تفسير سورة الرّوم

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الروم من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
سورة الروم
مكية وآياتها ستون
هذه السورة مكية لا خلاف أحفظه في ذلك١.
١ أخرج عبد الرزاق وأحمد –قال السيوطي-: "بسند حسن" عن رجل من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ فيها سورة الروم. وأخرج البزار عن الأغر المزني مثله، وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك بن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروح، وأخرج ابن الضرير، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، من طرق، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزلت سورة الروم بمكة". (فتح القدير، والدر المنثور)..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الرّوم
هذه السورة مكية. ولا خلاف أحفظه في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦)
تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور بما فيه كفاية، وقرأ الجمهور «غلبت» بضم الغين وقالوا معنى الآية أنه طرأ بمكة أن الملك كسرى هزم جيش ملك الروم قال مجاهد: في الجزيرة وهو موضع بين العراق والشام، وقال عكرمة: وهي بين بلاد العرب والشام، وقال مقاتل: بالأردن وفلسطين، فلما طرأ ذلك سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ وتكون الدولة لهم في الحرب، وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة وعبد الله بن عمر «غلبت» الروم بفتح الغين واللام، وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كان أن الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر المسلمون فبشر الله تعالى عباده بأنهم سَيَغْلِبُونَ أيضا فِي بِضْعِ سِنِينَ، ذكر هذا التأويل أبو حاتم، والرواية الأولى والقراءة بضم الغين أصح، وأجمع الناس على «سيغلبون» أنه بفتح الياء يريد به الروم، وروي عن ابن عمرو أنه قرأ أيضا «سيغلبون» بضم الياء، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به، وأَدْنَى الْأَرْضِ معناه أقرب الأرض، فإن كانت الوقعة في أذرعات فهي من أَدْنَى الْأَرْضِ بالقياس إلى مكة وهي التي ذكر امرؤ القيس في قوله: [الطويل]
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال
وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي أَدْنَى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي أَدْنَى إلى أرض الروم، قال أبو حاتم: وقرىء «أداني الأرض»، وقرأ جمهور الناس «غلبهم» بفتح اللام كما يقال أحلب حلبا لك شطره، وقرأ ابن عمر بسكونها وهما مصدران بمعنى واحد وأضيف إلى المفعول، وروي في قصص هذه الآية عن ابن عباس وغيره أن الكفار لما فرحوا بمكة بغلب الروم بشر الله نبيه والمؤمنين بأن
327
الروم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ أي من الثلاثة إلى التسعة على مشهور قول اللغويين. كأنه تبضيع العشرة أي تقطيعها وقال أبو عبيدة: من الثلاث إلى الخمس، وقوله مردود، فلما بشرهم بذلك خرج أبو بكر الصديق إلى المسجد فقال لهم: أسركم إن غلبت الروم فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه وقيل أبو سفيان بن حرب تعال يا أبا فصيل يعرضون بكنيته بالبكر فلنتناحب، أي نتراهن، في ذلك فراهنهم أبو بكر قال قتادة: وذلك قبل أن يحرم القمار وجعل الرهن خمس قلائص، والأجل ثلاث سنين، فأخبر النبي ﷺ بذلك فقال له «إن البضع إلى التسعة ولكن زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل»، ففعل أبو بكر فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام، فغلبت الروم في أثناء الأجل، فروي عن أبي سعيد الخدري أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية وأن الخبر بذلك وصل يوم بيعة الرضوان، روي نحوه عن قتادة، وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين، وذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب وكون المشركين من قريش على ضد ذلك إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين، والفرس أهل الأوثان أو نحوه من عبادة النار ككفار قريش والعرب.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن يعلل ذلك بما تقتضيه الفطر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤنة ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله ﷺ ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه. وسِنِينَ، يجمع كجمع من يعقل عوضا من النقص الذي في واحده لأن أصل سنة سنهة أو سنوة، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه خارج عن قياسه ونمطه ثم أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدره، فقال لِلَّهِ الْأَمْرُ أي إنفاذ الأحكام مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من بعد هذه الغلبة التي بين هؤلاء القوم، وقَبْلُ وبَعْدُ ظرفان بنيا على الضم لأنهما تعرفا بحذف ما أضيفا إليه وصارا متضمنين ما حذف فخالفا معرب الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبينا وخصا بالضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نكر أو أضيف زال بناؤه، وكذلك هما فضما كما المنادى مبني على الضم، وقيل في ذلك أيضا أن الفتح تعذر فيهما لأنه حالهما في إظهار ما أضيفا إليه، وتعذر الكسر لأنه حالهما عند إضافتهما إلى المتكلم، وتعذر السكون لأن ما قبل أحدهما ساكن، فلم يبق إلا الضم فبنيا عليه، ومن العرب من يقول «من قبل ومن بعد» بالخفض والتنوين.
قال الفراء: ويجوز ترك التنوين فيبقى كما هو في الإضافة وإن حذف المضاف، وقوله تعالى:
وَيَوْمَئِذٍ يحتمل أن يكون عطفا على القبل والبعد، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر، ويحتمل أن يكون الكلام تم في قوله بَعْدُ، ثم استأنف عطف جملة أخبر فيها أن يوم غلبت الروم الفرس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، وعلى هذا الاحتمال مشى المفسرون، والنصر الذي يَفْرَحُ به الْمُؤْمِنُونَ يحتمل أن يشار فيه إلى نصر الروم على فارس وهي نصرة الإسلام بحكم السببين اللذين قد ذكرتهما، ويحتمل أن يشار فيه إلى نصر يخص المؤمنين على عدوهم وهذا أيضا غيب أخبر به وأخرجه الوجود إما يوم بدر وإما يوم بيعة الرضوان، ويحتمل
328
أن يشار به إلى فرح المسلمين بنصر الله إياهم في أن صدق ما قال نبيهم من أن الروم ستغلب فارس فإن هذا ضرب من النصر عظيم، وقوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر المؤكد، وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يريد الكفار من قريش والعرب، أي لا يعلمون أن الأمور من عند الله وأن وعده لا يخلف وأن ما يورده نبيه حق.
