ﰡ
يذكر بعض المفسرين أن النداء بـ " يا أيها الناس " يخاطب به أهل مكة، والنداء بـ " يا أيها الذين آمنوا " يخاطب به المؤمنين، وأخذوا ذلك من أن أكثر الآيات التي ابتدئت بـ " يا أيها الناس " نزلت بمكة، وأكثر الآيات التي ابتدأت بـ " يا أيها الذين آمنوأ نزلت بالمدينة، ولا شك في أن " يا أيها الذين آمنوا " خاصة في ندائها بأهل الإيمان؛ لأن صلة الموصول تعيّن ذلك. أما " يا أيها الناس " فتخصيصها بأهل مكة تخصيص بغير مخصص، إنما تسري على عمومها، وهو عموم الخطاب لمن يعقلون، وذلك اللفظ وما هو مضمون النداء عام شامل جميع
بيد أن النص الذي نتحدث عنه يثبت أن الذكر والأنثى من طبيعة واحدة، ويثبت في مضمونه الصلة الرحيمة التي تربط الناس جميعا، وما ينبني عليها من تعاطف وتواد وتراحم، والنص الآخر يبين وجوب التعارف الذي هو الطريق للتراحم والتواد، فهنا بيان الغاية، وهنالك بيان طريقها.
نادى الله سبحانه وتعالى الإنسانية، ذلك النداء الخالد ونبههم سبحانه وتعالى إلى الوحدة في أمرين:
أولهما: وحدة الربوبية، فإن ربكم واحد، إذ قال سبحانه وتعالى: (اتقوا ربكم) الذي هو رب الجميع، رب الأبيض والأسود والعربي والأعجمي، والعالم والجاهل، فصلة الجميع به واحدة، وهي صلة الربوبية، وإن هذه الصلة توجب أن يشعر الجميع بأنه لَا فضل لجنس على جنس، ولا للون على لون إلا بمقدار الاتصال الروحي بخالق الخلق، وذلك بالتقوى، فهذه الصلة مقوية للأمر بالتقوى، وأنها مناط التفضيل، وهي سبيل قوة الصلة الرابطة.
والثاني: وحدة التكوين والإنسان، فالكل ينتهي إلى نفس واحدة هي الجنس العام الجامع، مهما يَعْلُ ابن آدم أو ينخفض فإلى هذه النفس ينتمي، وبهذه الأخوة العامة يرتبط.
والأمر بالتقوى في هذا المقام لبيان الصلة التي تربط الإنسان بالرب الذي أنعم بهذا الوجود على كل من في هذا الوجود، وكان ذلك الأمر ممهدا لأمر آخر،
والنفس الواحدة هي آدم أبو الأناسي في هذا الوجود، والمعنى على هذا الكلام يتطابق مع قول النبي - ﷺ - " كلكم لآدم وآدم من تراب " (١) وهذا نظر الأكثرين من المتقدمين، وهو الذي يتلاقى مع قوله بعد ذلك: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً).
وقد ذكر الرازي في مثل هذا المقام أنه قد يراد بنفس واحدة أن البشر جميعا متجانسون متحدون في المنشأ ونفوسهم متشابهة متلاقية، فهم جميعا ينتهون إلى نوع من النفوس واحد، وقد ذكر هذا المعنى في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا...)، فقد نقل عن القفال في تأويل هذه الآية أنه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضرب المثل، والمراد خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية، وارتضى أن يكون هذا أحد التأويلات.
وعلى هذا الكلام يكون المعنى: إن الله تعالى خلق نفسا واحدة تلتقي عندها كل الأنفس متشابهة متشاكلة، وإن ذلك يقتضي التشابك في كل بني الإنسان، ومع التساوي في الخلق يكون التساوي في الحقوق والواجبات.
(وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) الزوج القرين المجانس أو المقابل غير المجانس، وقد قال في ذلك الأصفهاني: " يقال لكل واحد من القرينين
________
(١) جزء من حديث رواه أحمد (١٠٥٥٥)، والترمذي (٤١٢٧) وحسنه، وأبو داود بنحوه (٥١١١) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وإن كثيرا من المفسرين على أن المراد من الزوج حواء، وقد خلقت من آدم، وقد أخذوا من ظواهر آثار وردت عن الصحابة، وعن تفسير بعض التابعين، ومن ظاهر قوله - ﷺ -: " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج " (٢).
وإن كثيرين من المفسرين قالوا إن المراد من جنسها أي من طبيعتها، ومن خواصها، وذلك مثل قوله تعالى:
(وَمِنْ آيَاته أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً...). ومثل قوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً...). وقوله تعالى: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١).
وإذا كانت الزوج من جنس النفس العامة فإنه يسكن إليها ويطمئن عندها كما ذكر في آيات أخرى غير الآية التي هي موضوع كلامنا.
وقد كانت نتيجة ذلك الازدواج النفسي والجسدي، أن كان البشر، ولذلك قال سبحانه: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كثيرًا وَنِسَاءً). والبث معناه النشر والتفريق، ومن ذلك
________
(١) أي في قوله تعالى في سورة البقرة (٣٥): (وَقلْنَا يَا آدَم اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْخكَ الْجَنًةَ).
(٢) أصح ما ورد في هذا الحديث ما جاء في الصحيحين؛ رواه مسلم: الرضاع - الوصية بالنساء (١٤٦٨)، ولفظه: عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا، كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا "، ورواه البخاري: النكاح - المداراة مع النساء (٥١٨٤).
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) تساءلون أصلها تتساءلون فأدغمت التاء في السين، وقرئ تساءلون بطرح إحدى التاءين، ومعناها يوثق بعضكم مطالبه من أخيه ومسألته له بالله تعالى أي يسأل بعضكم مزكيا مسألته بذكر الله تعالى، وبذكر الأرحام الرابطة بينكم، ووشائج القربى.
والأمر بالتقوى تكرر لتربية المهابة في النفس، ولتوكيد الطلب، ولأن مقام التقوى في الثاني غير مقام التقوى في الأول، فمقام التقوى في الأول هو مقام التقوى التي تتجلى في شكر الرب على ما أنعم، وبقيام الواجب نحو الخلق للصلة الجامعة الوثيقة، فهي تقوى الربوبية والإنعام، ومقام التقوى في الثاني تقوى الألوهية، ولذلك ذكر لفظ الجلالة الدالة على كل معاني الألوهية، فهي تقوى العابد الخائف الراجي رحمته، والأولى تقوى الشاكر المحس بجلائل الإنعام.
والأرحام قرئت بفتح الميم (١)، ويكون المعنى اتقوا الله واتقوا الأرحام، ومعنى اتقاء الأرحام ألا يقطعوها، بأن يجعلوا لها وقاية من المودة الواصلة،
________
(١) قرأها بالجر حمزة، وقرأ الباقون بالنصب. [غاية الاختصار ج ٢، ص ٤٥٩].
ويصح أن يكون المعنى اتقوا الله الذي تتساءلون به وبالأرحام، وتكون الواو واو المعية، وتتلاقى هذه مع قراءة الكسر (١)، وقراءة الكسر قد تتعارض مع قواعد النحاة الذين قد يقولون إن العطف لَا يكون على ضمير موصول مجرور، ولكن قراءات القرآن المتواترة فوق قواعد النحاة، وهي أصدق في الفصحى.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) هذا ختام للآية الكريمة فيه حث على المبالغة في التقوى ورعاية الرحم، والصلات الإنسانية التي تربط بين الناس بعضهم للوحدة الإنسانية الشاملة، وكان الحث على التقوى لإشعارهم جميعا بقوة رقابة الله سبحانه وتعالى. وقد ذكر العلي القدير رقابته مؤكدة بأوثق توكيد، فأكدها بـ " إنَّ " وبتكرار لفظ الجلالة الذي يربي في نفس المؤمن كل معاني العبودية، وبالتعبير بـ " كان " الدالة على الدوام والاستمرار، وبذكر الفوقية في قوله تعالى (عَلَيْكمْ) وهي دالة على معنى الاطلاع الدائم مع السيطرة والقهر، وأخيرا بصفة المبالغة إذ قال. (رَقِيبًا) وإن الله يؤكد صلة الأرحام بهذا وباقترانها به في الذكر وباقترانها به عند السؤال باسم الله تعالى، ويقول الزمخشري: " وقد آذن عز وجل إذ قرن الأرحام باسمه - أن صلتها منه بمكان كما قال تعالى: (... أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...)، وعن الحسين: إذا سألك بالله فأعطه، وإذا سألك بالرحم فأعطه ".
