مطلب أنواع التسبيح والقرض الحسن وما نزل في أبي بكر رضي الله عنه والفتلة في طريقة المولوية والقرض الحسن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى
«سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ١ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٢) تقدم تفسير مثلها غير مرة واعلم أن التسبيح أقسام: تسبيح العقلاء وهو تنزيه الله تعالى عن كلّ شيء، وعما لا يليق بجنابه وجلاله، وتسبيح النّاميات من ذوات الأرواح قولها بلغتها قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الآية ٤٥ من سورة الإسراء ج ١، فالأول بلسان القال والثاني بلسان الحال، والثالث بلسان الهيئة جلت عظمته، وسيأتي لهذا البحث صلة أول سورة الجمعة الآتية فراجعه.
وهذا المسبح في كلّ لسان قالي أو حالي أو هيئتي
«هُوَ الْأَوَّلُ» بلا ابتداء قبل كلّ شيء
«وَالْآخِرُ» بلا انتهاء بعد كلّ شيء
«وَالظَّاهِرُ» الذي لا يرى في الدّنيا لكمال ظهوره على كلّ شيء، قال الأبوصيري رحمه الله:
واختفى منهم على قرب مرآه | ومن شدة الظّهور الخفاء |
«وَالْباطِنُ» في كلّ شيء ولا يدركه شيء
«وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (٣) خفية وجلية جهره وسره كتمه وعلانيته، روى مسلم عن سهل بن أبي صالح قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول اللهم رب السّموات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كلّ شيء، أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدّين وأغننا من الفقر وهذا يروى عن أبي هريرة عن النّبي ﷺ فيستحب لكل أحد قراءته عند النّوم وقراءة آية الكرسي والإخلاص لما فيهما من الحفظ والبركة. قال تعالى
«هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» راجع الآية ٤ من سورة طه في ج ١ والآية ٧ من سورة يونس ج ٢ تجد ما يتعلق في بحث العرش والآية ١٠ من سورة فصلت ج ٢ أيضا في بحث الأيام السّتة
6
بصورة مفصلة
«يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» ويتغلغل فيها من البذور والجذور والقطر والثلج والموتى والكنوز
«وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النّبات والمعادن والسّوائل وغيرها
«وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النّبات والمعادن والسّوائل وغيرها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من الأمطار والصّواعق والخير والشّر والأمر والنّهي وغيرها
«وَما يَعْرُجُ فِيها» من الملائكة ويصعد إليها من أعمال الخلق ودعواتهم
«وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» يكاؤكم ليل نهار صباح مساء أيقاظا ونياما
«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (٤) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم ونياتكم
«لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (٥) كلها إن التكرار في جملة السّموات والأرض لكل منها مغزى غير الأوّل ومناسبة ومعنى ظاهرين لمن تدبر
«يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فيدخل أحدهما في الآخر تداخلا ظاهرا غير مرئي محسوسا غير مشهود كالهواء والقوة الكهربائية وحركة الظّل وفلكة المضخات والطّواحين وفلكة المغزل والمهواية حال دورانها وشبهها فإنها كلها موجودة غير مشاهدة
«وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (٦) لا يخفى عليه شيء من دخائلها قال تعالى في ٢٨٥ من البقرة المارة (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) فيا أيها النّاس
«آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» إيمانا خالصا
«وَأَنْفِقُوا» في سبيله ابتغاء مرضاته
«مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» من المال الذي هو بأيديكم لأنه مال الله، وقد كان بيد غيركم فأهلكهم ونقله إليكم، فأنتم الآن خلفاء الله عمن مضى من قبلكم ووكلاؤه على ما أودعه لديكم، فأنفقوا على من بقي من أبناء جنسكم من عيال الله قبل أن يسلبه منكم لأنه مسلوب لا محالة كما قيل:
ويكفيك قول النّاس فيما ملكته | لقد كان هذا مرة لفلان |
وقول الآخر:وما المال والأهلون إلّا وديعة | ولا بد يوما أن ترد الودائع |
وهذه الآية عامة كغيرها وما قيل إنها نزلت في غزوة ذي العشيرة أي غزوة تبوك فبعيد، لأنها كانت سنة لتسع كما سيأتي بيانها في سورة التوبة إن شاء الله
«فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» أيها النّاس إيمانا كاملا
