: أحق هذا؟ ويتوقع الجواب: ﴿لقد جئناكم﴾ أي في هذه السورة خصوصاً وجميع القرآن عموماً، سمى مجيء الرسل مجيئاً لهم لما لمجيئهم من العظمة التي أشارت إليها النون ﴿بالحق﴾ الكامل في الحقية، ولما كان ظهور حقيته بحيث لا يخفى على أحد ولكن شدة البغض وشدة الحب تريان الأشياء على غير ما هي عليه، قال إشارة إلى ذلك: ﴿ولكن أكثركم﴾ أي أيها المخاطبون ﴿للحق كارهون *﴾ لما فيه من المنع عن الشهوات فلذلك أنتم تقولون: إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط، لا لأجل أن في حقيته نوعاً من الخفاء.
ولما كان هذا خبراً لا جواب فيه لظهور الدلائل وتعالي العظمة إلا الرجوع، وكان من لا يرجع إنما يريد بمحاربة الإله الأعظم، قال
484
عادلاً عن الخطاب إنزالاً لهم بالغيبة منزلة البعيد الذي لا يلتفت إليه معادلاً لما تقديره: أرجعوا لما ظهر لهم من الحق الظاهر ﴿أم أبرموا﴾ أي أحكموا ﴿أمراً﴾ في رد أمرنا ومعاداة أوليائنا مع علمهم بأنا مطلعون عليهم.
ولما كان سبحانه مطلعاً بطية أمرهم وغائب سرهم، سبب عما سأل عنه من إبرامهم ما دل على أنه عالم به وقد أبرم له قبل كونه ما يزيله ويعدمه ويحيله، على سبيل التأكيد لإنكارهم أن يغلبوا فقال: ﴿فإنا مبرمون﴾ أي دائماً للأمور لعلمنا بها قبل كونها وقدرتنا واختيارنا، تلك صفتنا التي لا تحول بوجه: العلم والقدرة والإرادة، لم يتجدد لنا شيء لم يكن.
ولما كان إصرارهم بين العزم على مجاهرة القدير بالمعاداة وبين معاملته وهو عليم بالمساترة والمماكرة في المعاداة والمباكرة والمسالمة والمناكرة قال تعالى: ﴿أم يحسبون أنا﴾ على ما لنا من العظمة المقتضية بجميع صفات الكمال ﴿لا نسمع﴾ ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط بالخفي والجلي، نسبة كل منهما إليه على السواء، ذكرهما
485
وقدم من شأنه أن يخفي وهو المكر المشار إليه بالإبرام، لأن السياق له فقال تعالى: ﴿سرهم﴾ أي كلامهم الخفي ولو كان في الضمائر فيما يعصينا، ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعم ما في الضمائر وهي مما يعلم، حقق أن المراد به حقيقته بقوله: ﴿ونجواهم﴾ أي كلامهم المرتفع حتى كأنه على نجوة أي مكان عال، فعلم أن المراد حقيقة السمع، وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع ولو لم يكن في قدرتنا نحن سماعه، فنكون فيه كالأصم بالنسبة إلى ما نسمعه نحن من الجهر ولا يسمعه هو لفقد قوة السمع فيه، لا لأنه مما من حقه ألا يسمع.
ولما كان إنكار عدم السماع معناه السماع، صرح به فقال: ﴿بلى﴾ أي نسمع الصنفين كليهما على حد سواء ﴿ورسلنا﴾ وهم الحفظة من الملائكة على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا. ولما كان حضور الملائكة معنا وكتابتهم لجميع أعمالنا على وجه لا نحس به نوع أحساس أمراً هو في غاية الغرابة، قال معبراً بلدى التي يعبر بها عبر اشتداد الغرابة: ﴿لديهم يكتبون﴾ أي يجددون الكتابة كلما تجدد
486
ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد، لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة تجنب ما يخاف عاقبته.
ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعاءهم لله ولداً من الملائكة وهددهم بقوله ﴿ستكتب شهادتهم ويسألون﴾ وذكر شبههم في قولهم ﴿لو شاء الرحمن ما عبدناهم﴾ وجهلهم فيها بقوله ﴿ما لهم بذلك من علم﴾ ونفى أن يكون لهم على ذلك دليل سمعي بقوله منكراً موبخاً ﴿أم آتيناهم كتاباً﴾ ومر في توهية أمرهم في ذلك وغيره بما لاحم بعضه بعضاً على ما تقدم إلى ما تمم نفي الدليل السمعي على طريق النشر المشوش بقوله تعالى ﴿واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا﴾، ونظم به ما أتى به رسوله أهل الكتاب مما يصدق ما أتى به كتابنا من التوحيد وما هدد به من أعراض عنه إلى أن أخبر أنه الحق الذي لا زوال أصلاً لشيء منه، وأن رسله سبحانه تكتب جميع أعمالهم من شهادتهم في الملائكة وغيرها، أعاد الكلام في إبطال شبهتهم في أن عبادتهم لهم لو كانت ممنوعة لم يشأها الذي له عموم الرحمة لأن عموم رحمته يمنع على زعمهم مشيئة ما هو محرم، فقال بعد أن نفى قوله ﴿واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا﴾ أن يكون لهم
487
دليل سمعي على أحد من رسله عليهم الصلاة والسلام: ﴿قل إن كان للرحمن﴾ أي العام الرحمة ﴿ولد﴾ على ما زعمتم، والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة، وغيرهم في غيرهم، وقراءة حمزة والكسائي بضم ثم سكون على أنه جمع على إرادة الكثرة. ولما كان المعنى: فأنا ما عبدت ذلك الولد ولا أعبده، ولو شاء الرحمن ما تركت عبادته، ولكنه شاء تركي لها وشاء فعلكم لها، فإحداهما قطعاً مشيئة للباطل، وإلا لاجتمع النقيضان بأن يكون الشيء حقاً باطلاً في حال واحد من وجه واحد، وهو بديهي الاستحالة، فبطلت شبهتكم بدليل قطعي - هكذا كان الأصل، ولكنه عدل عنه إلى ما يفيد معناه وزيادة أنه يعبد الله مخلصاً ولا يعبد غيره، أنه لا يستحق اسم العبادة إلا ما كان له خالصاً، فقال: ﴿فأنا﴾ أي في الرتبة ﴿أول العابدين *﴾ للرحمن، العبادةَ التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة، أي فأنا لا أعبد غيره لا ولداً ولا غيره، ولم يشأ الرحمن لي أن أعبد الولد، أو يكون المعنى: أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص، لم أشرك به شيئاً أصلاً في وقت من الأوقات مما سميتموه ولداً أو شريكاً أو غيره، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص، ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمة، فلو أن الإخلاص
488
له ممنوع ما شاء لي، ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي، ولو أن له ولداً لشاء لي عبادته، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصاً له يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له، فبطلت شبهتكم بمثلها بل أقوى منها، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن «أن» نافية بمعنى: ما ينبغي أي ما كان له ولد، فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولداً، ولو كان له ولد لعلمته فعبدته تقرباً إليه بعبادة ولده.
ولما بطلت الشبهة على تقدير ببرهان، وعلى آخر بشبهة أقوى منها، وظهر الأمر واتضح الحق في أنه سبحانه يشاء لشخص فعل شيء ولآخر عدم فعل ذلك الشيء وفعل ضده أو نقيضه، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يكون فعل النقيضين ولا الضدين في آن واحد حقاً من وجه واحد، فعرف بذلك أن العبرة في الحلال والحرام بأمره ونهيه لا بإرادته، وأنه لولا ذلك لما علم أنه فاعل بالاختيار يخص من يشاء من عباده بما يشاء بعد أن عمهم بما شاء، كان موضع التنزيه عما نسبوه
489
إليه من الباطل، فقال منزهاً على وجه مظهر أنه لا يصح أن ينسب إليه ولد أصلاً: ﴿سبحان رب﴾ أي مبدع ومالك ﴿السماوات﴾ ولما كان المقام للتنزيه وجهة العلوية أجدر، لأنه أبعد عن النقص والنقيض، ولم يقتض الحال إعادة لفظ الرب بخلاف ما يأتي آخر الجاثية، فإنه لإثبات الكمال ونظره إلى جميع الأشياء على حد سواء فقال: ﴿والأرض﴾ أي اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإيجاد والتربية.
