تفسير سورة الذاريات

اللباب
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الذاريات مكية١ وهي ستون آية، وثلاثمائة وستون كلمة، وألف ومائتان وتسعة وثمانون٢ حرفا.
١ في قول الجميع..
٢ في البغي وثلاثون وانظر: القرطبي ١٧/٢٩ والبغوي ٦/٢٤..

مكية وهي ستون آية، وثلاثمائة وستون كلمة، وألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفا بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ أول هذه السورة مناسب لآخرها قبلها، لأنه تعالى لما بين الحشر بدلائله، وقال: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ [ق: ٤٤] وقال: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق: ٤٥] تُجْبِرهم على الإيمان، إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان، وتلاوة القرآن عليهم، لم يبق إلا اليمين فقال: ﴿والذاريات.. إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ وقال في آخرها ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: ٦٠].

فصل


وفي الحكمة في القسم ههنا وجوه:
أحدها: أن الكفار كانوا يَنْسبون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للجدال، ومعرفة طرقه، وأنه عالم بفساد قولهم، وأنه يغلبهم بمعرفته بالجدال، وحينئذ لا يمكن أن يقابلهم بالأدلة، كما أن من أقام خَصْمُه عليه الدليل ولم يبق له حجة، يقول: إنه غلبني، لعلمه بالجدل وعجزي عن ذلك، وهو يعلم في نفسه أن الحق تبعي ولا يبقى للمتكلم المبرهن غير اليمين، ليقول: والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل لأنه لو استدل بطريق آخر يقول خصمه فيه كقوله الأول، فلا يبقى إلا السكوت، أو التمسك بالأيمان، وترك إقامة البرهان.
56
الثاني: أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة، وتعتقد أنها تخرب المنازل، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يكثر الإقسام، دلالة على أنه صادق ولذلك كان أمره يتزايد ويعلموا أنه لا يحلف بها كاذباً.
الثالث: أن الأيمان التي أقسم بها كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان لينبّه بها على كمال القدرة، كقول القائل للمنعم: وحقِّ نِعْمَتِك الكثيرة إنّي لا زال أَشْكُركَ. فذكر النعم التي هي سبب مفيد لدوام الشكر، وإنما أخرجها مُخْرج الإيمان، إيذاناً بأنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه السامع أكثر ما يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف.

فصل


أورد القسم على أمور منها الوحدانية، ولظهور أمرها واعترافهم بها حيث يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] وقولهم: ﴿مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥] لم يقسم عليها إلا في سورة الصافات ومنها الرسالة وهو في سورتين «وَالنَّجْمِ» «وَالضُّحَى»، وبالحروف في «يس» ومنها الحشر، والجزاء وما يتعلق به، فلكثرة إنكارهم له كرر القسم عليه.

فصل


أقسم الله بجمع السلامة المؤنث في سور خمس، ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورةٍ أصلاً، فلم يقل: والصَّالِحِينَ من عبادي، ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف؛ لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل.
57

فصل


روي عن علي - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - في قوله تعالى: ﴿والذاريات﴾ قال هي الرياح التي تَذْرُو التُّراب يقال: ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وأَذْرَتْ «الحَامِلاَت وقْراً» يعني السحاب تحمل ثِقْلاً من الماء «فَالجَارِيَاتِ يُسْراً» هي السفن تجري في الماء جرياً سهلاً «فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً» هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به، أقسم بهذه الأشياء، لما فيها من الدلالة على صنعته وقدرته.
قال ابن الخطيب: والأقرب أن هذه صفات للرياح، فالذاريات هي التي تُنشئ السحاب أولاً، والحاملات هي التي تحمل السحب التي هي بحار المياه التي إذا سحّتْ جرت السيول العظيمة، وهي أوقارٌ أثقل من جبال. والجاريات هي التي تجري السحب عِنْدَ حَمْلِها، وَالمُقَسِّمَات هي الرياح التي تقسم الأمطار وتفرقها على الأقطار، ويحتمل أن يقال: هذه أمور أربعة ذكرت لأمور أربعة بها تتم الإعادة، لأن الأجزاء المتفرقة بعضها في تُخُوم الأرض، وبعضها في قَعْر البِحَار، وبعضها في جَوِّ الهواء، وفي الأجزاء البخارية اللطيفة المنفصلة عن الأبدان فالذاريات هي التي تجمع الذرات من الأرض، وتَذْرُو التُّراب من وجه الأرض والحاملات هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً مستقلاًّ بل تنقله من موضع إلى موضع، بخلاف السحاب فإنه يحمله في الجو حملاً لا يقع منه شيء، والجاريات هي الجامعة من الماء، فإن من يُجْرِي السفنَ الثقيلة في تيّار البحار قادرٌ على نقل الأجزاء من البحر إلى البرّ، فإذن تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن، وإذا اجتمع ذلك كله بَقِيَ نفخُ الروح، وهي من أمر الله، فقال: «فالمُقسِّمَاتِ أَمْراً» يعني الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأَمْر الله.
قوله: «ذَرواً» منصوب على المصدر المؤكد العامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل، والمفعول محذوف اختصاراً إذ لا نظير لما تذروه هنا.
وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء «الذاريات» في ذال «ذَرْواً» وأما «وِقْراً» فهو
58
مفعول به بالحاملات، كما يقال: حَمَل فلانٌ عدْلاً ثَقِيلاً.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون اسماً أقِيمَ مُقَام المصدر، كقوله: ضَرَبَهُ سَوْطاً. ويؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو.
والوِقْرُ - بالكسر - اسم ما يوقِر أي يَحُلُّ. وقرئ بالفتح، وذلك على تسمية المفعول بالمصدر. ويجوز أن يكون مصدراً على حاله والعامل فيه معنى الفعل قبله، لأن الحَمْل والوَقْر بمعنى واحد، وإن كان بينهما عموم وخصوص.
قوله: «يُسْراً» يجوز أن يكون مصدراً من معنى ما قبله أي جَرْياً يُسْراً وأن يكون حالاً، أي ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جعلت نفس اليُسْر مبالغةً.
قوله: «أَمْراً» يجوز أن يكون مفعولاً به، وهو الظاهر، كقولك: فُلاَنٌ قَسَّمَ الرِّزْقَ أَوِ المَالَ، وأن تكون حالاً أي مأمورة. وعلى هذا فيحتاج إلى حذف مفعول «المُقَسِّمَات». وقد يقال: لا حاجة لتقديره كما في الذاريات.
وهل هذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات، والفاء للترتيب في القسم لا في المقسم به؟
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد الرياح وحدها، لأنها تُنْشِئ السحاب وتُقِلُّه، وتَصْرِفُهُ، وتجري في الجو جرياً سَهْلاً وعلى هذا يكون من عطف الصفات، والمراد واحد، كقوله (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) :
٤٥١٧ - يا لَهْفَ زَيَّابَةِ لِلْحَارِثِ الصّابحِ فَالغَانِمِ فَالآيبِ
وقوله:
59
٤٥١٨ - إِلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ
فتكون الفاء على هذا الترتيب الأمور في الوجود.
فإن قيل: إن كان «وقراً» مَفْعولاً لَمْ يُجمع وما قيل: أوقاراً؟.
فالجواب: لأن جماعةً مِنَ الرياح قد تحمل وقرا واحداً، وكذا القول في المقسّمات أمراً إذا قيل: إنه مفعول به، لأنه قد تجمع جماعة من الملائكة على أمر واحد.
قوله: «إنَّمَا تُوعَدونَ» هذا جواب القسم، و «ما» يجوز أن تكون اسمية، وعائدها محذوف، أي تُوعَدُونَهُ وأن تكون مصدرية فلا عائدَ على المشهور، وحينئذ يحتمل أن يكون توعدون مَبْنِيًّا من الوعْد، وأن يكون مبنياً من الوَعِيد، لأنه يصلح أن يقال: أوْعَدْتُهُ فهو يُوعَدُ، وَوَعَدْتُهُ فهو يُوعَد لا يختلف، فالتقدير: إن وعدكم أو إن وعيدكم. ولا حاجة إلى قول من قال: إنه قوله: «لصادق» وقع فيه اسم الفاعل موقع المصدر أي لصدق لأن لفظ اسم الفاعل أبلغ إذا جعل الوعد أو الوعيد صادقاً مبالغة وإن كان الوصف إنما يقوم بمن يَعِدُ أو يُوعِدُ.
قال ابن الخطيب: وبناؤه من «أوعد» هو الحق؛ لأن اليمين مع المنكر بِوَعِيدٍ لا بوَعْد، و «الصادق» معناه ذو صدق «كعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ»، ووصف به الفاعل كوصف الفاعل بالمصدر في إفادة المبالغة.
قوله: ﴿وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ﴾ أي الحشر والجزاء كائن.
60
قوله :«إنَّمَا تُوعَدونَ » هذا جواب القسم، و«ما » يجوز أن تكون اسمية١، وعائدها محذوف، أي تُوعَدُونَهُ وأن تكون مصدرية فلا عائدَ على المشهور، وحينئذ يحتمل أن يكون توعدون مَبْنِيًّا من الوعْد، وأن يكون مبنياً من الوَعِيد٢، لأنه يصلح أن يقال : أوْعَدْتُهُ فهو يُوعَدُ، وَوَعَدْتُهُ فهو يُوعَد لا يختلف، فالتقدير : إن وعدكم أو إن وعيدكم٣. ولا حاجة إلى قول من قال : إنه قوله :«لصادق » وقع فيه اسم الفاعل موقع المصدر أي لصدق لأن لفظ اسم الفاعل أبلغ إذا جعل الوعد أو الوعيد صادقاً مبالغة وإن كان الوصف إنما يقوم بمن يَعِدُ أو يُوعِدُ٤.
قال ابن الخطيب : وبناؤه من «أوعد » هو الحق ؛ لأن اليمين مع المنكر بِوَعِيدٍ٥ لا بوَعْد، و«الصادق » معناه ذو صدق «كعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ »، ووصف به الفاعل كوصف الفاعل بالمصدر في إفادة المبالغة٦.
١ أي موصولة اسمية..
٢ قال أبو حيان: لقوله: ﴿فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد﴾..
٣ بالمعنى من البحر ٨/١٣٤، وانظر أيضا ٢٨/١٩٧ وفي الإعراب الكشاف ٤/١٤..
٤ البحر المرجع السابق..
٥ في الرازي بوعيد وفي النسختين: موعد وقد حققت الكلمة كما في الرازي..
٦ عبارة الرازي: ووصف المصدر بما يوصف به الفاعل بالمصدر ففيه إفادة مبالغة، انظر: الرازي المرجع السابق ٢٨/١٩٦ و١٩٧..
قوله :﴿ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ ﴾ أي الحشر والجزاء كائن.
ثم ابتدأ قسماً آخر وهو قوله: ﴿والسمآء ذَاتِ الحبك﴾ العامة على الحُبُك - بضمتين - قال ابن عباس وقتادة وعكرمة: ذاتِ الخلق الحسن المستوي، يقال للنساج إذا نَسَجَ الثَوْبَ فَأَجَاد: ما أحْسَنَ حَبْكهُ. وقال سعيد بن جبير: ذاتِ الزّينة أي المزينة بزينة
60
الكواكب. قال الحسن: حُبِكَتْ بالنُّجوم. وقال مجاهد: هي المتقنة المبنيّات. وقال مقاتل والكلبي والضحاك: ذات الطرائق كحَبْك الماء إذا ضَرَبَتْهُ الرِّيح، وحَبْكِ الرَّمل والشّعر الجَعْد وهو آثار تَثَنِّيه وَتَكسُّرِهِ، قال زهير:
٤٥١٩ - مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ريحٌ خَريقٌ لضَاحي مَائهِ حُبُك
والحبك جمع يحتمل أن يكون مفرده حَبِيكَة، كطَرِيقةٍ وطُرُق أَو حِباك نحو: حِمَار وحُمُر قال:
٤٥٢٠ - كَأَنَّمَا جَلَّلَها الحُوَّاكُ طِنْفسَةٌ فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ
وأصل الحَبْك إحكام الشيء وإتقانه، ومنه يقال للدروع: مَحْبُوكة. وقيل: الحَبْكُ الشدّ والتَّوَثُّق، قال امرؤ القيس:
٤٥٢١ - قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي فِي أَنْفِهِ لاَحِقُ الإطْلَيْنِ مَحبُوكٌ مُمَرّ
وفي هذه اللفظة قراءات كثيرة، فعن الحسن - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - ست قراءات، الحبك - بالضم - كالعُنُق، وبضم الحاء وسكون الباء وتروى عن ابن عباس، وأبي عمرو، وبكسر الحاء والباء، وبكسر الحاء وسكون الباء، وهو تخفيف
61
المكسور، وكسر الحاء وفتح الباء، وكسر الحاء وضم الباء، وهذه أقلها لأن هذه الزنة مهملة في أبنية العرب.
قال ابن عطية وغيره: هو من التداخل، يعني أن فيها لغتين الكسر في الحاء والباء والضم فيهما فأخذ هذا القارئ الكسرَ من لغةٍ، والضمّ من أُخْرَى. واستبعدها الناس؛ لأن التداخل إنما يكون في كلمتين. وخرجها أبو حيان على أن الحاء أتبعت لحركة التاء في ذات، قال: ولم يعتد باللام فاصلةً لأنها ساكنة فهي حاجز بَيِّنٌ حصين.
وقد وافق الحسن على هذه القراءة أبو مالك الغِفَارّي.
وقرأ عكرمة بالضم والفتح جمع حُبْكَة نحو: غُرْفَة وغُرَف، وابن عباس وأبو مالك الحَبَك بفتحتين، جمع حَبْكَة كعَقْبَة وعَقَب.
وقوله: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾ جواب القسم.

فصل


المعنى: إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف في حق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تارة تقولون: إنه أمين، وأخرى إنه كاذب، وتارة تنسبونه إلى الجنون، وتارة كاهن، وشاعر، وساحر، وهذا القول ضعيف؛ إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا، لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤيد باليمين. وقيل: يقولون: إنه مجنون ثم يقولون: غلبنا بقُوَّةِ جداله. وقيل: لفي قول مختلف في القرآن، يقولون فيه إنه سِحْرٌ وكَهَانَةٌ وأساطير الأولين.
وقيل: قَوْلٌ مختلف أي مصدّق ومكذب. وقيل: غير ثابتين على أمر.
وقيل: متناقض، تارة يقولون: لا حَشْرَ ولا حَيَاةَ بعد الموت، ثم يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ.
62
قوله: «يُؤفك عنه» صفة لقول، والضمير في «عنه» للقرآن، أو الرسول، أو للدين، أو لما توعدون، أي يصرف عنه.
وقيل: عن السبب. والمأفوك عنه محذوف، والضمير في «عنه» على هذا القول مختلف، أي يؤفك بسبب القول من أراد الإسلام بأن يقول: هو سحرٌ وكَهَانَةٌ.
والعامة على بناء الفعلين للمفعول. وقتادة وابن جبير: يُؤْفَكُ عنه من أَفِكَ، الأول للمفعول، والثاني للفاعل، أي يُصْرَفُ عنه من صَرَفَ الناسَ عَنْهُ. وزيد بن علي: يَأْفِكُ مبنياً للفاعل من أفِكَ مبنياً للمفعول عكس ما قبله، أي يَصْرِف الناسَ عَنْه مَنْ هو مَأْفُوكٌ في نَفْسِهِ.
وعنه أيضاً: يُؤفّكُ عنه من أفَّكَ بالتشديد، أي من هو أَفَّاك في نفسه.
وقرئ: يُؤْفَن عنه من أُفِن بالنون فيهما أي يُحْرَمُهُ من حُرِمَهُ من أَفَنَ الضَّرْعَ إذا نَهَكَهُ حَلْباً.

فصل


قيل في تفسير قوله: ﴿يؤفك عنه من أفك﴾ وجوه:
أحدها: مدح المؤمنين، ومعناه يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول، ويرشد إلى القول المستوي. وقيل: إنه ذم ومعناه يؤفك عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه، يعني من حرمه الله الإيمان بمحمد وبالقرآن. وقيل «عن» بمعنى «مِنْ أجل»، أي يصرف من أجل هذا القول المختلف، أو بسببه عن الإيمان من صرف، وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان، فيقولون: إنه ساحر، وكاهن، ومجنون، فيصرفونه عن الإيمان، قاله مجاهد.
63
وقوله :﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ﴾ جواب القسم.

فصل


المعنى : إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - تارة تقولون : إنه أمين، وأخرى إنه كاذب، وتارة تنسبونه إلى الجنون، وتارة كاهن، وشاعر، وساحر، وهذا القول ضعيف ؛ إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا، لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤيد باليمين. وقيل : يقولون : إنه مجنون ثم يقولون : غلبنا بقُوَّةِ جداله. وقيل : لفي قول مختلف في القرآن، يقولون فيه إنه سِحْرٌ وكَهَانَةٌ وأساطير الأولين.
وقيل : قَوْلٌ مختلف أي مصدّق ومكذب١. وقيل : غير ثابتين على أمر.
وقيل : متناقض، تارة يقولون : لا حَشْرَ ولا حَيَاةَ بعد الموت، ثم يقولون : إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ.
١ البغوي ٦/٢٤١..
قوله :«يُؤفك عنه » صفة لقول، والضمير في «عنه » للقرآن، أو الرسول، أو للدين، أو لما توعدون، أي يصرف عنه.
وقيل : عن السبب. والمأفوك عنه محذوف، والضمير في «عنه » على هذا القول مختلف، أي يؤفك بسبب القول من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحرٌ وكَهَانَةٌ١.
والعامة على بناء الفعلين للمفعول. وقتادة وابن جبير : يُؤْفَكُ عنه من أَفِكَ، الأول للمفعول، والثاني للفاعل، أي يُصْرَفُ عنه من صَرَفَ الناسَ عَنْهُ٢. وزيد بن علي : يَأْفِكُ مبنياً للفاعل من أفِكَ مبنياً للمفعول عكس ما قبله، أي يَصْرِف الناسَ عَنْه مَنْ هو مَأْفُوكٌ في نَفْسِهِ٣.
وعنه أيضاً : يُؤفّكُ عنه من أفَّكَ بالتشديد، أي من هو أَفَّاك في نفسه.
وقرئ : يُؤْفَن عنه من أُفِن٤ بالنون فيهما أي يُحْرَمُهُ من حُرِمَهُ من أَفَنَ الضَّرْعَ إذا نَهَكَهُ حَلْباً٥.

فصل


قيل في تفسير قوله :﴿ يؤفك عنه من أفك ﴾ وجوه :
أحدها : مدح المؤمنين، ومعناه يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول، ويرشد إلى القول المستوي. وقيل : إنه ذم٦ ومعناه يؤفك عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه، يعني من حرمه الله الإيمان بمحمد وبالقرآن. وقيل «عن » بمعنى «مِنْ أجل »، أي يصرف من أجل هذا القول المختلف، أو بسببه عن الإيمان من صرف، وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان، فيقولون : إنه ساحر، وكاهن، ومجنون، فيصرفونه عن الإيمان، قاله مجاهد٧.
١ انظر: الرازي ٢٨/١٩٧..
٢ وهي شاذة. ذكرها صاحب البحر ٨/١٣٥ وحينئذ يكون الفاعل تقديره هو. وانظر: المختصر لابن خالويه ١٥٤ وقد ضبطها محقق ابن خالويه أَفَكَ بفتح والفاء في الماضي وجاءت مفتوحة الفاء ومكسورتها معا في اللسان "أ ف ك"..
٣ المرجع السابق وهو البحر المحيط ٨/١٣٥..
٤ القرطبي ١٧/٣٣ وانظر: البحر المرجع السابق وانظر الكشاف في تلك القراءة وسابقتيها وكلها شاذة غير متواترة..
٥ المراجع السابقة وفي القرطبي: أنهكه حليا بالرباعي..
٦ الرازي ٢٨/١٩٨..
٧ وانظر: معالم التنزيل للإمام البغوي ٦/٢٤١ و٢٤٢..
قوله: «قُتِلَ الخَراصونَ» لُعِنَ الكَذَّابُونَ. وقرئ: قَتَلَ مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى: ﴿الخرّاصين﴾ مفعوله، والمعنى لُعِنَ الخراصون وهم الذين لا يجزمون بأمر ولا يثبتون عليه، بل هم شاكون متحيرون. وهذا دعاء عليهم، ثم يصفهم بأنهم في غمرة ساهون، فقوله: «سَاهُونَ» يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر والمبتدأ قوله «هم»، والتقدير: هم كائنون في غَمْرَة ساهون، كقولك: زَيدٌ جَاهلٌ جَائرٌ، لا تقصد به وصف الجاهل بالجائر. ويحتمل أن يقال: «ساهون» خبر، و «في غمرة» ظرف له، كقولك: زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ قَاعِدٌ فالخبر هو «قاعد» لا غير، و «في بيته» بيان لطرف القعود، فكذا قوله: «في غمرة» ظرف للسَّهْوَةِ.
واعلم إن وصف الخارص بالسهو دليل على أن الخراص صفة ذم يقال: تَخَرَّصَ عليه الباطل. قال المفسرون: هم الذين اقتسموا عِقَاب مكة، فاقتسموا القول في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليصرفوا الناس عن دين الإسلام. وقال مجاهد: الكهنة الذين هم في غَمْرَة أي غَفْلة وعَمًى وجَهَالَةً «سَاهُونَ» غافلون عن أمر الآخرة. والسهو الغفلة عن الشيء وهو ذَهَابُ القلب عنه.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين﴾ فقوله: ﴿أَيَّانَ يَوْمُ الدين﴾ مبتدأ أو خبر قيل: وهما ظرفان فكيف يقع أحد الظرفين في الآخر؟.
وأجيب: بأنه على حذف حَدَثٍ أي أَيَّانَ وُقوع يَوْمِ الدِّين «فَأَيَّانَ» ظرف الوقوع، كما تقول: مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وتقدم قراءة إيّانِ - بالكسر - في الأَعراف.
قيل: وأيان من المركبات، ركب من «أيٍّ» التي للاستفهام، و «آن» التي بمعنى متى، أو مِنْ «أَيٍّ» (و) أَوَان؛ فكأنه قال: أَيّ أَوَان، فلما ركبت بُنِيَ. وهذا جواب قوله: ﴿وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات: ٦] فكأنه قال: أَيَّانَ يَقَعُ؟ استهزاءً.
64
وترك السؤال دلالة على أن الغرض ليس الجواب، وإنما يسألون استهزاءً، والمعنى يسألون أيان يوم الدين يقولون: يا محمد متى يكون يوم الجزاء؟ يعني يوم القيامة تكذيباً واستهزاء قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿يَوْمَ هُمْ﴾ أي يكون هذا الجزاء في يومِ هُمْ على النار يُفْتَنُونَ أي يعذبون ويحرقون بها، كما يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ. وعلى هذا فالأولى أن يكون معنى يفتنون يُعْرَضُون عرض المجرِّب للذّهب على النار، لأن كلمة «على» تناسب ذلك ولو كان المراد يحرقون لقيل: بالنَّار، أي فِي النار.
قوله: «يَوْمَ هُمْ» يجوز أن يكون منصوباً بمضمر أي الجزاءُ كائنٌ يَوْمَ هُمْ ويجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم الدين»، والفتحة للبناء على رأي من يُجيز بناء الظرف، وإن أُضِيفَ إلى جملة اسمية وعلى هذا فيكون حكاية لمعنى كلامهم، قالوه على سَبيل الاستهزاء، ولو جاء على حكاية لفظهم المتقدم لقيل: يوم نَحْنُ عَلَى النَّار نُفْتَنُ.
و «يوم» منصوب بالدين، وقيل: بمضمر، أي يُجَازَوْنَ.
وقيل: هو مفعول بأعني مقدَّراً وعُدّي يُفْتَنُونَ بعَلَى لأنه بمعنى يُخْتَبَرُون. وقيل: على بمعنى في. وقيل: على بمعنى الباء. وقيل: «يَوْمَ هُمْ» خبر مبتدأ مضمر، أي هُوَ يَوْمَ هُمْ والفتح لما تقدم. ويؤيد ذلك قراءة ابن أبي عبلة والزّعفرانيّ يَوْمُ هُمْ بالرفع، وكذلك يؤيد القول بالبدل. وتقدم الكلام في مثل هذا في غَافِرٍ.

فصل


قوله: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ﴾ قال ابن الخطيب: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون جواباً عن قولهم أيَّانَ يَقَعُ فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لعِلم، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين بل قال: يوم هم على النار يفتنون فجهلهم بالثاني أقوى من جهلم بالأول، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى، فلو قال قائل: مَتَى يَقْدمُ زَيْدٌ؟ فلو أجيب بقوله: يَوْم يقدم رفِيقُهُ ولا يعلم يوم قُدُوم الرفيق لم يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة ولا يكون جواباً كقول القَائل لمن
65
يعد عِدَاتاً ويخلفها: إلى متى هذا الإخلاف؟ فيغضب ويقول: إلى أَشْأَمِ يَوْمٍ عليك، فالكلامان في صورة سؤال وجواب، ولا يريد بالأول السؤال، ولا الثاني يريد به الجواب، فكذلك ههنا قال: ﴿يوم هم على النار يفتنون﴾ مقابلة لاستهزائهم بالإيعَادِ لا على وجه الإِتيان بالبَيَان.
الثاني: أن يكون «ذلك» ابتداء كلام تمامه (في قوله: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» ).
فإن قيل: هذا يفضي إلى الإضمار!.
فالجواب: أن الإضمار لا بد منه؛ لأن قوله: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ غيرُ متصل بما قبله إلا بإِضمار يقال.
قوله: «ذُوقُوا» يقال لهم ذُوقُوا و ﴿هذا الذي كُنتُمْ﴾ مبتدأ وخبر «هذا» هو الظاهر. وجوَّز الزمخشري أن يكون «هذا» بدلاً من «فِتْنَتَكُمْ» ؛ لأنها بمعنى العذاب، ومعنى فتنتكم عذابكم ﴿هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ في الدنيا تكذيباً به، وهو قولهم: ﴿رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا﴾ [ص: ١٦] وقولهم: ﴿فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ [هود: ٣٢] ونظائره، وقوله: ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين﴾ فإنه نوع استعجالٍ بالقول. ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو إصرارهم على العناد، وإظهار الفساد، فإنه يعجل العقوبة.
66
ثم يصفهم١ بأنهم في غمرة ساهون، فقوله :«سَاهُونَ » يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر والمبتدأ قوله «هم »، والتقدير : هم كائنون في غَمْرَة ساهون، كقولك : زَيدٌ جَاهلٌ جَائرٌ، لا تقصد به وصف الجاهل بالجائر. ويحتمل أن يقال :«ساهون » خبر، و«في غمرة » ظرف له، كقولك : زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ قَاعِدٌ فالخبر هو «قاعد » لا غير، و«في بيته » بيان لطرف القعود، فكذا قوله :«في غمرة » ظرف للسَّهْوَةِ٢.
واعلم إن وصف الخارص بالسهو دليل على أن الخراص صفة ذم يقال : تَخَرَّصَ عليه الباطل. قال المفسرون : هم الذين اقتسموا عِقَاب مكة، فاقتسموا القول في النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصرفوا الناس عن دين الإسلام. وقال مجاهد : الكهنة الذين هم في غَمْرَة أي غَفْلة وعَمًى وجَهَالَةً «سَاهُونَ » غافلون عن أمر الآخرة. والسهو الغفلة عن الشيء وهو ذَهَابُ القلب عنه٣.
١ في ب وصفهم..
٢ الذي يصحح وصف المعرفة بالجملة، قاله الرازي ٢٨/١٩٨..
٣ وانظر: تفسير العلامتين البغوي والخازن في تفسيرهما ٦/٢٤٢..
قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين ﴾ فقوله :﴿ أَيَّانَ يَوْمُ الدين ﴾ مبتدأ أو خبر قيل : وهما ظرفان١ فكيف يقع أحد الظرفين٢ في الآخر ؟٣.
وأجيب : بأنه على حذف حَدَثٍ أي أَيَّانَ وُقوع يَوْمِ الدِّين «فَأَيَّانَ » ظرف الوقوع، كما تقول : مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الجُمُعَةِ٤، وتقدم قراءة إيّانِ - بالكسر٥ - في الأَعراف.
قيل : وأيان من المركبات، ركب من «أيٍّ » التي للاستفهام، و«آن » التي بمعنى متى، أو مِنْ «أَيٍّ » ( و )٦ أَوَان ؛ فكأنه قال : أَيّ أَوَان، فلما ركبت بُنِيَ. وهذا جواب قوله :﴿ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ ﴾ فكأنه قال : أَيَّانَ يَقَعُ ؟ استهزاءً.
وترك السؤال دلالة على أن الغرض ليس الجواب، وإنما يسألون استهزاءً، والمعنى يسألون أيان يوم الدين يقولون : يا محمد متى يكون يوم الجزاء ؟ يعني يوم القيامة تكذيباً واستهزاء.
١ ومعروف أن الزمان يجعل ظرفا للأفعال، ولا يمكن أن يكون الزمان ظرفا لظرف آخر..
٢ وهو "أيان"..
٣ وهو "اليوم"..
٤ بالمعنى من الكشاف ٤/١٥ والرازي ٢٨/١٩٨ و١٩٩..
٥ وهي قراءة السلمي وهي لغة وهي من الآية ١٨٧ من الأعراف: ﴿يسألونك عن الساعة أيّان مرساها﴾. وسيجيء الآن أن المؤلف قد تكلم عن اشتقاقاتها، وانظر اللباب ٢/٤٠٣ ب..
٦ سقط من ب..
قال الله - عز وجل - :﴿ يَوْمَ هُمْ ﴾ أي يكون هذا الجزاء في يومِ هُمْ على النار يُفْتَنُونَ أي يعذبون ويحرقون بها، كما يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ. وعلى هذا فالأولى أن يكون معنى يفتنون يُعْرَضُون عرض المجرِّب للذّهب على النار، لأن كلمة «على » تناسب ذلك ولو كان المراد يحرقون لقيل : بالنَّار، أي فِي النار١.
قوله :«يَوْمَ هُمْ » يجوز أن يكون منصوباً بمضمر أي الجزاءُ كائنٌ يَوْمَ هُمْ٢ ويجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم الدين »٣، والفتحة للبناء على رأي من يُجيز بناء الظرف، وإن أُضِيفَ إلى جملة اسمية٤ وعلى هذا فيكون حكاية لمعنى كلامهم، قالوه على سَبيل الاستهزاء، ولو جاء على حكاية لفظهم المتقدم لقيل : يوم نَحْنُ عَلَى النَّار نُفْتَنُ.
و«يوم » منصوب بالدين، وقيل : بمضمر، أي يُجَازَوْنَ.
وقيل : هو مفعول بأعني مقدَّراً٥ وعُدّي يُفْتَنُونَ بعَلَى لأنه بمعنى يُخْتَبَرُون٦. وقيل : على بمعنى في٧. وقيل : على بمعنى الباء. وقيل :«يَوْمَ هُمْ » خبر مبتدأ مضمر، أي هُوَ يَوْمَ هُمْ والفتح لما تقدم. ويؤيد ذلك قراءة ابن أبي عبلة والزّعفرانيّ يَوْمُ هُمْ بالرفع٨، وكذلك يؤيد القول بالبدل. وتقدم الكلام في مثل هذا في غَافِرٍ.

فصل


قوله :﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ ﴾ قال ابن الخطيب : يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون جواباً عن قولهم أيَّانَ يَقَعُ فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لعِلم، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين بل قال : يوم هم على النار يفتنون فجهلهم بالثاني أقوى من جهلم بالأول، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى، فلو قال قائل : مَتَى يَقْدمُ زَيْدٌ ؟ فلو أجيب بقوله : يَوْم يقدم رفِيقُهُ ولا يعلم يوم قُدُوم الرفيق لم يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة ولا يكون جواباً كقول القَائل لمن يعد عِدَاتاً٩ ويخلفها : إلى متى هذا الإخلاف ؟ فيغضب ويقول : إلى أَشْأَمِ يَوْمٍ عليك، فالكلامان في صورة سؤال وجواب، ولا يريد بالأول السؤال، ولا الثاني يريد به الجواب، فكذلك ههنا قال :﴿ يوم هم على النار يفتنون ﴾ مقابلة لاستهزائهم بالإيعَادِ لا على وجه الإِتيان بالبَيَان١٠.
الثاني : أن يكون «ذلك » ابتداء كلام تمامه ( في قوله :«ذُوقُوا١ فِتْنَتَكُمْ » ).
فإن قيل : هذا يفضي إلى الإضمار !.
فالجواب : أن الإضمار لا بد منه ؛ لأن قوله : ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ غيرُ متصل بما قبله إلا بإِضمار يقال.
١ وانظر: البغوي ٦/٢٤٢ والرازي ٢٨/١٩٩ والكشاف ٤/١٥..
٢ وهو قول الزجاج في إعراب القرآن ٥/٥٢ في أحد قوليه..
٣ البحر المحيط ٨/١٣٥..
٤ أما الإعراب فعلى الأصل، وأما البناء فحملا على إذ وانظر الأشموني ٢/٢٥٦ والتبيان ١١٧٨..
٥ قال بهذه الإعرابات أبو البقاء العكبري في التبيان المرجع السابق..
٦ كذا في أ وفي ب مختبرون بالاسمية، وفي التبيان: يجبرون..
٧ التبيان المرجع السابق..
٨ الكشاف ٤/١٥ والبحر المحيط ٨/١٣٥..
٩ كذا في النسختين والأصح لغويا ونحويا: عِدَات جمع عِدة كهبَة، وهِباتٍ، وزِنة وزِناتٍ..
١٠ وانظر: تفسير الرازي ٢٨/١٩٩..
قوله :«ذُوقُوا » أي٢ يقال لهم ذُوقُوا٣ و﴿ هذا الذي كُنتُمْ ﴾ مبتدأ وخبر «هذا » هو الظاهر٤. وجوَّز الزمخشري أن يكون «هذا » بدلاً من «فِتْنَتَكُمْ »٥ ؛ لأنها بمعنى العذاب، ومعنى فتنتكم عذابكم ﴿ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ في الدنيا تكذيباً به، وهو قولهم :﴿ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا ﴾ [ ص : ١٦ ] وقولهم :﴿ فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ [ هود : ٣٢ ] ونظائره، وقوله :﴿ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين ﴾ فإنه نوع استعجالٍ بالقول. ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو إصرارهم على العناد، وإظهار الفساد، فإنه يعجل العقوبة٦.
٢ المرجع السابق..
٣ فتكون هذه الجملة لا محل لها مقول القول. البحر المحيط ٨/١٣٥..
٤ في الكشاف الذي خبره أي هذا العذاب. وانظر ٤/١٥..
٥ أي ذوقوا هذا العذاب..
٦ الرازي ٢٨/١٩٩..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ لما بين حال المجرمين بين بعده حال المتقين، والمتقي له مقامات، أدناها أن يتقي الشرك، وأدناها أن يتقي ما سِوَى الله، وأدنى دَرَجَات المُتقِي الجنة فما من أحد اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة.
قوله: «آخِذِينَ» حال من الضمير في قوله: «جَنَّاتٍ» و «مَا آتَاهُمْ» يعني مما في الجنة فيكون حالاً حقيقية، وقيل: مَا آتاهُمُ من أوامره ونواهيه فيكون في الدنيا فتكون حالاً محكيةً، لاختلاف الزمانين.
66
وجعل الجار خبراً، والصفة فضلة، وعكس هذا في قوله تعالى: ﴿إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: ٧٤]، قيل: لأن الخبر مقصور الجملة، والغَرَضُ هناك الإخبار عن تخليدهم، لأن المؤمن قد يدخل النار، ولكن لا بد من خروجه، وأما آية المتقين، فجعل الظرف فيها خبراً لأمنهم الخروج منها، فجعل ذلك محط الفائدة ليحصل لهم الطمأنينة فانتصبت الصفة حالاً.