«وَأَنْفِقُوا» من أموالهم
7
لوجه الله على الفقراء والمساكين
«لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ» أكبر من كلّ شيء عدا الإيمان الخالص
«وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» وتنفقون مما من به عليكم
«وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ» وتخلصوا له العبادة، فأي عذر لكم في عدم إجابته
«وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ» على الإيمان به ورسله وكتبه والبعث بعد الموت يوم قال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) واعترفتم له بذلك راجع الآية ١٧١ من الأعراف في ج ١، فأوفوا أيها النّاس بعهدكم هذا ولا تنقضوا ميثاق ربكم
«إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٨) يوما ما لموجب ما فأحرى بكم أن تؤمنوا حالا إذ قامت الحجج على بعثة رسولكم محمد ووجوده كاف للايمان به وبربه، فلا عذر لمن يريد الإيمان بعد بعثته لدليل آخر لأنه برهان لا مزيد عليه واعلموا أن الله الذي أرسله إليكم
«هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ» المشار إليه محمد
«آياتٍ بَيِّناتٍ» من كلامه القديم الأزلي
«لِيُخْرِجَكُمْ» بها إذا اتبعتموها
«مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» من الكفر إلى الإيمان
«وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (٩) ولذلك يحب إيمانكم رأفة بكم لخلاصكم من النّار وإدخالكم الجنّة
«وَما لَكُمْ» أيها النّاس وأي عذر يمنعكم
«أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مما خولكم به من النّعم والحبوب والذهب والفضة دون حول منكم ولا قوة، وأي شيء حدا بكم حتى بخلتم بالعفو من أموالكم على إخوانكم وأقاربكم وفقرائكم ولم تحصلوا على الثواب العظيم عند ربكم في آخرتكم والثناء الجزيل في الدّنيا من أمثالكم قبل أن تموتوا فتحرموا هذا الثناء والثواب، لأنكم لا بد ميتون وتاركون أموالكم ميراثا لغيركم
«وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما فيها لا يأخذ أحد منه شيئا واعلموا يا عباد الله أنه
«لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ» ومن لم ينفق كما لا يستوون عندكم فلا يستوون عند الله بل بينهما بون شاسع
«مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ» الظفر الأوّل الذي هو مبدأ الفتوحات وهو صلح الحديبية الذي رأى المسلمون فيه حيفا وميلا لما فيه من الشّروط المجحفة ولم يعلموا أن عاقبته خير وأن الانفجار لا يحصل إلّا من الضّيق وأن الفرج لا يكون غالبا إلّا بعد الشّدة واليسر بعد العسر ولذلك سماء الله فتحا وفيه بشارة إلى فتح مكة له ﷺ وهو الفتح العظيم، ولهذا قال
8
بعضهم إن هذه الآية تشير إلى فتح مكة اعلموا أنه لا يستوي منكم من قام بالإنفاق
«وَقاتَلَ» قبله ممن أنفق وقاتل بعده إذ قد لا تكون حاجة ماسة بعد الفتح بسبب ما يفتحه الله عليهم من البلاد ويقيض عليهم من أبواب الرّزق وما يفيضه عليهم من المال بعد ذلك فلم يحتاجوا إليكم
«أُولئِكَ» المقاتلون المنفقون حال الضّيق والشّدة والقلة والحاجة
«أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا» بعد الظّفر وكثرة المسلمين والمال
«وَكُلًّا» من الفريقين
«وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» المنزلة الحسنة التي لا أحسن منها وهي الجنّة ولكنها درجات متفاوتة بحسب الأعمال
«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (١٠) نزلت هذه الآية في أبي بكر الصّديق لأنه أول من أسلم وأول من أنفق وأول من ذب عن رسول الله بنفسه وماله وأولها في حادثة الغار وآخرها في واقعة تبوك. روى البغوي بإسناد التغلبي عن ابن عمر قال كنت عند رسول الله ﷺ وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال، فنزل جبريل فقال مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال فقال أنفق ماله عليّ قبل الفتح، قال فإن الله عز وجل يقول اقرأ عليه السّلام وقل له أرضا أنت عني في فقرك هذا أم ساخط يا أبا بكر فقال رسول الله ﷺ يا أبا بكر إن الله يقرؤك السّلام ويقول لك أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر أأسخط على ربي إني على ربي راض إني على ربي راض، وهنا يقول المولوية إنه رضي الله عنه قام وفتل على رجل
واحدة فرحا بما سمعه عن ربه ولذلك جعلوا الفتلة بطريقتهم ولكن لم أقف على ما يؤيده.
