تفسير سورة الرحمن

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة الرحمن مكية إلا قوله ) ﴿ يسأله من في السماوات والأرض ﴾ الآية. حروفها ألف وثلاثمائة وستة وثلاثون كلماتها ثلاثمائة وإحدى وخمسون آياتها ثمان وسبعون ).

ﭹﭺ ﭼﭽ ﭿﮀ ﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪ ﭑﭒﭓ ﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪ ﰿ ﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓ ﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁ
(سورة الرحمن)
(مكية إلا قوله) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية.
حروفها ألف وثلاثمائة وستة وثلاثون كلماتها ثلاثمائة وإحدى وخمسون آياتها ثمان وسبعون)
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١ الى ٧٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩)
بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤)
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩)
فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩)
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩)
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
225
القراآت:
والحب ذا العصف والريحان بالنصب فيهما: ابن عامر. والحب ذو العصف بالرفع فيهما والريحان بالجر: حمزة وعلي وخلف. الباقون: برفع الريحان يخرج مجهولا من الإخراج: أبو جعفر ونافع وأبو عمر وسهل ويعقوب اللُّؤْلُؤُ كنظائره والْجَوارِ ممالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو وخلف طريق ابن عبدوس.
المنشآت بكسر الشين. حمزة ويحيى طريق الصر يعيني سيفرغ بالياء: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون على طريق الالتفات أيه الثقلان بضم الهاء مثل أيه المؤمنون [النور: ٣١] أيه الساحر [الزخرف: ٤٩] شواظ بكسر الشين: ابن كثير ونحاس. بالجر: ابن كثير وأبو عمرو وسهل لم يطمثهن بضم الميم في إحداهما تخيرا: علي. وروى أبو الحرث عنه في الأولى بالضم مِنْ إِسْتَبْرَقٍ بنقل حركة الهمزة إلى النون: رويس وورش والشموني وحمزة في الوقف ذُو الْجَلالِ بالرفع: ابن عامر.
الوقوف:
الرَّحْمنُ هـ لا الْقُرْآنَ هـ ط الْإِنْسانَ هـ الْبَيانَ هـ بِحُسْبانٍ هـ ص لعطف الجملتين المتفقتين يَسْجُدانِ هـ الْمِيزانَ هـ لا لتعلق أن الْمِيزانِ هـ لِلْأَنامِ هـ لا لأن الجملة بعدها حال فاكِهَةٌ ص الْأَكْمامِ هـ ص وَالرَّيْحانُ هـ ج لابتداء الاستفهام مع دخول فاء التعقيب، والوقف أجوز لأن الابتداء بالاستفهام مبالغة في التنبيه وكذلك في جميع السورة تُكَذِّبانِ هـ كَالْفَخَّارِ هـ لا نارٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ
226
الْمَغْرِبَيْنِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ يَلْتَقِيانِ هـ لا لأن ما بعده حال من الضمير في يَلْتَقِيانِ ولا يَبْغِيانِ هـ حال بعد حال تُكَذِّبانِ هـ وَالْمَرْجانُ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ كَالْأَعْلامِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ فانٍ هـ ج لعطف الجملتين المختلفتين والأولى الوصل لأن الكلام الأول يتم بالثاني. وَالْإِكْرامِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَالْأَرْضِ ط شَأْنٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ الثَّقَلانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ فَانْفُذُوا هـ ط بِسُلْطانٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ فَلا تَنْتَصِرانِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ كَالدِّهانِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَلا جَانٌّ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَالْأَقْدامِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ م لأنه لو وصل صار ما بعده حالا من المجرمين وليس كذلك آنٍ ج تُكَذِّبانِ هـ جَنَّتانِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ لا لأن قوله ذَواتا صفة أَفْنانٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ تَجْرِيانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ زَوْجانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ ج لأن مُتَّكِئِينَ حال إلا أن الكلام قد تطاول مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ط دانٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ الطَّرْفِ لا لأن لَمْ يَطْمِثْهُنَّ حال عنهن جَانٌّ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَالْمَرْجانُ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ إِلَّا الْإِحْسانُ ج تُكَذِّبانِ هـ جَنَّتانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ مُدْهامَّتانِ هـ تُكَذِّبانِ هـ ضَّاخَتانِ
هـ تُكَذِّبانِ هـ وَرُمَّانٌ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ ج حِسانٌ هـ تُكَذِّبانِ هـ فِي الْخِيامِ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ جَانٌّ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ ج حِسانٍ هـ ج تُكَذِّبانِ هـ وَالْإِكْرامِ هـ.
