تفسير سورة الزلزلة

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الزلزلة من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

بالحق نبيا، لا أزيد عليها أبدا، ثم أدبر الرجل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أفلح الرويجل، أفلح الرويجل، ثم قال: عليّ به، فجاءه، فقال له:
أمرت بيوم الأضحى، جعله اللَّه عيدا لهذه الأمة، فقال له الرجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، فأضحّي بها؟ قال: لا «١»، ولكنك تأخذ من شعرك، وتقلّم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذاك تمام أضحيتك عند اللَّه عز وجل».
وأخرج الترمذي- وقال: هذا حديث حسن- عن أنس بن مالك: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لرجل من أصحابه: هل تزوجت يا فلان؟ قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، ولا عندي ما أتزوج!! قال: أليس معك: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ قال: بلى، قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، تزوج».
أمارة القيامة والجزاء على الخير والشر
[سورة الزلزلة (٩٩) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)
(١) هذا في بداية الأمر، ثم أبيح التضحية بالأنثى، واتفقت المذاهب على جواز ذلك، إلا أن الفحل أفضل من الأنثى.
357
الإعراب:
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إِذا ظرف، والعامل فيه إما فَمَنْ يَعْمَلْ أو تُحَدِّثُ ويكون يَوْمَئِذٍ تكرارا وبدلا من إِذا، وتقديره: إذا زلزلت الأرض تحدث أخبارها. وزِلْزالَها: منصوب على المصدر، بكسر الزاي الأولى، ولو فتح لكان اسما، وقيل:
هو بالفتح أيضا مصدر.
أَشْتاتاً منصوب على الحال من النَّاسُ جمع (شتّ) وهو المتفرق.
فَمَنْ يَعْمَلْ.. وَمَنْ يَعْمَلْ.. من في الموضعين: شرطية في موضع رفع بالابتداء.
ويَرَهُ: خبره.
البلاغة:
زِلْزالَها الإضافة للتهويل. وزُلْزِلَتِ زِلْزالَها بينهما جناس الاشتقاق.
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ إظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتوكيد.
وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها؟ استفهام للتعجب والاستغراب أو الاستهجان.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ بينهما مقابلة.
زِلْزالَها، أَثْقالَها، أَوْحى لَها، أَخْبارَها، ما لَها سجع مرصع من المحسنات البديعية.
أَوْحى لَها تضمين، ضمن ذلك معنى الإذن والأمر لها.
المفردات اللغوية:
زُلْزِلَتِ الزلزال: التحريك والاضطراب الشديدان، وذلك يحصل عند النفخة الأولى أو الثانية أو الممكّن لها في الحكمة الإلهية. أَثْقالَها الأثقال في الأصل: أمتعة البيت، كما قال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ.. [النحل ١٦/ ٧] جمع ثقل: متاع البيت، والمراد هنا: ما في جوف الأرض من الكنوز والدفائن والأموات، وتخرج أثقالها: تلقيها على ظهرها. وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها يتساءل الإنسان عما يبهره من الأمر الفظيع وإنكارا لتلك الحالة، وقيل: المراد بالإنسان:
الكافر بالبعث، فإن المؤمن يعلم ما لها. تُحَدِّثُ أَخْبارَها تخبر بما عمل عليها من خير وشر.
وهي تحدّث الخلق إما بلسان الحال وهو ما لأجله زلزالها وإخراجها، أو ينطقها اللَّه فتخبر بما عمل عليها. وهو جواب إِذا
جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي هريرة: «تشهد على كل عبد أو أمة بكل ما عمل على ظهرها».
358
بِأَنَّ رَبَّكَ أي تحدّث بسبب أن ربك أَوْحى لَها أمرها بذلك، والوحي: الإلهام بخفاء، يقال: أوحى له وإليه، ووحي له وإليه: كلّمه خفية أو ألهمه. يَصْدُرُ النَّاسُ يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب. أَشْتاتاً متفرقين متمايزين بحسب مراتبهم وأعمالهم.
لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ يروا جزاء أعمالهم من الجنة أو النار، ذَرَّةٍ الذرة: الهباء الذي يرى في ضوء الشمس الداخل من نافذة، أو النملة الصغيرة، ومِثْقالَ ذَرَّةٍ زنة نملة أو هباء، وهو مثل في الصغر. خَيْراً يَرَهُ يرى ثوابه. شَرًّا يَرَهُ يرى جزاءه. وقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ..
تفصيل لِيُرَوْا.
سبب النزول: نزول الآية (٧، ٨) :
فَمَنْ يَعْمَلْ..: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ الآية، كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل، إذا أعطوه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأشباه ذلك، ويقولون: إنما وعد اللَّه النار على الكبائر، فأنزل اللَّه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وقد سمّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ..
الجامعة الفاذّة
، حين سئل عن زكاة الحمر،
فقال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «ما أنزل اللَّه فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذّة الجامعة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «١» ».
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين، وذلك أنه لما نزل:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ كان أحدهما يأتيه السائل، فيسأل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، ويقول: ما هذا بشيء، وإنما نؤجر على ما نعطي.