فصل


اعلم أنه تعالى وحد الجنة تارة، قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون﴾ [الرعد: ٣٥] و [محمد: ١٥] وأخرى جمعها كقوله ههنا: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ﴾ وتارة ثَنَّاها، قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦]، والحكمة فيه أن الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما جمعها فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنّات لا يحصرها عدد، وأما تثنيتها فسيأتي في سورة الرحمن.
قال ابن الخطيب: غيرَ أنَّا نقول ههنا: إن الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجَنَّات ثم يقول إنه في جنة، لأنه دون الموعود، وقوله: «وَعُيُونٍ» يقتضي أن يكون المُتَّقِي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماءٍ؛ فالمعنى في خلال العيون، أي بين الأنهار كقوله: «في جَنَّاتٍ» معناه بين الجنات وفي خلالها؛ لأن الجنة هي الأحجار، ونكرها مع كونها معرفة للتعظيم كقولك: فُلاَنٌ رَجُلٌ أي عظيم في الرجولة.
ومعنى: «آخذين» أي قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله، لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. وقيل: معنى آخذين أي قابلين قبول راضٍ كقوله تعالى: ﴿وَيَأْخُذُ الصدقات﴾ [التوبة: ١٠٤] أي يقبلها، قاله الزمخشري. وقال ابن الخطيب: وفيه وجه ثالث، وهو أن قوله: فِي جَنَّاتٍ يدلّ على السُّكْنَى حيث قال: آخِذينَ بلادَ كذا، أو قَلْعَة كذا، أي دخلها متملّكاً لها، وكذا يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليلٍ أي تملكه، وإن لم يكن هناك قبص حسًّا ولا قبول برِضًى.
وحيئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعيرٍ أو من يسترد منه ذلك بل هو ملكُه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله.
وقوله: «آتاهُمْ» لبيان (أن) أخذهم ذلك لم يكن عَنْوَةً، وإنما نال ذلك بإعطاء الله تعالى. وعلى هذا الوجه «ما» راجعة إلى الجَنَّاتِ والعُيُون.
67
وقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ إشارة إلى أنهم أخذوها بثَمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة، وإما لإيتاء الله، وإما ليوم الدين، والإحسان هو قول لا إله إلا الله؛ ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى: إنها لا إله إلا الله، وفي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله﴾ [فصلت: ٣٣] وقوله: ﴿هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان﴾ [الرحمن: ٦٠] هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله.
قوله: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ وهذا كالتفسير لكونهم مُحْسِنِينَ، وفيه أوجه:
أحدها: أن الكلام تَمَّ على «قَلِيلاً» ولهذا وقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ [ص: ٢٤] ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣] ويبتدئ: ﴿مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ أي ما يهجعون من الليل. والمعنى كانوا من الناس قليلاً، ثم ابتدأ فقال: ما يَهْجَعُون وجعله جَحْداً أي لا ينامون بالليل ألبتة يقومون للصلاة والعبادة. وهو قول الضحاك ومقاتل. وهذا لا يظهر من حيث المعنى، ولا من حيث الصناعة، أما الأول فلا بد أن يهجعوا، ولا يتصور نفي هجوعهم، وأما الصناعة فلأن «ما» في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين. هذا إن جعلتها نافية، وإِن جعلتها مصدرية صار التقدير من الليل هُجُوعُهُمْ. ولا فائدة فيه، لأن غيره من سائر الناس بهذه المثابة.
الثاني: أن تجعل «ما» مصدرية في محلِّ رفع «بِقَلِيلاً»، والتقدير: كَانُوا قليلاً هُجُوعُهُمْ.
الثالث: أن تجعل ما المصدرية بدلاً من اسم كان بدل اشتمال أي كان هُجُوعُهُمْ قليلاً. و «مِنَ اللَّيْلِ» على هذين لا يتعلق ب «يهجعون» لأن ما في حَيِّز المصدر لا يتقدم عليه على المشهور. وبعض المانعين اغتفروا في الظرف فيجوزُ هذا عنده والمانع يقدر فعلاً يدل عليه: «يَهْجَعُونَ مِنَ اللَّيْل».
الرابع: أن «ما» مزيدة و «يَهْجَعُون» خبر كان، والتقدير: كَانُوا يهجعون من الليل
68
هُجُوعاً قَلِيلاً، أو زمناً قليلاً، ف «قَليلاً»، نعت لمصدر أو ظرف.
الخامس: أنها بمعنى الذي، وعائدها محذوف تقديره: كَانُوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه. وهذا فيه تَكَلُّفٌ.

فصل


قال ابن الخطيب: «قليلاً» منصوب على الظرف تقديره يهجَعونَ قليلاً يقال: قام بَعْضَ الليل، فنصب «بعض» على الظرف، وخبر كان هو قوله: «يَهْجَعُونَ» و «ما» زائدة هذا منقول عن الضَّحَّاك ومقاتل.
وأنكر الزمخشري كون «ما» نافية، وقال: لا يجوز أن تكون نافية؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيها قبلها لا تقول: زَيْداً ما ضَرَبْتُ ويجوز أن يعمل ما بعد «لم» فيما قبلها، تقول: زَيْداً لَمْ أَضْرِبْ وذلك أن الفعل المتعدي إنما يعمل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت: ضَرَبَ زيدٌ عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو.
فإذا قلت: مَا ضَرَبَهُ لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه، لكن النفي محمول على الإثبات، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عَمَل الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول: زَيْداً ضاربٌ عَمْراً أمس، وتقول: زَيْدٌ ضَاربٌ عَمْراً غداً واليَوْمَ والآنَ؛ لأن الماضي لم يبقَ موجوداً ولا مُتوقَّع الوجود، فلا يتعلق بالمفعول حقيقة، لكن الفعل لقوته واسم الفاعل لضعفه لم يَعْمَلْ.
إذا عرف هذا فقوله: مَا ضَرَبْتُ للنفي في الماضي، فاجتمع فيه النفي والمضيّ فَضَعُفَ. وأما: لَمْ أَضْرِبْ فإِن كان يقلب المستقبل فوجد فيه ما وجد في قول القائل: زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً غَداً فأُعْمِلَ.
69
قال ابن الخطيب: غير أن القائل بذلك القول يقول: قليلاً ليس منصوباً بقوله: يَهْجَعُونَ، وإِنما ذلك خبر (كانوا؛ أي) كانوا قَلِيلِينَ.

فصل


تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السَّجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في آخر الآيات، بل لأن الهجوع راحة لهم والمقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى، فلا يناسبه تقديم (راحتهم)، وقد يَغْفَلُ السامع عما بعد الكلام فيعتقد كونهم محسنين بسبب هجوعهم، فقدم قوله: «قَلِيلاً» ليسبق إلى الفهم أولاً قلَةُ الهجوع وقوله: «مِنَ اللَّيْل» إشارة إلى أنه الزمن الذي يهجع الناس فيه ولا يسهر في الطاعة إلا متعبد.
فإن قيل: الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقالُ له: هُجُوع!.
فالجواب: أن ذِكرَ العام وإِردافه بالتخصيص حَسَنٌ، تقول: رأيتُ حَيَوَاناً نَاطِقاً فَصِيحاً. وأما ذكر الخاص وإردافه بالعام فلا يَحْسُن إلا في بعض المواضع، فلا تقول: رأيتُ ناطقاً فصيحاً حيواناً.
وإذا عرف هذا فقوله تعالى: كَانُوا قليلاً من الليل ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده: كَانُوا من الليل يسبحون أو يستغفرون أو يسهرون، أو غير ذلك، فلما قال: يَهْجَعُون فكأنه خصّص ذلك بالأمر العام المحتمل له ولغيره فأَزَال الاحْتِمَال.
قوله: «وَبِالأَسْحَارِ» متعلق ب «يَسْتَغْفِرُونَ»، والباء بمعنى «فِي». وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل.

فصل


معنى قوله: ﴿قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ أي يصلون أكثر الليل. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أولها وإما من أوسطها. وقال أنس بن مالك: كانوا يصلون العَتَمَةَ.
وقال مُطرفُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بنِ الشَّخِير: قَلَّ ليلة أتت عليهم يهجعونها كلها. وقال مجاهد: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله، وربما نَشِطُوا فَمَدُّوا إلى السَّحَر، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار. وقال الكلبي
70
ومجاهد ومقاتل: وبالأسحار يصَلّونَ؛ وذلك لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة.
روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاء كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل فَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ، مَنِ الَّذي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنِ الَّذِي يسَأَلُنِي فَاعْطِيَهُ؟ مِنَ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟».
فصل في قوله: ﴿وبالأسحار هُمْ يستغفرون﴾ إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه، فهم يستغفرون من التقصير. وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويَسْتَقِلُّه ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويَمُنُّ به.
وفي الآية لطائف:
الأولى: أنه تعالى لما ذكر قلة هجوعهم، والهجوع مُقْتَضى الطبع قال: يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل.
الثانية: أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحْهم بكَثْرة السَّهر فلم يقل: كَانُوا قليلاً من الليل ما يسهرون مع أن السَّهَر هو الكَلَفَةُ والاجتهاد لا الهجوع، وهذا إشارة إلى أن نَوْمَهم عبادةٌ حيث مدحهم الله بكونهم هاجعين قليلاً، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، والاستغفار بالأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم.

فصل


الباء في قوله: «بالأسحار» استعملت للظرف هنا، وهي ليست للظرف. قال بعض النحاة: إن حروف الجر ينوب بعضُها عن بعض يقال في ظرف الزمان: خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ، وبالليل، وفي شهر رمضان. فتستعمل اللام والباء، وفي، وكذلك في ظرف المكان تقول: قُمْتُ بِمدينة كذا، وفيها، ورأيته ببَلْدَةِ كذا، وفيها. قال ابن الخطيب: والتحقيقُ فيه أن نقول: الحروف لها معانٍ مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مُسْتَقِلاَّنِ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تنافرٌ (و) تباعد كما في الأسماء والأفعال، فإن البيتَ والسَّكَن متخالفان ومتقاربان،
71
وكذلك مَكَثَ، وسَكَنَ (وَأَلَمَّ)، وكذلك كل اسمين أو كل فعلين يوجد كان بينهما تقارب وتباعد، لأن الباء للإِلصاق، واللام للاختصاص، و «في» للظرف، والظرف مع المظروف ملتصق ومختص به. إذا عرف هذا فنقول: بين «الباء» و «اللام» و «في» مشاركة، أما الباء فلأنها للإِلصاق، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإِذا قال: سَارَ بالنَّهَارِ معناه ذهب ذَهَاباً مُتَّصِلاً بالنهار.
فقوله: ﴿وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي متصلاً بالأسحار، أخبر عن الاقتراب، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله: «فِي اللَّيْلِ» ؛ لأنه يستدعي احتواء الزمان بالفعل وكذلك قول القائل: أقمتُ ببَلْدَة كذا، لا يفيد أنه كان مخالطاً بالبلد.
وقوله: أقمتُ فيها يدل على إحاطتها به، فإذن قول القائل: أَقَمْتُ بالبَلَدِ، ودَعَوْتُ بالأَسْحَارِ أعمُّ مِنْ قوله: أقمتُ فِيهِ؛ لأن القائم فيه قائمٌ به والقائم به ليس قائماً فيه.
وإِذا علم هذا فقوله: ﴿وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ إشارة إلى أنهم لا يُخْلُونَ وقتاً عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون، ومع أول جزء من السحر يتسغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب، لأنهم وقت الانتباه لم يُخْلوا الوقت للذنب. ولا يطرد استعمال الباء بمعنى «في»، فلا تقول: خَرَجْتُ بِيَوْم الجُمُعَةِ لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خُصُوصيَّات وتقييدات زائدة على الزمان، لأنك إذا قلت: خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وبلَيْلَةِ الجُمُعَةِ، لم يحسن. ولو قلت: خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ وخَرَجَ (بِيَوْمِ) نَحْسٍ حَسُن فالنهارُ والليل لمّا لم يكن فيهما خُصُوصٌ وتقييد جازَ استعمالُ الباء فيهما، فإِذا قيدتهما وخصصتهما زال الجوازُ، و «يَوْمُ الجمعة» لمَّا كان فيه خصوص لم يجز وقلت: خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ جاز. وأما «فِي» فيصح مطلقاً؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص، لأن العام جزءٌ داخل في الخاص، فتقول: فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ وفِي هذِهِ السَّاعة. وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله: ﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا﴾ [يس: ٣٨].
72

فصل


وفائدة قَوْلِهِ: «هم» ؛ قال الزمخشري: فائدتها انْحِصَارُ المستغفرين أي هم الكاملون فيه لا غيرهم كقولك: زَيْدٌ العَالِمُ، لكماله في العلم كأنه تفرد به، وأيضاً: فلو عطف بدون هم لأوهم أنهم يستغفرون قليلاً. والاستغفار إما طلب المغفرة، كقولهم: رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا، وإما إتيانهم بعبارات يتقربون بها طلباً للمغفرة، وإما أن يكون من باب قولهم: اسْتَحْصَد الزَّرْع أي ذلك أوان المغفرة.
قوله: ﴿وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ لمّا تقدم التعظيم لأم الله ثَنَّى بالشفقة على خلق الله، وأضاف الأموال إليهم، لأنه مدح لهم، وقال في موضع آخر ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: ٧] ؛ لأن ذلك تحريض وحث على النفقة وذلك يناسبه.
فإن قيل: كون الحق في المال لا يوجب مدحاً؛ لأن كون المسلم في ماله حقّ وهو الزكاة ليس صفة مدح، لأن كل مسلم كذلك بل الكافر إذا قلنا: إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم، غير أنه إذا أَسْلَمَ سقط عنه، وإن مات عُوقِبَ على ما تركه الأداء. وإن أَدَّى من غير إسلام لا يقع الموقع فكيف يفهم كونه مدحاً؟
فالجواب: أنا نفسر السائل بمن يطلب جزءاً من المَال وهو الزكاة والمَحْرُومُ من لا يطلب جزءاً معيّناً وهو طالب صدقة التطوع كأنه قال: في ماله زكاةٌ وصَدَقَةٌ.
أو يقالُ: بأن «في» للظرفية، والمعنى أَنّهم لاَ يجمعون المال ولا يجعلونه ظرفاً للحُقُوق، والمطلوب من الظرف والمظروف إنما هو المظروف وهذا مدح عظيم.
فإن قيل: لَو قيل: مالهم للسائل كان أبلغ!
فالجواب: لا نسلم، فإن صرف جميع المال حتى يبقى فقيراً محتاجاً منهيٌّ عنه، وكذلك الصلاة والصوم الاقتصاد فيهما أبلغ لقوله: - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَادْخُلُوا فِيهِ بِرفقٍ؛ فَإنَّ المُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظَهْراً أَبْقَى».

فصل


في السائل والمحروم وجوه:
أحدها: أن السائل هو الآدمي، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات
73
المحترمة، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «فِي كُلّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ» وهذا ترتيب حسن؛ لأن الآدمي يُقدَّمُ على البهائم.
الثاني: أن السائل هو الذي يَسْأَل، والمَحْرُوم هو المتعفّف يظن أنه غنيٌّ فيُحْرَمُ. وقدَّمَ السائلَ؛ لأن حاله يعرف بسؤاله، أو يكون إشارة إلى كثرة العَطَاء فيعطي السؤّال، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً.
الثالث: قدم السائل؛ لتجانس رُؤُوس الآي.

فصل


قال ابنُ عباس وسعيدُ بن المُسيّب: السّائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهمٌ ولا يُجْرَى عليه من الفَيء شَيءٌ. وقال قتادة والزُّهْري: المحروم المتعفّف الذي لا يسأل. وقال زيد بن أسلم: هو المصاب ثمره أو زرعه أو تشَلُّ ماشيتُه، وهو قول مُحَمّد بن كَعْب القُرَظيِّ. قال: المحروم صاحب الحاجة، ثم قرأ: ﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [الواقعة: ٦٦ - ٦٧].
74
قوله :«آخِذِينَ » حال من الضمير في قوله :«جَنَّاتٍ » و«مَا آتَاهُمْ » يعني مما في الجنة فيكون حالاً حقيقية، وقيل : مَا آتاهُمُ من أوامره ونواهيه فيكون في الدنيا فتكون حالاً محكيةً، لاختلاف الزمانين١.
وجعل الجار خبراً، والصفة فضلة، وعكس هذا في قوله تعالى :﴿ إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾، قيل : لأن الخبر مقصور الجملة، والغَرَضُ هناك الإخبار عن تخليدهم، لأن المؤمن قد يدخل النار، ولكن لا بد من خروجه، وأما آية المتقين، فجعل الظرف فيها خبراً لأمنهم الخروج منها، فجعل ذلك محط الفائدة ليحصل لهم الطمأنينة فانتصبت الصفة حالاً٢.

فصل


اعلم أنه تعالى وحد الجنة تارة، قال تعالى :﴿ مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون ﴾ [ الرعد : ٣٥ ] و[ محمد : ١٥ ] وأخرى جمعها كقوله ههنا :﴿ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ ﴾٣ وتارة ثَنَّاها، قال تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمان : ٤٦ ]، والحكمة فيه أن الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما جمعها فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنّات لا يحصرها عدد، وأما تثنيتها فسيأتي في سورة الرحمان.
قال ابن الخطيب : غيرَ أنَّا نقول ههنا : إن الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجَنَّات ثم يقول إنه في جنة، لأنه دون الموعود، وقوله :«وَعُيُونٍ » يقتضي أن يكون المُتَّقِي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماءٍ ؛ فالمعنى في خلال العيون، أي بين الأنهار كقوله :«في جَنَّاتٍ » معناه بين الجنات وفي خلالها ؛ لأن الجنة هي الأحجار، ونكرها مع كونها معرفة للتعظيم كقولك : فُلاَنٌ رَجُلٌ أي عظيم في الرجولة٤.
ومعنى :«آخذين » أي قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله، لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. وقيل : معنى آخذين أي قابلين قبول راضٍ كقوله تعالى :﴿ وَيَأْخُذُ الصدقات ﴾ [ التوبة : ١٠٤ ] أي يقبلها، قاله الزمخشري٥. وقال ابن الخطيب : وفيه وجه ثالث، وهو أن قوله : فِي جَنَّاتٍ يدلّ على السُّكْنَى حيث قال : آخِذينَ بلادَ كذا، أو قَلْعَة كذا، أي دخلها متملّكاً لها، وكذا يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليلٍ أي تملكه، وإن لم يكن هناك قبص حسًّا ولا قبول برِضًى.
وحيئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعيرٍ أو من٦ يسترد منه ذلك بل هو ملكُه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله. وقوله :«آتاهُمْ » لبيان ( أن ) ٧ أخذهم ذلك لم يكن عَنْوَةً، وإنما نال ذلك بإعطاء الله تعالى. وعلى هذا الوجه «ما » راجعة إلى الجَنَّاتِ والعُيُون.
وقوله :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ﴾ إشارة إلى أنهم أخذوها بثَمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة، وإما لإيتاء الله، وإما ليوم الدين، والإحسان هو قول لا إله إلا الله ؛ ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى : إنها لا إله إلا الله، وفي قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله ﴾ [ فصلت : ٣٣ ] وقوله :﴿ هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ﴾ [ الرحمان : ٦٠ ] هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله.
١ بالمعنى من البحر المحيط ٨/١٣٥..
٢ وانظر: التبيان لأبي البقاء ١١٧٩..
٣ تلك الآية وغيرها..
٤ وانظر: تفسير الرازي ٢٨/٣٠٠..
٥ الكشاف ٤/١٥..
٦ في الرازي: أو ضعف يسترد منه ذلك..
٧ سقط من ب..
قوله :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ وهذا كالتفسير لكونهم مُحْسِنِينَ١، وفيه أوجه :
أحدها : أن الكلام تَمَّ على «قَلِيلاً » ولهذا وقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى :﴿ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ﴾ [ ص : ٢٤ ] ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ﴾ [ سبأ : ١٣ ] ويبتدئ :﴿ مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ أي ما يهجعون من الليل. والمعنى كانوا من الناس قليلاً، ثم ابتدأ فقال : ما يَهْجَعُون وجعله جَحْداً أي لا ينامون بالليل ألبتة يقومون للصلاة والعبادة. وهو قول الضحاك ومقاتل٢. وهذا لا يظهر من حيث المعنى، ولا من حيث الصناعة، أما الأول فلا بد أن يهجعوا، ولا يتصور نفي هجوعهم، وأما الصناعة فلأن «ما » في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين. هذا إن جعلتها نافية، وإِن جعلتها مصدرية صار التقدير من الليل هُجُوعُهُمْ. ولا فائدة فيه، لأن غيره من سائر الناس بهذه المثابة٣.
الثاني : أن تجعل «ما » مصدرية في محلِّ رفع٤ «بِقَلِيلاً »، والتقدير : كَانُوا قليلاً هُجُوعُهُمْ.
الثالث : أن تجعل ما المصدرية بدلاً من اسم كان بدل اشتمال أي كان هُجُوعُهُمْ قليلاً٥. و«مِنَ اللَّيْلِ » على هذين لا يتعلق ب «يهجعون » لأن ما في حَيِّز المصدر لا يتقدم عليه على المشهور. وبعض المانعين٦ اغتفروا في الظرف فيجوزُ هذا عنده والمانع يقدر فعلاً يدل عليه :«يَهْجَعُونَ مِنَ اللَّيْل ».
الرابع : أن «ما » مزيدة و«يَهْجَعُون » خبر كان، والتقدير : كَانُوا يهجعون من الليل هُجُوعاً قَلِيلاً، أو زمناً قليلاً، ف «قَليلاً »، نعت لمصدر أو ظرف٧.
الخامس : أنها بمعنى الذي، وعائدها محذوف تقديره : كَانُوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه٨. وهذا فيه تَكَلُّفٌ.

فصل


قال ابن الخطيب :«قليلاً » منصوب على الظرف تقديره يهجَعونَ قليلاً يقال : قام بَعْضَ الليل، فنصب «بعض » على الظرف، وخبر كان هو قوله :«يَهْجَعُونَ » و«ما » زائدة هذا هو المشهور٩، وفيه وجه آخر : وهو أن يقال : كانوا قليلا معناه كانوا من الناس قليلا، فيكون " قليلا " خبر كان. و " ما يهجعون " معناه نفي النوم عنهم. وهذا منقول عن الضَّحَّاك ومقاتل١٠.
وأنكر الزمخشري١١ كون «ما » نافية، وقال : لا يجوز أن تكون نافية ؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيها قبلها لا تقول : زَيْداً ما ضَرَبْتُ ويجوز أن يعمل ما بعد «لم » فيما قبلها، تقول : زَيْداً لَمْ أَضْرِبْ١٢ وذلك أن الفعل المتعدي إنما يعمل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت : ضَرَبَ زيدٌ عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو. فإذا قلت : مَا ضَرَبَهُ لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه، لكن النفي محمول على الإثبات، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عَمَل الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول : زَيْداً١٣ ضاربٌ عَمْراً أمس، وتقول : زَيْدٌ ضَاربٌ عَمْراً غداً واليَوْمَ والآنَ ؛ لأن الماضي لم يبقَ موجوداً ولا مُتوقَّع الوجود، فلا يتعلق بالمفعول حقيقة، لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يَعْمَلْ.
إذا عرف هذا فقوله : مَا ضَرَبْتُ للنفي في الماضي، فاجتمع فيه النفي والمضيّ فَضَعُفَ. وأما : لَمْ أَضْرِبْ فإِن١٤ كان يقلب المستقبل فوجد فيه ما وجد في قول القائل : زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً غَداً فأُعْمِلَ١٥.
قال ابن الخطيب : غير أن القائل بذلك القول يقول : قليلاً ليس منصوباً بقوله : يَهْجَعُونَ، وإِنما ذلك خبر ( كانوا١٦ ؛ أي ) كانوا قَلِيلِينَ١٧.

فصل


تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السَّجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في آخر الآيات، بل لأن الهجوع راحة لهم والمقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى، فلا يناسبه تقديم ( راحتهم )١٨، وقد يَغْفَلُ السامع عما بعد الكلام فيعتقد كونهم محسنين بسبب هجوعهم، فقدم قوله :«قَلِيلاً » ليسبق إلى الفهم أولاً قلَةُ الهجوع وقوله :«مِنَ اللَّيْل » إشارة إلى أنه الزمن الذي يهجع الناس فيه ولا يسهر في الطاعة إلا متعبد.
فإن قيل : الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقالُ له : هُجُوع !.
فالجواب : أن ذِكرَ العام وإِردافه بالتخصيص حَسَنٌ، تقول : رأيتُ حَيَوَاناً نَاطِقاً فَصِيحاً. وأما ذكر الخاص وإردافه بالعام فلا يَحْسُن إلا في بعض المواضع، فلا تقول : رأيتُ ناطقاً فصيحاً حيواناً.
وإذا عرف هذا فقوله تعالى : كَانُوا قليلاً من الليل ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده : كَانُوا من الليل يسبحون أو يستغفرون أو يسهرون، أو غير ذلك، فلما قال : يَهْجَعُون فكأنه خصّص ذلك بالأمر العام المحتمل له ولغيره فأَزَال الاحْتِمَال١٩.
قوله :«وَبِالأَسْحَارِ » متعلق ب «يَسْتَغْفِرُونَ »، والباء بمعنى «فِي ». وقدم متعلق الخبر٢٠ على المبتدأ٢١ لجواز تقديم العامل.

فصل


معنى قوله :﴿ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ أي يصلون أكثر الليل. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني كانوا كل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أولها وإما من أوسطها. وقال أنس بن مالك : كانوا يصلون العَتَمَةَ. وقال مُطرفُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بنِ الشَّخِير : قَلَّ ليلة أتت عليهم يهجعونها كلها. وقال مجاهد : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله، وربما نَشِطُوا فَمَدُّوا إلى السَّحَر، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار. وقال الكلبي ومجاهد ومقاتل : وبالأسحار يصَلّونَ ؛ وذلك لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة٢٢.
روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :«يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاء كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل فَيَقُولُ : أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ، مَنِ الَّذي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنِ الَّذِي يسَأَلُنِي فَأعْطِيَهُ ؟ مِنَ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ »٢٣.
فصل في قوله :﴿ وبالأسحار هُمْ يستغفرون ﴾ إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه، فهم يستغفرون من التقصير. وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويَسْتَقِلُّه ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويَمُنُّ به.
وفي الآية لطائف :
الأولى : أنه تعالى لما ذكر قلة هجوعهم، والهجوع مُقْتَضى الطبع قال : يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل.
الثانية : أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحْهم بكَثْرة السَّهر فلم يقل : كَانُوا قليلاً من الليل ما يسهرون مع أن السَّهَر هو الكَلَفَةُ والاجتهاد لا الهجوع، وهذا إشارة إلى أن نَوْمَهم عبادةٌ حيث مدحهم الله بكونهم هاجعين قليلاً، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، والاستغفار بالأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم٢٤.

فصل


الباء في قوله :«بالأسحار » استعملت للظرف هنا، وهي ليست للظرف. قال بعض النحاة : إن حروف الجر ينوب بعضُها عن بعض يقال في ظرف الزمان : خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ، وبالليل، وفي شهر رمضان. فتستعمل اللام والباء، وفي، وكذلك في ظرف المكان تقول : قُمْتُ بِمدينة كذا، وفيها، ورأيته ببَلْدَةِ كذا، وفيها. قال ابن الخطيب : والتحقيقُ فيه أن نقول : الحروف لها معانٍ مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مُسْتَقِلاَّنِ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تنافرٌ ( و )٢٥ تباعد كما في الأسماء والأفعال، فإن البيتَ والسَّكَن متخالفان ومتقاربان٢٦، وكذلك مَكَثَ، وسَكَنَ ( وَأَلَمَّ )٢٧، وكذلك كل اسمين أو كل فعلين يوجد كان٢٨ بينهما تقارب وتباعد، لأن الباء للإِلصاق، واللام للاختصاص، و«في » للظرف، والظرف مع المظروف ملتصق ومختص به. إذا عرف هذا فنقول : بين «الباء » و«اللام » و«في » مشاركة، أما الباء فلأنها للإِلصاق، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإِذا قال : سَارَ بالنَّهَارِ معناه ذهب ذَهَاباً مُتَّصِلاً بالنهار.
فقوله :﴿ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ أي متصلاً بالأسحار، أخبر عن الاقتراب، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله :«فِي اللَّيْلِ » ؛ لأنه يستدعي احتواء الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمتُ ببَلْدَة كذا، لا يفيد أنه كان مخالطاً بالبلد. وقوله : أقمتُ فيها يدل على إحاطتها به، فإذن قول القائل : أَقَمْتُ بالبَلَدِ، ودَعَوْتُ بالأَسْحَارِ أعمُّ مِنْ قوله : أقمتُ فِيهِ ؛ لأن القائم فيه قائمٌ به والقائم به ليس قائماً فيه٢٩.
وإِذا علم هذا فقوله :﴿ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ إشارة إلى أنهم لا يُخْلُونَ وقتاً عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون، ومع أول جزء من السحر يستغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب، لأنهم وقت الانتباه لم يُخْلوا الوقت للذنب. ولا يطرد استعمال الباء بمعنى «في »، فلا تقول : خَرَجْتُ بِيَوْم الجُمُعَةِ لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خُصُوصيَّات وتقييدات زائدة على الزمان، لأنك إذا قلت : خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وبلَيْلَةِ الجُمُعَةِ، لم يحسن. ولو قلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ وخَرَجَ ( بِيَوْمِ )٣٠ نَحْسٍ حَسُن فالنهارُ والليل لمّا لم يكن فيهما خُصُوصٌ وتقييد جازَ استعمالُ الباء فيهما، فإِذا قيدتهما وخصصتهما زال الجوازُ، و«يَوْمُ الجمعة » لمَّا كان فيه خصوص لم يجز وقلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ جاز. وأما «فِي » فيصح مطلقاً ؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص، لأن العام جزءٌ داخل في الخاص، فتقول : فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ وفِي هذِهِ السَّاعة٣١. وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله :﴿ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ [ يس : ٣٨ ].

فصل


وفائدة قَوْلِهِ :«هم » ؛ قال الزمخشري : فائدتها انْحِصَارُ المستغفرين أي هم الكاملون فيه لا غيرهم كقولك : زَيْدٌ العَالِمُ، لكماله في العلم كأنه تفرد به، وأيضاً : فلو عطف بدون هم لأوهم أنهم يستغفرون قليلاً٣٢. والاستغفار إما طلب المغفرة، كقولهم : رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا، وإما إتيانهم بعبارات يتقربون بها طلباً للمغفرة، وإما أن يكون من باب قولهم : اسْتَحْصَد الزَّرْع أي ذلك أوان المغفرة.
١ كقولنا: حاتم كان سخيًّا كان يبذل موجوده ولا يترك مجهوده..
٢ البغوي ٦/٢٤٢ والرازي ٢٨/٢٠٢ والقرطبي ١٧/٣٦..
٣ وهو قول ابن الأنباري أبي بكر فيما نقله عنه القرطبي في الجامع ١٧/٣٦ وقد نقل هذا القول الإمام القرطبي نفسه في مرجعه السابق وأبو البقاء في التبيان ١١٧٩..
٤ على الفاعلية وهذا القول ذكره العكبري في التبيان المرجع السابق، وابن الأنباري في البيان ٢/٣٨٩ ومكي في المشكل ٢/٣٢٢ والفراء في المعاني ٣/٨٤ وأبو حيان في البحر ٨/١٣٥..
٥ نقله القرطبي في الجامع ١٧/٣٦ وأبو البقاء في التبيان ١١٧٩..
٦ لم أعرف هذا البعض الذي قصده المؤلف وانظر: التبيان السابق..
٧ ذكره أبو حيان في البحر ٨/١٣٥..
٨ في تفسير أبي حيان السابق: "كانوا من الليل من الوقت الذي يهجعون فيه" ولا اختلاف جوهريًّا بين ما قاله المؤلف وما قاله أبو حيان. وانظر: البحر ٨/١٣٦..
٩ الرازي ٢٨/٢٠٢ و٢٠٣..
١٠ السابق..
١١ ذكر الزمخشري في الكشاف ٤/١٥ و١٦ كل الأوجه السابقة في ما عدا زيادتها، وله حجّته الآتية بعد..
١٢ بالمعنى من الكشاف ٤/١٦، وباللفظ من تفسير الإمام الرازي ٢٨/٢٠٣..
١٣ كذا في النسختين بنصب زيد والأصح: الرفع..
١٤ كذا في النسختين، وفي الرازي –وهو الصحيح- وإن كان. بالواو..
١٥ وهذا شرح الإمام الرازي لكلام أستاذه الزمخشري..
١٦ ما بين القوسين زيادة من الرازي على النسختين وهي زيادة لازمة لابد منها..
١٧ وانظر: الرازي ٢٨/٢٠٢..
١٨ ما بين القوسين سقط من ب وعبارة الرازي: فلو قال: كانوا يهجعون كان المذكور أولا راحتهم ثم بصفة بالقلة. وانظر: الرازي ٢٨/٢٠٣..
١٩ بالمعنى من تفسير الإمام الرازي المرجع السابق..
٢٠ وهو بالأسحار..
٢١ وهو "هُم"..
٢٢ وانظر: تفسير البغوي والخازن ٦/٢٤٢..
٢٣ أخرجه البغوي عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، انظر: البغوي المرجع السابق..
٢٤ قال بذلك كله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٨/٢٠٣..
٢٥ الواو ساقطة من أ الأصل. هذا وعبارة الرازي: تنافٍ وتباعُد..
٢٦ كذا في أو ب وفي الرازي وهو الأصح: متفاوتان..
٢٧ كذا في أ فقط. ولم أجدها في الرازي ولا في ب..
٢٨ تلك الكلمتان في بمضطربتان ونطقا: يحذفان وفي الرازي: ولا كذلك كل اسمين يفرض أوكل فعلين يوجد..
٢٩ في الرازي: ليس قائما ما فيه من كل بدّ. وانظر: تفسير الرازي ٢٨/٢٠٤ و٢٠٣..
٣٠ كلمة يوم سقط من الأصل..
٣١ وانظر هذا كله في تفسير الرازي السابق..
٣٢ بالمعنى من الكشاف وباللفظ من الرازي ٢٨/٢٠٥ فقد قال في الكشاف ٤/١٦: "فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرّين فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه"..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:قوله :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ وهذا كالتفسير لكونهم مُحْسِنِينَ١، وفيه أوجه :
أحدها : أن الكلام تَمَّ على «قَلِيلاً » ولهذا وقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى :﴿ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ﴾ [ ص : ٢٤ ] ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ﴾ [ سبأ : ١٣ ] ويبتدئ :﴿ مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ أي ما يهجعون من الليل. والمعنى كانوا من الناس قليلاً، ثم ابتدأ فقال : ما يَهْجَعُون وجعله جَحْداً أي لا ينامون بالليل ألبتة يقومون للصلاة والعبادة. وهو قول الضحاك ومقاتل٢. وهذا لا يظهر من حيث المعنى، ولا من حيث الصناعة، أما الأول فلا بد أن يهجعوا، ولا يتصور نفي هجوعهم، وأما الصناعة فلأن «ما » في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين. هذا إن جعلتها نافية، وإِن جعلتها مصدرية صار التقدير من الليل هُجُوعُهُمْ. ولا فائدة فيه، لأن غيره من سائر الناس بهذه المثابة٣.
الثاني : أن تجعل «ما » مصدرية في محلِّ رفع٤ «بِقَلِيلاً »، والتقدير : كَانُوا قليلاً هُجُوعُهُمْ.
الثالث : أن تجعل ما المصدرية بدلاً من اسم كان بدل اشتمال أي كان هُجُوعُهُمْ قليلاً٥. و«مِنَ اللَّيْلِ » على هذين لا يتعلق ب «يهجعون » لأن ما في حَيِّز المصدر لا يتقدم عليه على المشهور. وبعض المانعين٦ اغتفروا في الظرف فيجوزُ هذا عنده والمانع يقدر فعلاً يدل عليه :«يَهْجَعُونَ مِنَ اللَّيْل ».
الرابع : أن «ما » مزيدة و«يَهْجَعُون » خبر كان، والتقدير : كَانُوا يهجعون من الليل هُجُوعاً قَلِيلاً، أو زمناً قليلاً، ف «قَليلاً »، نعت لمصدر أو ظرف٧.
الخامس : أنها بمعنى الذي، وعائدها محذوف تقديره : كَانُوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه٨. وهذا فيه تَكَلُّفٌ.

فصل


قال ابن الخطيب :«قليلاً » منصوب على الظرف تقديره يهجَعونَ قليلاً يقال : قام بَعْضَ الليل، فنصب «بعض » على الظرف، وخبر كان هو قوله :«يَهْجَعُونَ » و«ما » زائدة هذا هو المشهور٩، وفيه وجه آخر : وهو أن يقال : كانوا قليلا معناه كانوا من الناس قليلا، فيكون " قليلا " خبر كان. و " ما يهجعون " معناه نفي النوم عنهم. وهذا منقول عن الضَّحَّاك ومقاتل١٠.
وأنكر الزمخشري١١ كون «ما » نافية، وقال : لا يجوز أن تكون نافية ؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيها قبلها لا تقول : زَيْداً ما ضَرَبْتُ ويجوز أن يعمل ما بعد «لم » فيما قبلها، تقول : زَيْداً لَمْ أَضْرِبْ١٢ وذلك أن الفعل المتعدي إنما يعمل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت : ضَرَبَ زيدٌ عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو. فإذا قلت : مَا ضَرَبَهُ لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه، لكن النفي محمول على الإثبات، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عَمَل الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول : زَيْداً١٣ ضاربٌ عَمْراً أمس، وتقول : زَيْدٌ ضَاربٌ عَمْراً غداً واليَوْمَ والآنَ ؛ لأن الماضي لم يبقَ موجوداً ولا مُتوقَّع الوجود، فلا يتعلق بالمفعول حقيقة، لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يَعْمَلْ.
إذا عرف هذا فقوله : مَا ضَرَبْتُ للنفي في الماضي، فاجتمع فيه النفي والمضيّ فَضَعُفَ. وأما : لَمْ أَضْرِبْ فإِن١٤ كان يقلب المستقبل فوجد فيه ما وجد في قول القائل : زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً غَداً فأُعْمِلَ١٥.
قال ابن الخطيب : غير أن القائل بذلك القول يقول : قليلاً ليس منصوباً بقوله : يَهْجَعُونَ، وإِنما ذلك خبر ( كانوا١٦ ؛ أي ) كانوا قَلِيلِينَ١٧.