ولما كانت خاصة الملك أن يكون له ما لا يصل إليه غيره بوجه أصلاً، قال محققاً لملكه لجميع ما سواه ومن سواه وملكه له، ولم يعد العاطف لأن العرش من السماوات: ﴿رب العرش﴾ أي المختص به لكونه خاصة الملك الذي وسع كرسيه السماوات والأرض ﴿عما يصفون﴾ من أنه له ولد أو شريك.
ولما حصحص الحق لمعت في الموجود كله أعلام الصدق بعد بطلان شبهتهم وبيان أغلوطتهم، عرف أنهم فاعلون بوضع الأشيء في غير مواضعها فعل الخائض اللاعب، فقال مسبباً عن ذلك: ﴿فذرهم﴾
490
أي اتركهم على أسوأ أحوالهم ﴿يخوضوا﴾ أي يفعلوا فعل الخائض في الماء في وضع رجله التي هي عماده فيما لا يعرفه، وقد لا يرضاه لكونه لا علم له به ﴿ويلعبوا﴾ أي يفعلوا فعل اللاعب في انهماكه في فعل ما ينقصه ولا يزيده ﴿حتى يلاقوا﴾ أي يفعلوا بتصريم أعمارهم في فعل ما لا ينفعهم فعل المجتهدين في أن يلقوا ﴿يومهم الذي يوعدون *﴾ بوعد لا خلف فيه فيظهر فيه وعيدهم ويحق تهديدهم.
491
ولما نزهه سبحانه عن الولد ودل على ذلك بأنه مالك كل شيء وملكه، وكان ذلك غير ملازم للألوهية، دل على أنه مع ذلك هو الإله لا غيره في الكونين بدليل بديهي يشترك في علمه الناس كلهم، وقدم السماء ليكون أصلاً في ذلك يتبع لأن الأرض تبع لها في غالب الأمور، فقال دالاً على أن نسبة الوجود كله إليه على حد سواء لأنه منزه عن الاحتياج إلى مكان أو زمان عاطفاً على ما تقديره: تنزه عما نسبوه إليه الذي هو معنى ﴿سبحان﴾ :﴿وهو الذي﴾ هو ﴿في السماء إله﴾ أي معبود لا يشرك به شيء ﴿وفي الأرض إله﴾ توجه الرغباب إليه في جميع الأحوال، ويخلص له في جميع أوقات
491
الأضطرار، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذه الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في مثل هذا الاستحقاق، فعبادة غيره باطلة، قال في القاموس: أله - أي بالفتح - إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة، ومنه: لفظ الجلالة - وأصله: إله بمعنى معبود وكل ما اتخذ معبوداً فهو إله عند متخذه، وأله كفرح: تحير، فقد علم من هذا جواز تعلق الجار بإله.
ولما كان الإله لا يصلح للألوهية إلا إذا كان يضع الأشياء في محلها بحيث لا يتطرق إليه فساد، ولا يضرها إفساد مفسد، وكان لا يكون كذلك إلا بالغ العلم قال: ﴿وهو الحكيم﴾ أي البليغ الحكمة، وهي العلم الذي لأجله وجب الحكم من قوام من أمر المحكوم عليه في عاجلته وآجلته، ولما كانت الحكمة العلم بما لأجله وجب الحكم قال تعالى: ﴿العليم﴾ أي البالغ في علمه إلى حد لا يدخل في عقل العقلاء
492
أكثر من وصفه به على طريق المبالغة ولو وسعوا أفكارهم وأطالوا أنظارهم لأنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفة من صفاته ليقاس به، وكل من ادعى فيه أنه شريك له لا يقدر من أشرك به أن يدعي له ما وصف به من الإجماع على ألوهيته ومن كمال علمه وحكمه، فثبت قطعاً ببطلان الشركة بوجه يفهمه كل أحد، فلا خلاص حينئذ إن خالف كائناً من كان، وإذا قد صح أنه الإله وحده وأنه منزه عن شريك وولد وكل شائبة نقص كان بحيث لا يخاف وعيده، فلا يخوض ولا يعلب عبده، ومن خاض منهم أو لعب فلا يلومن إلا نفسه، فإن عمله محفوظ بعلمه فهو مجاز عليه بحكمته.
