تفسير سورة طه

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة طه من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

الا آتى الرّحمن عبدا وذقت حلاوته وحقيقته جعلنا الله ممن تحقق بمعاني أسمائه الحسنى واستكشف عن سرائر أوصافه الأسنى بفضله وسعة رحمته وجوده
[سورة طه]
فاتحة سورة طه
لا يخفى على ذوى البصائر المستكشفين عن مراتب الوجود بفيضان الكشف والشهود بلا ملاحظة الرسوم والحدود مثل اصحاب القيود ان للوجود البحت الخالص عن جميع الاعتبارات باعتبار ظهوره في مظاهر الاعداد مراتب كثيرة يقبل بسببها الإضافات الغير المحصورة فله باعتبار ظهوره في كل مرتبة من المراتب الكلية والجزئية اسماء كلية وجزئية يظهر في كل منها بواسطة اسم خاص من الأسماء. وأعلى المراتب التي هو مصدر جميعها ومال الكل اليه ومصيره المرتبة التي طويت دونها المراتب وقصرت عن دركها العقول وكلت عن وصفها الألسن وارتجت دونها طرق الوصول واضمحلت هناك السمات والعلامات وبطلت العبارات والاعتبارات وارتفعت الجهات والإشارات وتلك المرتبة هي المرتبة الاحدية الصمدية التي لا يمكن فيها توهم الكثرة لان الكثرة انما تنشأ من الاضافة والاضافة انما تتصور بين الاثنين فصاعدا ولا اثنينية هناك أصلا وهذه هي المرتبة الجامعة المحمدية التي قد انتهت إليها المراتب كلها عروجا كما ظهرت هي منها نزولا في بدأ الأمر لذلك أشار سبحانه في أول هذه السورة الى مرتبته صلّى الله عليه وسلّم إرشادا لعباده وامتنانا لهم ليكون قبلة لكل طالب سالك الى جنابه وراغب ناسك نحو بابه وفي آخرها ايضا يشعر بان مرتبته صلّى الله عليه وسلّم بداية عموم المراتب ونهايتها إذ هناك قد اتحد قوسا الوجوب والإمكان والغيب والشهادة ولما كانت مرتبته صلّى الله عليه وسلّم مبدأ الكل ومنتهاه كان بمقتضى الرحمة العامة طالبا لهداية الكل ورجوعه إليها لذلك ناداه سبحانه على وجه يشعر بطلب هدايتهم الى مرتبته حيث قال عز وجل مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم أسمائه وصفاته المترتب عليها جميع مراتب الوجود في مرتبته الجامعة المحمدية التي منها ظهور الكل وإليها رجوعه الرَّحْمنِ بإظهار الكل منها في النشأة الاولى الرَّحِيمِ بإعادتها إليها في النشأة الاخرى
[الآيات]
طه يا طالب الهداية العامة على كافة البرايا
ما أَنْزَلْنا من مقام إرشادنا وتكميلنا عَلَيْكَ ايها المتوجه للسعادة الابدية المعرض عن الشقاوة مطلقا الْقُرْآنَ الفرقان بين الهداية والضلالة والسعادة والشقاوة المنافية لها لِتَشْقى اى ما أنزلناه لتكون أنت شقيا بنزوله بعد ما كنت سعيدا قبله كما توهم الكفار بل ما أنزلناه
إِلَّا تَذْكِرَةً للسعادة العظمى لك ولمن تبعك لا لكل احد منهم بل لِمَنْ يَخْشى من انذاراته وتخويفاته وامتثل بأوامره وأحكامه واجتنب عن مناهيه ومحظوراته إذ انزل القرآن عليك يا أكمل الرسل من عموم رحمتنا على كافة الخلق لذلك قد نزلناه
تَنْزِيلًا مِمَّنْ اى من اسمنا الذي به خَلَقَ الْأَرْضَ وأوجد العالم السفلى وَكذا أوجد به السَّماواتِ الْعُلى اى العالم العلوي
وذلك الاسم هو الرَّحْمنُ الذي قد ظهر واستقر بالرحمة العامة عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش عموم الذرائر بحيث لا يخرج عن حيطته ذرة منها بل قد اسْتَوى على جميعها واستولى
إذ لَهُ الاستيلاء والاحاطة التامة على عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الكائنات والفاسدات وَكذا على عموم ما ظهر بَيْنَهُما من الممتزجات الكائنة فيما بين السموات والأرض وَ
كذا على عموم ما هو كائن وسيكون تَحْتَ الثَّرى هذا باعتبار ظهوره واستيلائه على الآفاق الخارجة عنك
وَظهوره واستيلاؤه على نفسك فانه يستولى على ذاتك وافعالك وعموم احوالك واطوارك بحيث إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ القول بالجهر منك الذي تعلمه أنت ايضا وغيرك بل يعلم السِّرَّ الذي لا يعلمه غيرك وَأَخْفى من السر الذي لا تعلمه أنت ايضا من مقتضيات استعداداتك قبل ان تخطر ببالك بل قبل ان تتعين أنت بشخصك وهذيتك هذه وإذا كان الحق محيطا مستوليا مستويا على عروش ما ظهر وما بطن فلا يكون الموجود الثابت المحقق في الوجود الا
اللَّهُ اى المسمى بهذا الاسم الجامع جميع مراتب العالم بحيث لا يخرج عن حيطته شيء أصلا إذ لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ اى هذا المسمى الوحدانى الذي لا تعدد فيه أصلا فيكون أحدا صمدا فردا وترا ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا غاية ما في الباب انه لَهُ اى لهذا المسمى الْأَسْماءُ الْحُسْنى الكلية التي جزئياتها لا تعد ولا تحصى وباختلاف الأسماء حسب الشئون والنشأة الإلهية قد اختلفت الظهورات والتجليات عن المسمى الوحدانى وكما نبهناك يا أكمل الرسل على ظهوراتنا في الكائنات مجملا قد نبهناك عليها ايضا مفصلا
وَذلك انه هَلْ أَتاكَ وقد ثبت وتحقق عندك حَدِيثُ أخيك مُوسى الكليم وقصة انكشافه من النار التي احتاج إليها هو واهله في الليلة الشاتية المظلمة
اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ رَأى موسى ناراً مطلوبة له لدفع المودة ولوجدان الطريق في الظلمة فَقالَ لِأَهْلِهِ المحتاجين إليها في تلك الليلة امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي أو انس عندها مع انسان استخبره عن الطريق وحين رجوعي نحوكم آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ جذوة نار تصطلون بها أَوْ اتخذ منها سراجا أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً اى مع السراج المسرجة هدى طريقا موصلا الى مطلوبنا
فَلَمَّا أَتاها اى النار موسى مسرعا ليرجع إليهم دفعة نُودِيَ من جانب الشجرة الموقدة عليها النار ليقبل إليها وينكشف منها السر يا مُوسى المتحير في بيداء الطلب اطلبنى من هذه الشجرة الموقدة ولا تستبعد ظهوري فيها حتى انكشف لك منها
إِنِّي وان ظهرت على هذه الصورة المطلوبة لك ظاهرا أَنَا رَبُّكَ ومطلوبك الحقيقي حقيقة الذي قد ربيتك بأنواع اللطف والكرم وابتليتك بأنواع البلاء في طريق المجاهدة لتوجه الى فتعرفنى فالآن قد ارتفعت الحجب والقيود وتحققت بمقام الكشف والشهود فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ واسترح عن الطلب بعد وجدان الارب وتمكن في مقعد الصدق إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ عن رذائل الأغيار مطلقا طُوىً اى طويت عنك التوجه الى الغير
وَلم يبق لك احتياج الى الاستكمال والاستهداء وبعد وصولك الى مقام الكشف والشهود أَنَا اخْتَرْتُكَ واصطفيتك من بين المكاشفين للتكميل والرسالة على الناس الناسين التوجه الى بحر الحقيقة فعليك التوجه الى الاهتداء والتجنب عن الميل الى مطلق الهوى فَاسْتَمِعْ واقتصر في ارشادك ورسالتك لِما يُوحى إليك من مقام جودنا ولا تلتفت الى الأهواء الفاسدة حتى لا تضل أنت بنفسك ولا تضلهم عن السبيل فبلغ الى الناس نيابة عنى وحكاية منى
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المحيط بجميع مراتب الأسماء لا إِلهَ ولا جامع لجميع المراتب إِلَّا أَنَا بجميعها المحيط بكلها المستحق للاطاعة والانقياد فَاعْبُدْنِي أنت حق عبادتي فأحسن الأدب معى وتخلق باخلاقى وَأَقِمِ الصَّلاةَ وداوم بجميع الأعضاء والجوارح لِذِكْرِي اى توجه نحوي بعموم اعضائك وجوارحك لتذكرني بها وتشكرني
بجميعها حتى انكشف لك من كل منها بحيث كنت سمعك وبصرك ويدك ورجلك الى غير ذلك من سائر جوارحك وآلاتك حتى قامت قيامتك الكبرى وقمت بين يدي المولى وتمكنت في جنة المأوى عند سدرة المنتهى التي ينتهى ويرتقى إليها عروجك في الصعود والارتفاع.