فصل


تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السَّجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في آخر الآيات، بل لأن الهجوع راحة لهم والمقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى، فلا يناسبه تقديم ( راحتهم )١٨، وقد يَغْفَلُ السامع عما بعد الكلام فيعتقد كونهم محسنين بسبب هجوعهم، فقدم قوله :«قَلِيلاً » ليسبق إلى الفهم أولاً قلَةُ الهجوع وقوله :«مِنَ اللَّيْل » إشارة إلى أنه الزمن الذي يهجع الناس فيه ولا يسهر في الطاعة إلا متعبد.
فإن قيل : الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقالُ له : هُجُوع !.
فالجواب : أن ذِكرَ العام وإِردافه بالتخصيص حَسَنٌ، تقول : رأيتُ حَيَوَاناً نَاطِقاً فَصِيحاً. وأما ذكر الخاص وإردافه بالعام فلا يَحْسُن إلا في بعض المواضع، فلا تقول : رأيتُ ناطقاً فصيحاً حيواناً.
وإذا عرف هذا فقوله تعالى : كَانُوا قليلاً من الليل ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده : كَانُوا من الليل يسبحون أو يستغفرون أو يسهرون، أو غير ذلك، فلما قال : يَهْجَعُون فكأنه خصّص ذلك بالأمر العام المحتمل له ولغيره فأَزَال الاحْتِمَال١٩.
قوله :«وَبِالأَسْحَارِ » متعلق ب «يَسْتَغْفِرُونَ »، والباء بمعنى «فِي ». وقدم متعلق الخبر٢٠ على المبتدأ٢١ لجواز تقديم العامل.

فصل


معنى قوله :﴿ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ أي يصلون أكثر الليل. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني كانوا كل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أولها وإما من أوسطها. وقال أنس بن مالك : كانوا يصلون العَتَمَةَ. وقال مُطرفُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بنِ الشَّخِير : قَلَّ ليلة أتت عليهم يهجعونها كلها. وقال مجاهد : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله، وربما نَشِطُوا فَمَدُّوا إلى السَّحَر، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار. وقال الكلبي ومجاهد ومقاتل : وبالأسحار يصَلّونَ ؛ وذلك لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة٢٢.
روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :«يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاء كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل فَيَقُولُ : أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ، مَنِ الَّذي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنِ الَّذِي يسَأَلُنِي فَأعْطِيَهُ ؟ مِنَ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ »٢٣.
فصل في قوله :﴿ وبالأسحار هُمْ يستغفرون ﴾ إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه، فهم يستغفرون من التقصير. وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويَسْتَقِلُّه ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويَمُنُّ به.

وفي الآية لطائف :

الأولى : أنه تعالى لما ذكر قلة هجوعهم، والهجوع مُقْتَضى الطبع قال : يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل.
الثانية : أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحْهم بكَثْرة السَّهر فلم يقل : كَانُوا قليلاً من الليل ما يسهرون مع أن السَّهَر هو الكَلَفَةُ والاجتهاد لا الهجوع، وهذا إشارة إلى أن نَوْمَهم عبادةٌ حيث مدحهم الله بكونهم هاجعين قليلاً، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، والاستغفار بالأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم٢٤.

فصل


الباء في قوله :«بالأسحار » استعملت للظرف هنا، وهي ليست للظرف. قال بعض النحاة : إن حروف الجر ينوب بعضُها عن بعض يقال في ظرف الزمان : خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ، وبالليل، وفي شهر رمضان. فتستعمل اللام والباء، وفي، وكذلك في ظرف المكان تقول : قُمْتُ بِمدينة كذا، وفيها، ورأيته ببَلْدَةِ كذا، وفيها. قال ابن الخطيب : والتحقيقُ فيه أن نقول : الحروف لها معانٍ مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مُسْتَقِلاَّنِ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تنافرٌ ( و )٢٥ تباعد كما في الأسماء والأفعال، فإن البيتَ والسَّكَن متخالفان ومتقاربان٢٦، وكذلك مَكَثَ، وسَكَنَ ( وَأَلَمَّ )٢٧، وكذلك كل اسمين أو كل فعلين يوجد كان٢٨ بينهما تقارب وتباعد، لأن الباء للإِلصاق، واللام للاختصاص، و«في » للظرف، والظرف مع المظروف ملتصق ومختص به. إذا عرف هذا فنقول : بين «الباء » و«اللام » و«في » مشاركة، أما الباء فلأنها للإِلصاق، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإِذا قال : سَارَ بالنَّهَارِ معناه ذهب ذَهَاباً مُتَّصِلاً بالنهار.
فقوله :﴿ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ أي متصلاً بالأسحار، أخبر عن الاقتراب، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله :«فِي اللَّيْلِ » ؛ لأنه يستدعي احتواء الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمتُ ببَلْدَة كذا، لا يفيد أنه كان مخالطاً بالبلد. وقوله : أقمتُ فيها يدل على إحاطتها به، فإذن قول القائل : أَقَمْتُ بالبَلَدِ، ودَعَوْتُ بالأَسْحَارِ أعمُّ مِنْ قوله : أقمتُ فِيهِ ؛ لأن القائم فيه قائمٌ به والقائم به ليس قائماً فيه٢٩.
وإِذا علم هذا فقوله :﴿ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ إشارة إلى أنهم لا يُخْلُونَ وقتاً عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون، ومع أول جزء من السحر يستغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب، لأنهم وقت الانتباه لم يُخْلوا الوقت للذنب. ولا يطرد استعمال الباء بمعنى «في »، فلا تقول : خَرَجْتُ بِيَوْم الجُمُعَةِ لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خُصُوصيَّات وتقييدات زائدة على الزمان، لأنك إذا قلت : خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وبلَيْلَةِ الجُمُعَةِ، لم يحسن. ولو قلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ وخَرَجَ ( بِيَوْمِ )٣٠ نَحْسٍ حَسُن فالنهارُ والليل لمّا لم يكن فيهما خُصُوصٌ وتقييد جازَ استعمالُ الباء فيهما، فإِذا قيدتهما وخصصتهما زال الجوازُ، و«يَوْمُ الجمعة » لمَّا كان فيه خصوص لم يجز وقلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ جاز. وأما «فِي » فيصح مطلقاً ؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص، لأن العام جزءٌ داخل في الخاص، فتقول : فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ وفِي هذِهِ السَّاعة٣١. وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله :﴿ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ [ يس : ٣٨ ].

فصل


وفائدة قَوْلِهِ :«هم » ؛ قال الزمخشري : فائدتها انْحِصَارُ المستغفرين أي هم الكاملون فيه لا غيرهم كقولك : زَيْدٌ العَالِمُ، لكماله في العلم كأنه تفرد به، وأيضاً : فلو عطف بدون هم لأوهم أنهم يستغفرون قليلاً٣٢. والاستغفار إما طلب المغفرة، كقولهم : رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا، وإما إتيانهم بعبارات يتقربون بها طلباً للمغفرة، وإما أن يكون من باب قولهم : اسْتَحْصَد الزَّرْع أي ذلك أوان المغفرة.
١ كقولنا: حاتم كان سخيًّا كان يبذل موجوده ولا يترك مجهوده..
٢ البغوي ٦/٢٤٢ والرازي ٢٨/٢٠٢ والقرطبي ١٧/٣٦..
٣ وهو قول ابن الأنباري أبي بكر فيما نقله عنه القرطبي في الجامع ١٧/٣٦ وقد نقل هذا القول الإمام القرطبي نفسه في مرجعه السابق وأبو البقاء في التبيان ١١٧٩..
٤ على الفاعلية وهذا القول ذكره العكبري في التبيان المرجع السابق، وابن الأنباري في البيان ٢/٣٨٩ ومكي في المشكل ٢/٣٢٢ والفراء في المعاني ٣/٨٤ وأبو حيان في البحر ٨/١٣٥..
٥ نقله القرطبي في الجامع ١٧/٣٦ وأبو البقاء في التبيان ١١٧٩..
٦ لم أعرف هذا البعض الذي قصده المؤلف وانظر: التبيان السابق..
٧ ذكره أبو حيان في البحر ٨/١٣٥..
٨ في تفسير أبي حيان السابق: "كانوا من الليل من الوقت الذي يهجعون فيه" ولا اختلاف جوهريًّا بين ما قاله المؤلف وما قاله أبو حيان. وانظر: البحر ٨/١٣٦..
٩ الرازي ٢٨/٢٠٢ و٢٠٣..
١٠ السابق..
١١ ذكر الزمخشري في الكشاف ٤/١٥ و١٦ كل الأوجه السابقة في ما عدا زيادتها، وله حجّته الآتية بعد..
١٢ بالمعنى من الكشاف ٤/١٦، وباللفظ من تفسير الإمام الرازي ٢٨/٢٠٣..
١٣ كذا في النسختين بنصب زيد والأصح: الرفع..
١٤ كذا في النسختين، وفي الرازي –وهو الصحيح- وإن كان. بالواو..
١٥ وهذا شرح الإمام الرازي لكلام أستاذه الزمخشري..
١٦ ما بين القوسين زيادة من الرازي على النسختين وهي زيادة لازمة لابد منها..
١٧ وانظر: الرازي ٢٨/٢٠٢..
١٨ ما بين القوسين سقط من ب وعبارة الرازي: فلو قال: كانوا يهجعون كان المذكور أولا راحتهم ثم بصفة بالقلة. وانظر: الرازي ٢٨/٢٠٣..
١٩ بالمعنى من تفسير الإمام الرازي المرجع السابق..
٢٠ وهو بالأسحار..
٢١ وهو "هُم"..
٢٢ وانظر: تفسير البغوي والخازن ٦/٢٤٢..
٢٣ أخرجه البغوي عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، انظر: البغوي المرجع السابق..
٢٤ قال بذلك كله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٨/٢٠٣..
٢٥ الواو ساقطة من أ الأصل. هذا وعبارة الرازي: تنافٍ وتباعُد..
٢٦ كذا في أو ب وفي الرازي وهو الأصح: متفاوتان..
٢٧ كذا في أ فقط. ولم أجدها في الرازي ولا في ب..
٢٨ تلك الكلمتان في بمضطربتان ونطقا: يحذفان وفي الرازي: ولا كذلك كل اسمين يفرض أوكل فعلين يوجد..
٢٩ في الرازي: ليس قائما ما فيه من كل بدّ. وانظر: تفسير الرازي ٢٨/٢٠٤ و٢٠٣..
٣٠ كلمة يوم سقط من الأصل..
٣١ وانظر هذا كله في تفسير الرازي السابق..
٣٢ بالمعنى من الكشاف وباللفظ من الرازي ٢٨/٢٠٥ فقد قال في الكشاف ٤/١٦: "فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرّين فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه"..

قوله :﴿ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم ﴾ لمّا تقدم التعظيم لأم الله ثَنَّى بالشفقة على خلق الله، وأضاف الأموال إليهم، لأنه مدح لهم، وقال في موضع آخر ﴿ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [ الحديد : ٧ ] ؛ لأن ذلك تحريض وحث على النفقة وذلك يناسبه.
فإن قيل : كون الحق في المال لا يوجب مدحاً ؛ لأن كون المسلم في ماله حقّ وهو الزكاة ليس صفة مدح، لأن كل مسلم كذلك بل الكافر إذا قلنا : إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم، غير أنه إذا أَسْلَمَ سقط عنه، وإن مات عُوقِبَ على ما تركه الأداء. وإن أَدَّى من غير إسلام لا يقع الموقع فكيف يفهم كونه مدحاً ؟
فالجواب : أنا نفسر السائل بمن يطلب جزءاً من١ المَال وهو الزكاة والمَحْرُومُ من لا يطلب جزءاً معيّناً وهو طالب صدقة التطوع كأنه قال : في ماله زكاةٌ وصَدَقَةٌ.
أو يقالُ : بأن «في » للظرفية، والمعنى أَنّهم لاَ يجمعون المال ولا يجعلونه ظرفاً للحُقُوق، والمطلوب من الظرف والمظروف إنما هو المظروف وهذا مدح عظيم.
فإن قيل : لَو قيل : مالهم للسائل كان أبلغ !
فالجواب : لا نسلم، فإن صرف جميع المال حتى يبقى فقيراً محتاجاً منهيٌّ عنه، وكذلك الصلاة والصوم الاقتصاد فيهما أبلغ لقوله :- عليه الصلاة والسلام - :«إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَادْخُلُوا٢ فِيهِ بِرفقٍ ؛ فَإنَّ المُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظَهْراً أَبْقَى »٣.

فصل


في السائل والمحروم وجوه :
أحدها : أن السائل هو الآدمي، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحترمة، قال - عليه الصلاة والسلام - :«فِي كُلّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ » وهذا ترتيب حسن ؛ لأن الآدمي يُقدَّمُ على البهائم.
الثاني : أن السائل هو الذي يَسْأَل، والمَحْرُوم هو المتعفّف يظن أنه غنيٌّ فيُحْرَمُ. وقدَّمَ السائلَ ؛ لأن حاله يعرف بسؤاله، أو يكون إشارة إلى كثرة العَطَاء فيعطي السؤال، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً.
الثالث : قدم السائل ؛ لتجانس رُؤُوس الآي٤.

فصل


قال ابنُ عباس وسعيدُ بن المُسيّب : السّائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهمٌ ولا يُجْرَى عليه من الفَيء شَيءٌ. وقال قتادة والزُّهْري : المحروم المتعفّف الذي لا يسأل. وقال زيد بن أسلم : هو المصاب ثمره أو زرعه أو تشَلُّ ماشيتُه، وهو قول مُحَمّد بن كَعْب القُرَظيِّ. قال : المحروم صاحب الحاجة، ثم قرأ :﴿ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٦ - ٦٧ ].
١ كذلك في الأصل وفي ب: عن تطلب وفي الرازي: بمن يطلب شرعا..
٢ عبارة الرازي: فأوغل فيه..
٣ بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨/٢٠٦ و٢٠٥..
٤ بالمعنى قليلا من المرجع السابق..
قوله تعالى: ﴿وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ إذا ساروا فيها من الجبال والبحار والثمار وأنواع النبات تدلهم على أن الحَشْرَ كائن كقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً﴾ [فصلت: ٣٩]، ويحتمل أن يكون المعنى: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ تَدُلُّ على مُدَبِّرٍ قادرٍ قاهرٍ يجب أن يُعْبَدَ ويُحْذَرَ.
فإن قيل: كيف خصص الآيات بالمُوقنينَ، ولم يُخَصِّصْ في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا﴾ [يس: ٣٣] ؟
فالجواب: أن القَسَمَ إنما يكون مع المعَانِدِ في البرهان، فهو لا ينتفع بالآيات وإنما ينتفع بها المُوقِنُونَ فلذلك أقسم ههنا فقال: ﴿فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ وفي سورة يس لم يؤكد ذلك بالقسم الدال على المعاند. أو يقال: أطلقت هناك باعتبار حصولها وخصصت هنا باعتبار المنفعة بها. وجمعت «الآيات» هنا، لأن المُوقن يتنبه لأمور كثيرة، وكذلك قوله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيات دالة على ذلك إذ كانت نطفةً ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم عظاماً، إلى أن ينفخ فيها الرُّوح.
74
وقال عطاء عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) : يريد اختلاف الأَلْسنة والصور والألوان والطبائع.
وقال ابن الزُّبَيْر: يريد سبيل البول والغائط يَأكُلُ ويَشْرَبُ من مَدْخَلٍ واحد ويَخْرج من سِبِيلَيْنِ.
وقوله: أفلا تبصرون «قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث؟
قوله:»
وفي أنفسكم «نَسَقٌ على (مَا) » في الأرض «فهو خبر عن» آيات «أيضاً، والتقدير: وفي الأرض وفي أنفسكم آيات.
وقال أبو البقاء: وَمَنْ رَفَعَ بالظرف جعل ضمير»
الآيات «في الظرف. يعني من يرفع الفاعل بالظرف مطلقاً أي وإن لم يعتمد يرفع بهذا الجار فاعلاً هو ضمير» آيات «.
وجوز بعضُهم أن يتعلق ب»
يُبْصِرُونَ «. وهو فاسدٌ؛ لأن الاستفهام والفاء يمنعان جَوَازَهُ.
وقرأ قتادة:»
آية «بالإفراد، وقوله:» فِي أنْفُسِكُمْ «يُحْتَمَلُ أن يكون المراد فِيكُمْ، يقال: الحجارة في نفسها صُلْبَة، ولا يراد بها النفس التي هي مَنْبعُ الحياة والحِسّ والحَرَكَات. ويحتمل أن يكون المراد وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات وقوله:» أَفَلاَ تُبْصِرُونَ «بالاستفهام إشارة إلى ظهورها.
قوله: ﴿وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ﴾ أي سبب رزقكم. وقرأ حُمَيْدٌ وابنُ مُحَيْصن: رازِقُكُمْ اسم فاعل، والله تعالى متعالٍ عَنِ الجِهّةِ. قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: يعني بالرزق: المطر؛ لأنه سبب الأَرزاق. وقيل: في السماء رزقكم مكتوب، وقيل: تقدير الأرزاق كلها من السماء، ولولاه لما حصل في الأرض حبَّة قُوتٍ.
75
قوله:» وَمَا تُوعَدُونَ «قال عطاء: من الثَّوَاب والعِقَاب، وقال مجاهد: من الخَيْر والشَّرِّ. وقال الضحاك: وما توعدون من الجَنَّة والنار فيكون المعنى على هذا: وما توعدون لحقّ، كقوله:
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ [الذاريات: ٥] فإن قلنا: المراد بقوله: «وما توعدون»
الجنة فهو من الوعد، وإن قيل: المراد العذاب فيكون الخطاب مع الكفار.
قوله: ﴿فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ الضمير إما للقرآن، وإما «للدِّين»، وإما «الْيَوْم» في قوله: ﴿وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات: ٦] و «يَوْمَ هُمْ» و «يَوْم الدِّينِ»، وإما للنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ودخلت الفاء بمعنى إنَّ ما توعدون لحق بالبرهان المبين ثم بالقسم واليمين أو للعطف على قوله: «والذَّاريات» مع إعادة المقسم عليه لوقوع الفَصْل.
وأقسم أولاً بالمخلوقات وههنا بربها تَرَقِّياً من الأدنى إلى الأعلى.
قوله: «مِثْلَ مَا» قرأ الأخوانِ وأبو بكر مِثْلُ بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر ثانٍ مستقلٌّ كالأَول.
الثاني: أنه مع ما قبله خبرٌ واحد، كقولك: هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ نقلهما أبو البقاء.
والثالث: أنه نعت لحَقٍّ و «ما» مزيدة على الأوجه الثلاثة و «أَنَّكُمْ» مضاف إليه، أي لَحَقٌّ مِثْلُ نُطْقِكُم، ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة، لأنها لا تتعرف بذلك لإبْهَامِهَا.
والباقون بالنصب، وفيه أوجه:
أشهرها: أنه نعت «لحَقّ» أيضاً كما في القراءة الأولى، وإنما بني الاسم لإضافته إلى غير متمكن، كما بناه الآخر في قوله:
76
٤٥٢٢ - فَتَدَاعَى مِنْخَرَاهُ بِدَمٍ مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح «مثل» مع أنها نعت لِ «دَمٍ» وكما بنيت «غَيْرُ» في قوله - (رحمةُ الله عليه) -:
٤٥٢٣ - لَمْ يَمْنَع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذَاتِ أَوْقَالِ
«غير» فاعل يمنع، فبناها على الفتح لإضافتها إلى «أَنْ نَطَقَتْ» وقد تقدم في قراءة: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] بالفتح ما يُغْنِي عن تقرير مِثْلِ هذا.
الثاني: أن «مِثْلَ» ركّب مع «ما» حتى صارا شيئاً واحداً، قال المازني: ومثله: وَيْحَمَا، وهَيَّمَا وَأيْنَمَا، وأنشد لحُمَيْد بن ثَوْر - (رحمة اللَّهِ عليه رَحْمةً واسعةً -) :
٤٥٢٤ - أَلاَ هَيَّمَا مِمَّا لَقِيتُ وَهَيَّمَا وَوَيْحاً لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا هُنَّ وَيْحَمَا
قال: فلولا البناء لكان منوناً.
وأنشد أيضاً:
٤٥٢٥ -...............................
77
فَأَكْرِمْ بِنَا أباً وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا
وهو الذي ذهب إليه بعض النحويين وأنشد:
٤٥٢٦ - أَثَوْرَ مَا أَصِيدُكُمْ أَمْ ثَوْرَيْنْ أَمْ هَذِه الْجَمَّاءُ ذَاتُ القَرنَيْنْ
وأما ما أنشده من قوله: «وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا» فليس من هذا الباب، لأن هذا «ابنٌ» زيدت عليه الميم وإذا زدتَ عليه الميم جعلت النون تابعةً للميم في الحركات على الفصيح، فتقول: هذا ابْنُمٌ، ورأيت ابْنَماً ومررت بابْنِمٍ، فتجري حركات الإعراب على الميم ويتبعها النون.
وابنما في البيت منصوب على التمييز فالفتح لأجل النصب لا البناء، وليس هذه «ما» الزائدة، بل الميم وحدها زائدة، والألف بدل من التنوين.
الثالث: أنه منصوب على الظَّرْف، وهو قول الكوفيين.
ويجيزون: زَيْدٌ مِثْلَكَ بالفتح، ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ولكن بعبارة مُشْكِلَةٍ فقال: ويقرأ بالفتح، وفيه وجهان:
أحدهما: هو معرب، ثم في نصبه أوجه، ثم قال: أو على أنه مرفوع الموضع،
78
ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] على قول الأخفش، ثم قال: والوجه الثاني: هو مبنيّ.
وقال أبو عُبَيْد: بعض العرب يجعل «مِثْلَ» نصباً أبداً، فيقولون: هَذَا رَجُلٌ مِثْلَكَ.
الرابع: أنه منصوب على إسقاط الجارِّ وهو كافُ التشبيه.
وقال الفراء: العرب تنصبها إذا رفع بها الاسم يعني المبتدأ فيقولون: مِثْلَ مَنْ عَبْد الله؟ وعَبْد الله مثْلَكَ وأنْتَ مِثْلَه لأن الكاف قد تكون داخلة عليها فتُنْصَب إذا ألقيت الكاف.
قال شهاب الدين: وفي هذا نظر، أيّ حاجة إلى تقدير دخول الكاف و «مِثْلُ» تفيد فائدتها؟ وكأنه لما رأى أن الكاف قد دخلت عليها في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] قال ذلك.
الخامس: أنه نعت لمصدر محذوف، أي لحَقّ حَقًّا مِثْلَ نُطْقِكُمْ.
السادس: أنه حال من الضمير في «لَحَقٌّ» ؛ لأنه قد كثر الوصف بهذا المصدر حتى جرى مَجْرى الأوصاف المشتقة، والعامل فيها «حَقٌّ».
السابع: أنه حال من نفس «حَقّ» وإن كان نكرة. وقد نصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازه، وتابعه أبو عمرو على ذلك.
و «ما» هذه في مثل هذا التركيب نحو قولهم: «هَذَا حَقٌّ»، كما أنك ههنا لا تجوّز حذفها، فلا يقال: هذا حق كأنك ههنا. نص على ذلك الخليلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
79
فإذا جعلت «مِثْلَ» معربة كانت «ما» مزيدة و «أَنَّكُمْ» في محل خفض بالإضافة كما تقدم. وإذا جعلتها مبنية إما للتركيب، وإما لإضافتها إلى غير متمكن جاز في «ما» هذه وجهان: الزيادة وأن تكون نكرة موصوفة، (كذا) قال أبو البَقَاءِ.
وفيه نظر، لعدم الوصف هنا، فإن قال: هو محذوف فالأصل عَدمهُ، وأيضاً فنصوا على أن هذه الصفة لا تحذف، لإبهام مَوْصُوفِها. وأما «أَنَّكُمْ تَنْطَقُونَ» فيجوز أن يكون مجروراً بالإضافة إن كانت ( «ما» ) مزيدة، وإن كانت نكرة كان في موضع نصب بإضمار أَعْنِي، أو رفع بإضمار مبتدأ.

فصل


المعنى: ﴿فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ أي ما ذكرت من أمر الرزق لَحق كَمِثْلِ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فتقولون: لا إله إلاَّ الله.
وقيل: شَبَّه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نُطْق الآدمي كقولك: إنَّه لَحَقٌّ كما أنت ههنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة. قال بعض الحكماء: كما أنَّ كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نَفْسه الذي قُسِمَ له، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره.
وقيل: معناه إن القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون.
80
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠:قوله تعالى :﴿ وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴾ إذا ساروا فيها من الجبال والبحار والثمار وأنواع النبات تدلهم على أن الحَشْرَ كائن كقوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً ﴾ [ فصلت : ٣٩ ]، ويحتمل أن يكون المعنى : وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ تَدُلُّ على مُدَبِّرٍ قادرٍ قاهرٍ يجب أن يُعْبَدَ ويُحْذَرَ١.
فإن قيل : كيف خصص الآيات بالمُوقنينَ، ولم يُخَصِّصْ في قوله :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا ﴾ [ يس : ٣٣ ] ؟
فالجواب : أن القَسَمَ إنما يكون مع المعَانِدِ في البرهان، فهو لا ينتفع بالآيات وإنما ينتفع بها المُوقِنُونَ فلذلك أقسم ههنا فقال :﴿ فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ وفي سورة يس لم يؤكد ذلك بالقسم الدال على المعاند. أو يقال : أطلقت هناك باعتبار حصولها وخصصت هنا باعتبار المنفعة بها. وجمعت «الآيات » هنا، لأن المُوقن يتنبه لأمور كثيرة، وكذلك قوله : وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيات دالة على ذلك إذ كانت نطفةً ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم عظاماً، إلى أن ينفخ فيها الرُّوح٢.
وقال عطاء عن ابن عباس - ( رَضِيَ٣ اللَّهُ عَنْهُمْ - ) : يريد اختلاف الأَلْسنة والصور والألوان والطبائع.
وقال ابن الزُّبَيْر : يريد سبيل البول والغائط يَأكُلُ ويَشْرَبُ من مَدْخَلٍ واحد ويَخْرج من سِبِيلَيْنِ.
وقوله :«أفلا تبصرون » قال مقاتل : أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث٤ ؟
قوله :«وفي أنفسكم » نَسَقٌ على ( مَا )٥ «في الأرض » فهو خبر عن «آيات » أيضاً، والتقدير : وفي الأرض وفي أنفسكم آيات.
وقال أبو البقاء : وَمَنْ رَفَعَ بالظرف جعل ضمير «الآيات » في الظرف٦. يعني من يرفع الفاعل٧ بالظرف مطلقاً أي وإن لم يعتمد٨ يرفع بهذا الجار فاعلاً هو ضمير «آيات ».
وجوز بعضُهم أن يتعلق ب «يُبْصِرُونَ ». وهو فاسدٌ٩ ؛ لأن الاستفهام١٠ والفاء يمنعان جَوَازَهُ.
وقرأ قتادة :«آية » بالإفراد١١، وقوله :«فِي أنْفُسِكُمْ » يُحْتَمَلُ أن يكون المراد فِيكُمْ، يقال : الحجارة في نفسها صُلْبَة، ولا يراد بها النفس التي هي مَنْبعُ الحياة والحِسّ والحَرَكَات. ويحتمل أن يكون المراد وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات وقوله :«أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » بالاستفهام إشارة إلى ظهورها١٢.
١ وانظر: الرازي السابق والبغوي ٦/٢٤٤ والقرطبي ١٧/٣٨ و٣٩..
٢ بالمعنى من الرازي ٢٨/٢٠٧ و٢٠٨..
٣ زيادة من أ..
٤ وانظر: والبغوي والقرطبي السابقين..
٥ زيادة من أ تحريفيّة..
٦ التبيان ١١٨٠..
٧ يقصد آيات من قوله: "وفي الأرض آيات"..
٨ أي على نفي واستفهام..
٩ عبر عنه أبو البقاء بالضعف..
١٠ فلا يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله فهو حرف له الصدر..
١١ ذكرها صاحب البحر ٨/١٣٦. وهي شاذة..
١٢ قاله الرازي في تفسيره ٢٨/٢٠٨..

قوله :﴿ وَفِي السماء رِزْقُكُمْ ﴾ أي سبب رزقكم. وقرأ حُمَيْدٌ وابنُ مُحَيْصن : رازِقُكُمْ اسم فاعل١، والله تعالى متعالٍ عَنِ الجِهّةِ. قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : يعني بالرزق : المطر ؛ لأنه سبب الأَرزاق. وقيل : في السماء رزقكم مكتوب، وقيل : تقدير الأرزاق كلها من السماء، ولولاه لما حصل في الأرض حبَّة قُوتٍ.
قوله :«وَمَا تُوعَدُونَ » قال عطاء : من الثَّوَاب والعِقَاب، وقال مجاهد : من الخَيْر والشَّرِّ. وقال الضحاك : وما توعدون من الجَنَّة والنار٢ فيكون المعنى على هذا : وما توعدون لحقّ، كقوله :﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ﴾ فإن قلنا : المراد بقوله :«وما توعدون » الجنة فهو من الوعد، وإن قيل : المراد العذاب فيكون الخطاب مع الكفار.
١ ذكره ابن خالويه في المختصر ١٤٥ وروى عنه –أي ابن مُحَيصن- هو وأبو حيان في البحر ٨/١٣٦ أرزاقكم بلفظ الجمع المكسر. وتلك القراءة رازقكم ذكرها صاحب الإتحاف ٣٩٩..
٢ ذكر هذه الأقوال البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٤٤ والقرطبي ١٧/٤١..
قوله :﴿ فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ الضمير إما للقرآن، وإما «للدِّين »، وإما «الْيَوْم » في قوله :﴿ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ ﴾ و«يَوْمَ هُمْ » و«يَوْم الدِّينِ »، وإما للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودخلت الفاء بمعنى إنَّ ما توعدون لحق بالبرهان المبين ثم بالقسم واليمين أو للعطف على قوله :«والذَّاريات » مع إعادة المقسم عليه لوقوع الفَصْل١.
وأقسم أولاً بالمخلوقات وههنا بربها تَرَقِّياً من الأدنى إلى الأعلى٢.
قوله :«مِثْلَ مَا » قرأ الأخوانِ وأبو بكر مِثْلُ٣ بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر ثانٍ مستقلٌّ كالأَول.
الثاني : أنه مع ما قبله خبرٌ واحد، كقولك : هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ نقلهما أبو البقاء٤.
والثالث : أنه نعت لحَقٍّ٥ و«ما » مزيدة على الأوجه الثلاثة و«أَنَّكُمْ » مضاف إليه، أي لَحَقٌّ مِثْلُ نُطْقِكُم، ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة، لأنها لا تتعرف بذلك لإبْهَامِهَا٦.
والباقون بالنصب، وفيه أوجه :
أشهرها : أنه نعت «لحَقّ » أيضاً كما في القراءة الأولى، وإنما بني الاسم لإضافته إلى غير متمكن٧، كما بناه الآخر في قوله :
فَتَدَاعَى٨ مِنْخَرَاهُ بِدَمٍ مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ٩
بفتح «مثل » مع أنها نعت لِ «دَمٍ » وكما بنيت «غَيْرُ » في قوله - ( رحمةُ الله عليه )١٠ - :
لَمْ يَمْنَع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذَاتِ أَوْقَالِ١١
«غير » فاعل يمنع، فبناها على الفتح لإضافتها إلى «أَنْ نَطَقَتْ » وقد تقدم في قراءة :﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾١٢ [ الأنعام : ٩٤ ] بالفتح ما يُغْنِي عن تقرير مِثْلِ هذا.
الثاني : أن «مِثْلَ » ركّب مع «ما » حتى صارا شيئاً واحداً١٣، قال المازني : ومثله : وَيْحَمَا، وهَيَّمَا وَأيْنَمَا، وأنشد لحُمَيْد بن ثَوْر - ( رحمة اللَّهِ عليه رَحْمةً واسعةً - )١٤ :
أَلاَ هَيَّمَا مِمَّا لَقِيتُ وَهَيَّمَا وَوَيْحاً لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا هُنَّ وَيْحَمَا١٥
قال : فلولا البناء لكان منوناً.
وأنشد أيضاً :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَأَكْرِمْ بِنَا أباً وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا١٦
وهو الذي ذهب إليه بعض النحويين١٧ وأنشد :
أَثَوْرَ مَا أَصِيدُكُمْ أَمْ ثَوْرَيْنْ أَمْ هَذِه الْجَمَّاءُ ذَاتُ القَرنَيْنْ١٨
وأما ما١٩ أنشده من قوله :«وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا » فليس من هذا الباب، لأن هذا «ابنٌ » زيدت عليه الميم وإذا زدتَ عليه الميم جعلت النون تابعةً للميم في الحركات على الفصيح، فتقول : هذا ابْنُمٌ، ورأيت ابْنَماً ومررت بابْنِمٍ، فتجري حركات الإعراب على الميم ويتبعها النون.
وابنما في البيت منصوب على التمييز فالفتح لأجل النصب لا البناء، وليس هذه «ما » الزائدة، بل الميم وحدها زائدة، والألف بدل من التنوين٢٠.
الثالث : أنه منصوب على الظَّرْف، وهو قول الكوفيين٢١.
ويجيزون : زَيْدٌ مِثْلَكَ بالفتح، ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ولكن بعبارة مُشْكِلَةٍ فقال : ويقرأ بالفتح، وفيه وجهان :
أحدهما : هو معرب٢٢، ثم في نصبه أوجه، ثم قال : أو على أنه مرفوع الموضع، ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله :﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ على قول الأخفش، ثم قال : والوجه الثاني : هو مبنيّ٢٣.
وقال أبو عُبَيْد : بعض العرب يجعل «مِثْلَ » نصباً أبداً، فيقولون : هَذَا رَجُلٌ مِثْلَكَ٢٤.
الرابع : أنه منصوب على إسقاط الجارِّ وهو كافُ التشبيه.
وقال الفراء : العرب تنصبها إذا رفع بها الاسم يعني المبتدأ فيقولون : مِثْلَ مَنْ عَبْد الله ؟ وعَبْد الله مثْلَكَ وأنْتَ مِثْلَه لأن الكاف قد تكون داخلة عليها فتُنْصَب إذا ألقيت الكاف٢٥.
قال شهاب الدين : وفي هذا نظر، أيّ حاجة إلى تقدير دخول الكاف و«مِثْلُ » تفيد فائدتها ؟ وكأنه لما رأى أن الكاف قد دخلت عليها في قوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ قال ذلك٢٦.
الخامس : أنه نعت لمصدر محذوف، أي لحَقّ حَقًّا مِثْلَ نُطْقِكُمْ٢٧.
السادس : أنه حال من الضمير في «لَحَقٌّ » ؛ لأنه قد كثر الوصف بهذا المصدر حتى جرى مَجْرى الأوصاف المشتقة، والعامل فيها «حَقٌّ »٢٨.
السابع : أنه حال من نفس «حَقّ » وإن كان نكرة٢٩. وقد نصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازه، وتابعه أبو عمرو على ذلك.
و«ما » هذه في مثل هذا التركيب نحو قولهم :«هَذَا حَقٌّ »، كما أنك ههنا لا تجوّز حذفها، فلا يقال : هذا حق كأنك ههنا. نص على ذلك الخليلُ - رحمه الله٣٠ -.
فإذا جعلت «مِثْلَ » معربة كانت «ما » مزيدة و«أَنَّكُمْ » في محل خفض بالإضافة كما تقدم٣١. وإذا جعلتها مبنية إما للتركيب، وإما لإضافتها إلى غير متمكن جاز في «ما » هذه وجهان : الزيادة وأن تكون نكرة موصوفة، ( كذا )٣٢ قال أبو البَقَاءِ٣٣.
وفيه نظر، لعدم الوصف هنا، فإن قال : هو محذوف فالأصل عَدمهُ، وأيضاً فنصوا٣٤ على أن هذه الصفة لا تحذف، لإبهام مَوْصُوفِها. وأما «أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ » فيجوز أن يكون مجروراً بالإضافة إن كانت ( «ما » )٣٥ مزيدة، وإن كانت نكرة كان في موضع نصب بإضمار أَعْنِي، أو رفع بإضمار مبتدأ٣٦.

