تفسير سورة محمد

نظم الدرر
تفسير سورة سورة محمد من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة١ محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وتسمى القتال و٢تسمى أيضا٣ الذين كفروا.
مقصودها التقدم إلى المؤمنين في حفظ حظيرة الدين بإدامة الجهاد للكفار، حتى يلزموهم الصغار، أو يبطلوا٤ ضلالهم كما أضل [ الله-٥ ] أعمالهم، لا سيما أهل الردة الذين [ فسقوا عن محيط الدين إلى -٦ ] أودية الضلال المبين، والتزام٧ هذا الخلق الشريف إلى أن تضع الحرب أوزارها بإسلام أهل الأرض كلهم بنزول٨ عيسى عليه الصلاة والسلام، وعلى ذلك دل اسمها " الذين كفروا " لأن من المعلوم أن من صدك عن سبيلك قاتلته و[ أنك-٩ ] إن لم تقاتله كنت مثله، واسمها محمد واضح في ذلك لأن الجهاد كان خلقه عليه/أفضل الصلاة والسلام إلى أن توفاه الله تعالى وهو نبي الرحمة بالملحمة لأنه لا يكون حمد وثم نوع ذم كما تقدم تحقيقه في سورة فاطر وفي سبأ وفي الفاتحة، ومتى كان كف عن أعداء الله [ كان-١٠ ] الذم، [ و-١١ ] أوضح أسمائها في هذا المقصد القتال، فإن من المعلوم أنه لأهل الضلال ﴿ بسم الله ﴾ الملك الأعظم الذي [ أقام-١٢ ] جنده للذب عن حماه ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمت رحمته تارة بالبيان وأخرى بالسيف والسنان ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص حزبه بالحفظ في طريق الجنان.
لما أقام سبحانه الأدلة في الحواميم حتى صارت كالشمس، لا يزيغ عنها إلا هالك، وختم بأنه لا يهلك بعد هذه الأدلة إلا القوم١٣ الفاسقون، افتتح هذه بالتعريف بهم فقال سبحانه وتعالى :
١ السابع والأربعون من سور القرآن الكريم، وعدد آيها ٣٨ عند الكوفيين، و ٣٩ عند المدنيين والمكي والشامي، و ٤٠عند البصريين-راجع نثر المرجان ٦/٥٧٢..
٢ سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد..
٣ سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد..
٤ من مد، وفي الأصل و ظ و م: يبطل الله..
٥ زيد من م ومد..
٦ زيد من ظ و م ومد..
٧ من م ومد، وفي الأصل و ظ: إلزام..
٨ من مد، وفي الأصل و ظ و م: نزول..
٩ زيد من م ومد..
١٠ زيد من ظ و م ومد..
١١ زيد من م ومد..
١٢ زيد من م ومد..
١٣ سقط من م ومد..

فقال سبحانه وتعالى: ﴿الذين كفروا﴾ أي ستروا أنوار الأدلة فضلوا على علم ﴿وصدوا﴾ أي امتنعوا بأنفسهم ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر ﴿عن سبيل الله﴾ أي الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم ﴿أضل﴾ أي أبطل إبطَّالاً عظيماً يزيل العين والأثر ﴿أعمالهم *﴾ التي هي أرواحهم المعنوية وهي كل شيء يقصدون به نفع أنفسهم من جلب نفع أو دفع ضر بعد أن وفر سيئاتهم وأفسد بالهم، ومن جملة أعمالهم ما يكيدونكم به لأنها إذا ضلت عما قصدوا بها بجعله سبحانه لها ضالة ضائعة هلكت من جهة أنها ذهبت في المهالك ومن جهة أنها ذهبت في غير الجهة التي قصدت لها فبطلت منفعتها المقصودة منها فصارت هي باطلة فأذهبوا أنتم أرواحهم الحسية بأن تبطلوا صورهم وأشباحهم بأن تقطعوا أوصالهم
195
وأنتم في غاية الاجتراء عليهم، فإن ربهم الذي أوجدهم قد أبطلهم وأذن لكم في إبطالهم، فإنه قد علم أن لا صلاح لهم والمؤذي طبعاً يقتل شرعاً، فمن قدرتم على قتله فهو محكوم بكفره، محتوم بخيبته وخسره.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما انبنت سورة الأحقاف على ما ذكر من مآل من كذب وافترى وكفر وفجر، وافتتحت السورة بإعراضهم، ختمت بما قد تكرر من تقريعهم وتوبيخهم، فقال تعالى: ﴿ألم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى﴾ أي لو اعتبروا بالبداءة لتيسر عليهم أمر العودة، ثم ذكر عرضهم على النار إلى قوله ﴿فهل يهلك إلا القوم الفاسقون﴾ فلما ختم بذكر هلاكهم، افتتح السورة الأخرى بعاجل ذلك اللاحق لهم في دنياهم فقال تعالى: ﴿فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها﴾ الآية بعد ابتداء السورة بقوله ﴿الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم﴾ فنبه على أن أصل محنتهم إنما هو
196
بما أراده تعالى بهم في سابق علمه ليعلم المؤمنون أن الهدى والضلال بيده، فنبه على الطريقين بقوله ﴿أضل أعمالهم﴾ وقوله في الآخر ﴿كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم﴾ ثم بين أنه تعالى لو شاء لانتصر منهم ولكن أمر المؤمنين بقتالهم ابتلاء واختباراً، ثم حض المؤمنين على ما أمرهم به من ذلك فقال: ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ ثم التحمت الآي - انتهى.
ولما ذكر أهل الكفر معبراً عنهم بأدنى طبقاتهم ليشمل من فوقهم، ذكر أضدادهم كذلك ليعم من كان منهم من جميع الفرق فقال تعالى: ﴿والذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان باللسان ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لدعواهم ذلك ﴿الصالحات﴾ أي الأعمال الكاملة في الصلاة بتأسيسها على الإيمان. ولما كان هذا الوصف لا يخص أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خصهم بقوله تعالى: ﴿وآمنوا﴾ أي مع ذلك.
ولما كان بعضهم كحيي بن أخطب ومن نحا نحوه قد طعن في القرآن بنزوله منجماً مع أن التوراة ما نزلت إلا كذلك، وليس أحد منهم يقدر أن ينكره قال: ﴿بما نزل﴾ أي ممن لا منزل إلا هو منجماً مفرقاً ليجددوا بعد
197
الإيمان به إجمالاً الإيمان بكل نجم منه ﴿على محمد﴾ النبي الأمي العربي القرشي المكي ثم المدني الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما كان هذا معلماً بأن كل إيمان لم يقترن بالإيمان به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتد به، اعترض بين المبتدأ وجوابه بما يفهم علته حثاً عليه وتأكيداً له فقال تعالى: ﴿وهو﴾ أي هذا الذي نزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختص بأنه ﴿الحق﴾ أي الكامل في الحقية لأن ينسخ ولا ينسخ كائناً ﴿من ربهم﴾ المحسن إليهم بإرساله، أما إحسانه إلى أمته فواضح، وأما سائر الأمم فبكونه هو الشافع فيهم الشفاعة العظمى يوم القيامة، وأمته هي الشاهدة لهم.
ولما ثبت بهذا أنهم أحق الناس بالحق، بين ما أثمر لهم ذلك دالاً على أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره، فلا يسع الخلق إلا العفو لأنهم وإن اجتهدوا في الإصلاح بدا لهم لنقصانهم من سيئات أو هفوات فقال تعالى: ﴿كفر﴾ أي غطى تغطية عظيمة ﴿عنهم﴾ في الدارين بتوبتهم وإيمانهم لأن التوبة تجب ما كان قبلها كالإيمان ﴿سيئاتهم﴾ أي الأعمال السيئة التي لحقتهم قبل ذلك بما يظهر لهم من
198
المحاسن وهدى أعمالهم. ولما كان من يعمل سوءاً يخاف عاقبته فيتفرق فكره، إذ لا عشية لخائف قال تعالى: ﴿وأصلح بالهم *﴾ أي موضع سرهم وفكرهم بالأمن والتوفيق والسداد وقوة الفهم والرشاد لما يوفقهم له من محاسن الأعمال ويطيب به اسمهم في الدارين، قال ابن برجان: وإذا أصلح ذلك من العبد صلح ما يدخل إليه وما يخرج عنه وما يثبت فيه، وإذا فسد فبالضد من ذلك. ولذلك إذا اشتغل البال لم ينتفع من صفات الباطن بشيء، وقد علم أن الآية من الاحتباك: ذكر ضلال الكفار أولاً دليلاً على إرادة الهدى للمؤمنين ثانياً، وإصلاح البال ثانياً دليلاً على حذف إفساده أولاً.
ولما كان الجزاء من جنس العمل، علل ما تقدم من فعله بالفريقين بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي ذكر هنا من جزاء الطائفتين ﴿بأن﴾ أي بسبب أن ﴿الذين كفروا﴾ أي ستروا مرائي عقولهم ﴿اتبعوا﴾ أي بغاية جهدهم ومعالجتهم لما قادتهم إليه فطرهم الأولى ﴿الباطل﴾ من العمل الذي لا حقيقة له في الخارج يطابقه، وذلك هو الابتداع والميل مع الهوى إيثاراً للحظوظ فضلوا ﴿وأن الذين آمنوا﴾ أي ولو كانوا في أقل درجات الإيمان ﴿اتبعوا﴾
199
أي بغاية جهدهم متابعين لما تدعو إليه الفطرة الأولى مخالفين لنوازع الشهوات ودواعي الحظوظ على كثرتها وقوتها ﴿الحق﴾ أي الذي له واقع يطابقه وذلك هو الحكمة وهي العمل بموافقة العلم وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه ﴿من ربهم﴾ الذي أحسن إليهم بإيجادهم وما سببه من حسن اعتقادهم فاهتدوا.
ولما علم من هذا أن باطن حال الذين كفروا الباطل، وباطن حال الذين آمنوا الحق، وتقدم في البقرة أن المثل هو ما يتحصل في باطن الإدراك من حقائق الأشياء المحسوسة، فيكون ألطف من الشيء المحسوس، وأن ذلك هو وجه الشبه، علم أن مثل كل من الفريقين ماعلم من باطن حاله فمثل الأول الباطل ومثل الثاني الحق، فلذلك قال سبحانه استئنافاً جواباً لمن كأن قال لما أدركه من دهش العقل لما راعه من علو هذا المقال: هل يضرب مثل مثل هذا: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الضرب العظيم الشأن ﴿يضرب الله﴾ أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿للناس﴾ أي كل من فيه قوة الاضطراب والحركة ﴿أمثالهم *﴾ أي أمثال أنفسهم وأمثال
200
الفريقين المتقدمين أو أمثال جميع الأشياء التي يحتاجون إلى بيان أمثالها مبيناً لها مثل هذا البيان ليأخذ كل واحد من ذلك جزاء حاله، فقد علم من هذا المثل أن من اتبع الباطل أضل الله عمله ووفر سيئاته وأفسد باله، ومن اتبع الحق عمل به ضد ذلك كائناً من كان، وهو غاية الحث على طلب العلم في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعمل بهما.
201
ولما تحرر أن الكفار أحق الخلق بالعدم لأن الباطل مثلهم وحقيقة حالهم، سبب عنه قوله: ﴿فإذا لقيتم﴾ أي أيها المؤمنون ﴿الذين كفروا﴾ ولو بأدنى أنواع الكفر في أيّ مكان كان وأيّ زمان اتفق. ولما كان المراد القتل المجهر بغاية التحقق، عبر عنه مؤكداً له من الاختصار بذكر المصدر الدال على الفعل مصوراً له بأشنع صوره مع ما فيه من الغلظة على الكفار والاستهانة
201
بهم فقال تعالى: ﴿فضرب الرقاب﴾ أي عقبوا لقيكم لهم من غير مهلة بأن تضربوا رقابهم ضرباً بالصدق في الضرب بما يزهق أرواحهم، فإن ذلك انتهاز للفرصة وعمل بالأحوط، وكذلك النفس التي هي أعدى العدو إذا ظفرت بها وجب عليك أن لا تدع لها بقية، قال القشيري: فالحية إذا بقيت منها بقية فوضعت عليها إصبع ثبت فيها سمها.
ولما كان التقدير: ولا يزال ذلك فعلكم، غياه بقوله: ﴿حتى﴾ وبشرهم بالتعبير بأداة التحقق فقال تعالى: ﴿إذا أثخنتموهم﴾ أي أغلظتم القتل فيهم وأكثرتموه بحيث صاروا لا حراك بهم كالذي ثخن فأفرط ثخنه؛ فجعل ذلك شرطاً للأسر كما قال تعالى ﴿وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض﴾ [الأنفال: ٦٧] ثم قال تعالى مبيناً لما بعد الثخن: ﴿فشدوا﴾ أي لأنه لا مانع لكم الآن من الأسر ﴿الوثاق﴾ أي
202
الرباط الذي يستوثق به من الأسر بالربط على أيديهم مجموعة إلى أعناقهم - مجاز عن الأسر بغاية الاستيلاء والقهر.
