تفسير سورة العنكبوت

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

﴿ ألم ﴾ حروف صوتيه تقرأ هكذا ألف، لام، ميم، افتتحت بها السورة لبيان أن القرآن المعجز مؤلَّفٌ من هذه الحروف، ولتنبيه السامعين وتوجيه أنظارهم الى الحق، وكل سورةٍ صدرت بهذه الأحرف تتضمن حديثا عن القرآن إما مباشرة، وإما في ثنايا السورة كقوله تعالى في الآية ٤٥ من هذه السورة :﴿ اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب.... ﴾ والآية٤٧ :﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب.... ﴾ والآية ٥١ :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب.... ﴾
لا يُفتنون : لا يمتحنون.
أيظن الناس أنهم يُتركون بمجرد قولهم آمنا بالله دون أن يُختبروا بما تتبيَّن به حقيقةُ إيمانهم. لا بدَّ من امتحانهم بذلك.
الفتنة : الامتحان والاختبار.
لقد اختبرنا الناسَ من الأمم السابقة بضروبٍ من البأساء والضراء فصبروا وتمسكوا بدِينهم، والله يعلم الذين صدقوا في إيمانهم، ويعلم الكاذبين.
روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خَبَّاب بن الأرتّ قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقينا من المشركين من شدةٍ، فقلنا : ألا تستنصرُ لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال :« قد كان من قبلِكم يؤخَذُ الرجل فيُحفَرُ له في الأرض فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضعُ على رأسه فيُجعل نصفَين، ويمشَط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه. والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكبُ من صنعاء الى حضرموتَ لا يخاف إلا الله، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون »
ساء ما يحكمون : قَبُح حكمهم.
أم يظن المشركون والذين يرتكبون الأمورَ السيئة أننا لا نقدِر عليهم ! ! بئسَ هذا الحكم الذي يحكمونه بجهلهم وغرورهم.
يرجو لقاء الله : يطمع بنيل ثوابه.
أجَل الله : الوقت المضروب للقائه.
من كان يؤمن بالبعثِ، وبلقاء الله، فإن إيمانه حق، واليومُ الموعود الذي عيّنه الله آت لا محالة، وهو سميع لأقوال العباد عليم بأفعالهم.
جاهد : بذل جهده في حرب نفسه. جاهداك : حملاك على الشرك.
ثم بين الله تعالى أن التكليفَ بجهاد النفس وغيرها ليس لنفعٍ يعود إليه بل لفائدة الناس.
ومن جاهدَ نفسه بالصبر على الطاعة، فإن ثواب جهاده لنفسه، والله سبحانه لا يحتاج الى شيء من أعمالنا، كما قال :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ﴾ [ فصّلت : ٤٦ ]، وقال :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ [ الإسراء : ٧ ].
لقد ظن بعض المفسّرين أن هذه الآية مدينة لأن فيها ﴿ وَمَن جَاهَدَ ﴾، والصوابُ أن الآية مكّية والمراد هنا بالجهاد جهادُ النفس والصبر على الأذى.
والذين آمنوا إيماناً صادقا وعملوا الأعمال الصالحة سنمحو عنهم خطاياهم، ونجزيهم بأحسنَ مما عملوا، وأضعاف أضعافه.
على المرء أن يعامل والديه بالرِفق واللين ولو كانا مشركَين، فأما إذا أراد منه أن يشرك بالله، فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق.
والذين آمنوا إيماناً صادقا مع العمل الطيب الخالص لله، يدخلُهم ربهم في زمرة من أنعمَ عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ﴿ وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً ﴾ [ النساء : ٦٩ ].
فتنة الناس : أذاهم.
الناس في الدين ثلاثة أقسام : مؤمن حسن الاعتقاد والعمل، وكافر مجاهر بالكفر والعناد، ومذبذب بينهما يُظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر في قلبه، وقد بيّن الله تعالى القسمين الأولين بقوله :﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين ﴾. وهنا يبين القسم الثالث بقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ﴾ :
ومن الناس من يقول بلسانه آمنتُ بالله ويدعي الإيمانَ ظاهرا، فإذا أُصيب بأذىً بسبب إيمانه جزعَ وسوّى بين الناس وعذابِ الله في الآخرة، واعتقدَ أن هذا من نقمةِ الله تعالى، فيرتدّ عن الإسلام. وهذا كقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ ﴾ [ الحج : ١١ ].