فصل


المعنى :﴿ فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ أي ما ذكرت من أمر الرزق لَحق كَمِثْلِ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فتقولون : لا إله إلاَّ الله.
وقيل : شَبَّه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نُطْق الآدمي كقولك : إنَّه لَحَقٌّ كما أنت ههنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة. قال بعض الحكماء : كما أنَّ كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نَفْسه الذي قُسِمَ له، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره٣٧.
وقيل : معناه إن القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون٣٨.
١ بالمعنى هذا كله من تفسير الأستاذ الإمام فخر الدين الرازي ٢٨/٢٠٩ و٢٠٨..
٢ المرجع السابق..
٣ قراءة سبعية متواترة، ذكرها صاحب الكشف ٢/٢٨٧ وصاحب السبعة ٢٠٩، وابن خالويه في الحجة ٣٣٢ وانظر الإتحاف ٣٩٩، والتبيان ١١٨٠، والكشاف ٤/١٧، والبحر ٨/١٣٦..
٤ التبيان ١١٨٠..
٥ السابق والبحر ٨/١٣٦ والمشكل ٢/٣٢٤ الكشاف ٤/١٧..
٦ إذ الإضافة غير محضة، ولأن الأشياء التي يقع التماثل بها بين المتماثلين كثيرة، فلم يتعرف بإضافته إلى "أنكم" لذلك، فلما لم يتعرف حسُن وصف "لحقٌّ" به، كما تقول: "مررت برجل مثلك" وانظر: المشكل السابق والكشف ٢/٢٨٧، ومعاني الفراء ٣/٨٥ والبيان ٢/٣٩١ والتبيان ١١٨٠ والقرطبي ١٧/٤٣..
٧ قاله مكي في الكشف ٢/٢٨٧ و٢٨٨ والزمخشري في الكشاف ٤/١٧ وأبو حيان في البحر ٨/١٣٦ ومكي أيضا في المشكل ٢/٣٢٣ وأبو البقاء في التبيان ١١٨٠..
٨ وروي "وتَداعَى" بالواو..
٩ من الرّمل وهو من إنشاد ابن برّي كما نقله وصاحب اللسان "حمض" ٩٩٨. والحُمّاض: بقلة برية تنبُت أيام الربيع في مسايل الماء ولها ثمرة حمراء وهي ذكور البقول. والبيت تشبيه شيء بشيء بجامع الحمرة. والشاهد: جعل "ما ومثل" اسماً واحدا على الفتح مع أنها نعت لدم وهو قول المازنيّ –رحمه الله- وانظر: مجمع البيان ٩/٢٣٣ والسراج المنير ٤/٩٨ والكشف ٢/٢٨٧ و٢٨٨، والأشباه والنظائر ٣/٢١٠ والمعاني الكبير لابن قتيبة ١/٥٩٤..
١٠ زيادة من الأصل..
١١ من البسيط لأبي قيس بن الأسلت، والبيت رواية كرواية الكتاب ٢/٣٢٩ وقد روي البيت برفع وفتح غير كما روي في اللسان: سحوق بدل غصون، و"هتفت" بدل نطقت. و"منها" من الوجناء وهي الناقة في بيت قبله والسّحوق: ما طال من شجر الدوم، والأوقال جمع وقل وهو المقل اليابس والمعنى: لم يمنعها أن تشرب إلا أنها سمعت صوت حمامة فنفرت، يعني أنها حديدة النفس يخامرها فزع وذعر لحدّة نفسها.
والشاهد: غير أن نطقت بفتح "غير" رغم أنها فاعل لإضافتها إلى مبني غير متمكن، وقد تقدم..

١٢ وقد قال الأخفش في هذه الآية إن "مثل" مرفوع الموضع ولكنه فتح كما فتح الظرف في آية الأنعام تلك..
١٣ وانظر: مشكل إعراب القرآن لمكي ٢/٣٢٣ والبحر ٨/١٣٧ و١٣٦..
١٤ زيادة من أ الأصل..
١٥ البيت من الطويل أنشده أبو الفتح عن أبي علي في الخصائص ٢/١٨١ ورواه أبو حيان في البحر ٨/١٣٧ عن المازني. والشاهد في "هيما" "ويحما" فكل منهما كلمة أضيفت إلى "ما" وركبت حتى صارتا شيئا واحد، و"هيما" و"ويحما" من "هيّ وما" و"ويح وما" وهيّ معناها التعجب، والتأسف على الشيء يفوت، و"ما" في موضع رفع وكأنه قال: يا عجبي. وانظر: اللسان "هيا" ٤٧٤٢ والبحر ٨/١٣٧ وقد نسب صاحب البيت لحميد الأرقط وهو في ملحقات ديوان ثور٢..
١٦ عجز بيت من المتقارب للنمر بن تولب والشاهد: تركيب "ابن" مع "ما" تركيبا حتى صارا شيئا واحدا على رأي المازني، وقد اعترض عليه كما سيجيء الآن. وانظر: البحر ٨/١٣٧ وسمط اللالي ٧٤٣ لجنة التأليف ١٣٥٤ هـ..
١٧ لعله أبو علي الفارسيّ، فقد قال ابن جني في الخصائص "ويدل على أنه قد يضم ما هذه إلى ما قبلها ما أنشدنا أبو علي عن أبي عثمان"..
١٨ رجز لم أعرف قائله. وقد ورد في الخصائص والبحر واللسان "ثور" "تِيكم" بدل "هذه" وقد ورد في الخصائص واللسان والبحر الجماء بالجيم وهي التي لا قرنين لها وهذا لا يتفق مع قوله: ذات القرين غير أنه يحمل على هذه الرواية على الهزء والتهكم وقد ورد في أ الحماء بالحاء والكلام عليها ظاهر لا غبار عليه بينما في ب الجماعة تحريف. والشاهد: أثور ما ففتح الراء منه وفتحة تركيب ثور مع "ما" بعده كفتحة راء "حضرموت" ولو كان فتحة إعراب لوجب التنوين لا محالة لأنه مصروف. وانظر الخصائص ٢/١٨١ والبحر ٨/١٣٨ واللسان "ثور" والتصريح ١/٢٤٠ وروح المعاني للآلوسي ٢٧/١٠..
١٩ هذا اعتراض أبي حيان على المازني وهو نفس القول لابن جني في الخصائص ٢/١٨٢ قال: "وجريان حركات الإعراب على الميم يدل على أنها ليست "ما" وإنما الميم في آخره كالميم في آخر ضِرذِم ودِقعِم ودِرْدِم..
٢٠ المرجعين السابقين..
٢١ قال الفراء في معاني القرآن ٣/٨٥: "ومن نصبها جعلها في مذهب المصدر كقولك: إنه لحق حقا وإن العرب لتنصبها إذا رفع بها الاسم فيقولون: مثل من عبد الله، ويقولون: عبد الله مثلك وأنت مثله" وانظر: البحر ٨/١٣٧..
٢٢ التبيان ١١٨٠..
٢٣ المرجع السابق..
٢٤ وهو اختيار أبي حاتم أيضا و"مثل" على معنى "كمثل". وانظر: الجامع للعلامة الإمام القرطبي ١٧/٤٤..
٢٥ معاني القرآن له ٣/٨٥..
٢٦ الدر المصون له مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١..
٢٧ البحر المحيط ٨/١٣٧ ومعاني الفراء ٣/٨٥..
٢٨ وهو اختيار مكي قال: والأحسن أن يكون حالا من المضمر المرفوع في: "لحقّ" وهو العامل في المضمر وفي الحال، وتكون عليه "ما" زائدة. و"مثل" مضاف إلى "أنكم" انظر: المشكل ٢/٣٢٤، كما ذكره أبو حيان في بحره المرجع السابق وانظر: الكشف ٢/٢٨٨..
٢٩ وهو رأي الجَرْمي رحمه الله، وانظر المشكل والبحر والكشف المراجع السابقة..
٣٠ بالمعنى من البحر لأبي حيان ٨/١٣٧ قال: "ويقول الناس: هذا حق كما أنك ههنا، وهذا حق كما أنك ترى وتسمع، وهذا كما في الآية و"ما" زائدة بنصّ الخليل، ولا يحفظ حذفها، فتقول: هذا حق كأنك ههنا"..
٣١ قاله أبو البقاء العكبري في التبيان ١١٨٠..
٣٢ زيادة من "ب" وهو الأصح..
٣٣ المرجع السابق..
٣٤ كذا في النسختين والأوجه أسلوبيا: فقد نصوا..
٣٥ ساقطة من ب والتصحيح من أ..
٣٦ قال بهذا الإمام الفراء في المعاني ٣/٨٥ وابن الأنباري في البيان ٢/٣٩١، ومكي في مشكل والإعراب ٢/٣٢٣ وأبو البقاء في التبيان ١١٨١..
٣٧ البغوي والخازن ٦/٢٤٤..
٣٨ وهو رأي الرازي في تفسيره ٢٨/٢٠٩..
قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين﴾ هذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتيسير له بالفرج، وسَمَّاهُمْ ضَيْفاً، لأنه حسبهم كذَلك، ويقع على الواحد والجمع، لأنه مصدر وسمَّاهم مُكْرَمين أي عند الله أو لأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أكرمهم بأن عَجَّل قِرَاهُم، وأجلسهم في أكرم المواضع واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مأموراً بأن يتبع ملته، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ [النحل: ١٢٣]. وقيل: سماهم مكرمين لأنهم كانوا ضيف إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - (وكان إبراهيم أَكرمَ الخليقة، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نُجَيْح - عن مجاهد -: لأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خدمهم بنفسه) وعن ابن عباس: سماهم مكرمين لأنهم جاءوا غير مَدْعُوِّينَ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ».
فإن قيل: إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار، فأي فائدة في حكاية الضيافة؟
فالجواب: ليكون ذلك إشارة إلى أنَّ الفرجَ في حق الأنبياء، والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا، كقوله تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: ٢٥]، فلم يكن عند إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خبرٌ من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته وقد تقدم عددهم في سورة هود.
قوله تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ﴾ العامل في «إذْ» أَوْجُهٌ:
أحدها: أنه «حديث» أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه.
الثاني: أنه منصوب بما في «ضَيْف» من معنى الفعل، لأنه في الأصل مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد المذكور وغيره، كأنه قيل: الَّذِينَ أَضَافَهُمْ في وقت دخولهم عليه.
الثالث: أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أنَّ إبراهيم أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول: أُكْرِمُوا إذ دَخَلُوا.
الرابع: أنه منصوب بإضمار «اذْكُرْ» ولا يجوز نصبه ب «أَتَاكَ» لاختلاف الزَّمَانَيْنِ.
81
وقرأ العامة المُكْرَمِينَ - بتخفيف الراء - من أَكْرَمَ، وعكرمة: بالتشديد.
فإن قيل: أرسلوا بالعذاب بدليل قولهم: ﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٢] فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن إبراهيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شيخ المرسلين، ولوط من قومه، ومن عادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له: اعبر على فلان الملك، وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه.
الثاني: أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمة عظيمة وكان ذلك مما يُحْزن إبراهيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شفقةً منه على العباد فقال (لهم) بَشّروه بغلامٍ يخرج من صلبه أضعاف من يَهْلَكُ، ويكون من صلبه خروج الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.
قوله: ﴿فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ﴾ العامة على نصب «سلاماً» الأول، ورفع الثاني. فأما نصب الأول فالمشهور أن السلام التحية أي نُسَلِّم سلاماً. ويحتمل أن «سلاماً» معناه حَسَناً أي قالوا كلاماً حسناً؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يَلْغُو أو يأثم فكأنهم قالوا قولاً حسناً سَلِموا به من الإثم فيكون مفعولاً به لأنه في معنى القول، كما قيل في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ [الفرقان: ٦٣]، أو هو مفعول بفعل محذوف، أي نُبَلِّغُكَ سَلاَماً.
ولم يقولوا من الله شفقة على قلب إبراهيم فأتوا به مجملاً، ثم فسروه بعْدَ ذلك.
وأما رفع الثاني فالمشهور أنه التحية، فهو مبتدأ، وخبره محذوف أي عَلَيْكُمْ، ويحتمل أنه السلامة، أي أَمْرِي سَلاَمٌ لأني لا أعرفكم، أو قولُكُم سَلاَمٌ، أي ينبئ عن السلامة وأنتم قوم منكرون فَما خَطْبُكُمْ؟
82
وأما الفرق بين النصب والرفع، فإن حملنا السلام على التّحية، فإنه مُبتدأ مع أنه نكرة تنبيهاً على أصله، لأنه النصب، لأن المعنى أسَلِّمُ سلاماً و «عَلَيْكُمْ» لبيان المسلَّم عليه، لا حظَّ له في الإعراب.
وأصل الكلام أسلم سلاماً، فالنصب أصل، فقدم على الرفع الذي هو فرع، وأيضاً فرد (إبراهيم) أبلع لأنه أتى بالجملة الاسمية الدالة على الثبات بخلاف الفعلية، فإنها تدل على التَّجدّد والحُدُوث، ولهذا يستقيم قولنا: الله موجود الآن، ولا يستقيم قولنا: اللَّهُ وجدَ الآن.
وأما إن قلنا: معناه حَسَناً، أو ذا سلامة، فمعناه قلتم حسناً وأنتم مُنْكرون فالتبس الأمر عليَّ.
وأما إن قلنا معناه المتاركة فمعناه سلَّمتم عليَّ، وأنا أمري متاركة لأني لا أعلم حالكم، ومنه: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ [الفرقان: ٦٣] وقال تعالى: ﴿فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ﴾ [الزخرف: ٨٩] لأن سلامتهم عن الجاهلين لا يمنع التعرض لهم، بخلاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمعناه سلم أمري متاركة إلى أن يأتي أمر الله. وتقدم تحرير نظير هذه الآية في سورة هُود.
وتقدم أيضاً خلاف القراء في سَلام بالنسبة إلى فتح سِينه وكسرِها، وإلى سكون لامه وفتحها.
وقُرِئَا مرفُوعَيْن. وقرئ سلاماً قَالوا سِلْماً بكسر السين الثاني ونصبه، ولا
83
يخفى توجيه ذلك بما تقدم في هود ودخلت الفاء ههنا إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول، بل جعلوا السلام عَقِيبَ الدخول.
قوله: «قَوْمٌ مُنْكَرُون» خبر مبتدأ مضمر، فَقدَّروه أنتم قَوْمٌ، ولم يَسْتَحْسِنْهُ بعضُهم؛ لأن فيه عدم أنس فمثله لا يقع من إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فالأولى أن يقدر هَؤلاءِ قومٌ، أو هُمْ قَوْمٌ، وتكون مقالته هذه مع أهل بيته وخاصته، لا لنفس الملائكة لأن ذلك يوحشهم.
وقال المفسرون: قوم منكرون أي غُرَبَاء ولا نعرفكم.
قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) قال في نفسه: هؤلاء قوم لا نَعرفهم. وقيل: إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
فإن قيل: قال في سورة هود: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ﴾ [هود: ٧٠] فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العِجْل إليهم وههنا قال: ﴿فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾، ثم قال: ﴿فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ﴾ بفاء التعقيب، وذلك يدل على تقريب الطعام منهم بعد حصول إنْكَارِهِ فما وجهه؟
فالجواب: أن يقال: لعلهم كانوا مخالفين لِصفة الناس في الشكل والهيئة، ولذلك قال: «قوم منكرون»، (أي) عند كل أحد (منا)، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار، لأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تَفَرَّد بمشاهدة إمساكهم فنَكِرَهُمْ فوق الإنكار الأول.
وحكاية الحال في سورة «هود» أبْسَطُ مما ذكره ههنا، فإن هَهنا لم يبين المُبَشَّر به، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم مَنْ، وهناك قال: قَوْم لوطٍ.

فصل


ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليمَ المُضِيفِ على الضَّيف، ولقاءَه بالوجه الحسن، والمبالغةَ في الإكرام بقوله: «سلام»، وهو آكد، وسلامهم بالمصدر، وفي قوله: سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلامٌ عليكم؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال: سلام أي أمري مُسَالمة، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل
84
الضيافة، فإن الفاء في قوله: «فَرَاغ» يدل على التعقيب وإخفائها لأن الرَّوَغَانَ يقتضي الإخفاء وغيبة المُضِيفِ عن الضَّيْف ليستريح، ويأتي بما يمنعه الحياء منه، ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله: «سَمِينٍ» ويُقَدِّم الطعام للضيف في مكانه لا ينقل الضيف للطعام لقوله: «فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ» ويَعْرض الأكل عليه لا يأمره لقوله: «أَلاَ تَأْكُلُونَ» ولم يقل: كُلُوا. وسروره بأكله كما يوجد في بعض البخلاء الذين يحضرون طعاماً كثيراً، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه، لقوله: ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ بعدم أكلهم.
ومن آداب الضيف إذا حضره الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضراً به، أو يكون ضَعِيفَ القوة عن هضم ذلك الطعام فلا يقول: هذا طعام غليظ لا يصلح لي بلْ يأتي بعبارة حسنة، ويقول: بي مانع من أكل الطعام، لأنهم أجابوه بقولهم: لا تخف، ولم يذكروا في الطعام شيئاً، ولا أنه يضّر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة، وبشروه بالأشرف وهو الذكر حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون.
ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال، لأن العلم أشرف الصفات ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّهُ دَفْعةً واحدة، لأنه يورث رِضَاهُم، لأنهم جلسوا، واستأنس بهم إبراهيم، ثم قالوا: نُبَشِّركُ.
وتقدم الكلام على فائدة تقديم البشارة.
قوله: «فَرَاغَ» أي عدل ومال «إلى أَهْلِهِ»، وقوله: «فَجَاءَ» عطف على «فَرَاغَ» وتسببه عنه واضح «بِعِجْلٍ سَمِينٍ» أي مشويّ كقوله في مكان آخر: ﴿بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود: ٦٩]. «فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ» ليأكلوا، فلم يأكلوا قَالَ أَلاَ تَأْكُلُون والهمزة في «أَلاَ تَأْكُلُونَ» للإنكار عليهم في عدم أكلهم، أو للعرض، أو للتحضيض.
﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ﴾.
85
قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ﴾ قيل: لم يكن ذلك إقبالاً من مكان إلى مكان، وإنما هو كقول القائل: أقبل يَشْتُمُنِي بمعنى أخذ في شَتْمِي، أي أخذت تُوَلْوِلُ، لقوله: ﴿قَالَتْ ياويلتى﴾ [هود: ٧٢]، وذلك أنها كانت مع زوجها في خدمتهم، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحت وأعرضت عنهم، فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل، ولم يقل بلفظ الإدبار عن الملائكة.
قوله: «فِي صَرَّةٍ» يجوز أن يكون حالاً من الفاعل أي كائنةً في صَرَّة. والصَّرة قيل: الصيحة، قال امرؤ القيس:
٤٥٢٧ - فَأَلْحَقْنَا بِالْهَادِيَاتِ وَدُونَهُ جَوَاحِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ
قال الزمخشري: من صَرَّ الجُنْدُبُ والبابُ والقلمُ، أي فصاحت كما جرت عادة النساء إذا سمعن شيئاً من أحوالهن يَصِحْنَ صيحةً معتادة لهن عند الاستحياء أو التعجب.
ويحتمل أن يقال: تلك الصيحة كانت بقولها: يَا وَيْلَتَا، ومحلّها النصب على الحال أي فجاءت صارةً.
ويجوز أن يتعلق ب «أَقْبَلَتْ» أي أقبلت في جماعة نسوةٍ كُنَّ معها، والصَّرة الجماعة من النساء.
قوله: «فَصَكَّتْ وَجْهَهَا» قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -: فلطمت وَجْهَهَا. واختلف في صفته فقيل: هو الضرب باليد مبسوطةً. وقيل: بل ضرب الوجه بأطرافِ الأصابع فعل المتعجِّب، وهو عادة النساء إذا أنكرنَ شيئاً. وأصل الصكّ ضرب الشيء بالشيء العَريض.
قوله: «عَجُوزٌ» خبر مبتدأ مضمر أي أنا عجوزٌ عقيمٌ فكيف ألد؟ وتفسرها الآية الأخرى، فاستبعدت ذلك ظنًّا منها أن ذلك منهم على سبيل الدعاء، فكأنها قالت: يا ليتكم دعوتم دعاء قريباً من الإجابة، فأجابوها بأن ذلك من الله تعالى، وأن هذا ليس
86
بدعاء، وإنما هو قول الله ﴿كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ ثم دفعوا استبعادها بقولهم: ﴿إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم﴾.
قوله: «كَذَلِك» منصوب على المصدر ب «قَالَ» الثانية أي مثلُ ذلك القول الذي أخبرناكِ به قال ربُّك، أي إنه من جهة الله فلا تعجبي منه.
قال ابن الخطيب: وقال ههنا: الحكيم العليم وفي سورة (هود) : إنَّهُ حَميدٌ مجيدٌ؛ لأن الحكاية في هود أبسطُ فذكروا ما يدفع استبعادها بقولهم:
﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله﴾ [هود: ٧٣]، ثم أرشدوها إلى القيام بشكر نعم الله بقولهم: «حَمِيدٌ» فإن الحميد هو الذي يفعل الأفعال الحسنة، والمجيد إشارة إلى أنه لا يحمد لفعله وإنما يحمد لذاته.
وههنا لما لم يقولوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله أَشَارُوا إلى ما يدفع تعجبها بقولهم: «حكيم عليم». فالحميد يتعلق بالفعل، والمجيد يتعلق بالذات، وكذلك الحكيم هو الذي فعله قاصداً إليه، فإن من يتقلب في النوم على حية فماتت لا يعد حكيماً، وأما إذا قصد قتلها بحيث يسلم من نهشها، يقال: إنه حكيم والعليم صفة راجعة إلى الذات، فقدم وصف الفعل وارتقى درجة إلى وصف الذات إشارة إلى أنه يستحق الحمد وإن لم يفعل فعلاً.
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون﴾ هذا أيضاً من آداب المُضِيف، إذا بادر الضيف إلى الخروج قال له: ما هذه العَجَلَةُ؟ وما شَأنُك؟ لأن في سُكُوته ما يوهم باسْتِثْقَالهم ثم إنّهم أتوا بما هو من أدب الصديق الذي لا يسر عن الصديق شيئاً، وكان ذلك بإذن الله لهم في إطلاع إبراهيم على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
فإن قيل: فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولِمَ لا قال: مَا هَذَا الاستعجال؟ ومَا خَطْبكُم المعجل لكم؟
فالجواب: أنه لما أوجسَ منهم خيفةً أو خرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئاً فلما أَنِسُوه قال: ما خَطْبُكُم أي بعد هذا الأُنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم!
87

فصل


والخَطْب يُسْتَعْمل في الأمر العظيم، ولذلك قال: فَمَا خَطْبُكُم أي لعظمتكم لا ترسلون إلاَّ في أمر عظيم، ولو قال بلفظ مركب بأن يقول: ما شُغْلكم الخَطِيرُ وأمركم العظيم للزم التطويل فالخَطْبُ أفاد التعظيم مع الإيجاز وعرف أنهم مرسلون بقولهم: «إِنَّا أُرْسِلْنَا» أو بقولهم لامرأته: ﴿كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ لحكايتهم قول الله تعالى.
وقالوا في سورة هود: ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: ٧٠] وقالوا هنا: ﴿إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾، لأن الحكاية عن معنى قولهم.
ويحتمل أنهم قالوا الأمرين ولما حكى لفظهم في السلام أتى في الموضعين بصفة واحدة.
والمُجْرم قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : هو المشرك، لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.
قال ابن الخطيب: المُجْرم هو الآتي بالذنب العظيم، لأن المجرم فيه دلالة على العظيم ومنه جُرْم الشيء لِعظَمِهِ ومقْدَاره.
قوله: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ﴾ فيه دليل على رَجْم اللائط. والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم، أنَّ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما هلك النُّمْرُود بالبَعُوض، وكما أُهْلِكَ بالقُمَّل والجَرَاد بل بالرِّيح التي بها الحياة إظهاراً للقدرة، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أُمِرَ خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهاراً لعظيم قدرته.
وقوله: «مِنْ طِينٍ» أي ليست من البَرَدِ والفاعلُ لذلك هُو اللَّهُ تعالى لا كما يقول الحكماء فإنهم يقولون: إن البَرَد يسمى حجارة فقوله: «مِنْ طِينٍ» يدفع ذلك التَّوَهُّمَ.
قال ابن الخطيب: إن بعض من يَدَّعي العَقل (يقول) : لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوَّرات على هيئة البَرد وهيئة البَنَادِق التي يتخذها الرماة، قالوا: وسبب ذلك أن الإعصار يصعد الغُبَار من الفلَوَاتِ العظيمة التي لا عِمَارَةَ فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق (وصول) ذلك إلى هواء نَدِيّ فيصير طيناً رَطْباً، والرطب إذا نزل وتفرق استدار بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كراتٍ
88
مُدَوَّرَاتٍ كاللآلئِ الكِبَار ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو جعلته حجارة كالآجُرّ المطبوخ فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عِمارة بها، فلا يُرى ولا يُدْرَى به فلهذا قال: «مِنْ طينٍ» لأ (نَّ) ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر، وهذا تعسُّف، لأن ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر لزم التسلسل، ولا بدّ من الانتهاء إلى محدِث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلاً مختاراً، والمختار له أن يفعل وله أن يَخْلُق الحِجَارة من طين على وجه آخر من غير نارٍ ولا غبارٍ، لكن العَقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه فلا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أن نُزُول حجارة من الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها.
قوله: «مُسَوَّمَةً» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على النَّعت لِحَجَارةٍ.
الثاني: أنه حال من الضمير المستكنِّ في الجارِّ قبله.
الثالث: أنه حال من «حجارة»، وحسَّنَ ذلك كونُ النكرة وُصِفَتْ بالجارِّ بعدها.
ومعنى مسومة قيل: على كل حجر منها اسم صاحبه. وقيل: خلقت وأعدت لتعذيبهم. وقيل: مُرْسَلَة للمجرمين؛ لأن الإرسال يقال في التسويم، يقال أرسلها لِتَرْعَى، كما قيل في الخيل المُسَوَّمَةِ أي مستغنى عنها.
قوله: «عِنْد رَبِّكَ» ظرف «لمُسومَةٍ» أي معلَّمة عنده «والمُسْرِفُ» المتمادي ولو في الصغائر فهم مجرمُون مُسْرفُونَ.
وهنا لطيفة وهي أن الحجارة سُومِّتْ للمسرف المُصِرّ الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى، فلذلك قال: ﴿عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ ولما كان الإجرام ظاهراً قالوا: ﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ واللام في «المسرفين» لتعريف العهد، أي لِهؤلاء المسرفين؛ إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوَّمة.
وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يَسْبِقْهم به أحدٌ من العَالَمِين.
قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين﴾ هذه الآية تدل على بيان القدرة
89
والاختيار، لأنه تعالى لما ميز المجرمَ عن المحسن يدل على الاختيار وأيضاً فيها بيان أن بِبَركَة المحسن ينجو المسيء، فإن القرية ما دام فيها المؤمنون لم تَهْلَكْ. والضمير في «فِيهَا» عائد على القرية وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة.
والمعنى: فأَخَرجْنا من كان في قُرَى قومِ لوط من المؤمنين، وذلك قوله: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل﴾ [الحجر: ٦٥].
وقوله: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ يعني لوطاً وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم، وفيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب، والفِسْقَ إذا فَشَا لا ينفع معه عبادة المؤمنين، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة، وفيهم شِرْذِمَةٌ يسيرة يسرقون ويزنون، ومثاله أن العالم كالبَدَن، ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والسموم الواردة عليه الضارة ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه الضارّ هلك وإن خلا عن الضار وفيه النافع طاب ونما، وإن وُجِدَا فيه فالحكم للغالب.
وإذا علم أن إطلاق العَامّ على الخَاصِّ لا مانع منه، لأن المسلم أعمّ من المؤمن فإذا سمي المؤمن مسلماً، لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال: أخرجنا المؤمنين، فما وجدنا الأعمَّ منهم إلا بَيْتاً من المسلمين، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.
قوله: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً﴾ يجوز أن يعود الضمير على القَرْية، أي تركنا في القرية علامةً أي عِبرة كالحجارة أو الماء المنتن ويجوز أن يعود على الإهلاكة المفهومة من السِّياق.
وقوله: «لِلَّذِينَ يَخَافُونَ» أي ما ينتفع بها إلا الخائف، كقوله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٣٥] ومعنى الآية: أن «الآية» تدلهم على أن الله تعالى أهلكهم فيخافون مثل عذابهم.
90
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤:قوله تعالى :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكرمين ﴾ هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتيسير له بالفرج، وسَمَّاهُمْ ضَيْفاً، لأنه حسبهم كذَلك، ويقع على الواحد والجمع، لأنه مصدر وسمَّاهم مُكْرَمين أي عند الله أو لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أكرمهم بأن عَجَّل قِرَاهُم، وأجلسهم في أكرم المواضع واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي - عليه الصلاة والسلام - مأموراً بأن يتبع ملته، كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ [ النحل : ١٢٣ ]. وقيل : سماهم مكرمين لأنهم كانوا ضيف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ( وكان١ إبراهيم أَكرمَ الخليقة، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نُجَيْح - عن مجاهد - : لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خدمهم بنفسه ) وعن ابن عباس : سماهم مكرمين لأنهم جاءوا غير مَدْعُوِّينَ، وقال عليه الصلاة والسلام :«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ »٢.
فإن قيل : إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار، فأي فائدة في حكاية الضيافة ؟
فالجواب : ليكون ذلك إشارة إلى أنَّ الفرجَ في حق الأنبياء، والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا، كقوله تعالى :﴿ فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الزمر : ٢٥ ]، فلم يكن عند إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خبرٌ من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته وقد تقدم عددهم في سورة هود٣.
قوله تعالى :﴿ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ ﴾ العامل في «إذْ » أَوْجُهٌ :
أحدها : أنه «حديث » أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه.
الثاني : أنه منصوب بما في «ضَيْف » من معنى الفعل، لأنه في الأصل مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد المذكور٤ وغيره، كأنه قيل : الَّذِينَ أَضَافَهُمْ في وقت دخولهم عليه.
الثالث : أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أنَّ إبراهيم أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول : أُكْرِمُوا إذ دَخَلُوا.
الرابع : أنه منصوب بإضمار «اذْكُرْ » ولا يجوز نصبه ب «أَتَاكَ » لاختلاف الزَّمَانَيْنِ٥.
وقرأ العامة المُكْرَمِينَ - بتخفيف الراء - من أَكْرَمَ، وعكرمة : بالتشديد٦.
فإن قيل : أرسلوا بالعذاب بدليل قولهم :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٢ ] فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - شيخ المرسلين، ولوط من قومه، ومن عادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له : اعبر على فلان الملك، وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه.
الثاني : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمة عظيمة وكان ذلك مما يُحْزن إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - شفقةً منه على العباد فقال ( لهم )٧ بَشّروه بغلامٍ يخرج من صلبه أضعاف من٨ يَهْلَكُ، ويكون من صلبه خروج الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام ٩-.
قوله :﴿ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ ﴾ العامة على نصب «سلاماً » الأول، ورفع الثاني. فأما نصب الأول فالمشهور أن السلام التحية أي نُسَلِّم سلاماً١٠. ويحتمل أن «سلاماً » معناه حَسَناً أي قالوا كلاماً حسناً ؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يَلْغُو أو يأثم فكأنهم قالوا قولاً حسناً سَلِموا به من الإثم فيكون مفعولاً به لأنه في معنى القول١١، كما قيل في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]، أو هو مفعول بفعل محذوف، أي نُبَلِّغُكَ سَلاَماً١٢.
ولم يقولوا من الله شفقة على قلب إبراهيم فأتوا به مجملاً، ثم فسروه بعْدَ ذلك.
وأما رفع الثاني فالمشهور أنه التحية، فهو مبتدأ، وخبره محذوف أي عَلَيْكُمْ، ويحتمل أنه السلامة، أي أَمْرِي سَلاَمٌ لأني لا أعرفكم، أو قولُكُم سَلاَمٌ١٣، أي ينبئ عن السلامة وأنتم قوم منكرون فَما خَطْبُكُمْ ؟
وأما الفرق بين النصب والرفع، فإن حملنا السلام على التّحية، فإنه مُبتدأ مع أنه نكرة تنبيهاً على أصله، لأنه النصب، لأن المعنى أسَلِّمُ سلاماً و«عَلَيْكُمْ » لبيان المسلَّم عليه، لا حظَّ له في الإعراب١٤.
وأصل الكلام أسلم سلاماً، فالنصب أصل، فقدم على الرفع الذي هو فرع، وأيضاً فرد ( إبراهيم )١٥ أبلع لأنه أتى بالجملة الاسمية الدالة على الثبات بخلاف الفعلية، فإنها تدل على التَّجدّد والحُدُوث، ولهذا يستقيم قولنا : الله موجود الآن، ولا يستقيم قولنا : اللَّهُ وجدَ الآن.
وأما إن قلنا : معناه حَسَناً، أو ذا سلامة، فمعناه قلتم حسناً وأنتم مُنْكرون فالتبس الأمر عليَّ١٦.
وأما إن قلنا معناه المتاركة فمعناه سلَّمتم عليَّ، وأنا أمري متاركة لأني لا أعلم حالكم، ومنه :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ وقال تعالى :﴿ فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ ﴾ [ الزخرف : ٨٩ ] لأن سلامتهم عن الجاهلين لا يمنع التعرض لهم، بخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - فمعناه سلم أمري متاركة إلى أن يأتي أمر الله١٧. وتقدم تحرير نظير هذه الآية في سورة هُود١٨.
وتقدم أيضاً خلاف القراء في سَلام١٩ بالنسبة إلى فتح سِينه وكسرِها، وإلى سكون لامه وفتحها.
وقُرِئَا مرفُوعَيْن٢٠. وقرئ سلاماً قَالوا سِلْماً بكسر السين الثاني ونصبه٢١، ولا يخفى توجيه ذلك بما تقدم في هود ودخلت الفاء ههنا إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول، بل جعلوا السلام عَقِيبَ الدخول.
قوله :«قَوْمٌ مُنْكَرُون » خبر مبتدأ مضمر، فَقدَّروه أنتم قَوْمٌ، ولم يَسْتَحْسِنْهُ بعضُهم٢٢ ؛ لأن فيه عدم أنس فمثله لا يقع من إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، فالأولى أن يقدر هَؤلاءِ قومٌ، أو هُمْ قَوْمٌ٢٣، وتكون مقالته هذه مع أهل بيته وخاصته، لا لنفس الملائكة لأن ذلك يوحشهم٢٤.
وقال المفسرون : قوم منكرون أي غُرَبَاء ولا نعرفكم.
قال ابن عباس - ( رضي الله٢٥ عنهما - ) قال في نفسه : هؤلاء قوم لا نَعرفهم. وقيل : إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض٢٦.
فإن قيل : قال في سورة هود :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ﴾ فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العِجْل إليهم وههنا قال :﴿ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾.
ثم قال :﴿ فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ ﴾ بفاء التعقيب، وذلك يدل على تقريب الطعام منهم بعد حصول إنْكَارِهِ فما وجهه ؟
فالجواب : أن يقال : لعلهم كانوا مخالفين لِصفة الناس في الشكل والهيئة، ولذلك قال :«قوم منكرون »، ( أي ) عند كل أحد ( منا )، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار، لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - تَفَرَّد بمشاهدة إمساكهم فنَكِرَهُمْ فوق الإنكار الأول٢٧.
وحكاية الحال في سورة «هود » أبْسَطُ مما ذكره ههنا، فإن هَهنا لم يبين المُبَشَّر به، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم مَنْ، وهناك قال : قَوْم لوطٍ٢٨.