ثم قال سبحانه تعليما لعباده وحثا لهم على طلب الانكشاف التام إِنَّ السَّاعَةَ اى ساعة الانكشاف التام الذي لم يبق معه ودونه الطلب مثل انكشافك يا موسى آتِيَةٌ حاصلة حاضرة لكل احد من الناس دائما في كل آن لكن أَكادُ أُخْفِيها اى اقرب حسب حكمتى ان أخفى ظهورها لهم واطلاعهم عليها لِتُجْزى وتتمكن كُلُّ نَفْسٍ بمرتبة من المراتب الإلهية بِما تَسْعى اى بحسب ما تجتهد فيه وتكتسب من امتثال الأوامر واجتناب النواهي الجارية على السنة الرسل لئلا يبطل سرائر التكاليف واحكام الشرائع
وإذا كان الأمر كذلك فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها ولا يصرفنك عن الأمر بالانكشاف التام أعراض مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها تقليدا حتى يطلبها تحقيقا بل قد أنكرها واعرض عنها وَاتَّبَعَ هَواهُ المضل إياه في تيه البعد والحرمان فَتَرْدى أنت وتهلك بمتابعته في بيداء الجهل والخذلان
وَإذا اخترناك للرسالة العامة وهبنا لك شاهدي صدق على دعواك الرسالة لذلك قد سألناك أولا بقولنا لك ما تِلْكَ الخشبة التي حملتها بِيَمِينِكَ يا مُوسى المستكشف عن حقائق الأشياء يعنى هل تعرف فوائدها وعوائدها التي تترتبت عليها أم لا
قالَ موسى بمقتضى علمه بها هِيَ هذه الخشبة عَصايَ استعمالها في بعض الأمور وفي بعض الأحيان وبالجملة إذا عييت وتعبت أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَمتى احتجت لهش الورق واسقاطه من الشجر لرعى الغنم أَهُشُّ وأسقط بِها الورق من الشجر ليكون علفا عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها غير ذلك مَآرِبُ أُخْرى بحسب المحال من الاستظلال ودفع الهوام ومقاتلة العدو وغير ذلك
قالَ سبحانه أَلْقِها من يدك يا مُوسى حتى تشهد آياتنا الكبرى
فَأَلْقاها امتثالا للأمر الوجوبي الإلهي فَإِذا هِيَ اى العصا حَيَّةٌ تَسْعى تمشى على بطنها مثل سائر الحيات فخاف موسى منها وضاق صدره من قلة رسوخه وعدم تمرنه بابتلاء الله واختباراته إذ قد كان هذا في أوائل حاله
قالَ سبحانه بعد ما ظهر امارات الوجل منه آمرا له خُذْها هي عصاك يا موسى المتحير الخائف وَلا تَخَفْ من صورتها الحادثة فانا من كمال قدرتنا سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا وصورتها الْأُولى التي هي في يدك قد استعنت بها في بعض أمورك وانما بدلنا صورتها لتنبه أنت على ان لنا القدرة التامة على احياء الجمادات التي هي ابعد بمراحل عن هداية الضالين من الأحياء
وَاضْمُمْ يَدَكَ ايضا إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ ذات شعاع محير للعقول والأبصار مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مرض وحجاب يسترها وينقص من نورها لتكون لك آيَةً أُخْرى اجلى وأجل من الآية السابقة وانما أريناك من الآيات قبل ارسالك الى من أردنا ارسالك إليهم
لِنُرِيَكَ أولا مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فيطمئن بها قلبك ويقوى ظهرك
اذْهَبْ ايها الهادي بهدايتنا وتوفيقنا نيابة عنا إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي المضل المغوى المستغرق في بحر العتو والعناد إِنَّهُ طَغى وظهر علينا مستكبرا بقوله لضعفة عبادنا انا ربكم الأعلى فبلغ عنا انذاراتنا وتخويفاتنا وزد عليها من الدلائل العقلية والكشفية لعله يتنبه بها وينزجر بسببها عما عليه من العتو والعناد
وبعد ما سمع موسى خطاب الله إياه قالَ مشمرا الذيل الى الذهاب طالبا التوفيق من رب الأرباب رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم وأعطاني الآيتين العظيمتين لتكونا شاهدين
على صدقى في دعواي اشْرَحْ لِي صَدْرِي ووسع لي قلبي بحيث لا اخطر ببالي خوفا من العدو أصلا
وَمع ذلك يَسِّرْ وسهل لِي أَمْرِي هذا بحيث لا اضطرب في التبليغ ولا استوحش من جاه فرعون وشوكته
وَمتى شرعت لأداء الرسالة احْلُلْ وارفع عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لكنة عارضة من مهابة العدو سيما هذا الطاغي المتجبر مع ان اللكنة خلقية لي
يَفْقَهُوا قَوْلِي وغرضي منه
وَبعد ما وفقتني لأداء رسالتك يا ربي اجْعَلْ لِي وَزِيراً ظهيرا يصدقني في امرى ويعينني عليه ولا تجعل ظهيري من الأجانب لقلة شفقتهم وعطفهم على بل اجعل ظهيري يا ربي مِنْ أَهْلِي وأقربهم بي واولى بمعاونتى
هو هارُونَ إذ هو أَخِي الأكبر بمنزلة ابى في الشفقة ومتى جعلت أخي هارون ظهيري ووزيري
اشْدُدْ بِهِ وقوّ بسببه واحكم بإقامته يا معينى أَزْرِي ظهري
وَلا يتحقق تقويته على حقيقة الا بعد اشتراكه معى في امر الرسالة أَشْرِكْهُ بلطفك يا ربي فِي أَمْرِي ورسالتي بان تكشف أنت بلطفك عليه حقيقة الأمر والتوحيد كما كشفت لي ليكون هو ايضا من المكاشفين الموقنين بوحدانيتك ومن الممتثلين بأوامرك المجتنبين عن نواهيك
وانما سألتك يا ربي الإعانة بأخي كَيْ نُسَبِّحَكَ ونقدس ذاتك عما لا يليق بشأنك تقديسا
كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ ونناجى معك بذكر أسمائك الحسنى وصفاتك العظمى ذكرا كَثِيراً وكيف لا نسبحك ونذكرك
إِنَّكَ بذاتك وأسمائك واوصافك قد كُنْتَ محيطا بِنا بَصِيراً لعموم أحوالنا وبعد ما ناجى موسى مع ربه ما ناجى
قالَ تعالى رفقا له وامتنانا عليه لرجوعه نحوه بالكلية قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ونعطيك عموم مسئولك وقد حصل لك جميع مطالبك لتوجهك علينا ورجوعك إلينا يا مُوسى
كيف وَلَقَدْ أنعمنا عليك من قبل حين لا ترقب لك ولا شعور بان مَنَنَّا عَلَيْكَ من وفور رحمتنا وشفقتنا لك مَرَّةً أُخْرى
وقت إِذْ أَوْحَيْنا وألقينا إِلى قلب أُمِّكَ ما يُوحى وما يلهم عند نزول البلاء على قلوب الأحباء ليتخلصوا عن ورطة الهلاك وذلك حين احاطة شرطة فرعون المأمورين من عنده لعنه الله بقتل أبناء بنى إسرائيل على بيت أمك ليقتلوك ظلما فاضطربت أمك وأيست من حياتك فالهمناها حينئذ
أَنِ اقْذِفِيهِ واطرحيه فِي التَّابُوتِ المصنوع من الخشب فاتخذت تابوتا ووضعتك فيه ثم ألهمناها ثانيا إذا وضعت فيه توكلي على خالقه وحافظه وفوضى امره اليه فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ يعنى النيل ولا تخافي من غرقه فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ البتة إذ من عادة الماء إلقاء ما فيه الى جانبه فإذا قرب من الساحل ورآه الناس يَأْخُذْهُ يأمر بأخذه عَدُوٌّ لِي يعنى فرعون المفرط بدعوى الألوهية لنفسه وَعَدُوٌّ لَهُ يعنى الوليد إذ هو من أبناء بنى إسرائيل وهو عدو لهم بل هو سبب عداوة جميعهم في الحقيقة وَبعد ما امر عدوك بأخذك والتقاطك من البحر يا موسى قد أَلْقَيْتُ من كمال قدرتي ووفور حولي وقوتي في نفس فرعون لعنه الله وزوجته آسية رضى الله عنها وجميع اهل بيته عَلَيْكَ على حفظك وحضانتك يا موسى مَحَبَّةً عظيمة في قلوبهم مع شدة عداوتهم معك وقد كانت تلك المحبة صادرة مِنِّي بارزة من هوياتهم منشعبة من محبتي إياك حفظا لك وإظهارا لكمال قدرتي بان أربيك في يد عدوك فتكون أنت سببا لهلاكه وَانما ألقيت في قلوبهم المحبة الصادرة الناشئة منى لِتُصْنَعَ ولتربى أنت وان كنت بيد العدو ظاهرا عَلى عَيْنِي اى اعيان أوصافي وأسمائي إذ الكل بعد ما انخلعوا عن اكسية هوياتهم الباطلة وتجردوا عن جلباب ناسوتهم العاطلة
بالمرة مظاهر أوصافي وأسمائي ومع إلقاء كمال المحبة والمودة الناشئة منى في قلوبهم لحفظك وحضانتك قد راعيت ايضا جانب أمك
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ مريم حين طلبوا لك مرضعة بعد ما أخرجوك من البحر فَتَقُولُ لهم مريم على سبيل الوساطة والدلالة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ وترضعه مع انهم قد احضروا كثيرا من مراضع البلد عندك وأنت لم تمص ثديهن يا موسى إذ قد حرمنا عليك المراضع انجازا لما وعدنا على أمك بقولنا انا رادوه إليك فقبلوا منها قولها فطلبوا أمك فارضعتك فاستطابوها وآجروها لإرضاعك وبالجملة فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ امتنانا لك بان تحفظك أمك ولامك ايضا كَيْ تَقَرَّ وتنور عَيْنُها برؤيتك ومشاهدتك بعد ما ذهب نور عينها بمفارقتك وَبالجملة لا تَحْزَنَ يا موسى بحال من الأحوال فانا رقيبك ارقبك من جميع ما يضرك ويؤذيك وناصرك ومعينك على عموم ما امرتك به وَاذكر ايضا امتناننا عليك إذ قَتَلْتَ نَفْساً شخصا من آل فرعون فهموا بقتلك قصاصا وخفت أنت منهم ومن العقوبة الاخروية ايضا لأنك قد قتلته بلا رخصة شرعية وتحزنت من شنعة فعلك وخوف عدوك حزنا شديدا فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وأزلنا عنك حزنك الأخروي بقبول توبتك ورجوعك عن فعلك نادما مخلصا والدنيوي بإخراجك عن ديارهم وابعادك عنهم وَبالجملة قد فَتَنَّاكَ وابتليناك ايضا بعد ما اخرجناك من بينهم فُتُوناً فنونا كثيرة من الابتلاء والاختبار من الجموع والعطش وضلال الطريق ووحشة الغربة وكربة الوحدة وضيق الصدر والكآبة المفرطة وتحمل المشاق ومتاعب السفر والحضر حتى تستعد لقبول الإرشاد والتكميل ثم بعد ما اختبرناك بأمثال هذه الشواهد هديناك الى مدين للإرشاد والاسترشاد والاستكمال فَلَبِثْتَ سِنِينَ ثمانية وعشرين سنة فِي أَهْلِ مَدْيَنَ عند نبينا وخليفتنا الكامل المكمل ألا وهو شعيب النبي عليه السّلام وتستكمل من شرف صحبته وتتخلق بأخلاقه ثُمَّ بعد لبثك فيهم مدة واستكمالك من المرشد الكامل قد جِئْتَ عَلى وطنك المألوف على قَدَرٍ أى مع مقدار عظيم من العلوم اللدنية من المعارف والحقائق والكشف والشهود فوق ما يحصل ويكتسب بالتحصيل والكسب والاجتهاد بل من لدنا يا مُوسى تفضلا وإحسانا عليك