(١) أخرجه البخاري ومسلم. [.....]
359
وكان أحدهما يتهاون بالذنب الصغير، ويقول: لا شيء عليّ من هذا، فرغب اللَّه تعالى في القليل من الخير لأنه يوشك أن يكثر، وحذر من الذنب اليسير، فإنه يوشك أن يعظم، فلهذا
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيّبة».
التفسير والبيان:
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي إذا تحركت الأرض من أسفلها حركة شديدة، واضطربت اضطرابا هائلا حتى يتكسر كل شيء عليها، كما قال تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج ٢٢/ ١] وقال سبحانه: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الواقعة ٥٦/ ٤].
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ألقت ما في جوفها من الأموات والدفائن، كما قال تعالى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق ٨٤/ ٣- ٤].
وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل، فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا».
وتخرج الأرض الأموات في النفخة الثانية.
وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها؟ أي قال كل فرد من أفراد الإنسان لما يبهره أمرها ويذهله خطبها: ما لهذه الأرض، ولأي شيء زلزلت، وأخرجت أثقالها؟
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي في ذلك الوقت المضطرب، وقت الزلزلة، تخبر الأرض بأخبارها، وتحدّث بما عمل عليها من خير وشر، ينطقها اللَّه
360
سبحانه، لتشهد على العباد. قال ابن عباس في الآية: قال لها ربها: قولي، فقالت.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي- واللفظ له- عن أبي هريرة قال: «قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها» «١».
وقال الطبري: إن هذا تمثيل، والمراد أنها تنطق بلسان الحال، لا بلسان المقال.
ثم أبان اللَّه تعالى مصدر هذه الواقعة، فقال:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي تحدّث أخبارها بوحي اللَّه وإذنه لها بأن تتحدث وتشهد. فقوله: أَوْحى لَها أي أذن لها وأمرها، أو أوحى إليها أي ألهمها.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي في هذا اليوم المضطرب وفي يوم الخراب المدمر، يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب، مختلفي الأحوال، فبعضهم آمن، وبعضهم خائف، وبعضهم بلون أهل الجنة، وبعضهم بلون أهل النار، ليريهم اللَّه أعمالهم معروضة عليهم. هذا ما يراه بعض المفسرين كالشوكاني. فالصدر على هذا الرأي: هو قيامهم للبعث بعد أن كانوا مدفونين في الأرض، وأَشْتاتاً فرقا مؤمن وكافر وعاص، سائرون إلى العرض، ليروا أعمالهم.
وقال آخرون كابن كثير: يرجعون عن موقف الحساب أشتاتا، أي أنواعا وأصنافا، ما بين شقي وسعيد، مأمور به إلى الجنة، ومأمور به إلى النار،
(١) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
361
ليجازوا بما عملوه في الدنيا من خير وشر، فيكون المراد بقوله: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ليروا جزاء أعمالهم وهو الجنة والنار، ولهذا قال:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أي فمن يعمل في الدنيا وزن نملة صغيرة أو هباء لا يرى إلا في ضوء الشمس، والمراد أي عمل مهما كان صغيرا، فإنه يجده يوم القيامة في كتابه، ويلقى جزاءه، فيفرح به، أو يراه بعينه معروضا عليه. وكذلك من يعمل في الدنيا أي شيء من الشر ولو كان حقيرا أو قليلا، يجد جزاءه يوم القيامة، فيسوؤه. والذرّ كما تقدم: ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، أو هو النملة الصغيرة.
ونظير الآية قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧] وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
[الكهف ١٨/ ٤٩].
وفي صحيح البخاري عن عدي مرفوعا: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، ولو بكلمة طيبة»
وفي الصحيح له أيضا: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك، ووجهك إليه منبسط»
وفي الصحيح أيضا: «يا معشر نساء المؤمنات لا تحقرنّ جارة لجارتها، ولو فرسن شاة»
يعني ظلفها.
وفي الحديث الآخر الذي أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ والنسائي عن حوّاء بنت السكن: «ردّوا السائل، ولو بظلف محرق».
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يا عائشة استتري من النار، ولو بشق تمرة، فإنها تسدّ من الجائع مسدّها من الشبعان».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال: «كان أبو بكر يأكل مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ
362
مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
فرفع أبو بكر يده، وقال: يا رسول اللَّه، إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال: يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشر، ويدخر اللَّه لك مثاقيل ذرّ الخير، حتى توفّاه يوم القيامة».
وأخرج ابن جرير عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أنه قال: «لما نزلت:
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وأبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه قاعد، فبكى، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: يبكيني هذه السورة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لولا أنكم تخطئون وتذنبون، فيغفر اللَّه لكم، لخلق اللَّه أمة يخطئون ويذنبون، فيغفر لهم»
.
حسنات الكافر: قال ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه اللَّه تعالى إياه، فأما المؤمن فيغفر له سيئاته، ويثاب بحسناته. وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته.