﴿ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ : لئن فتحَ الله على المؤمنين وجاءهم بعضُ الخيرات يقول المنافقون إنا كنّا معكم فأشركونا فيها معكم.
وقد توعّدهم الله وذكر أنه عليمٌ بما في صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمرِهم فقال :﴿ أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين ﴾.
ثم بين أن هذه الفتنة إنما هي اختبارٌ من الله ليظهر المؤمنَ الصادقَ من المنافق :﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين ﴾، فيجازي الفريقين كلا بما يستحقه.
ونحمل خطاياكم : لتكون ذنوبكم علينا.
كان زعماء قريش من المشركين يقولون للذين دخلوا في الإسلام : ارجِعوا إلى ديننا واتّبعوا ما نحن عليه، وإذا كان هناك بعثٌ وحساب تخشونه فنحن نحمل عنكم ذنوبكم. فردّ الله عليهم قولهم بأنهم لا يحملون ذنوبهم يوم القيامة، ولن تحمل نفسٌ وِزرَ نفسٍ أخرى، وأن الكافرين لكاذبون في وعدهم
الأثقال : واحدها ثقل بكسر الثاء وسكون القاف : الحمل الثقيل، والمراد هنا الذنب والإثم.
وبعد أن بين عدم منفعة كلامهم لمخاطِبيهم، بيّن ما يستتبعه ذلك القول من المضرة لأنفسهم، فقال :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ :
سوف يحمل أَولئك الكفار أوزارَ أنفسِهم الثقيلة، ويحملون معها مثل أوزار من أضلّوهم وصرفوهم عن الحق، وسيحاسَبون يوم القيامة على ما كانوا يختلقون في الدنيا من الأكاذيب.
وفي الصحيح :«من دعا الى هدىً كان له من الأجرِ مثلُ أجور من اتبعه الى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا الى ضلالٍ كان عليه من الإثمِ مثلُ آثام من اتبعه الى يوم القيامة من غيرِ أن ينقص من آثامهم شيئا »
لا يحزنك أيها الرسول، ما تلقى من أذى المشركين أنت وأصحابك، فإن مصيرهم الى البوار، ومصيرك وأصحابك الى العلوّ والنصر.
إن نوحاً مكث في قومه تسعمائةٍ وخمسين سنة يدعوهم وهم
لا يستجيبون له، فأغرقهم الله بالطوفان وهم ظالمون لأنفسِهم.
وأنجاه ومن معه من المؤمنين في السفينة، وجعل قضيّتهم عبرةً للعالمين.
وقد تقدّم ذكر نوح في آل عمران والنساء والأنعام والأعراف والتوبة ويونس وهود وإبراهيم والإسراء ومريم والأنبياء والحج والمؤمنون والفرقان والشعراء والعنكبوت، هذا وسيأتي في عدد من السور.
وقوله تعالى :﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ﴾ : لم يقل ألف سنة إلا خمسين سنة، حتى لا يكرر كلمة سنة فلا يكون الكلام بليغا، والعرب تعبر عن الخِصب بالعام وعن الجَدْب بالسنة، ونوح لما استراح بقي في زمن حسن.
مرت قصةُ إبراهيم في عدد من السورة وستأتي أيضا، وفي إيراد هذا القصص تثبيتٌ للنبي عليه الصلاة والسلام وأن النتيجة هي النصرُ له بإذن الله.
أذكُر أيها الرسول، قصة إبراهيم حين دعا قومه الى توحيد الله.
تخلقون إفكا : تختلقون كذبا.
فابتغوا : فاطلبوا.
ثم أرشدهم الى فضلِ ما يدعوهم إليه وفسادِ ما هم عليه، بعبادتهم الأصنامَ التي يصنعونها بأيديهم، وقال لهم إن هذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تضر، ولا تعطيكم رزقاً، فاطلبوا الرزق من الله وحده، واعبدوه واشكروه، فإليه مصيركم أجمعن.
وإن تستمروا على الكذب، فقد كذّبت الأمم السابقةُ رسلَها، وما ضر ذلك الرسلَ شيئا، وليس على الرسول إلا تبليغ الرسالة بأمانة ووضوح.