وكيف لا يكون كذلك وَقد اصْطَنَعْتُكَ وانتخبتك من بين المكاشفين واجتبيتك لِنَفْسِي لتكون أنت خليفتي ونائبى ومتولى أموري بين عبادي وحامل وحيي وأسراري وإذا اخترناك للرسالة
اذْهَبْ أَنْتَ اصالة وَأَخُوكَ تبعا لك مصحوبا بِآياتِي ومعجزاتي الدالة على تصديقى لكما وتقويتى لرسالتكما وَلا تَنِيا ولا تفترا ولا تضعفا فِي تبليغ ذِكْرِي ووحيي المشتمل على انواع الأوامر والنواهي اغترارا او خوفا او مداهنة
بل اذْهَبا بأمرنا مسرعين إِلى فِرْعَوْنَ المبالغ في التجبر والتكبر من غير مبالاة والتفات بعظمته وشوكته إِنَّهُ طَغى علينا ولا عبرة لعظمة الطغاة وشوكتهم ومتى تذهبا اليه وتصاحبا
فَقُولا لَهُ او لا تلطفا ورفقا كما هو دأب الرسل الهادين قَوْلًا لَيِّناً رجاء ان يلين قلبه عن صلابة العناد وبعد الأداء على وجه التلطيف والتليين لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ الفطرة الاصلية التي فطر الناس عليها فيصدقها ويؤمن بدينكما أَوْ يَخْشى عنكما من نزول العذاب بدعائكما
قالا خوفا من فرعون بمقتضى بشريتهما ملتجئين إلينا رَبَّنا وان ربيتنا بحولك وقوتك وأيدتنا بآياتك ومعجزاتك إِنَّنا حسب ضعفنا وبشريتنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا بالعقوبة والقتل أَوْ أَنْ يَطْغى لك بما لا يليق بشأنك
قالَ سبحانك
تسلية لهما وتأييدا لا تَخافا من افراطه وطغيانه إِنَّنِي مَعَكُما وقت ادائكما الرسالة بحيث أَسْمَعُ أقواله وَأَرى أفعاله فمتى أفرط عليكما انا اقدر على منعه وزجره
فَأْتِياهُ مجترئين عليه من غير مبالاة بعظمته ومهابته فَقُولا له صريحا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ الذي رباك بأنواع العزة والكرامة وابقاك بها زمانا امهالا لك الى ان تتكبر عليه باستكبارك على عباده فإذا ظهر كبرك وخيلاؤك الآن فقد أرسلنا الله إليك ايها المتكبر المتجبر لترسل معنا خواص عباده الذين عندك وتحت قهرك وغلبتك إنجاء لهم عن استكبارك وطغيانك عليهم ومتى سمعت ما بلغناك باذن الله ووحيه فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ المستوحشين عنك من غاية ظلمك وقهرك عليهم واطلقهم من رقك لينجوا من استيلائك واستعلائك عليهم وَبعد ما قد أرسلنا الله لإنجائهم وتخليصهم من عذابك لا تُعَذِّبْهُمْ بعد اليوم سيما بعد ما أدينا الرسالة على وجهها عليك وبلغناها إليك ولا تكذبنا في رسالتنا هذه انا قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ ساطعة قاطعة ومعجزة باهرة ظاهرة دالة على انها مِنْ رَبِّكَ الذي هو رب العالمين ان تأملت فيها حق التأمل والتدبر لتركت العتو والعناد وأمنت بتوحيده البتة وَبالجملة السَّلامُ اى الأمن والسلامة والتوفيق من الله عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى وتأمل في الآيات الكبرى وترك اتباع الهوى ومن اتبع الهوى فقد ضل وغوى واستحق بعذاب الآخرة والاولى واعلموا ايها الهالكون في تيه الغفلة والضلال
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا من عند ربنا أَنَّ الْعَذابَ الإلهي نازل عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى اى كذب بالحق واعرض عن أوامره ونواهيه ثم لما أتيا فرعون واديا الرسالة على الوجه الذي علمهما ربهما مجترئين بلا تقصير ولا تحريف ورأى فرعون جرأتهما وسمع منهما قولهما
قالَ لهما متهكما مستهزأ فَمَنْ رَبُّكُما الذي رباكما وأرسلكما لإنجاء بنى إسرائيل من عذابي مع انى لم اعرف لك ربا رباك سواي يا مُوسى المفترى في امر هذه الرسالة المزورة
قالَ له موسى على سبيل التنبيه رجاء ان يتنبه رَبُّنَا الَّذِي اظهر الأشياء من كتم العدم وبعد ما أظهرها أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ اى مرتبته ومكانته في النشأة الاولى ثُمَّ هَدى الكل بالرجوع اليه والانقياد له في النشأة الاخرى إذ منه الابتداء واليه الانتهاء
قالَ فرعون إذا كان الكل من عند ربك فلا شك انه قد علمك أحواله فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ما احوال الأمم الماضية هل هم مهتدون بمتابعة مثلك أم هم ضالون بمتابعة الهوى مثلي على زعمكم
قالَ موسى انا لا اعرف حالهم من الهداية والضلالة إذ عِلْمُها حاضر مخزون عِنْدَ رَبِّي لم يوح الى من أحوالهم شيء بل أحوالهم كلها ثابتة عنده سبحانه فِي كِتابٍ الا وهو حضرة علمه المحيط الأزلي على التفصيل بحيث لا يَضِلُّ رَبِّي اى لا يغيب عن أحوالهم شيء من علمه سبحانه وَلا يَنْسى هو سبحانه شيأ من معلوماته إذ علمه بالنسبة الى عموم معلوماته حضورى والعلم الحضوري لا يجرى فيه غيبة ونسيان ثم قال موسى دفعا للاثنينية الناشئة من الاضافة ربنا هو رب الكل
إذ هو القادر المقتدر الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مكانا تستقرون فيها وتستريحون عليها وَسَلَكَ قدر لَكُمْ فِيها سُبُلًا مختلفة بعضها جبل أنتم ترتحلون اليه في الصيف وبعضها سهل ترجعون نحوه في الشتاء لتكمل استراحتكم فيها وَمع ذلك قد أَنْزَلَ لكم ايضا لتكميل استراحتكم مِنَ السَّماءِ من جانب عالم الأسباب ماءً محييا للأرض الميتة فَأَخْرَجْنا بِهِ اى انشأنا بنزول الماء فيها أَزْواجاً أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى. مختلفة
متلونة ليكون مفرجا لغمومكم ومقويا لنفوسكم ومتى احتجتم الى الغذاء
كُلُوا منها حيث شئتم رغدا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ التي أنتم تستريحون بها وتنتفعون منها من أكلها وحملها وركوبها وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والإنزال والإخراج لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على قدرة الصانع الحكيم العليم واختياره لِأُولِي النُّهى الناهي عقولهم عن اسناد الأمور الى الوسائل والأسباب العادية بل تسندها الى مسببها أولا وبالذات
وإذا تأملتم في بدائع مصنوعاتنا وغرائب مخترعاتنا في وجه الأرض قد جزمتم جزما يقينا انا مِنْها اى من الأرض خَلَقْناكُمْ وأوجدنا أجسادكم وأشباحكم بقدرتنا واختيارنا إيجاد النبات عنها وقت الربيع وَفِيها ايضا نُعِيدُكُمْ بالآجال المقدرة من لدنا لانقضاء حياتكم الدنيا افناء النبات في ايام الخريف وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ ايضا للحشر والعرض في يوم الجزاء
تارَةً أُخْرى وَمع أمرنا لموسى وأخيه المرسلين من لدنا اليه بتليين القول والتنبيه عليه بدلائل الآفاق والأنفس لَقَدْ أَرَيْناهُ تحقيقا وتأكيدا لئلا يبقى معنا جداله وقت أخذنا بظلمه في يوم الجزاء مع علمنا بانه من زمرة الهالكين في تيه البعد والعناد آياتِنا الدالة على صدق موسى المرسل من لدنا كُلَّها متعاقبة مترادفة ألا وهي العصا واليد البيضاء وغيرهما فَكَذَّبَ بجميعها وَأَبى وامتنع عن تصديق شيء منها فكيف بجميعها بل قد نسب الكل الى السحر والشعبذة
ثم قالَ اغترارا بعلوا شأنه ورفعة مكانه مهددا مستفهما على سبيل التهكم والإنكار أَجِئْتَنا متمنيا لرئاستنا مع غاية ضعفك وحقارتك لِتُخْرِجَنا مع كمال قدرتنا مِنْ أَرْضِنا التي قد استقررنا عليها زمانا طويلا بِسِحْرِكَ الذي قد تعلمت من شياطين الامة في بلاد الغربة يا مُوسى المتمنى محالا ولولا خشيتي من اشتهار عجزي من اباطيلك لأقتلنك البتة جدا جدا فالزم مكانك
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ من انواع السحر كامل من سحرك لا من نوع أخر بل من مِثْلِهِ اى من مثل سحرك لكن أكمل منه قم من عندي وتأمل في أمرك ان شئت تب من هذياناتك وفضولك وارجع نحوي بالإنابة والاستغفار حتى أعفو عنك واغفر زلتك يا موسى وان شئت فَاجْعَلْ فعين وقتا من الأوقات ليكون بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ لا نَحْنُ وَلا أَنْتَ ثم عين ايضا مَكاناً سُوىً مستوى لا حائل فيه بحيث يرى كل احد ما يجرى بيننا حتى تفتضح على رؤس الاشهاد
قالَ موسى ان معى ربي سيقوينى لا أخاف من معارضتك معى بالسحر وتعيين الوقت بل مَوْعِدُكُمْ للمعارضة يَوْمُ الزِّينَةِ اى يوم العيد إذ يجتمع فيه الأقاصي والأداني وَلا يكون وقت تفرقهم نحو بيوتهم بل وقت أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى اى وقت الضحوة المعدة لعرض الزينة إذ يظهر كل منهم حينئذ زينته على صاحبه ليكون اعجازى لك ابعد من ان يرتاب فيه احد
