تفسير سورة الدّخان

الطبري
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ

سورة الدخان
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) ﴾
قد تقدم بياننا في معنى قوله (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) وقوله (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) أقسم جلّ ثناؤه بهذا الكتاب، أنه أنزله في ليلة مباركة.
واختلف أهل التأويل في تلك الليلة، أيّ ليلة من ليالي السنة هي؟ فقال بعضهم: هي ليلة القدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) : ليلة القدر، ونزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، ونزلت التوراة لستّ ليال مضت من رمضان، ونزل الزَّبور لستّ عشرة مضت من رمضان، ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان، ونزل الفُرقَان لأربع وعشرين مضت من رمضان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) قال: هي ليلة القدر.
7
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله عزّ وجلّ (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) قال: تلك الليلة ليلة القدر، أنزل الله هذا القرآن من أمّ الكتاب في ليلة القدر، ثم أنزله على الأنبياء (١) في الليالي والأيام، وفي غير ليلة القدر.
وقال آخرون: بل هي ليلة النصف من شعبان.
والصواب من القول في ذلك قول من قال: عنى بها ليلة القدر، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن ذلك كذلك لقوله تعالى (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) خلَقْنا بهذا الكتاب الذي أنزلناه في الليلة المباركة عقوبتنا أن تحلّ بمن كفر منهم، فلم ينب إلى توحيدنا، وإفراد الألوهة لنا.
وقوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) اختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يُفرق فيها كلّ أمر حكيم، نحو اختلافهم في الليلة المباركة، وذلك أن الهاء التي في قوله (فِيهَا) عائدة على الليلة المباركة، فقال بعضهم: هي ليلة القدر، يقضي فيها أمر السنة كلها من يموت، ومن يولد، ومن يعزّ، ومن يذل، وسائر أمور السنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا ربيعة بن كلثوم، قال: كنت عند الحسن، فقال له رجل: يا أبا سعيد، ليلة القدر في كلّ رمضان؟ قال: إي والله، إنها لفي كلّ رمضان، وإنها الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كلّ أجل وأمل ورزق إلى مثلها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان هي؟ قال:
(١) في فتح القدير للشوكاني (٤: ٥٥٤) :" وقال قتادة: أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم أنزله الله على نبيه ﷺ في الليالي والأيام، في ثلاث وعشرين سنة".
8
نعم والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم، يقضي الله كلّ أجل وخلق ورزق إلى مثلها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الحميد بن سالم، عن عمر مولى غفرة، قال: يقال: ينسخ لملك الموت من يموت ليلة القدر إلى مثلها، وذلك لأن الله عزّ وجلّ يقول: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) وقال (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: فتجد الرجل ينكح النساء، ويغرس الغرس واسمه في الأموات.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك، في قوله: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: أمر السنة إلى السنة ما كان من خلق أو رزق أو أجل أو مصيبة، أو نحو هذا.
قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن هلال بن يساف، قال: كان يقال: انتظروا القضاء في شهر رمضان.
حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن في قوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: يدبر أمر السنة في ليلة القدر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: في ليلة القدر كل أمر يكون في السنة إلى السنة: الحياة والموت، يقدر فيها المعايش والمصائب كلها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) ليلة القدر (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) كُنَّا نُحدَّثُ أنه يُفْرق فيها أمر السنة إلى السنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: هي ليلة القدر فيها يُقضى ما يكون من السنة إلى السنة.
9
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، قال: سألت مجاهدا فقلت: أرأيت دعاء أحدنا يقول: اللهمّ إن كان اسمي في السعداء، فأثبته فيهم، وإن كان في الأشقياء فامحه منهم، واجعله بالسعداء، فقال: حسن، ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر من ذلك، فسألته عن هذا الدعاء، قال: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: يقضى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، ثم يقدّم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء فأما كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يغير.
وقال آخرون: بل هي ليلة النصف من شعبان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الفضل بن الصباح، والحسن بن عرفة، قالا ثنا الحسن بن إسماعيل البجلي، عن محمد بن سوقة، عن عكرمة في قول الله تبارك وتعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: في ليلة النصف من شعبان، يبرم فيه أمر السنة، وتنسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد، ولا ينقص منهم أحد.
حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الليث، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عثمان بن محمد بن المُغيرة بن الأخنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تُقْطَعُ الآجالُ مِنْ شَعْبان إلى شَعْبانَ حتى إن الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهْ وَقَدْ خَرَجَ اسمُهُ فِي المَوْتَى".
حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا أبو هشام، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا عثمان بن حكيم، قال: ثنا سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: إن الرجل ليمشي في الناس وقد رُفع في الأموات، قال: ثم قرأ هذه الآية (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: ثم قال: يفرق فيها أمر الدنيا من السنة إلى السنة.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر لما قد
10
تقدّم من بياننا عن أن المعني بقوله (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) ليلة القدر، والهاء في قوله (فِيهَا) من ذكر الليلة المباركة.
وعنى بقوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) في هذه الليلة المباركة يُقْضَى ويُفْصَل كلّ أمر أحكمه الله تعالى في تلك السنة إلى مثلها من السنة الأخرى، ووضع حكيم موضع محكم، كما قال: (الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) يعني: المحكم.
وقوله (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) يقول تعالى ذكره: في هذه الليلة المباركة يُفْرق كلّ أمر حكيم، أمرا من عندنا.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله (أمْرًا) فقال بعض نحويي (١) الكوفة: نصب على (٢) إنا أنزلناه أمرا ورحمة على الحال. وقال بعض نحويي (٣) البصرة: نصب على معنى يفرق كل أمر فرقا وأمرا. قال: وكذلك قوله (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) قال: ويجوز أن تنصب الرحمة بوقوع مرسلين عليها، فجعل الرحمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) يقول تعالى ذكره: إنا كنا مرسلي رسولنا محمد ﷺ إلى عبادنا رحمة من ربك يا محمد (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يقول: إن الله تبارك وتعالى هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون فيما أنزلنا من كتابنا، وأرسلنا من رسلنا إليهم، وغير ذلك من منطقهم ومنطق غيرهم، العليم بما تنطوي عليه ضمائرهم، وغير ذلك من أمورهم وأمور غيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
(١) في الأصل بدون نقطتين.
(٢) كذا في الأصل. ولعل لفظة"على" زيادة من الناسخ.
(٣) في الأصل بدون نقطتين.
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) }
اختلف القرّاء في قراءة قوله (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة " رَبُّ السَّمَوَاتِ " بالرفع على إتباع إعراب الربّ إعراب السميع العليم. وقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض المكيين " ربَّ السمَوَاتِ " خفضا ردّ على الرب في قوله جلّ جلاله (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
ويعني بقوله (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) يقول تعالى ذكره الذي أنزل هذا الكتاب يا محمد عليك، وأرسلك إلى هؤلاء المشركين رحمة من ربك، مالك السموات السبع والأرض وما بينهما من الأشياء كلها.
وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) يقول: إن كنتم توقنون بحقيقة ما أخبرتكم من أن ربكم ربّ السموات والأرض، فإن الذي أخبرتكم أن الله هو الذي هذه الصفات صفاته، وأن هذا القرآن تنزيله، ومحمدا ﷺ رسوله حق يقين، فأيقنوا به كما أيقنتم بما توقنون من حقائق الأشياء غيره.
وقوله (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول: لا معبود لكم أيها الناس غير ربّ السموات والأرض وما بينهما، فلا تعبدوا غيره، فإنه لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه، يحيي ويميت، يقول: هو الذي يحيي ما يشاء، ويميت ما يشاء مما كان حيا.
وقوله (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ) يقول: هو مالككم ومالك من مضى قبلكم من آبائكم الأوّلين، يقول: فهذا الذي هذه صفته، هو الربّ فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضرّ ولا نفع.
وقوله (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) يقول تعالى ذكره ما هم بموقنين بحقيقة ما يقال لهم ويخبرون من هذه الأخبار، يعني بذلك مشركي قريش، ولكنهم
في شكّ منه، فهم يلهون بشكهم في الذي يخبرون به من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) ﴾
يعني تعالى ذكره بقوله (فَارْتَقِبْ) فانتظر يا محمد بهؤلاء المشركين من قومك الذين هم في شكّ يلعبون، وإنما هو افتعل، من رقبته: إذا انتظرته وحرسته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة (فَارْتَقِبْ) : أي فانتظر.