وعلى هذا يعاقب الكافر بسبب كفره، وأما حسناته فتنفعه في الدنيا، كدفع شر أو ضرر عنه، وأما في الآخرة فلا تفيده، ولا تنجيه من عذاب الكفر الذي يخلد به في النار، قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- من أمارات الساعة: الزلزلة الشديدة للأرض، وإخراج الأرض أثقالها، أي ما في جوفها من الدفائن والأموات. قالوا: إنها عند النفخة الأولى تتزلزل، فتلفظ بالكنوز والدفائن، وعند النفخة الثانية ترجف فتخرج الأموات أحياء، كالأم تلد حيا.
٢- لا شك بأن الإنسان في وقت الزلازل والبراكين يرتجف ويخاف
363
ويتساءل: ما للأرض زلزلت، ما لها أخرجت أثقالها؟ وهي كلمة تعجيب.
٣- إذا زلزلت الأرض تخبر يومئذ بما عمل عليها من خير أو شر، ومعنى تحديث الأرض عند أبي مسلم الأصفهاني: يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله، فكأنها حدثت بذلك، كقولك: الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة، فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدث أن الدنيا قد انقضت، وأن الآخرة قد أقبلت.
وقال الطبري: تبين أخبارها بالرّجة والزلزلة وإخراج الموتى.
وقال الجمهور: المعنى أن اللَّه تعالى يجعل الأرض حيوانا عاقلا ناطقا ويعرفها جميع ما عمل أهلها، فحينئذ تشهد لمن أطاع، وعلى من عصى،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث الترمذي عن أبي هريرة: «إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل عليها» ثم تلا هذه الآية «١».
٤- الذي تخبر به الأرض: إما أعمال العباد على ظهرها، كما
جاء في حديث الترمذي عن أبي هريرة المتقدم: «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا، وكذا، قال: فهذه أخبارها».
أو أنها تخبر بما أخرجت من أثقالها، كما
جاء في حديث ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «إذا كان أجل العبد بأرض أو ثبته الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره، قبضه اللَّه، فتقول الأرض يوم القيامة: ربّ هذا ما استودعتني».
أو أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان: ما لها؟ وهذا قول ابن مسعود، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم، ووعيدا للكافر، وإنذارا للمؤمن «٢».
(١) تفسير الرازي: ٣٢/ ٥٩، تفسير القرطبي: ٢٠/ ١٤٩، غرائب القرآن: ٣٠/ ١٥٧
(٢) تفسير القرطبي: ٢٠/ ١٤٨- ١٤٩
364
٥- في يوم الزلزلة يذهب الناس من مخارج قبورهم إلى الموقف، بعضهم إثر بعض، أو يرجعون وينصرفون من موقف الحساب إلى موضع الثواب والعقاب فرقا فرقا، ليروا صحائف أعمالهم، أو جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار، وما يناسب كلّا منهما.
ويؤيد هذا
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه، فإن كان محسنا فيقول: لم لا ازددت إحسانا؟ وإن كان غير ذلك يقول: لم لا نزعت عن المعاصي «١» ؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب.
٦- كل من يعمل في الدنيا عملا خيرا صغيرا أو كبيرا، يره بعينه أو يره اللَّه إياه يوم القيامة، وكل من يعمل في الدنيا عملا شرا مهما كان قليلا، يره بنفسه أو يره اللَّه إياه يوم القيامة. أو أن المراد: يجد جزاءه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
أما الكافر كما تقدم فحسناته في الآخرة محبطة بكفره وترد في وجهه، ويجد عقاب ما فعل من كفر أو شر، فيعذب بسيئاته، أي أن عموم الآية قائم، ولكن لا تقبل حسنات الكفار.
قال ابن مسعود عن آية: فَمَنْ يَعْمَلْ..: هذه أحكم آية في القرآن.
وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية. قال كعب الأحبار: لقد أنزل اللَّه على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزّبور والصّحف: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- كما تقدم- يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة.
(١) تفسير القرطبي: ٢٠/ ١٥٠
365

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة العاديات
مكيّة، وهي إحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة العاديات لأن اللَّه افتتحها بالقسم بالعاديات: وهي خيل المجاهدين المسرعة في لقاء العدو.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر المناسبة بين السورتين من وجهين:
١- هناك تناسب وعلاقة واضحة بين قوله تعالى في الزلزلة: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [٢] وقوله في هذه السورة: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ.
٢- لما ختمت السورة السابقة ببيان الجزاء على الخير والشر، وبّخ اللَّه تعالى الإنسان على جحوده نعم ربه، وإيثاره الحياة الدنيا على الآخرة، وترك استعداده للحساب في الآخرة بفعل الخير والعمل الصالح، وترك الشر والعصيان.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة المكية مقاصد ثلاثة:
١- القسم الإلهي بخيل المجاهدين على أن الإنسان كفور جحود لنعم ربه عليه، وأنه مقدر شاهد على ذلك: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً.. [١- ٧].
366
Icon