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ وانصرف عن مكالمة موسى استكبارا فَجَمَعَ كَيْدَهُ اى امر بجمع سحرة مملكته ليرى القاصرين ان ما جاء به موسى من جنس السحر ثُمَّ أَتى الموعد المعين في الوقت المعين مع ملائه وسحرته وبعد ما حضروا الموعد
قالَ لَهُمْ اى للسحرة مُوسى على مقتضى شفقة النبوة او بإلقاء الله إياه بطريق الإلهام كلاما خاليا عن الميل نحو الخصومة امحاضا للنصح وَيْلَكُمْ اى ويل عظيم وهلاك شديد لكم ايها العقلاء التاركون طريق العقل بمتابعة هذا الطاغي لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان أفعاله مما يعارض بالسحر والشعبذة إذ ما جئت من الآيات مما أتانى الله من فضله وان افتريتم على الله فَيُسْحِتَكُمْ اى يهلككم ويستأصلكم بِعَذابٍ نازل من قهره
وَبالجملة قد تحقق عند عموم العقلاء انه قَدْ خابَ خيبة ابدية مَنِ افْتَرى على الله بما لا يليق بشأنه من ابطال قدرته او دعوى المعارضة معها وبعد ما سمع السحرة من موسى قوله هذا وتأملوا فيه تأملا صادقا قد وجدوه صادرا عن محض الحكمة والفطنة لذلك قد تأثروا من قوله تأثرا عظيما
فَتَنازَعُوا وتشاوروا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ بان أمثال هذا الكلام لا تصدر الا من المؤيد من عند الله المستظهر به سبحانه وما يشبه كلام السحرة المعارضين فمال كل منهم في نفسه الى تصديقه وَأَسَرُّوا النَّجْوى اى اخفوا مناجاتهم في أنفسهم من فرعون وملائه وبالجملة قد تمكن فرعون وملاؤه في معرض المعارضة وقابلوا السحرة لممانعتهما
قالُوا اى فرعون واشرافهم للسحرة تقوية لهم في أمرهم وتأييدا لهم إِنْ هذانِ الرجلان الحقيران لَساحِرانِ يدعيان الرسالة من ربهما الموهوم ترويجا لسحرهما المزور وبعد ذلك يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ المألوفة بِسِحْرِهِما اى بمجرد سحرهما لا من امر سماوي كما زعما وبعد اخراجنا من ارضنا يريدان ويتمنيان الاستقرار والاستيلاء على مملكة العمالقة وَيَذْهَبا بعد التقرر والتمكن بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى اى بعادتكم العظمى ومرتبتكم العليا وبالجملة يريدان ان يجعلا أمرنا وامر بنى إسرائيل بالعكس ليكون لهم الكبرياء ولنا المذلة والهوان بعكس ما قد كنا عليه من سالف الزمان ومتى سمعتم نبذا من مقاصدهما
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ اى هيئوا عموم اسباب سحركم بحيث لا تحتاجون لدى الحاجة الى شيء من أدواته ثُمَّ ائْتُوا عليهما صَفًّا صافين مجتمعين بمقابلتهما إذ هو ادخل في المهابة والإلزام وَاعلموا انه قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ اى فاز ووصل بأنواع المواهب والعطاء مَنِ اسْتَعْلى وغلب عليهما ثم لما أتى السحرة صافين مستعدين نحو الموعد على الوجه الذي أمروا
قالُوا من فرط عتوهم واستيلائهم يا مُوسى نادوه على سبيل الاستحقار والاستذلال إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أنت أولا ما تلقيت وجئت به في مقابلتنا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما تلقينا في مقابلتك فالامران عندنا سيان إذ نحن عصبة ومعنا جميع هذه الخلائق وضيعها وشريفها وأنت ضعيف ليس معك سوى أخيك
قالَ موسى لا تضعفونى ايها الحمقى ولا تبالغوا في حقارتى وإهانتي اتكاء بهؤلاء الطغاة البغاة الهالكين في تيه العتو والعناد واعلموا ان معى ربي سيقوينى ان شاء الله ويغلبني وحدي على جميع من في الأرض بَلْ أَلْقُوا أنتم أولا ايها المفترون ما أنتم ملقون فالقوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ التي سحروا بها يُخَيَّلُ إِلَيْهِ الى موسى مِنْ أجل سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى بذواتها كعصا موسى وبعد ما رأى
فَأَوْجَسَ وأضمر فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى اى اخطر بباله وأضمر في نفسه خوفا من ان يغلبوه ثم لما علمنا من موسى خوفه
قُلْنا له تشريحا لصدره وازالة لرعبه لا تَخَفْ ايها المرسل من عندنا من تماثيلهم الباطلة الغير المطابقة للواقع إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى الغالب عليهم المقصور على الغلبة والعلو بعد القائك العصا
وَبعد ما اطمأن قلبك بوحينا لك هذا أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ يعنى العصا بالجرأة التامة والقدرة الغالبة بلا جبن وتزلزل وبلا مبالات بهم وبتمثيلاتهم تَلْقَفْ تبتلع وتلتقم ما صَنَعُوا لمعارضتك إِنَّما التماثيل التي قد صَنَعُوا لا اعتبار لها بل ما هي الا كَيْدُ ساحِرٍ وحيلة مخادع ماكر وَبالجملة لا يُفْلِحُ ولا يفوز ولا يغلب السَّاحِرُ بحيلته وسحره حَيْثُ أَتى وفي اى مكان جاء به سواء كان عند معاونيه او في مكان آخر فالقى موسى عصاه امتثالا لأمر ربه فصارت ثعبانا مهيبا فابتلع على الفور تماثيلهم
وحبائلهم جميعا
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ على الفور مفاجئين مجتمعين سُجَّداً متذللين نادمين عن معارضته بعد ما رأوا ما رأوا من عجائب صنع الله وغرائب معجزاته ثم قالُوا بلسانهم موافقا لقلوبهم بلا تردد وتراخ قد آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى بان له القدرة والاختيار لا يعارض فعله أصلا بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وبعد ما وقع ما وقع
قالَ لهم فرعون على سبيل التقريع والتوبيخ وبعد ما سمع منهم الايمان ورأى تذللهم عند موسى بلا مبالاة له وبملأه قد آمَنْتُمْ لَهُ وسلمتم سحره بلا استيذان منى بل قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ بتسليمه فقد ظهر عندي إِنَّهُ اى موسى لَكَبِيرُكُمُ معلمكم ومقتداكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ في خلوتكم معه وبالجملة قد اتفقتم أنتم بأجمعكم ايها السحرة المكارون ان تخرجونى عن ملكي فو عزتي وجلالي وعظم شأنى ووفور مكنتى لانتقم منكم انتقاما شديدا فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ أولا مِنْ خِلافٍ متبادلتين وَبعد ذلك لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أياما فِي جُذُوعِ النَّخْلِ حتى يعتبر منكم كل من كان في قلبه بغضي وعداوتي وَان آمنتم بربه خوفا من شدة عذابه ودوام عقابه لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى وأدوم عقابا انا أم رب موسى
قالُوا بعد ما كوشفوا بما كوشفوا لَنْ نُؤْثِرَكَ ونرجحك ولن نختارك ابدا يا فرعون الطاغي عَلى ما جاءَنا وانكشف علينا من الحق الصريح سيما بعد ظهور المرجحات مِنَ الْبَيِّناتِ الواضحات الدالة على إيثاره وترجيحه مع انه لا بينة لك سوى ما جئتنا به من السحر من قبلك فقد أبطله فجاءة وَبالجملة قد كوشفنا الآن بانه سبحانه هو القادر الخالق الَّذِي فَطَرَنا وأوجدنا من كتم العدم بكمال الاستقلال والاختيار فله التصرف فينا ولا نبالى بتخويفك. وتهديدك إيانا يا فرعون الطاغي وبالجملة فَاقْضِ وامض علينا ما أَنْتَ به قاضٍ راض من القطع والصلب وغير ذلك إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا اى وما تقضى وما تحكم أنت اى حكم شئت او حكمت ما هو الا في هذه الحيوة الدنيا الفانية المستعارة إذ حكومتك مقصورة عليها او فيها ولا شك ان الدنيا وعذابها فانية حقيرة والآخرة وعقابها باقية عظيمة
وبالجملة إِنَّا قد آمَنَّا بِرَبِّنا الذي ربانا بأنواع النعم فكفرنا له ظلما وعدوانا واشركناك ايها الطاغي معه جهلا وطغيانا مع تعاليه عن الشريك والنظير فالآن قد ظهر الحق وارتفع الحجب فرجعنا اليه واستغفرنا منه لذنوبنا راجين مخلصين خائفين مستحيين طامعين منه لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَلا سيما ما أَكْرَهْتَنا أنت ايها الظالم الطاغي عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ المهان المرذول بمعارضة المعجزة العزيزة وَبعد رجوعنا اليه سبحانه بتوفيقه قد تحقق عندنا انه اى اللَّهُ خَيْرٌ منك ومن عموم ما سواه وَأَبْقى بعد فناء الكل وزوال السوى والأغيار مطلقا
وقد تحقق عندنا ايضا إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ القادر على انواع الانتقام والانعام مُجْرِماً مشركا طاغيا باغيا فَإِنَّ لَهُ اى قد حق وثبت له جَهَنَّمَ التي هي دار البعد والخذلان ابدا لا يَمُوتُ فِيها حتى يستريح وَلا يَحْيى حياة يستفيد بها
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً موقنا بذات الله وبكمالات صفاته وأفعاله ومع ذلك قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ بمقتضى أوامره سبحانه واجتنب عن المنهيات حسب نواهيه فَأُولئِكَ المؤمنون الصالحون لَهُمُ لا لغيرهم من العصاة الضالين الدَّرَجاتُ الْعُلى القريبة الى الدرجة العليا التي قد انتهت إليها جميع الدرجات