وقوله (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) اختلف أهل التأويل في هذا الذي أمر الله عزّ وجلّ نبيه ﷺ أن يرتقبه، وأخبره أن السماء تأتي فيه بدخان مبين: أي يوم هو، ومتى هو؟ وفي معنى الدخان الذي ذُكر في هذا الموضع، فقال بعضهم: ذلك حين دعا رسول الله ﷺ على قريش ربه تبارك وتعالى أن يأخذهم بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة، قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدّة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: دخلنا المسجد، فإذا رجل يقص على أصحابه. ويقول: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) تدرون ما ذلك
13
الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ أسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام؟ قال: فأتينا ابن مسعود، فذكرنا ذلك له وكان مضطجعا، ففزع، فقعد فقال: إن الله عزّ وجلّ قال لنبيه ﷺ (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، سأحدثكم عن ذلك، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام، واستعصت على رسول الله ﷺ دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان.
قال الله تبارك وتعالى (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فقالوا (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) قال الله جل ثناؤه (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) قال: فعادوا يوم بدر فانتقم الله منهم.
حدثني عبد الله بن محمد الزهريّ، قال: ثنا مالك بن سُعَير، قال: ثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: كان في المسجد رجل يذكر الناس، فذكر نحو حديث عيسى، عن يحيى بن عيسى، إلا أنه قال: فانتقم يوم بدر، فهي البطشة الكبرى.
حدثنا ابن حميد، وعمرو بن عبد الحميد، قالا ثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن مسروق، قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن: إن قاصا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس اتقوا الله، فمن علم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم.
وقال عمرو: فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، فإن الله عزّ وجلّ يقول لنبيه محمد صلى الله
14
عليه وسلم (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) إن النبيّ ﷺ لما رأى من الناس إدبارا، قال:"اللهمّ سبعا كسبع يوسف"، فأخذتهم سنة حصَّت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا من الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد إنك جئت تأمر بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، قال الله عزّ وجلّ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)... إلى قوله (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) قال: فكُشف عنهم (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فالبطشة يوم بدر، وقد مضت آية الروم وآية الدخان، والبطشة واللزام.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال:" ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، قال: شهدت جنازة فيها زيد بن عليّ فأنشأ يحدّث يومئذ، فقال: إن الدخان يجيء قبل يوم القيامة، فيأخذ بأنف المؤمن الزكام، ويأخذ بمسامع الكافر، قال: قلت رحمك الله، إن صاحبنا عبد الله قد قال غير هذا، قال: إن الدخان قد مضى وقرأ هذه الآية (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) قال: أصاب الناس جهد حتى جعل الرجل يرى ما بينه وبين السماء دخانا، فذلك قوله (فَارْتَقِبْ) وكذا قرأ عبد الله إلى قوله (مُؤْمِنُونَ) قال (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا) قلت لزيد فعادوا، فأعاد الله عليهم بدرا، فذلك قوله (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) فذلك يوم بدر، قال: فقبل والله، قال عاصم، فقال رجل يردّ عليه، فقال زيد رحمة الله عليه: أما إن رسول الله ﷺ قد قال:"إنَّكُمْ سَيَجِيئُكُمْ رُوَاةٌ، فَمَا وَافَقَ القُرآن فَخُذُوا بِهِ، ومَا كانَ غيرَ ذلكَ فَدَعُوهُ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر،
15
عن ابن مسعود أنه قال: البطشة الكبرى يوم بدر، وقد مضى الدخان.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، قال: سمعت أبا العالية يقول: إن الدخان قد مضى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عمرو، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: مضى الدخان لسنين أصابتهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن محمد، قال: نُبئت أن ابن مسعود كان يقول: قد مضى الدخان، كان سنين كسني يوسف.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) قال: الجدب وإمساك المطر عن كفار قريش، إلى قوله (إِنَّا مُؤْمِنُونَ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) قال: كان ابن مسعود يقول: قد مضى الدخان، وكان سنين كسني يوسف (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ).
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) قد مضى شأن الدخان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يوم بدر.
وقال آخرون: الدخان آية من آيات الله، مرسلة على عباده قبل مجيء الساعة، فيدخل في أسماع أهل الكفر به، ويعتري أهل الإيمان به كهيئة الزكام، قالوا: ولم يأت بعد، وهو آت.
16
* ذكر من قال ذلك:
حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن عبد الملك بن المُغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلمان، عن ابن عمر، قال: يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن كهيئة الزكمة، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون كالرأس الحنيذ.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لمَ؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت.
حدثنا محمد بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عوف، قال: قال الحسن: إن الدخان قد بقي من الآيات، فإذا جاء الدخان نفخ الكافر حتى يخرج من كلّ سمع من مسامعه، ويأخذ المؤمن كزكمة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عثمان، يعني ابن الهيثم، قال: ثنا عوف، عن الحسن بنحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد، قال: يهيج الدخان بالناس. فأما المؤمن فيأخذه منه كهيئة الزكمة. وأما الكافر فيهيجه حتى يخرج من كلّ مسمع منه قال: وكان بعض أهل العلم يقول: فما مَثل الأرض يومئذ إلا كمَثل بيت أوقد فيه ليس فيه خصاصة.
حدثني عصام بن روّاد بن الجراح، قال: ثني أبي، قال: ثنا سفيان بن سعيد الثوري، قال: ثنا منصور بن المعتمر، عن رِبْعِيِّ بن حَرَاش، قال: سمعت حُذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوَّلُ الآيات الدَّجالُ، وَنزول عِيسى بن مَرْيَمَ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدْنِ أَبْيَنَ تَسُوقُ النَّاسَ إلى المَحْشَر تَقِيلُ مَعَهُمْ إذَا قالوا، والدُّخان"، قال حُذيفة: يا رسول الله
17
وما الدخان؟ فتلا رسول الله ﷺ الآية (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) يَمْلأ ما بَينَ المَشْرقِ والمَغْرِب يَمْكُثُ أرْبَعِينَ يَوْما وَلَيْلَةً أمَّا المُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكامِ. وأمَّا الكَافِرُ فَيَكُونُ بِمَنزلَةِ السَّكْرانِ يَخْرُجُ مِنْ مَنْخِريْهِ وأُذُنَيْهِ ودُبُرِهِ".
حدثني محمد بن عوف، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، قال: ثني أبي، قال: ثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ رَبَّكُمْ أنْذَرَكُمْ ثَلاثا: الدُّخانُ يَأْخُذ المُؤْمِنَ كالزَّكْمَةِ، ويَأْخُذُ الكَافِرَ فَيَنْتَفِخَ حتى يَخْرُجَ مِنْ كُلّ مَسْمَعٍ مِنْهُ، والثَّانِيَة الدَّابَّةُ، والثَّالِثَة الدَّجَّالُ".
وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه ﷺ أن يرتقبه، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم، على ما وصفه ابن مسعود من ذلك إن لم يكن خبر حُذيفة الذي ذكرناه عنه عن رسول الله ﷺ صحيحا، وإن كان صحيحا، فرسول الله ﷺ أعلم بما أنزل الله عليه، وليس لأحد مع قوله الذي يصح عنه قول.
وإنما لم أشهد له بالصحة، لأن محمد بن خلف العسقلانيّ حدثني أنه سأل روّادا عن هذا الحديث، هل سمعه من سفيان؟ فقال له: لا فقلت له: فقرأته عليه، فقال: لا فقلت له: فقرئ عليه وأنت حاضر فأقرّ به، فقال: لا فقلت: فمن أين جئت به؟ قال: جاءني به قوم فعرضوه عليّ وقالوا لي: اسمعه منا فقرءوه عليّ، ثم ذهبوا، فحدّثوا به عني، أو كما قال; فلما ذكرت من ذلك لم أشهد له بالصحة، وإنما قلت: القول الذي قاله عبد الله بن مسعود هو أولى بتأويل الآية، لأن الله جلّ ثناؤه توعَّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه ﷺ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله (لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)
18
ثم أتبع ذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) أمرًا منه له بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدًا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم.