ولما نزه ذاته الأقدس وأثبت لنفسه استحقاق الإلهية بالإجماع من خلقه بما ركزه في فطرهم وهداهم إليه بعقولهم، أتبع ذلك أدلة أخرى بإثبات كل كمال بما تسعه العقول وبما لا تسعه مصرحاً بالملك فقال: ﴿وتبارك﴾ أي ثبت ثباتاً لا يشبهه ثبات لأنه لا زوال مع التيمن والبركة وكل كمال، فلا تشبيه له حتى يدعي أنه ولد له
493
أو شريك، ثم وصفه بما يبين تباركه واختصاصه بالإلهية فقال: ﴿الذي له ملك السماوات﴾ أي كلها ﴿والأرض﴾ كذلك ﴿وما بينهما﴾ وبين كل اثنين منها، والدليل على هذا الإجماع القائم على توحيده عند الاضطرار.
لما ثبت اختصاصه بالملك وكان الملك لا يكون إلا عالماً بملكه وكان ربما ادعى مدع وتكذب معاند في الملك أو العلم، قطع الأطماع بقوله: ﴿وعنده﴾ أي وحده ﴿علم الساعة﴾ سائقاً له مساق ما هو معلوم الكون، لا مجال للخلاف فيه إشارة إلى ما عليها من الأدلة القطعية المركوزة في الفطرة الأولى فكيف يما يؤدي إليه الفكر من الذكر المنبه عليه السمع، ولأن من ثبت اختصاصه بالملك وجب قبول أخباره لذاته، وخوفاً من سطواته، ورجاء في بركاته ﴿وإليه﴾ أي وحده لا إلى غيره بعد قيام الساعة ﴿ترجعون﴾ بأيسر أمر تحقيقاً لملكه وقطعاً للنزاع في وحدانيته، وقراءة الجماعة وهم من عدا ابن كثير وحمزة والكسائي وورش عن يعقوب بالخطاب أشد تهديداً من قراءة الباقين بالغيب، وأدل على تناهي الغضب على من لا يقبل إليه بالمتاب بعد رفع كل ما يمكن أن يتسبب عنه ارتياب.
494
ولما أرشد السياق قطعاً إلى التقدير: فلا شريك له في شيء من ذلك ولا ولده ولا يقدر أحد منهم على التخلف عن الرجوع إليه كما أنه لا يقدر أحد على مدافعة قضائه وقدره، عطف عليه قوله: ﴿ولا يملك﴾ أي بوجه من الوجوه في وقت ما ﴿الذين يدعون﴾ أي يجعلونهم في موضع الدعاء بعبادتهم لهم، وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى: ﴿من دونه﴾ من أدنى رتبة من رتبته من الأصنام والملائكة والبشر وغيرهم ﴿الشفاعة﴾ أي فلا يكون منهم شفيع كما زعموا أنهم شفعاؤهم ﴿إلا من شهد﴾ أي منهم ﴿بالحق﴾. أي التوحيد الذي يطابقه الواقع إذا انكشف أتم انكشاف وكذا ما يتبعه فإنه يكون أهلاً لأن يشفع كالملائكة والمسيح عليهم الصلاة والسلام، والمعنى أن أصنامهم التي ادعوا أنها تشفع لهم لا تشفع غير أنه تعالى ساقه على أبلغ ما يكون لأنه كالدعوى.
ولما كان ذلك مركوزاً حتى في فطر الكفار فلا يفزعون في وقت الشدائد إلا إلى الله، ولكنهم لا يلبثون أن يعملوا من الإشراك بما يخالف ذلك، فكأنه لا علم لهم قال: ﴿وهم﴾ أو والحال أن
495
من شهد ﴿يعلمون﴾ أي على بصيرة مما شهدوا به، فلذلك لا يعملون بخلاف ما شهدوا إلا جهلاً منهم بتحقيق معنى التوحيد، فلذلك يظنون أنهم لم يخرجوا عنه وإن أشكروا، أو يكون المعنى: وهم من أهل العلم، والأصنام ليسوا كذلك، وكأنه أفرد أولاً إشارة إلى أن التوحيد فرض عين على كل أحد بخصوصه وإن خالفه كل غير، وجمع ثانياً إيذاناً بالأمر بالمعروف ليجتمع الكل على العلم والتوحيد هو الأساس الذي لا تصح عبادة إلا به، وتحقيقه هو العلم الذي لا علم يعدله، قال الرازي في اللوامع: وجميع الفرق إنما ضلوا حيث لم يعرفوا معنى الواحد على الوجه الذي ينبغي إذ الواحد قد يكون مبدأ العدد، وقد يكون مخالطاً للعدد، وقد يكون ملازماً للعدد، والله تعالى منزه عن هذه الواحدات - انتهى.