قال تعالى
«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» عن طيب نفس. والمراد في هذا القرض الإنفاق في سبيل الله وسمي قرضا ليدل على التزام الجزاء
«فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» (١١) زيادة على المضاعفة والأجر الكريم المفضي لدخول صاحبه إلى دار الكرامة عند ربه مع الشّهداء والصّالحين.
وأعلم أن القرض لا يكون حسنا إلّا إذا جمع فيه أحد عشر خصلة ١- أن يكون في المال الحلال ٢- أن يقرضه وهو محتاج إليه على حبه ٣- أن يكون للأحوج ٤- أن يكتمه ولا يتبعه بمن ولا أذى ٥- أن يقصد به وجه الله ابتغاء مرضاته ٦- أن
9
لا يرائي به النّاس ولا يقصد به السّمعة والصّيت ٧ أن يستحقر ما يقرضه لله مهما كان كثيرا بالنسبة لما أعده الله لما بمقابلته من الثواب ٨ أن يكون من أحسن ماله لقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية ٩٢ من آل عمران المارة ٩- أن لا يرى حين تصدق غنى لنفسه وذلا للفقير ١٠- أن يكون عن طيب نفس ورغبة فيما أعده الله لمثله ١١- أن يحب أن يرزقه الله أكثر مما عنده لينفق أكثر مما أنفق ١٢- على الله أن يتقبلها منه ويثيب عليها ثوابا مضاعفا. واعلم أن الخلل الذي يحصل في الثلاثة الأوّل لا لعدم ثوابه بل لكونه يكون أقل أجرا لأن من أقرض من أحسن ماله أو أقرض وهو محتاج إليه أو أقرض غير الأحوج فله الجزاء الحسن عند الله أيضا لما فيه من قضاء حاجة المستقرض وهو المقصود من القرض قال تعالى أنظر أيها الإنسان
«يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» يوم القيامة
«يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» على الصّراط المستقيم جزاء أعمالهم الحسنة وتقول لهم الملائكة
«بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ» تدخلونها حال كونكم مكرمين
«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» وتكونون أبدا
«خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ١٢» في ذلك اليوم العظيم
«يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ» لهم من قبل الملائكة
«ارْجِعُوا وَراءَكُمْ» لا تدنسوا للمؤمنين ارجعوا إلى الدّنيا واعملوا صالحا ليكون لكم مثل نورهم وهذا على سبيل الهتكم إذ لا سبيل إلى الرّجوع ارجعوا
«فَالْتَمِسُوا نُوراً» لأنفسكم فيرجعون إلى الموقف وهو المحل الذي صاحب المؤمنين منه نورهم ليطلبوا مثله وعند وصولهم صد كلّ منهم
«فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ» وبين المؤمنين
«بِسُورٍ» عظيم بدلالة التنكير فيه وهو لا أعظم منه في الآخرة كما يقولون الآن (سورماجينو) لا أعظم منه في الدّنيا وهو الذي عملته فرنسا وتحصنت به من أعدائها الألمان، وقد بالغوا في تحصينه حتى اتكلوا عليه وهو مهما كان في القوة فلا يشبه أو يقاس بسور الآخرة، لأن هذا قد يأتي يوم ينهار بنفسه أو بقوة الأعداء المحاربين لهم وهم الآن الألمان ولا ندري بعد ذلك من هم، أما ذاك فلأنه من أعمال الآخرة وهي بما فيها باقية ثابتة، وهذا
10
من أعمال الدّنيا وهي بما فيها فانية. وهذا السّور العظيم
«لَهُ بابٌ» عظيم بنسبة عظمه
«باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ» الجنّة لأنها من رحمة الله
«وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» (١٣) النّار لأنها من عذاب الله، فلما رأى ذلك المنافقون صاروا
«يُنادُونَهُمْ» أي المؤمنين يقولون لهم
«أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» في الدّنيا
«قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ» أيها المنافقون
«فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ» فيها بالكفر
«وتماديتم في الطّغيان وَتَرَبَّصْتُمْ» تأخرتم عن الإيمان والتوبة
«وَارْتَبْتُمْ» في نبوة محمد وكتابه في هذا اليوم
«وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ» الباطلة التي كنتم تنتظرونها أن تقع بالمؤمنين
«حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» (١٤) الشيطان بخداعه حتى متم على ما كنتم عليه من النّفاق
«فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ» عن أنفسكم مثل الدّنيا إذ يجوز فيها الفداء عن النّفس بالمال، لأن حالة الآخرة غير حالة الدّنيا ولا يقبل منكم الآن إيمان أيضا ولا توبة لفوات وقتهما
«وَلا» يقبل أيضا فدية ولا توبة
«مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ» أنتم أيها المنافقون والكافرون والمشركون
«النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ» جميعا لأنكم في الكفر سواء، وعذابكم مختلف، المنافق أشد من الكافر، والكافر أخف من المشرك، فهي دركات متفاوتة كما أن الجنّة درجات يا لها من درجات متفاوتة أيضا، يقول أهلها حينما يرى أولئك الخبثاء ادخلوها فهي مثواكم
«وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (١٥) النار لأهلها، قال تعالى بعد هذا البيان لذي بينه من أحوال أهل الجنّة وأهل النّار
«أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم
«أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» المتلو عليهم فيؤمنوا إيمانا حقيقيا خالصا محضا تنشرّ به قلوبهم عن رغبة ويقين، لأن الايمان إذا لم تخالط بشاسته الظّاهرة اعتقادا جازما وإيقانا قلبيا لا يعتد به ولا ينفع به صاحبه لهذا يقول الله تعالى أما حان لهم أن يخشعوا لذكري
«وَ» يخضعوا إلى
«ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ» على رسولهم من قبلي بعد ما أرادوا من الآيات البينات الموجبة لخشوعهم وخضوعهم، ألا فلينقادوا ويخبتوا
«وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ» إرسال الرّسول إليهم وإنزال الكتاب عليهم وهم اليهود والنّصارى الّذين سوّفوا وأسرفوا
«فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ» فيما بينهم وبين
11
أنبيائهم حتى زالت عنهم الرّوعة التي كانوا يجدونها عند سماع تلاوة كتابهم، وقد خلت قلوبهم من الخشوع الذي كانوا يحسون به فاتبعوا الأهواء
«فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» فلم يبق يؤثر فيها الوعظ ولا التذكير
«وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (١٦) متجاوزون حدود الله بسبب تلك القسوة التي ألبست قلوبهم فمنعتها من أن تخضع لسماع ذكر الله، فيا أيها النّاس
«اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» كما أنه يحيي الإنسان والحيوان بعد الموت فلأن يحيي القلوب التي أماتتها القسوة من باب أولى إذا رجعت إلى الله وأنابت إليه
«قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ» الدالة على ذلك فيما تقدم من الذكر وفصّلنا لكم كيفية إحياء الأرض الميتة بالمطر، وإحياء القلوب بالذكر
«لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (١٧) حكمتنا فتركنون إليها وتعملون بما يفضي إليها، قال الكلبي ومقاتل إن هذه الآية نزلت في المنافقين، وذلك أنهم قالوا لسلمان الفارسي حدثنا في التوراة، فنزل أولا نحن نقص عليك أحسن القصص الآية الثالثة من سورة يوسف ج ٢، فكفوا عنه، ثم سألوه ثانيا فأنزل الله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية ٢٣ من الزمر ج ٢ أيضا، ثم سألوه ثالثا فنزلت هذه الآية. قال محمود الآلوسي رحمه الله يكاد يصح نزولها في المنافقين، ثم صوّب نزولها في المؤمنين حينما قدموا المدينة وأصابوا لين العيش وفتروا عما كانوا عليه من العبادة، فعوتبوا فى هذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وعليه يكون نزول هذه الآية بالسنة الأولى من الهجرة، فتكون من أول ما نزل في المدينة، وليس بسديد، لأن أول ما نزل سورة البقرة وبعدها الأنفال فآل عمران فالأحزاب إلخ ما أثبتناه هنا، أو الثالثة عشرة من البعثة التي هي آخر نزول القرآن في مكة فتكون السّورة أو الآية وحدها مكية وليس كذلك لأن السّورة كلها مدنية نزلت في المدينة يوم الثلاثاء في السّنة السّابعة من الهجرة ووضعت في محلها من القرآن بإشارة من الرّسول ودلالة من الأمين جبريل عليهما الصلاة والسّلام وفاقا لما هو عند الله في لوحه المحفوظ وعلمه الأزلي، لذلك يبعد الركون إلى ما صوبه الآلوسي رحمه الله. قال تعالى
«إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ» الّذين صدقوا الله ورسوله وكتابه وتصدقوا بفضول أموالهم «وَأَقْرَضُوا اللَّهَ
12
قَرْضاً حَسَناً»
على الصّورة المبينة آنفا ف
«يُضاعَفُ لَهُمْ» عملهم الحسن أضعافا كثيرة
«وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» (١٨) عند الله في الآخرة
«وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ» وافيا جزاء أعمالهم الحسنة
«وَنُورُهُمْ» مشرق على الصّراط، وفي طليعة هؤلاء العشرة المبشرون بالجنة
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (١٩) في الآخرة تحجم أي تسخم فيها وجوه أهلها بدخانها أعاذنا الله منها وحمانا فيا أيها النّاس
«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» فمثلها
«كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ» ييبس وبعد خضرته
«فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً» هشيما متكسرا
«وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ» لمن كانت حياته على هذه الصّفة التي قصها الله عن الكفار وفي مقدمتهم النّمرود وفرعون وأبو جهل وأضرابهم، أما من يصرف أوقاته وأمواله في طاعة الله ورسوله والعمل الصالح فلهم عفو عام
«وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» شامل في الآخرة
«وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (٢٠) لمن كرس نفسه لها وأعرض عن الآخرة لقد عدّ الله تعالى في هذه الآية من زخارف الدّنيا خمسة، وقد عدها في الآية ١٤ من آل عمران المارة سبعة، وفي غيرها ثلاثة وأقل، فالسعيد من اعتبر وترك قليلها وكثيرها رغبة فيما عند الله. واعلم أن الغرور هو كلّ ما يمتع به الإنسان من مال أو جاه أو ولد، وكلّ ما يغره وجوده لديه فيأمل دوامه وهو فان لا محالة فهو غرور. ثم اعلم أن كلّ آية مصدرة بلفظ اعلموا أو اعلم تدل على أهمية ما تدعو إليه ووجوب أخذ ما فيها بعين الاعتبار والنّظر إليها بالتفكر والتدبر والتروي.
قال تعالى
«سابِقُوا» أيها المؤمنون وتسابقوا
«إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» ففي مثل هذا تكون المسابقة أيها النّاس وفي مثله تطلب المنافسة والتفاخر ويرغب بالتزايد والتكاثر لا في لعب الصّبيان ولهو الفتيات وزينة النساء وعذاب الأموال ووبال الأولاد، راجع الآية ١٣٣ من آل عمران المارة
13
فيما يتعلق بقوله تعالى (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) لأنها نظيرتها إلّا أنها مصدرة بلفظ سارعوا، وإلّا فأكثر ألفاظها تشابه هذه
«ذلِكَ» الغفران والجنّة
«فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده فضلا منه
«وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ٢١» واعلم أنه يوجد في القرآن ستّ وخمسون آية مبدوءة بحرف السّين واعلموا أيها النّاس إن
«ما أَصابَ» الله عباده وخلقه
«مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ» من جدب وقلة ثمر وآفات للزروع والفروع
«وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ» من الأمراض وفقد الأولاد والأموال وجمع الاكدار
«إِلَّا» وهو ثابت مدون
«فِي كِتابٍ» الله الأزلي مقصور وقوعه عليكم في الزمان والمكان
«مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» قبل خلق الأرض لأنها خلقت قبل البشر والجن وغيرهما وقبل خلق الأنفس، لأن كلّ ما هو مقدر على الخلق من المصائب مدون عليهم قبل خلقهم، وهذا يقول الله تعالى
«إِنَّ ذلِكَ» أي إثباته في اللّوح المحفوظ قبل إيجاده للعيان مع كثرته
«عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (٢٢) هين إذ لا يعسر عليه شيء، وقد أخبركم بتقدير ذلك كله
«لِكَيْلا تَأْسَوْا» تحزنوا وتهتموا
«عَلى ما فاتَكُمْ» من الدّنيا، لأن فواته محتم، ولا يمكنكم الحصول عليه مهما طلبتموه
«وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» لأنه مقطوع بوصوله إليكم ولو لم تطلبوه، وهو لا يستوجب الفرح، لأنه فإن وأنتم فانون، وإن لم تتركوه يترككم. وكثيرا ما يجر هذا الحطام إلى الفخر والخيلاء
«وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» (٢٣) هذا والمراد بالحزن المذموم وهو المخرج صاحبه عن دائرة الصّبر والتسليم لأمر الله لا مطلق الحزن، إذ لا يخلو إنسان منه، كما ان المراد بالفرح الملهي عن الشّكر لا مطلق الفرح الذي تنبسط منه النّفس بالطبع، فهذان لا بأس بهما وكذلك لا يحبّ
«الَّذِينَ يَبْخَلُونَ» بأموالهم على فقراء الله التي منحهم الله إياها
«وَ» مع هذا فإنهم
«يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ» ويعرض عما أراده الله منه
«فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عنه
«الْحَمِيدُ» (٢٤) لمن أطاعه. قال تعالى
«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا» محمدا فمن قبله
«بِالْبَيِّناتِ» الحجج الواضحة والبراهين السّاطعة الدّالة على رسالتهم
«وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ» المتضمن
14
الشرائع التي أمروا بتبليغها لأقوامهم
«وَالْمِيزانَ» أنزلناه معهم ليقيموا العدل بين أممهم، لأن المراد بالميزان هنا العدل الذي به قوام مصالح النّاس وملاك أمورهم وجماع تآلفهم وتواددهم، بدليل قوله
«لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» ولا يتظالموا فيما بينهم، فيعتدي القوي على الضّعيف والشّريف على الحقير لأنها فيه سواسية، والتفاضل إنما يكون بالأعمال، وقد يكون بالأموال والجاه والرّياسة المراعى فيها التقوى التي هي أساس كلّ خير من هذه الأشياء وغيرها.