قال القاضي أبو محمد: هذا الذي ذكرناه هو عمدة ما قيل، وقد حكى الطبري وغيره روايات يردها النظر أو قول الجمهور، من ذلك أن بعضهم قال إنما نزلت وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ بعد غلبة الروم لفارس ووصول الخبر بذلك، وهذا يقتضي أن الآية مدنية والسورة مكية بإجماع ونحو هذا من الأقوال.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٧ الى ٨]
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨)
وصف تعالى الكفرة الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده بأنهم إنما يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، واختلف الناس في معنى ظاهِراً فقالت فرقة معناه بينا أي ما أدته إليهم حواسهم فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم، وقال ابن عباس والحسن والجمهور: معناه ما فيه الظهور والعلو في الدنيا من إتقان الصناعات والمباني ومظان كسب الأموال والفلاحات ونحو هذا، وقالت فرقة: معناه ذاهبا زائلا أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة ومثل هذه اللفظة قول الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقال سعيد بن جبير: إن قوله ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا إشارة إلى ما يعلم من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين، وقال الروماني: كل ما يعلم بأوائل العقول فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن.
قال القاضي أبو محمد: وفيه تقع الغفلة وتقصير الجهال، ثم وصفهم ب «الغفلة» والإعراض عن أمر الآخرة وكرر الضمير تأكيدا، وغفلة الكافر هي على الكمال والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه يأخذ من هذه الآية بحظ، نوّر الله قلوبنا بهداه، ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنهم قد فكروا فلم تنفعهم الفكرة والنظر إذ لم يكن على سداد، وقوله تعالى: فِي أَنْفُسِهِمْ يحتمل معنيين: أحدهما أن تكون الفكرة في ذواتهم وحواسهم وخلقتهم ليستدلوا بذلك على الخالق المخترع، ثم أخبر عقب هذا المعنى بأن الحق هو السبب في خلق السماوات والأرض، فيفهم على طريقة الإيجاز والاختصار أن من فكر في نفسه علم حقيقة هذا الخبر ووقف عليه ببصيرة نفسه، والمعنى الثاني أن تكون النفس ظرفا للفكرة في خلق السماوات والأرض فيكون قوله فِي أَنْفُسِهِمْ تأكيدا لقوله يَتَفَكَّرُوا كما تقول انظر بعينك واسمع بأذنك، فقولك بأذنك تأكيد، وقوله إِلَّا بِالْحَقِّ أي بسبب المنافع التي هي حق واجب يريد من
الدلالة عليه والعبادة له دون فتور، والانتصاب للعبرة ومنافع الأرزاق وغير ذلك، وَأَجَلٍ عطف على «الحق» أي وبأجل مسمى وهو يوم القيامة، ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية من في هذا العالم، ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفرة بذلك المعنى فعبر عنه بِلِقاءِ الله لأن لقاء الله هو عظم الأمر وفيه النجاة أو الهلكة.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٩]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
هذا أيضا توقيف وتوبيخ على أنهم ساروا ونظروا، أي إن ذلك لم ينفعهم حين لم يعملوا بحسب العبرة وخوف العاقبة.
قال القاضي أبو محمد: ولا يتوجه للكفرة أن يعارض منهم من لم يسر فيقول لم أسر لأن كافة من سار من الناس قد نقلت إلى من لم يسر فاستوت المعرفة وحصل اليقين للكل، وقامت الحجة، وهذا بين، وقوله تعالى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ يريد بالمباني والحرث والحروب، وسائر الحوادث التي أحدثوها هي كلها إثارة للأرض بعضها حقيقة وبعضها تجوز لأن إثارة أهل الأرض والحيوان والمتاع، إثارة للأرض، وقرأ أبو جعفر «وآثاروا» بمد الهمزة قال ابن مجاهد: ليس هذا بشيء، قال أبو الفتح: وجهها أنه أشبع فتحة الهمزة فنشأت ألف ونحوه قول ابن هرمة: [الوافر]
فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح
قال وهذا من ضرورة الشعر لا يجيء في القرآن، وقرأ أبو حيوة «وآثروا الأرض» بالمد بغير ألف بعد الثاء من الأثرة، والضمير في عَمَرُوها الأول للماضين والثاني للحاضرين والمعاصرين، وباقي الآية بين يتضمن الوعد والتخويف من عدل الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٠ الى ١٣]
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنها اسم كانَ والخبر يجوز أن يكون السُّواى ويجوز أن يكون أَنْ كَذَّبُوا وتكون السُّواى على هذا مفعولا ب أَساؤُا وإذا كان السُّواى خبرا
ف أَنْ كَذَّبُوا مفعول من أجله ولا يصح تعلقه ب أَساؤُا لأن في ذلك فصلا بين الصلة والموصول بخبر كانَ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «عاقبة» بالنصب على أنها خبر مقدم واسم كانَ أحد ما تقدم، والسُّواى مصدر كالرجعى والفتيا والشورى، ويجوز أن تكون صفة لمحذوف تقديره الخلة السوأى أو الخلال السوأى قال أبو حاتم هذه قراءة العامة بالمد على الواو وفتح الهمزة وياء التأنيث فبعض القراء فخم وبعضهم أمال، وقرأ الحسن «السوّى» بشد الواو دون همز، وقرأ الأعمش وابن مسعود «السوء» بالتذكير، وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال «السوء والسوأى» اقرأ بما شئت، قال ابن عباس أَساؤُا هنا بمعنى كفروا والسُّواى هي النار والتكذيب بِآياتِ اللَّهِ، تعالى غير الاستهزاء بها فلذلك عدد عليهم الفعلين، ثم أخبر تعالى إخبارا مطلقا لجميع العالم بالحشر والبعث من القبور، وقرأ طلحة وابن مسعود «يبدىء» بضم الياء وكسر الدال، وقرأ جمهور القراء «ترجعون» بالتاء من فوق، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالياء، وقوله وَيَوْمَ منصوب ب يُبْلِسُ، والإبلاس الكون في شر مع اليأس من الخير في ذلك الشر بعينه، فإبلاسهم هو في عذاب الله تعالى، وقرأ عامة القراء بكسر اللام، وقرأ أبو عبد الرحمن وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بفتحها، وأبلس الربع إذا بلي وكأنه يئس من العمارة ومنه قول العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا
وقرأ عامة القراء «ولم يكن لهم» بالياء من تحت، وروي عن نافع «تكن» بالتاء من فوق، و «الشركاء» المشار إليهم هم الأصنام أي الذين كانوا يجعلونهم شركاء لله بزعمهم.