التفسير:
افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على الهيبة والعظمة وهي انشقاق القمر. وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والعناية وهي القرآن الكريم الذي فيه شفاء القلوب والطهارة عن الذنوب، وهو أسبق الآلاء قدما وأجل النعماء منصبا. وبين السورتين مناسبة أخرى من جهة أنه ذكر هناك ما يدل على الانتقام والغضب كقوله فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: ٣٩] وقوله فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: ٢١] وذكر في هذه السورة بعد تعداد كل نعمة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مرة بعد مرة وتذكير النعمة على نعمة لأنها مما توقظ الوسنان وتنبه أهل الغفلة والنسيان. قال جار الله الرَّحْمنُ مبتدأ والأفعال بعده مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها عن العاطف إما لأن العائد قام مقام الصدر وإما لمجيئها على نمط التعديد كما تقول: زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعله أحد بأحد فما تنكر من إحسانه. قلت: فعلى هذا لو لم يوقف على الْقُرْآنَ جاز. وقيل: الرحمن خبر مبتدأ أي هو الرحمن. ثم استأنف قائلا عَلَّمَ الْقُرْآنَ وما مفعوله الأول؟ قيل: هو متعد إلى واحد والمعنى جعل القرآن علامة وآية للنبوة. وقيل: هو جبرائيل أي علم جبرائيل القرآن حتى نزل به على محمد. وقيل: علم
227
محمدا أو الإنسان القرآن كما يليق بفهمهم على حسب استعدادهم ولعله يلزم من الوجه الأخير شبه تكرار من قوله خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ فالأول إشارة إلى قواه البدنية والثاني إشارة إلى قواه النطقية، ويلزم منه أيضا أن يكون التعليم قبل الخلق ظاهرا إلا أن يكون تفصيلا لما أجمله. وقد نقل عن ابن عباس أن الإنسان آدم علمه الأسماء كلها، أو محمد صلى الله عليه وسلم. والبيان القرآن فيه بيان ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة. قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي بحسبانه استغنى عن الوصل اللفظي بالربط المعنوي لرعاية الفاصلة يعني أنهما يجريان في بروجهما ومنازلهما بحساب معلوم وَالنَّجْمُ وهو النبات بغير ساق وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ بالانقياد له. وإنما وسط العاطف بين هاتين الجملتين لما بين العلوي والسفلي من تناسب التقابل، ولما بين الحسبان والسجود من تناسب التجانس، وذلك لأن سيرهما بحساب مقدّر مقرر وهو من جنس الانقياد لأمر الله وَالسَّماءَ رَفَعَها قال في الكشاف: أي خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه. قلت: إنه حمل الرفع على ارتفاع المنزلة ولعل المراد به الرفع الحسي ليطابق قوله وَالْأَرْضَ وَضَعَها أي خفضها في مركز العالم مدحوة محاطة بالماء. نعم لو جعل وضع الأرض عبارة عن ذلها وتسخيرها كقوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الملك: ١٥] صح تفسيره وإنما وسط قوله وَوَضَعَ الْمِيزانَ بين رفع السماء ووضع الأرض لأنه لا ينتفع بالميزان إلا إذا كان معلقا في الهواء بين الأرض والسماء وهذا أمر حسي، وأما العقلي فهو أنه بدأ أولا من النعم بذكر القرآن الذي هو بيان الشرائع والتكاليف، ثم أتبعه ذكر كيفية خلق الإنسان وقواه النفسانية وما يتم به معاشه من السماويات والأرضيات، ثم ذكر أنه خلق لأجلهم آلة الوزن بها يقيمون العدالة في ومعاملاتهم وأمور تمدنهم فصار كما مر في حم عسق اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ الشورى: ١] وكما يجيء في الحديد وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الآية: ٢٥] وأن في قوله أَلَّا تَطْغَوْا مفسرة أو ناصبة أي لأن لا تتجاوز حد الاعتدال في شأن هذه الآية أي في شأن الوزن. ثم أكد بقوله إثباتا ونفيا وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ قوّموه أو قوموا لسان الميزان بالعدل وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي لا تجعلوها سببا للخسران والتطفيف.