يبدىء الخلق : يخلقه أول مرة.
ويعيده : في الآخرة يوم القيامة.
في هذه الآية تكملةٌ لقصة إبراهيم فإنه قال لهم : ألم تروا كيف بدأ الله الخلق ؟ إنه سيعيد الخلق يوم القيامة كما خلقه أول مرة. وذلك على الله يسير.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر :﴿ ألم تروا ﴾ بالتاء، والباقون :﴿ ألم يروا ﴾ بالياء.
ينشىء : يخلق.
النشأة : الخلق.
ثم أرشدهم الى الاعتبار بما في هذه الأرض من دلائلَ وما في الآفاق من شواهد، وقال لهم : سيروا في هذه الأرض، ابحثوا فيها كيف بدأ الله الخلق، فإنكم ستجدون الدلائلَ الكافية على كيفية تكوين الخلق كما بدأه الله، وهو سيعيد إنشاءه يوم القيامة.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ النشَاءة ﴾ بفتح الشين ومدها، والباقون :﴿ النشْأة ﴾ بسكون الشين.
تقلبون : تردون بعد موتكم.
وهو حسب حكمته يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء بعدله في حكمه، إليه مرجعُكم جميعا يوم الحساب والجزاء.
من ولي : قريب.
ولا نصير : ولا معين.
لستم أيها المكذِّبون بمعجزين أينما كنتم، ولا يستطيع أحدٌ نصركم.
إن الذين كفروا بالدلائل التي بينّها الله في هذا الكون، وكذّبوا برسله وكتبه، إنما يئسوا من رحمة الله، ولهم عذابٌ شديد مؤلم.
فما كان جوابُ قوم إبراهيم على هذا الحوار العظيم إلا الإمعان في الكفر، وقالوا : اقتلوا إبراهيم أو احرقوه في النار، فأنجاه الله من النار وجعلها بردا وسلاما، وإن في ذلك لدلائل واضحة لمن يصدق بالله.
وقال إبراهيم لقومه : إنما اتخذتم هذه الأصنامَ تعبدونها من دون الله، لا اعتقاداً واقتناعا بعبادتها، وإنما يجاملُ فيها بعضكم بعضا. إن مودّة بعضكم بعضا هي التي دعتكم الى عبادتها، لكن هذه المودة ستنقلب الى عداوةٍ يوم القيامة، حيث يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا، ومصيركم جميعا الى النار.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي :﴿ مودةُ بينِكم ﴾ برفع مودة وجر بينكم بالإضافة، وقرأ نافع وأبو بكر وابن عامر :﴿ مودةً بينكم ﴾ بنصب مودة منونا ونصب بينكم، وقرأ حفص عن عاصم وحمزة :﴿ مودةَ بينِكم ﴾ بنصب مودة وخفض بينكم بالإضافة وهي قراءة المصحف.
وآمن لوط وأجاب دعوته وكان ابن أخيه، وقال : إني مهاجر الى بلاد الشام.
ووهب الله لإبراهيم إسحاق ويعقوب وجعلَ من نسله النبوةَ، وأحسنَ إليه جزاء عمله، في الدنيا وفي الآخرة.
الفاحشة : العمل القبيح الذي تنفر منه النفوس.
ذُكرت قصة لوط في عدد من السور باختلاف يسير، وبعضها يكمل بعضا، وقد مرت في كل من سورة الأعراف وهود والحِجر والشعراء والنمل.
وخلاصتها أن قوم لوط كانوا أشراراً يقطعون الطريق على السابلة، قد ذهب الحياء من وجوههم فلا يستقبحون قبيحا، ولا يرغبون في حسَن.
قراءات :
قرأ أهل الحجاز وابن عامر ويعقوب وحفص :﴿ إنكم لتأتون الفاحشة ﴾ بهمزة واحدة، وقرأ أهل الكوفة :﴿ أإنكم ﴾ بهمزتين على الاستفهام.
السبيل : الطريق.
وكانوا يأتون الذكورَ من الناس، ويُعلنون ذلك ولا يرون فيه سوءا.
فكانوا يتربصون لكل داخلٍ مدينتَهم من التجّار ويجتمعون عليه ويمدون أيديهم الى بضاعته يأخذُ كل واحد منها شيئا حتى لا يبقى معه شيء. كما قال تعالى :﴿ وَتَقْطَعُونَ السبيل ﴾.