ففي الآية تبكيت لهم في أنهم يوحدون في أوقات، فإذا أنجاهم الذي وحدوه جعلوا شكرهم له في الرخاء إشراكهم به، ومنع لهم من ادعاء هذه الرتبة، وهي الشهادة بالحق لأنهم انسلخوا بإشراكهم عن العلم، وأن الملائكة لا تشفع لهم لأن ذلك يؤدي إلى أن تكون قد عملت بخلاف ما تعلم، وذلك ينتج الانسلاخ
496
من العلم المؤهل للشفاعة، وقال ابن الجوزي: وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به.
ولما كان التقدير لتقرير وجود إلهيته في الأرض بالاجتماع: فلئن سألتهم من ينجيهم في وقت كروبهم ليقولن: الله، ليس لمن ندعوه من دونه هناك فعل، فقال عطفاً عليه: ﴿ولئن سألتهم﴾ أي الكفار ﴿من خلقهم﴾ أي العابدين والمعبودين معاً، أجابوا بما يدل على عمى القلب الحقيقي المجبول عليه والمطبوع بطابع الحكمة الإلهية عليه، ولم يصدقوا في جواب مثله بقوله: ﴿إذ سألتهم﴾ :﴿ليقولن الله﴾ الذي له جميع صفات الكمال هو الذي خلق الكل ليس لمن يدعوه منه شيء، ولذلك سبب عنه قوله: ﴿فأنّى﴾ أي كيف ومن أي جهة بعد أن أثبتوا له الخلق والأمر ﴿يؤفكون *﴾ أي يقلبون عن وجوه الأمور إلى أقفائها من قالب ما كائناً من كان، فيدعون أن له شريكاً تارة بالولدية، وتارة بغيرها، مع ما ركز في فطرهم مما ثبت به أنه لا شريك له لأن له الخلق والأمر كله.
497
ولما أبطل سبحانه شبهتهم ووهى غاية التوهية أمرهم في شركهم وادعائهم الولد وغير ذلك مما تضمنته أقوالهم الفاسدة المنسوبة إليهم في هذه السورة، وأقام حجج الحق، ونصب براهين الصدق، وأُبت ما ينفعهم، وحذرهم ما يضرهم، حتى ختم ذلك بقوله مقسماً مع جلالة قدره وعظم أمره ﴿لقد جئناكم بالحق﴾ ثم حصر أمرهم في رد ذلك إن ردوه إلى قسمين في حالين: حال مجاهرة وحال مماكرة، وأخبر أنه لا نجاة لهم على حالة منهما، وأخبر أن رسله تعالى يكتبون جميع أمورهم، ذلك مع غناه عن ذلك لعلمه بما يكتبونه من ذلك وغيره مما لا يطلعون، عليه، فكان ذلك فخراً عظيماً ملاحماً أشد الملاحمة لما قدمه من شبهتهم في ادعاء الولد فأكد إبطالها وحقق زوالها، وختم بالتعجيب من حالهم في تركهم وجوه الأمور واتباعهم أقفائها، وكان من جملة ذلك عملهم عمل من يظن أن الله سبحانه لا يسمع قولهم الموجب لأخذهم وقول رسوله: الموجب لنصره، عطف على ما مضى من إنكارهم عليهم عدم سماعه لقولهم، ولما كان اشتدادهم في تكذيبهم ومباعدتهم وعنادهم لا يزداد بمرور الزمان
498
إلا قوة أوقع في نفس الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسفاً ورقة وشفقة عليهم وعطفاً، وصار يشكو أمرهم إلى ربه شكوى المضطر سراً وعلناً إرادة التيسير في أمرهم والتهوين لشأنهم، فاختير للتعبير عن هذا المعنى مصدر «قال» المشترك لفظه مع لفظ الماضي المبني للمجهول إشارة إلى أن شكواه بذلك كأنها صارت أمراً ضرورياً له لا اختيار له في قوله فكأنه صار قولاً من غير قائل أو من غير قصد، لأنه صار حالاً من الأحوال، ووصل به الضمير من غير تقدم ذكر، إشارة إلى أن ضميره قد امتلأ بتلك الشفقة عليهم والرحمة لهم، فقال تعالى عطفاً على سرهم المقدر بعد ﴿بلى﴾ في قوله تعالى: ﴿إنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى﴾ أو يكون معطوفاً على محل الساعة أي «ويعلم قيله» قاله الزجاج، وعدل في هذا الوجه - وهو قراءة عاصم له وحمزة بالجر فإنه ظاهر في تعلقه بذلك لعطفه على لفظ