وفي تكرير لفظ الميزان بل في ورود هذه الجمل المتقاربة الدلالة مكررة إشارة إلى الاهتمام بأمر العدل وندب إليه وتحريض عليه. وقيل: الأول ميزان الدنيا والثاني ميزان الآخرة والثالث ميزان العقل. وقيل: نزلت متفرقة فاقتضى الإظهار. قوله لِلْأَنامِ أي لكل ما على ظهر الأرض من دابة. وقيل: للإنسان. وخص بالذكر لشرفه ولأن الباقي خلق لأجله فِيها فاكِهَةٌ التنوين للتعظيم وهي كل ما يتفكه به. وقد أفرد النخل بالذكر للتفضيل ولأنه فاكهة
228
غذائية. والأكمام جمع كم وهو وعاء الثمر. ثم ذكر أقوات البهائم والإنسان قائلا وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وهو ورق الزرع أو التبن. وقال الفراء والسدي: وهو أول ما ينبت من الزرع وَالرَّيْحانُ الورق. ومن رفع فعلى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وذو الريحان. وقال الحسن وابن زيد. على هذه القراءة وهو ريحانكم الذي يشم.
ثم خاطب الجن والإنس بقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
عن جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله ﷺ سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: مالي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم هذه الآية مرة إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
قال جار الله: الخطاب في رَبِّكُما للثقلين بدلالة الأنام عليهما قلت: ربما يصرح به قوله أيها الثقلان سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض أو بما سيذكر عقيبه من قوله خَلَقَ الْإِنْسانَ والجان خلقناه. وقيل: التكذيب إما باللسان والقلب معا وإما بالقلب دون اللسان كالمنافقين فكأنه قال: فيا أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان. وقيل: أراد فيا أيها المكذبان بالدلائل السمعية والعقلية أو بدلائل الآفاق ودلائل الأنفس، والاستفهام للتوبيخ والزجر. قوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ قد مر في سورة «الحجر» إلا أنه شبهه هاهنا بالفخار وهو الخزف بيانا لغاية يبس طينته وكزازته، والتركيب يدل عليه ومنه الفخور ولولا يبس دماغه لم يفخر ومنه الفرخ لأنه تنشق البيضة عنه. وكل يابس عرضة للتشقق ومنه الخزف لغاية يبوسة مزاجه. والجان أبو الجن. وقيل: هو إبليس. والمارج اللهب الصافي الذي لا دخان فيه من مرج إذا اضطرب ولعلها المخلوطة بسواد النار من مرج الشيء اختلط. وقوله مِنْ نارٍ بيان لمارج كأنه قيل: من صاف من نار. ويجوز أن يكون نارا مخصوصة فيكون صفة رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء، والأول مطلع أول السرطان، والثاني مطلع أول الجدي. هذا في بلادنا الشمالية والحال في الجنوبية بالعكس. قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ وقد مر في «الفرقان» معناه أرسلهما ملحا وعذبا متلاقيين بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة يَخْرُجُ مِنْهُمَا أي من كل منهما. وقال في الكشاف: أعاد الضمير إلى البحرين لاتحادهما فالخارج من العذب كأنه خارج من الملح تقول: خرجت من البلد ولم تخرج إلا من محلة بل من دار. وقال أبو علي الفارسي: أراد من أحدهما فحذف المضاف. قلت: ونحن قد سمعنا أن الأصداف تخرج من البحر المالح ومن الأمكنة التي فيها عيون عذبة في مواضع من البحر الملح ويؤيده قوله سبحانه في «فاطر» وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [الآية: ١٢] فلا حاجة إلى هذه التكلفات. قال الفراء وغيره من أهل