ولما كان الإمام مخيراً في أسراهم بين أربعة أشياء: القتل والإطلاق مجاناً والإطلاق بالفدية وهي شيء يأخذه عوضاً عن رقابهم والاسترقاق، عبر عن ذلك بقوله مفصلاً: ﴿فإما منّاً﴾ أي أن ينعموا عليهم إنعاماً ﴿بعد﴾ أي في جميع أزمان ما بعد الأسر باستبقائهم ثم بعد الإنعام باستبقائهم إما أن يكون ذلك مع الاسترقاق أو مع الإطلاق ثم الإطلاق إما مجاناً ﴿وإما فداء﴾ بمال أو بأسرى من المسلمين ونحو ذلك، فأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام أن الإبقاء غير واجب بكل جائز، ودخل في الإبقاء ثلاث صور: الاسترقاق والإطلاق مجاناً وبالفداء فصرح سبحانه وتعالى بالفداء الذي معناه الأخذ
203
على وجه أن قسيم للمن، فعلم أن المراد به الإبقاء مع عدم الأخذ فدخل فيه الإطلاق مجاناً وهو واضح والاسترقاق لأنه إنعام بالنسبة إلى القتل، وأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام من المنان الذي هو اسمه تعالى ومعناه المعطي ابتداء جواز القتل لأن الإنعام مخير فيه لا واجب لأنه لو كان واجباً كان حقاً لا نعمة، فقد دخلت السور الأربع في التعبير بهاتين الكلمتين - والله الهادي، وكل هذا على ما يراه الإمام أو نائبه مصلحة، قال القشيري: كذلك حال المجاهدة مع النفس إذا كان في إغفاء ساعة وإفطار يوم ترويح للنفس من الكد وقوة على الجهد فيما يستقبل من الأمر على ما يحصل به الاستصواب من شيخ المريد وفتوى لسان الوقت أو فراسة صاحب المجاهدة - انتهى.
وقد أفهم هذا السياق أن هذا الحكم ثابت غير منسوخ والأمر بالقتل وحده في غيرها من الآيات عام غير مخصوص بما أفهمته الغاية من أن التقدير: والجهاد على هذه الصفة باق وماض مع كل أمير براً كان أو فاجراً، لا يزال طائفة من الأمة قائمين به ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهو - والله أعلم - المراد بقوله تعالى: ﴿حتى﴾ أي افعلوا ما أمرتكم به على ما جددت لكم إلى أن ﴿تضع الحرب أوزارها﴾
204
وهي أثقالها أي الآلات التي تثقل القائمين بها من النفقات والسلاح والكراع ونحوه، وذلك لا يكون وفي الأرض كافر، وذلك على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام حين تخرج الأرض بركاتها، وتكون الملة واحدة وهي الإسلام لله رب العالمين، فيتخذ الناس حديد السلاح سككاً ومناجل وفؤوساً ينتفعون بها في معاشهم كما ورد في الحديث: «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال» - رواه في الفردوس عن أنس رضي الله عنه «الجهاد واجب عليكم مع كل بر وفاجر» رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولما كانت الحرب كريهة إلى النفوس شديدة المشقة، أكد أمرها بما معناه: إن هذا أمر قد فرغ منه، فقال تعالى: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم العالي الحسن النافع الموجب لكل خير. ولما كان هذا ربما أوهم أن التأكيد في هذا الأمر لكون الحال لا يمكن انتظامه إلا به، أتبعه ما يزيل هذا الإيهام فقال: ﴿ولو﴾ ولما كان لو عبر بالماضي أفاد أنه كان ولم يبق، عبر بالمضارع الدال على الحال وما بعده
205
فقال: ﴿يشاء الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال والقدرة على ما يمكن ﴿لانتصر منهم﴾ أي بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً بأن لا يبقى منهم أحداً ﴿ولكن﴾ أوجب ذلك عليكم ﴿ليبلوا﴾.
ولما كان الابتلاء ليس خاصاً بفريق منهم بل عاماً للفريقين لأنه يكشف عن أهل المحاسن وأهل المساوئ من كل منهم، قال تعالى: ﴿بعضكم﴾ من الفرقة المؤمنين بالإنكار عليهم من الفرقة الطاغين حتى يكون لهم بذلك اليد البيضاء ﴿ببعض﴾ أي يفعل في ذلك فعل المختبر ليترتب عليه الجواء على حسب ما تألفونه من العوائد.
ولما أفهم هذا أن الابتلاء بين فريقين بالجهاد، قال عاطفاً على ما تقديره: فالذين قاتلوا أو قتلوا في سبيل الشيطان أضل أعمالهم: ﴿والذين قتلوا﴾ وفي قراءة البصريين وحفص ﴿قتلوا﴾ وهي أكثر ترغيباً والأولى أعظم ترجية ﴿في سبيل الله﴾ أي لأجل تسهيل
206
طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال.
ولما كان في سياق الترغيب، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بأن أعمالهم سببه فقال تعالى: ﴿فلن يضل﴾ أي يضيع ويبطل ﴿أعمالهم *﴾ لكونها غير تابعة لدليل بل يبصرهكم بالأدلة ويوفقهم لاتباعها، وهو معنى قوله تعالى تعليلاً: ﴿سيهديهم﴾ أي في الدارين بوعد لا خلف فيه بعد المجاهدة إلى كل ما ينفعهم مجدداً ذلك على سبيل الاستمرار ﴿ويصلح بالهم﴾ أي موضع فكرهم فيجعله مهيأ لكل خير بعيداً عن كل شر آمناً من المخاوف مطمئناً بالإيمان بما فيه من السكينة، فإذا قتل أحد في سبيله تولى سبحانه وتعالى ورثته بأحسن من تولي المقتول لو كان حياً.
207
ولما كان هذا ثواباً عظيماً ونوالاً جسيماً، أتبعه ثواباً أعظم منه فقال تعالى: ﴿ويدخلهم الجنة﴾ أي دار القرار الكاملة في النعيم، وأجاب من كأنه يسأل عن كيفية إدخالهم إياها وكيفيتها عند ذلك بقوله تعالى: ﴿عرفها لهم *﴾ أي بتعريف الأعمال الموصلة
207
إليها والتوفيق لهم إليها في الدنيا وأيضاً بالتبصير بالمنازل في الآخرة حتى أن أحدهم يصير أعرف بمنزله فيها منه بمنزله في الدنيا، وطيب رائحتها وجعل موضعها عالياً وجدرانها عالية وهي ذات أغراف وشرف، وفي هذه الآية بشرى عظيمة لمن جاهد ساعة ما بأن الله يميته على الإسلام المستلزم لئلا يضيع له عمل، ويؤيده ما رواه الطبراني في الكبير عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «للإسلام ثلاث أبيات: سفلى وعليا وغرفة، فأما السفلى فالإسلام دخل فيه عامة المسلمين فلا تسأل أحداً منهم إلا قال: أنا مسلم، وأما العليا فتفاضل أعمالهم بعض المسلمين أفضل من بعض، وأما الغرفة العليا فالجهاد في سبيل الله لا ينالها إلا أفضلهم».
ولما ذكر القتال، تشوف السامع إلى حال المقاتل من النصر والخذلان فأجاب بما يعرف بشرط النصر فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بذلك وإن كان في أدنى الدرجات بما أشعرت به أداة البعد
208
والصلة بالماضي ﴿إن تنصروا الله﴾ أي يتجدد لكم نية مستمرة وفعل دائم على نصرة دين الملك الأعظم بإيضاح أدلته وتبيينها وتوهية شبه أهل الباطل وقتالهم، ويكون ذلك خالصاً له لا لغيره من النيات الفاسدة المعلولة بطلب الدنيا أو الشهرة بالشجاعة والعلم وطيب الذكر الغضب للأهل وغير ذلك ﴿ينصركم﴾ فإنه الناصر لا غيره من عدد أو عدد فيقمع أعداء الدين بأيديكم.
ولما كان النصر قد يكون مع العجز والكسل والجبن والفشل بين أنه يحميهم من ذلك فقال: ﴿ويثبت أقدامكم *﴾ أي تثبيتاً عظيماً بأن يملأ قلوبكم سكينة واطمئناناً وأبدانكم قوة وشجاعة في حال القتل ووقت البحث والجدال، وعند مباشر جميع الأعمال، فتكونوا عالين قاهرين في غاية ما يكون من طيب النفوس وانشراح الصدور ثقة بالله واعتزازاً به وإن تملأ عليكم أهل الأرض.
ولما ذكر أهل الإيمان، بين ما لأهل الكفران، فقال سبحانه: ﴿والذين كفروا﴾ أي ستروا ما دل عليه العقل وقادت إليه الفطر الأولى، وبين أن سوء أعمالهم أسباب وبالهم بالفاء. فقال مؤكداً بجعل الخبر مفعولاً مطلقاً لأجل استبعادهم بما لهم من القوة بكثرة العدد
209
والملاءة بالعدد: ﴿فتعساً﴾ أي فقد عثروا فيقال لهم ما يقال للعاثر الذي يراد أنه لا يقوم: تعساً لا قيام معه، كما يقال لمن عثر وأريد قيامه: تعساً لك، والمراد بالتعس الانحطاط والسفول والهوان والقلق.
ولما كان كأنه قيل: لمن هذا؟ قيل: ﴿لهم﴾ فلا يكادون يثبتون في قتال لمن صلحت من الأعمال.
ولما كان الإنسان قد يعثر ويقع ويقال له: تعساً، ويقوم بعد ذلك، ولا يبطل عمله، بين أن قوله ليس كذلك، بل مهما قاله كان لا يتخلف أصلاً، فقال معبراً بالماضي إشارة إلى التحتم فيه، وأما الاستقبال فربما تاب على بعضهم فيه عاطفاً على ما تقديره فقال تعالى لهم ذلك: ﴿وأضل أعمالهم *﴾ وإن كانت ظاهرة الإيقان لأجل تضييع الأساس بالإيمان.
ولما بين ما صنع بهم ليجترئ به حزبه عليهم، بين سببه ليجتنب فقال: ﴿ذلك﴾ الأمر البعيد من الخير ﴿بأنهم﴾ أي بسب بأنهم ﴿كرهوا﴾ بغضوا وخالفوا وأنكروا ﴿ما أنزل الله﴾ أي الملك
210
الأعظم الذي لا نعمة إلا منه، والذي أنزله من القرآن والسنة هو روح الوجود الذي لا يعاندونه، فلما كرهوا الروح الأعظم بطلت أرواحهم فتبتها أشباحهم، وهو معنى قوله مسبباً بياناً لمعنى إضلال أعمالهم: ﴿فأحبط﴾ أي أبطل إبطالاً لا صلاح معه ﴿أعمالهم *﴾ بسبب أنهم أفسدوها بنياتهم فصارت وإن كانت صورها صالحة ليس لها أرواح، لكونها واقعة على غير ما أمر به الله الذي لا أمر إلا له يقبل من العمل إلا ما حده ورسمه، وهذا وعيد للأمة بأنها إن تخلت عن نصر الله والجهاد في سبيله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها سبحانه إلى نفسها وتخلى عن نصرها وسلط عليها عدوها، ولقد وجد بعض ذلك من تسلط الفسقة لما وجد التهاون في بعض ذلك والتواكل فيه.
211
ولما كان لا يستهين بهذه القضايا ويجترئ مثل هذه البلايا إلا من أمن العقوبة، ولا يأمن العقوبة إلا من أعرض عن الله سبحانه وتعالى، وكان يكفي في الصد عن الأمرين وقائعه تعالى بالأمم الخالية لأجل تكذيب رسله ومناصبة أوليائه والاعتداء على حدوده، قال منكراً عليهم وموبخاً لهم تقدماً إليهم بالتحذير من بطشه وسطوته وشديد أخذه وعقوبته، مسبباً عن كراهيتهم المذكورة وما تأثر عنها
211
من العداوة لأهل الله: ﴿أفلم يسيروا﴾ أي بسبب تصحيح أعمالهم وبنائها على أساس ﴿في الأرض﴾ أي التي فيها آثار الوقائع فإنها هي الأرض في الحقيقة لما لها من زيادة التعريف بالله ﴿فينظروا﴾ عقب سيرهم وبسبه. ولما كانت وقائعه خلعة للقلوب بما فيها من الأمور الباهرة الناطقة بها ألسنة الأحوال بعد التنبيه بالمقال، ساق ذلك بسوقه في أسلوب الاستفهام مساقاً منبهاً على أنه من العظمة بحيث يفرغ الزمان للعناية بالسؤال عنه فقال: ﴿كيف كان عاقبة﴾ أي آخر أمر ﴿الذين﴾ ولما كان يمكنهم معرفة ذلك من جميع المهلكين، نبه بإثبات الجار على أنهم بعضهم بل بعض المكذبين للرسل، وهم الذين سمعوا أخبارهم ورأوا ديارهم بعاد وثمود ومدين وسا وقوم لوط فقال تعالى: ﴿من قبلهم﴾ ولما كان كأنه قيل: ما لهم؟ قال: ﴿دمر الله﴾ أي أوقع الملك الأعظم الهلاك العظيم الداخل بغير إذن، الهاجم بغتة ﴿عليهم﴾ بما علم أهاليهم وأحوالهم وكل من رضي فعالهم أو مقالهم، وعدل عن أن يقول: «ولهؤلاء» إلى قوله: ﴿وللكافرين﴾ تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وهو العراقة في الكفر، فكان فيه بشارة بأن بعضهم سينجيه الله تعالى من أسباب الهلاك لكونه
212
ليس عريقاً في الكفر، لأنه لم يطبع عليه ﴿أمثالها *﴾ أي أمثال هذه العاقبة.
ولما بين أن يعلي أولياءه ويذل أعداءه، بين علته فقال: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي فعله بالفريقين ﴿بأن الله﴾ أي بسبب أن الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال ﴿مولى الذين آمنوا﴾ أي القريب من المصدقين به المرضين له، فهو يفعل معهم بما له من الجلال والجمال ما يفعل القريب بقريبه الحبيب له، قال القشيري: ويصح أن يقال: أرجى آية في كتاب الله هذه الآية لأنه لم يقل: الزهاد والعباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد. يعني بل ذكر أدنى أسنان أهل الإيمان. ﴿وأن الكافرين﴾ أي العريقين في هذا الوصف ﴿لا مولى لهم *﴾ بهذا المعنى، لأنهم بعيدون من الله الذي لا يعبد على الحقيقة إلا هو، فلا ينفعهم قرب قريب أصلاً وإن كان الله مولاهم بغير هذا المعنى بل بمعنى أنه سيدهم ومالكهم، وفيه إيماء إلى أنه سبحانه وتعالى ولي من لم يكن عريقاً في الكفر فيخرجه من الظلمات إلى النور.