وقوله وَكانُوا معناه يكونون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام فعبر عنه بالماضي لتيقن الأمر وصحة وقوعه.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٤ الى ١٨]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)
يَتَفَرَّقُونَ معناه في المنازل والأحكام والجزاء، قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها، ويُحْبَرُونَ معناه ينعمون، قاله مجاهد، والحبرة والحبور السرور والتنعم، وقال يحيى بن أبي كثير:
يُحْبَرُونَ معناه يسمعون الأغاني، وهذا نوع من الحبرة، وقال ابن عباس يُحْبَرُونَ يكرمون وفي المثل امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينظرون العبرة ومنه بيت أبي ذؤيب: [الطويل]
هذا على هذه الرواية، ويروى عثرة وحبور، وهي أكثر وذكر تعالى «الروضة» لأنها من أحسن ما يعلم من بقاع الأرض، وهي حيث اكتمل النبت الأخضر وجن وما كان منها في المرتفع من الأرض كان أحسن، ومنه قول الأعشى: [البسيط]
فراق كقيص السن فالصبر انه لكل أناس عبرة وحبور
وما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسل هطل
ومنه قول كثير: [الطويل]
فما روضة طيبة الثرى تمج الندا جثجاثها وعرارها
قال الأصمعي: ولا يقال «روضة» حتى يكون فيها ماء يشرب منه، ومُحْضَرُونَ معناه مجموعون له لا يغيب أحد عنه، وقوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات، كأنه يقول إذ هذه الفرق هكذا من النعمة والعذاب فجدوا أيها المؤمنون في طريق الفوز برحمة الله، وقال ابن عباس وقتادة وبعض الفقهاء: في هذه الآية تنبيه على أربع صلوات: المغرب والصبح والعصر والظهر، قالوا والعشاء هي الآخرة في آية أخرى في زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود: ١١٤] وفي ذكر أوقات العورة، وقال ابن عباس أيضا وفرقة من الفقهاء: في هذه الآية تنبيه على الصلوات الخمس لأن قوله تعالى حِينَ تُمْسُونَ يتضمن الصلاتين، وقوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراض بين الكلامين من نوع تعظيم الله تعالى والحض على عبادته، وقرأ عكرمة «حينا تمسون وحينا تصبحون» والمعنى حين تمسون فيه.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢)
الْحَيَّ والْمَيِّتِ في هذه الآية يستعمل حقيقة ويستعمل مجازا، فالحقيقة المني يخرج منه الإنسان والبيضة يخرج منها الطائر وهذه بعينها ميتة تخرج من حي وما جرى هذا المجرى، وبهذا المعنى فسر ابن عباس وابن مسعود وقال الحسن: المعنى المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
قال الفقيه الإمام القاضي: وروي هذا المعنى عن النبي ﷺ أنه قرأ هذه الآية عند ما كلمته بالإسلام أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، والمجاز إخراج النبات الأخضر من الأرض وإخراج الطعم من النبات وما جرى هذا المجرى، ومثل بعد إحياء الأرض بالمطر بعد موتها
بالدثور والعطش، ثم بعد هذا الأمثلة القاضية بتجويز بعث الأجساد عقلا ساق الخبر بأن كذلك خروجنا من القبور. وقرأت فرقة «يخرجون» بالياء من تحت، وقرأ عامة القراء «تخرجون» بالتاء المضمومة، وقرأ الحسن وابن وثاب والأعمش وطلحة بفتح التاء وضم الراء، ومِنْ في قوله وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ للتبعيض، وقال خَلَقَكُمْ من حيث خلق أباهم آدم قاله قتادة، وتَنْتَشِرُونَ معناه تتصرفون وتتفرقون في الأغراض والأسفار ونحوها، وقوله مِنْ أَنْفُسِكُمْ يحتمل أن يريد خلقه حواء من ضلع آدم فحمل ذلك على جميع النساء من حيث أمهم مخلوقة من نفس آدم، أي من ذات شخصه، ويحتمل أن يريد من نوعكم ومن جنسكم، و «المودة والرحمة» على بابها المشهور من التواد والتراحم، هذا هو البليغ، وقال مجاهد والحسن وعكرمة: عنى ب «المودة» الجماع وب «الرحمة» الولد، ثم نبه تعالى على خلق السماوات والأرض واختلاف اللغات والألوان وهذه عظم مواقع العبرة من هذه الآيات، وقوله وَأَلْوانِكُمْ يحتمل أن يريد البياض والسواد وغيرهما، ويحتمل أن يريد ضروب بني آدم وأنواعهم نعم وأشخاص الأخوة ونحوهم تختلف بالألوان ونعم الألسنة وبذلك تصح الشهادات والمداينات وتقع الفروق والتعيين فهكذا تبين النعمة، وقرأ جمهور القراء «للعالمين» بفتح اللام، وقرأ حفص عن عاصم «للعالمين» بكسر اللام فالأولى على أن هذه الآية هي نفسها منصوبة لجميع العالم والثانية على معنى أن أهل الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)
ذكر تعالى النوم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وعرف النوم إنما هو بالليل وحده، ثم ذكر الابتغاء مِنْ فَضْلِهِ كأنه فيهما وإنما معنى ذلك أنه عم بالليل والنهار فسمى الزمان وقصد من ذلك تعديد آية النوم وتعديد آية ابتغاء الفضل فإنهما آيتان تكونان في ليل ونهار، والعرف يجيز كل واحدة من النعمتين أي محلها من الأغلب وقال بعض المفسرين في الكلام تقديم وتأخير.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف وإنما أراد أن يرتب النوم لليل والابتغاء للنهار ولفظ الآية لا يعطي ما أراد، وقوله تعالى: يُرِيكُمُ فعل مرتفع لما حذفت «أن» التي لو كانت لنصبته فلما حل الفعل محل الاسم أعرب بالرفع.