229
اللغة: اللؤلؤ الدر، والمرجان ما صغر منه. وعن مقاتل: بالضد. ويشبه أن يكون اللؤلؤ هذا الجنس المعروف والمرجان البسذ. يقال: إنه ينبت في بحر الروم والإفرنج كالشجر وهو الفصل المشترك بين المعدن والنبات، والجواري السفن الجارية حذف الموصوف للعلم به. ومن قرأ الْمُنْشَآتُ بفتح الشين فمعناها المرفوعات الشرع والتي رفع خشبها بعضها على بعض وركب حتى ارتفعت. والقارئ بالكسر أراد الرافعات الشرع أو اللائي يبتدئن في السير أو ينشئن الأمواج بجريهن، والأعلام الجبال الطوال شبههن في البحر بالجبال في البر. والضمير في عَلَيْها للأرض بدلالة المقال أو الحال. والوجه عبارة عن الذات كما مر في تفسير البسملة وفي قوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] وقوله ذُو صفة للوجه وهو على القياس. وفيه دلالة على أن الوجه والرب ذات واحد بخلاف قوله في آخر السورة تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ فإن الاسم غير المسمى في الأصح فلهذا قال ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ومعناه ذو النعمة والتعظيم كما سبق في البسملة. والنعمة في فناء ما على الأرض هو مجيء وقت الجزاء يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وَمن في الْأَرْضِ من الثقلين الملائكة لمصالح الدارين والثقلان لمصالح الدارين. وعن مقاتل: يسأل أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل الملائكة أيضا الرزق والمغفرة للناس كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
سئل رسول الله ﷺ عن ذلك الشأن فقال: من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين.
قلت: هذا التفسير يطابق ما مر في الحكمة. وما ذكرنا في الكتاب مرارا من أن القضاء هو الحكم الكلي الواقع في الأزل، والقدر هو صدور تلك الأحكام في أزمنتها المقدرة. فبالاعتبار الأول
قال «جف القلم بما هو كائن» «١»
وبالاعتبار الثاني قال: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وهذا بالنسبة إلى المقضيات ولا تغير في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وبالجملة إنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وروى الواحدي في البسيط عن ابن عباس: إن مما خلق الله عز وجل لوحا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء. وحين بين أن كل زمان مقدر لأجل شأن قال سَنَفْرُغُ لَكُمْ قال أهل البيان: هو مستعار من قول الرجل لمن يتهدده «سأفرغ لك».
والمراد تجرد داعيته للإيقاع به من النكاية فيه. والمراد شؤونه ستنتهي إلى شأن الجزاء
(١)
رواه البخاري في كتاب النكاح باب ٨ النسائي في كتاب النكاح باب ٤ بلفظ «قد جف القلم بما أنت لاق»
230
وقصد المحاسبة. ثم هدد الثقلين بأنهم لا يستطيعون الهرب من أحكامه وأقضيته فيهما.
نفذ من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية. وأقطار السموات والأرض نواحيهما.