الا وهي جَنَّاتُ عَدْنٍ ومنتزهات علم وعين وحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق لذوي البصائر والأبصار الناظرين بعيون الاعتبار المستغرقين بمطالعة جمال الله بلا مزاجمة الأغيار خالِدِينَ فِيها
بلا ملاحظة زمان ومقدار وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى وتطهر عن ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار
وَكيف لا يكون للتزكية هذه الآثار لَقَدْ أَوْحَيْنا من عظيم جودنا إِلى مُوسى المختار بعد ما هذبنا ظاهره عن ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار وحلينا وملأنا باطنه بأنواع المكاشفات والأسرار نجاة له ولقومه من أيدي الكفار سيما قد قصد عليهم فرعون الغدار أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي اى سر ليلا معهم على سبيل الفرار فمتى أخبروا باسرائك وفرارك اتبعوا اثرك حسب الاغترار ومتى اردفك العدو وكادوا ان يدركوك ومنعك البحر من العبور قلنا لك حينئذ فَاضْرِبْ بعصاك المعينة لك في معظمات الأمور البحر ليكون لك معجزة وظهر لَهُمْ اى لقومك طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً جافا لا وحل فيها لئلا يخافوا من الغرق وادراك العدو وأنت ايضا لا تَخافُ دَرَكاً عن ان يدركك فرعون وَلا تَخْشى أنت ايضا عن ان يغرقك البحر فضرب البحر بأمر ربه بعد ما اسرى موسى ساريا باذنه سبحانه ليلا وفلق اى البحر من ضربه فسلك فيه وسلك قومه ايضا خلفه فعبروا جميعا سالمين فوصل فرعون وملاؤه البحر فرأى عبورهم من الطريق اليابس
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ على الفور بلا تراخ فدخلوا مقتحمين مزدحمين اغترارا لعبورهم بيبسه فَغَشِيَهُمْ اى قد غطاهم وسترهم مِنَ الْيَمِّ اى البحر ما غَشِيَهُمْ اى غشاوة عظيمة بحيث يكون البحر كما كان بل اكثر هولا وأشد مهابة وبتوفيقنا قد هدى موسى قومه وبالجملة فأنجيناهم امتنانا منا عليه وعليهم
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ باتباعهم ببني إسرائيل على الفور وَما هَدى وما ارشد لهم طريق المخلص فأغرقناهم متبوعا وتابعا زجرا عليه وعليهم ثم بعد انجائنا بنى إسرائيل من عدوهم وإهلاك أعدائهم بالمرة وايراثهم ارضهم وديارهم وأموالهم قد نبهنا عليهم التوجه والرجوع إلينا بتعديد نعمنا التي قد انعمناهم ليواظبوا على شكرها أداء لحق شيء منها حتى يكونوا من زمرة الشاكرين المستزيدين لنعمنا إياهم لذلك ناديناهم ليقبلوا إلينا ويعلموا ان الكل من عندنا
يا بَنِي إِسْرائِيلَ المنظورين منا بنظر الرحمة والشفقة قَدْ أَنْجَيْناكُمْ أولا بقدرتنا مِنْ عَدُوِّكُمْ الغالب القاهر عليكم وَقد أنجيناكم ايضا ثانيا من جرائم تقصيراتكم في امتثال أوامرنا الوجوبية إذ قد واعَدْناكُمْ بنزول التورية عليكم وقت صعودكم جانِبَ الطُّورِ لا جميع جوانبه بل جانبه الْأَيْمَنَ ذا اليمين والكرامة ليشعر الى العفو عن التقصير وَقد أنجيناكم ثالثا من شدائد التيه وعن المحن العارضة فيها من الجوع والعطش والحر والبرد المفرطات وغير ذلك بان نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ الترنجبين وَالسَّلْوى السمانى وأمرناكم بالأكل منها مباحا
حيث قلنا لكم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ بعد تحملكم شدائد الابتلاء واشكروا لنعمنا لنزيدكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ولا تضلوا باسناد نعمنا الى نفوسكم لا إلينا مثل فرعون وقومه وبالجملة ان كنتم مثلهم في الكفران فَيَحِلَّ فينزل عَلَيْكُمْ غَضَبِي البتة مثل حلوله عليهم وَاعلموا انه مَنْ يَحْلِلْ وينزل عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى وسقط عن درجة الاعتبار والتقرب الى
وَإذا ابتليتم بحلول غضبى لا تيأسوا عن نزول روحي ورحمتي عليكم بعد ما تبتم ورجعتم الى إِنِّي بعد رجوعكم الى بالإخلاص والعزيمة الصادقة لَغَفَّارٌ ستار لِمَنْ تابَ عما جرى عليه من العصيان توبة مقرونة بالندامة المؤبدة وَآمَنَ ايضا بعد التوبة تجديدا وتأكيدا لإيمانه السابق وَعَمِلَ عملا صالِحاً بعد ذلك خالصا مخلصا نادما على ما مضى من طغيان العصيان ثُمَّ اهْتَدى بالإخلاص والعمل الصالح الى درجات القرب واليقين ثم لما كان
موسى حريصا على هداية قومه لكمال شفقته عليهم تسارع الى تصفيتهم واختار منهم باذن الله سبحانه سبعين رجلا من خيارهم حتى يذهبوا معه الى الطور ليأخذوا التورية فساروا معه فتسارع موسى في الصعود شوقا الى لقاء ربه وأمرهم ان يتبعوه في الارتقاء الى الجبل فوصل موسى الموعد قبل وصولهم فقال له ربه تنبيها على اضطرابه واستعجاله في امره
وَما أَعْجَلَكَ واى شيء أسبقك عَنْ قَوْمِكَ المستكملين برفاقتك يا مُوسى المبعوث المرسل لتكميلهم بل الأليق بحالهم ان تجئ أنت معهم مجتمعين
قالَ موسى هُمْ من غاية قربهم أُولاءِ المشار إليهم التابعون عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ يا رَبِّ لِتَرْضى عنى ويزداد تقربي إليك
قالَ تبارك وتعالى بعد ما فارقتهم وتركتهم مع أخيك قد صرت أنت سببا تاما لوقوعهم في البلاء العظيم فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا وابتلينا قَوْمَكَ وهم الذين قد ابقيتهم مع أخيك مِنْ بَعْدِكَ من بعد خروجك من بينهم بعبادة غيرنا فأشركوا بنا وَما أَضَلَّهُمُ الا السَّامِرِيُّ المفرط بسبب صوغه صورة العجل من حلى القبط ورميه عليه التراب الذي قد اخذه من حافر فرس جبرائيل عليه السّلام وخوار العجل بعد رمى التراب عليه وقوله بعد ما خار العجل هذا إلهكم واله موسى وبعد ما سمع موسى من ربه ما سمع
فَرَجَعَ مُوسى من ساحة عز حضور ربه ومقام السرور معه مسرعا إِلى قَوْمِهِ المتخلفين عن امره المشركين بربه قد استولى عليه الغضب غيرة على ربه وحمية لهم فصار غَضْبانَ من فعلهم أَسِفاً متأسفا متحزنا متفكرا هل يمكن التدارك أم لا فلما وصل إليهم قالَ يا قَوْمِ المضيعين سعي في إرشادكم وتكميلكم اما تستحيون من ربكم الذي رباكم بأنواع النعم وأنجاكم من اصناف البلاء سيما عند وعد الزيادة لكم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً يحسن أحوالكم ويوصلكم الى مقام القرب بانزال التورية عليكم لتكملوا بها أخلاقكم أَتنكرون انجاز وعده أم فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ المدة والزمان بان صار أربعين بعد ما كان ثلثين أَمْ أَرَدْتُمْ وقصدتم بالإنكار والإصرار أَنْ يَحِلَّ وينزل عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ لذلك مَوْعِدِي الذي قد وعدتكم من متابعتي لاخذ التورية
قالُوا يا موسى ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا اى بقدرتنا واختيارنا من غير ظهور دليل يشغلنا عن موعدك بل وَلكِنَّا قد كنا على ما وعدتنا ولا تصدر عنا مخالفتك غير انا قد حُمِّلْنا أَوْزاراً وأحمالا وأثاثا مستعارا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ اى من حلى القبط ولم يمكننا الرد إليهم لاستئصالهم ولا يمكننا ايضا حملها وحفظها دائما لذلك اضطررنا فحفرنا حفرة وصيرناها مملوة من النار فَقَذَفْناها اى فقذف كل منا ما في يده من الحلي فيها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فيها ما في يده من الحلي بعد ما قذفنا بلا صنع زائد منا وبعد ما قذف الكل حليهم فيها ادخل السامري يده فيها
فَأَخْرَجَ لَهُمْ منها عِجْلًا اى صورة عجل قد أوجده الله تعالى من تلك الحلي المقذوفة ولم يكن من ذوى الحس والحركة بل كان جَسَداً وهيكلا لَهُ خُوارٌ يصوت صوت البقر فَقالُوا السامري اصالة والباقي تبعا هذا الجسد الذي خار خورة إِلهُكُمْ الذي أوجدكم من العدم وَإِلهُ مُوسى المتردد في بيداء الطلب هو هذا قد أنزله موسى في هذه الحفرة من قبل فَنَسِيَ منزله وسعى في طلبه سعيا بليغا فرقى الطور ايضا لطلب هذا
أَهم قد خرجوا عن طور العقل باعتقاد الوهية الجماد بل عن الحس ايضا فَلا يَرَوْنَ ولا يتفكرون في شأن هذا الجماد أَلَّا يَرْجِعُ اى انه لا يرجع اى انه لا يرد إِلَيْهِمْ قَوْلًا جوابا عن سؤالهم وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا لو لم يؤمنوا
له وَلا نَفْعاً لو آمنوا
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ اى قبل رجوع موسى إليهم نيابة عنه إصلاحا لحالهم بعد ما أفسدوا على أنفسهم ما أمرهم موسى وأوصاه إياه من الأصلح بحالهم يا قَوْمِ المائلين عن طريق الحق بسبب هذه الصورة إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ اى ما هذا الا ابتلاء لكم من ربكم ليختبر سبحانه رسوخكم وتمكنكم على التوحيد اعرضوا عن الشرك بالله وتوجهوا الى توحيده وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لكم بإرسال أخي إليكم رسولا وأنجاكم من عدوكم وانا نائب عن أخي قد استخلفني عليكم فَاتَّبِعُونِي لتتبعوا الحق ولا تميلوا الى الباطل وَأَطِيعُوا أَمْرِي هذا واقبلوا قولي وإرشادي لكم حتى يصلح حالكم