* * *
________
(١) هي قراءة حمزة كما سبق بيانه.
* * *
أوجب سبحانه وتعالى الرحمة العامة في الآية السابقة وأخصها ما كان في الأسرة الواحدة، وقد ابتدأ في هذا بأحق الناس بالرحمة العاطفة، والمودة الواصلة، وهم الذين نزلوا إلى هذا الوجود من غير حامٍ غير الله تعالى يحميهم، ولا قلب يحنو عليهم حنو الوالد الشفيق، وأولئك هم اليتامى، واليتم معناه: (الانفراد) واليتيم هو الصغير الذي مات أبوه، وقد حث الله تعالى على إكرام اليتامى في آيات كثيرة، وأحاديث نبوية
فإذا انقطعت تلك العاطفة في الصغر نفر ونظر إلى الجماعة كلها نظرة العدو إلى عدوّه، فيكون من هؤلاء الذين فقدوا عطف الأبوة ولم يكن ما يعوضها - الشذاذ وقطاع الطرق، وبعبارة عامة من ليس عندهم ضمائر، ولا نفوس لوَّامة.
وقوله تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) فيه أمر واضح بالرعاية من ناحية المال، فلا يمنعون حقهم المالي، والأمر بالإيتاء أمر لعموم الجماعة الإسلامية بأن تتضافر في تمكين اليتيم من أن يصل إليه ماله، فلا يأكله الورثة وَيُضيعون حقه، وعلى ذلك يكون معنى الإيتاء تخصيص نصيب لليتامى كاملا غير منقوص، فتحفظ لهم حصتهم في أبيهم أو في مورثهم، ويحفظ لهم نصيبهم في كل غلة لأموالهم، ويكون وصف اليتامى على حقيقته؛ لأن ذلك وهم صغار، وفسر بعض العلماء الإيتاء بالإعطاء لهم إذا بلغوا رشدهم، ويكون التعبير عنهم باليتامى باعتبار ما كان.
وقوله تعالى: (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) معناه: لَا تجعلوا لهم خبيث المال بدل الطيب، ويكون الطيب معناه الجيد، والخبيث معناه الرديء، فعلى هذا يكون المعنى الجملي: لَا تجعلوا رديء المال لهم بدل الجيد، فإذا كانت التركة شاءً فلا تجعلوا لهم الهزيلة، ولكم السمينة، وإذا كانت نقدا فلا تجعلوا لهم الزيوف، وتجعلوا لأنفسكم الجيد، ومعنى التَّبدل، جعل شيء بدل شيء أي يجعلون الرديء بدل الجيد، والباء في مادة التبدل يجوز أن تدخل على المتروك، ويجوز أن تدخل على المأخوذ، وهي هنا على المتروك، لأنه يترك عنهم الجيد، ويؤخذ لهم الرديء وفسر بعضهم الخبيث بالحرام، والطيب بالحلال، ويكون المعنى: لَا تجعلوا الحرام عليكم بدلا عن الحلال، أي لَا تأخذوا الحرام من مالهم وتتركوا الحلال الطيب من أموالكم، وبهذا فسر الزمخشري.
(إِنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا) الضمير يعود إلى النهي عن أكل مال اليتيم بأي طريق كان الأكل، ومعنى " حوبا كبيرا ": إثما كبيرا، فالحوب معناه الإثم، وفلان يتحوب أي يتأثم، والحوباء النفس المرتكبة للإثم، وإن الإثم في هذا كان كبيرا؛ لأنه اعتداء على ضعيف، والاعتداء على الضعيف أكبر الإثم، ولأنه خيانة للأمانة، ولأنه تضييع لنفس بشرية وهي نفس اليتيم؛ لأنه إذا كان يؤكل ماله فمم يأكل؛ ولأن ذلك ينشئ اليتيم على النفرة من المجتمع، وفي ذلك شر مستطير، (ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا).
* * *
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (٤) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٥)
* * *
________
(١) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - ﷺ - أنه كان يقول على المنبر: " أُحَرِّجُ مَالَ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ ". رواه الحاكم في المستدرك (٧٢٤٥): ج ٤، ص ١٤٣، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
معنى الإقساط العدل، ومن ذلك قوله تعالى: (... إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وقوله تعالى: (وتقسطوا إليهم) أي تقيموا العدل بيسر ليصل إليهم من غير مجهود، فمن النقص في العدل ألا يصل العدل إلى صاحبه إلا بمشقة وجهد.
ومعنى " خفتم ": ظننتم، ومعنى " ما طاب لكم ": ما حل. وقد تفسر بمعنى ما تستحسنونه من النساء لدين وخلق ونسب وجمال أو لواحد من هذا، و " ما " هنا في موضع العاقل، وعبر بـ " ما "، وهي في أصل وضعها لغير العاقل، إما لأنه أريد الصفات؛ لأن طاب تدل على أن الوصف أساس الاختيار، وإما لأن جماعة الإناث تعامل في نسق القول معاملة غير العاقلين كما قرر الزمخشري، وإما لأنه عند التعميم يستعمل (ما) في موضع (مَن)، و (مَن) في موضع (ما) كقوله تعالى: (... فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ...)، وذلك هو الذي نختاره. والنكاح هنا معناه العقد، وكلمة النكاح في القرآن الكريم لم تستعمل إلا في موضع العقد، لَا الوطء.
وهنا شرط وجواب، والشرط هو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطوا فِي الْيَتَامَى) والجواب هو (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)، وقد تكلم
أولها: أن الرجل تكون في ولايته يتيمة، فيخشى ألا يتزوجها خشية ظلمها، أو يخشى أن يطلبها من وليها فيكون منه الظلم لضعفها وعدم وجود حام لها، فقال الله تعالى ما معناه إن رغبتم في الزواج من اليتيمات، وخشيتم من تحقيق هذه الرغبة ألا تعدلوا في اليتامى فلا تحققوا هذه الرغبة، وأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وتكون إباحة التعدد وتقييده قد جاءت عرضا، لا بالقصد الأصلي في البيان، وقد روى المفسرون ذلك عن عائشة رضى الله عنها. وثانيها: أن المعنى: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فخافوا أيضا ألا تقسطوا في النساء بتزوج أكثر من أربع، أو في دائرة الأربع ولا تعدلوا، أي أنه إذا كان قد تحقق منكم هذا الخوف بالنسبة لليتامى فخافوا بالنسبة للنساء، فلا تتزوجوا أكثر من أربع، وعلى هذا التخريج يكون النص قد سيق لتقدير التعدد لَا لإباحته، وقد قال هذا بعض التابعين.
وثالثها: وقد ذكره الزمخشري، وهو أن يكون المعنى: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فخافوا الزنا أيضا، وإذا خفتم الزنا فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، والربط بين الزنا وظلم اليتامى أن كليهما فيه إضعاف للنسل، فالزنا إضعاف له بإخراج مولود ليس له ولي أصلا، واليتم فقد الولي، فكلاهما فاقد للنصير، ومن حماية الإنسان من الزنا أن ينكح ما طاب له مثنى وثلاث ورباع، ويكون في هذا التخريج بيان التعدد المباح، وإشارة إلى بعض حكمته.