ولما تشوف السامع إلى تعرف تمام آثار الولاية، قال شافياً
213
لعيّ سؤالهم مؤكداً لأجل كثرة المكذبين: ﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع الكمال ﴿يدخل الذين آمنوا﴾ أي أوقعوا التصديق ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لما ادعوا أنهم أوقعوه ﴿الصالحات﴾ فتمتعوا بما رزقهم الله من الملاذ لا على وجه أنها ملاذ بل على وجه أنها مأذون فيها، وهي بلاغ إلى الآخرة وأكلوا لا للترفه بل لتقوية البدن على ما أمروا به تقوتاً لا تمتعاً ﴿جنات﴾ أي بساتين عظيمة الشأن موصوفة بأنها ﴿تجري﴾ وبين قرب الماء من وجهها بقوله: ﴿من تحتها الأنهار﴾ أي فهي دائمة النمو والبهجة والنضارة والثمرة لأن أصول أشجارها ربى وهي بحيث متى أثرت بقعة مناه أدنى إثارة جرى منها نهر، فأنساهم دخولهم غصص ما كانوا فيه في الدنيا من نكد العيش ومعاناة الشدائد، وضموا نعيمها إلى ما كانوا فيه في الدنيا من نعيم الوصلة بالله ثم لا يحصل لهم كدر ما أصلاً، وهي مأواهم لا يبغون عنها حولاً، وهذا في نظير ما زوي عنهم من الدنيا وضيق فيها عيشهم نفاسة منهم عنها حتى فرغهم لخدمته وألزمهم حضرته حباً لهم وتشريفاً لمقاديرهم ﴿والذين كفروا﴾ أي غطوا ما دل عليه العقل فعملوا لأجل كفرهم الأعمال الفاسدة المبعدة عن جناب الله ﴿يتمتعون﴾ أي في الدنيا بالملاذ
214
لكونها ملاذ كما تتمتع الأنعام، ناسين ما أمر الله معرضين عن لقائه بل عن الموت أصلاً بل يكون ذكر الموت حاثاً لهم على الانهماك في اللذات مسابقة له جهلاً منهم بالله ﴿ويأكلون﴾ على سبيل الاستمرار ﴿كما تأكل الأنعام﴾ أكل التذاذ ومرح من أيّ موضع كان وكيف كان الأكل في سبعة أمعاء، أي في جميع بطونهم من غير تمييز للحرام من غيره لأن الله تعالى أعطاهم الدنيا ووسع عليهم فيها وفرغهم لها حتى شغلهم عنه هواناً بهم وبغضاً لهم لأنه علم حالهم قبل أن يوجدهم فيدخلهم ناراً وقودها الناس والحجارة ﴿والنار﴾ أي والحال أن ذات الحرارة العظمى والإحراق الخارج عن الحد ﴿مثوى﴾ أي منزل ومقام ﴿لهم *﴾ تنسيهم أول انغماسهم فيها كل نعيم كانوا فيه ثم لا يصير لهم نعيم ما أصلاً، بل لا ينفك عنهم العذاب وقتاً ما، فالآية من الاحتباك، ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنات أولاً دليلاً على حذف الفاسدة ودخول النار ثانياً، والتمتع والمثوى ثانياً دليلاً على حذف التعلل والمأوى أولاً، فهو احتباك في احتباك
215
واشتباك مقارن لاشتباك.
ولما وعد سبحانه أنه ينصر من ينصره لأنه مولاه ويدخله دار نعمته، ويخذل من يعانده لأنه عاداه إلى أن يدخله دار شقوته، كان التقدير دليلاً على ذلك: فكأين من قوم هم أضعف من الذين اتبعوك نصرناهم على من كذبهم، فلا خاذل لهم، فعطف عليه قوله: ﴿وكأين﴾ ولما كانت قوة قريش في الحقيقة ببلدهم، وكان الإسناد إليها أدل على تمالؤ أهلها وشدة اتفاقهم حتى كأنهم كالشيء الواحد قال: ﴿من قرية﴾ أي كذبت رسولها ﴿هي أشد قوة﴾ وأكثر عدة ﴿من قريتك﴾ ولما كان إنزال هذه بعد الهجرة، عين فقال: ﴿التي أخرجتك﴾ أي أخرجك أهلها متفقين في أسباب الإخراج من أنواع الأذى على كلمة واحدة حتى كأن قلوبهم قلب واحد فكأنها هي المخرجة - وهي مكة - كذبوك وآذوك حتى أخرجناك من عندهم لننصرك عليهم بمن أيدناك بهم من قريتك هذه التي آوتك من الأنصار نصراً جارياً على ما تألفونه وتعتادونه ﴿أهلكناهم﴾ بعذاب الاستئصال كما اقتضت عظمتنا، وحكى حالهم الماضية بقوله: ﴿فلا ناصر لهم *﴾.
ولما كان هذا دليلاً شهودياً بعد الأدلة العقلية على ما تقدم الوعد
216
به، سبب عنه الإنكار عليهم فقال: ﴿أفمن كان﴾ أي في جميع أحواله ﴿على بينة﴾ أي حالة ظاهرة البيان في أنها حق ﴿من ربه﴾ المربي المدبر له المحسن إليه بما يقيم من الأدلة التي تعجز الخلائق أجمع عن أن يأتوا بواحد منها فبصر سوء عمله وأريه على حقيقته فرآه سيئاً فاجتنبه مخالفاً لهواه، قال القشيري: العلماء في ضياء برهانهم والعارفون في ضياء بيانهم. ﴿كمن زين له﴾ بتزيين الشيطان بتسليطنا له عليه وخلقنا للآثار بأيسر أمر ﴿سوء عمله﴾ من شرك أو معصية دونه.
ولما كان التقدير: فرآه حسناً فعمله ملازماً له، فكان على عمى وضلال، وكان قد أفرد الضمير لقبول «من» له من جهة لفظها، جمع رداً على معناها بتعميم القبح مثنى وفرادى، وإشارة إلى أن القبيح يكون أولاً قليلاً جداً، فمتى غفل عنه فلم تحسم مادته دب وانتشر فقال عاطفاً على ما قدرته: ﴿واتبعوا أهواءهم *﴾ فلا شبهة لهم في شيء من أعمالهم السيئة فضلاً عن دليل، والآية من الاحتباك
217
ذكر البينة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، والتزيين واتباع الهوى ثانياً دليلاً على ضدهما أولاً، وسره أنه ذكر الأصل الجامع للخير ترغيباً والأصل الجامع للشر ترهيباً.
218
ولما تكرر ذكر الجنة والنار في هذه السورة إلى أن ختم بهذه الآية التي قسم الناس فيها إلى أولياء مهتدين وأعداء ضالين معتدين، فهدى سياقها إلى أن التقدير: أفمن كان على بينة من ربه أحياه الحياة الطيبة في الدارين، ومن تبع هواه أراده فيها، أتبعه وصف الجنة التي هي دار أوليائه قادهم إليها الهدى، والنار التي هي دار أعدائه ساقهم إليها الضلال المحتم للردى، فقال: ﴿مثل الجنة﴾ أي البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها.
ولما تكرر وعده سبحانه للذين آمنوا بالجنة بالاسم الأعظم الجامع وبعضها بالضمير العائد إليه، صار الوعد بها في غاية التحقق فعبر عنه هنا بالماضي المبني للمفعول إشارة إلى أنه أمر قد تحقق بأسهل أمر، وفرغ منه إلى أن صار حاضراً لا مانع منه إلا الوصف الذي علق به الوعد ووصفها بصفات تفيد القطع بأنه لا يقدر عليها إلا الله فصار مجرد
218
ذكرها والإخبار به عنها بصيغة المجهول أعلى لأمره فقال: ﴿التي وعد المتقون﴾ أي الذي حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن كل فعل لم يدل عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين حتى انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: مقبل عليه بكليته فهو متبع، ومعرض عنه جملة، ومستمع غير منتفع.
ولما كان التقدير: مثل بستان عظيم لا يسقط ورقه ولا ينقطع ثمره ولا يتفطن نعيمه لما فيه من الأنهار المتنوعة، وكان ما هو بهذه الصفة إنما هو موهوم لنا لا معلوم، طواه وذكره ما دل عليه من صفة الجنة الموعودة المعلومة بوعد الصادق الذي ثبت صدقه بالمعجزات فقال استئنافاً: ﴿فيها﴾ أي الجنة الموعودة. ولما كان ما يعهدونه من الجنان لا يحتمل أكثر من ثلاثة أنهار، عبر بالجمع الذي يستعار للكثرة إذا دلت قرينة، وهي هنا المدح والامتنان، فقال: ﴿أنهار من ماء﴾ ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم على ثلاثة: حلو وعذب وملح، مع اتحاد الأرض ببساطتها وشدة اتصالها للدلالة على أن فاعل ذلك قادر مختار، وقد يكون آسناً أي متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقه أو من عارض عرض له من منبعه أو مجراه قال: ﴿غير آسن﴾ أي ثابت له في وقت ما شيء من الطعم أو الريح
219
أو اللون بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه.
ولما كان أكثر شرابهم بعد الماء اللبن، ثنى به فقال سبحانه: ﴿وأنهار من لبن﴾ ولما كان التغير غير محمود، وكانوا يعهدون في الدنيا أن اللبن كله على جميع أنواعه طيب حال نزوله من الضرع مع اختلاف ذوات الدر في الأشكال والأنواع والمقادير والأمزجة، ومع انفصال كل واحدة منها من الأخرى، وأنه إنما يتغير بعد حلبه، عبر بما ينفي التغير في الماضي فقال: ﴿لم يتغير طعمه﴾ أي بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر، وهذا يفهم أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير، وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة كما كان في الدنيا متنوعاً.
ولما كان أكثر ما بعد اللبن الخمر قال: ﴿وأنهار من خمر﴾ ولما كانت الخمر يكثر طعمها، وإنما يشربها شاربوها لأثرها، وأنه متى تغير طعمها زال اسمها، عرف أن كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن غير متعرض لطعم فقال: ﴿لذة﴾ أي ثابتة لها اللذة ودائمة حال شربها وعبده ﴿للشاربين *﴾ في طيب الطعم وحسن العاقبة.
220
ولما كان العسل أعزها وأقلها، أخره وإن كان أجلها فقال: ﴿وأنهار من عسل﴾ ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً بالشمع وغيره من القذى قال: ﴿مصفى﴾ أي هو صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك، وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له عنه في وقت ما، فقد حصل بهذا غاية التشويق إلى الجنة بالتمثيل بما يستلذ به من أشربة الدنيا لأنه غاية ما نعلم من ذلك مجرداً عما ينقصه أو ينغصه مع الوصف بالغزارة والاستمرار قال البغوي: قال كعب الأحبار: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سبحان نهر عسلهم. وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر. وقال ابن عبد لحكم في فتوح مصر: حدثنا عثمان بن صالح ثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سأل كعب الأحبار رضي الله عنه: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله تعالى خبراً؟ قال: أي والذي فلق البحر لموسى، إني لأجده في يكتاب الله أن الله عز وجل يوحي إليه في كل عام مرتين، يوحي إليه عن جريه أن الله يأمرك أن تجري، فيجري ما كتب الله له ثم يوحي إليه بعد ذلك: يا نيل غر حميداً. حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير
221
عن كعب الأحبار أنه كان يقول: أربعة أنها من الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا. فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة. وسيحان نهر الماء في الجنة. وجيحان نهر اللبن في الجنة. حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن أبي جنادة الكناني أنه سمع كعباً يقول: النيل في الآخرة عسلاً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، ودجلة في الآخرة لبناً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، والفرات خمراً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، وجيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله وأصل هذا كله ما في الصحيح في صفة الجنة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة» وقال أبو حيان في حكمة ترتيبها غير ما تقدم: إنه بدئ بالماء الذي لا يستغنى عنه في المشروبات، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أقوات العرب وغيرهم، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يتلذذ به، ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب - انتهى. وأحسن منه أنه لما كان السياق للتعجب في ضرب المثل لأنه قول
222
لا ينفك عن غرابة بدأ بأنهار الماء لغرابتها في بلادهم وشدة حاجتهم إليها، ولما كان خلوها عن تغير أغرب نفاه، ولما كان اللبن أقل فكان جريه أنهاراً أغرب، ثنى به، ولما كان الخمر أعز ثلث به، ولما كان العسل أشرفها وأقلها ختم به، ونبه - مع هذا التذكير بقدرته تعالى - على ما يريد بسبب وبغير سبب فإن هذه المشروبات الثلاثة التي وبعضها متمحض للشرابية كالخمر وبعضها في غذائية وهي فيه أغلب، وهو العسل، وبعضها ينزع إلى كل منهما وهو اللبن كلها من الماء مع تمايزها مذاقاً وأثراً في الغذاء والدواء وغير ذلك، فإن الماء أصل النبات، ومن النبات يكون اللبن والخمر والعسل بما لا يخفى من الأسباب، وأما الآخرة فغنية عن الأسباب لظهور اسمه الظاهر سبحانه هناك لأنه لا ابتلاء فيها، وبهذا فهم للترتيب سر آخر وهو أنه تعالى قدم الماء لأنه الأصل لها، وتلاه بأقرب الأشياء إليه في الشرابية والطبع: اللبن، ثم بما هو أقرب إلى اللبن من جهة أنه شراب فقط، ثم بالعسل لأنه أبعدها منه.
ولما كانت الثمار ألذ مستطاب بعد سائغ الشراب قال تعالى:
223
﴿ولهم فيها﴾ ولما كان أهلها متفاوين في الدرجات فلا تجمع جنان أغلبهم جميع ما في الجنة من الثمار بعض فقال: ﴿من كل الثمرات﴾ أي جميع أصنافها على وجه لا حاجة معه من قلة ولا انقطاع.