قالُوا له انك وان كنت نائبا عن أخيك لا تعرف أنت ربه ولا تكلمت معه بل يعرفه ويتكلم معه موسى لَنْ نَبْرَحَ ونزال عَلَيْهِ اى على عبادة الجسد عاكِفِينَ مقيمين حوله متوجهين اليه متضرعين عنده حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فرآه وتكلم معه ثم لما رجع موسى من ميقاته ومناجاته مع ربه بعد ما اخبر له الحق حال قومه ووجدهم ضالين منحرفين عن مسلك السداد صار غضبان عليهم أسفا بضلالهم
حيث قالَ من شدة غيظه لأخيه مناديا باسمه على الاستحقار مع انه اكبر منه سنا يا هارُونُ ما مَنَعَكَ واى شيء صرفك عن قتالهم وقت إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا عن طريق الحق وتوحيده بعبارة العجل وما لحقك
أَلَّا تَتَّبِعَنِ في مقاتلة المشركين بعد ما أوصيتك به مرارا وقد اقمتك فيهم لإصلاح حالهم فافسدتهم أَكفرت وضللت أنت ايضا فَعَصَيْتَ أَمْرِي فأخذ من شدة غيظه وغضبه بشعر أخيه ولحيته يجره
لَ
له حينئذ هارون قولا يحرك مقتضى الاخوة وينبه على قبول العذرا بْنَ أُمَ
نسبه الى الام استعطافا احذر عن الغضب المفرط وتوجه الى واسمع عذري تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
ما لم تسمع عذري لم اترك القتال معهم الانِّي
وان كنت لا اقدر على قتالهم لكثرتهم قدشِيتُ
ان قاتلت معهم نْ تَقُولَ
أنت معاتبا على قدرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
وجعلتهم فرقا متخالفة متقاتلة لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
ولم تحفظ ما أقول لك اخلفني في قومي وأصلح بينهم حتى ارجع فلما سمع موسى عذره ندم على فعله فرجع الى معاتية من يضلهم
حيث قالَ فَما خَطْبُكَ واى شيء هو أعظم مقاصدك ومطالبك من هذه التفرقة والإضلال يا سامِرِيُّ المضل
قالَ السامري ليس مقصودي الا الرياسة والزيادة عليهم بشيء يميزنى عنهم من الخوارق إذ قد بَصُرْتُ بِما اى بشيء لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أصلا وذلك انى رأيت جبرائيل راكبا على فرس الحيوة ما وضع قدمه على شيء الا حي فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ اى من تراب قد وطئه حافر فرس الرسول الذي هو جبرائيل وقد كنت احفظها الى ان اذابوا حليهم فَنَبَذْتُها فيها فسرت الحيوة الدنيا منها الى الصورة المتخذة من الحلي فخار فأمرتهم باتخاذها الها وَبالجملة كَذلِكَ سَوَّلَتْ وزينت لِي نَفْسِي حتى أكون متبوعا لهم مقتدى به بينهم
قالَ له موسى فَاذْهَبْ من عندي وتنح عن مرأى فَإِنَّ لَكَ اى قد حق وثبت لك فِي الْحَياةِ اى في حين حسك وحياتك أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ لك ولا احساس ولا ادراك يعنى انك في حياتك من جملة الأموات الفاقدين للحواس وادراك عموم المشاعر والمدارك لاعتقادك بحياة هذا الجماد وأخذك هذا الها حيا قيوما متصفا بصفات الكمال وأضللت بسبب هذا جمعا عظيما من الناس وَإِنَّ لَكَ في النشأة الاخرى مَوْعِداً من الجحيم لَنْ تُخْلَفَهُ أنت ابدا ولن تنتقل عنه أصلا إذ لا توبة لك منها حتى تقبل منك
توبتك ويتجاوز عنك بسببها فتعيّن ان تكون فيه ابد الآباد وَمتى عرفت حالك في دنياك وأخراك انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ وصرت عَلَيْهِ وعلى عبادته عاكِفاً مقيما عازما جازما لَنُحَرِّقَنَّهُ ولو كان هذا الها لم تحرقه النار ثُمَّ بعد الإحراق وبعد صيرورته رمادا لَنَنْسِفَنَّهُ وننشرنه فِي الْيَمِّ نَسْفاً نشرا ونثرا بحيث لم يبق من اجزائه في البر شيء وبالجملة قد أحرقها موسى عليه السّلام ونسفها
ثم توجه الى بنى إسرائيل فقال إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ المستجمع لجميع أوصاف الكمال وهو الحي القيوم الَّذِي لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ وما سواه اعدام باطلة ولو تعقل سواه فلا يخرج ايضا عن حيطة حضرة علمه المحيط إذ هو سبحانه قد وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ في الذهن والخارج
عِلْماً كَذلِكَ اى مثل ما أوحينا الى موسى لهداية قومه وإهلاك عدوه قد أوحينا إليك يا أكمل الرسل من قصص السابقين ليعتبر من هلاك عدوهم من عاداك ويفرح من اهتداء صديقهم من صدقك وآمن بك إذ نَقُصُّ عَلَيْكَ قصصهم مع كونك خالي الذهن مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سلف وسَبَقَ بمدة مديدة وازمنة متطاولة وَبالجملة قَدْ آتَيْناكَ امتنانا لك مِنْ لَدُنَّا بلا واسطة معلم مرشد ذِكْراً كلاما جامعا بذكر جميع ما في الكتب السالفة من الحقائق والمعارف والاحكام والقصص على الوجه الأتم الأبلغ
وبالجملة مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ اى عن القرآن بعد نزوله وتشبث بغيره من الكتب المنسوخة فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً إثما ثقيلا وجرما عظيما لأخذه المنسوخة وتركه الناسخ بحيث يكونون
خالِدِينَ فِيهِ وفيما يترتب عليه في يوم الجزاء من العذاب المؤبد وَبالجملة قد ساءَ لَهُمْ لحامليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المخففة لحمل ارباب العناية حِمْلًا ثقيلا لهم يوقعهم في النار
اذكر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لإخراج ما بالقوة الى الفعل وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ المشركين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً زرق العيون سود الوجوه وهما كنايتان عن الحسد والنفاق للذين هم عليهما في دار الدنيا ونظهر لهم يومئذ قبائحهم الكامنة فيهم في الدنيا
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ ويتكلمون خفية هكذا هذه القبائح التي قد ظهرت علينا الآن انما هي من اوصافنا التي كنا عليها في دار الدنيا زمانا قليلا فبعضهم حينئذ يقول للبعض مستقصرا مستقلا إِنْ لَبِثْتُمْ وما مكثتم في دار الدنيا إِلَّا عَشْراً من الليال وبعضهم يقلل من ذلك وبعضهم يقلل من تقليله ايضا وهم في أنفسهم يخفون أحوالهم لئلا يطلع عليها احد
وكيف يخفون عنا إذ نَحْنُ أَعْلَمُ حسب علمنا الحضوري ب عموم ما يقولون من الأقوال المتعارضة ولا نذكر في كتابنا هذا الا ما هو اقرب الى الصواب إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً اى اميلهم الى الصدق وأقربهم الى الصواب إِنْ لَبِثْتُمْ وما مكثتم وتمكنتم فيها إِلَّا يَوْماً واستقصارهم مدة مكثهم في الدنيا انما هي من طول يوم الجزاء وهوله
وَيَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ الْجِبالِ في ذلك اليوم أهي على قرارها وقوامها حتى يؤوى ويلتجأ إليها أم لا فَقُلْ لهم يا أكمل الرسل يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ويسحقها سحقا كليا كأنه قد اخرج من المناخل الدقيقة
فَيَذَرُها ويترك الأرض بعد نسف الجبال قاعاً مسطحا مستويا صَفْصَفاً ملساء
بحيث لا تَرى ايها الرائي فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ولا نتوا ولا ربوة لاستواء سطحها
يَوْمَئِذٍ اى وقت نفخ الصور لاجتماع الناس في المحشر يَتَّبِعُونَ يعنى عموم الأنام السامعين الدَّاعِيَ الذي هو اسرافيل ويجتمعون عنده كل واحد منهم بطريق لا عِوَجَ لَهُ لاستواء الأرض وعدم المانع من العقبات والاغوار وَفي ذلك اليوم قد
خَشَعَتِ الْأَصْواتُ اى خضعت وخفيت أصواتهم وقت النداء والدعاء لِلرَّحْمنِ من شدة اهوال ذلك اليوم بحيث إذا أصغيت الى سماع أقوالهم فَلا تَسْمَعُ منها السامع أنت إِلَّا هَمْساً ذكرا خفيا وصوتا ضعيفا
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ اى شفاعة كل احد من الناجين لكل احد من العاصين إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بشفاعة بعض الناجين لبعض العصاة من ارباب العناية في ذلك اليوم وَمع انه سبحانه قد رَضِيَ لَهُ قَوْلًا اى تعلق رضاه سبحانه ايضا بقول الشفيع وقت الشفاعة
وانما اذن ورضى سبحانه بالشفاعة للبعض لأنه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ اى يحيط علمه الحضوري بعموم أحوالهم من العصيان والطاعة وبان اى عصيان يزول بالشفاعة واى عاص يستحق العفو وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً بدقائق معلوماته ورقائق أفعاله سبحانه وآثاره مطلقا
وَبالجملة قد عَنَتِ الْوُجُوهُ اى هلكت وجوه الأشياء وخفيت ظهورها في ذلك اليوم وبقي الوجه الباقي الذي هو لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ المنزه عن الظهور والبطون المقدس من الحركة والسكون وَبالجملة قَدْ خابَ وخسر خسرانا مبينا في ذلك اليوم مَنْ حَمَلَ ظُلْماً عظيما حيث اثبت شريكا لله الواحد القهار
وَبالجملة مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ في الدنيا وَالحال انه هُوَ مُؤْمِنٌ موقن بوحدانية الله فَلا يَخافُ يومئذ لا ظُلْماً بان يحبط اعماله الصالحة بالكلية محانا ولم يجز بها أصلا وَلا هَضْماً بان ينقص من جزاء عمله الصالح