فصل


ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليمَ المُضِيفِ على الضَّيف، ولقاءَه بالوجه الحسن، والمبالغةَ في الإكرام بقوله :«سلام »، وهو آكد، وسلامهم بالمصدر، وفي قوله : سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلامٌ عليكم ؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال : سلام أي أمري مُسَالمة، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل الضيافة، فإن الفاء في قوله :«فَرَاغ » يدل على التعقيب وإخفائها لأن الرَّوَغَانَ يقتضي الإخفاء وغيبة المُضِيفِ عن الضَّيْف ليستريح، ويأتي بما يمنعه الحياء منه، ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله :«سَمِينٍ » ويُقَدِّم الطعام للضيف في مكانه لا ينقل الضيف للطعام لقوله :«فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ » ويَعْرض الأكل عليه لا يأمره لقوله :«أَلاَ تَأْكُلُونَ » ولم يقل : كُلُوا. وسروره بأكله كما يوجد في بعض البخلاء٢٩ الذين يحضرون طعاماً كثيراً، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه، لقوله :﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ بعدم أكلهم٣٠.
ومن آداب الضيف إذا حضره الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضراً به، أو يكون ضَعِيفَ القوة عن هضم ذلك الطعام فلا يقول : هذا طعام غليظ لا يصلح لي بلْ يأتي بعبارة حسنة، ويقول : بي مانع من أكل الطعام، لأنهم أجابوه بقولهم : لا تخف، ولم يذكروا في الطعام شيئاً، ولا أنه يضّر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة، وبشروه بالأشرف وهو الذكر حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون.
ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال، لأن العلم أشرف الصفات ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّهُ دَفْعةً واحدة، لأنه يورث رِضَاهُم٣١، لأنهم جلسوا، واستأنس بهم إبراهيم، ثم قالوا : نُبَشِّركُ. وتقدم الكلام على فائدة تقديم البشارة٣٢.
قوله :«فَرَاغَ » أي عدل ومال٣٣ «إلى أَهْلِهِ »، وقوله :«فَجَاءَ » عطف على «فَرَاغَ » وتسببه عنه واضح «بِعِجْلٍ سَمِينٍ » أي مشويّ كقوله في مكان آخر :﴿ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [ هود : ٦٩ ]. «فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ » ليأكلوا، فلم يأكلوا قَالَ أَلاَ تَأْكُلُون والهمزة في «أَلاَ تَأْكُلُونَ » للإنكار عليهم في عدم أكلهم، أو للعرض، أو للتحضيض٣٤.
١ ما بين القوسين ساقط من أ وموجود في ب..
٢ وانظر: البغوي والخازن السابقين والقرطبي ١٧/٤٤ و٤٥..
٣ من الآية ٦٩ منها. قيل: جاءه جبريل ومعه ملكان وهو مروي عن ابن عباس. وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: كانوا تسعة، وعن السدي: أحد عشر. وانظر اللباب ٤/٥٧ ب والكشاف ٢/٢٨٠..
٤ في ب المذكر..
٥ زمان الأتي والدخول. وانظر: البحر ٨/١٣٨ والكشاف ٤/١٧ والتبيان ١١٨١..
٦ البحر المرجع السابق وهي شاذة..
٧ سقط من ب..
٨ في الرازي: ما..
٩ وانظر: تفسير الرازي ٢٨/٢١٠ و٢١١..
١٠ قال بذلك مكي في المشكل ٢/٣٢٤ والرازي ٢٨/٢١١ والزمخشري في الكشاف ٤/١٧ والزجاج في المعاني ٥/٥٥ والقرطبي ١٧/٣٤ والتبيان ٧٠٥..
١١ وهو قول الإمام الرازي في تفسيره السابق وهو قول مكي أيضا في المشكل حيث قال: "أو بوقوع القول عليه" وانظر المشكل السابق أيضا..
١٢ قاله الرازي أيضا وهو نفس رأي ابن عطية فيما نقله عنه أبو حيان في البحر ٨/١١٩ لكنه جعل سلاما بمعنى قولا ويكون المعنى قالوا تحية وقولا معناه سلاما. وانظر البحر السابق..
١٣ المشكل والرازي السابقين والقرطبي ١٧/٤٥..
١٤ في الرازي: في المعنى غير ذلك البيان..
١٥ سقط من ب..
١٦ وهذه التفصيلات كلها نقلها المؤلف بالمعنى عن الرازي ٢٨/٢١٢..
١٧ بالمعنى من الرازي السابق، فقد قال: وأما النبي –صلى الله عليه وسلم- لو سلم عليهم لصار ذلك سببا لحرمة التعرض إليهم فقال: قل سلام أي أمري معكم متاركة تركناه إلى أن يأتي أمر الله بأمر. وانظر: الرازي ٢٨/٢١٣ و٢١٢..
١٨ اللباب الأسبق..
١٩ قراءة ابن وثاب والنخعيّ وابن جبير وطلحة قال: سلم بكسر السّين وإسكان اللام، والمعنى نحن سِلم، أو أنتم سلم وتلك قراءة كوفية وهي من الأربع عشرة فوق المتواترة وانظر الإتحاف ٣٩٩ وقد نسبت لحمزة والكسائي في الإتحاف..
٢٠ لم أعرف من قرأ هكذا وانظر: البحر ٨/١٣٩ والكشاف ٤/١٧، وهي شاذة وحينئذ يكون الرفع على ما مرّ من رفع "سلام" والثانية فمن الإمكان أن تكون ابتداء والخبر محذوف أي سلام عليك أو خبرا لابتداء محذوف معناه قالوا أمرنا سلام..
٢١ البحر والكشاف السابقين. ولم يحدّدا من قرأ بها..
٢٢ لعله أبو حيان فتلك العبارات عباراته في البحر ٨/١٣٩..
٢٣ المرجع السابق..
٢٤ المرجع السابق بالمعنى..
٢٥ زيادة من أ..
٢٦ البغوي ٦/٢٤٤ و٢٤٥..
٢٧ المرجع السابق..
٢٨ المرجع السابق..
٢٩ العبارة هنا قلقة وعبارة الرازي –مصدر المؤلف- هي الأوضح حيث يقول: ثم كون المضيف مسرورا بأكلهم غير مسرور تبركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين.... الخ..
٣٠ هذه كلها آداب المضيف..
٣١ في ب وهو كما في الرازي: مرضا بدل رضاهم وهو الأصح..
٣٢ ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف ويأتي ببدلهم خيرا منهم. وانظر: الرازي المرجع السابق ٢٨/٢١٤، وهذا الذي ذكره المؤلف استقاه من تفسير التفسير الكبير ٢٨/٢١٤ و٢١٥ بالمعنى..
٣٣ قاله أبو عبيدة في المجاز ٢/٢٢٦، وابن قتيبة في الغريب ٤٢١..
٣٤ الكشاف ٤/١٨ والبحر ٨/١٣٩ وإذا كانت الهمزة للإنكار يفهم أن هناك محذوفا تقديره: فامتنعوا عن الأكل فأنكر عليهم ذلك..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤:قوله تعالى :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكرمين ﴾ هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتيسير له بالفرج، وسَمَّاهُمْ ضَيْفاً، لأنه حسبهم كذَلك، ويقع على الواحد والجمع، لأنه مصدر وسمَّاهم مُكْرَمين أي عند الله أو لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أكرمهم بأن عَجَّل قِرَاهُم، وأجلسهم في أكرم المواضع واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي - عليه الصلاة والسلام - مأموراً بأن يتبع ملته، كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ [ النحل : ١٢٣ ]. وقيل : سماهم مكرمين لأنهم كانوا ضيف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ( وكان١ إبراهيم أَكرمَ الخليقة، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نُجَيْح - عن مجاهد - : لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خدمهم بنفسه ) وعن ابن عباس : سماهم مكرمين لأنهم جاءوا غير مَدْعُوِّينَ، وقال عليه الصلاة والسلام :«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ »٢.
فإن قيل : إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار، فأي فائدة في حكاية الضيافة ؟
فالجواب : ليكون ذلك إشارة إلى أنَّ الفرجَ في حق الأنبياء، والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا، كقوله تعالى :﴿ فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الزمر : ٢٥ ]، فلم يكن عند إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خبرٌ من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته وقد تقدم عددهم في سورة هود٣.
قوله تعالى :﴿ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ ﴾ العامل في «إذْ » أَوْجُهٌ :
أحدها : أنه «حديث » أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه.
الثاني : أنه منصوب بما في «ضَيْف » من معنى الفعل، لأنه في الأصل مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد المذكور٤ وغيره، كأنه قيل : الَّذِينَ أَضَافَهُمْ في وقت دخولهم عليه.
الثالث : أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أنَّ إبراهيم أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول : أُكْرِمُوا إذ دَخَلُوا.
الرابع : أنه منصوب بإضمار «اذْكُرْ » ولا يجوز نصبه ب «أَتَاكَ » لاختلاف الزَّمَانَيْنِ٥.
وقرأ العامة المُكْرَمِينَ - بتخفيف الراء - من أَكْرَمَ، وعكرمة : بالتشديد٦.
فإن قيل : أرسلوا بالعذاب بدليل قولهم :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٢ ] فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - شيخ المرسلين، ولوط من قومه، ومن عادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له : اعبر على فلان الملك، وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه.
الثاني : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمة عظيمة وكان ذلك مما يُحْزن إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - شفقةً منه على العباد فقال ( لهم )٧ بَشّروه بغلامٍ يخرج من صلبه أضعاف من٨ يَهْلَكُ، ويكون من صلبه خروج الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام ٩-.
قوله :﴿ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ ﴾ العامة على نصب «سلاماً » الأول، ورفع الثاني. فأما نصب الأول فالمشهور أن السلام التحية أي نُسَلِّم سلاماً١٠. ويحتمل أن «سلاماً » معناه حَسَناً أي قالوا كلاماً حسناً ؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يَلْغُو أو يأثم فكأنهم قالوا قولاً حسناً سَلِموا به من الإثم فيكون مفعولاً به لأنه في معنى القول١١، كما قيل في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]، أو هو مفعول بفعل محذوف، أي نُبَلِّغُكَ سَلاَماً١٢.
ولم يقولوا من الله شفقة على قلب إبراهيم فأتوا به مجملاً، ثم فسروه بعْدَ ذلك.
وأما رفع الثاني فالمشهور أنه التحية، فهو مبتدأ، وخبره محذوف أي عَلَيْكُمْ، ويحتمل أنه السلامة، أي أَمْرِي سَلاَمٌ لأني لا أعرفكم، أو قولُكُم سَلاَمٌ١٣، أي ينبئ عن السلامة وأنتم قوم منكرون فَما خَطْبُكُمْ ؟
وأما الفرق بين النصب والرفع، فإن حملنا السلام على التّحية، فإنه مُبتدأ مع أنه نكرة تنبيهاً على أصله، لأنه النصب، لأن المعنى أسَلِّمُ سلاماً و«عَلَيْكُمْ » لبيان المسلَّم عليه، لا حظَّ له في الإعراب١٤.
وأصل الكلام أسلم سلاماً، فالنصب أصل، فقدم على الرفع الذي هو فرع، وأيضاً فرد ( إبراهيم )١٥ أبلع لأنه أتى بالجملة الاسمية الدالة على الثبات بخلاف الفعلية، فإنها تدل على التَّجدّد والحُدُوث، ولهذا يستقيم قولنا : الله موجود الآن، ولا يستقيم قولنا : اللَّهُ وجدَ الآن.
وأما إن قلنا : معناه حَسَناً، أو ذا سلامة، فمعناه قلتم حسناً وأنتم مُنْكرون فالتبس الأمر عليَّ١٦.
وأما إن قلنا معناه المتاركة فمعناه سلَّمتم عليَّ، وأنا أمري متاركة لأني لا أعلم حالكم، ومنه :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ وقال تعالى :﴿ فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ ﴾ [ الزخرف : ٨٩ ] لأن سلامتهم عن الجاهلين لا يمنع التعرض لهم، بخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - فمعناه سلم أمري متاركة إلى أن يأتي أمر الله١٧. وتقدم تحرير نظير هذه الآية في سورة هُود١٨.
وتقدم أيضاً خلاف القراء في سَلام١٩ بالنسبة إلى فتح سِينه وكسرِها، وإلى سكون لامه وفتحها.
وقُرِئَا مرفُوعَيْن٢٠. وقرئ سلاماً قَالوا سِلْماً بكسر السين الثاني ونصبه٢١، ولا يخفى توجيه ذلك بما تقدم في هود ودخلت الفاء ههنا إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول، بل جعلوا السلام عَقِيبَ الدخول.
قوله :«قَوْمٌ مُنْكَرُون » خبر مبتدأ مضمر، فَقدَّروه أنتم قَوْمٌ، ولم يَسْتَحْسِنْهُ بعضُهم٢٢ ؛ لأن فيه عدم أنس فمثله لا يقع من إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، فالأولى أن يقدر هَؤلاءِ قومٌ، أو هُمْ قَوْمٌ٢٣، وتكون مقالته هذه مع أهل بيته وخاصته، لا لنفس الملائكة لأن ذلك يوحشهم٢٤.
وقال المفسرون : قوم منكرون أي غُرَبَاء ولا نعرفكم.
قال ابن عباس - ( رضي الله٢٥ عنهما - ) قال في نفسه : هؤلاء قوم لا نَعرفهم. وقيل : إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض٢٦.
فإن قيل : قال في سورة هود :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ﴾ فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العِجْل إليهم وههنا قال :﴿ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾.
ثم قال :﴿ فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ ﴾ بفاء التعقيب، وذلك يدل على تقريب الطعام منهم بعد حصول إنْكَارِهِ فما وجهه ؟
فالجواب : أن يقال : لعلهم كانوا مخالفين لِصفة الناس في الشكل والهيئة، ولذلك قال :«قوم منكرون »، ( أي ) عند كل أحد ( منا )، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار، لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - تَفَرَّد بمشاهدة إمساكهم فنَكِرَهُمْ فوق الإنكار الأول٢٧.
وحكاية الحال في سورة «هود » أبْسَطُ مما ذكره ههنا، فإن هَهنا لم يبين المُبَشَّر به، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم مَنْ، وهناك قال : قَوْم لوطٍ٢٨.

فصل


ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليمَ المُضِيفِ على الضَّيف، ولقاءَه بالوجه الحسن، والمبالغةَ في الإكرام بقوله :«سلام »، وهو آكد، وسلامهم بالمصدر، وفي قوله : سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلامٌ عليكم ؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال : سلام أي أمري مُسَالمة، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل الضيافة، فإن الفاء في قوله :«فَرَاغ » يدل على التعقيب وإخفائها لأن الرَّوَغَانَ يقتضي الإخفاء وغيبة المُضِيفِ عن الضَّيْف ليستريح، ويأتي بما يمنعه الحياء منه، ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله :«سَمِينٍ » ويُقَدِّم الطعام للضيف في مكانه لا ينقل الضيف للطعام لقوله :«فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ » ويَعْرض الأكل عليه لا يأمره لقوله :«أَلاَ تَأْكُلُونَ » ولم يقل : كُلُوا. وسروره بأكله كما يوجد في بعض البخلاء٢٩ الذين يحضرون طعاماً كثيراً، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه، لقوله :﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ بعدم أكلهم٣٠.
ومن آداب الضيف إذا حضره الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضراً به، أو يكون ضَعِيفَ القوة عن هضم ذلك الطعام فلا يقول : هذا طعام غليظ لا يصلح لي بلْ يأتي بعبارة حسنة، ويقول : بي مانع من أكل الطعام، لأنهم أجابوه بقولهم : لا تخف، ولم يذكروا في الطعام شيئاً، ولا أنه يضّر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة، وبشروه بالأشرف وهو الذكر حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون.
ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال، لأن العلم أشرف الصفات ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّهُ دَفْعةً واحدة، لأنه يورث رِضَاهُم٣١، لأنهم جلسوا، واستأنس بهم إبراهيم، ثم قالوا : نُبَشِّركُ. وتقدم الكلام على فائدة تقديم البشارة٣٢.
قوله :«فَرَاغَ » أي عدل ومال٣٣ «إلى أَهْلِهِ »، وقوله :«فَجَاءَ » عطف على «فَرَاغَ » وتسببه عنه واضح «بِعِجْلٍ سَمِينٍ » أي مشويّ كقوله في مكان آخر :﴿ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [ هود : ٦٩ ]. «فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ » ليأكلوا، فلم يأكلوا قَالَ أَلاَ تَأْكُلُون والهمزة في «أَلاَ تَأْكُلُونَ » للإنكار عليهم في عدم أكلهم، أو للعرض، أو للتحضيض٣٤.
١ ما بين القوسين ساقط من أ وموجود في ب..
٢ وانظر: البغوي والخازن السابقين والقرطبي ١٧/٤٤ و٤٥..
٣ من الآية ٦٩ منها. قيل: جاءه جبريل ومعه ملكان وهو مروي عن ابن عباس. وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: كانوا تسعة، وعن السدي: أحد عشر. وانظر اللباب ٤/٥٧ ب والكشاف ٢/٢٨٠..
٤ في ب المذكر..
٥ زمان الأتي والدخول. وانظر: البحر ٨/١٣٨ والكشاف ٤/١٧ والتبيان ١١٨١..
٦ البحر المرجع السابق وهي شاذة..
٧ سقط من ب..
٨ في الرازي: ما..
٩ وانظر: تفسير الرازي ٢٨/٢١٠ و٢١١..
١٠ قال بذلك مكي في المشكل ٢/٣٢٤ والرازي ٢٨/٢١١ والزمخشري في الكشاف ٤/١٧ والزجاج في المعاني ٥/٥٥ والقرطبي ١٧/٣٤ والتبيان ٧٠٥..
١١ وهو قول الإمام الرازي في تفسيره السابق وهو قول مكي أيضا في المشكل حيث قال: "أو بوقوع القول عليه" وانظر المشكل السابق أيضا..
١٢ قاله الرازي أيضا وهو نفس رأي ابن عطية فيما نقله عنه أبو حيان في البحر ٨/١١٩ لكنه جعل سلاما بمعنى قولا ويكون المعنى قالوا تحية وقولا معناه سلاما. وانظر البحر السابق..
١٣ المشكل والرازي السابقين والقرطبي ١٧/٤٥..
١٤ في الرازي: في المعنى غير ذلك البيان..
١٥ سقط من ب..
١٦ وهذه التفصيلات كلها نقلها المؤلف بالمعنى عن الرازي ٢٨/٢١٢..
١٧ بالمعنى من الرازي السابق، فقد قال: وأما النبي –صلى الله عليه وسلم- لو سلم عليهم لصار ذلك سببا لحرمة التعرض إليهم فقال: قل سلام أي أمري معكم متاركة تركناه إلى أن يأتي أمر الله بأمر. وانظر: الرازي ٢٨/٢١٣ و٢١٢..
١٨ اللباب الأسبق..
١٩ قراءة ابن وثاب والنخعيّ وابن جبير وطلحة قال: سلم بكسر السّين وإسكان اللام، والمعنى نحن سِلم، أو أنتم سلم وتلك قراءة كوفية وهي من الأربع عشرة فوق المتواترة وانظر الإتحاف ٣٩٩ وقد نسبت لحمزة والكسائي في الإتحاف..
٢٠ لم أعرف من قرأ هكذا وانظر: البحر ٨/١٣٩ والكشاف ٤/١٧، وهي شاذة وحينئذ يكون الرفع على ما مرّ من رفع "سلام" والثانية فمن الإمكان أن تكون ابتداء والخبر محذوف أي سلام عليك أو خبرا لابتداء محذوف معناه قالوا أمرنا سلام..
٢١ البحر والكشاف السابقين. ولم يحدّدا من قرأ بها..
٢٢ لعله أبو حيان فتلك العبارات عباراته في البحر ٨/١٣٩..
٢٣ المرجع السابق..
٢٤ المرجع السابق بالمعنى..
٢٥ زيادة من أ..
٢٦ البغوي ٦/٢٤٤ و٢٤٥..
٢٧ المرجع السابق..
٢٨ المرجع السابق..
٢٩ العبارة هنا قلقة وعبارة الرازي –مصدر المؤلف- هي الأوضح حيث يقول: ثم كون المضيف مسرورا بأكلهم غير مسرور تبركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين.... الخ..
٣٠ هذه كلها آداب المضيف..
٣١ في ب وهو كما في الرازي: مرضا بدل رضاهم وهو الأصح..
٣٢ ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف ويأتي ببدلهم خيرا منهم. وانظر: الرازي المرجع السابق ٢٨/٢١٤، وهذا الذي ذكره المؤلف استقاه من تفسير التفسير الكبير ٢٨/٢١٤ و٢١٥ بالمعنى..
٣٣ قاله أبو عبيدة في المجاز ٢/٢٢٦، وابن قتيبة في الغريب ٤٢١..
٣٤ الكشاف ٤/١٨ والبحر ٨/١٣٩ وإذا كانت الهمزة للإنكار يفهم أن هناك محذوفا تقديره: فامتنعوا عن الأكل فأنكر عليهم ذلك..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤:قوله تعالى :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكرمين ﴾ هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتيسير له بالفرج، وسَمَّاهُمْ ضَيْفاً، لأنه حسبهم كذَلك، ويقع على الواحد والجمع، لأنه مصدر وسمَّاهم مُكْرَمين أي عند الله أو لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أكرمهم بأن عَجَّل قِرَاهُم، وأجلسهم في أكرم المواضع واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي - عليه الصلاة والسلام - مأموراً بأن يتبع ملته، كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ [ النحل : ١٢٣ ]. وقيل : سماهم مكرمين لأنهم كانوا ضيف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ( وكان١ إبراهيم أَكرمَ الخليقة، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نُجَيْح - عن مجاهد - : لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خدمهم بنفسه ) وعن ابن عباس : سماهم مكرمين لأنهم جاءوا غير مَدْعُوِّينَ، وقال عليه الصلاة والسلام :«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ »٢.
فإن قيل : إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار، فأي فائدة في حكاية الضيافة ؟
فالجواب : ليكون ذلك إشارة إلى أنَّ الفرجَ في حق الأنبياء، والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا، كقوله تعالى :﴿ فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الزمر : ٢٥ ]، فلم يكن عند إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خبرٌ من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته وقد تقدم عددهم في سورة هود٣.
قوله تعالى :﴿ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ ﴾ العامل في «إذْ » أَوْجُهٌ :
أحدها : أنه «حديث » أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه.
الثاني : أنه منصوب بما في «ضَيْف » من معنى الفعل، لأنه في الأصل مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد المذكور٤ وغيره، كأنه قيل : الَّذِينَ أَضَافَهُمْ في وقت دخولهم عليه.
الثالث : أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أنَّ إبراهيم أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول : أُكْرِمُوا إذ دَخَلُوا.
الرابع : أنه منصوب بإضمار «اذْكُرْ » ولا يجوز نصبه ب «أَتَاكَ » لاختلاف الزَّمَانَيْنِ٥.
وقرأ العامة المُكْرَمِينَ - بتخفيف الراء - من أَكْرَمَ، وعكرمة : بالتشديد٦.
فإن قيل : أرسلوا بالعذاب بدليل قولهم :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٢ ] فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - شيخ المرسلين، ولوط من قومه، ومن عادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له : اعبر على فلان الملك، وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه.
الثاني : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمة عظيمة وكان ذلك مما يُحْزن إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - شفقةً منه على العباد فقال ( لهم )٧ بَشّروه بغلامٍ يخرج من صلبه أضعاف من٨ يَهْلَكُ، ويكون من صلبه خروج الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام ٩-.
قوله :﴿ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ ﴾ العامة على نصب «سلاماً » الأول، ورفع الثاني. فأما نصب الأول فالمشهور أن السلام التحية أي نُسَلِّم سلاماً١٠. ويحتمل أن «سلاماً » معناه حَسَناً أي قالوا كلاماً حسناً ؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يَلْغُو أو يأثم فكأنهم قالوا قولاً حسناً سَلِموا به من الإثم فيكون مفعولاً به لأنه في معنى القول١١، كما قيل في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]، أو هو مفعول بفعل محذوف، أي نُبَلِّغُكَ سَلاَماً١٢.
ولم يقولوا من الله شفقة على قلب إبراهيم فأتوا به مجملاً، ثم فسروه بعْدَ ذلك.
وأما رفع الثاني فالمشهور أنه التحية، فهو مبتدأ، وخبره محذوف أي عَلَيْكُمْ، ويحتمل أنه السلامة، أي أَمْرِي سَلاَمٌ لأني لا أعرفكم، أو قولُكُم سَلاَمٌ١٣، أي ينبئ عن السلامة وأنتم قوم منكرون فَما خَطْبُكُمْ ؟
وأما الفرق بين النصب والرفع، فإن حملنا السلام على التّحية، فإنه مُبتدأ مع أنه نكرة تنبيهاً على أصله، لأنه النصب، لأن المعنى أسَلِّمُ سلاماً و«عَلَيْكُمْ » لبيان المسلَّم عليه، لا حظَّ له في الإعراب١٤.
وأصل الكلام أسلم سلاماً، فالنصب أصل، فقدم على الرفع الذي هو فرع، وأيضاً فرد ( إبراهيم )١٥ أبلع لأنه أتى بالجملة الاسمية الدالة على الثبات بخلاف الفعلية، فإنها تدل على التَّجدّد والحُدُوث، ولهذا يستقيم قولنا : الله موجود الآن، ولا يستقيم قولنا : اللَّهُ وجدَ الآن.
وأما إن قلنا : معناه حَسَناً، أو ذا سلامة، فمعناه قلتم حسناً وأنتم مُنْكرون فالتبس الأمر عليَّ١٦.
وأما إن قلنا معناه المتاركة فمعناه سلَّمتم عليَّ، وأنا أمري متاركة لأني لا أعلم حالكم، ومنه :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ وقال تعالى :﴿ فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ ﴾ [ الزخرف : ٨٩ ] لأن سلامتهم عن الجاهلين لا يمنع التعرض لهم، بخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - فمعناه سلم أمري متاركة إلى أن يأتي أمر الله١٧. وتقدم تحرير نظير هذه الآية في سورة هُود١٨.
وتقدم أيضاً خلاف القراء في سَلام١٩ بالنسبة إلى فتح سِينه وكسرِها، وإلى سكون لامه وفتحها.
وقُرِئَا مرفُوعَيْن٢٠. وقرئ سلاماً قَالوا سِلْماً بكسر السين الثاني ونصبه٢١، ولا يخفى توجيه ذلك بما تقدم في هود ودخلت الفاء ههنا إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول، بل جعلوا السلام عَقِيبَ الدخول.
قوله :«قَوْمٌ مُنْكَرُون » خبر مبتدأ مضمر، فَقدَّروه أنتم قَوْمٌ، ولم يَسْتَحْسِنْهُ بعضُهم٢٢ ؛ لأن فيه عدم أنس فمثله لا يقع من إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، فالأولى أن يقدر هَؤلاءِ قومٌ، أو هُمْ قَوْمٌ٢٣، وتكون مقالته هذه مع أهل بيته وخاصته، لا لنفس الملائكة لأن ذلك يوحشهم٢٤.
وقال المفسرون : قوم منكرون أي غُرَبَاء ولا نعرفكم.
قال ابن عباس - ( رضي الله٢٥ عنهما - ) قال في نفسه : هؤلاء قوم لا نَعرفهم. وقيل : إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض٢٦.
فإن قيل : قال في سورة هود :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ﴾ فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العِجْل إليهم وههنا قال :﴿ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾.
ثم قال :﴿ فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ ﴾ بفاء التعقيب، وذلك يدل على تقريب الطعام منهم بعد حصول إنْكَارِهِ فما وجهه ؟
فالجواب : أن يقال : لعلهم كانوا مخالفين لِصفة الناس في الشكل والهيئة، ولذلك قال :«قوم منكرون »، ( أي ) عند كل أحد ( منا )، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار، لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - تَفَرَّد بمشاهدة إمساكهم فنَكِرَهُمْ فوق الإنكار الأول٢٧.
وحكاية الحال في سورة «هود » أبْسَطُ مما ذكره ههنا، فإن هَهنا لم يبين المُبَشَّر به، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم مَنْ، وهناك قال : قَوْم لوطٍ٢٨.

فصل


ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليمَ المُضِيفِ على الضَّيف، ولقاءَه بالوجه الحسن، والمبالغةَ في الإكرام بقوله :«سلام »، وهو آكد، وسلامهم بالمصدر، وفي قوله : سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلامٌ عليكم ؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال : سلام أي أمري مُسَالمة، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل الضيافة، فإن الفاء في قوله :«فَرَاغ » يدل على التعقيب وإخفائها لأن الرَّوَغَانَ يقتضي الإخفاء وغيبة المُضِيفِ عن الضَّيْف ليستريح، ويأتي بما يمنعه الحياء منه، ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله :«سَمِينٍ » ويُقَدِّم الطعام للضيف في مكانه لا ينقل الضيف للطعام لقوله :«فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ » ويَعْرض الأكل عليه لا يأمره لقوله :«أَلاَ تَأْكُلُونَ » ولم يقل : كُلُوا. وسروره بأكله كما يوجد في بعض البخلاء٢٩ الذين يحضرون طعاماً كثيراً، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه، لقوله :﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ بعدم أكلهم٣٠.
ومن آداب الضيف إذا حضره الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضراً به، أو يكون ضَعِيفَ القوة عن هضم ذلك الطعام فلا يقول : هذا طعام غليظ لا يصلح لي بلْ يأتي بعبارة حسنة، ويقول : بي مانع من أكل الطعام، لأنهم أجابوه بقولهم : لا تخف، ولم يذكروا في الطعام شيئاً، ولا أنه يضّر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة، وبشروه بالأشرف وهو الذكر حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون.
ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال، لأن العلم أشرف الصفات ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّهُ دَفْعةً واحدة، لأنه يورث رِضَاهُم٣١، لأنهم جلسوا، واستأنس بهم إبراهيم، ثم قالوا : نُبَشِّركُ. وتقدم الكلام على فائدة تقديم البشارة٣٢.
قوله :«فَرَاغَ » أي عدل ومال٣٣ «إلى أَهْلِهِ »، وقوله :«فَجَاءَ » عطف على «فَرَاغَ » وتسببه عنه واضح «بِعِجْلٍ سَمِينٍ » أي مشويّ كقوله في مكان آخر :﴿ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [ هود : ٦٩ ]. «فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ » ليأكلوا، فلم يأكلوا قَالَ أَلاَ تَأْكُلُون والهمزة في «أَلاَ تَأْكُلُونَ » للإنكار عليهم في عدم أكلهم، أو للعرض، أو للتحضيض٣٤.
١ ما بين القوسين ساقط من أ وموجود في ب..
٢ وانظر: البغوي والخازن السابقين والقرطبي ١٧/٤٤ و٤٥..
٣ من الآية ٦٩ منها. قيل: جاءه جبريل ومعه ملكان وهو مروي عن ابن عباس. وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: كانوا تسعة، وعن السدي: أحد عشر. وانظر اللباب ٤/٥٧ ب والكشاف ٢/٢٨٠..
٤ في ب المذكر..
٥ زمان الأتي والدخول. وانظر: البحر ٨/١٣٨ والكشاف ٤/١٧ والتبيان ١١٨١..
٦ البحر المرجع السابق وهي شاذة..
٧ سقط من ب..
٨ في الرازي: ما..
٩ وانظر: تفسير الرازي ٢٨/٢١٠ و٢١١..
١٠ قال بذلك مكي في المشكل ٢/٣٢٤ والرازي ٢٨/٢١١ والزمخشري في الكشاف ٤/١٧ والزجاج في المعاني ٥/٥٥ والقرطبي ١٧/٣٤ والتبيان ٧٠٥..
١١ وهو قول الإمام الرازي في تفسيره السابق وهو قول مكي أيضا في المشكل حيث قال: "أو بوقوع القول عليه" وانظر المشكل السابق أيضا..
١٢ قاله الرازي أيضا وهو نفس رأي ابن عطية فيما نقله عنه أبو حيان في البحر ٨/١١٩ لكنه جعل سلاما بمعنى قولا ويكون المعنى قالوا تحية وقولا معناه سلاما. وانظر البحر السابق..
١٣ المشكل والرازي السابقين والقرطبي ١٧/٤٥..
١٤ في الرازي: في المعنى غير ذلك البيان..
١٥ سقط من ب..
١٦ وهذه التفصيلات كلها نقلها المؤلف بالمعنى عن الرازي ٢٨/٢١٢..
١٧ بالمعنى من الرازي السابق، فقد قال: وأما النبي –صلى الله عليه وسلم- لو سلم عليهم لصار ذلك سببا لحرمة التعرض إليهم فقال: قل سلام أي أمري معكم متاركة تركناه إلى أن يأتي أمر الله بأمر. وانظر: الرازي ٢٨/٢١٣ و٢١٢..
١٨ اللباب الأسبق..
١٩ قراءة ابن وثاب والنخعيّ وابن جبير وطلحة قال: سلم بكسر السّين وإسكان اللام، والمعنى نحن سِلم، أو أنتم سلم وتلك قراءة كوفية وهي من الأربع عشرة فوق المتواترة وانظر الإتحاف ٣٩٩ وقد نسبت لحمزة والكسائي في الإتحاف..
٢٠ لم أعرف من قرأ هكذا وانظر: البحر ٨/١٣٩ والكشاف ٤/١٧، وهي شاذة وحينئذ يكون الرفع على ما مرّ من رفع "سلام" والثانية فمن الإمكان أن تكون ابتداء والخبر محذوف أي سلام عليك أو خبرا لابتداء محذوف معناه قالوا أمرنا سلام..
٢١ البحر والكشاف السابقين. ولم يحدّدا من قرأ بها..
٢٢ لعله أبو حيان فتلك العبارات عباراته في البحر ٨/١٣٩..
٢٣ المرجع السابق..
٢٤ المرجع السابق بالمعنى..
٢٥ زيادة من أ..
٢٦ البغوي ٦/٢٤٤ و٢٤٥..
٢٧ المرجع السابق..
٢٨ المرجع السابق..
٢٩ العبارة هنا قلقة وعبارة الرازي –مصدر المؤلف- هي الأوضح حيث يقول: ثم كون المضيف مسرورا بأكلهم غير مسرور تبركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين.... الخ..
٣٠ هذه كلها آداب المضيف..
٣١ في ب وهو كما في الرازي: مرضا بدل رضاهم وهو الأصح..
٣٢ ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف ويأتي ببدلهم خيرا منهم. وانظر: الرازي المرجع السابق ٢٨/٢١٤، وهذا الذي ذكره المؤلف استقاه من تفسير التفسير الكبير ٢٨/٢١٤ و٢١٥ بالمعنى..
٣٣ قاله أبو عبيدة في المجاز ٢/٢٢٦، وابن قتيبة في الغريب ٤٢١..
٣٤ الكشاف ٤/١٨ والبحر ٨/١٣٩ وإذا كانت الهمزة للإنكار يفهم أن هناك محذوفا تقديره: فامتنعوا عن الأكل فأنكر عليهم ذلك..

قوله تعالى :﴿ فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ ﴾ قيل١ : لم يكن ذلك إقبالاً من مكان إلى مكان، وإنما هو كقول القائل : أقبل يَشْتُمُنِي بمعنى أخذ في شَتْمِي، أي أخذت تُوَلْوِلُ، لقوله :﴿ قَالَتْ يا ويلتى ﴾ [ هود : ٧٢ ]، وذلك أنها كانت مع زوجها في خدمتهم، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحت وأعرضت عنهم، فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل، ولم يقل بلفظ الإدبار عن الملائكة٢.
قوله :«فِي صَرَّةٍ » يجوز أن يكون حالاً من الفاعل أي كائنةً في صَرَّة٣. والصَّرة قيل : الصيحة، قال امرؤ القيس :
فَأَلْحَقْنَا بِالْهَادِيَاتِ وَدُونَهُ جَوَاحِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ٤
قال الزمخشري : من صَرَّ الجُنْدُبُ والبابُ والقلمُ٥، أي فصاحت كما جرت عادة النساء إذا سمعن شيئاً من أحوالهن يَصِحْنَ صيحةً معتادة لهن عند الاستحياء أو التعجب.
ويحتمل أن يقال : تلك الصيحة كانت بقولها : يَا وَيْلَتَا، ومحلّها النصب على الحال أي فجاءت صارةً.
ويجوز أن يتعلق ب «أَقْبَلَتْ » أي أقبلت في جماعة نسوةٍ٦ كُنَّ معها، والصَّرة الجماعة من النساء.
قوله :«فَصَكَّتْ وَجْهَهَا » قال ابن عباس - ( رضي٧ الله عنهما ) - : فلطمت٨ وَجْهَهَا. واختلف في صفته فقيل : هو الضرب باليد مبسوطةً. وقيل : بل ضرب الوجه بأطرافِ الأصابع فعل المتعجِّب، وهو عادة النساء إذا أنكرنَ شيئاً. وأصل الصكّ ضرب الشيء بالشيء العَريض٩.
قوله :«عَجُوزٌ » خبر مبتدأ مضمر أي أنا عجوزٌ عقيمٌ فكيف ألد ؟ وتفسرها الآية الأخرى، فاستبعدت ذلك ظنًّا منها أن ذلك منهم على سبيل الدعاء، فكأنها قالت : يا ليتكم دعوتم دعاء قريباً من الإجابة.
١ ذكره البغوي دون ما تحديد لواحد معين. انظر: البغوي ٦/٢٤٥..
٢ نقل تلك العلة الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٨/٢١٤..
٣ وهو قول أبي البقاء في التبيان ١١٨١..
٤ من الطويل له وروي في القرطبي فألحقه. والهاديات: أوائل بقر الوحش، وجوارحها: متخلفاتها، ولم تُزيّل: لم تتفرق. والمعنى لما لحق هذا الفرس أوائل بقر الوحش بقيت أواخرها لم تتفرق. والشاهد: صرّة ومعناها صيحة وجماعة. والبيت في معلقته، وقد تقدم..
٥ يصِرّ صريراً إذا امتد وكل صوت شبه ذلك. انظر: اللسان السابق وانظر الكشاف ٤/١٨..
٦ قاله بالوجه السابق الكشاف السابق..
٧ زيادة من أ..
٨ قاله ابن قتيبة في الغريب ٤٢١..
٩ اللسان: "صكك" ٢٤٧٤..
فأجابوها بأن ذلك من الله تعالى، وأن هذا ليس بدعاء، وإنما هو قول الله ﴿ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ﴾ ثم دفعوا استبعادها بقولهم :﴿ إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم ﴾.
قوله :«كَذَلِك » منصوب على المصدر ب «قَالَ »١ الثانية أي مثلُ ذلك القول الذي أخبرناكِ٢ به قال ربُّك، أي إنه من جهة الله فلا تعجبي منه.
قال ابن الخطيب : وقال ههنا : الحكيم العليم وفي سورة ( هود ) ٣ : إنَّهُ حَميدٌ مجيدٌ ؛ لأن الحكاية في هود أبسطُ فذكروا ما يدفع استبعادها٤ بقولهم :﴿ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله ﴾، ثم أرشدوها إلى القيام بشكر نعم الله بقولهم :«حَمِيدٌ » فإن الحميد هو الذي يفعل الأفعال الحسنة، والمجيد إشارة إلى أنه لا يحمد لفعله وإنما يحمد لذاته.
وههنا لما لم يقولوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله أَشَارُوا إلى ما يدفع تعجبها بقولهم :«حكيم عليم ». فالحميد يتعلق بالفعل، والمجيد يتعلق بالذات، وكذلك الحكيم هو الذي فعله قاصداً إليه، فإن من يتقلب في النوم٥ على حية فماتت لا يعد حكيماً، وأما إذا قصد قتلها بحيث يسلم من نهشها، يقال : إنه حكيم والعليم صفة راجعة إلى الذات، فقدم وصف الفعل وارتقى درجة إلى وصف الذات إشارة إلى أنه يستحق الحمد وإن لم يفعل فعلاً٦.
١ قاله صاحب التبيان ١١٨١..
٢ الكشاف ٤/١٨..
٣ لفظ هود ساقط من أ الأصل..
٤ في ب استبعاده وفي الرازي الاستبعاد..
٥ في ب نومه وفي الرازي: جنبه..
٦ وانظر تفسير العلامة الرازي ٢٨/١٥ بالمعنى قليلا..
قوله تعالى :﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون ﴾ هذا أيضاً من آداب المُضِيف، إذا بادر الضيف إلى الخروج قال له : ما هذه العَجَلَةُ ؟ وما شَأنُك ؟ لأن في سُكُوته ما يوهم باسْتِثْقَالهم١ ثم إنّهم٢ أتوا بما هو من أدب الصديق الذي لا يسر عن الصديق شيئاً، وكان ذلك بإذن الله لهم في إطلاع إبراهيم على إهلاكهم، وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق - عليه الصلاة والسلام -.
فإن قيل : فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولِمَ لا قال : مَا هَذَا٣ الاستعجال ؟ ومَا خَطْبكُم المعجل لكم ؟
فالجواب : أنه لما أوجسَ منهم خيفةً أو خرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئاً فلما أَنِسُوه قال : ما خَطْبُكُم أي بعد هذا الأُنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم٤ !