القرية : سدوم في منطقة البحر الميت بالأردن.
الغابرين : الباقين.
ولقد أنجى لله لوطاً وابنتَيه من القرية وبقيت امرأته فيها، لأنها كانت كافرة مع قومها.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب :﴿ لنُنَجينه ﴾ بفتح النون الثانية وتشديد الجيم المكسورة،
سيء بهم : حصل له سوء وغم بسببهم.
ضاق بهم ذرعا : عجز عن تدبير شئونهم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب :﴿ { وإنا مُنَجوك ﴾ بفتح النون وتشديد الجيم المضمومة.
الرجز : العذاب.
فحل بهم العذاب، وأمطر الله عليهم حجارةً من سِجِّيل، قلبتْ ديارَهم عاليَها سافلها.
قراءات :
قرأ ابن عامر والكسائي :﴿ منزلون ﴾ بفتح النون وتشديد الزاي المكسورة، والباقون :﴿ منزلون ﴾ بإسكان النون وكسر الزاي دون تشديد.
وبقيت الى أيامنا آية بيّنة لقوم يعقلون.
مدين : اسم قرية شعيب في شمال الحجاز، وشُعيب عربي.
وارجوا اليوم الآخر : توقعوا يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال. لا تعثوا : لا تفسدوا.
تقدم ذكر قصة شعيب في سورة الأعراف وهود والشعراء بأطولَ مما هنا، وكذلك مرت قصة صالح مع قومه عادٍ في سورة الأعراف وهود وغيرها، وهم عربٌ مساكنهم في الأحقاف في شمال حضرموت. وموضع بلادهم اليوم رمال خالية على أطراف الرَّبع الخالي. وصالح وقومه ثمود عربٌ أيضا، ومساكنهم الحِجر في شمال الحجاز وتُعرف اليوم بمدائن صالح، وأسماؤهم عربية. وهذا نصّ وجده المنقبون على حجرٍ بالحرف النبطي وتاريخه قبل الميلاد :
« هذا القبرُ الذي بنته كمكم بنتُ وائلة بنت حرم وكليبة انتها لأنفسِهن وذريتهن، في أشهرٍ طيبةٍ من السنة التاسعة للحارث ملك النبطيين محب شعبه.... الخ ».
لقد أهلك الله قوم شعيب في « مدين ».
الرجفة : الزلزلة.
جاثمين : باركين على ركبكم، هالكين.
وقوم هود في « الأحقاف »، وقوم ثمود في « الحجر » ويخاطب قريشاً بقوله تعالى :﴿ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾ لأنهم يمرون عليها في ذهابهم الى اليمن والشام.
ما كانوا سابقين : وما كانوا هاربين.
وأهلك الله فرعون وقارون وهامان الذين جاءهم موسى بالمعجزات الواضحة فاستكبروا وكفروا.
حاصبا : ريحا فيها رمل وحجارة صغيرة.
فما استطاعوا أن ينجوا من عذاب الله الأليم، بل أخذَهم الله بذنوبهم. فعادٌ أخذهم حاصبٌ، وهو الريحُ الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم. وثمود أخذتهم الرَّجفة والصيحة. وقارون خَسف به وبداره الأرض. وفرعون وهامان غرقا في اليمّ. وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.
وإذا نظرنا الى أحوال الأمم الآن في معظم أقطار الأرض نجد الفتنَ والحروب والمشاكل التي لا تنتهي، وغلاء الأسعار المتزايدَ في جميع أقطار الأرض، أليسَ هذا كلّه من أنواع العذاب والبلاء ! لكن فرعون اليوم هو أمريكا وأوروبا من دول الاستعمار، وهامان هو بعض الحكّام الذين لا يخلصون لشعوبهم.
أما نحن المسلمين، فقد حِدنا عن جادة الصواب، وانحرفنا عن ديننا واتبعنا أهواءنا فضعُفنا وتخاذلنا وتأخرنا، وصرنا نهباً للأمم تنهب شركاتها خيراتنا حتى التي في باطن الأرض، وتغتصب أراضينا بتواطؤ بعضنا في ذلك. أليس هذا من العذاب ! !