ورابعها: وهو ما اختاره ابن جرير الطبري، أن المعنى إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فخافوا أيضا ألا تقسطوا في النساء إذا تخلفت العدالة عند التعدد فلا تعددوا، وإذا تخلفت العدالة في الواحدة فمما ملكت أيمانكم، فالآية سيقت للعدالة في التعدد وعدم التعدد، وهو قريب من الثاني، فإن كليهما لمنع ظلم
وعلى كليهما يكون التعدد والعدالة قد سيق الكلام لهما، ولم يكن عرضا، وإنا نختار ذلك، وسياق القول يدل عليه، وذلك أن الكلام في اليتامى قد اختلط بالكلام في النساء، وذلك لأن كليهما ضعيف، وقد كانت حقوق المرأة ضائعة مأكولة كما كانت حقوق اليتيم ضائعة مأكولة، والمرأة في عهد نزول القرآن كانت أسيرة في بيت أبيها وبيت زوجها فأوصى الله برعايتها كما أوصى برعاية اليتيم، ولذلك قيد التعدد بالعدل، وقيد بالقدرة على الإنفاق كما سنبين، وذلك لكيلا يقع ظلم على المرأة.
ولفظ " مثنى " معدول به عن اثنين، اثنين، وثلات معدول به عن ثلاث ثلاث، ورباع معدول به عن أربع أربع، ومعنى جاء الجند مثنى أي جاءوا اثنين اثنين، وجاءوا ثلاث أي ثلاثة ثلاثة، ورباع أي أربعة أربعة، ومعنى الآية على هذا أن لجماعة العاقلين أن يتزوجوا معددين جامعين اثنين أو جامعين ثلاثا، أو جامعين أربعا، والخطاب في قوله تعالى: (فَانكِحُوا) لجماعة المسلمين، أي كونوا أيها المسلمون معددين اثنين أو ثلاثا إلى آخره.
والعطف على نية تكرار العامل، أي انكحوا جامعين اثنين أو انكحوا جامعين ثلاثا أو انكحوا جامعين أربعا، وبهذا النص يستفاد أن الإباحة مقصورة على أربع، وقد ثبت في السنة أن بعض الذين أسلَموا كان معهم في عصمتهم أكثر من أربع فأمرهم النبي - ﷺ - أن يقتصروا على أربع، ويطلقوا الزائد عنهن (١).
وقد قيد التعدد بقيدين أحدهما القدرة على العدالة، والثاني القدرة على الإنفاق، ولذلك قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا).
________
(١) عن سالم، عن أبيه قال: أسلم غيلان بن سلمة الثقفي وعنده عشر نسوة فأمره النبي - ﷺ - أن يأخذ منهن أربعًا. رواه الحاكم في المستدرك (٢٨٢٩) ج ٢، ص ٢٠٩.
وقد وفق العلماء بين هذه الآية التي تطالب بالعدل، وبين الآية التي تنفي إمكانه، وهو قوله تعالى: (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا
________
(١) رواه البخاري: النكاج - من لم يستطع الباءة فليصم (٥٠٦٦).
(٢) روى أبو داود: النكاح - القسم بين الزوجات (٢١٣٤) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: " اللهُمَ هَذَا قَسْمِي فيمَا أمْلكُ فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أمْلِكُ " قَالَ أبُو دَاوُد: يَعْنِي الْقَلْبَ.
وإنه واضح أنه إذا لم يستطع العدل الظاهري وجب الاقتصار على واحدة، وإن لم يستطع العدل معها اكتفى بالدخول بملك اليمين، أي بالدخول بالجارية التي يملكها، وقد زال الرق، فزالت معه تلك الرخصة، فمن لم يستطع العدالة مع زوجه عليه أن يروض نفسه بالصوم، أو يروض نفسه على العدالة.