فصل


والخَطْب يُسْتَعْمل في الأمر العظيم، ولذلك قال : فَمَا خَطْبُكُم أي لعظمتكم لا ترسلون إلاَّ في أمر عظيم، ولو قال بلفظ مركب بأن يقول : ما شُغْلكم الخَطِيرُ وأمركم العظيم للزم التطويل فالخَطْبُ أفاد التعظيم مع الإيجاز وعرف أنهم مرسلون بقولهم :«إِنَّا أُرْسِلْنَا » أو بقولهم لامرأته :﴿ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ﴾ لحكايتهم قول الله تعالى.
وقالوا في سورة هود :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [ هود : ٧٠ ] وقالوا هنا :﴿ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾، لأن الحكاية عن معنى قولهم.
ويحتمل أنهم قالوا الأمرين، ولما حكى لفظهم في السلام أتى في الموضعين بصفة واحدة٥.
والمُجْرم قال ابن عباس - ( رضي الله٦ عنهما - ) : هو المشرك، لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.
قال ابن الخطيب : المُجْرم هو الآتي بالذنب العظيم، لأن المجرم فيه دلالة على العظيم ومنه جُرْم الشيء لِعظَمِهِ ومقْدَاره٧.
١ في ب باشتغالهم والتصحيح من أ..
٢ في ب وإنهم..
٣ كذا ذلك الأسلوب في النسختين وفي الرازي: ولو كان كما ذكرتم لقال: ما هذا الاستعجال.. الخ..
٤ الرازي ٢٨/٢١٥ و٢١٦..
٥ الرازي المرجع السابق..
٦ زيادة من "أ"..
٧ تفسيره ٢٨/٢١٨..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:قوله تعالى :﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون ﴾ هذا أيضاً من آداب المُضِيف، إذا بادر الضيف إلى الخروج قال له : ما هذه العَجَلَةُ ؟ وما شَأنُك ؟ لأن في سُكُوته ما يوهم باسْتِثْقَالهم١ ثم إنّهم٢ أتوا بما هو من أدب الصديق الذي لا يسر عن الصديق شيئاً، وكان ذلك بإذن الله لهم في إطلاع إبراهيم على إهلاكهم، وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق - عليه الصلاة والسلام -.
فإن قيل : فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولِمَ لا قال : مَا هَذَا٣ الاستعجال ؟ ومَا خَطْبكُم المعجل لكم ؟
فالجواب : أنه لما أوجسَ منهم خيفةً أو خرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئاً فلما أَنِسُوه قال : ما خَطْبُكُم أي بعد هذا الأُنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم٤ !

فصل


والخَطْب يُسْتَعْمل في الأمر العظيم، ولذلك قال : فَمَا خَطْبُكُم أي لعظمتكم لا ترسلون إلاَّ في أمر عظيم، ولو قال بلفظ مركب بأن يقول : ما شُغْلكم الخَطِيرُ وأمركم العظيم للزم التطويل فالخَطْبُ أفاد التعظيم مع الإيجاز وعرف أنهم مرسلون بقولهم :«إِنَّا أُرْسِلْنَا » أو بقولهم لامرأته :﴿ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ﴾ لحكايتهم قول الله تعالى.
وقالوا في سورة هود :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [ هود : ٧٠ ] وقالوا هنا :﴿ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾، لأن الحكاية عن معنى قولهم.
ويحتمل أنهم قالوا الأمرين، ولما حكى لفظهم في السلام أتى في الموضعين بصفة واحدة٥.
والمُجْرم قال ابن عباس - ( رضي الله٦ عنهما - ) : هو المشرك، لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.
قال ابن الخطيب : المُجْرم هو الآتي بالذنب العظيم، لأن المجرم فيه دلالة على العظيم ومنه جُرْم الشيء لِعظَمِهِ ومقْدَاره٧.
١ في ب باشتغالهم والتصحيح من أ..
٢ في ب وإنهم..
٣ كذا ذلك الأسلوب في النسختين وفي الرازي: ولو كان كما ذكرتم لقال: ما هذا الاستعجال.. الخ..
٤ الرازي ٢٨/٢١٥ و٢١٦..
٥ الرازي المرجع السابق..
٦ زيادة من "أ"..
٧ تفسيره ٢٨/٢١٨..

قوله :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ فيه دليل على رَجْم اللائط. والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم، أنَّ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما هلك النُّمْرُود بالبَعُوض، وكما أُهْلِكَ بالقُمَّل والجَرَاد بل بالرِّيح التي بها الحياة إظهاراً للقدرة، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أُمِرَ خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهاراً لعظيم قدرته. وقوله :«مِنْ طِينٍ » أي ليست من البَرَدِ والفاعلُ لذلك هُو اللَّهُ تعالى لا كما يقول الحكماء فإنهم يقولون : إن البَرَد يسمى حجارة فقوله :«مِنْ طِينٍ » يدفع ذلك التَّوَهُّمَ١.
قال ابن الخطيب : إن بعض من يَدَّعي العَقل٢ ( يقول )٣ : لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوَّرات على هيئة البَرد وهيئة البَنَادِق التي يتخذها الرماة، قالوا : وسبب ذلك أن الإعصار يصعد٤ الغُبَار من الفلَوَاتِ العظيمة التي لا عِمَارَةَ فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق ( وصول )٥ ذلك إلى هواء نَدِيّ فيصير طيناً رَطْباً، والرطب إذا نزل وتفرق استدار بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كراتٍ مُدَوَّرَاتٍ كاللآلئِ الكِبَار ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو جعلته حجارة كالآجُرّ٦ المطبوخ فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عِمارة بها، فلا يُرى ولا يُدْرَى به فلهذا قال :«مِنْ طينٍ » لأ( نَّ ) ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر، وهذا تعسُّف، لأن ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر لزم التسلسل، ولا بدّ من الانتهاء إلى محدِث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلاً مختاراً، والمختار له أن يفعل وله أن يَخْلُق الحِجَارة من طين على وجه آخر من غير نارٍ ولا غبارٍ، لكن العَقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه فلا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أن نُزُول حجارة٧ الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها٨.
١ بالمعنى من المرجع السابق..
٢ في الرازي: النظر..
٣ سقط من أ وكذا هو موجود في الرازي كـ "ب"..
٤ في ب تصعد..
٥ زيادة من الرازي للتوضيح..
٦ ويسمى: الأَجُور واليَأجُور والآجُرُون والآجُرّ والآجُرُ وكلها بمعنى طبيخ الطين. والبرد حَبّ الغمام..
٧ نفي ب الحجارة الطين، وفي الرازي: الحجارة التي من طين..
٨ وانظر: تفسير الإمام الرازي ٢٨/٢١٨ و٢١٧.
قوله :«مُسَوَّمَةً » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على النَّعت لِحَجَارةٍ.
الثاني : أنه حال من الضمير المستكنِّ في الجارِّ قبله١.
الثالث : أنه حال من «حجارة »، وحسَّنَ ذلك كونُ النكرة وُصِفَتْ بالجارِّ بعدها.
ومعنى مسومة قيل : على كل حجر منها اسم صاحبه. وقيل : خلقت وأعدت لتعذيبهم. وقيل : مُرْسَلَة للمجرمين ؛ لأن الإرسال يقال في التسويم، يقال أرسلها لِتَرْعَى، كما قيل في الخيل المُسَوَّمَةِ أي مستغنى عنها٢.
قوله :«عِنْد رَبِّكَ » ظرف «لمُسومَةٍ »٣ أي معلَّمة عنده «والمُسْرِفُ » المتمادي ولو في الصغائر فهم مجرمُون مُسْرفُونَ.
وهنا لطيفة وهي أن الحجارة سُومِّتْ للمسرف المُصِرّ الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى، فلذلك قال :﴿ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾ ولما كان الإجرام ظاهراً قالوا :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾ واللام في «المسرفين » لتعريف العهد، أي لِهؤلاء المسرفين ؛ إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوَّمة.
وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يَسْبِقْهم به أحدٌ من العَالَمِين٤.
١ قال بهذين الوجهين العُكبَريّ في التبيان ١١٨١..
٢ الرازي السابق..
٣ التبيان السابق..
٤ بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨/٢١٨ السابق..
قوله :﴿ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين ﴾ هذه الآية تدل على بيان القدرة والاختيار، لأنه تعالى لما ميز المجرمَ عن المحسن يدل١ على الاختيار وأيضاً فيها بيان أن بِبَركَة المحسن ينجو المسيء، فإن القرية ما دام فيها المؤمنون لم تَهْلَكْ. والضمير في «فِيهَا » عائد على القرية وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة.
والمعنى : فأَخَرجْنا من كان في قُرَى قومِ لوط من المؤمنين، وذلك قوله :﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل ﴾ [ الحجر : ٦٥ ].
١ كذا في النسختين بلفظ المضارع وفي الرازي: دل وهو الأقرب..
وقوله :﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين ﴾ يعني لوطاً وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم، وفيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب، والفِسْقَ إذا فَشَا لا ينفع معه عبادة المؤمنين، بخلاف ما لو كان١ أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة، وفيهم شِرْذِمَةٌ يسيرة يسرقون ويزنون، ومثاله أن العالم كالبَدَن، ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والسموم الواردة عليه الضارة ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه الضارّ هلك وإن خلا عن الضار وفيه النافع طاب ونما، وإن وُجِدَا فيه فالحكم للغالب.
وإذا علم أن إطلاق العَامّ على الخَاصِّ لا مانع منه، لأن المسلم أعمّ من المؤمن فإذا سمي٢ المؤمن مسلماً، لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال : أخرجنا المؤمنين، فما وجدنا الأعمَّ منهم إلا بَيْتاً من المسلمين، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين٣.
١ في ب فقط: ما لو كان معه..
٢ في ب سلم وهو تحريف..
٣ بالمعنى من تفسير الرازي ٢٨/٢١٩..
قوله :﴿ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً ﴾ يجوز أن يعود الضمير على القَرْية، أي تركنا في القرية علامةً أي عِبرة كالحجارة أو الماء المنتن ويجوز أن يعود على الإهلاكة١ المفهومة من السِّياق٢.
وقوله :«لِلَّذِينَ يَخَافُونَ » أي ما ينتفع بها إلا الخائف، كقوله تعالى في سورة العنكبوت :﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٣٥ ] ومعنى الآية : أن «الآية » تدلهم على أن الله تعالى أهلكهم فيخافون مثل عذابهم٣.
١ وهو اسم مرة من غير الثلاثي كتقديسة وتبيِينة وغيرهما..
٢ وقد ذكر العلامة أبو حيان في البحر ٨/١٤٠ هذه الأراء دون نسبة لقائليها بينما ذكر القرطبي في الجامع ١٧/٤٩ الأول والثاني فقط عن مجهولين أيضا، وذكر الرازي في مرجعه السابق الثاني والثالث..
٣ وهو رأي البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٤٥..
قوله تعالى: ﴿وَفِي موسى﴾ فِيهِ أوجه:
أظهرها: أنه عطف على قوله: «فِيهَا» بإعادة الجار؛ لأنَّ المعطُوفَ عَلَيْهِ ضميرٌ مجرورٌ فيتعلق ب «تَرَكْنَا» من حيث المعنى ويكون التقدير: وتَرَكْنَا في قصةِ موسى آية. وهذا واضح.
والثاني: أنه معطوف على قوله: ﴿فِي الأرض آيَاتٌ﴾ [الذاريات: ٢٠] أي وفي الأرض وفي موسى آياتٌ للموقنين. قاله الزمخشري وابنُ عطية.
قال أبو حيان: وهذا بعيد جدًّا يُنَزَّه القرآن عن مثله.
قال شهاب الدين: وجه استبعاده له بعد ما بينهما، وقد فعل أهل العلم هذا في أكثر من ذلكَ.
والثالث: أنه متعلق ب «جَعَلْنَا» مقدرة، لدلالة: «وَتَرَكْنَا» عليه.
قال الزمخشري: أو على قوله - يعني أو يعطف على قوله -: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً﴾ [الذاريات: ٣٧] على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله:
٤٥٢٨ - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً............................
قال أبو حيان: ولا حاجة إلى إضمار: «وَجَعَلْنَا» لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور «وتركنا».
91
قال شهاب الدين: والزمخشري إنما أراد الوجه الأول بدليل قوله: «وَفِي مُوسَى» معطوف على «وَفِي الأَرْضِ»، أو على قوله: «وَتَرَكْنَا فِيهَا» وإنما قال: على جهة تفسير المعنى لا الإعراب. وإنما أظهر الفعل تنبيهاً على مغايرة الفعلين يعني أن هذا الترك غير ذاك الترك، ولذلك أبرزه بمادة الجَعْل دون مادة الترك ليظهر المخالفة.
الرابع: أن يعطف على ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الذاريات: ٢٤] تقديره: وفي حديث موسى إذْ أَرْسَلْنَاهُ: وَهُوَ مناسب، لأن الله تعالى جمع كثيراً بين ذكر إبراهيم وموسى - عليهما الصلاة والسلام - (كقوله تعالى) :﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى﴾ [النجم: ٣٦ - ٣٧]، وقال: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى﴾ [الأعلى: ١٩] قاله ابن الخطيب.

فصل


المعنى: لك في إبراهيم تسلية وفي موسى، أو لقومك في لوط وقومه عبرة، وفي موسى وفرعون، أو تَفَكَّرُوا في إبراهيم ولوط وقومهما وفي موسى وفرعون. هذا إن عطفناه على (معْلُوم، وإن عطفناه) على مذكور فقد تقدم آنفاً. و «السلطان المبين» الحجة الظاهرة.
قوله: «إذْ أَرْسَلْنَاهُ» يجوز في هذا الظرف ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون منصوباً ب «آيَة» على الوجه الأول؛ أي تركنا في قِصة موسى علامةً في وقتِ إرسالنا إيَّاهُ.
الثاني: أنه يتعلق بمحذوف لأنه نعت لآيةٍ، أي آية كائنة في وقت إرسالنا.
الثالث: أنه منصوب ب «تَرَكْنَا».
قوله: «بِسُلْطَانٍ» يجوز أن يتعلق بنفس الإرسال، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال إما من موسى وإما من ضميره أي ملتبساً بسُلطان وهو الحُجَّة. و «المبين» الفارق بين سِحْر السَّاحِرِين وأمْر المُرْسَلِينَ.
ويحتمل أن يكون المراد بالمبين أي البراهين القاطعة التي حَاجَّ بِهَا فِرْعَوْنَ.
92
قوله: «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» الجار والمجرور حال من فاعل «تَوَلَّى» ومعنى «تَوَلَّى» أَدْبَرَ عن الإيمان. والباء للمصاحبة. والمراد بالركن أي بجمعِهِ وجنوده الذين كان يَتَقَوَّى بهم كالرُّكْن الذي يَتَقَوَّى به البُنْيَان، كقوله تعالى: ﴿أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: ٨٠].
وقيل: الباء للتعدية فتكون بمعنى تقوى بجنده. ويحتمل أن يكون المراد تَوَلَّى أمْر موسى بقُوَّتِهِ، كأنه قال: أقتل موسى لئَلاَّ يُبَدّلَ دينكم، فتولى أمره بنفسه، فيكون المفعول غير مذكور وركنه هو نفسه القوية. ويحتمل أن يكون المراد بركنه هامان فإنه كان وزيره.
قوله: ﴿سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ «أو» هنا على بابها من الإبهام على السامع أو للشكّ نَزَّل نفسه مع أنه يعرفه بَيِّناً حقاً منزلة الشاكّ في أمره تمويهاً على قومه. وقال أبو عبيدة: «أو» بمعنى الواو، قال: لأنه قد قالهما، قال تعالى: ﴿إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ١٠٩]، وقال تعالى في موضع آخر: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧]، وتجيء «أو» بمعنى الواو، كقوله:
٤٥٢٩ - أَثَعْلبَةَ الفَوَارِسِ أَوْ رِيَاحاً عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا
ورد الناس عليه هذا وقالوا: لا ضرورة تدعو إلى ذلك. وأما الآيتان فلا يدلاَّن على أنه قالهما معاً، وإنما يفيد أنه قالهما أعم من أن يكونا معاً أو هذه في وقت وهذه في آخَرَ.
قوله: «وَجَنودَهُ» يجوز أن يكون معطوفاً على مفعول «أَخَذْنَاهُ» وهو الظاهر، وأن يكون مفعولاً معه. ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم﴾ أغرقناهم في البَحْرِ.
قوله: «وَهُو مُلِيمٌ» جملة حالية، فإِن كانت حالاً من مفعول «نَبَذْنَاهُمْ» فالواو لازمةٌ؛
93
إذ ليس فيها ذكر يعود على صاحب الحال، وإن كانت حالاً من مفعول «أَخَذْنَاهُ» فالواو ليست واجبة؛ إِذ في الجملة ذكرٌ يعودُ عليه. وقد يقال: إنَّ الضمير في «نَبَذْنَاهُمْ» يعود على «فِرْعَوْنَ» وعلى «جُنُودِه» فصار في الحال ذكر يعود على بعض ما شَمِلَه الضمير الأول. وفيه نظر، إذ يصير نظير قولك: جَاءَ السُّلْطَانُ وَجُنُودُهُ فأكرمتهم راكباً فَرَسَهُ، فتجعل «راكباً» حَالاً من بعض ما اشتمل عليه ضمير «أكرمتهم».

فصل


ومعنى «مليم» أي أَتَى بما يُلاَم عليه من دعوى الربوبيّة وتكذيب الرسول.
94
قوله :«فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ » الجار والمجرور حال من فاعل «تَوَلَّى »١ ومعنى «تَوَلَّى » أَدْبَرَ عن الإيمان٢. والباء للمصاحبة. والمراد بالركن أي بجمعِهِ وجنوده الذين كان يَتَقَوَّى بهم كالرُّكْن الذي يَتَقَوَّى به البُنْيَان، كقوله تعالى :﴿ أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٠ ].
وقيل : الباء للتعدية فتكون بمعنى تقوى بجنده٣. ويحتمل أن يكون المراد تَوَلَّى أمْر موسى بقُوَّتِهِ، كأنه قال : أقتل موسى لئَلاَّ يُبَدّلَ دينكم، فتولى أمره بنفسه، فيكون المفعول غير مذكور وركنه هو نفسه القوية. ويحتمل أن يكون المراد بركنه هامان فإنه كان وزيره٤.
قوله :﴿ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ «أو » هنا على بابها من الإبهام على السامع أو للشكّ نَزَّل نفسه مع أنه يعرفه بَيِّناً حقاً منزلة الشاكّ في أمره تمويهاً على قومه. وقال أبو عبيدة٥ :«أو » بمعنى الواو، قال : لأنه قد قالهما٦، قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [ الأعراف : ١٠٩ ]، وقال تعالى في موضع آخر :﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾٧ [ الشعراء : ٢٧ ]، وتجيء «أو » بمعنى الواو، كقوله :
أَثَعْلبَةَ الفَوَارِسِ أَوْ رِيَاحاً عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا٨
ورد الناس عليه٩ هذا وقالوا : لا ضرورة تدعو إلى ذلك. وأما الآيتان فلا يدلاَّن على أنه قالهما معاً، وإنما يفيد أنه قالهما أعم١٠ من أن يكونا معاً أو هذه في وقت وهذه في آخَرَ١١.
١ قاله العكبري في المرجع السابق..
٢ هذا قول البغوي والخازن في تفسيريهما ٦/٢٤٥. وقد قال بذلك كل المفسرين أيضا وانظر: القرطبي ١٧/٤٩..
٣ أي اتخذ وليا..
٤ قال بهذه المعاني والاحتمالات الإمام الفخر ٢٨/٢٢٠..
٥ وهو قول أبي حيان في البحر ٨/١٤٠..
٦ في المجاز: لأنهم قد قالوهما جميعا له. وانظر: المجاز ١/٢٢٧..
٧ أقول: ونفس رأي أبي عبيدة هو رأي الفراء والمؤرّخ انظر: القرطبي ١٧/٥٠..
٨ من الوافر لجرير، وطهية كسُميّة حيّ من تميم نسبوا إلى أمهم والخِشاب من تميم أيضا وثعلبة ورياح من يربوع. والمعنى يحتم أن "أو" بمعنى الواو". وقد تقدم..
٩ أي على أبي عبيدة ومن حذا حذوه..
١٠ كذا في أ وفي ب أهم بالهاء..
١١ بالمعنى من البحر ٨/١٤٠..
قوله :«وَجَنودَهُ » يجوز أن يكون معطوفاً على مفعول «أَخَذْنَاهُ »١ وهو الظاهر، وأن يكون مفعولاً معه. ﴿ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم ﴾ أغرقناهم في البَحْرِ.
قوله :«وَهُو مُلِيمٌ » جملة حالية، فإِن كانت حالاً من مفعول «نَبَذْنَاهُمْ » فالواو لازمةٌ ؛ إذ ليس فيها ذكر يعود على صاحب الحال٢، وإن كانت حالاً من مفعول «أَخَذْنَاهُ » فالواو ليست واجبة ؛ إِذ في الجملة ذكرٌ يعودُ عليه. وقد يقال : إنَّ الضمير في «نَبَذْنَاهُمْ » يعود على «فِرْعَوْنَ » وعلى «جُنُودِه » فصار في الحال ذكر يعود على بعض٣ ما شَمِلَه الضمير الأول. وفيه نظر، إذ يصير نظير قولك : جَاءَ السُّلْطَانُ وَجُنُودُهُ فأكرمتهم راكباً فَرَسَهُ، فتجعل «راكباً » حَالاً من بعض ما اشتمل عليه ضمير «أكرمتهم »٤.

فصل


ومعنى «مليم » أي أَتَى بما يُلاَم عليه٥ من دعوى الربوبيّة وتكذيب الرسول.
١ وهو الهاء..
٢ وهو "هم" من نبذناهم..
٣ ففرعون مشتمل في فنبذناهم الجمع..
٤ ولا مانع من إجازة مثل هذا الأسلوب وإن كان نادرا..
٥ وهذا معناه اللغوي كما قال الزجاج والفراء في معانيهما. الأول في ٥/٥٦ والثاني في ٣/٨٧..
قوله تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا﴾ الكلام عليه قد تقدم عَلَى نظيره.
واعلم أن المراد بهذه الحكايات تسلية قلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتذكيره بحال الأنبياء.
فإن قيل: لِمَ لَم يذكر في «عَادٍ» و «ثمُودَ» أنبياءهم كما ذكر إبراهيم وموسى ولوطاً - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسلام -؟ ﴿.
فالجواب: أنه ذكر ست حكايات، حكاية إبراهيم وبشارته وحكاية قوم لوط ونجاة مَنْ كان فيها من المؤمنين وحكاية موسى، ففي هذه الحكايات الثلاثة ذكر الرسل والمؤمنين لأن الناجين منهم كانوا كثيرين، فأما في حق إبراهيم وموسى فظاهر وأما في حق لوطٍ فلأن الناجين وإن كَانُوا أهْلَ بَيْتٍ واحد لكن المهلكين أيضاً كانوا أهل بُقْعَةٍ واحدة. وأما عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إِلى الناجين أضعافَ المهلكين من قوم لوط عليهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَم؛ فذكر الحكايات الثلاث الأول للتسلية بإهلاك العدو والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾
[الذاريات: ٥٢] إلى أن قال: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ [الذاريات: ٥٤] وقال في سورة هود بعد الحكايات: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ﴾ [هود: ١٠٠] إلى أن قال: ﴿وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: ١٠٢].
94
قوله: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم﴾ وهي التي لا خير فيها ولا بركة، ولا تلقح شَجَراً، ولا تَحْمل مطراً لأنها تكسر وتقلع فكيف تلقح؟}.
واعلم أن الفَعِيلَ لا يلحق به تاء التأنيث (إِن كان بمعنى مفعول وكذلك) إِذا كان بمعنى فَاعِل في بعض الصُّور. وقد تقدم ذكر سببه، وهو أن فَعِيلاً لما جاء للمفعول والفاعل جميعاً ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه (لو تميز) لَتَميَّزَ الفاعل عن المفعول قبل تمييز المؤنث والمذكر، لأن الفاعلَ جزءٌ من الكلام محتاجٌ إليه، والمفعول فيه فائدة أكيدةٌ وإن لم يكن جزءاً من الكلام محتاجاً إليه، فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل (والمفعول) تقول: فَاعِلٌ وفَاعِلَةٌ، ومَفْعُولٌ ومفَعُولَةٌ، ويدل على ذلك أيضاً أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل: فَاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة، وقيل: مفعُول بواو فاصلة بين العين واللام والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة، فالمميز فيهما غيَّر نظم الكلمة لشدّة الحاجةِ (وفي التأنيث) لم يؤثر، ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كُلّ واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل، والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف (واحد عند) وجوده يميز المؤنث وعدمه يبقي اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن «فَعِيلٌ» يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك (المؤنث والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إِلا بحرف غير متصل به.
95
قوله: ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ﴾ فيه وجهان) :
أحدهما: أنه نصب على أنه صفة للريح بعد صفة «العَقِيم». قاله الواحدي.
فإن قيل: كيف يكون وصفاً والمعرف لا يوصف بالجُمَلِ؟ و «مَا تَذَرُ» جملة فلا يوصف بها النكرات؟ ﴿.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن يكون بإِعادة الريح تقديراً، كأنه يقول: وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ ريحاً مَا تَذَرُ.
الثاني: أنها لما لم تكن معهودة صارت منكَّرة كأنه يقول: لم تكن من الرياحِ التي تقع ولا وقع مثلُها، فهي لشدتها منكرة، ولهذا أكثر ما ذكرت في القرآن منكَّرة، ووصفت بالجملة كقوله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
[الأحقاف: ٢٤]، وقوله: ﴿وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ﴾ [الحاقة: ٦ و٧] إلى غير ذلك.
الوجه الثاني: أنه نصب على الحال، تقول: جَاءَنِي ما يَفْهَمُ شَيْئاً فَعَلَّمْتُهُ وفَهَّمْتُهُ أي حاله كذا.
فإن قيل: لم يكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجوداً مع ذِي الحال وقت الفعل فلا يجوز أن يقال: جاءني زيد أمس راكباً غداً، والريح بعد ما أرسلت بزمان صارت ما تذرُ شيئاً}
فالجواب: أن المراد بيان الصلاحية أي التي أرسلناها على قوةٍ وصلاحيّةٍ لا تذر، وتقول لمن جاء وأقام عندك أياماً ثم سألك شيئاً: جئْتَني سَائلاً أيْ وقت السؤال بالصلاحية والإِمكان.
هذا إن قيل: بأنه نصب على المشهور.
ويحتمل أنه رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره هِيَ مَا تَذَرُ.
فَإن قِيلَ: «ما تذر» لنفي حال المتكلم؛ يقال: مَا خَرَجَ زَيْدٌ إلَى الآن، وَإِذا أَرَدْتَ المستقبل تقول: لا يخرجُ أو لن يَخْرُجَ. وتقول للماضي: مَا خَرَجَ ولم يَخْرُجْ، والريح
96
حالة الكلام مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانت ما تركت من شيء إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحال: ما تذر؟!
فالجواب: أنّ الحكايات مقدرة على أنها محكية حال الوقوع، كقوله تعالى: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد﴾ [الكهف: ١٨] مع أن اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل، وإنما يعمل ما كان منْه بمعنى الحال والاستقبال.
فإن قيل: هل في قوله تعالى: ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ﴾ تخصيص كما في قوله تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥].
فالجواب: أن المراد به المبالغة، لأن قوله: «أَتَتْ عَلَيْهِ» وصف لقوله: «شَيْء» كأنه قال: كُلّ شيءٍ أَتَتْ عَلَيْه، أو كل شيء تأتي عليه، ولا يدخل فيه السموات، لأنها ما أتت عليه، وإنما يدخل فيه الأجسام التي تَهُبُّ عليها الرِّياحُ.
فإِن قيل: فالجبال والصخور أتت عليه وما جعلته كالرَّميم!.
فالجواب: أن المراد أتت عليه قاصدةً له وهو عادٌ وأبنيتُهم وعروشُهم لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم، فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم.
قوله: ﴿إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم﴾ هذه الجملة في موضع المفعول الثاني ل «تَذَرُ» كأنه قيل: مَا تَتْركُ مِنْ شيء إلا مجعولاً نحو: مَا تَرَكْتُ زَيْداً إلاَّ عَالِماً. وأعربها أبو حيان: حالاً. وليس بظاهر.

فصل


المعنى «مَا تَذَرُ» ما تترك ﴿مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ﴾ من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم ﴿إلاَّ جعلته كالرميم﴾ أي كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يَبِسَ ودِيسَ. قال مجاهد: كالتِّبْن اليابسِ.
وقال أبو العالية: كالتراب المدقُوق. وقيل: أصله من العظم البَالي.
97
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:قوله تعالى :﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا ﴾ الكلام عليه قد تقدم عَلَى نظيره١.
واعلم أن المراد بهذه الحكايات تسلية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكيره بحال الأنبياء.
فإن قيل : لِمَ لَم يذكر في «عَادٍ » و«ثمُودَ » أنبياءهم كما ذكر إبراهيم وموسى ولوطاً - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسلام - ؟ !.
فالجواب : أنه ذكر ست حكايات، حكاية إبراهيم وبشارته وحكاية قوم لوط ونجاة مَنْ كان فيها من المؤمنين وحكاية موسى، ففي هذه الحكايات الثلاثة ذكر الرسل والمؤمنين لأن الناجين منهم كانوا كثيرين، فأما في حق إبراهيم وموسى فظاهر وأما في حق لوطٍ فلأن الناجين وإن كَانُوا أهْلَ بَيْتٍ واحد لكن المهلكين أيضاً كانوا أهل بُقْعَةٍ واحدة. وأما عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إِلى الناجين أضعافَ المهلكين من قوم لوط عليهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَم ؛ فذكر الحكايات الثلاث الأول للتسلية بإهلاك العدو والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات :﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [ الذاريات : ٥٢ ] إلى أن قال :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ [ الذاريات : ٥٤ ] وقال في سورة هود بعد الحكايات :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ﴾ [ هود : ١٠٠ ] إلى أن قال :﴿ وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٢ ].
قوله :﴿ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم ﴾ وهي التي لا خير فيها ولا بركة، ولا تلقح شَجَراً، ولا تَحْمل مطراً لأنها تكسر وتقلع فكيف تلقح ؟ !٢.
واعلم أن الفَعِيلَ٣ لا يلحق به تاء التأنيث ( إِن كان٤ بمعنى مفعول وكذلك ) إِذا كان بمعنى فَاعِل في بعض الصُّور٥. وقد تقدم ذكر سببه، وهو أن فَعِيلاً٦ لما جاء للمفعول والفاعل جميعاً ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه ( لو تميز )٧ لَتَميَّزَ٨ الفاعل عن المفعول قبل تمييز المؤنث والمذكر، لأن الفاعلَ جزءٌ من الكلام محتاجٌ إليه، والمفعول فيه فائدة أكيدةٌ وإن لم يكن جزءاً من الكلام محتاجاً إليه، فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل ( والمفعول )٩ تقول : فَاعِلٌ وفَاعِلَةٌ، ومَفْعُولٌ ومفَعُولَةٌ، ويدل على ذلك أيضاً أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل : فَاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة، وقيل : مفعُول بواو فاصلة بين العين واللام والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة، فالمميز فيهما١٠ غيَّر نظم الكلمة لشدّة الحاجةِ ( وفي١١ التأنيث ) لم يؤثر، ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كُلّ واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل، والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف ( واحد١٢ عند ) وجوده يميز المؤنث وعدمه يبقي اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن «فَعِيلٌ » يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك ( المؤنث١٣ والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إِلا بحرف غير متصل به١٤.
قوله :﴿ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ ﴾ فيه وجهان ) :
أحدهما : أنه نصب على أنه صفة للريح بعد صفة «العَقِيم ». قاله الواحدي١٥.
فإن قيل : كيف يكون وصفاً والمعرف لا يوصف بالجُمَلِ ؟ و«مَا تَذَرُ » جملة فلا يوصف بها النكرات ؟ !.

فالجواب من وجهين :

الأول : أن يكون بإِعادة الريح تقديراً، كأنه يقول : وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ ريحاً مَا تَذَرُ١٦.
الثاني : أنها لما لم تكن معهودة صارت منكَّرة كأنه يقول : لم تكن من الرياحِ التي تقع ولا وقع مثلُها، فهي لشدتها منكرة، ولهذا أكثر ما ذكرت في القرآن منكَّرة، ووصفت بالجملة كقوله تعالى :﴿ بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ الأحقاف : ٢٤ ]، وقوله :﴿ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ ﴾ [ الحاقة : ٦ و٧ ] إلى غير ذلك.
الوجه الثاني١٧ : أنه نصب على الحال، تقول : جَاءَنِي ما يَفْهَمُ شَيْئاً فَعَلَّمْتُهُ وفَهَّمْتُهُ أي حاله كذا.
فإن قيل : لم يكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجوداً مع ذِي الحال وقت الفعل فلا يجوز أن يقال : جاءني زيد أمس راكباً غداً، والريح بعد ما أرسلت بزمان صارت ما تذرُ شيئاً !
فالجواب : أن المراد بيان الصلاحية أي التي أرسلناها على قوةٍ وصلاحيّةٍ لا تذر، وتقول لمن جاء وأقام عندك أياماً ثم سألك شيئاً : جئْتَني سَائلاً أيْ وقت السؤال بالصلاحية والإِمكان.
هذا إن قيل : بأنه نصب على المشهور.
ويحتمل أنه رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره هِيَ مَا تَذَرُ١٨.
فَإن قِيلَ :«ما تذر » لنفي حال المتكلم ؛ يقال : مَا خَرَجَ١٩ زَيْدٌ إلَى الآن، وَإِذا أَرَدْتَ المستقبل تقول : لا يخرجُ أو لن يَخْرُجَ. وتقول للماضي : مَا خَرَجَ ولم يَخْرُجْ، والريح حالة الكلام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ما تركت من شيء إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحال٢٠ : ما تذر ؟ !
فالجواب : أنّ الحكايات مقدرة على أنها محكية حال الوقوع، كقوله تعالى :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد ﴾ [ الكهف : ١٨ ] مع أن اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل، وإنما يعمل ما كان منْه بمعنى الحال والاستقبال.
فإن قيل : هل في قوله تعالى :﴿ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ﴾ تخصيص كما في قوله تعالى :﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [ الأحقاف : ٢٥ ].
فالجواب : أن المراد به المبالغة، لأن قوله :«أَتَتْ عَلَيْهِ » وصف لقوله :«شَيْء » كأنه قال : كُلّ شيءٍ أَتَتْ عَلَيْه، أو كل شيء تأتي عليه، ولا يدخل فيه السماوات، لأنها ما أتت عليه٢١، وإنما يدخل فيه الأجسام التي تَهُبُّ عليها الرِّياحُ.
فإِن قيل : فالجبال والصخور أتت عليه٢٢ وما جعلته كالرَّميم !.
فالجواب : أن المراد أتت عليه قاصدةً له وهو عادٌ وأبنيتُهم وعروشُهم لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم، فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم٢٣.
قوله :﴿ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم ﴾ هذه الجملة في موضع المفعول الثاني ل «تَذَرُ » كأنه قيل : مَا تَتْركُ مِنْ شيء إلا مجعولاً نحو : مَا تَرَكْتُ زَيْداً إلاَّ عَالِماً. وأعربها أبو حيان٢٤ : حالاً. وليس بظاهر.