499
﴿الساعة﴾، وقرئ شاذاً بالرفع، ووجهه أن الواو للحال، أي كيف يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا بالخلق والحال أن قيله كذا في شكايتهم، أفيظنون أنا لا ننصره وقد أرسلناه: ﴿وقيله﴾ الذي صار في ملازمته وعدم انفكاكه حالاً من الأحوال، الدال على وجه قيله وانكسار نفسه بما دلت عليه كسرة المصدر وياؤه المجانسة لها، والتعبير بقوله: ﴿يا رب﴾ دال على ذلك بما تفيده «يا» الدالة على بعد، أو تقديره، والرب الدال على الإحسان والعطف والشفقة والتدبير والسيادة الاختصاص والولاية، وذلك على غير العادة في دعاء المقربين، فإنها جارية في القرآن بإسقاط أداة النداء.
ولما كان الإرسال إليهم - والمرسل قادر - مقتضياً لإيمانهم، أكد ما ظهر له من حالهم بقوله زيادة في التحسر وإشارة إلى أن تأخير أمرهم يدل على أن إيمانهم مطموع فيه: ﴿إن هؤلاء﴾ لم يضفهم إلى نفسه بأن يقول: قومي، ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما ساءه من حالهم، وأتى بهاء المنبهة قبل اسم على غير عادة الأصل إشارة إلى أن استشعر من نفسه بعداً استصغاراً لها واحتقاراً
500
﴿قوم﴾ أي أقوياء على الباطل ﴿لا يؤمنون﴾ أي لا يتجدد منهم هذا الفعل.
ولما كان هذا قولاً دالاً على غاية ما يكون من بلوغ الجهد، تسبب عنه ما يسره بإيمانهم وبلوغهم الرتب العالية التي هي نتيجة ما كان مترجى لهم أول السورة، وذلك كله ببركته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سياق ظاهره التهديد وباطنه - بالنسبة إلى علمه - البشارة بالتشديد فقال: ﴿فاصفح عنهم﴾ أي اعف عمن أعرض منهم صفحاً فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ ﴿وقل﴾ أي لهم: ﴿سلام﴾ أي شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم ﴿فسوف يعلمون﴾ بوعد لا خلف فيه، فهذا ظاهره تهديد كبير، وقراءة المدنيين وابن عامر بالخطاب أشد تهديداً، وباطنه من التعبير بالصفح عنهم والسلام بشارة لأنهم يصيرون علماء فيفوقون الأمم في العلم بعد أن يفوقهم في العقل - بما أفهمه أول السورة - فيعلون الأمم في المشي على مناهيج العقل، فلله دره من
501
آخر عانق الأول، ومقطع رد إلى المطلع تنزل، يا ناظم اللآلئ! أين تذهب عن هذا البناء العالي، وتغفل عن هذا الجوهر الرخص الغالي، وتضل عن هذا الضياء اللامع الملألىء، ثم أعلاه فأنزله، وأغلاه بدر المعاني وفضله.
502
مقصودها الإنذار من الهلكة لمن لم يقبل ما في الذكر الكريم الحكيم من الخير والبركة رحمة جعلها بين عامة مشتركة، وعلى ذلك دل اسمها الدخان إذا تؤملت آياته وإفصاح ما فيها وإشاراته) بسم الله (الملك الجبار الواحد القهار) الرحمن (الذي عم بنعمة النذارة) الرحيم (الذي خص أهل وداده برحمة البشارة.
تقدمت الإشارة إلى شيء من أسرار أخواتها.
ولما ختمت الزخرف ببشارة باطنة ونذارة ظاهرة، وكان ما بشر به سبحانه من علم العرب وسلامتهم من غوائل ما كانوافيه مستبعداً، افتتح هذا بمثل ذلك مقسماً عليه.
1
Icon