ولما كان العيش لا يطيب مع الإنصاف بما يوجب العتب، قال مشيراً إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره، لأن الرتب متضائلة عن رتبته سبحانه: ﴿ومغفرة من ربهم﴾ أي المحسن إليهم بمحو ذنوبهم السالفة أعيانها وأثارها بحيث لا يخشون لها عاقبة بعقاب. لا عتاب وعدم بلوغهم إلى ما يحق له من الشكر سبحانه.
ولما أرشد هذا السياق إلى أن التقدير: أفمن هو في هذا النعيم الأكبر المقيم، بنى عليه قوله: ﴿كمن هو خالد﴾ أي مقيم إقامة لا انقطاع معها، ووحده لأن الخلود يعم من فيها على حد سواء ﴿في النار﴾ أي التي لا يطفأ لهيبها، لا يفك أسيرها ولا يؤنس عريبها. ولما كان كل واحد من داخليها له سقي يخصه على حسب عمله ولا يظلم ربك أحداً. كان المؤثر لضرهم السقي على الكيفية التي تذكر لا كونه من ساق معين، بني للمجهول قوله مسنداً إلى ضمير الجمع قوله تعالى:
224
﴿وسقوا﴾ أي عوض ما ذكر من شراب أهل الجنة ﴿ماء حميماً﴾ أي في غاية الحرارة ﴿فقطع أمعاءهم *﴾ ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك، وذلك أنه تعالى لما قدم أن المؤمنين في جنات تجري من تحتها الأنهار، وأن الكافرين مأواهم النار، وكان التقدير إنكاره على من لم يرتدع للزواجر تنبيهاً على أن عمله عمل من يسوي بين الجنة والنار لأن كون النار جزاء لمثله والجنة جزاء المؤمن صار في حد لا يسوغ إنكاره: أمثل الجنة الموصوفة كمثل النار، ومن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار - والله الموفق للصواب.
225
ولما كان التقدير بعد هذا التمثيل والوصف والتشويق الذي يبهر العقول: فمن الناس من يسمع منك بغاية المحبة والإنصاف فيعليه الله بفهم ما يتلوه واعتقاده والعمل به واعتماده وهم المتقون الذين وعدوا الجنة، عطف عليه قوله تعالى: ﴿ومنهم من يستمع﴾ أي بغاية جهده لعله يجد في المتلو مطعناً يشك به على الضعفاء، وبين تعالى بعدهم بقوله: ﴿إليك﴾ ولما أفرد المستمع نظراً إلى لفظ «من» إشارة إلى قلة المستمع جمع نظراً إلى معناه إشارة إلى كثرة المعرضين الجامدين المستهزئين من المستمعين منهم والسامعين فقال تعالى: ﴿حتى﴾ أي واستمر
225
إجهادهم لأنفسهم بالإصغاء حتى ﴿إذا خرجوا﴾ أي المستمعون والسامعون جميعاً ﴿من عندك قالوا﴾ أي الفريقان عمى وتعاميا واستهزاء. ولما كان مجرد حصول العلم النافع مسعداً، أشار إلى تعظيمه ببنائه لما لم يسم فاعله فقال تعالى: ﴿للذين أوتوا العلم﴾ أي بسبب تهيئة الله لهم بما آتاهم من صفاء الأفهام لتجردهم عن النفوس والحظوظ وانقيادهم لما تدعوا إليه الفطرة الأولى: ﴿ماذا قال﴾ أي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿آنفاً﴾ أي قبل افتراقنا وخروجنا عنه من ساعة - أي أول وقت - تقرب منه، من أنفة الصلاة - بالتحريك، وهو ابتداؤها وأولها، قال أبو حيان: حال، أي مبتدئاً، أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه. ورد كونه ظرفاً بأنه تفسير معنى، وأنه لا يعلم أحداً من النحاة عده في الظروف. وقال البغوي: ائتنفت الأمر: ابتدأته، وأنف الشيء أوله، قال مقاتل: وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه استهزاء: ماذا قال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال ابن عباس رضي الله عنه: وقد سئلت فيمن سئل.
ولما دل هذا من المصغي ومن المعرض على غاية الجمود الدال
226
على غاية الشقاء، أنتج قوله: ﴿أولئك﴾ أي خاصة هؤلاء البعداء من الفهم ومن كل خير ﴿الذين طبع الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا تناهي لعظمه جل وعلا ﴿على قلوبهم﴾ أي فلم يؤمنوا ولم يفهموا فهم الانتفاع لأن مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك. ولما كان التقدير: إنهم ضلوا حتى صاروا كالبهائم، عطف عليه ما هو من أفعال البهائم فقال: ﴿واتبعوا﴾ أي بغاية جهدهم ﴿أهواءهم *﴾ أي مجانبين لوازع العقل وناهي المروءة، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام ويقبلون على جمع الحطام، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية «مثل الجنة» بأنهم زين لهم سوء أعمالهم.
ولما ذكر ما هم عليه وشنع عليهم أقبح الذكر، ذكر الذين آتاهم العلم فقال: ﴿والذين اهتدوا﴾ أي اجتهدوا باستماعهم منك في مطاوعة داعي الفطرة الأولى إلى الوقوع على الهدى بالصدق في الإيمان والتسليم والإذعان بأنواع المجاهدات ﴿زادهم﴾ أي الله الذي طبع على قلوب الجهلة ﴿هدى﴾ بأن شرح صدورهم ونورها بأنوار المشاهدات فصارت أوعية للحكمة «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم» ﴿وآتاهم تقواهم *﴾ أي بين لهم ما هو أهل لأن يحذر ووفقهم لاجتنابه
227
مخالفة للهوى، فهم القسم الأول من آية توطئة المثل ﴿الذين هم على بينة من ربهم﴾ ومعنى الإضافة أنه آتى كلاًّ منهم منها بحسب ما يقتضيه حاله، قال ابن برجان: التقوى عمل الإيمان كما أن أعمال الجوارح عمل الإسلام - انتهى.
228
ولما كان أشد ما يتقى القيامة التي هم بها مكذبون، سبب عن اتباعهم الهوى قوله تعالى: ﴿فهل ينظرون﴾ أي ينتظرون، ولكنه جرده إشارة إلى شدة قربها ﴿إلا الساعة﴾ ولما كان كأنه قيل: ما ينتظرون من أمرها؟ أبدل منها قوله: ﴿أن تأتيهم﴾ أي تقوم عليهم، وعبر بالإتيان زيادة في التخويف ﴿بغتة﴾ أي فجاءة من غير شعور بها ولا استعداد لها.
ولما دل ذلك على مزيد القرب، وكان مجيء علامات الشيء أدل على قربه مع الدلالة على عظمته، قال معللاً للبغتة: ﴿فقد﴾ ودل على القوة بتذكير الفعل فقال: ﴿جاء أشراطها﴾ أي علاماتها المنذرات بها
228
من مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بعثت أنا والساعة كهاتين» انشقاق القمر المؤذن بآية الشمس في طلوعها من مغربها وغير ذلك، وما بعد مقدمات الشيء إلا حضوره.
ولما كان المجيء من أهوالها تذكرها قبل حلولها للعمل بما يقتضيه التذكر، وكانت إذا جاءت شاغلة عن كل شيء، سبب عن مجيئها قوله تعالى: ﴿فأنّى﴾ أي فكيف ومن أين ﴿لهم إذا جاءتهم﴾ أي الساعة وأشراطها المعينة لها مثل طلوع الشمس من مغربها ﴿ذكراهم *﴾ لأنهم في أشغل الشغل ولو فرغوا لما تذكروا فعملوا ما أفاد لفوات وقت الأعمال وشرطها، وهو العمل على الإيمان بالغيب، وهكذا ساعة الإنسان التي
229
تخصه وهي موته وأشراطها الجاثة على الذكرى وهو المرض والشيب ونحو ذلك، ومن أشراطها المعينة لها التي لا ينفع معها العمل الوصول إلى حد الغرغرة.
ولما علم بذلك أن الذكرى غير نافعة إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل أو جاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها، سبب عنه أمر أعظم الخلق وأشرفهم وأرقاهم وأجملهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكويناً ليكون لغيره تكليفاً فقال تعالى: ﴿فاعلم أنه﴾ أي الشأن الأعظم الذي ﴿لا إله إلا الله﴾ أي انتفى انتفاء عظيماً أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما تكون عالماً إذا كان نافعاً وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما يقتضيه وإلا فهو جهل صرف، وهذا العلم يفيد أنه لا بد من قيام الساعة لأن الإله وعد بذلك وهو متصف
230
بالكمال ولا شريك له يمنعه من إنجاز وعده. قال القشيري: والعبد يعلم أولاً ربه بدليل وبحجة فعلمه بنفسه ضروري وهذا هو أصل الأصول، وعليه بني كل علم استدلالي، ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وكثرة الحجج وتناقص علمه بنفسه بغلبات ذكره لله بقلبه، فإذا انتهى إلى حال المشاهدة واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه في تلك الحالة ضرورياً ويقل إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال وكأنه غافل عن نفسه أو ناس لنفسه، ويقال: الذي رأى البحر غلب عليه ما يأخذه في الرؤية للبحر عن ذكر نفسه فإذا ركب البحر قوي هذا الحال، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرق فيه ومستهلك، ولهذه الكلمة من الأسرار ما يملأ الأقطار منها أنها بكلماتها الأربع مركبة من ثلاثة أحرف إشارة إلى الوتر الذي هو الله سبحانه وتعالى والشفع الذي هو الخلق أنشأه تعالى أزواجاً، ومنها حرف لساني وحرفان حلقيان: الهاء والألف، غير أن الألف عبر عنها بمظهرها وهو الهمزة ظاهراً مرتين وخفياً في أداة التعريف في الابتداء مرة، وذكرت
231
بلفظها أربع مرات، فتلك سبع هي أتم العدد لذلك وبني الخلق عليه، فالسماوات سبع والأراضي كذلك سبع إشارة إلى أن الإله الحق الذي هو غيب محض إنما علم بالتنزيل بأفعاله، فهي وصلة إلى معرفته وهي منقسمة إلى علوي وسفلي كما أن الألف التي هي كالغيب لأنها لا يمكن النطق بها ابتداء نزلت في مظهر الهمزة التي تكررت في هذه الكلمة مرتين في مقابلة الكونين العلوي والسفلي وبينهما ما لا نعلمه مما خفي عنا كما خفيت همزة الوصل.
وعبر في الأمر بهذه الكلمة بالعلم إعلاماً بأن عمل القلب بها هو العمدة العظمى لكن لما كانت حروفها حلقياً ولسانياً كان في ذلك إشارة إلى أنه لا يكفي في أمرها إلا إذعان الباطن ومطابقة الظاهر الذي هو اللسان، فهو ترجمان القلب، ومتى لم يطابق اللسان القلب حيث لا مانع كان صاحبه من أهل آية الصافات وأحرفها اللفظية أربعة عشر حرفاً على عدد السماوات والأرض الدالة على الذات الأقدس الذي هو غيب محض والمقصود منها مسمى الجلالة الذي هو الإله الحق سبحانه وتعالى والجلالة الدالة عليه خمسة أحرف على عدة دعائم الإسلام الخمس: ووتريته دلالة على التوحيد، ولم يجعل فيها شيئاً شفهياً لتمكن ملازمتها لكونها أعظم مقرب إلى الله وأقرب موصل
232
إليه مع الإخلاص، فإن الذاكر بها يقدر على المواظبة عليها ولا يعلم جليسه بذلك أصلاً، لأن غيرك لا يعلم ما في وراء شفتيك إلا بإعلامك، وكما دل الكلام على التوحيد بهذه الكلمة صريحاً دل على كلمة الرسالة التي لا ينفع التوحيد إلا بها تلويحاً بتسمية السورة «سورة محمد»، فهي القتال لأنه أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقاتل الناس حتى يصرحوا بما صرحت به السورة من كلمة التوحيد، وهي سورة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن التوحيد لا ينفع بدون الشهادة له بالرسالة، وبين الكلمتين مزيد اتفاق يدل على تمام الاتحاد والاعتناق، وذلك أن أحرف كل منهما إن نظرنا إليها خطاً كانت اثني عشرة حرفاً على عدد أجزاء السنة يكفر كل حرف منها شهراً، وإن نظرنا إليها نطقاً كانت أربعة عشر حرفاً لملأ الخافقين نوراً وعظمة ومهابة وجلالة واحتشاماً، وإن نظرنا إليها بالنظرين معاً كانت خمسة عشر لا يوقفها عن ذي العرش خالق الكونين موقف، وهو سر غريب دال على الحكم الشرعي الذي هو عدم انفكاك إحداهما عن الأخرى، فمن لم يجمعهما اعتقاده لم يقبل
233
إيمانه، وقدمت هذه السورة في هذا سابقة لأن لها السبق وذكرت الأخرى في الفتح تالية، وسميت سورة هذه بالقتال وسورة الكلمة المحمدية بالفتح إشارة إلى أنه ما قاتل أحد عليهما مع الإخلاص إلا فتح عليه ولا يقدر أحد على مخالفته مع مناصبته إلا نفاقاً على وجه الذل والاضطراب.
ولما كان حصول التوحيد الذي هو كمال النفس موجباً للإجابة كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الترمذي وأبي يعلى «ما من مؤمن يدعو الله بدعوة إلا استجيب له ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم» الحديث، قال معلماً أنه يجب على الإنسان بعد تكميل نفسه السعي في تكميل غيره ليحصل التعاون على ما خلق العباد له، ﴿واستغفر﴾ أي اطلب الغفران من الله بعد العلم بأنه لا كفوء له بالدعاء له وبالاجتهاد في الأعمال الصالحة ﴿لذنبك﴾، وهو كل مقام عال ارتفعت عنه إلى أعلى منه، وأوجده أنت من نفسك من أساء إليك لتكثر أبتاعك، فإن الاستقامة مهيئة للإمامة.