فصل


المعنى «مَا تَذَرُ » ما تترك ﴿ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ﴾ من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم ﴿ إلاَّ جعلته كالرميم ﴾ أي كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يَبِسَ ودِيسَ. قال مجاهد : كالتِّبْن اليابسِ.
وقال أبو العالية : كالتراب المدقُوق. وقيل : أصله من العظم البَالي٢٥.
١ في آية: "وفي موسى" ويقصد الكلام من ناحية اللفظ والإعراب..
٢ وانظر في كل هذا تفسير العلامة الرازي ٢٨/٢٢١ و٢٢٢..
٣ كذا هو الأصح وفي النسختين الفعل وهو تحريف غير مقصود بل يقصد الفعيل وهو العقيم..
٤ زيادة لا بد منها من الرازي والعُرف اللغوي فقد سقطت من النسختين..
٥ فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا علم الموصوف، تقول: امرأة جريح ورجل جريح، وتلك الصيغة –هي وغيرها مما حدده أهل اللغة- ليست قياسية. وجعل بعض العلماء فعيلا لكثرتها قياسيا فيما ليس له فعيل بمعنى فاعل، فإن كان قد ورد من المصدر فعيل بمعنى فاعل كحفيظ وقدير لا يأتي منه فعيل بمعنى مفعول قياسيا خوف اللبس (بتصرف من التبيان ٧٠)..
٦ في النسختين فعل. والأصح ما أثبته صرفا ونحوا..
٧ زيادة من الرازي عن النسختين لتوضيح السياق وبيان مراده..
٨ في النسختين: لتمييز والصواب ما أثبت من لفظ الفعلية..
٩ زيادة من الرازي للسياق..
١٠ أي في فاعل ومفعول..
١١ زيادة من الرازي والسياق للتوضيح للمراد..
١٢ كلمة واحد وجدت في ب فقط وكلمة "عند" زيادة على النسختين من الرازي..
١٣ ما بين القوسين كله سقط من أ ووجد في ب والرازي..
١٤ وانظر بالمعنى قليلا تفسير الرازي ٢٨/٢٢٢..
١٥ المرجع السابق..
١٦ وتكون ريحا المقدرة بدل من "الريح" الأولى..
١٧ وهو اختيار الإمام الرازي في تفسيره ٢٨/٢٢٢ فإنه رحجه بعد ما ذكر الوجه الأول..
١٨ وهذه الأشياء كلها تخريجات وتأويلات من الإمام الرازي على كلام الواحدي بأن العقيم صفة للريح، أقول: وجواب الرازي بالنسبة للوجه الأول يعتبر عرفا من حيث التأويل والتقدير، أما الثاني ففيه العقلية البحتة الاجتهادية..
١٩ في الرازي: ما يخرج زيد أي الآن..
٢٠ كذا في النسختين وفي الرازي الحال..
٢١ في الرازي: عليها..
٢٢ وكذلك تلك بلفظ عليها فيه أيضا..
٢٣ وانظر: الرازي السابق ٢٨/٢٢٢، ٢٢٣..
٢٤ البحر المحيط ٨/١٤١..
٢٥ قال بهذه الأقوال البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٤٦..

قوله تعالى: ﴿وَفِي ثَمُودَ﴾ الكلام فيه كما تقدم في قوله: «وفي موسى»، وقوله:
97
﴿إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ﴾. قال بعض المفسرين: المراد منه هو ما أَمْهَلَهُم الله بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام (كما) في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ﴾ [هود: ٦٥] وكان في تلك الأيام تغيير ألوانهم فتصفرُّ وتحمرُّ وتسودُّ. قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف؛ لأن قوله تعالى: ﴿فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ بحرف الفاء دليل على أن العُتُوَّ كان بعد قوله: «تمتعوا»، فإذن الظاهر أن المراد هو ما قدر الله للناس من الآجال فما من أحد إِلا وهو مُمْهَلٌ مدَّة الأجل.
قوله: ﴿فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ «عَتَا» يتعدى تارة «بعَلَى»، كقوله تعالى: ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً﴾ [مريم: ٦٩]، وههنا استعمل بعَنْ؛ لأن فيه معنى الاستكبار كقوله: ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأنبياء: ١٩] وحيث استعمل بعلى، فهو كقولك: فُلاَنٌ يتكبَّر عَلَيْنَا.
قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة﴾ وهذه قراءة العامة. وقرأ الكسائي الصّعْقَةُ. والحسن الصَّاقِعَة. وتقدم ذكره في البقرة. وقوله: «وَهُمْ يَنْظُرُونَ» جملة حالية من المفعول. و «يَنْظُرُونَ» قيل: من النَّظَرِ. وقيل: من الانتظار أي ينتظرون ما وُعدوهُ من العذاب.
قوله (تعالى) :﴿فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ﴾ أي فما قاموا بعد نزول العذاب ولا قدروا على دفعه.
قال قتادة: لم ينهضوا من تلك الصرعة.
وقوله: «من قيام» بدل قوله: منْ هَرَب؛ لأن العاجز عن القيام أحرى أن يعجز عن الهَرَب. ويحتمل أن يكون المراد منه من القيام بالأمر أي ما استطاعوا من قيامٍ به. ﴿وما كانوا منتصرين﴾ أي منتقمين منا. قال قتادة: كان عندهم قوة من الله.
98
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:قوله تعالى :﴿ وَفِي ثَمُودَ ﴾ الكلام فيه كما تقدم في قوله :«وفي موسى »١، وقوله :﴿ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ ﴾. قال بعض٢ المفسرين : المراد منه هو ما أَمْهَلَهُم الله بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام ( كما ) في قوله تعالى :﴿ فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ﴾ [ هود : ٦٥ ] وكان في تلك الأيام تغيير ألوانهم فتصفرُّ وتحمرُّ وتسودُّ. قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ؛ لأن قوله تعالى :﴿ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ﴾ بحرف الفاء دليل على أن العُتُوَّ كان بعد قوله :«تمتعوا »، فإذن الظاهر أن المراد هو ما قدر الله للناس من الآجال فما من أحد إِلا وهو مُمْهَلٌ مدَّة الأجل٣.
قوله :﴿ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ﴾ «عَتَا » يتعدى تارة «بعَلَى »، كقوله تعالى :﴿ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمان عِتِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٩ ]، وههنا استعمل بعَنْ ؛ لأن فيه معنى الاستكبار كقوله :﴿ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾ [ الأنبياء : ١٩ ] وحيث استعمل بعلى، فهو كقولك : فُلاَنٌ يتكبَّر عَلَيْنَا٤.
قوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة ﴾ وهذه قراءة العامة. وقرأ الكسائي الصّعْقَةُ٥. والحسن الصَّاقِعَة٦. وتقدم ذكره في البقرة٧. وقوله :«وَهُمْ يَنْظُرُونَ » جملة حالية من المفعول. و«يَنْظُرُونَ » قيل : من النَّظَرِ. وقيل : من الانتظار أي ينتظرون ما وُعدوهُ من العذاب.
١ وفي قوله: وفي عاد..
٢ ذكر تلك الرازي ولم يحدد من قال بذلك ورجعت إلى البغوي والقرطبي والزمخشري والفراء وأبي حيان فوجدتهم قالوا مثل ما قال المؤلف أعلى وانظر: البغوي: ٦/٢٤٦ والقرطبي ١٧/٥١ والكشاف ٤/١٩ والفراء ٣/٨٨ والبحر ٨/١٤١..
٣ تفسيره ٢٨/٢٢٣ و٢٢٤..
٤ المرجع السابق..
٥ شاذة وهي اسم مرة على فعلة. انظر: الجامع للقرطبي ١٧/٥١ والبحر المحيط ٨/١٤١ وهي نفس قراءة وعمر بن الخطاب وابن مُحَيصن وحميد ومجاهد..
٦ كذا في البحر لأبي حيان السابق وفي ابن خالويه ١٤٥ الصواقع جمعا..
٧ من الآية ١٩ من سورة "البقرة": ﴿يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق﴾ والآية ٥٥ منها أيضا: ﴿فأخذتهم الصاعقة﴾. وفيها لغتان في الصاعقة التي تنزل وتحرق. وقيل: الصاعقة هي التي تنزل من السماء وتحرق والصعقة بغير ألف الزجرة. وقد روي: الصعقة بغير ألف من عمر وعثمان. والصاقعة كالصاعقة..

قوله ( تعالى )١ :﴿ فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ ﴾ أي فما قاموا بعد نزول العذاب ولا قدروا على دفعه.
قال قتادة : لم ينهضوا من تلك الصرعة.
وقوله :«من قيام » بدل قوله : منْ هَرَب ؛ لأن العاجز عن القيام أحرى أن يعجز عن الهَرَب. ويحتمل أن يكون المراد منه من القيام بالأمر أي ما استطاعوا من قيامٍ به. ﴿ وما كانوا منتصرين ﴾ أي منتقمين منا. قال قتادة : كان عندهم قوة من الله٢.
١ زيادة من أ..
٢ وانظر: البغوي ٦/٢٤٦ والقرطبي ١٧/٥٢..
قوله تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ قرأ الأخوان وأبو عمرو بجر الميم، والباقون بنصبها. وأبو السَّمَّال وابن مِقْسم وأبو عمرو في رواية الأصمعيّ: وقَوْمُ نُوحٍ بالرفع.
فأما الخفض ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على «وَفِي الأرض».
(الثاني: أنه معطوف على «وَفِي مُوسَى».
الثالث: أنه معطوف على: «وَفِي عَادٍ» ).
الرابع: أنه معطوف على «وَفِي ثَمُودَ». وهو الظاهر؛ لقُرْبه، وبُعْدِ غيره، ولم يذكر الزمخشري غَيْرَهُ، فإنه قال: قُرئ بالجرِّ على معنى وقوم نوح وتقوِّيه قراءةُ عبد الله: وفِي قَوْمِ نوحٍ؛ أي لكم عبرة. ولم يَذْكُرْ أبو البقاء غير الوجه الأخير لظهوره.
وأما النصب ففيه ستة أوجُهٍ:
أحدها: أنه منصوب بفعل مضمر أي وأهْلَكْنَا قَوْمَ نوحٍ؛ لأن ما قبله يدل عليه.
الثاني: أنه منصوب ب «اذْكُرْ» مقدراً، ولم يذكر الزمخشَريُّ غيره.
الثالث: أنه منصوب عطفاً على مفعول «فَأَخَذْنَاهُ».
الرابع: أنه معطوف على مفعول فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليمِّ أي أَغْرَقْنَاهم، وناسب ذلك أن قوم نوح مغرقون من قبل لكن يشكل أنهم لم يغرقوا في اليمِّ. وأصل العطف أن يقتضي التشريك في المتعلقات.
الخامس: أنه معطوف على مفعول «فَأَخَذَتْهُمُُ الصَّاعِقَةُ». وفيه إشكال لأنه لم تأخذهم الصاعقة وإنما أهلكوا إلا أن يراد بالصَّاعقة الداهية والنازلة العظيمة من أي نوعٍ كانت فيقرب ذلك.
السادس: أنه معطوف على محل: «وفي موسى». نقله أبو البقاء. وهو ضعيف. وأما الرفع فعلى الابتداء والخبر مقدر أي أهْلَكْنَاهُمْ. وقال أبو البقاء: والخبر ما
99
بعده يعني من قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ ولا يجوز أن يكون مراده قولَه «مِنْ قَبْلُ» إِذِ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخْبَرُ بِهِ.
100
قوله: ﴿والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ العامة على النصب على الاشتغال، وكذلك قوله: ﴿والأرض فَرَشْنَاهَا﴾ والتقدير: وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا. وقال أبو البقاء: أي وَرَفَعْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا فقدر الناصب من غير لفظ الظاهر. وهذا إنما يصار إليه عند تعذر التقدير الموافق لفظاً نحو: زَيْدٌ مرَرْتُ بِهِ، وزيد ضَرَبْتُ غُلاَمَهُ وأما في نحو: زَيْداً ضَرَبْتُهُ، فلا يقدر إلا ضَرَبْتُ زَيْداً.
وقرأ أبو السَّمَّال وابن مِقسم برفعهما؛ على الابتداء، والخبر ما بعدهما. والنصب أرجح لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها.
قوله: «بأَيْدٍ» يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وفيها وجهان:
أحدهما: أنها حال من فاعل «بَنَيْنَاهَا» أي ملتبسينَ بأيدٍ أي بقوة؛ قال تعالى: ﴿واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد﴾ [ص: ١٧].
الثاني: أنه حال من مفعوله أي ملتبسةً بقوة. ويجوز أن تكون الباء للسبب أي بسبب قُدْرَتِنَا. ويجوز أن تكون البَاء معدّية مجازاً على أن تجعل الأيدي كالآلة المبنيِّ بها، كقولك: بَنَيْتُ بَيْتَكَ بالآجُرّ.
قوله: «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل «بَنَيْنَاهَا». ويجوز أن تكون حالاً من مفعوله ومفعول «موسِعُون» محذوف أي مُوسِعُونَ بِنَاءَهَا. ويجوز أن لا يقدر له مفعولٌ؛ لأن معناه: لَقَادِرُونَ كقولك: ما في وُسْعِي كذا أي ما في طاقتي وقُوَّتِي؛ كقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] قاله ابن عَبَّاسٍ وعنه أيضاً: لموسعون الرزق على خَلْقِنَا.
وقيل: ذُو سَعَةٍ. وقال الضحاك: أغنياء، دليله قوله تعالى: ﴿عَلَى الموسع قَدَرُهُ﴾ [البقرة: ٢٣٦].
100
قال ابن الخطيب: ويجوز أن يكون من السَّعَة أي أوْسَعْنَاهَا بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماءِ والهواء بالنسبة إلى سعتها داخل فيها والبناء الواسع الفضاء عجيب، فإِنَّ القُبَّة الواسعة لا يقدر عليها البَنَّاؤُونَ، لأنهم محتاجون إِلى إقامة آلة يصح بها استدارتها، ويثبت بها تَمَاسُك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض. فقوله: «وإنا لموسعون» بيان للإعراب (في الفعل).

فصل


والحكمة في كَثْرة ذكر البناء في السموات كقوله تعالى: ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: ٥]، وقوله: ﴿أَمِ السمآء بَنَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧] أن بناء السماءِ باقٍ إلى قيام الساعة، لم يسقط منها شيء، ولم يُعْدَم منها جزءٌ. وأما الأرض فَهي في التبدل والتغير كالفراش الذي يُبْسَط ويُطْوَى ويُنْقَلُ، والسماء كالبناء المبنيّ الثابت كما أشار إليه بقوله: ﴿سَبْعاً شِدَاداً﴾ [النبأ: ١٢] وأما الأرض فكَمْ صارت بحراً، وعادت أرضاً من وقت حدوثها، وأيضاً فالسماء ترى كالقُبَّةِ المبنية فوق الرؤوس، والأرض مبسوطة مَدْحُوَّة، وذكر البناء بالمرفوع أليق كقوله تعالى: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ [النازعات: ٢٨].
وقال بعض الحكماء: السماء مسكَن الأَرْوَاحِ، والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناءً. والله أعلم.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال: وبَنَيْنَا السَّمَاءَ بأيدٍ كان أَوْجَز؟!.
فالجواب: قال ابن الخطيب: لأن الصُّنْعَ قبل الصانع عند الناظر في المعرفة، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال: والسَّمَاء المبنية التي لا تشُكُّون في بُنْيَانِها، فاعْرفونا بها إِن كنتم لا تَعْرِفُونَنَا.
فإن قيل: إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال: بَنَيْنَاها، ولم يقل: بَنَيْتُها؟ ولا بناها الله؟!
فالجواب: أن قوله: بنيناها أدل على عدم الشريك، لأن الشّركة ضعيفة؛ فإن الشريكَ يمنع شَريكه عن التصرف والاستبداد، وقوله: «بَنَيْنَاهَا» يدل على العَظَمَة، وبين العظمة والضعف تنافرٌ فبين قوله: «بَنَيْنَاهَا» وبين أن يكون شريك منافاة. وتقريره أن قوله تعالى: ﴿بَنَيْنَاهَا﴾ لا يورث إيهاماً بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها
101
الضمير، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صُوَرِها وطَبائِعِهَا، فأما الأصنام المنحوتة فلا يَشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها؛ وإنما يقال: بُنيتْ لها وجعلت أماكنها، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال: بَنَيْنَا نَحْنُ ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شُرَكَاءَ. ثم لما بين أن قولهم لا يُوهم شريكاً أصلاً، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقاً للسماء ولا بانيها، فعلم أن المراد جمعُ التعظيم، فأفاد النص عظمة، والعظمة أنفى للشريك، فعلم أن قوله: «بَنَيْنَاهَا» أدلّ على نفي الشَّريك من «بَنَيْتُهَا» و «بِنَاء اللَّهِ».
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: بَنَيْنَاهَا بأيدينا كما قال: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ﴾ [يس: ٧١].
فالجواب: أن ذلك لفائدة جليلة، وهي أنَّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك.
فقال هناك: عملت أيدينا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة. وكذلك: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] وفي السماء قال: بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها.
وفيه لطيفة (أخرى) وهي: أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته، وأما السماء: فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة، فقال: بَنَيْنَاهَا بعَوْدِ الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة.
قوله: «وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا» أي بسطناها ومَهَّدْنَاها، وفيه دليل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش.
قوله: «فَنِعْم المَاهِدُونَ» المخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي نَحْنُ، كقوله: ﴿نِعْمَ العبد﴾ [ص: ٣٠]، قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : معناه الباسطون أي نعم ما وطأت لعبادي.
قوله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ يجوز أن يتعلق «بخَلَقْنَا» أي خلقنا من كل شيء زَوْجَيْن، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من: «زَوْجَيْنِ» لأنه في الأصل صفة له، إذْ التقدير خَلَقْنَا زَوْجَيْنَ كَائِنَيْن مِنْ كلِّ شيء.
والأول أقوى في المعنى.

فصل


المعنى «خلقنا زوجين» صِنْفَيْن ونوعين مختلفين، كالسَّمَاءِ والأرض، والشَّمس
102
والقمر، والليل والنهار، والبَرّ والبحر، والسَّهْل والجبل، والشتاء والصَّيْف، والجنّ والإنس، والذَّكَر والأنثى، والنور والظُّلْمَة، والإيمان والكفر، والسعادة (والشقاوة) والحق والباطل، والحُلْو والمُرّ «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فتعلمون أنّ خالق الأزواج واحد لا شريك له، لا يعجز عن حشر الأجْساد وجَمْع الأرواح.
قوله: ﴿ففروا إِلَى الله﴾ أي فاهربُوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة. قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال سهل بن عبد الله: فروا ممَّا سوى الله إلى الله ﴿إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ وهذا إشارة إلى الرسالة.
قوله: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ إتماماً للتوحيد، لأن التوحيد يباين التعطيل والتشريك، لأن المُعَطِّل يقول: لا إله أصلاً والمشرك يقول بوجود إله آخر، والموحِّد يقول: قول الاثنين باطل، لأن نفي الواحد باطل والقول بالاثنين باطل، فلما قال تعالى: ﴿ففروا إِلَى الله﴾ أثبت وجود الله، فلما قال: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ نفى الأكثر من واحد فصح القول بالتوحيد بالآيتين.
ولهذا قال مرتين: ﴿إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي في المقامين والموضِعَيْنِ.
قوله: «كَذَلِكَ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمرُ مِثْلُ ذلك، (قال الزمخشري) : والإشارة بذلك إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً ومجنوناً. ثم فسَّر ما أجمل بقوله: «مَا أَتى».
والثاني: أن الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف. قاله مكي. ولم يبين تَقْدِيرَهُ. ولا يصح أن ينتصب بما بعده لأجل ما النافية. وأما المعنى فلا يمتنع، ولذلك قال الزمخشري: ولا يصح أن يكون الكاف منصوبة ب «أَتَى» لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلَها؛ ولو قيل: لم يأت لكان صحيحاً، يعني لو أتى في موضع «مَا» ب «لم» لجاز أن ينتصب الكاف ب «أَتَى» لأن المعنى يسوغ عليه، والتقدير: كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ تكذيباً مِثْلَ تَكْذِيبِ الأُمَم السَّابِقَة رُسُلَهُمْ. ويدل عليه قوله: ﴿مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ الآية.
103
قوله: ﴿إِلاَّ قَالُواْ﴾ الجملة القولية في محل نصب على الحال من: ﴿الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ و «مِنْ رَسُولٍ» فاعل: «أتى» كأنه قيل: ما أتى الأولينَ رسولٌ إلاَّ في حال قولهم: هُوَ سَاحِرٌ.
فإن قيل: إن من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله وبقي القوم على ما كانوا عليه كأنبياء بني إسرائيل وكيف وآدم لما أرسل لَمْ يُكَذّبْ؟!.
فالجواب: أنا لا نسلم أن المقرر رسول، بل هو نبي على دين رسولٍ ومن كَذَّب رَسُولَه فهو يكذبه أيضاً ضرورةً.
فإن قيل: قوله: ﴿ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا﴾ يدل على أنهم كلّهم قالوا: ساحر والأمر ليس كذلك لأن ما مِنْ رسول إلا وآمن به قومٌ وهم ما قالوا ذلك!.
فالجواب: أن ذلك ليس بعَامٍّ، فإنه لم يقل: إلا قال كلهم وإنما قال: «إلاَّ قَالوا» ولما كان كثير منهم قابلينَ ذلك قال الله تعالى: إِلاَّ قَالُوا.
فإن قيل: لِمَ لمْ يذكر المصدّقين كما ذكر المُكَذّبين، وقال: إِلاَّ بَعْضُهُمْ صدقتَ وبعضهم كذبتَ؟.
فالجواب: لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب، فكأنه تعالى قال: لا تأسَ على تكذيب قومِكَ، فإن أقواماً قبلك كَذّبوا ورسلاً كُذّبُوا.
قوله: «أَتَواصَوا بِه» الاستفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في «بِهِ» يعود على القول المدلول عليه بقَالُوا، أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول المتضمن كساحر أو مجنون؟. والمعنى: كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤوا عليه، وقال بعضهم لبعض: لا تقولوا إلا هذا وأوصى أولهم آخرَهم بالتكذيب. ثم قال: لم يكن ذلك لتواطُؤ قولٍ وإنما كان لمعنى جامع وهو أن الكُلّ أترفوا فاستغنوا فنَسُوا الله وطغوا فكذبوا رُسُلَهُ، قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك.
104
قوله :«وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا » أي بسطناها ومَهَّدْنَاها، وفيه دليل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش١.
قوله :«فَنِعْم المَاهِدُونَ » المخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي نَحْنُ، كقوله :﴿ نِعْمَ العبد ﴾ [ ص : ٣٠ ]، قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - )٢ : معناه الباسطون أي نعم ما وطأت لعبادي٣.
١ سقط من ب..
٢ البغوي ٦/٢٤٦..
٣ الرازي ٢٨/٢٢٧ السابق..
قوله تعالى :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يجوز أن يتعلق «بخَلَقْنَا » أي خلقنا من كل شيء زَوْجَيْن، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من :«زَوْجَيْنِ » لأنه في الأصل صفة له، إذْ التقدير خَلَقْنَا زَوْجَيْنَ كَائِنَيْن مِنْ كلِّ شيء١. والأول أقوى في المعنى.

فصل


المعنى «خلقنا زوجين » صِنْفَيْن ونوعين مختلفين، كالسَّمَاءِ والأرض، والشَّمس والقمر، والليل والنهار، والبَرّ والبحر، والسَّهْل والجبل، والشتاء والصَّيْف، والجنّ والإنس، والذَّكَر والأنثى، والنور والظُّلْمَة، والإيمان والكفر، والسعادة ( والشقاوة )٢ والحق والباطل، والحُلْو والمُرّ «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » فتعلمون أنّ خالق الأزواج واحد لا شريك له، لا يعجز عن حشر الأجْساد وجَمْع الأرواح.
١ بتوضيح من التبيان ١١٨٢..
٢ سقط من ب..
قوله :﴿ ففرّوا إِلَى الله ﴾ أي فاهربُوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة. قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما١ - ) : فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال سهل بن عبد الله : فرّوا ممَّا سوى الله إلى الله ﴿ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾٢ وهذا إشارة إلى الرسالة٣.
١ زيادة من أ كالعادة..
٢ وانظر: البغوي والخازن ٦/٢٤٦..
٣ قاله الرازي ٢٨/٢٢٨..
قوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ ﴾ إتماماً للتوحيد، لأن التوحيد يباين١ التعطيل والتشريك، لأن المُعَطِّل يقول : لا إله أصلاً والمشرك يقول بوجود إله آخر، والموحِّد يقول : قول الاثنين باطل، لأن نفي الواحد باطل والقول بالاثنين باطل، فلما قال تعالى :﴿ ففروا إِلَى الله ﴾ أثبت وجود الله، فلما قال :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ ﴾ نفى الأكثر من واحد فصح القول بالتوحيد بالآيتين.
ولهذا قال مرتين :﴿ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي في المقامين والموضِعَيْنِ٢.
١ كذا في النسختين وفي الرازي: بين..
٢ بالمعنى من المرجع السابق ٢٨/٢٢٩..
قوله :«كَذَلِكَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمرُ١ مِثْلُ ذلك، ( قال الزمخشري )٢ : والإشارة بذلك٣ إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً ومجنوناً٤. ثم فسَّر ما أجمل بقوله :«مَا أَتى ».
والثاني : أن الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف. قاله مكي٥. ولم يبين تَقْدِيرَهُ. ولا يصح أن ينتصب بما بعده لأجل ما النافية. وأما المعنى فلا يمتنع، ولذلك قال الزمخشري : ولا يصح أن يكون الكاف منصوبة ب «أَتَى » لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلَها ؛ ولو قيل : لم يأت لكان صحيحاً٦، يعني لو أتى في موضع «مَا » ب «لم » لجاز أن ينتصب الكاف ب «أَتَى » لأن المعنى يسوغ عليه، والتقدير : كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ تكذيباً مِثْلَ تَكْذِيبِ الأُمَم السَّابِقَة رُسُلَهُمْ. ويدل عليه قوله :﴿ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ الآية.
قوله :﴿ إِلاَّ قَالُواْ ﴾ الجملة القولية في محل نصب على الحال من :﴿ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ و«مِنْ رَسُولٍ » فاعل :«أتى » كأنه قيل : ما أتى الأولينَ رسولٌ إلاَّ في حال قولهم : هُوَ سَاحِرٌ.
فإن قيل : إن من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله وبقي القوم على ما كانوا عليه كأنبياء بني إسرائيل وكيف وآدم لما أرسل لَمْ يُكَذّبْ ؟ !.
فالجواب : أنا لا نسلم أن المقرر رسول، بل هو نبي على دين رسولٍ ومن كَذَّب رَسُولَه فهو يكذبه أيضاً ضرورةً.
فإن قيل : قوله :﴿ ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ﴾ يدل على أنهم كلّهم قالوا : ساحر والأمر ليس كذلك لأن ما مِنْ رسول إلا وآمن به قومٌ وهم ما قالوا ذلك !.
فالجواب : أن ذلك ليس بعَامٍّ، فإنه لم يقل : إلا قال كلهم وإنما قال :«إلاَّ قَالوا » ولما كان كثير منهم قابلينَ ذلك قال الله تعالى : إِلاَّ قَالُوا.
فإن قيل : لِمَ لمْ يذكر المصدّقين كما ذكر المُكَذّبين، وقال : إِلاَّ بَعْضُهُمْ صدقتَ وبعضهم كذبتَ ؟.
فالجواب : لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب، فكأنه تعالى قال : لا تأسَ على تكذيب قومِكَ، فإن أقواماً قبلك كَذّبوا ورسلاً كُذّبُوا.
١ قاله في التبيان ١١٨٢.
٢ سقط من الأصل..
٣ في الكشاف: "وذلك إشارة"..
٤ الكشاف ٤/٢٠..
٥ مشكل الإعراب ٢/٣٢٥ و٣٢٦ كما قال بالأول أيضا..
٦ الكشاف السابق..
قوله :«أَتَواصَوا بِه » الاستفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في «بِهِ » يعود على القول المدلول عليه بقَالُوا، أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول المتضمن كساحر أو مجنون ؟. والمعنى : كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤوا عليه، وقال بعضهم لبعض : لا تقولوا إلا هذا وأوصى أولهم آخرَهم بالتكذيب. ثم قال : لم يكن ذلك لتواطُؤ قولٍ وإنما كان لمعنى جامع وهو أن الكُلّ أترفوا فاستغنوا فنَسُوا الله وطغوا فكذبوا رُسُلَهُ١، قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما٢ - ) حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك.
١ وانظر في هذا كله تفسير الفخر الرازي ٢٨/٢٢٩ و٢٣٠..
٢ زيادة من أ..
قوله «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» فأعرض عنهم، ﴿فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ لا لوم عليك، قد أديت الرسالة، وما قصرت فيما أمرت به. وهذه تسليةٌ أُخْرَى.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حَزِنَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاشتدّ ذلك على
104
أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يتولَّى عنهم فأنزل الله: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين﴾ فطابت أنفسهم. والمعنى: ليس التولي مطلقاً، بل تَوَلَّ وأَقْبِلْ وأَعرض وادعُ فلا التولي يضرك إذا كان علهيم، ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين.
قال مقاتل: معناه عِظ بالقرآن كفار مكة، فإن الذكرى تنفع من علم الله أنه يؤمن منهم. وقال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفعهم.
105
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:قوله «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ » فأعرض عنهم، ﴿ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ لا لوم عليك، قد أديت الرسالة، وما قصرت فيما أمرت به١. وهذه تسليةٌ أُخْرَى.
قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حَزِنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتدّ ذلك على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولَّى عنهم فأنزل الله :﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين ﴾ فطابت أنفسهم. والمعنى : ليس التولي مطلقاً، بل تَوَلَّ وأَقْبِلْ وأَعرض وادعُ فلا التولي يضرك إذا كان عليهم، ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين.
قال مقاتل : معناه عِظ بالقرآن كفار مكة، فإن الذكرى تنفع من علم الله أنه يؤمن منهم. وقال الكلبي : عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفعهم٢.
١ قاله البغوي ٦/٢٤٧..
٢ وانظر: تفسير العلامة البغوي والخازن ٦/٢٤٧..

قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾. هذا الجار متعلق «بخَلَقْتُ».
واختلف في الجن والإنس، قيل: المراد بهم العموم والمعنى إلا لآمرهم بالعبادة وليقروا بها، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب، ويؤيده: ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً﴾ [التوبة: ٣١] أو يكون المعنى: ليطيعوني وينقادوا لقضائي، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر كرهاً، فكل مخلوق من الجِنّ والإنس خاضع لقضاء الله متذلّل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه. أو يكون المعنى: إلا معدين للعبادة، ثم منهم من يتأتى منه ذلك، ومنهم من لا، كقولك: هَذَا القَلَمُ بَرَيْتُهُ لِلْكِتَابَةِ، ثم قد يكتب به، وقد لا يُكْتَب وقيل: المراد به الخصوص، أي ما خلقت السعداءَ من الجنِّ والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. قاله زيد بن أسلم. قال: هو ما جُبلوا عليه من السعادة والشقاوة، ويؤيده قوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس﴾ [الأعراف: ١٧٩].
وقال مجاهدٌ: معناه إِلاَّ ليعْرفُون. قال البغوي: وهذا أحسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، بدليل قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧]، وقيل: إلا ليعبدون أي إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيُوَحِّده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشّدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ [العنكبوت: ٦٥] وقيل: المراد وما خلقت الجِنَّ والإِنْسَ المؤمنين. وقيل: الطائعين. قال شهاب الدين: والأول أحسنُ.
105

فصل


في تعلق الآية بما قبلها أن بعثة الأنبياء منحصرة في أمرين عبادة الله وهداية الخلق، فلما قال تعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ [الذاريات: ٥٤] بين أن الهداية قد سقطت عند اليأس، وأمّا العبادة فهي لازمة للخلق المطلق وليس الخلق المطلق للهداية، وقيل: إنه لما بين حال من قبله فِي التكذيب ذكر هذه ليتبين سُوءَ صنيعهم، حيث تركوا عبادة الله الذي خلقهم للعبادة.
فإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلَّفين، قال تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦] وقال: ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأعراف: ٢٠٦].
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه تقدم أن الآية سيقت لبيان قُبْح ما يفعله الكَفَرَةُ، من ترك ما خُلِقُوا له. وهذا مختص بالجِنِّ والإنس؛ لأن الكفر موجودٌ في الجنِّ والإنس بخلافِ الملائكة.
الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان مبعوثاً إلى الجنِّ والإنس، فلما قال: «وَذَكِّرْ» بين ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة، وخصص أمته بالذكر أي ذكر الإنس والجن.
الثالث: أن عباد الأصنام كانوا يقولون: إن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين، فهُم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله كما قالوا:
﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] فقال تعالى: ﴿مَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم، فذكر المتنازع فيه.
الرابع: فعل الجن يتناول الملائكة، لأن أصل الجن من الاستتار، وهم مُسْتَتِرُون عن الخلق فذكر الجن لدخول الملائكة فيهم.
قوله: ﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ﴾ أي يرزقوا أحداً من خَلْقِي، ولا أن يرزقوا أنفسهم ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ أي يطعموا أحداً من خلقي. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عِيالُ الله ومن أطعم عيالَ أحدٍ فقد أطعمَهُ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي»، أي لم تطعم عبدي.

فصل


استدل المعتزلة بقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ على أن
106
أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض وأجيبوا بوجوه تقدمت منها: أن اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس﴾ [الإسراء: ٧٨] وقوله: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] ومعناه المقارنة فمعناه: قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم، وفرضت عليهم العبادة.
ومنها: قوله تعالى: ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢] و [الرعد: ١٦].
ومنها: ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [النحل: ٩٣] وأمثاله.
ومنها: قوله تعالى: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣] وقوله: ﴿وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ﴾ [إبراهيم: ٢٧] و ﴿يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة: ١].
وقوله تعالى: ﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ معناه: أن النفع يعود إليهم لا لي.
فإن قيل: ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أن من لا يريد من أحدٍ رزقاً لا يريد أن يُطْعِمَهُ؟ ﴿.
فالجواب: أن السيِّدَ قد يطلب من العبد المتكسّب له، فيطلب منه الرزق، وقد يكون للسَّيدِ مالٌ وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاءَ حوائجه وإحضار الطعام بين يديه، فقال: لا أريد ذلك ولا هذا. وقد طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنَى إِلى الأعلى.
فإن قيل: ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أن المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟﴾
.
فالجواب: أنه لما عمم النفي في الطلب الأول بقوله: «من رزق» وذلك إشارة إلى التعميم بذكر الإِطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى، فكأنه قال: ما أريد منهم من غِنًى ولا عَمَلٍ.
فإن قيل: المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإن السيِّد قد يشتري العبد لا لطلب عمل منه، ولا لطلب رزق ولا للتعظيم، بل يشتريه للتجارة!
فالجواب: أن عموم قوله: ﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ﴾ يتناول ذلك.
قوله: «أَنْ يُطْعِمُونِ» قيل: فيه حذف مضاف أي يطعموا خَلْقِي كما تقدم في التفسير. وقيل: المعنى أن يَنْفَعُون فعبر ببعض وجوه الانتفاعات لأن عادة السادة أن ينتفعوا بعبيدهم، والله مُسْتَغْنٍ عن ذلك.
107
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله هُوَ الرزاق﴾ يعني لجميع خلقه، وهذا تقرير لعدم طلب الرزق، وقوله: «ذو القُوَّةِ» تقرير لعدم طلب العمل لأن من يطلب رزقاً يكون فقيراً محتاجاً، ومن يطلب عملاً يكون عاجزاً لا قوة له فكأنه يقول: ما أريدُ منهم من رزق فإني أنا الرزّاق، ولا العمل فإِني قَوِيّ.
وروي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قرأ: إِنِّي أنا الرزَّاق، وقرأ ابن مُحَيْصِن: الرَّازق، كما تقدم في قراءته: ﴿وَفي السَّمَاء رازِقُكمْ﴾.
قوله: «المَتِينُ» العامة على رفعه، وفيه أوجه:
إما النعت للرزَّاق، وإما النعت لِذُو، وإما النعت لاسم «إِنَّ» على الموضع. وهو مذهب الجَرْمِيِّ والفراء، وغيرهما. وإما خبر بعد خبر، وإما خبر مبتدأ مضمر. وعلى كل تقدير فهو تأكيد، لأن «ذو القوة» يفيد فائدتَهُ.
وقرأ يَحْيَى بْنُ وَثَّاب والأعمشُ المَتِينِ - بالجر - فقيل: صفة «القوة»، وإنما ذكر وصفها لكوْن تأنيثِها غيرَ حَقِيقيٍّ. وقيل: لأنها في معنى الأيْدِ.
وقال ابن جنِّي: هو خفض على الجوار كقولهم: «هَذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» يعني أنه صفة للمرفوع، وإنما جر لما جاور مجروراً. وهذا مرجوحٌ لإمكان غيره، والجوار لا يصار إليه إلا عند الحاجة.