ومنه قول طرفة: [الطويل]
قال الرماني: وتحتمل الآية أن يكون التقدير وَمِنْ آياتِهِ آية يُرِيكُمُ الْبَرْقَ وحذفت الآية لدلالة من عليها ومنه قول الشاعر:
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
التقدير فمنها تارة أموت.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا على أن مِنْ للتبعيض كسائر هذه الآيات، ويحتمل في هذه وحدها أن تكون مِنْ لابتداء الغاية فلا يحتاج إلى تقدير «أن» ولا إلى تقدير «آية»، وإنما يكون الفعل مخلصا للاستقبال وقوله خَوْفاً وَطَمَعاً، قال قتادة خَوْفاً للمسافر وَطَمَعاً للمقيم.
قال الفقيه الإمام القاضي: ولا وجه لهذا التخصيص ونحوه بل فيه الخوف والطمع لكل بشر، قال الضحاك: الخوف من صواعقه والطمع في مطره، وقوله تعالى: أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ معناه تثبت، كقوله تعالى وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [البقرة: ٢٠] وهذا كثير، وقيل هو فعل مستقبل أحله محل الماضي ليعطي فيه معنى الدوام الذي هو في المستقبل، والدعوة من الأرض هي البعث ومِنَ الْأَرْضِ حال للمخاطبين كأنه قال: خارجين من الأرض، ويجوز أن يكون مِنَ الْأَرْضِ صفة للدعوة.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومِنْ، عندي هاهنا لانتهاء الغاية كما تقول دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل، والوقف في هذه الآية عند نافع ويعقوب الحضرمي على دَعْوَةً، والمعنى بعد إذا أنتم تخرجون من الأرض، وهذا على أن مِنْ لابتداء الغاية، والوقف عند أبي حاتم على قوله مِنَ الْأَرْضِ، وهذا على أن مِنْ لانتهاء الغاية، قال مكي: والأحسن عند أهل النظر أو الوقف في آخر الآية لأن مذهب الخليل وسيبويه في إِذا الثانية أنها جواب الأولى كأنه قال: ثم إذا دعاكم خرجتم وهذا أسدّ الأقوال.
وقرأ حمزة والكسائي «تخرجون» بفتح التاء، وقرأ الباقون «تخرجون» بضم التاء.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨)
اللام في لَهُ الأولى لام الملك، وفي الثانية لام تعدية ل «قنت» إذ «قنت» بمعنى خضع في طاعته وانقياده، وهذه الآية ظاهر لفظها العموم في القنت والعموم في كل من يعقل، وتعميم ذلك في المعنى لا يصح لأنه خبر، ونحن نجد كثيرا من الجن والإنس لا يقنت في كثير من المعتقد والأعمال، فلا بد أن عموم
334
ظاهر هذه الآية معناه الخصوص، واختلف المتأولون في هذا الخصوص أين هو، فقال ابن عباس وقتادة: هو في القنت والطاعة وذلك أن جميع من يعقل هو قانت لله في معظم الأمور من الحياة والموت والرزق والقدرة ونحو ذلك، وبعضهم يبخل بالعبادة وبالمعتقدات فلا يقنت فيها فكأنه قال كل له قانتون في معظم الأمور وفي غالب الشأن، وقال ابن زيد ما معناه: إن الخصوص هو في الأعيان المذكورين كأنه قال وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من ملك ومؤمن، وقوله يَبْدَؤُا الْخَلْقَ معناه ينشئه ويخرجه من العدم، وجاء الفعل بصيغة الحال لما كان في هذا المعنى ما قد مضى كآدم وسائر القرون وفيه ما يأتي في المستقبل، فكانت صيغة الحال تعطي هذا كله، ويُعِيدُهُ معناه يبعثه من القبور وينشئه تارة أخرى، واختلف المتأولون في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، فقال ابن عباس والربيع بن خيثم: المعنى وهو هين ونظيره قول الشاعر: (لعمرك ما أدري وأني لأوجل) بمعنى لوجل، وقول الآخر (بيت دعائمه أعز وأطول)، وقولهم في الأذان الله أكبر وقال الآخر وهو الشافعي:
فتلك سبيل لست فيها بأوحد واستشهد بهذا البيت أبو عبيدة وهذا شاهده كثير، وفي مصحف ابن مسعود «وهو هين عليه»، وفي بعض المصاحف و «كل هين عليه»، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة: المعنى وهو أيسر عليه، وإن كان الكل من اليسر عليه في حيز واحد وحال متماثلة، ولكن هذا التفضيل بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون علينا من البداءة للتمرن والاستغناء عن الروية التي كانت في البدأة، وهذان القولان الضمير فيهما عائد على الله تعالى، وقالت فرقة أخرى: الضمير في عَلَيْهِ عائد على الخلق.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهذا بمعنى المخلوق فقط، وعلى التأويلين الأولين يصح أن يكون المخلوق أو يكون مصدرا من خلق، فقال الحسن بن أبي الحسن إن الإعادة أهون على المخلوق من إنشائه لأنه في إنشائه يصير من حالة إلى حالة، من نطفة إلى علقة إلى مضغة ونحو هذا، وفي الإعادة إنما يقوم في حين واحد، فكأنه قال وهو أيسر عليه، أي أقصر مدة وأقل انتقالا، وقال بعضها: المعنى «وهو أهون» على المخلوق أن يعيد شيئا بعد إنشائه، أي فهذا عرف المخلوقين فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق.
قال الفقيه الإمام القاضي: والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ويؤيده قوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى لما جاء بلفظ فيه استعارة واستشهاد بالمخلوق على الخالق وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به تكييف ولا تماثل مع شيء و «العزة والحكمة»، صفتان موافقتان لمعنى الآية، فبهما يعيد وينفذ أمره في عباده كيف شاء، ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل، ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهمّ أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسموكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم فكيف تقولون إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته، وتثبتون في جانبه ما لا يليق بكم
335
عندكم بجوانبكم، هذا تفسير ابن عباس والجماعة.
وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير، وقرأ الناس «كخيفتكم أنفسكم» بنصب السين، وقرأ ابن أبي عبلة «أنفسكم» بضمها، وقرأ الجمهور «نفصل» بالنون حملا على رَزَقْناكُمْ، وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصل» بالياء حملا على ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
الإضراب ب بَلِ هو عما تضمنه معنى الآية المتقدمة، كأنه يقول: ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من تشريكهم مع الله تعالى، بل اتبعوا أهواءهم جهالة وشهوة وقصدا لأمر دنياهم، ثم قرر على جهة التوبيخ لهم على من يهدي إذا أضل الله، أي لا هادي لأهل هذه الحال، ثم أخبر أنه لا ناصر لهم، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه للدين المستقيم وهو دين الإسلام، وإقامة الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين، وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه، وحَنِيفاً، معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة، وقوله فِطْرَتَ اللَّهِ نصب على المصدر، كقوله صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: ١٣٨] وقيل هو نصب بفعل مضمر تقديره اتبع والتزم فِطْرَتَ اللَّهِ، واختلف الناس في «الفطرة» هاهنا، فذكر مكي وغيره في ذلك جميع ما يمكن أن تصرف هذه اللفظة عليه وفي بعض ذلك قلق، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به، فكأنه قال فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الذي هو الحنيف وهو فِطْرَتَ اللَّهِ الذي على الإعداد له فطر البشر لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه» الحديث، فذكر الأبوين: إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة وقوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ يحتمل تأويلين:
أحدهما أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة أي اعلم أن هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخلق، ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه، والآخران أن يكون قوله لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ إنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا فإن هؤلاء الكفار قد خلق الله لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي إنهم لا يفلحون، وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله، وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معناه لا تبديل للمعتقدات التي هي في الدين الحنيف فإن كل شريعة هي عقائدها، وذهب بعض المفسرين في هذه الآية إلى تأويلات منها قول عكرمة، وقد روي عن ابن عباس لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان، ومنها قول بعضهم في الفطرة الملة على أنه قد قيل في الفطرة الدين وتأول قوله فَطَرَ النَّاسَ على الخصوص أي المؤمنين، وقيل «الفطرة» هو العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم نسما من ظهره، ونحوه حديث معاذ بن جبل حين مر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يا معاذ ما قوام هذه الأمة؟ قال: الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والصلاة وهي الدين والطاعة وهي العصمة فقال عمر: صدقت، والْقَيِّمُ بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة، وقوله مُنِيبِينَ يحتمل أن يكون حالا من قوله فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا سيما على رأي من رأى أن ذلك خصوص في المؤمنين، ويحتمل أن يكون حالا من قوله «أقم وجهك» وجمعه لأن الخطاب بإقامة الوجه للنبي ﷺ ولأمته، نظيرها قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١]، والمنيب الراجع المخلص المائل إلى جهة ما بوده ونفسه، و «المشركون» المشار إليهم في هذه الآية هم اليهود والنصارى، قاله قتادة وقال ابن زيد: هم اليهود، وقالت عائشة وأبو هريرة: هي في أهل القبلة.
قال الفقيه الإمام القاضي: فلفظة الإشراك على هذا فيها تجوز فإنهم صاروا في دينهم فرقا، و «الشيع» الفرق واحدها «شيعة»، وقوله كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ معناه أنهم مفتونون بآرائهم معجبون بضلالهم، وذلك أضل لهم، وقرأت فرقة «فارقوا دينهم» بالألف.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
هذا ابتداء إنحاء على عبدة الأصنام المشركين بالله عز وجل غيره بين الله تعالى لهم أنهم كسائر البشر في أنهم إذا مسهم ضُرٌّ دَعَوْا الله وتركوا الأصنام مطرحة ولهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع، ف إِذا أَذاقَهُمْ رحمته أي باشرهم أمره بها، والذوق مستعار، إذا طائفة تشرك به أصناما ونحو هذا، وإِذا للمفاجأة فلذلك صلحت في جواب إِذا الأولى بمنزلة الفاء وهذه الطائفة هي عبدة الأصنام.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين إذا جاءهم فرج بعد شدة فعلقوا ذلك بمخلوقين أو بحذق آرائهم وغير ذلك لأن فيه قلة شكر لله تعالى، ويسمى تشريكا مجازا، وقوله تعالى لِيَكْفُرُوا اللام لام كي، وقالت فرقة هي لام الأمر على جهة الوعيد والتهديد، وأما قوله تعالى: فَتَمَتَّعُوا فأمر على جهة الوعيد، والتقدير قل لهم يا محمد فَتَمَتَّعُوا وقرأ أبو العالية «فيتمتعوا» بياء قبل التاء وذلك عطف على لِيَكْفُرُوا أي لتطول أعمارهم
على الكفر، وفي حرف ابن مسعود «فليتمتعوا»، وروي عن أبي العالية «فيمتعوا» بضم الياء دون تاء أولى، وفي مصحف ابن مسعود «تمتعوا» هكذا قال هارون، وقرأ عامة الناس «تعلمون» بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو العالية «يعلمون» بالياء على ذكر الغائب.
وقوله أَمْ بمعنى بل وألف الاستفهام كأنه أضرب عن صدر الكلام ورجع إلى هذه الحجة، و «السلطان» هنا البرهان من رسول أو كتاب ونحوه، والسلطان في كلام العرب جمع سليط كرغيف ورغفان وغدير وغدران فهو مأخوذ من التسلط والتغلب، ولزم هذا الاسم في العرب الرئيس لأنه سليط بوجه الحق ولزمه اسم جمع من حيث أنواع الغلبة والملك عنده، وقال قوم: هو اسم مفرد وزنه فعلان، وقوله تعالى:
فَهُوَ يَتَكَلَّمُ معناه أن يظهر حجتهم وينطق بشركهم قاله قتادة، فيقوم ذلك مقام الكلام، كما قال تعالى هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: ٢٩].