واحدها قطر. وهو في الهندسة عبارة عن الخط المنصف للدائرة. والسلطان القوة والغلبة، أراد أنه لا مفر من حكمه إلا بتسلط تام ولا سلطان فلا مفر. قال الواحدي: أراد أنه لاخلاص من الموت. ويحتمل أن يخص هذا بيوم الجزاء المشار إليه بقوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ ويؤيده ما
روي أن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به،
ويعضده قوله عقيبه يُرْسَلُ عَلَيْكُما الآية.
جاء في الخبر: يحاط على الخلق بلسان من نار ثم ينادون يا معشر الجن والإنس الآية.
وذلك قوله يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ وهو اللهب الذي لا دخان له معه. وقرأ ابن كثير بكسر الشين لغة أهل مكة يقولون صوار بالضم والكسر. والنحاس الدخان. ومن قرأ بالرفع فمعناه يرسل عليكما هذا مرة وهذا مرة. ويجوز أن يرسلا معا من غير أن يمزج أحدهما بالآخر. ومن قرأ بالجر فبتقدير وشيء من نحاس. وعن أبي عمرو أن الشواظ يكون من الدخان أيضا. وقيل: هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم. وعن ابن عباس:
إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تمتنعان فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ لنزول الملائكة فَكانَتْ وَرْدَةً أي حمراء كَالدِّهانِ وهو جمع الدهن أو اسم ما يتدهن به كالحزام والإدام شبهها بدهن الزيت كقوله كَالْمُهْلِ [المعارج: ٨] وهو دردي الزيت. وقيل: الدهان الأديم الأحمر. عن ابن عباس: نصير كلون الفرس الورد.
وقيل: تحمر احمرار الورد ثم تذوب ذوبان الدهن. وقال قتادة: هي اليوم خضراء ولها يوم القيامة لون آخر يضرب إلى الحمرة. والفاء في قوله فَإِذَا للتعقيب وفي فَكانَتْ للعطف، والجواب محذوف كما سيجيء في قوله إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] والمراد أنهما لا ينتصران حين إرسال الشواظ عليهما فحين تنشق السماء وصارت الأرض والجو والهواء كلها نارا وتذوب السماء كما يذوب النحاس الأحمر كيف تنتصران؟ ويمكن أن يكون وجه تشبيه السماء يومئذ بالدهن هو الميعان والذوبان بسرعة وعدم رسوب الخبث كخبث الحديد ونحوه، والغرض بيان بساطة السماء وأنه لا اختلاف للأجزاء فيها. فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ وضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال هاشم ويراد ولده. والضمير في ذَنْبِهِ عائد إلى الإنس لأن الفاعل رتبته التقديم وكأنه قيل: لا يسأل بعض الإنس عن ذنبه ولا بعض الجن. والجمع بين هذه الآية وبين قوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ [الحجر: ٩٢] هو ما مرّ من أن المواطن مختلفة، أو لا يسأل سؤال
231
استعلام وإنما يسأل سؤال توبيخ وتقريع. وعندي أن بيان عدم احتياج المذنب إلى السؤال عن حاله لأن كل ما هو اليوم فيه كامن فذلك في يوم القيامة يظهر ويبرز من ظلمة الطبيعة والعصيان، أو من نور الطاعة والإيمان وإليه الإشارة بقوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ من سواد الوجه وزرقة العين فَيُؤْخَذُ كل منهم أو جنس المجرم بِالنَّواصِي
أي بسببها. ولعل المراد أن تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلفها أو من قدام ويلقون في النار.