وبعد، فإنه غير منكر أن يكون أحلّ بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم، ويكون مُحِلا فيما يستأنف بعد بآخرين دخانا على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله ﷺ عندنا كذلك، لأن الأخبار عن رسول الله ﷺ قد تظاهرت بأن ذلك كائن، فإنه قد كان ما رَوَى عنه عبد الله بن مسعود، فكلا الخبرين اللذين رُويا عن رسول الله ﷺ صحيح.
وإن كان تأويل الآية في هذا الموضع ما قلنا، فإذ كان الذي قلنا في ذلك أولى التأويلين، فبين أن معناه: فانتظر يا محمد لمشركي قومك يوم تأتيهم السماء من البلاء الذي يحل بهم على كفرهم بمثل الدخان المبين لمن تأمله أنه دخان. (يغشَى الناس) : يقول: يغشى أبصارهم من الجهد الذي يصيبهم. (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني أنهم يقولون مما نالهم من ذلك الكرب والجهد: هذا عذاب أليم. وهو الموجع، وترك من الكلام (يقولون) استغناء بمعرفة السامعين معناه من ذكرها.
وقوله (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ) يعني أن الكافرين الذين يصيبهم ذلك الجهد يضرعون إلى ربهم بمسألتهم إياه كشف ذلك الجهد عنهم، ويقولون: إنك إن كشفته آمنا بك وعبدناك من دون كلّ معبود سواك، كما أخبر عنهم جل ثناؤه (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥) ﴾
19
يقول تعالى ذكره: من أيّ وجه لهؤلاء المشركين التذكر من بعد نزول البلاء بهم، وقد تولوا عن رسولنا حين جاءهم مدبرين عنه، لا يتذكرون بما يُتلى عليهم من كتابنا، ولا يتعظون بما يعظهم به من حججنا، ويقولون: إنما هو مجنون عُلِّم هذا (١) الكلام.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى) يقول: كيف لهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى) بعد وقوع هذا البلاء.
وبنحو الذي قلنا أيضا في قوله (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) قال: تولوا عن محمد عليه الصلاة والسلام، وقالوا: معلم مجنون.
وقوله (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين الذين أخبر عنهم أنهم يستغيثون به من الدخان النازل والعذاب الحالّ بهم من الجهد، وأخبر عنهم أنهم يعاهدونه أنه (إن كشف العذاب عنهم آمنوا) إنا كاشفوا العذاب: يعني الضرّ النازل بهم بالخصب الذي نحدثه لهم (قَلِيلا إِنَّكُمْ
(١) في الأصل:"على" في موضع"علم". وهو تحريف من الناسخ.
20
عَائِدُونَ) يقول: إنكم أيها المشركون إذا كَشَفْتُ عنكم ما بكم من ضرّ لم تفوا بما تعدون وتعاهدون عليه ربكم من الإيمان، ولكنكم تعودون في ضلالتكم وغيكم، وما كنتم قبل أن يكشف عنكم.
وكان قتادة يقول: معناه: إنكم عائدون في عذاب الله.
حدثنا بذلك ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عنه. وأما الذين قالوا: عنى بقوله: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) الدخان نفسه، فإنهم قالوا في هذا الموضع: عنى بالعذاب الذي قال (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ) : الدخان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا) يعني الدخان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا) قال: قد فعل، كشف الدخان حين كان.
قوله (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) قال: كُشِف عنهم فعادوا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) إلى عذاب الله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: إنكم أيها المشركون إن كشفت عنكم العذاب النازل بكم، والضرّ الحالّ بكم، ثم عدتم في كفركم، ونقضتم عهدكم الذي عاهدتم
21
ربكم، انتقمت منكم يوم أبطش بكم بطشتي الكبرى في عاجل الدنيا، فأهلككم، وكشف الله عنهم، فعادوا، فبطش بهم جلّ ثناؤه بطشته الكبرى في الدنيا، فأهلكهم قتلا بالسيف.
وقد اختلف أهل التأويل في البطشة الكبرى، فقال بعضهم: هي بطشة الله بمشركي قريش يوم بدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود، أنه قال: البطشة الكبرى: يوم بدر.
حدثني عبد الله بن محمد الزهري، قال: ثنا مالك بن سعير، قال: ثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: يوم بدر، البطشة الكبرى.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن محمد، قال: نبئت أن ابن مسعود كان يقول: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) يوم بدر.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يوم بدر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يوم بدر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف قال: سمعت أبا العالية في هذه الآية (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يوم بدر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يعني يوم بدر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثام بن عليّ، عن الأعمش، عن إبراهيم،
22
قال: قلت: ما البطشة الكبرى؟ فقال: يوم القيامة، فقلت: إن عبد الله كان يقول: يوم بدر; قال. فبلغني أنه سُئل بعد ذلك فقال: يوم بدر.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب قالا ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن إبراهيم، بنحوه.
حدثنا بشر، ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن مجاهد، عن أبيّ بن كعب، قال: يوم بدر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) يوم بدر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فى قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: هذا يوم بدر.
وقال آخرون: بل هي بطشة الله بأعدائه يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: مرّ بي عكرمة، فسألته عن البطشة الكبرى فقال: يوم القيامة; قال: قلت: إن عبد الله بن مسعود كان يقول: يوم بدر، وأخبرني من سأله بعد ذلك فقال: يوم بدر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال قتادة عن الحسن: إنه يوم القيامة.
وقد بينَّا الصواب في ذلك فيما مضى، والعلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من القول فيه.
23
وقوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) يعني تعالى ذكره: ولقد اختبرنا وابتلينا يا محمد قبل مشركي قومك مثال هؤلاء قوم فرعون من القبط (وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) يقول: وجاءهم رسول من عندنا أرسلناه إليهم، وهو موسى بن عمران صلوات الله عليه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) يعني موسى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (رَسُولٌ كَرِيمٌ) قال: موسى عليه السلام، ووصفه جل ثناؤه بالكرم، لأنه كان كريما عليه، رفيعا عنده مكانه، وقد يجوز أن يكون وصفه بذلك، لأنه كان في قومه شريفا وسيطا.
وقوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وجاء قوم فرعون رسول من الله كريم عليه بأن ادفعوا إليّ، ومعنى"أدوا": ادفعوا إليّ فأرسلوا معي واتبعون، وهو نحو قوله (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) فأن في قوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ) نصب، وعباد الله نصب بقوله (أَدُّوا) وقد تأوله قوم: أن أدّوا إليّ يا عباد الله، فعلى هذا التأويل عباد الله نصب على النداء.
وبنحو الذي قلنا في تأويل (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) قال: يقول: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: يقول: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) قال: أرسلوا معي بني إسرائيل.
24
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) قال: بني إسرائيل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) يعني به بني إسرائيل، قال لفرعون: علام تحبس هؤلاء القوم، قوما أحرارا اتخذتهم عبيدا، خلّ سبيلهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) قال: يقول: أرسل عباد الله معي، يعني بني إسرائيل، وقرأ (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) قال: ذلك قوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) قال: ردّهم إلينا.
وقوله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) يقول: إني لكم أيها القوم رسول من الله أرسلني إليكم لا يدرككم بأسه على كفركم به، (أمين) : يقول: أمين على وحيه ورسالته التي أوعدنيها إليكم.
25
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) ﴾
يقول تعالى ذكره: وجاءهم رسول كريم، أن أدّوا إلي عباد الله، وبأن لا تعلوا على الله.
وعنى بقوله (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ) أن لا تطغوا وتبغوا على ربكم، فتكفروا به وتعصوه، فتخالفوا أمره (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) يقول: إني آتيكم بحجة على حقيقة ما أدعوكم إليه، وبرهان على صحته، مبين لمن تأملها وتدبرها أنها حجة لي على صحة ما أقول لكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
25
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ) : أي لا تبغوا على الله (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) : أي بعذر مبين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ) يقول: لا تفتروا على الله.
وقوله (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) يقول: وإني اعتصمت بربي وربكم، واستجرت به منكم أن ترجمون.
واختلف أهل التأويل في معنى الرجم الذي استعاذ موسى نبيّ الله عليه السلام بربه منه، فقال بعضهم: هو الشتم باللسان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) قال: يعني رجم القول.
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: ثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) قال: الرجم: بالقول.
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) قال: أن تقولوا هو ساحر.
26
وقال آخرون: بل هو الرجم بالحجارة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) : أي أن ترجمون بالحجارة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَنْ تَرْجُمُونِ) قال: أن ترجمون بالحجارة.