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)
لما ذكر تعالى حالة الناس متى تأتيهم شدة وضر ونجوا منه إلى سعة ذكر في هذه الآية الأمر أيضا من الطرف الآخر بأن تنال الرحمة ثم تعقب الشدة فلهم في الرتبة الأولى تضرع ثم إشراك وقلة شكر، ولهم في هذه فرج وبطر ثم قنط ويأس، وكل أحد يأخذ من هذه الخلق بقسط، والمقل والمكثر إلا من ربطت الشريعة جأشه ونهجت السنة سبيله وتأدب بأدب الله تعالى، فصبر عند الضراء، وشكر عند السراء، ولم يبطر عند النعمة، ولا قنط عند الابتلاء، وقوله تعالى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي إن الله يمتحن الأمم ويصيب منهم عند فشو المعاصي وظهور المناكر، وكذلك قد يصاب شخص بسوء أعماله يسيء وحده ويصاب وحده، وفي الأغلب يعفو الله عن كثير، و «القنط» اليأس الصريح، وقرأ أبو عمرو وجماعة «يقنطون» بكسر النون، وقرأ نافع والحسن وجماعة «يقنطون» بفتحها، وجواب الشرط في قوله إِنْ تُصِبْهُمْ قوله إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ وذلك أنها للمفاجأة لا يبتدأ بها، فهي بمنزلة الفاء لا يبتدأ بها ويجاب بها الشرط، وأما «إذا» التي للشرط أو التي فيها معنى الشرط فهما يبدأ بهما ولا يكون فيهما جواب الشرط، ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح الله على حال وهو أن الله تعالى يخص من يشاء من عباده ببسط الرزق ويقدر على من شاء منهم فينبغي لكل عبد أن يكون راجيا ما عند ربه، ثم أمر تعالى نبيه أمرا تدخل الأمة فيه وهذا على جهة الندب إلى إيتاء ذي القربى حقه من صلة المال وحسن المعاشرة ولين القول، قال الحسن: حَقَّهُ المواساة في اليسر وقول ميسور في العسر.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومعظم ما قصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم
«في المال حق سوى الزكاة وذلك للمسكين وابن السبيل حق» وبين أن حق هذين إنما هو في المال وغير ذلك معهما لا غناء له وكذلك يلزم القريب المعدم الذي يقضي حقه أن يقضي أيضا حق قريبه في جودة العشرة ووَجْهَ اللَّهِ هنا جهة عبادته ورضاه والْمُفْلِحُونَ الفائزون ببغيتهم البالغون لآمالهم.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)
قرأ جمهور القراء «وما آتيتم» بمعنى وما أعطيتم، وقرأ ابن كثير «ما أتيتم» بغير مد بمعنى ما فعلتم كما تقول أتيت صوابا وأتيت خطأ، وأجمعوا على المد في قوله وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ. و «الربا» الزيادة، واختلف المتأولون في معنى هذه الآية فقال ابن عباس وابن جبير وطاوس: هذه آية نزلت في هبات الثواب.
قال الفقيه الإمام القاضي: وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلم وغيره فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى، وقال ابن عباس أيضا وإبراهيم النخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع، وقال الشعبي: معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحدا وخف به لينتفع في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كله قريب جزء من التأويل الأول، ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية النهي عن الربا في التجارات لما حض عز وجل على نفع ذوي القربى والمساكين وابن السبيل أعلم أن ما فعل المرء من ربا ليزداد به مالا وفعله ذلك إنما هو في أموال الناس فإن ذلك «لا يربوا عند الله» ولا يزكو بل يتعلق فيه الإثم ومحق البركة، وما أعطى الإنسان من زكاة تنمية لماله وتطهيرا يريد بذلك وجه الله تعالى فذلك هو الذي يجازى به أضعافا مضاعفة على ما شاء الله تعالى له، وقال السدي: نزلت هذه الآية في ربا ثقيف لأنهم كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش، وقرأ جمهور القراء السبعة «ليربو» بالياء وإسناد الفعل إلى الربا، وقرأ نافع وحده «لتربوا» بضم التاء على وزن تفعلوا بمعنى تكونوا ذوي زيادة، وهذه قراءة ابن عباس وأهل المدينة الحسن وقتادة وأبي رجاء والشعبي، قال أبو حاتم هي قراءتنا، وقرأ أبو مالك «لتربوها» بضمير المؤنث، و «المضعف» الذي هو ذو أضعاف من الثواب كما المؤلف الذي له آلاف، وكما تقول أخصب إذا كان ذا خصب. وهذا كثير، ومنه أربى المتقدم في قراءة من قرأ «لتربوا» بضم التاء، ثم كرر مخاطبة الكفرة في أمر أوثانهم فذكر أفعال الله تعالى التي لا شريك له فيها وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء ولا يمكن أن ينكر ذلك عاقل، ووقف الكفار على جهة التقرير والتوبيخ هل من شركائهم أي الذين
جعلوهم شركاء من يفعل شيئا من ذلك، وهذا الترتيب ب ثُمَّ هو في الآحاد شيئا بعد شيء، ومن هنا أدخل الفقهاء الولد مع أبيه في تعقب الأحباس إذا كان اللفظ على أعقابهم ثم على أعقاب أعقابهم، ثم نزه تعالى نفسه عن مقالتهم في الإشراك، وقرأ الجمهور «يشركون» بالياء من تحت، وقرأ الأعمش وابن وثاب بالتاء من فوق، ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد بسبب المعاصي في قوله ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، واختلف الناس في معنى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في هذه الآية، فقال مجاهد «البر» البلاد البعيدة من البحر، و «البحر» السواحل والمدن التي على ضفة البحر والأنهار الكبار، وقال قتادة «البر» الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري، و «البحر» المدن جمع بحرة.