روى الحسن عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا من قبضوا عليه بالنواصي والأقدام»
ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى قوله بِالنَّواصِي نحو ذهب بزيد. ثم ذكر أنهم يوبخون بقول الملائكة لهم هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ والأصل الخطاب والالتفات للتبعيد والتسجيل عليهم بالإجرام. والآني الذي بلغ منتهى حره. قال الزجاج: أني يأني أنا إذا انتهى في النضج والحرارة. والمعنى أنهم لا يزالون طائفين بين عذاب الجحيم وبين الحميم وذلك حين ما يستغيثون كقوله وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: ٢٩] قال جار الله: نعمته فيما ذكره من الأهوال وأنواع المخاوف هي نجاة الناجي منه وما في الإنذار به من اللطف، ويمكن أن يراد بأي الآلاء المعدودة في أول السورة تكذبان فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب. ثم شرع في ثواب أهل الخشية والطاعة قائلا وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وقد مر نظيره في «إبراهيم» قوله ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي [الآية: ١٤] قال المفسرون: الجنتان إحداهما للخائف الإنسي والثانية للخائف الجني، أو إحداهما لفعل الطاعات والثانية لترك المنكرات، أو إحداهما للجزاء والأخرى للزائد عليه تفضلا، أو هما جنة عدن وجنة النعيم، أو إحداهما جسمانية والأخرى روحانية. وقيل: التثنية للتأكيد كقوله أَلْقِيا [ق: ٢٤] وهو ضعيف. والأفنان جمع الفنن وهو الغصن المستقيم طولا قاله مجاهد وعكرمة والكلبي وغيرهم، وإنما خصها بالكر لأنها هي التي تورق وتثمر وتظل والساق لأجل ضرورة القيام ولا ضرورة في الجنة ولا كلفة. وعن سعيد بن جبير: هي جمع فن والمعنى أنهما صاحبتا فنون النعم وعلى هذا يكون قوله فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي صنفان كتفصيل بعد إجمال والصنفان رطب ويابس أو معروف وغريب فِيهِما أي في كل منهما عَيْنانِ تَجْرِيانِ من جبل من مسك إحداهما في الأعالي والأخرى في الأسافل. وقال الحسن: تجريان بالماء الزلازل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل مُتَّكِئِينَ حال من الخائفين المذكورين في قوله لِمَنْ خافَ وجوز أن يكون نصبا على المدح. قال المفسرون: إذا كان بطائن الفرش وهي التي تحت الظهارة مما يلي
232
الأرض من إستبرق فما ظنك بظهائرها؟ ويجوز أن يكون ظهائرها السندس. والتحقيق أنه لا يعلمها إلا الله كقوله فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ [السجدة: ١٧] وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ أي ثمرها دانٍ قريب يناله القائم والقاعد والنائم. قال جار الله: فِيهِنَّ أي في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى. وقيل: في الفرش أي عليها. وقيل: في الجنان لأن ذكر الجنتين يدل عليه ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات، وهذا الوجه عندي أظهر وسيجيء بيانه بنوع آخر عن قريب. قال الفراء:
الطمث الاقتضاض وهو النكاح بالتدمية وقَبْلَهُمْ أي قبل أصحاب الجنتين واللفظ يدل عليه. قال مقاتل: هن من حور الجنة. وقال الكلبي والشعبي: هن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنسي ولا جني. قال في الكشاف:
لم يطمث الإنسيات منهمن أحد من الإنس والجنيات أحد من الجن قلت: هذا التفصيل لعله لا حاجة إليه يعرف بأدنى تأمل. قال الزجاج: فيه دليل على أن الجن تطمث كما تطمث الإنس.
ثم ذكر أنهن في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ الصغار هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في العمل إِلَّا الْإِحْسانُ في الجزاء. وخص ابن عباس فقال: هل جزاء من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله إلا الجنة. وحين فرغ من نعت جنتي المقربين شرع في وصف جنتين لأصحاب اليمين فقال وَمِنْ دُونِهِما أي ومن أسفل منهما في المكان أو في الفضل أو فيهما وهو الأظهر.