وقال آخرون: بل عنى بقوله (أَنْ تَرْجُمُونِ) : أن تقتلوني.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما دلّ عليه ظاهر الكلام، وهو أن موسى عليه السلام استعاذ بالله من أن يرجُمه فرعون وقومه، والرجم قد يكون قولا باللسان، وفعلا باليد. والصواب أن يقال: استعاذ موسى بربه من كل معاني رجمهم الذي يصل منه إلى المرجوم أذًى ومكروه، شتما كان ذلك باللسان، أو رجما بالحجارة باليد.
وقوله (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى عليه السلام لفرعون وقومه: وإن أنتم أيها القوم لم تصدّقوني على ما جئتكم به من عند ربي، فاعتزلون: يقول: فخلوا سبيلي غير مرجوم باللسان ولا باليد.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) : أي فخلُّوا سبيلي.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: فدعا موسى ربه إذ كذّبوه ولم يؤمنوا به، ولم يؤدّ
27
إليه عباد الله، وهموا بقتله بأن هؤلاء، يعني فرعون وقومه (قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) يعني: أنهم مشركون بالله كافرون.
وقوله (فَأَسْرِ بِعِبَادِي) وَفِي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذُكر عليه منه، وهو: فأجابه ربه بأن قال له: فأسر إذ كان الأمر كذلك بعبادي، وهم بنو إسرائيل، وإنما معنى الكلام: فأسر بعبادي الذين صدّقوك وآمنوا بك، واتبعوك دون الذين كذّبوك منهم، وأبَوْا قبول ما جئتهم به من النصيحة منك، وكان الذين كانوا بهذه الصِّفَة يومئذ بني إسرائيل. وقال: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا) لأن معنى ذلك: سر بهم بليل قبل الصباح.
وقوله (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يقول: إن فرعون وقومه من القبط متبعوكم إذا شخصتم عن بلدهم وأرضهم في آثاركم.
وقوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) يقول: وإذا قطعت البحر أنت وأصحابُك، فاتركه ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته. وقيل: إن الله تعالى ذكره قال لموسى هذا القول بعد ما قطع البحر ببني إسرائيل فإذ كان ذلك كذلك، ففي الكلام محذوف، وهو: فسرَى موسى بعبادي ليلا وقطع بهم البحر، فقلنا له بعد ما قطعه، وأراد ردّ البحر إلى هيئته التي كان عليها قبل انفلاقه: اتركْه رَهْوًا.
* ذكر من قال ما ذكرنا من أن الله عزّ وجلّ قال لموسى ﷺ هذا القول بعد ما قطع البحر بقومه:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) حتى بلغ (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) قال: لما خرج آخر بني إسرائيل أراد نبي الله ﷺ أن يضرب البحر بعصاه، حتى يعود كما كان مخافة آل فرعون أن يدركوهم، فقيل له (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ).
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال:
28
لما قطع البحر، عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) كما هو (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ).
واختلف أهل التأويل في معنى الرهْو، فقال بعضهم: معناه: اتركه على هيئته وحاله التي كان عليها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) يقول: سَمْتا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) قال: الرهو: أن يترك كما كان، فإنهم لن يخلُصوا من ورائه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا حميد، عن إسحاق، عن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، أن ابن عباس سأل كعبا عن قول الله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: طريقا.
وقال آخرون: بل معناه: اتركه سَهْلا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع، قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: سهلا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: يقال: الرهو: السهل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرميّ بن عُمارة قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن الضحاك بن مُزاحم، فى قول الله عزّ وجلّ (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: دَمثا.
29
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: سهلا دمثا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: هو السهل.
وقال آخرون: بل معناه: واتركه يبسا جددا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني عبيد الله بن معاذ، قال: ثني أبي، عن شعبة، عن سماك، عن عكرمة، في قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: جددا.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن سماك، عن عكرمة في قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: يابسا كهيئته بعد أن ضربه، يقول: لا تأمره يرجع، اتركه حتى يدخل آخرهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (رَهوًا) قال: طريقا يَبَسا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) كما هو طريقا يابسا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه: اتركه على هيئته كما هو على الحال التي كان عليها حين سلَكْته، وذلك أن الرهو في كلام العرب: السكون، كما قال الشاعر:
كأنَّما أهْلُ حُجْرٍ يَنْظُرُونَ مَتَى... يَرَوْنَنِي خارِجا طَيْرٌ يَنَادِيد... طَيرٌ رأَتْ بازِيا نَضْحُ الدّماءِ بِهِ... وأُمُّهُ خَرَجَتْ رَهْوًا إلى عِيد (١)
(١) هذا بيت من قصيدة للراعي، مدح بها سعد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، عدتها سبعة وخمسون بيتا. وقوله " ذات آثارة " أي رب ناقة ذات سمن. والأثارة، بفتح الهمزة: شحم متصل بشحم آخر، ويقال هي بقية من الشحم العتيق، يقال: سمنت الناقة على أثارة، أي على بقية شحم. وأكمته: غلفه، جمع كمام، وهو جمع كم بكسر الكاف، وهو غطاء النور وغلافه. وقفارًا وقفارة: وصف للنبات: أي رعته خاليًا لها من مزاحمة غيرها في رعيه. وأصله من قولهم طعام قفار: أي أكل بلا إدام. (انظر خزانة الأدب الكبرى للبغدادي ٤: ٢٥١) واستشهد بالبيت أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة ٢٢٢). عند قوله تعالى: " أو أثارة من علم " أي بقية من شحم أكلت عليه. ومن قال: " أثرة " فهو مصدر أثره يأثره: يذكره. وفي (اللسان: أثر) : وأثرة العلم وأثرته وأثارته، بقية منه تؤثر فتذكر. وقال الزجاج أثاره: في معنى علامة. ويجوز أن يكون على معنى بقية من علم ونسب البيت للشماخ.
30
يعني على سكون، وإذا كان ذلك معناه كان لا شكّ أنه متروك سهلا دَمِثا، وطريقا يَبَسا لأن بني إسرائيل قطعوه حين قطعوه، وهو كذلك، فإذا ترك البحر رهوا كما كان حين قطعه موسى ساكنا لم يُهج كان لا شكّ أنه بالصفة التي وصفت.
وقوله (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) يقول: إن فرعون وقومه جند، الله مغرقهم في البحر.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: كم ترك فرعون وقومه من القبط بعد مهلكهم وتغريق الله إياهم من بساتين وأشجار، وهي الجنات، وعيون، يعني: ومنابع ما كان ينفجر في جنانهم وزروع قائمة في مزارعهم (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) يقول: وموضع كانوا يقومونه شريف كريم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله ذلك المقام بالكرم، فقال بعضهم: وصفه بذلك لشرفه، وذلك أنه مَقام الملوك والأمراء، قالوا: وإنما أريد به المنابر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني جعفر بن ابنة إسحاق الأزرق، قال: ثنا سعيد بن محمد الثقفي،
31
قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مُهاجر، عن أبيه، عن مجاهد، في قوله (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) قال: المنابر.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا عبد الله بن داود الواسطي، قال: ثنا شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، في قوله (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) قال: المنابر.
وقال آخرون: وصف ذلك المقام بالكرم لحسنه وبهجته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) : أي حسن.
وقوله (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) يقول تعالى ذكره: وأخرجوا من نعمة كانوا فيها فاكهين متفكهين ناعمين.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (فَاكِهِينَ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر القارئ (فَاكِهِينَ) على المعنى الذي وصفت. وقرأه أبو رجاء العُطاردي والحسن وأبو جعفر المدنيّ (فَكِهينَ) بمعنى: أشِرِين بَطِرين.
والصواب من القراءة عندي في ذلك، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، وهي (فَاكِهِينَ) بالألف بمعنى ناعمين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) : ناعمين، قال: إي والله، أخرجه الله من جناته وعيونه وزروعه حتى ورّطه في البحر.
وقوله (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) يقول تعالى ذكره: هكذا كما وصفت لكم أيها الناس فعلنا بهؤلاء الذي ذكرتُ لكم أمرهم، الذين كذّبوا
32
رسولنا موسى صلى الله عليه وسلم.