مطلب في الحديد ومنافعه وكونه من معجزات القرآن وما يعمل منه وما يستخرج فيه ويحتاج إليه:
«وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» أحد بركات الأرض الأربع التي منحها الله عباده من هباته الجليلة وتخصيصاته العظيمة، والثاني الملح، والثالث الماء، والرّابع النّار، أي أصلها وهو عنصر الأوكسجين، وهذا من معجزات القرآن إذ تحقق لأهل هذا العصر أنه ينزل من السّماء. قال الأستاذ الشّهير (ونودر فشلد) انه رأى ذرات الحديد في الثلج في شمالي سيبريا وأخبر عنه. ومما يدل على عظمته إعادة العامل مع إمكان الاكتفاء بأداة العطف ووصفه بقوله جل قوله
«فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ» ويطلق البأس على الحرب وعلى الموت، وهذا أعظم الآلات المؤثرة فيها بتأثير الله تعالى، وإنما نعته الله بهذا لما هو ثابت في علمه الأزلي المخبر عنه بقوله (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية ٨ من سورة النّحل في ج ٢، أي ما لا تعلمونه من آلات الحرب والرّكوب التي ظهرت في هذا الزمن مما قد ينكرها العقل لولا بروزها للعيان كالبرق والهاتف والرّاد والقطر والبواخر التي تسيرها قوة الكهرباء (والبوصلة) الإبرة المغناطيسية التي لولاها لما تمكن أصحاب البواخر من التوغل في البحار، ولم يتسنّ لهم السّير في النّهار وقت الضّباب وتلبد الغيوم، والإبرة الدّالة على ترطب الجو وحدوث الأمطار والعواصف وغيرها من العجائب والغرائب من سرعة سير بعض السّيارات الذي هو فوق العقل، فضلا عن القذائف والصّواريخ والذرة وغيرها وما ندري ما يحدث بعد. وللحديد دخل في العلاجات المهمة ومنافعه لا تعد ولا تدخل تحت الحصر، ولولاه لاستحال اختراع الأشياء المار ذكرها وغيرها كالقطر
15
والبواخر التي هي كالجبال، ولا شيء يقوم مقامه من المعادن وإن كانت أثمن منه، كالفضة والذهب والأحجار الكريمة لأنها لا تصير سلاحا، ولا دبابات، ولا طائرات ولا ولا. وخصوصا ما يتعلق بالكهرباء الذي لا يستغنى عنه في كثير من ذلك، والذي هو سر من أسرار الله الذي لم يدرك البشر ماهيته ولا كيفيته حتى الآن، ولهذا يقول الله تعالى
«وَمَنافِعُ» كثيرة فيه
«لِلنَّاسِ» لا تحصى من الإبرة فما فوقها، ولا غنى لأحد عنه، وفي التعميم بعد التخصيص دلالة على عظيم حاجة البشر إليه
«وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ» أي أنه أنزل هذه الأشياء، لتلك الغايات المارة ولغيرها مما يظهره الزمان، ويظهر للناس
«مَنْ يَنْصُرُهُ» ويقيم دينه من خلقه باستعمال العدل الذي يمكن إجراؤه أولا برسائل النّصح والإرشاد والوعظ والزجر، وثانيا باستعمال السّيف والرّمح والنّبل التي يقل فيها القتل وتؤثر في إجبار الباغي على إقامة العدل، وثالثا بالبنادق والمدافع والقذائف والصّواعق، ورابعا بالمدمرات الذرية والمهلكات الأخرى التي سيظهرها الزمن بما هو أعظم وأعظم ولا يقبله العقل مما سيعمله هذا البشر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، وسخر له الله الحجر والمدر والماء والنّار والهواء، وجميع معادن الأرض الجامدة والسّائلة والقوية والرّخوة ليستخدمها فيما يظهره الله على يديه في إصلاح العالم وإفساده وإعماره وإبادته
«وَ» يعلم من ينصر
«رُسُلَهُ» الداعين إلى طريقه السّوي
«بِالْغَيْبِ» أي ليؤمنوا به عن غير رؤية ويؤمنوا بالآخرة من غير مشاهدة، فهؤلاء الكرام الّذين آمنوا بالله ورسله وبذلوا نفوسهم لإقامة العدل بين النّاس وطهارة الأرض ممن يكفر بالله وهو يأكل رزقه، ويفسد ولا يصلح، قبل أن يروه في الآخرة، وقبل أن يشاهدوا ما وعدهم به على لسان رسلهم القائمين بتنفيذ أوامره ونواهيه في الدنيا، الطائعين له الطّاعة المحمودة المرجو ثوابها عنده. واعلم أني كثيرا ما أستشهد بما يكون من غير المسلمين كما هي الحال هنا ولكن فيما يتعلق بأمور الدّنيا فقط لقوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) الآية ٧ من سورة الروم في ج ٢ تدبر وتيقن