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومنه قول سعد بن عبادة للنبي ﷺ في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول الحديث ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه، ومما يؤيد هذا أن عكرمة قرأ «في البر والبحور»، ورويت عن ابن عباس، وقال مجاهد أيضا: ظهور الفساد في البر قتل أحد ابني آدم لأخيه، وفي البحر أخذ السفن غضبا، وقال بعض العباد الْبَرِّ اللسان والْبَحْرِ القلب، وقال الحسن بن أبي الحسن الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هما المعروفان المشهوران في اللغة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا هو القول الصحيح وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتغلب عدو كافر، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر، قال ابن عباس: الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي ﷺ قد كان الظلم عم الأرض برا وبحرا، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله تعالى، وقوله تعالى: بِما كَسَبَتْ تقديره جزاء ما كسبت، ويحتمل أن تتعلق الباء ب ظَهَرَ أي كسبهم المعاصي في البر والبحر هو نفس الفساد الظاهر، والترجي في «لعل» هو بحسب معتقداتنا وبحسب نظرنا في الأمور، وقرأ عامة القراء والناس «ليذيقهم» بالياء، وقرأ قنبل عن ابن كثير والأعرج وأبو عبد الرحمن السلمي «لنذيقهم» بالنون ومعناهما بين، وقرأ أيضا أبو عبد الرحمن «لتذيقهم» بالتاء من فوق.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤)
هذا تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار فيمن سلف من الأمم وفي سوء عواقبهم بكفرهم وإشراكهم، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه، والمعنى اجعل قصدك ومسعاك للدين أي لطريقه ولأعماله واعتقاداته، والْقَيِّمِ أصله قيوم اجتمعت الواو والياء وسبقت الياء وهي ساكنة فأبدلت الواو ياء وأدغمت
الأولى في الثانية، ثم حذره تعالى من يوم القيامة تحذيرا يعم العالم وإياهم القصد، ولا مَرَدَّ لَهُ معناه ليس فيه رجوع لعمل ولا لرغبة ولا عنه مدخل، ويحتمل أن يريد لا يرده راد حتى لا يقع وهذا ظاهر بحسب اللفظ، ويَصَّدَّعُونَ معناه يتفرقون بعد جمعهم، وهذا هو التصدع والمعنى يتفرقون إلى الجنة وإلى النار، ثم قسم الفريقين بأحكام تلحقهم من أعمال في الدنيا ثم عبر عن «الكفر» ب «عليه» وهي تعطي الثقل والمشقة وعن العمل الصالح باللام التي هي كلام الملك، ويَمْهَدُونَ معناه يوطئون ويهيئون وهي استعارة منقولة من الفرش ونحوها إلى الأحوال والمراتب، وقال مجاهد: هذا التمهيد هو للقبر.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
اللام في قوله لِيَجْزِيَ متعلقة ب يَصَّدَّعُونَ [الروم: ٤٣]، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك أو فعل ذلك لِيَجْزِيَ وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى مَنْ كَفَرَ [الروم: ٤٤] وعَمِلَ صالِحاً [الروم: ٤٤]، وقوله تعالى: لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ليس الحب بمعنى الإرادة ولكنه بمعنى لا يظهر عليهم أمارات رحمته ولا يرضاه لهم دينا ونحو هذا، ثم ذكر تعالى من آياته أشياء يقضي كل عقل بأنها لا مشاركة للأوثان فيها وهو ما في الريح من المنافع وذلك أنها بشرى بالمطر، ويذيق الله بها المطر ويلقح بها الشجر وغير ذلك ويجري بها السفن في البحر ويبتغي الناس بها فضل الله في التجارات في البحر وفي ذرو الأطعمة وغير ذلك، ثم أنس محمدا بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء، وتوعد قريشا بأن ضرب لهم مثل من هلك من الأمم الذين أجرموا وكذبوا الأنبياء، ثم وعد محمدا وأمته النصر إذ أخبر أنه جعله قًّا
عليه تبارك وتعالى، وقًّا
خبرانَ
قدمه اهتماما لأنه موضع فائدة الجملة، وبعض القراء في هذه الآية وقف على قوله قًّا
وجعله من الكلام المتقدم ثم استأنف جملة من قوله لَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
، وهذا قول ضعيف لأنه لم يدر قدما عرضه في نظم الآية.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
«الإثارة» تحريكها من سكونها وتسييرها، وبسطه فِي السَّماءِ هو نشره في الآفاق، و «الكسف»
القطع، وقرأ جمهور القراء «كسفا» بفتح السين، وقرأ ابن عباس «كسفا» بسكون السين وهي قراءة الحسن وأبي جعفر والأعرج وهما بناءان للجمع كما يقال وسدر بسكون الدال وسدر بفتح الدال، وقال مكي: من أسكن السين فمعناه يجعل السحاب قطعة واحدة، والْوَدْقَ الماء يمطر ومنه قول الشاعر: [المتقارب]
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
وخِلالِهِ الفطور الذي بين بعضه وبعض لأنه متخلخل الأجزاء، وقرأ الجمهور «من خلاله» بكسر الخاء وألف بعد اللام جمع خلل كجبل وجبال، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس والضحاك والحسن بخلاف عنه «من خلله» وهم اسم جنس، والضمير في خِلالِهِ يحتمل أن يعود على السحاب ويحتمل أن يعود على الكسف في قراءة من قرأ بسكون السين، وذكر الضمير مراعاة اللفظ لا لمعنى الجمع، كما تقول هذا تمر جيد ومن الشجر الأخضر نارا، ومن قرأ «كسفا» بفتح السين فلا يعيد الضمير إلا على السحاب فقط، وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ تأكيد أفاد سرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار وذلك أن قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ يحتمل الفسحة في الزمان أي من قبل بكثير كالأيام ونحوه فجاء قوله مِنْ قَبْلِهِ بمعنى أن ذلك متصل بالمطر فهو تأكيد مفيد، وقرأ يعقوب وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه «ينزل» مخففة، وقرأت عامة القراء بالتثقيل في الزاي، وقرأ ابن مسعود عليهم «لمبلسين» بسقوط مِنْ قَبْلِهِ والإبلاس الكون في حال سوء مع اليأس من زوالها، ثم عجبه يراد بها جميع الناس من أجل رحمة الله وهي المطر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أثر» بالإفراد، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «آثار» بالجمع، واختلف عن عاصم، وقرأ سلام «إلى إثر» بكسر الهمزة وسكون الثاء، وقوله كَيْفَ يُحْيِ يحتمل أن يكون الضمير الذي في الفعل للأثر، ويحتمل أن يكون لله تعالى وهو أظهر، وقرأت فرقة «كيف تحيى» بالتاء المفتوحة «الأرض» بالرفع، وقرأ الجحدري وابن السميفع وأبو حيوة «تحيي» بتاء مضمومة على أن إسناد الفعل إلى ضمير الرحمة «الأرض» نصبا، قال أبو الفتح: قوله «كيف تحيى» جملة منصوبة الموضع على الحال حملا على المعنى كأنه قال محيية، وهذه الحياة والموت استعارة في القحط والإعشاب، ثم أخبر تعالى على جهة القياس والتنبيه عليه بالبعث والنشور، وقوله عَلى كُلِّ شَيْءٍ عموم.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