وقوله (وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) يقول تعالى ذكره وأورثنا جناتهم وعيونهم وزروعهم ومقَاماتهم وما كانوا فيه من النعمة عنهم قوما آخرين بعد مهلكهم، وقيل: عُنِي بالقوم الآخرين بنو إسرائيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) يعني بني إسرائيل.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) ﴾
يقول تعالى ذكره: فما بكت على هؤلاء الذين غرّقهم الله في البحر، وهم فرعون وقومه، السماء والأرض، وقيل: إن بكاء السماء حمرة أطرافها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسيّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن الحكم بن ظهير، عن السديّ قال: لما قتل الحسين بن عليّ رضوان الله عليهما بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرتها.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء في قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) قال: بكاؤها حمرة أطرافها.
وقيل: إنما قيل (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) لأن المؤمن إذا مات، بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا، ولم تبكيا على فرعون وقومه، لأنه
33
لم يكن لهم عمل يَصعْد إلى الله صالح، فتبكي عليهم السماء، ولا مسجد في الأرض، فتبكي عليهم الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير، قال: أتى ابن عباس رجل، فقال: يا أبا عباس أرأيت قول الله تبارك وتعالى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه، بكى عليه; وإذا فقده مُصَلاه من الأرض التي كان يصلي فيها، ويذكر الله فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى السماء منهم خير، قال: فلم تبك عليهم السماء والأرض.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ويحيى قالا ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان يقال: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحًا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي يحيى القَتَّات، عن مجاهد، عن ابن عباس بمثله.
حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن مجاهد، قال: حُدثت أن المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا بكير بن أبي السميط، قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن جُبير أنه كان يقول: إن بقاع الأرض التي كان يصعد عمله منها إلى السماء تبكي عليه بعد موته، يعني المؤمن.
34
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) قال: إنه ليس أحد إلا له باب في السماء ينزل فيه رزقه ويصعد فيه عمله، فإذا فُقِد بكت عليه مواضعه التي كان يسجد عليها، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يقبل منهم، فيصعد إلى الله عزّ وجلّ، فقال مجاهد: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحا.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: كان يقال: إن المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحا.
حدثنا يحيى بن طلحة، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد الحضرمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الإسْلامَ بَدَأ غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا، ألا لا غُرْبَةَ عَلى المُؤْمِن، ما ماتَ مُؤْمِنٌ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ إلا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّماءُ والأرْضُ"، ثم قرأ رسول الله ﷺ (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ)، ثم قال:"إنَّهُما لا يَبْكِيانِ على الكافر".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ)... الآية، قال: ذلك أنه ليس على الأرض مؤمن يموت إلا بكى عليه ما كان يصلي فيه من المساجد حين يفقده، وإلا بكى عليه من السماء الموضعُ الذي كان يرفع منه كلامه، فذلك لأهل معصيته: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) لأنهما يبكيان على أولياء الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) (١).
(١) في الأصل: " لم يذكر لهذا السند تفسير عن قتادة والذي في الدر المنثور عنه قال: هم كانوا أهون على الله من ذلك. وقال: وكنا نحدث أن المؤمن تبكي عليه بقاعه التي يصلي فيها من الأرض ومصعد عمله من السماء ".
35
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) يقول: لا تبكي السماء والأرض على الكافر، وتبكي على المؤمن الصالح معالمُه من الأرض ومقرُّ عمله من السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) قال: بقاع المؤمن التي كان يصلي عليها من الأرض تبكي عليه إذا مات، وبقاعه من السماء التي كان يرفع فيها عمله.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَير، قال: سُئل ابن عباس: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: نعم إنه ليس أحد، من الخلق إلا له باب في السماء يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه، فإذا مات بكى عليه مكانه من الأرض الذي كان يذكر الله فيه ويصلي فيه، وبكى عليه بابه الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه. وأما قوم فرعون، فلم يكن لهم آثار صالحة، ولم يصعد إلى السماء منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض.
وقوله (وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) يقول: وما كانوا مؤخرين بالعقوبة التي حلَّت بهم، ولكنهم عوجلوا بها إذ أسخطوا ربهم عزّ وجلّ عليهم (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ) : يقول تعالى ذكره: ولقد نجَّينا بني إسرائيل من العذاب الذي كان فرعون وقومه يعذّبونَهُم به، المهين يعني المذلّ لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ) بقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم.
36
وقوله (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ) يقول تعالى ذكره: ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب من فرعون، فقوله (مِنْ فِرْعَوْنَ) مكرّرة على قوله (مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ) مبدلة من الأولى. ويعني بقوله (إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ) إنه كان جبارا مستعليًا مستكبرًا على ربه، (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) يعني: من المتجاوزين ما ليس لهم تجاوزه. وإنما يعني جل ثناؤه أنه كان ذا اعتداء في كفره، واستكبار على ربه جلّ ثناؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (٣٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد اخترنا بني إسرائيل على علم منا بهم على عالمي أهل زمانهم يومئذ، وذلك زمان موسى صلوات الله وسلامه عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) : أي اختيروا على أهل زمانهم ذلك، ولكلّ زمان عالم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) قال: عالم ذلك الزمان.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) قال: على من هم بين ظَهْرَانِيهِ.
قوله (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) يقول تعالى ذكره:
37
وأعطيناهم من العِبر والعِظات ما فيه اختبار يبين لمن تأمله أنه اختبار اختبرهم الله به.
واختلف أهل التأويل في ذلك البلاء، فقال بعضهم: ابتلاهم بنعمه عندهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) أنجاهم الله من عدوّهم، ثم أقطعهم البحر، وظلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى.
وقال آخرون: بل ابتلاهم بالرخاء والشدّة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ)، وقرأ (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال: بلاء مبين لمن آمن بها وكفر بها، بلوى نبتليهم بها، نمحصهم بلوى اختبار، نختبرهم بالخير والشرّ، نختبرهم لننظر فيما أتاهم من الآيات من يؤمن بها، وينتفع بها ويضيعها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى بني إسرائيل من الآيات ما فيه ابتلاؤهم واختبارهم، وقد يكون الابتلاء والاختبار بالرخاء، ويكون بالشدّة، ولم يضع لنا دليلا من خبر ولا عقل، أنه عنى بعض ذلك دون بعض، وقد كان الله اختبرهم بالمعنيين كليهما جميعا. وجائز أن يكون عنى اختباره إياهم بهما، فإذا كان الأمر على ما وصفنا، فالصواب من القول فيه أن نقول كما قال جل ثناؤه إنه اختبرهم.
38
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦) ﴾
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل مشركي قريش لنبي الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء المشركين من قومك يا محمد (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى) التي نموتها، وهي الموتة الأولى (وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) بعد مماتنا، ولا بمبعوثين تكذيبا منهم بالبعث والثواب والعقاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) قال: قد قال مشركو العرب (وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي: بمبعوثين.
وقوله (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول تعالى ذكره: قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: فأتوا بآبائنا الذين قد ماتوا إن كنتم صادقين، أن الله باعثنا من بعد بلانا في قبورنا، ومحيينا من بعد مماتنا، وخوطب ﷺ هو وحده خطاب الجميع، كما قيل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) وكما قال (رَبِّ ارْجِعُونِ) وقد بيَّنت ذلك في غير موضع من كتابنا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أهؤلاء المشركون يا محمد من قومك خير، أم قوم تُبَّع، يعني تُبَّعا الحِمْيريّ.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) قال: الحميريّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) ذُكر لنا أن تبعا كان رجلا من حمير، سار بالجيوش حتى حير الحيرة، ثم أتى سمرقند فهدمها. وذُكر لنا أنه كان إذا كَتَب كَتَب باسم الذي تسمَّى وملك برّا وبحرا وصحا وريحا. وذُكر لنا أن كعبا كان يقول: نُعِتَ نَعْتَ الرَّجُلِ الصَّالح ذمّ الله قومَه ولم يذمه. وكانت عائشة تقول: لا تسبوا تُبَّعا، فإنه كان رجلا صالحا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قالت عائشة: كان تبَّع رجلا صالحا. وقال كعب: ذمّ الله قومه ولم يذمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن تميم بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، أن تُبَّعا كسا البيت، ونهى سعيد عن سبه.
وقوله (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول تعالى ذكره: أهؤلاء المشركون من قريش خير أم قوم تبع والذين من قبلهم من الأمم الكافرة بربها، يقول: فليس هؤلاء بخير من أولئك، فنصفح عنهم، ولا نهلكهم، وهم بالله كافرون، كما كان الذين أهلكناهم من الأمم من قبلهم كفارا.
وقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) يقول: إن قوم تبَّع والذين من قبلهم من الأمم الذين أهلكناهم إنما أهلكناهم لإجرامهم، وكفرهم بربهم. وقيل: إنهم كانوا مجرمين، فكُسرت ألف"إن" على وجه الابتداء، وفيها معنى الشرط استغناء بدلالة الكلام على معناها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ (٣٩) }
يقول تعالى ذكره: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) السبع والأرضين وما بينهما من الخلق لعبا. وقوله (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ) يقول: ما خلقنا السموات والأرض إلا بالحقّ الذي لا يصلح التدبير إلا به.
وإنما يعني بذلك تعالى ذكره التنبيه على صحة البعث والمجازاة، يقول تعالى ذكره: لم نخلق الخلق عبثا بأن نحدثهم فنحييهم ما أردنا، ثم نفنيهم من غير الامتحان بالطاعة والأمر والنهي، وغير مجازاة المطيع على طاعته، والعاصي على المعصية، ولكن خلقنا ذلك لنبتلي من أردنا امتحانه من خلقنا بما شئنا من امتحانه من الأمر والنهي (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).
(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يقول تعالى ذكره: ولكن أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون أن الله خلق ذلك لهم، فهم لا يخافون على ما يأتون من سخط الله عقوبة، ولا يرجون على خير إن فعلوه ثوابا لتكذيبهم بالمعاد.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: إن يوم فصل الله القضاء بين خلقه بما أسلفوا في دنياهم من خير أو شرّ يجزي به المحسن بالإحسان، والمسيء بالإساءة (ميقاتهم أجمعين) : يقول: ميقات اجتماعهم أجمعين.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) يوم يُفْصَل فيه بين الناس بأعمالهم.
41
وقوله (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا) يقول: لا يدفع ابن عمّ عن ابن عمّ، ولا صاحب عن صاحبه شيئا من عقوبة الله التي حلَّت بهم من الله (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يقول: ولا ينصر بعضهم بعضا، فيستعيذوا ممن نالهم بعقوبة كما كانوا يفعلونه في الدنيا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا)... الآية، انقطعت الأسباب يومئذ يا ابن آدم، وصار الناس إلى أعمالهم، فمن أصاب يومئذ خيرا سعد به آخر ما عليه، ومن أصاب يومئذ شرّا شقي به آخر ما عليه.
وقوله (إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) اختلف أهل العربية في موضع"مَنْ" في قوله: (إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) فقال بعض نحويي البصرة: إلا من رحم الله، فجعله بدلا من الاسم المضمر في ينصرون، وإن شئت جعلته مبتدأ وأضمرت خبره، يريد به: إلا من رحم الله فيغني عنه. وقال بعض نحويي الكوفة قوله (إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) قال: المؤمنون يشفع بعضهم في بعض، فإن شئت فاجعل"مَنْ" في موضع رفع، كأنك قلت: لا يقوم أحد إلا فلان، وإن شئت جعلته نصبا على الاستثناء والانقطاع عن أوّل الكلام، يريد: اللهمّ إلا من رحم الله.
وقال آخرون منهم: معناه لا يغني مولى عن مولى شيئا، إلا من أذن الله له أن يشفع; قال: لا يكون بدلا مما في ينصرون، لأن إلا محقق، والأوّل منفيّ، والبدل لا يكون إلا بمعنى الأوّل. قال: وكذلك لا يجوز أن يكون مستأنفا، لأنه لا يستأنف بالاستثناء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون في موضع رفع بمعنى: يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا إلا من رحم الله منهم، فإنه يغني عنه بأن يشفع له عند ربه.
وقوله (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه: إن الله هو العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه، وأهل طاعته.
42
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الأثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) التي أخبر أنها تَنْبتُ في أصل الجحيم، التي جعلها طعاما لأهل الجحيم، ثمرها فى الجحيم طعام الآثم في الدنيا بربه، والأثيم: ذو الإثم، والإثم من أثم يأثم فهو أثيم. وعنى به في هذا الموضع: الذي إثمه الكفر بربه دون غيره من الآثام.
وقد حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، أن أبا الدرداء كان يُقرئ رجلا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ) فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن عيسى عن الأعمش، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الدنيا، لأفسدت على الناس معايشهم".
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: كان أبو الدرداء يُقْرئ رجلا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ) قال: فجعل الرجل يقول: إن شجرة الزقوم طعام اليتيم; قال: فلما أكثر عليه أبو الدرداء، فرآه لا يفهم، قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ) قال: أبو جهل.
وقوله (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) يقول تعالى ذكره: إن شجرة الزقوم التي جعل ثمرتها طعام الكافر في جهنم، كالرصاص أو الفضة، أو ما يُذاب فى النار إذا أُذيب بها، فتناهت حرارته، وشدّت حميته في شدّة السواد.
وقد بينَّا معنى المهل فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع من
43
الشواهد، وذكَر اختلاف أهل التأويل فيه، غير أنا نذكر من أقوال أهل العلم في هذا الموضع ما لم نذكره هناك.
حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس، عن قول الله جلّ ثناؤه (كَالمُهْلِ) قال: كدرديّ الزيت.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) يقول: أسود كمهل الزيت.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ويعقوب بن إبراهيم، قالوا: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت مطرفا، عن عطية بن سعد، عن ابن عباس، في قوله: (كَالمُهْلِ) ماء غليظ كدرديّ الزيت.
حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت مطرفا، عن عطية بن سعد، عن ابن عباس، في قوله (كَالمُهْلِ) قال: كدرديّ الزيت.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا خليد، عن الحسن، عن ابن عباس، أنه رأى فضة قد أُذيبت، فقال: هذا المهل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا عمرو بن ميمون عن أبيه، عن عبد الله في قوله: (كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) قال: دخل عبد الله بيت المال، فأخرج بقايا كانت فيه، فأوقد عليها النار حتى تلألأت، قال: أين السائل عن المهل، هذا المهل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ: وحدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا خالد بن الحارث، عن عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن ابن مسعود سُئل عن المهل الذي يقولون يوم القيامة شراب أهل النار، وهو على بيت المال،
44
قال: فدعا بذهب وفضة فأذابهما، فقال: هذا أشبه شيء في الدنيا بالمهل الذي هو لون السماء يوم القيامة، وشراب أهل النار، غير أن ذلك هو أشدّ حرّا من هذا. لفظ الحديث لابن بشار وحديث ابن المثنى نحوه.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعث، عن الحسن، قال: كان من كلامه أن عبد الله بن مسعود رجل أكرمه الله بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عمر رضي الله عنه استعمله على بيت المال، قال: فعمد إلى فضة كثيرة مكسرة، فخدّ لها أُخدودا، ثم أمر بحطب جزل فأوقد عليها، حتى إذا امَّاعت وتزبدت وعادت ألوانا، قال: انظروا من بالباب، فأُدخل القوم فقال لهم: هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمُهْل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ)... الآية، ذُكر لنا أن ابن مسعود أُهديت له سقاية من ذهب وفضة، فأمر بأخدود فخدّت في الأرض، ثم قُذِف فيها من جزل الحطب، ثم قذفت فيها تلك السقاية، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه: ادع من بحضرتنا من أهل الكوفة، فدعا رهطا، فلما دخلوا قال: أترون هذا؟ قالوا نعم، قال: ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من الذهب والفضة حين أزبد وانماع.
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن سفيان الأسديّ، قال: أذاب عبد الله بن مسعود فضة، ثم قال: من أراد أن ينظر إلى المهل فلينظر إلى هذا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) قال: كدُرديّ الزيت.
حدثني يحيى بن طلحة قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: (كالمُهْلِ) قال: كدردي الزيت.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: ثنا ابن المبارك، قال:
45
ثنا أبو الصباح، قال: سمعت يزيد بن أبي سمية يقول: سمعت ابن عمر يقول: هل تدرون ما المهل؟ المهل مهل الزيت، يعني آخره.
قال: ثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا أبو الصباح الأيلي، عن يزيد بن أبي سمية، عن ابن عمر بمثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن درّاج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبيّ ﷺ في قوله: (بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) "كعَكر الزيت، فإذا قرّبه إلى وجهه، سقطت فروة وجهه فيه".