234
ولما كان تكميل النفس مرقياً إلى تكميل الغير ليكون له مثل أجره، قال تعالى مبيناً لهذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة معيداً للجار معبراً بالإيمان والوصف إيذاناً بأن أعلى الأمة محتاج إلى ذلك، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره، وهذا مشرفاً لهذه الأمة حيث أمر الشفيع المجاب الدعوة بالاستغفار لهم وهو بالدعاء والحث على الاجتهاد في الأعمال الصالحة، حاذفاً المضاف إشارة إلى الاحتياج إلى المغفرة في كل حال لما للإنسان من النقصان بالخطأ والنسيان: ﴿وللمؤمنين والمؤمنات﴾ أي الراسخين في الإيمان لأنهم أحق الناس بذلك منك لأن ما عملوا من خير كان لك مثل أجره، ولا يخلو أحد منهم من تقصير في المعارف الإلهية والعمل بموجبها أو هفوة.
ولما كان معرفة من يذنب ومن لا يذنب متوقفة على إحاطة العلم، قال عاطفاً على ما تقديره: فالله يعلم حركاتكم وسكناتكم سراً وجهراً ويعلم أنكم لا بد أن تعملوا ما جبلكم عليه من ذنب وهو يغفر لمن أراد ممن يسعى في كمال نفسه وتكميل غيره بغسل الذنوب، بالرجوع إلى طاعة علام الغيوب ﴿والله﴾ المحيط بجميع صفات الكمال ﴿يعلم متقلبكم﴾ أي تقلبكم ومكانه وزمانه ﴿ومثواكم *﴾ أي موضع
235
سكونكم وقراره للراحة وكل ما يقع فيه من الثواء في وقته - في الدنيا والآخرة من حين كونكم نطفاً إلى ما لا آخر له.
236
ولما كان دليل على إحاطة العلم، علم ما أبطنه الإنسان ولا سيما إن كان مخالفاً لما أظهره، قال دالاً على إحاطة علمه بإظهار أسرار المنافقين عاطفاً على ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ :﴿ويقول﴾ على سبيل التجديد المستمر ﴿الذين آمنوا﴾ أي ادعوا ذلك بألسنتهم وفيهم الصادق والمنافق دالين على صدقهم في إيمانهم بالتحريض على طلب الخير بتجدد الوحي الذي هو الروح الحقيقي: ﴿لولا نزلت﴾ على سبيل التدريج، وبناه للمفعول دلالة على إظهار أنهم صاروا في صدقهم في الإيمان اعتقادهم أن التنزيل لا يكون إلا من الله بحيث لا يحتاجون إلى التصريح به ﴿سورة﴾ أي سورة كانت لنسر بسماعها ونتعبد بتلاوتها ونعمل بما فيها كائناً ما كان، ويستمر الوحي فينا متجدداً مع تجدد الزمان ليكون ذلك أنشط لنا وأدخل في تحريك عزائمنا ﴿فإذا أنزلت سورة﴾ أي قطعة من القرآن تكامل نزولها كلها تدريجاً أو جملة، وزادت على مطلوبهم بالحس بأنها ﴿محكمة﴾ أي
236
مبينة لا يلبس شيء منها بنوع إجمال ولا ينسخ لكونه جامعاً للمحاسن في كل زمان ومكان ﴿وذكر فيها القتال﴾ بأيّ ذكر كان، والواقع أنه لا يكون إلا ذكراً مبيناً أنه لا يزداد إلا وجوباً وتأكداً حتى تضع الحرب أوزارها، قال البغوي: وكل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين. وهو مروي عن قتادة ﴿رأيت﴾ أي بالعين والقلب ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ أي ضعف في الدين أو نفاق من الذين أقروا بالإيمان وطلبوا تنزيل القرآن وكانوا قد أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن أمرتهم ليخرجن ﴿ينظرون إليك﴾ كراهة لما نزل عليك بعد أن حرضوا على طلبه ﴿نظر المغشي عليه﴾ ولما كان للغشي أسباب، بين أن هذا أشدها فقال تعالى: ﴿من الموت﴾ الذي هو نهاية الغشي فهو لا يطرف بعينه بل هو شاخص لا يطرف كراهة للقتال من الجبن والخور.
ولما كان هذا أمراً منابذاً للإنسانية لأنه مباعد للدين والمروءة، سبب عنه أعلى التهديد فقال متوعداً لهم بصورة الدعاء بأن يليهم المكروه:
237
﴿فأولى﴾ أي أشد ميل وويل وانتكاس وعثار موضع لهم في الهلكة كائن ﴿لهم *﴾ أي خاص بهم، وفسرته بذلك لما تقدم في آخر الأنفال من أن مادة «ولى» تدور على الميل، فإذا كانت على صيغة أفعل التفضيل - وهو قول الأكثر - جاءت الشدة، قال الأصمعي: إنه فعل ماضٍ أي قاربهم ما يهلكهم وأولادهم الله الهلاك، وقال الرضي في باب المعرفة والنكرة: إنه علم للوعيد وفيه وزن الفعل فلذا منع من الصرف، وليس بأفعل تفضيل ولا أفعل فلاً ولا اسم فعل لأن أبا زيد حكى لحاق تاء التأنيث له فقالوا: أولاة الآن - كأرملة وهو من وله الشر أي قرنه حال، وقبوله للتاء لا يضر الوزن، لأن ذلك في علم آخر.
ولما علم بما ذكر من التسبب أن هذا الدعاء عليهم لما تقدم من سوء أدبهم في مقالهم، وقبح ما ظهر من فعالهم، حصل التشوف إلى ما ينبغي لهم، فقال تعالى على طريق النشر المشوش: ﴿طاعة﴾ أي
238
منهم ﴿وقول معروف﴾ أي بالتسليم والإذعان وحسن الانقياد خير لهم مما أظهروا من المحبة في الطاعة وما كشف حالهم عنه من الكراهة، ونكر الاسمين ليكونا صالحين للتعظيم وما دونه، ثم سبب عنهما قوله مسنداً إلى الأمر ما هو لأهله تأكيداً لمضمون الكلام: ﴿فإذا عزم الأمر﴾ أي فإذا أمر بالقتال الذي ذكر في أول السورة وغيره من الأوامر أمراً مجزوماً به معزوماً عليه ﴿فلو صدقوا الله﴾ أي الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً في قولهم الذي قالوه في طلب التنزيل ﴿لكان﴾ صدقهم له ﴿خيراً لهم *﴾ أي من تعللهم وتسللهم عنه لواذاً على تقدير التنزيل في تسليم أن في جماحهم عن الأمر وتقاعدهم عنه نوع خير، ويجوز أن يكون «خير» اسماً لا للتفضيل ليفهم أن كذبهم شر لهم.
ولما كان هذا تبكيتاً لهم من أجل فتورهم عن أمر الله، سبب عن ذلك الفتور بيان ما يحصل منه من عظيم الفساد ويتأثر به
239
من خراب البلاد وشتات العباد في معرض سؤال في أسلوب الخطاب بعد التبكيت والتهديد في أسلوب الغيبة تنبيهاً على تناهي الغضب وبلوغه الغاية فقال تعالى: ﴿فهل عسيتم﴾ أي فتسبب عن تسرعكم إلى السؤال في أن يأمركم الملك بما يرضيه، فإذا أجابكم فرحمكم بما يعلم أنه أصلح الأشياء لكم وهو الجهاد كرهتموه ووجهتم منه وقعدتم عنه أن يقال لكم لما يرى منكم من المخايل الدالة على ضعف الإيمان: هل يمكن عندكم نوع إمكان وتتوقعون شيئاً من توقع أن يكون حالكم جديراً وخليقاً لتغطية علم العواقب عنكم فتخافون من أنفسكم.
ولما كان المقام لذم الإعراض عن الأمر، فصل بين «عسى» وخبرها بشرطية معبر فيها بالتولي بصيغة التفعل إشارة مع نهاية الذم إلى أن المعرض عن أمر الله معرض عما تدعوه الفطرة الأولى القويمة والعقل السديد إلى حسنه، فهو لا يعرض عنه إلا بمجاهدة منه لنفسه فقال تعالى: ﴿إن توليتم﴾ أي بأنفسكم عن الجهاد الذي أمركم به ربكم الذي عرفكم من فوائده ما لا مزيد عليه مما لا يتركه معه عاقل ولا يتخيل تركه إلا على سبيل الفرض - بما أشارت إليه أداة الشرط - أو حصلت
240
توليتكم بتحصيل محصل أوجبها لكم وزينها في أعينكم حتى فعلتموها، وهذا المعنى الثاني هو المراد ببنائه للمجهول في رواية رويس عن يعقوب ﴿أن تفسدوا﴾ أي توقعوا الإفساد العظيم الذي يستمر تجديده منكم ﴿في الأرض﴾ بقتال يكرهه الله ويسخطه ويغضب أشد غضب على فاعله وتكونوا في غاية الجرأة عليه، فإن الذي رحمكم بإنزال ما أنزل حكم بأن من جبن عما يرضيه رغبة في الآخرة اجترأ على ما يسخطه حباً في الدنيا، وقد كنتم في الجاهلية على ذلك في الغارة من بعضكم على بعض ونحو ذلك ﴿وتقطعوا﴾ تقطعياً عظيماً شديداً كثيراً منتشراً كبيراً ﴿أرحامكم *﴾ فتكونوا بذلك أعزة على المؤمنين كما كنتم أذلة على الكافرين، وأقل ما في إعراضكم خذلانكم للمؤمنين المجاهدين بما قد يكون سبباً لظهور الكافرين عليهم فتكونوا بذلك قد جمعتم بين قطيعة أرحامهم وفقدكم لما كان يصل إليكم من منافعهم، فإن كففتم بعدهم عن قتلهم كنتم مع ما فاتكم من خيرهم أجبن الناس وأرضاهم بالعار، وإن تعاطيتم الأخذ بثأرهم كنتم كمن أخذ في
241
فعل ما أمر به بعد فواته وأن له ذلك، وقد علم من هذا أن من أمر بالمعروف وجاهد أهل المنكر أمن الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، ومن تركه وقع فيهما، ويمكن أن يكون «توليتم» من ولاية الأمر، فتكون الآية مشيرة إلى ولاية الفجرة ومنذرة بذلك أن اصنع الأمر بالمعروف، وقد وقع ذلك وشوهد ما ابتنى عليه من الفساد والقطيعة، وعزائم الأنكاد وسوء الصنيعة.
242
ولما بين لهم ما يكون ممن تثاقل عن أمر الله، لأن الملك لا يطرق احتمالاً في شيء إلا وهو واقع فرقاً بين كلامه وكلام غيره، فكيف بملك الملوك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، بين حالهم الذي أنتج لهم ذلك، فقال ملتفتاً عنهم إيذاناً بالغضب مخاطباً لمن جبل على الشفقة على خلق الله والرحمة لهم إعلاماً له بأن هؤلاء قد تحتم شقاؤهم فليسوا بأهل للشفاعة فيهم ولا للأسى عليهم: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿الذين لعنهم الله﴾ أي طردهم أشد الطرد الملك الأعظم لما ذكر من إفسادهم وتقطيعهم؛ ثم سبب عن لعبهم قوله تعالى: ﴿فأصمهم﴾ عن الانتفاع بما يسمعون ﴿وأعمى أبصارهم *﴾ عن الارتفاق بما يبصرون،
242
فليس سماعهم سماع ادكار، ولا إبصارهم إبصار اعتبار، فلا سماع لهم ولا إبصار.
ولما أخبر بذلك فكان ربما سأل من لا يعي الكلام حق وعيه عن السبب الموجب للعن المسبب للصم والعمى، أجابه بقوله منكراً موبخاً مظهراً لتاء التفعل إشارة إلى أن المأمور به صرف جميع الهمة إلى التأمل: ﴿أفلا يتدبرون﴾ أي كل من له أهلية التدبر بقلوب منفتحة منشرحة ليهتدوا إلى كل خير ﴿القرآن﴾ بأن يجهدوا أنفسهم في أن يتفكروا في الكتاب الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس تفكر من ينظر في أدبار الأمور وماذا يلزم من عواقبها ليعلموا أنه لا عون على الإصلاح في الأرض وصلة الأرحام والإخلاص لله في لزوم كل طاعة والبراءة من كل معصية مثل الأمر بالمعروف من الجهاد بالسيف وما دونه، وربما دل إظهار التاء على أن ذلك من أظهر ما في القرآن من المعاني، فلا يحتاج في العثور عليه إلى كبير تدبر- والله أعلم.