«إِنَّ اللَّهَ» على نصر هؤلاء وأمثالهم
«قَوِيٌّ» قادر على توفيقهم لما يريدون وعلى نصرهم على أعدائهم وإظهار كلمتهم وإيقاع الخذلان
16
بهم وإلقاء الرّعب في قلوب مناوئيهم
«عَزِيزٌ» (٢٥) غالب لا يقاوم منبع لا يحاط به قادر على قهر أعدائه دون تكليف خلقه، وإنما أراد أن يكون النّصر على أيدي أوليائه ليكافئهم على ذلك في الآخرة. قال تعالى
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» فلا نبي من بعدهما إلا وهو من نسلهما وإن من تقدمهما
كان من ذرية آدم
«فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ» بهداية الله تعالى مقتف آثار أصوله الكرام
«وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (٢٦) خارجون عن الطّاعة، وذلك بمقتضى ما هو مقدر في الأزل إذ جعل من ذريتهما من هو صالح لخلافته في أرضه، ومن هو لايق لعبادته وخدمته، ومن هو كافر مفسد لخلقه ولنفسه جاحد لربه ورسله وكتبه
«ثُمَّ قَفَّيْنا» أتبعنا
«عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا» واحدا تلو الآخر
«وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» الذي هو آخر أنبياء بني إسرائيل
«وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ» ومشوا على دينه الحق في زمنه وإلى بعثة محمد ﷺ
«رَأْفَةً وَرَحْمَةً» وهاتان الخلتان من صفات أصحاب محمد الآتية في آخر سورة الفتح
«وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها» من تلقاء أنفسهم، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن، وهذه الجملة غير معطوفة على ما قبلها، كما أن جملة (ما كَتَبْناها) معترضة بينها وبين ما بعدها أي أن الرّهبانية جاؤا بها وألزموها أنفسهم
«ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» في الإنجيل الذي أنزلناه على رسولهم
«إِلَّا» أنهم اخترعوها عفوا
«ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» عليهم، وذلك لكمال زهدهم في الدّنيا وتشبههم برسولهم، لأنه لم يتزوج وهو أزهد الأنبياء والرّسل عدا محمد صلوات الله عليهم وسلامه، والرّاهب هو الخائف الخاشي الخاشع لربه الفار بدينه عن الافتتان مبالغة في ترك الدّنيا وإعراضهم عن شهواتها، ولكنهم بعد أن أوجبوها على أنفسهم ومن بعدهم لم يقوموا بها كما ينبغي لها لقوله تعالى
«فَما رَعَوْها» خلفهم من بعدهم
«حَقَّ رِعايَتِها» كما أراد مبتدعوها لأن القصد منها التباعد عن الشّهوات والتجافي عن الملذات والعكوف على العبادات، وهؤلاء مع الأسف صار أكثرهم على العكس، لأنهم انهمكوا في الدّنيا وانكبوا بكليتهم عليها وتوغلوا في الملاهي والمناهي ورغبوا في
17
زينة الدّنيا وزخارفها وحب المال والجاه والرّياسة، واستحلوا لحوم الخنازير والخمرة، وقد ذمّ سيدنا عيسى عليه السّلام الخنزير بقوله تجعلون الدّراري في أعناق الخنازير وقال لا أشرب بنت الكرم بعد اليوم. وكان عيسى عليه السّلام لا يشربها أبدا، وكان لا يأتي النّساء مع قدرته ترهبا وهضما لنفسه، وهو أول من سن المعمودية راجع الآية ٧ فما بعدها من سورة مريم ج ٢ تقف على مزاياه عليه السّلام، وقال عيسى عليه السّلام: من نظر إلى امرأة أجنبية يشتهيها فهو يزني، والآن اختلطت نساؤهم برجالهم وتركوا الختان وهو سنة ابراهيم، والغسل من الجنابة وهو من سنن الأنبياء وحرموا الطّلاق وهو ما لم يحرمه الأنبياء، وإنما كرهوه وخالفوا أحكاما مسطورة في أناجيلهم الأربعة ولم يتقيدوا بالوصايا العشر المسطورة في التوراة والمأمور بها في الإنجيل. قال تعالى
«فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ» بعيسى وماتوا قبل بعثة محمد والّذين آمنوا بمحمد وماتوا على إيمانهم
«أَجْرَهُمْ» في الدّنيا والآخرة
«وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (٢٧) أهلكناهم بفسقهم وخسروا الدّنيا والآخرة. قال تعالى
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بموسى وعيسى
«اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ» محمد الذي هو خاتم الرّسل المصدق لرسلكم فإذا آمنتم به
«يُؤْتِكُمْ» ربكم
«كِفْلَيْنِ» حظين أو نصيبين
«مِنْ رَحْمَتِهِ» واحد لإيمانكم بموسى والتوراة، وآخر من رحمته أكبر وأوفر منهما لإيمانكم بعيسى والإنجيل، وسهم عظيم لإيمانكم بمحمد والقرآن، وهذه الثلاثة كلها كفل واحد، والثاني ثلاثة أيضا بينها بقوله
«وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً» عظيما يوم القيامة وهذا النّور لا يزال يصاحبكم في مواقفها ثم
«تَمْشُونَ بِهِ» على الصّراط المضروب على متن جهنم في حالة أنتم أشد حاجة له من غيره
«وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ما سلف منكم قبل الإيمان وبعده إذا متم مؤمنين
«وَاللَّهُ غَفُورٌ» للمؤمنين الموقنين
«رَحِيمٌ» (٢٨) بهم يوفقهم لما يحبه ويرضاه من الأعمال. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله ﷺ ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق الله، ورجل كانت عنده أمة يطأها فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها وأحسن
18
تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران. ولما سمع أهل الكتاب هذه الآية قالوا للمسلمين من آمن بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن فله أجر واحد مثلكم فما فضلكم علينا؟
حينئذ أنزل الله تعالى
«لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» أي على تخصيص شيء من فضل الله ان لم يؤمنوا بمحمد، لأن لهم جرين إذا آمنوا وإلّا فلا أجر لهم البتة
«وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (٢٩) الذي لا أعظم منه. واعلم أن
«لا» هنا ليست بزائدة ولم يؤت بها لتحسين الكلام فقط، بل هي نافية، لان الضّمير في قوله لا يقدرون عائد إلى الرسول وأصحابه، والتقدير هو إنما فعلنا ذكر لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه بأقوام معينين، وليعتقدوا (أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ) إلخ الآية، وهذا التأويل على هذا والتفسير به أولى من جعل لا زائدة، لأن فيها إضمار كلمة (وليعتقدوا) وفي تلك حذف كلمة (تخصيص شيء من فضل الله) والإضمار أوفى للمعنى من الحذف، لأن الكلام إذا افتقر للاضمار لم يوهم ظاهره باطلا أصلا، أما إذا افتقر إلى الحذف كان ظاهره موهما ذلك. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد موسى الأشعري عن النّبي ﷺ قال مثل المسلمين واليهود والنّصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له إلى اللّيل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النّهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملناه باطل، فقال لهم اعملوا بقية يومكم لكم وخذوا أجركم كاملا، فأبوا واستأجر آخرين بعدهم، فقال اعملوا بقية يومكم لكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان صلاة العصر قالوا ما عملناه باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال أكملوا بقية يومكم فإن ما بقي من النهار يسير، فأبوا فاستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النّور اى أن اليهود والنّصارى لم ينفعهم عملهم لا متناعهم من إكماله، وإن المسلمين أكملوا عملهم الذي أمروا به ففازوا بنفعه كله في الآخرة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
19