قال: ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا رشدين بن سعد، قال: ثني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْريّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
وقوله (فِي الْبُطُونِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة"تَغْلِي" بالتاء، بمعنى أن شجرة الزقوم تغلي في بطونهم، فأنثوا تغلي لتأنيث الشجرة. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة (يَغْلِي) بمعنى: طعام الأثيم يغلي، أو المهل يغلي، فذكَّره بعضهم لتذكير الطعام، ووجه معناه إلى أن الطعام هو الذي يغلي في بطونهم وبعضهم لتذكير المهل، ووجهه إلى أنه صفة للمهل الذي يغلي.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) يقول: يغلي ذلك في بطون هؤلاء الأشقياء كغلي الماء المحموم، وهو المسخن الذي قد أوقد عليه حتى تناهت شدّة حرّه، وقيل: حميم وهو محموم، لأنه مصروف من مفعول إلى فعيل، كما يقال: قتيل من مقتول.
القول في تأويل قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ
46
الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) }
يقول تعالى ذكره: (خُذُوهُ) يعني هذا الأثيم بربه، الذي أخبر جلّ ثناؤه أن له شجرة الزقوم طعام (فاعْتلُوهُ) يقول تعالى ذكره: فادفعوه وسوقوه، يقال منه: عتله يعتله عتلا إذا ساقه بالدفع والجذب; ومنه قول الفرزدق:
ليْسَ الكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أبَاهُمُ حتى تُرَدّ إلى عَطِيَّةَ تُعْتِلُ (١)
أي تُساق دَفْعا وسحبا.
وقوله (إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) : إلى وسط الجحيم. ومعنى الكلام: يقال يوم القيامة: خذوا هذا الأثيم فسوقوه دفعا في ظهره، وسحبا إلى وسط النار.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (فاعْتلُوهُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) قال: خذوه فادفعوه.
وفي قوله (فاعْتلُوهُ) لغتان: كسر التاء، وهي قراءة بعض قرّاء أهل المدينة وبعض أهل مكة (٢).
والصواب من القراءة في ذلك عندنا أنهما لغتان معروفتان في العرب، يقال
(١) البيت في ديوان الفرزدق (طبعة الصاوي بالقاهرة ص ٧٢٢) وناحليك: معطيك. وموضع الشاهد في البيت قوله"تعتل". قال في (اللسان: عتل) : وفي التنزيل"خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم" قرأ عاصم وحمزة والكسائي وأبو عمرو"فاعتلوه" بكسر التاء؛ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب:"فاعتلوه" بضم التاء. قال الأزهري: وهما لغتان فصيحتان. ومعناه: خذوه فاقصفوه كما يقصف الحطب. والعتل: الدفع والإرهاق بالسوق العنيف. اهـ.
(٢) لم يذكر الثانية، وهي ضم التاء، وبها قرئ، ولعله اكتفى عن ذلك؛ بما ذكره في السطر الذي بعده.
47
منه: عتل يعتِل ويعتُل، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال. ثنا سعيد، عن قتادة (إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) : إلى وَسَط النار.
وقوله (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) يقول تعالى ذكره: ثم صبوا على رأس هذا الأثيم من عذاب الحميم، يعني: من الماء المسخن الذي وصفنا صفته، وهو الماء الذي قال الله (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) وقد بيَّنت صفته هنالك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: يقال لهذا الأثيم الشقيّ: ذق هذا العذاب الذي تعذّب به اليوم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) في قومك (الكَرِيمُ) عليهم.
وذُكر أن هذه الآيات نزلت في أبي جهل بن هشام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) نزلت في عدوّ الله أبي جهل لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخذه فهزه، ثم قال: أولى لك يا أبا جهل فأولى، ثم أولى لك فأولى، ذق إنك أنت العزيز الكريم، وذلك أنه قال: أيوعدني محمد، والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها. وفيه نزلت (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) وفيه نزلت (كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) وقال قتادة: نزلت في أبي جهل وأصحابه الذين قتل الله تبارك وتعالى يوم بدر (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ).
48
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: نزلت في أبي جهل (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) قال قتادة، قال أبو جهل: ما بين جبليها رجل أعزّ ولا أكرم مني، فقال الله عزّ وجلّ: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) قال: هذا لأبي جهل.
فإن قال قائل: وكيف قيل وهو يهان بالعذاب الذي ذكره الله، ويذلّ بالعتل إلى سواء الجحيم: إنك أنت العزيز الكريم؟ قيل: إن قوله (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) غير وصف من قائل ذلك له بالعزّة والكرم، ولكنه تقريع منه له بما كان يصف به نفسه في الدنيا، وتوبيخ له بذلك على وجه الحكاية، لأنه كان في الدنيا يقول: إنك أنت العزيز الكريم، فقيل له في الآخرة، إذ عذّب بما عُذّب به في النار: ذُق هذا الهوان اليوم، فإنك كنت تزعم إنك أنت العزيز الكريم، وإنك أنت الذليل المهين، فأين الذي كنت تقول وتدّعي من العزّ والكرم، هلا تمتنع من العذاب بعزّتك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا صفوان بن عيسى; قال ثنا ابن عجلان عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال كعب: لله ثلاثة أثواب: اتَّزر بالعزّ، وتَسَربل الرحمة، وارتدى الكبرياء تعالى ذكره، فمن تعزّز بغير ما أعزّه الله فذاك الذي يقال: ذق إنك أنت العزيز الكريم، ومن رحم الناس فذاك الذي سربل الله سرباله الذي ينبغي له ومن تكبر فذاك الذي نازع الله رداءه إن الله تعالى ذكره يقول:"لا ينبغي لمن نازعني ردائي أن أدخله الجنة" جلّ وعزّ.
وأجمعت قرّاء الأمصار جميعا على كسر الألف من قوله: (ذُقْ إنَّكَ) على وجه الابتداء. وحكاية قول هذا القائل: إني أنا العزيز الكريم. وقرأ ذلك بعض المتأخرين (ذُقْ أَنَّكَ) بفتح الألف على إعمال قوله (ذُقْ) في قوله: (أنَّكَ) كأنك معنى الكلام عنده: ذق هذا القول الذي قلته في الدنيا.
49
والصواب من القراءة في ذلك عندنا كسر الألف من (إنَّكَ) على المعنى الذي ذكرت لقارئه، لإجماع الحجة من القرّاء عليه، وشذوذ ما خالفه، (١) وكفى دليلا على خطأ قراءة خلافها، ما مضت عليه الأئمة من المتقدمين والمتأخرين، مع بُعدها من الصحة في المعنى وفراقها تأويل أهل التأويل.
وقوله (إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) يقول تعالى ذكره: يقال له: إنَّ هذا العذاب الذي تعذّب به اليوم، هو العذاب الذي كنتم في الدنيا تَشُكُّون، فتختصمون فيه، ولا توقنون به فقد لقيتموه، فذوقوه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (٥٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا الله بأداء طاعته، واجتناب معاصيه في موضع إقامة، آمنين في ذلك الموضع مما كان يخاف منه في مقامات الدنيا من الأوصاب والعلل والأنصاب والأحزان.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) فقرأته عامة قرّاء المدينة (فِي مُقَامٍ أَمِينٍ) بضم الميم، بمعنى: في إقامة أمين من الظعن (٢). وقرأته عامة قرّاء المصرين: الكوفة والبصرة (في مَقامٍ) بفتح الميم على المعنى الذي وصفنا، وتوجيها إلى أنهم في مكان وموضع أمين.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(١) قوله وشذوذ ما خالفه، هذا غير صحيح لأن الإمام الكسائي قرأ بفتح الهمز، وهي قراءة سبعية متواترة مشهورة وليست شاذة
(٢) ما فوق الخط ليس في الأصل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) إيْ والله، أمين من الشيطان والأنصاب والأحزان.
وقوله (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الجنات والعيون ترجمة عن المقام الأمين، والمقام الأمين: هو الجنات والعيون، والجنات: البساتين، والعيون: عيون الماء المطرد في أصول أشجار الجنات.
وقوله (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ) يقول: يلبس هؤلاء المتقون في هذه الجنات من سندس، وهو ما رقّ من الديباج وإستبرق: وهو ما غلظ من الديباج.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، في قوله (مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) قال: الإستبرق: الديباج الغليظ.