ولما كان الاستفهام إنكارياً فكان معناه نفياً، فهو لكونه داخلاً على النفي نفي له فصار إثباتاً، فكان كأنه قيل: هل يجددون التدبر تجديداً مستمراً لترق قلوبهم به وتنير بصائرهم له، فيكفوا عن
243
الإفساد والتقطيع، عادله بقوله مشبهاً للقلوب بالصناديق دالاً على ذلك التشبيه بذكر ما هو مختص بالصناديق من الأقفال: ﴿أم على قلوب﴾ من قلوب الغافلين لذلك، ونكرها لتبعيضها وتحقيرها بتعظيم قسوتها ﴿أقفالها *﴾ أي الحقيقة بها الجديرة بأن تضاف إليها، فهي لذلك لا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً ولا تزداد إلا غباوة وعناداً، لأنها لا تقدر على التدبر، قال القشيري: فلا تدخلها زواجر التنبيه ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب، والباب إذا كان مقفلاً فكما لا يدخل فيه شيء فلا يخرج ما فيه، فلا كفرهم يخرج ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل - انتهى. والإضافة تشعر بأن بعض المتولين على قلوبهم أقفال، لكن ليست متمكنة فيها، فهو سبحانه يفتحها بالتوبة عليهم إذا أراد، وأما الأولون فلا صلاحية لهم، وفي هذه الآية أعظم حاث على قبول أوامر الله لا سيما الجهاد في سبيله وأشد زاجر عن الإعراض عنه لأن حاصلها أنه لعن من أعرض عنه لكونه لا يتدبر القرآن مع وضوحه ويسره ليعلم فوائد الجهاد الداعية إليه المحببة فيه، فكان كأن قلبه مقفل، والآية من الاحتباك:
244
ذكر التدبر أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والأقفال ثانياً دليلاً على ضدها أولاً، وسره أنه ذكر نتيجة الخير الكافلة بالسعادة أولاً وسبب الشر الجامع للشقاوة ثانياً.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأقفال قلوبهم، بين منشأ ذلك، فقال مؤكداً تنبهاً لمن لا يهتم به على أنه مما ينبغي الاهتمام بالنظر فيه ليخلص الإنسان نفسه منه، وتكذيباً لمن يقال: إن ذلك حسن: ﴿إن الذين ارتدوا﴾ أي عالجوا نفوسهم في منازعة الفطرة الأولى في الرجوع عن الإسلام، وهو المراد بقوله: ﴿على أدبارهم﴾ أي من أهل الكتاب وغيرهم، فقلبوا وجوه الأمور إلى ظهورها، فوقعوا في الضلال فكفروا.
ولما كان الذي يلامون عليه ترك ما أتاهم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما أوحاه الله سبحانه إليه من الشريعة، لا ما في غرائزهم من الملة التي يكفي في الهداية إليها نور العقل، وكان الذم لاحقاً بهم ولو كان ارتدادهم في أدنى وقت، أثبت الجار فقال: ﴿من بعد ما تبين﴾ غاية البيان الذي لا خفاء معه بوجه وظهر غاية الظهور ﴿لهم﴾ بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن بيان مبين ﴿الهدى﴾ أي الذي أتاهم به رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
245
ولما كانوا قد أحرقوا بذلك أنفسهم وأبعدوها به غاية البعد عن كل خير، عبر عن المغوي بما يدل على ذلك فقال تعالى: ﴿الشيطان﴾ أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة ﴿سول﴾ أي حسن ﴿لهم﴾ بتزيينه وإغوائه الذي حصل لهم منه استرخاء في عزائمهم وفتور في هممهم فجروا معه في مراده في طول الأمل، والإكثار من مواقعه الزلل والأماني من جميع الشهوات والعلل، بعد أن زين لهم سوء العمل، بتمكين الله له منهم، وهذا لما علم سبحانه منهم حال الفطرة الأولى ﴿وأملى لهم *﴾ أي أطال في ذلك ووسع بتكرار ذلك عليهم على تعاقب الملوين ومر الجديدين حتى نسوا المواعظ وأعرضوا عن الذكر هذا على قراءة الجماعة بفتح الهمزة واللام، وأما على قراءة البصريين بضم الهمزة وكسر اللام فالمراد أن الله تعالى هو المملي - أي الممهل - لهم بإطالة العمر وإسباغ النعم، وتسهيل الأماني والحلم، عن المعاجلة بالنقم، حتى اغتروا، وهي أيضاً موافقة لقوله تعالى ﴿سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين﴾ [القلم: ٤٥]، وأما في قراءة
246
أبي عمرو بفتح الياء فهو فعل ماض مبني للمفعول، ودل على أن المملي هو الله سبحانه وتعالى قراءة يعقوب بإسكان الياء على أنه مضارع همزته للمتكلم.
ولما بين تسليطه الشيطان عليهم، بين سببه فقال: ﴿ذلك﴾ أي الأمر البعيد من الخير وما دل عليه صريح العقل ﴿بأنهم﴾ أي بسبب أن هؤلاء المتولين ﴿قالوا للذين كرهوا ما﴾ أي جميع ما ﴿نزل الله﴾ أي الملك الأعظم على التدريج بحسب الوقائع تنزيلاً فيه إعجاز الخلق في بلاغة التركيب مع فصاحة المفردات وجزالتها مع السهولة في النطق والعذوبة في السمع والملاءمة للطبع كما يشهد به كل ذوق من الأغبياء والأذكياء على تباينهم في مراتب الغباوة والذكاء، وإعجاز آخر لهم في رصانة المعنى وحكمته، وثالث في مطابقته للحال الذي اقتضى نزوله مطابقة يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، ورابع بنظمه مع ما نزل قبله من الآيات، لا على ترتيب النزول، بل على ما اقتضته الحكمة التي تتضاءل دونها الأفكار، وتولى خاسئة من جلالتها على الأدبار، بصائر أولي الأبصار، وهؤلاء المقول لهم هذا الكلام هم - والله أعلم - المصارحون بالكفر، قالوا لهم بعد هذه الأدلة من الإعجازات، وما تقدمها من
247
الآيات البينات الواضحات: ﴿سنطيعكم﴾ بوعد صادق لا خلق فيه ﴿في بعض الأمر﴾ وهو القتال في سبيل الله الذي تقدم أنهم عند نزول سورة يذكر بها يصيرون كالذي يغشى عليه من الموت، فأنتم في أمان من أن نقاتلكم أبداً، فإنا إنما أسلمنا للأمان على دمائنا وأموالنا، والذي نحبه مما ينزل هو التأمين لمن أقر بكلمة الإسلام والقناعة منه بالظاهر والوعد العام بالتبسط في البلاد والتوسعة في الأرزاق ونحو ذلك، فكانوا بذلك كفرة فإن الدين لا يتجزأ، فمن أضاع من أصوله شيئاً فقد أضاعه كله، والتقييد بالبعض يفهم أنهم لا يطيعونهم في البعض الآخر، وهو إظهار الإسلام والتصور بصورة المسالمة، وذلك كله بأن الله تعالى جبلهم جبلة هيأهم فيها لمثل هذا، فلما قالوه مضيعين لما من عليهم من غريزة العقل استحقوا في مجاري عاداتنا لاختيارهم طاعة العدو - مع تعييب علم العواقب عنهم - أن يخذلوا ويسلط عليهم ليكون أخذهم في الظاهر ممن أطاعوه في الباطن، ولو أنهم استمسكوا بدينهم وكانوا مع أهله يداً على من سواهم لم يقدر عليهم عدو، ولا طرقتهم طارقة يكرهونها سوء.
248
ولما كان من له أدنى عقل لا يخون إلا إذا ظن أن خيانته تخفي ليأمن عاقبتها، صور قباحة ما ارتكبوه فقال: ﴿والله﴾ أي قالوا ذلك والحال أن الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿يعلم﴾ على مر الأوقات ﴿إسرارهم *﴾ أي كلها هذا الذي أفشاه عليهم وغيره مما في ضمائرهم مما لم يبرز على ألسنتهم، ولعلهم لم يعلموه هم فضلاً عن أقوالهم التي تحدثت بها ألسنتهم فبان بذلك أنه لا أديان لهم ولا عقول ولا مروءات.
249
ولما بين تعالى إحاطة علمه بهم، أتبعه إحاطة قدرته فقال تعالى مسبباً عن خيانتهم وهم في القبضة بما لا يخفى مما يريدون به صيانة أنفسهم عن القتل معبراً بالاستفهام تنبيهاً على أن حالهم مما يجازون به على هذا الاستحقاق له من البشاعة والقباحة والفظاعة ما يحق السؤال عنه لأجله فقال: ﴿فكيف﴾ أي حالهم ﴿إذا توفتهم الملائكة﴾ أي قبضت رسلنا وهم ملك الموت وأعوانه أرواحهم كاملة، فجازتها إلى دار الجزاء مقطوعة عن جميع أسبابهم وأنسابهم فلم ينفعهم تقاعدهم عن الجهاد في تأخير آجالهم، وصور حالهم وقت توفيهم
249
فقال: ﴿يضربون﴾ أي يتابعون في حال التوفية ضربهم ﴿وجوههم﴾ التي هي أشرف جوارحهم التي جبنوا عن الحرب صيانة لها عن ضرب الكفار. ولما كان حالهم في جبنه مقتضياً لضرب الأقفاء، صوره بأشنع صوره فقال: ﴿وأدبارهم *﴾ التي ضربها أدل ما يكون على هوان المضروب وسفالته ثم تتصل بعد ذلك آلامهم وعذابه وهوانهم إلى ما لا آخر له.
ولما كان كفران النعيم يوجب مع إحلال النعم إبطال ما تقدم من الخدم قال: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الإهانة من فعل رسلنا بهم ﴿بأنهم اتبعوا﴾ أي عالجوا فطرهم الأولى في أن تبعوا عناداً منهم ﴿ما أسخط الله﴾ أي الملك الأعظم وهو العمل بمعاصيه من موالاة أعدائه ومناواة أوليائه وغير ذلك.
ولما كان فعل ما يسخط قد يكون مع الغفلة عن أنه يسخط، بين أنهم ليسوا كذلك فقال تعالى: ﴿وكرهوا﴾ أي بالإشراك ﴿رضوانه﴾ بكراهتهم أعظم أسباب رضاه وهو الإيمان، فهم لما دونه بالقعود عن سائر الطاعات أكره، لأن ذلك ظاهر غاية
250
الظهور في أنه مسخط ففاعله مع ذلك غير معذور في ترك النظر فيه ﴿فأحبط﴾ أي فلذلك تسبب عنه أنه أفسد ﴿أعمالهم *﴾ الصالحة فأسقطها بحيث لم يبق لها وزن أصلاً لتضييع الأساس من مكارم الأخلاق من قرى الضيف والأخذ بيد الضعيف والصدقة والإعتاق وغير ذلك من وجوه الإرفاق.
ولما صور سبحانه ما أثرته خيانتهم بأقبح صوره، فبان به أنه ما حملهم على ما فعلوه إلا جهلهم وسفاهتهم، فأنتج إهانتهم بالتبكيت فقال عاطفاً على ما تقديره: أعلموا حين قالوا ما يسخطنا أنا نعلم سرهم ونجواهم، وإن قدرتنا محيطة بهم ليكونوا قد وطنوا أنفسهم على أنا نظهر للناس ما يكتمونه ونأخذهم أخذاً وبيلاً فيكونوا أجهل الجهلة: ﴿أم﴾ حسبوا لضعف عقولهم - بما أفهمه التعبير بالحسبان - هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما دل على الآفة التي أدتهم إلى ذلك فقال تعالى: ﴿حسب الذين في قلوبهم﴾ التي إذا فسدت فسد جميع أجسادهم ﴿مرض﴾ أي آفة لا طب لها حسباناً هو في غاية الثبات بما دل عليه التأكيد في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أن لن يخرج الله﴾ أي يبرز من هو محيط بصفات الكمال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين رضوان الله عليهم
251
على سبيل التجديد والاستمرار ﴿أضغانهم *﴾ أي ميلهم وما يبطنونه في دواخل أكشاحهم من اعوجاجهم الدال على أحقادهم، وهي أنهم كاتمون عداوة في قلوبهم مصرون عليهم يترقبون الدوائر لانتهاز فرصتها، ليس الأمر كما توهموا بل الله يفضحهم ويكشف تلبيسهم.
ولما علم من ذلك إحاطة علمه سبحانه وتعالى وشمول قدرته علم ما له سبحانه من باهر العظمة وقاهر العزة، فنقل الكلام إلى أسلوبها تنبيهاً على ذلك عاطفاً على ما تقديره: خابت ظنونهم وفالت آراؤهم فلنخرجن ما يبالغون في ستره حتى لا ندع منه شيئاً يريدون إخفاءه إلا كشفناه وأبديناه للناس وأوضحناه، فإنا نعلمهم ونعلم ذلك منهم من قبل أن نخلقهم، فلو نشاء لفضحناهم حتى يعرفهم الناس أجمعون، فلا يخفى منهم أحد على أحد منهم فقال تعالى: ﴿ولو﴾ ويجوز أن تكون واو للحال أي أم حسبوا ذلك والحال أنا لو ﴿نشاء﴾ أي وقعت منا مشيئة الآن أو قبله أو بعده. ولما كانوا لشدة جهلهم لا يتصورون أن سرائرهم كلها معلومة مقدور على أن يعلمها بشر مثلهم، أكد قوله:
252
﴿لأريناكهم﴾ أي رؤية تامة كاشفة لك الغطاء عنهم ﴿فلعرفتهم﴾ أي فتعقبت رؤيتك إياهم معرفتك لهم أنت بخصوصك ﴿بسيماهم﴾ أي بسبب علاماتهم التي نجعلها عالية عليهم غالبة لهم في إظهار ضمائرهم عليها لا يقدرون على مدافعتها بوجه، ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء على قراباتهم المخلصين من الفتن.