بعد هذه الجولة في سورة العنكبوت، والحديث عن الفتنة والابتلاء والإغراء وقصص بعض الأنبياء وأممهم، والذين بهرتهم قوى المال والجاه، فظنوا أنها تحميهم من الله، يضرب الله المثلَ لحقيقة القوى المتصارعة في هذه الميادين وأنهم خاطئون بكل تقديراتهم، وأن هنالك قوة واحدة هي قوة الله، وما عداها فهو هزيل ضعيف لن يحميهم إلا كالعنكبوت الضعيفة التي اتخذت أوهنَ البيوت لحمايتها.
ثم زاد الله الإنكار توكيدا بقوله :﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾
فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويعبد سواه ! !
قراءات :
قرأ أبو عمرو ويعقوب وعاصم :﴿ إن الله يعلم ما يدعون من دونه ﴾ بالياء، والباقون :﴿ إن الله يعلم ما تدعون من دونه ﴾ بالتاء.
بعد ذلك بين الله فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يدرك مغزاها إلا ذووا الألباب الذين يعلمون ويعقلون.
إن الإله الذي يستحق العبادة هو الذي ﴿ خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ﴾، لا عبثا ولا لعباً بل لحكمة يعلمها المؤمنون، وفي نظام دقيق لا يتخلف ولا يبطئ ولا يصدم بعضه بعضا.
﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الذين تتفتح قلوبهم لآيات الله الكونية وعجائب هذا الكون الكبير.
وبعد نهاية هذه الجولة العظيمة سلّى رسوله الكريم بتلاوة ما أوحى إليه من الكتاب، وأمره بإقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، هي أكبر مطهر للإنسان حين يقيمها حق الإقامة.
﴿ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ : فذِكر الله أكبر من كل شيء، وأكبر من كل تعبد وخشوع. والله يعلم ما تفعلون من خيرٍ وشر فيجازيكم عليه.
الجدَل : الحِجاج والمناظرة، مأخوذ من جدلَ الحبلَ وفتله، والمُناظر يفتل خصمه عن رأيه.
مسلمون : مطيعون، خاضعون.
يؤكد القرآن الكريم على الدعوة بالرِّفق واللين، ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، ومقابلة الغضب والعصبية بالهدوء وكظم الغيظ، فيقول :﴿ وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، ويقول :﴿ ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ]، ويقول :﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ المؤمنون : ٩٦ ].
هذه أوامر الله تعالى في القرآن الكريم، يأمرنا أن نتحلّى بالرفق واللين، وندعو ونجادل بالتي هي أحسن. لكننا مع الأسف نجد معظم الذين يرتدون في الظاهر زِيّ الدين ويدعون الى الله، لا يتحلّون بهذه الأخلاق، فتجدهم على المنابر متشنّجين متشدّدين، وقد لا نظلمهم إذا قلنا إن بعضهم يتشنّج في خدمة جيبه، لا خدمة ربّه.
﴿ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ : أما الذين ظلمونا وحاربونا وناصبونا العداء فإن الله تعالى أمرنا أن نقابلهم بالمثل، حيث لا ينفع معهم الرفق
ولا اللين. وفي مذابح لبنان وأفغانستان شاهدٌ على ذلك.
﴿ وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ : قولوا لهم : آمنّا بالقرآن الذي أُنزل إلينا والتوراةِ والإنجيل، معبودُنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له، ومنقادون لأمره.
وما يجحدون بآياتنا : وما ينكر.
ثم بين الله أنه لا عجبَ في إنزال القرآن على الرسول الكريم، فهو على مثال ما أُنزل من الكتب من قبل، فقال :﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الكافرون ﴾ :
كما أنزلنا الكتب على من قبلَك من الرسل أنزلنا إليك القرآن، فالذين آتيناهم الكتابَ قبل القرآن من اليهود والنصارى يؤمنون به، إذ كانوا مصدّقين بنزوله حسب ما ورد في كتبهم.
ومن هؤلاء العربِ من يؤمن به، وما يكذّب بآياتنا بعد ظهورها إلا المصرّون على الكفر.
إذا لارتاب المبطلون : إذا لشك أهل الباطل.