وَكَذلِكَ اى مثل احاطة علمنا بعموم الأشياء قد أَنْزَلْناهُ اى هذا الكتاب الجامع المحيط بجميع ما في العالم إذ لا رطب ولا يابس الا وهو فيه مثبت قُرْآناً عَرَبِيًّا اى كلاما عربي الأسلوب والنظم وَقد صَرَّفْنا كررنا وكثرنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وانواع الإنذارات والتخويفات لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ رجاء ان يحفظوا عهودنا ويتوجهوا الى توحيدنا ويتجنبوا عن شركنا أَوْ يُحْدِثُ ويجدد وعيدات القرآن وقصصه لَهُمْ ذِكْراً عظة وعبرة من احوال الماضين وعذاب الله عليهم من الغرق والمسخ والخسف والكسف لعلهم يتقون ويتذكرون به ومع ذلك لم يتقوا ولم يتذكروا وان قالوا على سبيل المكابرة عتوا وعنادا لربك حاجة واحتياج الى أيماننا وتقوانا والا لم يرجو منا أيماننا وتقوانا
قل لهم يا أكمل الرسل فَتَعالَى اللَّهُ اى تنزه وتقدس الْمَلِكُ المستولى المطلق القيوم المحقق الْحَقُّ الثابت الدائم المستمر ازلا وابدا عما يقول الظالمون المشركون في شأنه من اثبات الاحتياج له بمجرد الرجاء العائد نفعه إليهم ايضا وَإذا كان ظنهم هذا لا تَعْجَلْ أنت يا أكمل الرسل بِالْقُرْآنِ بادائه وتبليغه إياهم وقراءته عليهم مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ يعنى لا تعجل بإرشادهم وتكميلهم بالقرآن من قبل ان يفرغ جبرائيل عليه السّلام من وحيه وتبليغه إليك بل اصبر حتى يفرغ من أداء الوحى على وجهه ثم تأمل في رموزاته وإشاراته الخفية حسب استعدادك وَمع ذلك قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً بما فيه من نفائس المعلومات وعجائب المعارف والحقائق ثم بعد ذلك اتل عليهم ونبههم بقدر عقولهم واستعدادهم
وَبالجملة لا تنس يا أكمل الرسل نهينا لك عن الاستعجال بأداء القرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه بل في مطلق الأمور إذ العجلة انما هي من إغواء الشيطان ولا تكن ناسيا نهينا مثل نسيان أبيك آدم عهده معنا فانا لَقَدْ عَهِدْنا إِلى أبيك آدَمَ مِنْ قَبْلُ بقولنا نهيا له ولزوجته لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فَنَسِيَ عهدنا هذا بتغرير الشيطان له مع ان نفعه عائد اليه سيما وقد اكدناه بالمواثيق الوثيقة وَبالجملة لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً صادقا ورأيا صائبا في محافظة العهود والمواثيق
لذلك لم يوطن نفسه على مقتضى النهى
وَاذكر يا أكمل الرسل نبذا من عهودنا معه وقت إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وتذللوا عنده تعظيما له وتكريما إذ هو أفضل منكم واجمع لتجليات اوصافنا وأسمائنا فَسَجَدُوا ووقعوا عنده على تراب المذلة تعظيما له وامتثالا لأمرنا إِلَّا إِبْلِيسَ من بينهم قد أَبى وامتنع عن سجوده لاستكباره وعتوه وبعد ما استكبر إبليس عن تعظيمه نبهنا عليه عداوته
فَقُلْنا يا آدَمُ المكرم المسجود له إِنَّ هذا اى إبليس المتخلف عن سجودك عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فاحذر أنت اصالة وهي ايضا تبعا لك عن مصاحبته وتغريره وبالجملة لا تتكلما معه ولا تقبلا منه وسوسته فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ التي هي محل الحضور والسرور الى دار الابتلاء والغرور فَتَشْقى أنت يا آدم على الخصوص وتتعب وتعيى بسبب المعيشة إذ معيشتك صارت عن كد يمينك ولا تعب لك في الجنة
وكيف لا إِنَّ لَكَ اى قد حق وثبت لشأنك أَلَّا تَجُوعَ فِيها اى في الجنة إذا كلها دائم غير منقطع وَلا تَعْرى إذا لبستها متجددة دائمة غير بالية وحللها غير منقطعة
وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها إذ العطش انما يحصل من فرط الحرارة ولا حرارة فيها وَلا تَضْحى أنت ايضا إذ لا برودة فيها بل هي معتدلة دائما لا افراط للحرارة والبرودة فيها ثم لما عاش آدم فيها زمانا مستريحا بلا تعب ولا عناء اظهر إبليس عداوته وأخذ يوسوس له ولزوجته ليخرجهما منها إذ هما ماداما في الجنة لم يقدر على اضلالهما لجريان حالهما فيها على مقتضى العدالة الفطرية التي هما جبلا عليها
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ والقى وسوسته في نفسه حيث قالَ يا آدَمُ على وجه النصيحة والتغرير هنيئا لك عيشك في الجنة بلا تعب ومحنة هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وأهديك إليها ان أكلته منها فقد أخلدت نفسك بل خلدت أنت وزوجتك فيها ابدا وَبالجملة أهديك على مُلْكٍ لا يَبْلى ولا يخلق ولا يفنى بل يتجدد دائما بتجدد الأمثال بلا انتقال وزوال ثم لما وسوس إليهما سمعا منه قوله وقبلا وسوسته الى ان قد نسيا عهد ربهما مطلقا
فَأَكَلا مِنْها اى من الشجرة المنهية حتى يشبعا وأرادا ان يتبرزا ويتغوطا وبعد ما ارتكبا المنهي عنه وظهر منهما ما هو مناف لنظافة الجنة وطهارتها وبالجملة قد خرجا عن مقتضى العدالة الفطرية امر سبحانه باخراجهما منها بعد نزع لباسهما عنهما وبعد ما نزع لباسهما اى لباس الطهارة والنجابة والتقوى الجبلية الموهوبة لهما بمقتضى العدالة الإلهية فَبَدَتْ وظهرت لَهُما سَوْآتُهُما عوراتهما فاضطرا على التستر والتغطى وَطَفِقا أخذا وشرعا يَخْصِفانِ يلزقان ويلصقان عَلَيْهِما اى على عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ اى من أوراق بعض أشجارها قيل هي ورق التين وَبعد ما صار حالهما كذلك قالت الملائكة صائحين صارخين بعد انتهاز الفرصة قد عَصى آدَمُ المكرم المسجود له رَبَّهُ الذي رباه بتناول ما يصلحه ونهاه عن تناول ما يضره ويفسده بان اعرض عن النهى الإلهي وبادر الى ارتكاب المنهي عنه بغرور الشيطان الغوى المضل فَغَوى باغواء إبليس وضل عن مراده الأصلي بتغرير العدو لان العدو انما يلقى عدوه عكس مطلوبه
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ بعد ما ألهمه سبحانه الانابة والرجوع اليه فاعترف بذنبه نادما ورجع الى ربه تائبا بقوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية فَتابَ عَلَيْهِ سبحانه وقبل توبته وَهَدى اى هداه نحو مقصده الأصلي وقبلته الحقيقية الا انه سبحانه لا يبطل حكمة حكمه السابق المترتب على النهى وهو قوله تعالى فتكونا من الظالمين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية والعدالة الفطرية لذلك
قالَ اهْبِطا مِنْها وانزلا واخرجا من الجنة التي هي دار الأمن والسرور الى الدنيا التي هي دار التفرقة
والغرور جَمِيعاً أصلا وفرعا صديقا وعدوا وبعد هبوطكم إليها بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في امور معاشكم والشيطان عدو لكم يعوقكم ويغويكم عن امر المعاد فتبقى هذه العداوة بينكم ما دمتم فيها ومع أمرنا لكم بالهبوط والخروج منها إليها لا نترككم هناك يا بنى آدم ضالين محرومين مطرودين فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً بواسطة الرسل والكتب المنزلة عليكم فاتبعوا هداي فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ عزيمة صادقة وقصدا صحيحا خالصا فاهتدى البتة فَلا يَضِلُّ لا في النشأة الاولى وان كان فيها لاتصافه بصفاتنا الفاضلة وتخلقه باخلاقنا الكاملة وَلا يَشْقى ايضا في النشأة الاخرى لفنائه فينا وبقائه ببقائنا
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وانصرف عن مقتضى اوامرى المذكورة في كتبي المنزلة على رسلي الهادين له عن الضلال فَإِنَّ لَهُ اى قد حق وثبت له ما دام في دار الدنيا مَعِيشَةً ضَنْكاً ضيقا يضيق قلبه وصدره بحيث لا يسع فيه غير التفكر والتدبر في امر المعاش وَإذا خرج منها نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ الكبرى أَعْمى اى يصور اعراضه عن الحق في الدنيا وإقباله عليها على صورة العمى في الاخرى
حيث قالَ متحسرا ومتحزنا من غاية الضجرة والكآبة يا رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ضريرا في النشأة الاخرى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قريرا في النشأة الاولى
قالَ سبحانه توبيخا عليه وتقريعا كَذلِكَ اى مثل ذلك قد فعلت أنت بنا ايها المغتر المسرف حين أَتَتْكَ بالسنة الأنبياء آياتُنا لهدايتك وإصلاح حالك فَنَسِيتَها أنت ونبذتها وراء ظهرك بحيث كانت نسبتك إليها كنسبة الأعمى الى عموم الأشياء المحسوسة وَكَذلِكَ اى مثل المنبوذ وراء الظهر الْيَوْمَ تُنْسى أنت في جهنم البعد والحرمان وجحيم الطرد والخذلان
وَكَذلِكَ اى مثل نسيان من اعرض عنا في العذاب المؤبد نَجْزِي ونترك منسيا في جهنم البعد والخذلان مَنْ أَسْرَفَ وأفرط في الاعراض عن الله ورسله سيما بمتابعة العقل الفضول المشوب بالوهم المرذول وبمقتضى اعتباراته ومضى عليها كذلك زمانا وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ النازلة على أنبيائه ورسله ولم يتنبه بمرموزاتها ومكنوناتها ولم يتفطن بما فيها من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات وَالله وان احتمل الشدائد وارتكب المتاعب في تحصيل تلك الاعتبارات والاعتباريات لَعَذابُ الْآخِرَةِ في شأنه لاشتغاله بغير الله واعراضه عن آياته أَشَدُّ من شدائد ذلك التحصيل وَأَبْقى وأدوم وباله من النخوة المترتبة عليها الجالبة لغضب الله