وقيل: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) ولم يقل لباسا، استغناء بدلالة الكلام على معناه.
وقوله (مُتَقَابِلِينَ) يعني أنهم في الجنة يقابل بعضهم بعضا بالوجوه، ولا ينظر بعضهم في قفا بعض.
وقد ذكرنا الرواية بذلك فما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: كما أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة بإدخالناهم
51
الجنات، وإلباسناهم فيها السندس والإستبرق، كذلك أكرمناهم بأن زوّجناهم أيضا فيها حورا من النساء، وهن النقيات البياض، واحدتهنّ: حَوْراء.
وكان مجاهد يقول في معنى الحُور، ما حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قال: أنكحناهم حورا. قال: والحُور: اللاتي يحار فيهنّ الطرف بادٍ مُخُّ سوقهنّ من وراء ثيابهنّ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهنّ كالمرآة من رقة الجلد، وصفاء اللون. وهذا الذي قاله مجاهد من أن الحور إنما معناها: أنه يحار فيها الطرف، قول لا معنى له في كلام العرب، لأن الحُور إنما هو جمع حوراء، كالحمر جمع حمراء، والسود: جمع سوداء، والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض، كما قيل للنقيّ البياض من الطعام الحُوَّارِيُّ. وقد بينَّا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قال: بيضاء عيناء، قال: وفي قراءة ابن مسعود (بعِيس عِين).
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (بِحُورٍ عِينٍ) قال: بيض عين، قال: وفي حرف ابن مسعود (بعِيس عِين). وقرأ ابن مسعود هذه، يعني أن معنى الحور غير الذي ذهب إليه مجاهد، لأن العيس عند العرب جمع عيساء، وهي البيضاء من الإبل، كما قال الأعشى:
وَمَهْمَهٍ نَازِحٍ تَعْوِي الذّئابُ بِهِ كَلَّفْتُ أَعْيَسَ تَحْتَ الرَّحْلِ نَعَّابا (١)
(١) البيت: لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة ١٣٦١) والرواية فيه:"قفر مساربه" في موضع"تعوي الذئاب به" والمهمه: الصحراء، ونازح: بعيد. وقفر: خال من النبات والإنس. ومساربه مسالكه. وأعيس: حمل أبيض يخالطه شقرة أو ظلمة. والرحل: الخشب يشد على الجمل ليركب فوقه. ونعاب: من نعبت الإبل: إذا مدت أعناقها في سيرها. وقيل هو أن يحرك البعير رأسه إذا أسرع (اللسان: نعب). ومحل الشاهد في البيت عند المؤلف أن العيس عند العرب جمع أعيس، وعيساء، وهي الناقة البيضاء، كما جاء في شعر الأعشى: الأعيس: الجمل الأبيض.
52
يعني بالأعيس: جملا أبيض. فأما العين فإنها جمع عيناء، وهي العظيمة العينين من النساء.
وقوله (يَدْعُونَ فِيهَا)... الآية، يقول: يدعو هؤلاء المتقون في الجنة بكلّ نوع من فواكه الجنة اشتهوه، آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم ونفاده وفنائه، ومن غائلة أذاه ومكروهه، يقول: ليست تلك الفاكهة هنالك كفاكهة الدنيا التي نأكلها، وهم يخافون مكروه عاقبتها، وغبّ أذاها مع نفادها من عندهم، وعدمها في بعض الأزمنة والأوقات.
وكان قتادة يوجه تأويل قوله: (آمِنِينَ) إلى ما حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) أمنوا من الموت والأوصاب والشيطان.
وقوله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) يقول تعالى ذكره: لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا.
وكان بعض أهل العربية يوجه"إلا" في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى، ويقول: معنى الكلام: لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى، ويمثله بقوله تعالى ذكره: (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) بمعنى: سوى ما قد فعل آباؤكم، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم، لأن الأغلب من قول القائل: لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاما في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره.
وإذ كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت
53
بقوله (إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) موتة من نوع الأولى هم ذائقوها، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك، لأن الله عزّ وجلّ قد آمَن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت، ولكن ذلك كما وصفت من معناه. وإنما جاز أن توضع"إلا" في موضع"بعد" لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال: لا أكلم اليوم رجلا إلا رجلا بعد رجل عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا بعد كلام الرجل الذي عند عمرو.
وكذلك إذا قال: لا أكلم اليوم رجلا بعد رجل عند عمرو، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا إلا رجلا عند عمرو، فبعد، وإلا متقاربتا المعنى في هذا الموضع. ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف، لأن الرجاء ليس بيقين، وإنما هو طمع، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب، فقال في ذلك أبو ذُؤَيْب:
إذا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها وَخَالَفهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلُ (١)
فقال: لم يرج لسعها، ومعناه في ذلك: لم يخف لسعها، وكوضعهم الظنّ موضع العلم الذي لم يدرك من قِبل العيان، وإنما أدرك استدلالا أو خبرا، كما قال الشاعر:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِيّ المُسَرَّدِ (٢)
(١) البيت لأبي ذؤيب. وهو شاهد على أن لم يرج: أي لم يخف. وقد سبق الاستشهاد به في هذا التفسير، وتقدم الكلام عليه مفصلا (انظره في ٥: ٢٦٤ من هذه الطبعة). وفي قافيته:"عواسل" في موضع عوامل. وكلتاهما صحيحة.
(٢) البيت لدريد بن الصمة الجشمي. (اللسان: ظنن). قال: الجوهري: الظن معروف. وقد يوضع موضع العلم. قال دريد ابن الصمة:"فقلت لهم ظنوا... " البيت: أي استيقنوا، وإنما يخوف عدوه باليقين لا بالشك. والشاهد في البيت عند المؤلف أن العلم قد يوضع في موضع الظن، كما أن الرجاء قد يوضع موضع الخوف.
54
بمعنى: أيقنوا بألفي مدجَّج واعلموا، فوضع الظنّ موضع اليقين، إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج، ولا رأوهم، وإن ما أخبرهم به هذا المخبر، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب، فوضع أحدهما موضع الآخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها، كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني، وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر، فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه.
فكذلك قوله (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) وضعت"إلا" في موضع"بعد" لما نصف من تقارب معنى"إلا"، و"بعد" في هذا الموضع، وكذلك (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) إنما معناه: بعد الذي سلف منكم في الجاهلية، فأما إذا وجهت"إلا" في هذا الموضع إلى معنى سوى، فإنما هو ترجمة عن المكان، وبيان عنها بما هو أشدّ التباسًا على من أراد علم معناها منها.
وقوله (وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلا مِنْ رَبِّكَ) يقول تعالى ذكره: ووقى هؤلاء المتقين ربهم يومئذ عذاب النار تفضلا يا محمد من ربك عليهم، وإحسانًا منه عليهم بذلك، ولم يعاقبهم بجرم سلف منهم في الدنيا، ولولا تفضله عليهم بصفحه لهم عن العقوبة لهم على ما سلف منهم من ذلك، لم يقهم عذاب الجحيم، ولكن كان ينالهم ويصيبهم ألمه ومكروهه.
وقوله (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة التي وصفت في هذه الآيات، هو الفوز العظيم: يقول: هو الظفر العظيم بما كانوا يطلبون من إدراكه في الدنيا بأعمالهم وطاعتهم لربهم، واتقائهم إياه، فيما امتحنهم به من الطاعات والفرائض، واجتناب المحارم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ
55
يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإنما سهَّلنا قراءة هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد بلسانك، ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناك إليهم بعبره وحُججه، ويتَّعظوا بعظاته، ويتفكَّروا في آياته إذا أنت تتلوه عليهم، فينيبوا إلى طاعة ربهم، ويذعنوا للحقّ عند تبينهموه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) : أي هذا القرآن (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) قال: القرآن، ويسَّرناه: أطلق به لسانه.
وقوله (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانتظر أنت يا محمد الفتح من ربك، والنصر على هؤلاء المشركين بالله من قومك من قريش، إنهم منتظرون عند أنفسهم قهرك وغلبتك بصدّهم عما أتيتهم به من الحق من أراد قبوله واتباعك عليه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) : أي فانتظر إنهم منتظرون.
آخر تفسير سورة الدخان
56
Icon