ثم أكد الله إنزاله من عنده، وأزال الشبهة في افترائه، فقال :﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون ﴾ :
ما كنتَ يا محمد تقرأ ولا تكتب من قبل أن ينزل إليك القرآن، وهذا أمرٌ يعلمه جميعُ أهل مكة، ولو كنتَ تقرأ وتكتب لشكّ أهل الباطل في أن هذا القرآن من عند الله.
ثم أكد ما سلف وبيّن أن هذا القرآن منزلٌ من عند الله حقا، فقال :
﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون ﴾ :
إن هذا القرآن لا يمكن أن يكون موضعَ ارتياب، بل هو آياتٌ واضحات محفوظة في صدور الذين آتاهم الله العلم. ولا ينكر آياتنا إلا الظالمون للحقّ ولأنفسِهم، الذين لا يَعدلِون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور.
فأجابهم الله بقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله ﴾ :
قل يا محمد : إن المعجزات عند الله ينزلها حين يشاء، وإنما أنا مكلف بالإنذار الواضح، وتبليغ الرسالة، وليس عليَّ هداكم.
ثم قال تعالى : كيف يطلبون الآياتِ مع نزول القرآن ! أليس فيه ما يكفي ويقنع !
قراءات :
قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم :﴿ لولا أنزل عليه آياتٌ من ربه ﴾ بالجمع، وقرأ الباقون :﴿ لولا أنزل عليه آيةٌ من ربه ﴾ بالإفراد.
إنهم يطلبون المعجزات الحسية، أما كفاهم دليلاً على صدقك هذا القرآنُ الذي أنزلناه عليك يُقرأ عليهم، وهو الآيةُ الخالدة على الزمن ! إن في إنزال هذا الكتاب عليك لرحمةً من الله بهم وبالناس أجمعين، وتذكرةً دائمة نافعة لمن يؤمن به.
بعد أن أقام الله الأدلة على صدق رسالة النبي الكريم، وبيّن أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين لم يؤمنوا به، أمر رسوله أن يَكِلَ عِلم ذلك الى الله، فهو العليم بصدقه. أما الذين عبدوا غيره فقد خسروا الدنيا والآخرة.
بعد أن أنذر المشركين بالعذاب وهدّدهم، قالوا تهكماً واستهزاء : إن كان هذا حقاً فأْتنا بالعذاب. فأجابهم الرسول بأنه لا يأتيكم بسؤالكم، ولا يعجّل باستعجالكم، لأن الله أجَّله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمّى الذي اقتضته حكمته لعجّله لكم، ولَيأتينكم فجأة وأنتم
لا تشعرون.
ثم تعجّب منهم في طلبهم استعجال العذاب، وهو سيحيط بهم في جميع نواحيهم.
ويكون من الأهوال ما لا يوصف، ويقال لهم على سبيل التوبيخ :﴿ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة ونافع :﴿ ويقول ذوقوا... ﴾ بالياء، والباقون :﴿ ونقول ﴾ بالنون.
فإياي فاعبدون : فاعبدوني.
بعد أن بيّن حال الجاحدين المكذّبين، وما يغشاهم من عذاب محيط بهم، لأنهم قد اشتد عنادهم وكثر أذاهم للمؤمنين، ومنعوهم من أداء عبادتهم، أمره الله بالهجرة الى دار أخرى حتى ينجوا بعقيدتهم.
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس، بيَّن لهم أن المكروه واقع لا محالة، إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، وأنتم أيها المؤمنون، لا تستصعِبوا مفارقة الأوطان في مرضاة الله، فإن أرض الله واسعة، ومدى الدنيا قريب، والموتُ لا بد منه، ثم مرجعكم الى ربكم.
قراءات :
قرأ أبو بكر :﴿ ثم إلينا يرجعون ﴾ بالياء، والباقون :﴿ ترجعون ﴾ بالتاء
لنبوّئنهم : لننزلنّهم، بوأهم : أنزلهم منزلا حسنا.
وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت،
ولا خَطَرَ على قلب بشر، فهنالك الجنة ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين ﴾.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ لنثوينهم ﴾ بالثاء، يعني لنقيمنهم، من ثوى بالمكان : أقام، والباقون :﴿ لنبوئنّهم ﴾ بالباء.
وقد بين الله هؤلاء العاملين الذي استحقوا تلك الجنات بقوله :﴿ الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.