وقد قيد التعدد بقيد ثان، وهو القدرة على الإنفاق على النسوة اللائي يتزوجهن، وعلى من سيرزقهم الله منهن، وقد أشار القرآن إلى وجوب مراعاة ذلك، فقد قال تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولوا) أي إن هذا التقييد بهذا العدد المحدود، مع قيد العدالة، ومنها القدرة على الإنفاق، أقرب إلى ألا تعولوا، وعال يعول معناها مال، ومنه عال الميزان أي مال، وفسرها بعض العلماء بمعنى ذلك أدنى ألا تجوروا، وروى ذلك التفسير عن عائشة - رضي الله عنها، ولكن فسرها الإمام الشافعي بألا يكثر عيالكم، وهذا التفسير يؤدي إلى معنى جديد، لم يفهم مما سبق، وقد رجح ذلك الزمخشري بقوله: " والذي يحكى عن الشافعي أنه فسر ألَّا تعولوا: ألَّا تكثر عيالكم فوجهه أن يجعل من قولك عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب، وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورءوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وألا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعُولوا، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " لا تظن بكلمة خرجت من فيِّ أخيك سوءا وأنت تجد له محملا "، وكفى بكتابنا " شافي العي، من كلام الشافعي " شاهدا بأنه أعلى كعبا، وأطول باعًا في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرقا وأساليب، فسلك الشافعي في هذه الكلمة طريق الكنايات ".
والتعدد لَا بد منه عند استحكام الشهوات؛ لأنه إن لم يعدد اتجه إلى الحرام، والحلال على أية صورة خير من الحرام، واتخاذ الحلائل خير من اتخاذ الخلائل، والتعدد قد يكون علاجا اجتماعيا، عندما تأكل الحرب شباب أمة من الأمم ويكون عدد النساء الصالحات للزواج أكثر من الشباب بأضعاف مضاعفة، ولا سبيل لإكثار النسل إلا بالتعدد، وهو في هذه الحال منع للمرأة من الابتذال ووقوعها في البغاء، وإن التعدد في هذه الحال خير للمرأة بلا ريب، فليس التعدد شرا على المرأة في مجموع عددها، وقد تكون الزوجة في حال تستوجب أن يتزوج الزوج بأخرى لمرضها أو يطلقها، والخير لها حينئذ في بقاء الزوجية. ذلك شرع الله. وقد منع الأوربيون التعدد الشرعي، ففتح الناس باب التعدد الحرام، وفسدت الأسرة هنالك وانحلت، والأسرة الإسلامية ما زالت أقوى الأسر استمساكا، ولا تزال كذلك ما استمرت مستمسكة بدينها، معرضة عن الدعوات التي تريد إبعادها عنه.
* * *
________
(١) أي في الزواج الأول، وبعبارة أخرى: في الزواج بواحدة.
* * *
هذا الكلام في بيان العدالة مع النساء في المعاملة، فلا يصح أن يستهان بحقوقهن التي ينشئها الزواج، وأولها المهر، فالصدقة هنا هي المهر، وسمى صدقة لأن تقديمه يدل على صدق النية، والإخلاص في طلب الزوجة، فمن أخلص في طلب يد امرأة قدم لها ما يليق بمثلها تكريما لمعنى الزوجية، وتشريفا لتلك العلاقة، وقال تعالى: (نِحْلَةً) ومعناها عطاء بطيب نفس، وهي " فِعْلَة " من نَحَلَهُ ينحله بمعنى أعطاه هبة صادق النية، وفسرها بعض العلماء بمعنى فريضة واجبة، وقد فسرها بذلك أبو عبيدة، وقال الزجاج في آتوهن صدقاتهن نحلة (تدينا) أي أن الدين أوجب ذلك، والخطاب لجماعة المؤمنين يوجب أداء المهور صادقي النية طيبي النفوس متدينين بهذا العطاء.
(فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) الحياة الزوجية لَا تقوم فقط على التكليف الواجب، بل تقوم على المودة الرابطة والتسامح، وقد يجهد الرجل الهر كله، فيقتضي حسن العشرة أن تترك بعض مهرها طيبة النفس، وليست المهور كسائر الديون، إنما هو دين فيه معنى الهدية، ولذلك فتح الشارع الباب لمثل هذه المعاني. ولذلك قال تعالى: (... وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، ومعنى طابت نفسها رضيت من غير تورط، ولا تغرير ولا ضغط ولا إرهاق، وطيبة النفس بالعطاء أرق من الرضا به؛ لأن الرضا قد يتصور مع التورط أما طيبة النفس فلا تتصور إلا بالسماح، بل من غير طلب بالتصريح أو بالإشارة، ومعنى هنيئا، أي لَا ألم في أخذه، ومعنى مريئا حسن العاقبة، وأكل المال أخذه، فلا يراد بالأكل هنا حقيقته، بل يراد الأخذ الذي يؤدي إليه.