أَتنكر القريش بآياتنا ونصر على إنكارها ولم تذكر عذابنا لمنكري آياتنا فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ولم يرشدهم ويذكرهم إهلاكنا الأمم السالفة بسبب انكار الآيات وتكذيب الرسل ولم يذكروا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ اى من اهل القرون الماضية حين يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أمثال هؤلاء أصحاء سالمين فجاءهم بأسنا بياتا او نهارا فجعلناهم هالكين فانين كأن لم يكونوا موجودين أصلا لاعراضهم عنا وتكذيبهم آياتنا ورسلنا وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والاستئصال لَآياتٍ دلائل ظاهرة على قدرتنا بالانتقام على المعرضين المكذبين لكتبنا ورسلنا لكن لا يحصل تلك الدلائل والمدلولات الا لِأُولِي النُّهى اى لأصحاب العقول المنتهية من مقتضيات عقولهم الى الكشف والشهود
وَبالجملة لَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في حق أمتك بدعائك لهم بارتفاع العذاب عنهم في دار الدنيا مثل المسخ والخسف والكسف وغير ذلك مما أهلكنا بها الأمم الماضية لَكانَ عذاب المنافقين من أمتك اليوم لِزاماً حتما مقضيا لازما مبرما محكما لظهور أسبابه وصدورها منهم وَ
لكن قد قدر لهم أَجَلٌ مُسَمًّى وهو يوم الجزاء
فَاصْبِرْ يا أكمل الرسل عَلى ما يَقُولُونَ الى حلول الأجل المسمى ولا تضيق صدرك من قولهم هذا انك لا تقدر على إتيان العذاب حسب دعواك ومناك لذلك تخوفنا بالقيمة الموهومة فلو كنت أنت رسولا كسائر الرسل لفعلت بنا ما فعلوا باممهم ومتى سمعت منهم يا أكمل الرسل أقوالهم الخشنة اعرض عنهم ولا تلتفت إليهم ولا تشتغل الى معارضتهم ومجادلتهم بل انصرف عنهم ودعهم وَسَبِّحْ نزه ربك عما يقولون وعما ينكرون قدرتنا على إتيان يوم الجزاء تسبيحا مقرونا بِحَمْدِ رَبِّكَ شكرا لآلائه ونعمائه الواصلة إليك وداوم عليه قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بعد انتباهك عن مقام غفلتك وقبل اشتغالك في امور معاشك وَقَبْلَ غُرُوبِها ايضا بعد فراغك عن كسب المعاش وقبل استراحتك في المنام وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ المعد للاستراحة ان أيقظت فيها فَسَبِّحْ وَسبح ايضا أَطْرافَ النَّهارِ إذا فرغت عن الاشتغال لَعَلَّكَ تَرْضى أنت عن الله في عموم الأوقات ويرضى الله عنك فيها
وَعليك الاعتزال عن أبناء الدنيا وعدم الالتفات الى لذاتهم بمتاعها ومزخرفاتها بحيث لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ يا أكمل الرسل حال كونك متحسرا متمنيا إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ المشركين والمنافقين أَزْواجاً أصنافا من كل شيء إذ من أعطينا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا اى زينتها وزخرفها انما أعطيناهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ اى نجربهم ونختبرهم كيف يعيشون بوجودها في الدنيا هل يتكبرون ويفتخرون بسببها على الفقراء ويمشون على الأرض على وجه الخيلاء أم لا وَبعد ما قد نهيناك يا أكمل الرسل عن الالتفات الى متاع الدنيا ومزخرفاتها استرزق عنا عما في خزائننا من المكاشفات والمشاهدات الباقية الصافية بدل تلك اللذات الفانية المكدرة إذ رِزْقُ رَبِّكَ الذي قد رزقك بها لتكون لك الكشف والشهود والتمكن في المقام المحمود خَيْرٌ لك من مزخرفات الدنيا ومموهاتها لأنها فانية زائلة لا ثبات لها وَهو أَبْقى لبقائه مع استعدادك الى ما شاء الله
وَمتى رزقت تفضلا من ربك وإحسانا عليك فعليك ان تأمر من يلازمك ويوانسك من اهل الطلب بالميل الى ما رزق الله لك ليكون لهم ايضا نصيب مما قد تفضل الله به عليك من الرزق المعنوي لذلك قد امرناك بقولنا أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ والميل الشاغل جميع قواهم وآلاتهم عن التوجه الى غيرنا لتكون أنت منبها لهم على ما في استعداداتهم وقابلياتهم الفطرية وَاصْطَبِرْ عَلَيْها وتحمل على متاعب تبليغها إياهم ولا تقصر خوفا من انتقاصك من رزقك إذ لا نَسْئَلُكَ لأجلهم منك رِزْقاً حتى ترزقهم بل نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم ايضا حسب استعدادك واستعدادهم من مقام جودنا وافضالنا من غير ان ينقص من خزائن كرمنا ونعمنا شيء وايضا نبههم على العواقب الحميدة المترتبة على الصلاة وحذرهم عن الشواغل العائقة عنها وَقل لهم الْعاقِبَةُ الحميدة لِلتَّقْوى اى للمتصفين بالتقوى الحافظين نفوسهم عن متابعة الهوى الراضين عن الله بعموم ما يرضى لهم وبأمرهم المجتنبين عما لا يرضى سبحانه منه ثم لما سمع الكفار بكمالاتك سيما كشفك وشهودك ورزقك المعنوي الحقيقي الأوفى من عند ربك وارشادك على من آمن بك وصدقك أصروا على إنكارك وتكذيبك
وَقالُوا لَوْلا وهلا يَأْتِينا هذا المدعى الكشف والشهود بِآيَةٍ مقترحة مِنْ رَبِّهِ حتى نصدقه ونقر برسالته قل لهم يا أكمل الرسل أَينكرون إتيان الآيات المقترحة على الأمم الماضية وَلَمْ تَأْتِهِمْ في هذا الكتاب المعجز المذكر لهم بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى والكتب الكبرى السالفة من إتيان الآيات المقترحة على
الأنبياء الماضين ومع ذلك لم تؤمن بهم أممهم بل قد كذبوهم وأصروا على ما هم عليه من الكفر والضلال فهؤلاء ايضا أمثالهم لم يؤمنوا بك بعد إتيان مقترحاتهم ايضا
وَقل لهم يا أكمل الرسل ايضا قولنا هذا نيابة عنا لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ نازل من عندنا لاصرارهم وعنادهم مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل ارسالك إليهم لَقالُوا البتة حين نزول العذاب عليهم كما قالت تلك الأمم الهالكة عند نزوله رَبَّنا لَوْلا وهلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا من عندك مصحوبا بالآيات البينات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ الدالة على وحدة ذاتك حينئذ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بهذا الإذلال وَنَخْزى بهذا الخزي والوبال وان عاندوا معك يا أكمل الرسل سيما بعد سماع هذه الدلائل الواضحة والبينات اللائحة اعرض عنهم وعن مكالمتهم ومناصحتهم
وقُلْ لهم كلاما يشعر باليأس عن ايمانهم وإصلاحهم وصلاحهم كُلٌّ منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ منتظر لهلاك الآخر بسبب الشقاوة والاعراض عن الحق فَتَرَبَّصُوا وانتظروا أنتم لهلاكنا بشقاوتنا على زعمكم فنحن منتظرون ايضا بمقتضى زعمنا بهلاككم بشرككم وكفركم وإذا كشف الغطاء وقامت الطامة الكبرى وظهر يوم العرض والجزاء فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ المستقيم المعتدل الغير المعوج ومن المتلون والمتمكن عليه أنحن أم أنتم وَمَنِ اهْتَدى منا من تيه الضلال الى فضاء القرب والوصال
خاتمة سورة طه
عليك ايها المحمدي الطالب بسلوك طريق الحق بالاستقامة التامة والتثبت عليه بلا اعوجاج وتزلزل لتهتدى بسلوكه الى زلال الوحدة الذاتية هي ينبوع بحر الوجود ومنشأ عموم الموجود ان تقتفى اثر نبيك صلّى الله عليه وسلّم في جميع أفعاله واعماله وتتخلق بعموم أخلاقه وأوصافه حسب ما أمكنك وقدر ما يسر لك ولا تهمل دقيقة من دقائق الشرع الشريف المصطفى بل لك ان تتبع به صلّى الله عليه وسلّم في عموم ما جاء به من قبل ربه وانشأه من عند نفسه بلا تفحص وتفتيش عن حكمه وسرائره حتى ينكشف لك بعد الوصول الى مرتبتك التي قد كلفك الحق إليها وجبلك لأجلها وبعد العروج الى معراجك الذي قد عين لك الحق في حضرة علمه المحيط احسب استعدادك الفطري وقابليتك الجبلية فح قد ظهر لك سرائر ما أوصاك به نبيك صلّى الله عليه وسلّم ورمز اليه وصرت حينئذ من اهل المعرفة والإيقان ان شاء ربك ووفقك عليه وفقنا يا ربنا بفضلك وجودك الى معارج عنايتك ومقر توحيدك يا ذا الجود العظيم
[سورة الأنبياء عليهم السّلام]
فاتحة سورة الأنبياء عليهم السّلام
لا يخفى على المتمكنين في مقر التوحيد الواصلين الى مرتبة الفناء في الوحدة الذاتية ان سر الهبوطات والتنزلات المنتشئة من وحدة الذات حسب اقتضاء الأسماء والصفات الإلهية انما هو لاكتساب المعارف والحقائق والاتصاف بالكمالات اللائقة ليحصل لهم الترقي والتدرج متصاعدين الى ما منه البداية واليه النهاية فلا بد في النشأة الاخرى من انتقاد ما حصل في النشأة الاولى ليعود كل من المكلفين الى مبدأه على الوجه الذي بدأ منه لذلك وضع سبحانه يوم العرض والجزاء لانتقاد اعمال عموم عباده على تفاوت طبقاتهم ودرجاتهم فيها وقد وضع ايضا لهذه الحكمة المتقنة جميع ما وضع في يوم الجزاء من العرض والحساب والصراط والميزان وكذا صحف الأعمال ومنازل الجنة والنار وغيرها
Icon