فصل


قال تعالى: «ما أريد» ولم يقل: إني رازق بل قال على الحكاية عن الغائب إن الله هو الرزّاق فما الحكمة فيه؟.
108
قال ابن الخطيب: نقول: قد رُوِيَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ: إنِّي أنا الرَّزَّاق. وأما على القراءة المشهورة فالمعنى: قُلْ يا محمد إن الله هو الرزَّاق، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة، أو يكون قل مضمراً عند قوله: «مَا أُرِيدُ» أي قل يا محمد: ما أريد منهم من رزق فيكون بمعنى قوله: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ [ص: ٨٦] ويكون على هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله هُوَ الرزاق﴾، ولم يقل: القوي، بل قال: ذُو القوة، لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق، وعدم الاستعانة بالغير لكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحداً، فإن كثيراً من الناس يرزق ولده وعبده ويسترزق والملك يرزق الجند، ويسترزق، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب لأن المسترزِقَ منه يكثر الرزق، لا يسترزق من رزقه فلم يكن ذلك المقصود يحصل إلا بالمبالغة في وصف الرازق، فقال: الرزَّاق، وأما ما يُغني عن الاستعانة بالغير، فهو دون ذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير، فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به استعانة قوية بل استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك، ولما قال: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ كفاه بيان نفس القوة فقال: «ذُو القوة»، لأن قولنا: ذُو القوة في إفادة معنى القوي دون إفادة القَوِيّ، لأن ذلك لا يقال في الوصف اللازم البين، يقال في الآدمي: ذُو مَال ومتمول، وذو جَمال، وجميل، وذو خلق حسن إلى غير ذلك مما (لا) يلزم لزوماً بيناً.
ولا يقال في الثلاثة: ذات فردية، ولا في الأربعة: ذات زوجية، وهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية فلم يسمع ذو الوجود ولا ذو الحياة ولا ذو العِلم، ويقال في الإنسان: ذو علم، وذو حياة لأنها فيه عرض لا لازم بين.
وفي صفات الفعل يقال: الله تعالى ذُو الفضل كثيراً (وذو الخلق قليلاً) ؛ لأن «ذا كذا» بمعنى صاحب والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلاً عن اللزوم البين. ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦] فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العِلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقويّ، ويؤيده أيضاً قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ﴾ [غافر: ٢٢] وقوله: ﴿الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ القوي﴾ [الشورى: ١٩] وقال: ﴿لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: ٢١] لأن هذه الصور كان المراد بها بيان القيام بالأفعال العظيمة وههنا المراد عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر (ما). ومن يقوم مستبداً بالفعل لا بد له من قوة عظيمة، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عَنْه.
109

فصل


قوله: «المَتِينُ»، لأن ذا القوة كما تقدم لا يدل إلا على أن له قوةً ما، فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظاً ومعنى، فإن معنى مَتْن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن والمتانة مع القوة كالعزّة مع القوي حيث قرن العزة مع القوة في قوله: «قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقوله: «القَوِيّ العَزِيزُ».
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ قد تقدم الكلام على الفاء في وجه التعلق. والمراد بالذين ظلموا: كفار مكة. ومعنى ذنوباً أي نصيباً من العذاب ﴿مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾ أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعادٍ، وثمود. والذنوب: في الأصل الدلو العظيمة المملوءة ماء، وفي الحديث الشريف: «فَأُتي بذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ» فإن لم تكن مَلأَى فهو الدَّلْو، ثم عبر به عن النَّصيب، قال علقمة:
٤٥٣٠ - وَفِي كُلّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتُ بِنِعْمَةٍ فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنوبُ
ويجمع في القلة على أَذْنِبَةٍ، وفي الكثرة على ذَنَائِبَ. وقال المَلكُ لما أنشد هذا البيت نَعَمْ وأَذْنِبَة.
وقال الزمخشري: الذَّنُوب الدلو العظيمة، وهذا تمثيل أصله في السّقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الشاعر:
110
وقال الراغب: الذنوب الدلو الذي له ذنب انتهى. فراعى الاشتقاق. والذنوب أيضاً الفَرَسُ الطّويل الذّنب وهو صفة على فَعُول. والذَّنوب لحم أسفل المَتْن. ويقال: يَوْم ذَنُوب أي طويل الشّر استعارة من ذلك.
قوله: ﴿فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ﴾ أي بالعذاب. ووجه مناسبة الذنوب أن العذاب منصبّ عليهم كما يُصَبُّ الذَّنُوبُ، قال تعالى: ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم﴾ [الحج: ١٩] وقال تعالى: ﴿ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم﴾ [الدخان: ٤٨] والذّنوب كذلك فكأنه قال: نصبّ فوق رؤوسهم ذَنُوباً من العذاب كذنوب صُبّ فوق رؤوس أولئك. ووجه آخر وهو أن العرب يستقون من الآبار على النَّوْبَة ذنوباً فذنوباً وذلك وقت عيْشِهم الطيب، فكأنه تعالى قال: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ من الدنيا وطيباتها «ذَنُوباً» إذا ملأوه ولا يكون لهم في الآخرة من نصيب كما كان عليه حال أصحابهم استقوا ذنوباً وتركوها، وعلى هذا فالذنوب ليس بعذاب ولا هلاك وإنما هو رَغَدُ العيش.
قال ابن الخطيب: وهو أليق بالعربية.
قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ﴾ يعني يوم القيامة. وقيل: يوم بدر، وحذف العائد لاستكمال شُرُوطه، أي يُوعدونه.
111
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأَ سُورَة» وَالذَّارِيَاتِ «أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلّ رِيحٍ هَبَّتْ وَجَرَتْ فِي الدُّنْيَا» (والله سبحانه وتعالى أعلم وأشفق وأرحم).
112
سورة الطور
113
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾. هذا الجار١ متعلق «بخَلَقْتُ ».
واختلف في الجن والإنس، قيل : المراد بهم العموم والمعنى إلا لآمرهم بالعبادة وليقروا بها، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب، ويؤيده :﴿ وَمَا أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً ﴾٢ [ التوبة : ٣١ ] أو يكون المعنى : ليطيعوني وينقادوا لقضائي٣، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر كرهاً، فكل مخلوق من الجِنّ والإنس خاضع لقضاء الله متذلّل لمشيئته٤، لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه. أو يكون المعنى : إلا معدين للعبادة، ثم منهم من يتأتى منه ذلك، ومنهم من لا، كقولك : هَذَا القَلَمُ بَرَيْتُهُ لِلْكِتَابَةِ، ثم قد يكتب به، وقد لا يُكْتَب وقيل : المراد به الخصوص، أي ما خلقت السعداءَ من الجنِّ والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. قاله زيد بن أسلم. قال : هو ما جُبلوا عليه من السعادة والشقاوة، ويؤيده قوله :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ].
وقال مجاهدٌ : معناه إِلاَّ ليعْرفُون. قال البغوي : وهذا أحسن ؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، بدليل قوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ]، وقيل : إلا ليعبدون أي إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيُوَحِّده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشّدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال تعالى :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ] وقيل : المراد وما خلقت الجِنَّ والإِنْسَ المؤمنين. وقيل : الطائعين٥. قال شهاب الدين : والأول أحسنُ.

فصل


في تعلق الآية بما قبلها أن بعثة الأنبياء منحصرة في أمرين عبادة الله وهداية الخلق، فلما قال تعالى :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ [ الذاريات : ٥٤ ] بين أن الهداية قد سقطت عند اليأس، وأمّا العبادة فهي لازمة للخلق المطلق وليس الخلق المطلق للهداية، وقيل : إنه لما بين حال من قبله فِي التكذيب ذكر هذه ليتبين سُوءَ صنيعهم، حيث تركوا عبادة الله الذي خلقهم للعبادة.
فإِنْ قِيلَ : ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلَّفين، قال تعالى :﴿ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٦ ] وقال :﴿ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٦ ].

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه تقدم أن الآية سيقت لبيان قُبْح ما يفعله الكَفَرَةُ، من ترك ما خُلِقُوا له. وهذا مختص بالجِنِّ والإنس ؛ لأن الكفر موجودٌ في الجنِّ والإنس بخلافِ الملائكة.
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم٦ - كان مبعوثاً إلى الجنِّ والإنس، فلما قال :«وَذَكِّرْ » بين ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة، وخصص أمته بالذكر أي ذكر الإنس والجن.
الثالث : أن عباد الأصنام كانوا يقولون : إن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين، فهُم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله كما قالوا :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] فقال تعالى :﴿ مَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم، فذكر المتنازع فيه.
الرابع : فعل الجن يتناول الملائكة، لأن أصل الجن من الاستتار، وهم مُسْتَتِرُون عن الخلق فذكر الجن لدخول الملائكة فيهم٧.
قوله :﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾ أي يرزقوا أحداً من خَلْقِي، ولا أن يرزقوا أنفسهم ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ أي يطعموا أحداً من خلقي. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عِيالُ الله ومن أطعم عيالَ أحدٍ فقد أطعمَهُ، قال عليه الصلاة والسلام٨ :«اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي »، أي لم تطعم عبدي٩.

فصل


استدل المعتزلة بقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ على أن أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض وأجيبوا بوجوه تقدمت منها : أن اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى :﴿ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] وقوله :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [ الطلاق : ١ ] ومعناه المقارنة فمعناه : قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم، وفرضت عليهم العبادة.
ومنها : قوله تعالى :﴿ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ الزمر : ٦٢ ] و[ الرعد : ١٦ ].
ومنها : ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى :﴿ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾ [ النحل : ٩٣ ] وأمثاله.
ومنها : قوله تعالى :﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ] وقوله :﴿ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ] و﴿ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ معناه : أن النفع يعود إليهم لا لي.
فإن قيل : ما الفائدة في تكرير الإرادتين١٠ مع أن من لا يريد من أحدٍ رزقاً لا يريد أن يُطْعِمَهُ ؟ !.
فالجواب : أن السيِّدَ قد يطلب من العبد المتكسّب١١ له، فيطلب منه الرزق، وقد يكون للسَّيدِ مالٌ وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاءَ حوائجه وإحضار الطعام بين يديه، فقال : لا أريد ذلك ولا هذا. وقد طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنَى إِلى الأعلى.
فإن قيل : ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أن المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم ؟ !.
فالجواب : أنه لما عمم النفي في الطلب الأول بقوله :«من رزق » وذلك إشارة إلى التعميم بذكر الإِطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى، فكأنه قال : ما أريد منهم من غِنًى ولا عَمَلٍ.
فإن قيل : المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإن السيِّد قد يشتري العبد لا لطلب عمل منه، ولا لطلب رزق ولا للتعظيم، بل يشتريه للتجارة !
فالجواب : أن عموم قوله :﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾ يتناول ذلك.
قوله :«أَنْ يُطْعِمُونِ » قيل : فيه حذف مضاف أي يطعموا خَلْقِي كما تقدم في التفسير. وقيل : المعنى أن يَنْفَعُون فعبر ببعض وجوه الانتفاعات لأن١٢ عادة السادة أن ينتفعوا بعبيدهم، والله مُسْتَغْنٍ عن ذلك.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ﴾ يعني لجميع خلقه، وهذا تقرير لعدم طلب الرزق، وقوله :«ذو القُوَّةِ » تقرير لعدم طلب العمل لأن من يطلب رزقاً يكون فقيراً محتاجاً، ومن يطلب عملاً يكون عاجزاً لا قوة له فكأنه يقول : ما أريدُ منهم من رزق فإني أنا الرزّاق، ولا العمل فإِني قَوِيّ١٣.
وروي أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قرأ : إِنِّي أنا الرزَّاق١٤، وقرأ ابن مُحَيْصِن : الرَّازق١٥، كما تقدم في قراءته :﴿ وَفي السَّمَاء رازِقُكمْ ﴾.
قوله :«المَتِينُ » العامة على رفعه، وفيه أوجه :
إما النعت للرزَّاق١٦، وإما النعت لِذُو١٧، وإما النعت لاسم «إِنَّ » على الموضع١٨. وهو مذهب الجَرْمِيِّ والفراء١٩، وغيرهما. وإما خبر بعد خبر، وإما خبر مبتدأ مضمر٢٠. وعلى كل تقدير فهو تأكيد، لأن «ذو القوة » يفيد فائدتَهُ.
وقرأ يَحْيَى بْنُ وَثَّاب والأعمشُ المَتِينِ - بالجر٢١ - فقيل : صفة «القوة »، وإنما ذكر وصفها لكوْن تأنيثِها غيرَ حَقِيقيٍّ. وقيل : لأنها في معنى الأيْدِ٢٢.
وقال ابن جنِّي : هو خفض على الجوار كقولهم :«هَذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ » يعني أنه صفة للمرفوع، وإنما جر لما٢٣ جاور مجروراً. وهذا مرجوحٌ لإمكان غيره، والجوار لا يصار إليه إلا عند الحاجة.

فصل


قال تعالى :«ما أريد » ولم يقل : إني رازق بل قال على الحكاية عن الغائب إن الله هو الرزّاق فما الحكمة فيه ؟.
قال ابن الخطيب : نقول : قد رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ : إنِّي أنا الرَّزَّاق. وأما على القراءة المشهورة فالمعنى : قُلْ يا محمد إن الله هو الرزَّاق، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة، أو يكون قل مضمراً عند قوله :«مَا أُرِيدُ » أي قل يا محمد : ما أريد منهم من رزق فيكون بمعنى قوله :﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ [ ص : ٨٦ ] ويكون على هذا قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ﴾، ولم يقل : القوي، بل قال : ذُو القوة، لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق، وعدم الاستعانة بالغير لكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحداً، فإن كثيراً من الناس يرزق ولده وعبده ويسترزق والملك يرزق الجند، ويسترزق، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب لأن المسترزِقَ منه يكثر الرزق، لا يسترزق من رزقه فلم يكن ذلك المقصود يحصل إلا بالمبالغة في وصف الرازق٢٤، فقال : الرزَّاق، وأما ما يُغني عن الاستعانة بالغير، فهو دون ذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير، فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به استعانة قوية بل استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك، ولما قال :﴿ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ كفاه بيان نفس القوة فقال :«ذُو القوة »، لأن قولنا : ذُو القوة في إفادة معنى القوي دون إفادة القَوِيّ، لأن ذلك لا يقال في الوصف اللازم البين، يقال في الآدمي : ذُو مَال ومتمول، وذو جَمال، وجميل، وذو خلق حسن إلى غير ذلك مما ( لا )٢٥ يلزم لزوماً بيناً.
ولا يقال في الثلاثة : ذات فردية، ولا في الأربعة : ذات زوجية، وهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية فلم يسمع ذو الوجود ولا ذو الحياة ولا ذو العِلم، ويقال في الإنسان : ذو علم، وذو حياة لأنها فيه عرض لا لازم بين.
وفي صفات الفعل يقال : الله تعالى ذُو الفضل كثيراً ( وذو الخلق٢٦ قليلاً ) ؛ لأن «ذا كذا » بمعنى صاحب والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلاً عن اللزوم البين. ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٧٦ ] فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العِلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقويّ، ويؤيده أيضاً قوله تعالى :﴿ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ ﴾ [ غافر : ٢٢ ] وقوله :﴿ الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ القوي ﴾ [ الشورى : ١٩ ] وقال :﴿ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] لأن هذه الصور كان المراد بها بيان القيام بالأفعال العظيمة وههنا المراد عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر ( ما ) ٢٧. ومن يقوم مستبداً بالفعل لا بد له من قوة عظيمة، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عَنْه.

فصل


قوله :«المَتِينُ »، لأن ذا القوة كما تقدم لا يدل إلا على أن له قوةً ما، فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظاً ومعنى، فإن معنى مَتْن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن والمتانة مع القوة كالعزّة مع القوي حيث قرن العزة مع القوة في قوله :«قَوِيٌّ عَزِيزٌ » وقوله :«القَوِيّ الع
١ المصدر المؤول أي إلا للعبادة..
٢ وانظر: القرطبي ١٧/٥٥..
٣ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وانظر: السابق والبغوي ٦/٢٤٧..
٤ في ب بتذلل المشيئة..
٥ السابقين..
٦ في ب –عليه الصلاة والسلام-..
٧ الرازي ٢٨/٢٣١ و٢٣٢..
٨ عن ربه في الحديث القدسي..
٩ وانظر: البغوي ٦/٢٤٨..
١٠ في ب الإفادتين. وما في "أ" هو ما في الرازي..
١١ في ب كذلك وفي الرازي: الكسب..
١٢ النون سقطت من نسخة ب سهوا..
١٣ وانظر في هذا كله بالمعنى تفسير الإمام الرازي ٢٨/٢٣٥..
١٤ نقل ذلك ابن خالويه في المختصر ١٤٥ ولكن بلفظ مختلف فقد قال: إن الله هو الرزاق النبي -صلى الله عليه وسلم– وابن محيصن. وفي الكشاف: وفي قراءة النبي-صلى الله عليه وسلم- إني أنا الرزاق بلفظ اسم الفاعل كقراءة ابن محيصن. وانظر الكشاف ٤/٢١..
١٥ المرجع السابقة وانظر قراءة ابن محيصن في البحر ٨/١٤٣..
١٦ قاله القرطبي في الجامع ١٧/٥٦..
١٧ قاله القرطبي في الجامع ١٧/٥٦..
١٨ التبيان ١١٨٢ وانظر القرطبي السابق..
١٩ معاني القرآن له ٣/٩٠..
٢٠ القرطبي والتبيان السابقين..
٢١ وهي شاذة ذكرها الفراء في مرجعه السابق وابن جني في المحتسب ٢/٢٨٩..
٢٢ قال الفراء في المعاني: ".... وإن كان أنثى في اللفظ فإنه ذهب إلى الحبل وإلى الشيء المفتول"..
٢٣ قال في المحتسب ٢/٢٨٩: "يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون للقوة فذكره على معنى الحبل، يريد قوي الحبل لقوله: "فقد استمسك بالعروة الوثقى" والآخر: أن يكون أراد الرفع وصفا للرزاق إلا أنه جاء على لفظ القوة لجوارها إياه على قولهم: هذا جحر ضبٍّ خرِبٍ"..
٢٤ كذا في النسختين وفي الرازي: الرزق..
٢٥ سقط من ب وفي الرازي مما لا يلزمه لزوما..
٢٦ ما بين القوسين زيادة من الرازي لتوضيح السياق وتكميله..
٢٧ لفظ ما سقط من ب وانظر الرازي ٣٨/٢٣٦..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾. هذا الجار١ متعلق «بخَلَقْتُ ».
واختلف في الجن والإنس، قيل : المراد بهم العموم والمعنى إلا لآمرهم بالعبادة وليقروا بها، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب، ويؤيده :﴿ وَمَا أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً ﴾٢ [ التوبة : ٣١ ] أو يكون المعنى : ليطيعوني وينقادوا لقضائي٣، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر كرهاً، فكل مخلوق من الجِنّ والإنس خاضع لقضاء الله متذلّل لمشيئته٤، لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه. أو يكون المعنى : إلا معدين للعبادة، ثم منهم من يتأتى منه ذلك، ومنهم من لا، كقولك : هَذَا القَلَمُ بَرَيْتُهُ لِلْكِتَابَةِ، ثم قد يكتب به، وقد لا يُكْتَب وقيل : المراد به الخصوص، أي ما خلقت السعداءَ من الجنِّ والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. قاله زيد بن أسلم. قال : هو ما جُبلوا عليه من السعادة والشقاوة، ويؤيده قوله :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ].
وقال مجاهدٌ : معناه إِلاَّ ليعْرفُون. قال البغوي : وهذا أحسن ؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، بدليل قوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ]، وقيل : إلا ليعبدون أي إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيُوَحِّده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشّدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال تعالى :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ] وقيل : المراد وما خلقت الجِنَّ والإِنْسَ المؤمنين. وقيل : الطائعين٥. قال شهاب الدين : والأول أحسنُ.

فصل


في تعلق الآية بما قبلها أن بعثة الأنبياء منحصرة في أمرين عبادة الله وهداية الخلق، فلما قال تعالى :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ [ الذاريات : ٥٤ ] بين أن الهداية قد سقطت عند اليأس، وأمّا العبادة فهي لازمة للخلق المطلق وليس الخلق المطلق للهداية، وقيل : إنه لما بين حال من قبله فِي التكذيب ذكر هذه ليتبين سُوءَ صنيعهم، حيث تركوا عبادة الله الذي خلقهم للعبادة.
فإِنْ قِيلَ : ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلَّفين، قال تعالى :﴿ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٦ ] وقال :﴿ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٦ ].

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه تقدم أن الآية سيقت لبيان قُبْح ما يفعله الكَفَرَةُ، من ترك ما خُلِقُوا له. وهذا مختص بالجِنِّ والإنس ؛ لأن الكفر موجودٌ في الجنِّ والإنس بخلافِ الملائكة.
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم٦ - كان مبعوثاً إلى الجنِّ والإنس، فلما قال :«وَذَكِّرْ » بين ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة، وخصص أمته بالذكر أي ذكر الإنس والجن.
الثالث : أن عباد الأصنام كانوا يقولون : إن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين، فهُم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله كما قالوا :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] فقال تعالى :﴿ مَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم، فذكر المتنازع فيه.
الرابع : فعل الجن يتناول الملائكة، لأن أصل الجن من الاستتار، وهم مُسْتَتِرُون عن الخلق فذكر الجن لدخول الملائكة فيهم٧.
قوله :﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾ أي يرزقوا أحداً من خَلْقِي، ولا أن يرزقوا أنفسهم ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ أي يطعموا أحداً من خلقي. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عِيالُ الله ومن أطعم عيالَ أحدٍ فقد أطعمَهُ، قال عليه الصلاة والسلام٨ :«اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي »، أي لم تطعم عبدي٩.

فصل


استدل المعتزلة بقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ على أن أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض وأجيبوا بوجوه تقدمت منها : أن اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى :﴿ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] وقوله :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [ الطلاق : ١ ] ومعناه المقارنة فمعناه : قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم، وفرضت عليهم العبادة.
ومنها : قوله تعالى :﴿ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ الزمر : ٦٢ ] و[ الرعد : ١٦ ].
ومنها : ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى :﴿ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾ [ النحل : ٩٣ ] وأمثاله.
ومنها : قوله تعالى :﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ] وقوله :﴿ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ] و﴿ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ معناه : أن النفع يعود إليهم لا لي.
فإن قيل : ما الفائدة في تكرير الإرادتين١٠ مع أن من لا يريد من أحدٍ رزقاً لا يريد أن يُطْعِمَهُ ؟ !.
فالجواب : أن السيِّدَ قد يطلب من العبد المتكسّب١١ له، فيطلب منه الرزق، وقد يكون للسَّيدِ مالٌ وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاءَ حوائجه وإحضار الطعام بين يديه، فقال : لا أريد ذلك ولا هذا. وقد طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنَى إِلى الأعلى.
فإن قيل : ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أن المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم ؟ !.
فالجواب : أنه لما عمم النفي في الطلب الأول بقوله :«من رزق » وذلك إشارة إلى التعميم بذكر الإِطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى، فكأنه قال : ما أريد منهم من غِنًى ولا عَمَلٍ.
فإن قيل : المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإن السيِّد قد يشتري العبد لا لطلب عمل منه، ولا لطلب رزق ولا للتعظيم، بل يشتريه للتجارة !
فالجواب : أن عموم قوله :﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾ يتناول ذلك.
قوله :«أَنْ يُطْعِمُونِ » قيل : فيه حذف مضاف أي يطعموا خَلْقِي كما تقدم في التفسير. وقيل : المعنى أن يَنْفَعُون فعبر ببعض وجوه الانتفاعات لأن١٢ عادة السادة أن ينتفعوا بعبيدهم، والله مُسْتَغْنٍ عن ذلك.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ﴾ يعني لجميع خلقه، وهذا تقرير لعدم طلب الرزق، وقوله :«ذو القُوَّةِ » تقرير لعدم طلب العمل لأن من يطلب رزقاً يكون فقيراً محتاجاً، ومن يطلب عملاً يكون عاجزاً لا قوة له فكأنه يقول : ما أريدُ منهم من رزق فإني أنا الرزّاق، ولا العمل فإِني قَوِيّ١٣.
وروي أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قرأ : إِنِّي أنا الرزَّاق١٤، وقرأ ابن مُحَيْصِن : الرَّازق١٥، كما تقدم في قراءته :﴿ وَفي السَّمَاء رازِقُكمْ ﴾.
قوله :«المَتِينُ » العامة على رفعه، وفيه أوجه :
إما النعت للرزَّاق١٦، وإما النعت لِذُو١٧، وإما النعت لاسم «إِنَّ » على الموضع١٨. وهو مذهب الجَرْمِيِّ والفراء١٩، وغيرهما. وإما خبر بعد خبر، وإما خبر مبتدأ مضمر٢٠. وعلى كل تقدير فهو تأكيد، لأن «ذو القوة » يفيد فائدتَهُ.
وقرأ يَحْيَى بْنُ وَثَّاب والأعمشُ المَتِينِ - بالجر٢١ - فقيل : صفة «القوة »، وإنما ذكر وصفها لكوْن تأنيثِها غيرَ حَقِيقيٍّ. وقيل : لأنها في معنى الأيْدِ٢٢.
وقال ابن جنِّي : هو خفض على الجوار كقولهم :«هَذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ » يعني أنه صفة للمرفوع، وإنما جر لما٢٣ جاور مجروراً. وهذا مرجوحٌ لإمكان غيره، والجوار لا يصار إليه إلا عند الحاجة.

فصل


قال تعالى :«ما أريد » ولم يقل : إني رازق بل قال على الحكاية عن الغائب إن الله هو الرزّاق فما الحكمة فيه ؟.
قال ابن الخطيب : نقول : قد رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ : إنِّي أنا الرَّزَّاق. وأما على القراءة المشهورة فالمعنى : قُلْ يا محمد إن الله هو الرزَّاق، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة، أو يكون قل مضمراً عند قوله :«مَا أُرِيدُ » أي قل يا محمد : ما أريد منهم من رزق فيكون بمعنى قوله :﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ [ ص : ٨٦ ] ويكون على هذا قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ﴾، ولم يقل : القوي، بل قال : ذُو القوة، لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق، وعدم الاستعانة بالغير لكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحداً، فإن كثيراً من الناس يرزق ولده وعبده ويسترزق والملك يرزق الجند، ويسترزق، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب لأن المسترزِقَ منه يكثر الرزق، لا يسترزق من رزقه فلم يكن ذلك المقصود يحصل إلا بالمبالغة في وصف الرازق٢٤، فقال : الرزَّاق، وأما ما يُغني عن الاستعانة بالغير، فهو دون ذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير، فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به استعانة قوية بل استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك، ولما قال :﴿ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ كفاه بيان نفس القوة فقال :«ذُو القوة »، لأن قولنا : ذُو القوة في إفادة معنى القوي دون إفادة القَوِيّ، لأن ذلك لا يقال في الوصف اللازم البين، يقال في الآدمي : ذُو مَال ومتمول، وذو جَمال، وجميل، وذو خلق حسن إلى غير ذلك مما ( لا )٢٥ يلزم لزوماً بيناً.
ولا يقال في الثلاثة : ذات فردية، ولا في الأربعة : ذات زوجية، وهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية فلم يسمع ذو الوجود ولا ذو الحياة ولا ذو العِلم، ويقال في الإنسان : ذو علم، وذو حياة لأنها فيه عرض لا لازم بين.
وفي صفات الفعل يقال : الله تعالى ذُو الفضل كثيراً ( وذو الخلق٢٦ قليلاً ) ؛ لأن «ذا كذا » بمعنى صاحب والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلاً عن اللزوم البين. ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٧٦ ] فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العِلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقويّ، ويؤيده أيضاً قوله تعالى :﴿ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ ﴾ [ غافر : ٢٢ ] وقوله :﴿ الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ القوي ﴾ [ الشورى : ١٩ ] وقال :﴿ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] لأن هذه الصور كان المراد بها بيان القيام بالأفعال العظيمة وههنا المراد عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر ( ما ) ٢٧. ومن يقوم مستبداً بالفعل لا بد له من قوة عظيمة، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عَنْه.

فصل


قوله :«المَتِينُ »، لأن ذا القوة كما تقدم لا يدل إلا على أن له قوةً ما، فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظاً ومعنى، فإن معنى مَتْن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن والمتانة مع القوة كالعزّة مع القوي حيث قرن العزة مع القوة في قوله :«قَوِيٌّ عَزِيزٌ » وقوله :«القَوِيّ الع
١ المصدر المؤول أي إلا للعبادة..
٢ وانظر: القرطبي ١٧/٥٥..
٣ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وانظر: السابق والبغوي ٦/٢٤٧..
٤ في ب بتذلل المشيئة..
٥ السابقين..
٦ في ب –عليه الصلاة والسلام-..
٧ الرازي ٢٨/٢٣١ و٢٣٢..
٨ عن ربه في الحديث القدسي..
٩ وانظر: البغوي ٦/٢٤٨..
١٠ في ب الإفادتين. وما في "أ" هو ما في الرازي..
١١ في ب كذلك وفي الرازي: الكسب..
١٢ النون سقطت من نسخة ب سهوا..
١٣ وانظر في هذا كله بالمعنى تفسير الإمام الرازي ٢٨/٢٣٥..
١٤ نقل ذلك ابن خالويه في المختصر ١٤٥ ولكن بلفظ مختلف فقد قال: إن الله هو الرزاق النبي -صلى الله عليه وسلم– وابن محيصن. وفي الكشاف: وفي قراءة النبي-صلى الله عليه وسلم- إني أنا الرزاق بلفظ اسم الفاعل كقراءة ابن محيصن. وانظر الكشاف ٤/٢١..
١٥ المرجع السابقة وانظر قراءة ابن محيصن في البحر ٨/١٤٣..
١٦ قاله القرطبي في الجامع ١٧/٥٦..
١٧ قاله القرطبي في الجامع ١٧/٥٦..
١٨ التبيان ١١٨٢ وانظر القرطبي السابق..
١٩ معاني القرآن له ٣/٩٠..
٢٠ القرطبي والتبيان السابقين..
٢١ وهي شاذة ذكرها الفراء في مرجعه السابق وابن جني في المحتسب ٢/٢٨٩..
٢٢ قال الفراء في المعاني: ".... وإن كان أنثى في اللفظ فإنه ذهب إلى الحبل وإلى الشيء المفتول"..
٢٣ قال في المحتسب ٢/٢٨٩: "يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون للقوة فذكره على معنى الحبل، يريد قوي الحبل لقوله: "فقد استمسك بالعروة الوثقى" والآخر: أن يكون أراد الرفع وصفا للرزاق إلا أنه جاء على لفظ القوة لجوارها إياه على قولهم: هذا جحر ضبٍّ خرِبٍ"..
٢٤ كذا في النسختين وفي الرازي: الرزق..
٢٥ سقط من ب وفي الرازي مما لا يلزمه لزوما..
٢٦ ما بين القوسين زيادة من الرازي لتوضيح السياق وتكميله..
٢٧ لفظ ما سقط من ب وانظر الرازي ٣٨/٢٣٦..

قوله تعالى :﴿ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنوباً ﴾ قد تقدم الكلام على الفاء في وجه التعلق١. والمراد بالذين ظلموا : كفار مكة. ومعنى ذنوباً أي نصيباً من العذاب ﴿ مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ﴾ أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعادٍ، وثمود. والذنوب : في الأصل الدلو العظيمة المملوءة ماء، وفي الحديث الشريف :«فَأُتي بذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ » فإن لم تكن مَلأَى فهو الدَّلْو، ثم عبر به عن النَّصيب، قال علقمة :
وَفِي كُلّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتُ بِنِعْمَةٍ *** فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنوبُ٢
ويجمع في القلة على أَذْنِبَةٍ، وفي الكثرة على ذَنَائِبَ. وقال المَلكُ٣ لما أنشد هذا البيت نَعَمْ وأَذْنِبَة.
وقال الزمخشري : الذَّنُوب الدلو العظيمة، وهذا تمثيل أصله في السّقاة يقتسمون٤ الماء فيكون لهذا ذنوب٥ ولهذا ذنوب قال الشاعر :
لَنَا ذَنُوبٌ ولَكُم ذنُوبُ *** فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا القَلِيبُ٦
وقال الراغب : الذنوب الدلو الذي له ذنب انتهى٧. فراعى الاشتقاق. والذنوب أيضاً الفَرَسُ الطّويل الذّنب وهو صفة على فَعُول. والذَّنوب لحم أسفل المَتْن٨. ويقال : يَوْم ذَنُوب أي طويل الشّر٩ استعارة من ذلك.
قوله :﴿ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ ﴾ أي بالعذاب. ووجه مناسبة الذنوب أن العذاب منصبّ عليهم كما يُصَبُّ الذَّنُوبُ، قال تعالى :﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم ﴾ [ الحج : ١٩ ] وقال تعالى :﴿ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم ﴾ [ الدخان : ٤٨ ] والذّنوب كذلك فكأنه قال : نصبّ فوق رؤوسهم ذَنُوباً من العذاب كذنوب صُبّ فوق رؤوس أولئك. ووجه آخر وهو أن العرب يستقون من الآبار على النَّوْبَة ذنوباً فذنوباً وذلك وقت عيْشِهم الطيب، فكأنه تعالى قال :﴿ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ من الدنيا وطيباتها «ذَنُوباً » إذا ملأوه ولا يكون لهم في الآخرة من نصيب كما كان عليه حال أصحابهم استقوا١٠ ذنوباً وتركوها، وعلى هذا فالذنوب ليس بعذاب ولا هلاك وإنما هو رَغَدُ العيش.
قال ابن الخطيب : وهو أليق بالعربية١١.
١ وذلك لأن الله تعالى لما بين أن من يضع نفسه في موضع عبادة غير الله يكون وضع الشيء في غير موضعه فيكون ظالما فقال: إذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة فإن الذين ظلموا بعبادة الغير لهم هلاك. وانظر: الرازي السابق ٢٨/٢٣٧..
٢ من الطويل وهو لعلقمة بن عبدة، والبيت روايته كرواية البحر والكشاف والقرطبي والكتاب، وروى أبو عبيدة في المجاز ٢/٢٢٨: وفي كل يوم وبنائل. وشَاشُ أخو الشاعر، وخبطت أسديت وأعطيت. والشاهد في الذنوب فهو الدلو وضربه مثلا في القسم والحظ وقد تقدم.
وانظر: الكتاب ٤/٤٧١ والبحر ٨/١٣٢ والكشاف ٤/٢١ وشرح شواهده ٤/٣٤٥ وشرح شواهد الشافية ٤٩٤ وابن يعيش ٥/٤٨ و١٠/٤٨ و١٥١ والقرطبي ١٧/٥٧ وروح المعاني٢٧/٢٤ ومجمع البيان ٩/٢٤٢ والديوان ١٣٢ والوهبية ١٢٣٩..

٣ والملك الذي يقصده الحارث بن أبي شمر الغسّاني وكان قد أسره..
٤ كذا في أ وفي ب يقسمون وفي الكشاف: يتقسمون..
٥ وانظر: الكشاف ٤/٢١ و٢٢..
٦ لم أعرف نسبة هذا البيت لمعين فلم تنسبه المراجع التي رجعت إليها وهو من الرجز، فالزمخشري لم ينسبه بينما نسب ما قبله إلى عمرو بن شاس وكذلك لم ينسبه الفراء، والشاهد فيه: ذنوب فهي هنا بمعنى الدلو العظيمة فالمعنى أنه يقسم الماء مرة له ومرة لهم فإن أبو فالقليب أي البئر لهم وانظر: القرطبي ١٧/٥٧ ومعاني الفراء ٣/٩٠ والكشاف ٤/٢١ وشرح شواهده ٣٤/٤ والبحر ٨/١٣٢ ومجمع البيان ٩/٢٤٢ وقد ورد بشرح شواهد الكشاف:
إنا إذا شاربنا شريب *** له ذنوب ولنا ذنوب
فإن أبي فله القليب ***.................
والمعنى: إني أوثر شريبي بالحظ الأوفر، والنصيب الأجزل، فإن لم يرض أوثره بالجميع..

٧ قاله في المفردات ١٨١ (ذنب)..
٨ قاله الجوهري في الصحاح "ذنب"..
٩ نقله القرطبي في ١٧/٥٧ عن ابن الأعرابي. وانظر في هذا اللسان ذنب ١٥٢١..
١٠ في ب اسقوا..
١١ انظر: تفسير الإمام فخر الدين الرازي ٢٨/٢٣٨..
قوله تعالى :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ ﴾ يعني يوم القيامة. وقيل : يوم بدر١، وحذف العائد لاستكمال شُرُوطه٢، أي يُوعدونه.
١ انظر: تفسير العلامة البغوي والخازن ٦/٢٤٨ وقال القرطبي في الجامع ١٧/٥٧ بالأخير..
٢ عائد الصلة غير الألف واللام وإن كان بعض معمول الصلة جاز حذفه مطلقا كحذف المعمول، نحو: أين الرجل الذي قلت تريد قلت أنه أو نحوه، وإن لم يكن فإما أن يكون منفصلا أو متصلا فإن كان منفصلا لم يجز حذفه نحو: جاء الذي إياه أكرمت، أو ما أكرمت إلا إياه، وإن كان متصلا فله أحوال:
أحدها: أن يكون منصوبا، إما بفعل أو وصف أو بغيرهما، فإن كان بهما جاز حذفه كما في الآية التي معنا وإن كان بغيرهما لم يجز نحو: جاء الذي إنه جائز، وألحق به أبو حيان المنصوب بفعل ناقص.
الثاني: أن يكون مجرورا، فيجوز حذفه في صور منها أن يجر بإضافة صفة ناصبة له تقديرا نحو: "فاقض ما أنت قاضٍ".
الثالث: أن يكون مرفوعا، فإن كان فاعلا أو نائبا عنه أو خبرا لمبتدأ أو لناسخ لم يجز حذفه نحو: جاءني اللذان قاما أو ضربا، وجاء الذي الفاضل هو وإن الفاضل هو. وإن كان مبتدأ جاز بشروط ذكرها السيوطي في الهمع على أن ما يعنينا هو العائد المنصوب كما نلمحه في الآية أعلى. أما وقد استكمل الشروط التي يقصدها المؤلف فإنه يجوز حذفه.
وانظر –بتصرف- همع الهوامع للعلامة السيوطي ١/٨٩ و٩٠..

الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٤٥٣١ - لَنَا ذَنُوبٌ ولَكُم ذنُوبُ فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا القَلِيبُ