ولما انقضى ما علق بالمشيئة مما كان ممكناً له في الماضي وغيره، عطف عليه ما يجزه له مما كشف من أمرهم في المستقبل فقال مؤكداً لاستبعاد من يستبعد ذلك منهم أو ممن شاركهم في مرض القلب من غيرهم فقال في جواب قسم محذوف دل عليه باللام: ﴿ولتعرفنهم﴾ أي بعد هذا الوقت معرفة تتجدد بحسب تجدد أقوالهم مستمرة باستمرار ضمائرهم الخبيثة وإسرارهم ﴿في لحن القول﴾ أي الصادر منهم، ولحنه فحواه أي معناه ومذهبه وما يدل عليه ويلوح به من مثله عن حقائقه إلى عواقبه وما «يؤول إليه» أمره مما يخفى على غيرك،
253
وقال ابن برجان: هو ما تنحوا إليه بلسانك أي تميل إليه ليفطن لك صاحبك وتخفيه على من لم يكن له عهد بمرادك، وعلى القول بالتحقيق فلحن القول ما يبدو من غرض الكلام وخفيات الخطاب وسياق اللفظ وهيئة السحنة حال القول وإن لم يرد المتكلم أن يظهره ولكنه على الأغلب يغلبه حالاً، فلا يقدر على كل كتمه وإن كان في تكليمه معتمداً على ذلك، وحقيقته حال يلوح عن السر وإظهار كلام الباطن يكاد يناقض كلام اللسان بحال خفية ومعان يقف عليها باطن التخاطب وقال:
ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا واللحن يعرفه ذوو الألباب
وقال آخر:
عيناك قد دلتا عيناي منك على أشياء لولاهما ما كنت أدريها
وقال أبو حيان: كانوا اصطلحوا على الفاظ يخاطبون بها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح، وقال الأصبهاني: وقيل للمخطىء: لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب: وقال البغوي: للحن وجهان: صواب وخطأ، فالفعل من الصواب لحن يلحن
254
لحناً فهو لحن - إذا فطن للشيء، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحناً فهو لاحن، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته، قال: فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عرفه، وقال الثعلبي: وعن أنس رضي الله عنه: ما خفي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنا في غزوة وفيها سبعة من المنافقين يشكرهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا على جبهة كل واحد منهم مكتوب «هذا منافق» ومثل ابن عباس رضي الله عنهم بقوله: «ما لنا إن أطعنا من الثواب» قال: ولا يقولون: ما لنا إن عصينا من العقاب.
ولما أخبر سبحانه أنه يعلم ظواهرهم وبواطنهم، وأنه يجليهم لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صور ما يخفونه من أقوالهم، وأكد ذلك لعلمه بشكهم فيه، واجههم بالتبكيت زيادة في إهانتهم عاماً لغيرهم إعلاماً بأنه محيط بالكل فقال عاطفاً على ما تقديره: فالله يعلم أقولكم: ﴿والله﴾ أي مما له من صفات الكمال ﴿يعلم أعمالكم *﴾ كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها، علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدد
255
بحسب تجددها مستمراً باستمرار ذلك.
256
ولما أخبر سبحانه أنه يعرفهم لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتبعه الإخبار بأنه يعرفهم لكافة المؤمنين أيضاً، فقال مؤكداً لأجل ظنهم أن عندهم من الملكة الشديدة والعقل الرصين ما يخفون به أمورهم: ﴿ولنبلونكم﴾ أي نعاملكم معاملة المبتلى بأن تخالطكم بما لنا من صفات العظمة بالأوامر الشديدة على النفوس النواهي الكريهة إليها والمصائب، خلطة مميلة محيلة، وهكذا التقدير في الفعلين الآتيين في قراءة الجماعة بالنون جرياً على الأسلوب الأول، وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالياء الضمير لله تعالى الذي هو محيط بصفات العظمة الراجعة إلى القهر وغيرها من صفات الإكرام الآئلة إلى الإنعام، فهو في غاية الموافقة لقراءة النون ﴿حتى نعلم﴾ بالابتلاء علماً شهودياً يشهده غيرنا مطابقاً لما كنا تعلمه علماً غيبياً فنستخرج من سرائركم ما كوناه فيكم وجبلناكم عليه مما لا يعلمه أحد منكم بل ولا تعلمونه أنتم حق علمه ﴿المجاهدين منكم﴾ في القتال وفي سائر الأعمال والشدائد والأهوال امتثالاً للأمر بذلك.
ولما كان عماد الجهاد الصبر على المكاره قال تأكيداً لأمره:
256
﴿والصابرين﴾ أي على شدائد الجهاد وغيره من الأنكاد، قال القشيري: فبالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال، فيظهر المخلص ويتضح المماذق وينكشف المنافق. ولما نصب معياراً للعلم بالذوات، أتبعه مسباراً للمعرفة للأخيار، فقال عاطفاً على «نعلم» في رواية الجماعة وعلى «نبلو» في الرواية عن يعقوب بإسكان الواو: ﴿ونبلوا أخباركم﴾ أي نخالطها بأن نسلط عليها من يحرفها فيجعل حسنها قبيحاً وقبيحاً مليحاً ليظهر للناس العامل لله والعامل للشيطان، فإن العامل لله إذا سمى قبيحه باسم الحسن علم أن ذلك إحسان من الله إليه فيستحيي منه ويرجع إليه، وإذا سمى حسنه باسم القبيح واشتهر به علم أن ذلك لطف من الله به كيلا يدركه العجب أو يهاجمه الرياء فيزيد في إحسانه، والعامل للشيطان يزداد في القبائح. لأن شهرته عند الناس محط نظره، ويرجع عن الحسن لأنه لم يوصله إلى ما أراد به من ثناء الناس عليه بالخبر ولم يؤكد بنا، وفي قراءة يعقوب إشارة إلى أن إحالة حال المخبر بعد ظهور خبره أسهل من إحالته قبل ظهوره، وعن الفضيل أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا هتكت أستارنا وفضحتنا.
257
ولما جرت العادة بأن الإنسان لا يعذب ولا يهدد إلى من ضره كما تقدم من الإخبار بنكالهم وقبيح أعمالهم مهيئاً للسؤال عن ذلك فاستأنف قوله مؤكداً لظنهم أنهم هم الغالبون لحزب الله: ﴿إن الذين كفروا﴾ أي غطوا من دلت عليه عقولهم من ظاهر آيات الله لا سيما بعد إرسال الرسول المؤيد بواضح المعجزات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وصدوا﴾ أي امتنعوا ومنعوا غيرهم زيادة في كفرهم ﴿عن سبيل الله﴾ أي الطريق الواضح الذي نهجه الملك الأعظم.
ولما كان أكثر السياق للمساترين بكفرهم، أدغم في قوله: ﴿وشاقوا الرسول﴾ أي الكامل في الرسلية المعروفة غاية المعرفة.
ولما كان سبحانه قد عفا عن إهمال الدليل العقلي على الوحدانية قبل الإرسال، قال مثبتاً الجار إعلاماً بأنه لا يغفر لمضيعه بعد الإرسال ولو في أدنى وقت: ﴿من بعد ما تبين﴾ أي غاية التبين بالمعجز ﴿لهم الهدى﴾ بحيث صار ظاهراً بنفسه غير محتاج بما أظهره الرسول من الخوارق إلى مبين، ومنه ما أخبرت به الكتب القديمة الإليهة.
ولما كان المناصب للرسول إنما ناصب من أرسله، دل على ذلك بقوله معرياً له من الفاء دلالة على عدم التسبيب بمعنى أن عدم هذا الضر
258
موجود عملوا أو لم يعملوا وجدوا أو لم يوجدوا ﴿لن يضروا الله﴾ أي ملك الملوك، ولم يقل: الرسول ﴿شيئاً﴾ أي كثيراً ولا قليلاً من ضرر بما تجمعوا عليه من الكفر والصد.
ولما كان التقدير: إنما ضروا أنفسهم ناجزاً بأنهم أتعبوها مما لم يغن عنهم شيئاً. عطف عليه: ﴿وسيحبط﴾ أي يفسد فيبطل بوعد لا خلق فيه ﴿أعمالهم *﴾ من المحاسن لبنائها من المنافق على غير أساس ثابت، فهو إنما يرائي بها، ومن المجاهر على غير أساس أصلاً، فلا ينفعهم شيء منها، ومن المكائد التي يريدون بها توهين الإسلام ونجعل تدميرهم بها في تدبيرهم وإن تناهوا في إحكامها، فلا تثمر لهم إلا عكس مرادهم سواء.
ولما حدى ما تقدم كله من ترغيب المخلص وترهيب المتردد والمبطل إلى الإخلاص ودعا إلى ذلك مع بيان أنه لا غرض أصلاً، وإنما هو رحمة ولطف وإحسان ومنّ، أنتج قوله منادياً من احتاج إلى النداء من نوع بعد لاحتياجه إلى ذلك وعدم مبادرته قبله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بألسنتهم ﴿أطيعوا الله﴾ أي الملك
259
الأعظم تصديقاً لدعواكم طاعته بشدة الاجتهاد فيها أنها خالصة، وعظم الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإفراده فقال تعالى: ﴿وأطيعوا الرسول﴾ لأن طاعته من طاعة الذي أرسله، فإذا فعلتم ذلك حققتم أنفسكم وأعمالكم كما مضى أول السورة، فتكون صحيحة ببنائها على الطاعة بتصحيح النيات وتصفيتها مع الإحسان للصورة في الظاهر ليكمل العمل صورة وروحاً.
ولما كانت الطاعة قد تحمل على إقامة الصورة الظاهرة، قال منبهاً على الإخلاص لتكمل حساً ومعنى: ﴿ولا تبطلوا أعمالكم *﴾ أي بمعصيتهما، فإن الأعمال الصالحة إذا نوى لها ما لا يرضيهما بطلب وإن كانت في الذروة من حسن الصورة، فكانت صورة بلا معنى، فهي مما يكون هباء منثوراً مثل ما فعل أولئك المظهرون للإيمان المبطنون للمشاققة بالنفاق والرياء والعجب والملء والأذى ونحو ذلك من المعاصي، ولكن السياق بسياقه ولحاقه يدل على أن الكفر هو المراد الأعظم بذلك، والآية من الاحتباك: ذكر الطاعة أولاً دليلاً على المعصية ثانياً، والإبطال ثانياً دليلاً على الصحة أولاً، وسره أنه أمر بمبدأ
260
السعادة ونهى عن نهاية الفساد ثانياً، لأنه أعظم في النهي عن الفساد لما فيه من تقبيح صورته وهتك سريرته.
261
ولما دل ما أخبر به أولاً عن المشاققين على أنهم مغلوبون في الدنيا خاسرون في الآخرة، وكانت الخسارة في الآخرة مشروطة بشرط، علل ما أمر به المؤمنون هنا من الطاعة ونهوا عنه من إبطال الأعمال بالمعصية، زيادة في حثهم على ما أمر به بعلتين كل منها مستقل بامتثال أمره واجتناب نهيه: إحدهما عدم المغفرة، والثانية بطلان الأعمال والأموال بكون الدنيا لا حقيقة لها، وقدم الأولى لأن الثانية - وهي أن الدنيا لعب - كالعلة الحاصلة على ما أوجبها، ومن حسن التعليم بيان الحكم ثم تعليله بأقرب ما يحمل عليه أو يصد عنه، فكأنه قيل: لا تبطلوها بالصد عن سبيل الله الحامل عليه الإقبال على الدنيا التي هي عين الباطل، فإنكم إن فعلتم ذلك فاتتكم المغفرة، وذلك من معنى قوله تعالى مؤكداً لإنكارهم مضمونه: ﴿إن الذين كفروا﴾ أي أوقعوا الكفر بفعلهم فعل الساتر لما دله عليه عقله من آيات الله المرئية ثم المسموعة ﴿وصدوا عن سبيل الله﴾ أي طريق الملك الأعلى الواضح المستقيم الموصل إلى كل ما ينبغي أن يقصد كل من أراده بتماديهم على باطلهم وأذاهم لمن خالفهم.
ولما كان هذا أمراً قبيحاً من جهات عديد لما فيه من مخالفة
261
الملك الأعظم المرهوب بطشه المحذورة سطوته، ومن ترك الواسع إلى الضيق والمستقيم إلى المعوج والموصل إلى الفوز إلى الموصل إلى الخيبة، فكان التمادي فيه في غاية البعد، نبه على ذلك بأداة التراخي فقال: ﴿ثم ماتوا﴾ أي بعد المدلهم في مضمارهم بالتطويل في أعمارهم ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم ﴿كفار﴾ ولما كان السبب الأعظم في الإحباط الموت على الكفر، نبه عليه بالفاء الدالة على ربط الجزاء بالشرط وتسببه عنه فقال مؤكداً له لإنكارهم ذلك: ﴿فلن يغفر الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال التي تمنع من تسوية المسيء بالمحسن ﴿لهم﴾ فلا يمحو ذنوبهم ولا يستر عيوبهم، بل يفضح سرائرهم ويوهن كيدهم ويردهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة، فلم يبق لهم ما يغفر لهم بسببه، وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أن إحباط العمل في المرتد مشروط بالموت على الكفر.
ولما قدم سبحانه ذم الكفرة وأنه عليهم وأنه يبطل أعمالهم في الدنيا في الحرب وغيرها، وختم بأن عداوته لهم متحتمة لا انفكاك
262
لها، وكان ذلك موجباً للاجتراء عليهم، سبب عنه قوله مرغباً لهم في لزوم الجهاد محذراً من تركه: ﴿فلا تهنوا﴾ أي تضعفوا ضعفاً يؤدي بكم إلى الهوان والذل ﴿وتدعوا﴾ أي أعداءكم ﴿إلى السلم﴾ أي المسالمة وهي الصلح ﴿وأنتم﴾ أي والحال أنكم ﴿الأعلون﴾ على كل من ناواكم لأن الله عليهم، ثم عطف على الحال قوله: ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا يعجزة شيء ولا كفوء له ﴿معكم﴾ أي بنصره ومعونته وجميع ما يفعله الكرمي إذا كان مع غيره، ومن علم أن سيده معه وعلم أنه قادر على ما يريد لم يبال بشيء أصلاً ﴿ولن يتركم أعمالكم *﴾ أي فيسلبكموها فيجعلكم وتراً منها بمعنى أنه يبطلها كما يفعل مع أعدائكم في إحباط أعمالهم فيصيرون مفردين عنها لأنكم لم تبطلوا أعمالكم بجعل الدنيا محط أمركم، فلا يجوز لإمام المسلمين أن يجيب إلى مسالمة الكفار وبه قوة على مدافعتهم، ولا يحل له ترك الجهاد إلا لمعنى يظهر فيه النظر للمسلمين، ومتى لم يجاهد في سبيل الله انصرف بأسه إلى المسلمين.