ولا تقلقوا على توفّر الرزق ولا تخافوا بعد مغادرة الأوطان، إن الله هو الكافي أمرَ الرزق في الوطن والقرية.
إن الله يرزق الجميع حيث كانوا، هو يسمع لهم ويعلم حالهم،
ولا يدعهم وحدهم ﴿ وَهُوَ السميع العليم ﴾.
يؤفكون : يُصرَفون عن الحق.
إنهم يعترفون بأن الله هو خالق السموات والأرض والمسخِّر للشمس والقمر، وهم مع ذلك يعبدون سواه، فلماذا هذا التناقض ؟ ! وكيف إذْن يُصرفون عن توحيد الله وعن عبادته، مع إقرارهم بهذا كله ؟
ويقدر : ويضيق.
ما دام الخالقُ هو الله، فإنه يوسع الرزق على من يشاء، ويضيق على من يشاء، حسبما يقتضيه علمه بالمصالح، ﴿ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ ﴾.
وإن أقوال هؤلاء المشركين تخالف أفعالهم، فهم يقرّون بالوحدانية ثم هم يعبدون مع الله سواه، ولذلك يقول :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله ﴾ :
إنهم مقرّون بأن الله هو الخالق، وهو الرازق، وهو مدبّر الكون، لكنهم انحرفوا وعبدوا غيره ولذلك يتعجب من أقوالهم ويقول :﴿ قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ :
قل يا محمد، الحمدُ لله على اعترافهم بالحق، ولكن أكثرهم
لا يَستعملون عقولهم ولا يفهمون ما يقعون فيه من تناقض.
لما بين الله فيما تقدم أن المشركين يعترفون بأن الله هو الخالق والمدبر لهذا الكون، ومع ذلك فإنهم يتركون عبادته اغترارا بزخرف الدنيا وزينتها، بين هنا أن الدنيا وما فيها باطلٌ وعبث زائل، وإنما الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها، ولكنهم
لا يعلمون.
ثم أرشد إلى أنهم مع إشراكهم بربهم سِواه في الدعاء والعبادة، إذا هم ابتلوا بالشدائد كما إذا ركبوا البحر وعلتهم الأمواج من كل جانب، وخافوا الغرق، دعوا الله معترفين بوحدانيته ولكنهم سرعان
ما يرجعون بعد نجاتهم ويعودون سيرتهم الأولى.
لينكروا ما أعطيناهم من النعم، ويتمتعوا بلذّاتهم وشهواتهم، فسوف يعلمون عاقبةَ الكفر حين يشاهدون العذابَ الأليم. وفي هذا تهديد كبير لو كانوا يعلمون.
ثم يذكّرهم بنعمة الله عليهم بإعطائهم هذا الحرمَ الآمن يعيشون فيه بأمن وسلام، فلا يذكرون نعمة الله ولا يشكرونها.
قراءات :
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي :﴿ لْيكفروا ولْيتمتعوا ﴾ بسكون اللام، والباقون :﴿ لِيكفروا وليتمتعوا ﴾ بكسر اللام.
لقد جعلهم الله تعالى في بلد آمن يعيشون فيه، يعظّمهم الناس من أجل بيت الله، ومن حولهم القبائل تقتتلُ وتتناحر، فلا يجدون الأمان إلا في ظل البيتِ العظيم. وقد من الله عليهم بقوله :﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾.
ثم بين أن العقل كان يقضي بأن يشكروا هذه النِعم، لكنهم كفروا بها فقال :﴿ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ ؟ ﴾.
ولما وضحت الحُجة وظهر الدليل، ولم يكن لهم فيه مقنَع، بين أنهم قوم ظلمة مفترون مكذبون، فقال :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴾.
ليس هناك أحدٌ أشدَّ ظلماً ممن نَسَب الى الله ما لم يشرعه، أو كذّب بالدين الحق، أن مثوى هؤلاء وأشباههم جَهنمُ وبئس المصير.
ثم يختم السورةَ بصورة المؤمنين الّذين جاهدوا في الله، واحتملوا الأذى، وصبروا ولم ييأسوا، الذين اهتدوا بهدى الله وساروا على الصراط المستقيم، فقال :﴿ والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين ﴾ :
أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم ولن ينسى جهادهم، وإن الله لمعهم يعينهم ويؤيدهم بالنصر والتوفيق.
Icon