ثم أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم في أنه بعيد الاستبشار بالمطر أن بعث الله ريحا فاصفر بها النبات ظلوا يكفرون قلقا منهم وقلة توكل وتسليم لله تعالى، والضمير في «رأوه» للنبات كما قلنا أو للأثر وهو حوة النبات الذي أحييت به الأرض وقال قوم هو للسحاب، وقال قوم هو للريح، وهذا كله ضعيف، واللام في لَئِنْ مؤذنة بمجيء القسم، وفي لَظَلُّوا لام القسم، وقوله «ظلوا» فعل ماض نزله منزلة
المستقبل واستنابه منابه لأن الجزاء هنا لا يكون إلا بفعل مستقبل لكن يستعمل الماضي بدل المستقبل في بعض المواضع توثيقا لوقوعه، وقوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى الآية استعارة للكفار وقد تقدم القول على مثل هذه الآية في سورة النمل، وكلهم قرأ «ولا تسمع» بتاء مضمومة ونصب «الصمّ»، وقرأ ابن كثير وعباس عن أبي عمرو «يسمع» بياء مفتوحة الصمّ رفعا، وقرأ الجمهور «بهادي العمي» بالإضافة، وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهاد» بالتنوين «العمي» نصبا، وقوله إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ معناه إن نسمع إسماعا ينفع ويجدي، وأما سماع الكفرة فغير مجد فاستويا، وقوله تعالى: عَنْ ضَلالَتِهِمْ لما كانت الهداية تتضمن الصرف عديت ب عَنْ كما تتعدى صرفت ومعنى الآية ليس في قدرتك يا محمد ولا عليك أن تهدي، وقرأ ابن أبي عبلة «من ضلالتهم».
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦)
وهذه أيضا عبر بين فيها أن الأوثان لا مدخل لها فيها.
وقرأ جمهور القراء والناس بضم الضاد في «ضعف»، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها وهي قراءة ابن مسعود وأبي رجاء، والضم أصوب، وروي عن ابن عمر أنه قرأ على النبي ﷺ بالفتح فردها عليه بالضم، وقال كثير من اللغويين: ضم الضاد في البدن وفتحها في العقل، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك أنهم ضموا الضاد في الأول والثاني وفتحو «ضعفا»، وقرأ عيسى بن عمر «من ضعف» بضمتين، وهذه الآية إنما يراد بها حال الإنسان، و «الضعف» الأول هو كون الإنسان من ماء مهين، و «القوة» بعد ذلك الشبيبة، وقوة الأسر، و «الضعف» الثاني الهرم والشيخ هذا قول قتادة وغيره، ثم أخبر تعالى عن يوم القيامة أن المجرمين يقسمون لجاجا منهم وتسورا على ما لا علم لهم به أنهم ما لبثوا تحت التراب غير ساعة وهذا إتباع لتحيلهم الفاسد ونظرهم في ذلك الوقت على نحو ما كانوا في الدنيا يتبعون ذلك، ويُؤْفَكُونَ عن الحق أي يصرفون وقيل المعنى ما لبثوا في الدنيا كأنهم استقلوها لما عاينوا من أمر الآخرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يضعفه قوله تعالى: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ إذ لو أراد تقليل الدنيا بالإضافة إلى الآخرة لكان منزعا سديدا وكان قولهم ساعَةٍ تجوزا في القدر والموازنة، ثم أخبر تعالى عن الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ أنهم يقفون في تلك الحال على حق ويعرفون أنه الوعد المتقرر في الدنيا، وقال بعض المفسرين: إنما أراد أوتوا الإيمان والعلم ففي الكلام تقديم وتأخير.
قال الفقيه الإمام القاضي: ولا يحتاج إلى هذا بل ذكر العلم يتضمن الإيمان ولا يصف الله بعلم من لم يعلم كل ما يوجب الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعد ذلك تنبيها عليه وتشريفا لأمره كما قال تعالى: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: ٦٨] فنبه على مكان الإيمان وخصه بالذكر تشريفا.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
هذا إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ولا يعطون عتبى وهي الرضى، ويُسْتَعْتَبُونَ بمعنى يعتبون كما تقال يملك ويستملك، والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى كان يفسد إذا كان المفهوم منه ولا يطلب منهم عتبى.
وقرأ عاصم والأعمش «ينفع» بالياء كما قال تعالى فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: ٢٧٥] وحسن هذا أيضا بالتفرقة التي بين الفعل وما أسند إليه كما قال الشاعر: [الطويل]
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والديار البلاقع
ثم أخبر تعالى عن قسوة قلوبهم وعجرفة طباعهم في أنه ضرب لهم كل مثل وبين عليهم بيان الحق ثم هم مع ذلك الآية والمعجزة يكفرون ويلجون ويعمهون في كفرهم، ويصفون أهل الحق بالإبطال، ثم أخبر تعالى أن هذا إنما هو من طبعه وختمه على قلوب الجهلة الذين قد حتم عليهم الكفر في الأزل، وذهب أبو عبيدة إلى أنه من قولهم طبع السيف أي صدىء أشد صدأ، ثم أمر نبيه بالصبر وقوى نفسه لتحقيق الوعد ونهاه عن الاهتزاز لكلامهم والتحرك واضطراب النفس لأقوالهم إذ هم لا يقين لهم ولا بصيرة، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب «يستحقنك» بحاء غير معجمة وقاف من الاستحقاق، والجمهور على الخاء المعجمة والفاء من الاستخفاف، إلا أن ابن أبي إسحاق ويعقوب سكنا النون من «يستخفنك»، وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان في صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج بأعلى صوته فقرأ هذه الآية: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: ٦٥]، فعلم علي رضي الله عنه مقصده في هذا وتعريضه به فأجابه وهو في الصلاة بهذه الآية:
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
Icon