ولما أتم العلة الأولى أقبل على الثانية الصادة عن الطاعة القائدة إلى المعصية الملائمة للشهوة المبطلة للأعمال الموجبة للتهاون المؤدي إلى عدم المغفرة، فقال مرغباً في طاعته الموجبة للفوز الدائم ببيان قصر أيام المحنة
263
وتجرع مرارات المشقة: ﴿إنما الحياة﴾ وأشار إلى دناءتها تنفيراً عنها بقوله: ﴿الدنيا﴾ ولما كان مطلق العلو موجباً لأعظم اللذاذة فكيف إذا كان موجبه الدين الضامن لدوام اللذة موصولاً دنيويها بأخرويها، وكان اللعب ما ينشأ من زيادة البسط وينقضي بسرعة مع دلالته على الخفة كالرقص، قدمه إشارة إلى أن العاقل من يسعى في زيادة بسط يحمل على الرزانة ويدوم، وأتبعه اللهو لأنه ما يستجلب به السرور كالغنا إشارة إلى أنه إن كان المراد بالدنيا زيادة بسطها فهو ينقضي بسرعة، مع ما فيه من الرعونة، وإن كان المراد أصل البسط والسرور فعندكم منه بالعلو الحاصل لكم بالجهاد ما هو في غاية العظمة والجد والثبات فلا سفه أعظم من العدول عنه إلى ما إن سر حمل على الطيش وانقضى بسرعة، فقال: ﴿لعب﴾ أي أعمال ضائعة سافلة تزيد في السرور ويسرع اضمحلاله، فيبطل من غير ثمرة ﴿ولهو﴾ أي مشغلة يطلب بها إثارة اللذة كالغنا وحيرة وغفلة، فإن
264
تتبعوها تكفروا وتبطروا وتجترئوا على الله، وإن تكفروا به وتجترئوا عليه تبطل أجوركم فلا يكون لكم أجر ولا مال لأنه يبطل أعمالكم وأموالكم بكونها تصير صوراً لا معاني لها.
ولما صور سبحانه الدنيا بألذ صورها عند الجاهل وأمضها عند العاقل، وحاصله أنها زيادة سرور لمن كان مسروراً، واستجلاب له لمن كان مضروراً، لكنه سريع الانصرام بخلاف ثمرة الاجتماع على الدين من سرور العلو بالإسلام، فإنه باق على الدوام، علم أن التقدير بناء على ما تبع وصف الدنيا، والآخرة جد وعمل وحضور فإن تقبلوا عليها تؤمنوا وتتقوا فلا تخدعنكم الدنيا على دناءتها عن نيل الآخرة بالجهاد الأكبر والأصغر على شرفها وشرفه، قال بانياً على ما أرشد السياق إلى تقديره: ﴿وإن تؤمنوا وتتقوا﴾ أي تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وقاية من جهاد أعدائه ومقاساة لفح إيقاد الحروب وحر الأمر بالمعروف وإنفاق الأموال في ذلك، فتكونوا جادين فتتركوا اللهو واللعب القائدين إلى الكفر ﴿يؤتكم﴾ أي الله الذي فعلتم ذلك من أجله في الدار الآخرة ﴿أجوركم﴾ أي
265
ثواب كل أعمالكم لبنائها على الأساس ولأنه غني لا ينقصه إلا عطاء، والآية من الاحتباك: ذكر الحياة الدنيا واللهو واللعب أولاً دال على ذكر الآخرة والجد ثانياً، وذكر الإيمان والتقوى ثانياً دال على حذف ضدهما الكفران والجرأة أولاً، وسره أن تصوير الشيء بحال الصبي والسفيه أشد في الزجر عنه عند ذوي الهمم العالية، وذكر الأجر المرتب على الخوف الذي هو فعل الحزمة أعون على تركه.
ولما كان الملعوب به الملهو منه يسأل اللاعب اللاهي من ماله، ولا يقنع عند سؤاله، فيكون سبباً لضياع أعماله وأمواله، بين أن المعبود بخلاف ذلك في الأمرين، وأنه يعطي ولا يأخذ لنفسه شيئاً وإنما أخذه أمره بمواصلة بعضكم لبعض فقال تعالى: ﴿ولا يسئلكم﴾ أي الله في الدنيا ﴿أموالكم *﴾ أي لنفسه ولا كلها، وهذا مفهم لأنهم إن لم يتقوا بما ذكر سلط عليه من يأخذ أموالهم بما يخرج أضغانهم، قال ابن برجان: ومتى سئلوا أموالهم بخلوا، فإن أكرهوا على ذلك أشحنوا ضغائن وحقائد، ولم يكن من الإمام لهم نصيحة ولا منهم للإمام ولا لبعضهم لبعض، وكان الخلاف، وفي ذلك
266
الحالقة، وهو إنذار منه سبحانه بما يكون بعد، وما أنذر شيئاً إلا كان منه ما شاء الله.
267
ولما كان الإنسان، لما جبل عليه من النقصان، قد يهلك جميع أمواله لهواً ولعباً بالمقامرة ونحوها، ولا ينهاه ذلك بل لا يزيده إلا إقبالاً رجاء أن يظفر، ولو سئل جميع ماله في الطاعة لبخل، قال تعالى ذاكراً لهم ذلك تنبيهاً عليه وإيماء إلى حلمه تعالى عنهم وتحببه إليه معللاً ما قبله: ﴿أن يسئلكموها﴾ أي الأموال كلها، ولما كانت الأموال قد تطلق على معظمها، حقق المعنى بقوله: ﴿فيحفكم﴾ أي يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك ﴿تبخلوا﴾ فلا تعطوا شيئاً ﴿ويخرج﴾ أي الله أو المصدر المفهوم من «تبخلوا» بذلك السؤال ﴿أضغانكم *﴾ أي ميلكم عنه حتى يكون آخر ذلك عداوة وحقداً، وقد دل إضافة الأضغان إلى ضميرهم أن كل إنسان ينطوي بما له من النقصان، على ما جبل عليه من الإضغان، إلا من عصم الرحيم الرحمن، قال الرازي: وهذا دليل على أن العبد إذا منع في مواسم الخيرات سوى الزكاة لم يخرج من البخل، فحد البخل منع ما يرتضيه الشرع والمروءة فلا بد من مراعاة المروءة ورفع قبح الأحدوثة، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وقدم المادة مهما ظهر له أن فائدة البذل
267
أعظم من فائدة الإمساك ثم يشق عليه البذل فهو بخيل محب للمال، والمال لا ينبغي أن يحب لذاته بل لفائدته، وحفظ المروءة أعظم وأفضل وأقوى من التنعم بالأكل الكثير مثلاً.
ولما أخبر ببخلهم لو سئلوا جميع أموالهم أو أكثرها، دل عليه بمن يبخل منهم عما سأله منهم وهو جزء يسير جداً من أموالهم، فقال منبهاً لهم على حسن تدبيره لهم وعفوه عنهم عند من جعل «ها» للتنبيه، ومن جعل الهاء بدلاً من همزة استفهام جعلها للتوبيخ والتقريع، لأن من حق من دعاه مولاه أن يبادر للإجابة مسروراً فضلاً أن يبخل، وفي هاء التنبيه ولا سيما عند من يرى تكررها تأكيد لأجل استبعادهم أن أحداً يبخل عما يأمر الله به سبحانه: ﴿هأنتم﴾ وحقر أمرهم أو أحضره في الذهن وصوره بقوله: ﴿هؤلاء تدعون﴾ أي إلى ربكم الذي لا يريد بدعائكم إلا نفعكم وأما هو فلا يلحقه نفع ولا ضر ﴿لتنفقوا﴾ شيئاً يسيراً من الزكاة وهي ربع العشر ونحوه، ومن نفقة الغزو وقد يحصل من الغنيمة أضعافها وقد يحصل من المتجر أو أكثر، وقد عم ذلك وغيره
268
قوله: ﴿في سبيل الله﴾ أي الملك الأعظم الذي يرجى خيره ويخشى ضيره، بخلاف من يكون وما يكون به اللهو اللعب.
ولما أخبر بدعائهم، فصلهم فقال تعالى: ﴿فمنكم﴾ أي أيها المدعون ﴿من يبخل﴾ وهو منكم لا شك فيه، وحذف القسم الآخر وهو «ومنكم من يجود» لأن المراد الاستدلال على ما قبله من البخل.
ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه ليقع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله: ﴿ومن﴾ أي والحال أنه من ﴿يبخل﴾ بذلك ﴿فإنما يبخل﴾ أي بماله بخلاً صادراً ﴿عن نفسه﴾ التي هي منبع الدنايا، فلا تنفس ولا تنافس إلا في الشيء الخسيس، فإن نفع ذلك الذي طلب منه فبخل به إنما هو له، وأكده لأنه لا يكاد أحد يصدق أن عاقلاً يتجاوز بماله عن نفع نفسه، ولذا حذف «ومن يجد فإنما يجد على نفسه» لفهمه عن السياق واستغناء الدليل عنه، هذا والأحسن أن يكون «يبخل» متضمناً «يمسك» ثم حذف «يمسك» ودل عليه بحال محذوفة دل عليها التعدية بعن.
ولما كان سؤال المال قد يوهم شيئاً، قال مزيلاً له مقرراً لأن بخل الإنسان إنما هو عن نفسه عطفاً على ما تقديره: لأن ضرر بخله إنما
269
يعود عليه وهو سبحانه لم يسألكم ذلك لحاجته إليه ولا إلى شيء منكم، بل لحاجتكم إلى الثواب، وهو سبحانه قد بنى أمور هذه الدار كما اقتضته الحكمة على الأسباب: ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿الغني﴾ أي وحده ﴿وأنتم﴾ أيها المكلفون خاصة ﴿الفقراء﴾ لأن العطاء ينفعكم والمنع يضركم. فمن افتقر منكم إلى فقير مثله وقع في الذل والهوان، وقد جرت عادتكم أن يداخلكم من السرور ما لا يجد إذا طلب من أحد منكم أحد من الأجواد الأغنياء شيئاً طمعاً في جزائه، فكونوا كذلك وأعظم إذا طلب منكم الغنى المطلق.
ولما كان التقدير: فإن تقبلوا بنولكم تفلحوا عطف عليه قوله مرهباً لأن الترهيب أردع: ﴿وإن تتولوا﴾ أي توقعوا التولي عنه تكلفوا أنفسكم ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى من السماح بذلك الجزاء اليسير جداً الموجب للثواب الخطير والفوز الدائم، ومن الجهاد في سبيله، والقيام بطاعته، لكونه المحسن الذي لا محسن في الحقيقة غيره ﴿يستبدل﴾ أي يوجد ﴿قوماً﴾ فيهم قوة وكفاية لما يطلب منهم محاولته.
270
ولما كان ذلك مفهماً أنهم غيرهم، لكنه لا يمنع أن يكونوا - مع كونهم غير أعيانهم - من قومهم أو أن يشأ دونهم في الصفات وإن كانوا من غير قومهم، نبه على أنهم يكونون من غير قومهم وعلى غير صفاتهم، بل هم أعلى منهم درجة وأكرم خليقة وأحسن فعلاً فقال تعالى: ﴿غيركم﴾ أي بدلاً منكم وهو على غير صفة التولي.
ولما كان الناس متقاربين في الجبلات، وكان المال محبوباً، كان من المستبعد جداً أن يكون هذا البذل على غير ما هم عليه، قال تعالى مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي تأكيداً لما أفهمه ما قلته من التعبير ب «غير» وتثبيتاً له: ﴿ثم﴾ أي بعد استبعاد من يستبعد وعلو الهمة في مجاوزة جميع عقبات النفس والشيطان: ﴿لا يكونوا أمثالكم *﴾ في التولي عنه بترك شيء مما أمر به أو فعل شيء مما نهى عنه، ومن قدر على الإيجاد قدر على الإعدام.
بل هو أهون في مجاري العادات، فقد ثبت أنه سبحانه لو شاء لانتصر من الكفار، إما بإهلاكهم أو إما بناس غيركم بضرب رقابهم وأسرهم، وغير ذلك من أمرهم، وثبت بمواصلة ذم الكفار مع قدرته عليهم
271
أنه أبطل أعمالهم، فرجع بذلك أول السورة إلى آخرها، وعانق موصله ما ترى من مفصلها، وعلم أن معنى هذا الآخر وذلك الأول أنه سبحانه لا بد من إذلاله للكافرين وإعزازه للمؤمنين لأنهم إن أقبلوا على ما يرضيه فجاهدوا نصرهم نصراً عزيزاً بما ضمنه قوله تعالى ﴿إن تنصروا الله ينصركم وثبت أقدامكم﴾ وإن تتولوا أتى بقوم غيركم يقبلون عليه فيصدقهم وعده، فصار خذلانهم أمراً متحتماً، وهو معنى أول سورة محمد - والله الموفق لما يريد من الصواب.
272
سورة الفتح
مقصودها مدلول اسمها الذي يعم فتح مكة وما تقدمه من صلح الحديبية وفتح خيبر ونحوهما، وما وقع تصديق الخبر به من غلب الروم على أهل فارس وما تفرع من فتح مكة المشرفة من إسلام أهل جزيرة العرب وقتال أهل الردة وفتوح جميع البلاد الذي يجمعه كله إظهار الذين على الدين كله، وهذا كله في غاية الظهور بما نطق ابتداؤها) ليظهر على الدين كله () محمد رسول الله (إلى قوله) ليغيظ بهم الكفار) أي بالفتح الأعظم وما دونه من الفتوحات) وعد الله الذين آمنوا وعملوةا الصالحات منهم مغفرة (كما كان في أولهاع للرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) وأجرا عظيما (كذلك بسائر الفتوحات وما حوت من اللغنائم للثواب الجزيل على ذلك في دار الجزاء) بسم الله (الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلما) الرحمن (الذي عم المكلفين بنعمة الوعد والوعيد) الرحيم (الذي اختص أهل حزبه لأقامة دينه الحق فأظهرهم على سائر العبيد
273
Icon