روى أبو موسى عن النبي ﷺ «جنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما» «١»
مُدْهامَّتانِ هو من الادهيمام إدهام يدهام فهو مدهام نظير اسواد يسواد فهو مسواد في اللفظ وفي المعنى، وذلك أن كل نبت أخضر فتمام خضرته من الري أن يضرب إلى السوادضَّاخَتانِ
فوارتان، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح وهو الرش. قال ابن عباس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور، وانما خص النخيل والرمان بالذكر بعد اندارجهما في الفاكهة لفضلهما وشرفهما، فالنخل فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء كامل ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه ووافقهما الشافعي. والخيرات مخفف خيرات لأن الخير الذي هو بمعنى التفضيل لا يجمع جمع السلامة والمعنى أنهن فاضلات الأخلاق حسان الصور. واعلم أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور فِيهِنَّ وفي سائر المواضع
(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ٢٤ كتاب تفسير سورة ٥٥ باب ١، ٢ مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٩٦ الترمذي في كتاب الجنة باب ٣ ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣.
233
فِيهِما والسر فيه أن تمام اللذة عند اجتماع النسوان للرجل الواحد هو أن يكون لكل منهن مسكن على حدة فتباعد من مسكن الأخرى، واسع بحيث يسع ما يليق بحاله أو بحالها من الجواري والغلمان وسائر الأسباب، فيحصل هناك منتزهات كثيرة كل منها جنة، وكأن في ضمير الجمع إشارة إلى ذلك. وأما العيون والفواكه فلم يكن شيء منها بهذه المثابة من كمال اللذة فأكتفي فيها بعود الضمير إلى الجنتين فقط. والمقصورات اللواتي قصرن أي حبسن في خدورهن. امرأة مقصورة أي مخدرة. روى قتادة عن ابن عباس:
الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
وعن النبي ﷺ «الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون» «١»
وقال أهل المعاني: كنى عن الجماع في الدنيا بنحو قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٧] وذكر الجماع في الآخرة بلفظ يقرب من الصريح وهو الطمث فما الحكمة في ذلك؟ والجواب أن المباشرة في الدنيا قبيحة لما فيها من قضاء الشهوة وإسقاط القوى وهي في الآخرة بخلاف ذلك فإنها داعية روحانية ولذة حقيقية فلم يحتج إلى الكناية لأن الكنايات إنما تجري في الهنيئات. قال جار الله: مُتَّكِئِينَ نصب على الاختصاص. قلت: ويجوز أن يكون حالا والعامل مضمر يدل عليه قوله لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ أي يطمثونهم في حال الاتكاء. قال أبو عبيدة والضحاك ومقاتل والحسن: الرفرف ضرب من البسط. وقيل: كل ثوب عريض فهو رفرف. ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط رفارف. وقال الزجاج: الرفرف هاهنا رياض الجنة. وقيل: الوسائد. قال جار الله ال عَبْقَرِيٍّ منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد الجن فينسبون إليه كل شيء غريب عجيب.
وعن أبي عبيدة: كل شيء من البسط عبقري وهو جمع واحدة عبقرية. ومما يدل على أن صفات هاتين الجنتين تقاصرت عن الأوليين قوله مُدْهامَّتانِ فإنه دون قوله ذَواتا أَفْنانٍ وذلك أن كمال الخضرة لا يوجب كون البستان ذا فنن ونضاختان دون تجريان وفاكهة دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ. قال أهل العلم: كرر قوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إحدى وثلاثين مرة: ثمانية منها ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه وذكر المبدأ والمعاد، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة، وثمانية بعدها عقيب
(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٥٥ باب ٢ مسلم في كتاب الجنة حديث ٢٣- ٢٥ الترمذي في كتاب الجنة باب ٣ الدارمي في كتاب الرقاق باب ١٠٩ أحمد في مسنده (٣/ ١٠٣، ١١٥) (٤/ ٤٠٠، ٤١١)
234
وصف الجنات التي هي دونهما. فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة. ثم نزه نفسه عما لا يليق بجلاله وختم السورة عليه. والاسم مقحم كما بينا وفائدة هذا التوسيط سلوك سبيل الكناية كما يقال «ساحة فلان بريئة عن المثالب» والله أعلم بحقائق كلامه.
235
Icon