وقد كان يحدث أن بعض الناس يرهقون زوجاتهم ليتركوا بعض المهر أو كله، فكان الفقهاء حريصين على أن تتوافر الحرية كاملة في العطاء، ولذا كتب عمر - رضي الله عنه - إلى بعض قضاته: " إن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما
* * *
________
(١) أي رجعت فيما أبرأت من مهرها.
* * *
السفهاء جمع سفيه، والسفه اضطراب في الرأي والفكر، وأصله من اضطراب المحسوسات. ويقول الراغب الأصفهاني في مفرداته: " السفه صفة في البدن، ومنه قيل زمان سفيه كثير الاضطراب، وثوب سفيه رديء النسج، واستعمل السفه في صفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدنيوية ".
والسفهاء هنا هم الذين لَا يحسنون تدبير الأموال إما لصغر سنهم، وإما لنقص عقولهم، وإما لسوء تدبيرهم وتبذيرهم، والقيام هنا هو الولاية المالية والسلطان، وعبر عن الولاية بالقيام، لأن القيام هو العماد والسناد في اللغة، والولاية المالية المقصود منها أن تكون عمادا وسندا للقاصر المولى عليه، وعلى هذا التفسير يكون معنى السفهاء شاملا لكل العاجزين عن تدبير المال أيا كان سبب العجز. ويكون معنى النص الكريم: لَا تعطوا المال لِلَّذين لَا يحسنون القيام عليه لصغر أو نقص عقل، أو فساد رأى ثابت، والمراد مال هؤلاء، ولكن أضيف المال إلى الأولياء ليحثهم على حفظه وصيانته كأنه مالهم، وقد يكون الخطاب لجميع الأمة بالدعوة إلى المحافظة على أموال العاجزين؛ لأنه من حال الأمة المتضافرة المتعاونة المتكافلة، ورجح الزمخشري أنه خطاب للأولياء، وقال في ذلك: " والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس
(وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) معنى الرزق الإنفاق المستمر المنظم على الشخص في طعامه وكسوته، فالكسوة بل المسكن داخلان في ارزقوهم وإنما خص الكسوة بالذكر؛ لأنها كثيرا ما تهمل، وللحث على المبالغة في تكريمهم، ومن مظاهر التكريم الكسوة الحسنة، وقال ارزقوهم فيها واكسوهم، ولمْ يقل ارزقوهم منها للإشارة إلى أن الرزق لَا يقتطع منها، بل يتجر فيها ويعمل فيها ليكون الرزق فيها من الكسب لَا من أصلها، ولهذا قال النبي - ﷺ -: " اتَّجِروا في مال اليتيم حتى لَا تأكله الصدقة " (١) وقد قال الزمخشري في تفسير ارزقوهم فيها: " اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لَا من صلب المال " وقد أمر الله تعالى بألا يرهق المحجور عليه، ولا يستذلوا ولا يقهروا؛ ولذا قال: (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْروفًا) أي قولا غير منكر وغير مسترذل، وغير قاهر وغير مضعف لنفوسهم، ولا مذل لهم، وذلك لكيلا يذهب الحجر بعزة نفوسهم، وليشعروا أنه في مصلحتهم، ولكيلا تضعف شخصيتهم، ويمردوا مع الذلة صغارا؛ فيعادوا الناس كبارا، والله هو الولي وهو نعم المولى ونعم النصير.
* * *
________
(١) روى الترمذي: الزكاة - زكاة مال اليتيم (٦٤١) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيه عَنْ جَده أن النَّبِي - ﷺ - خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " ألا مَن وَلِيَ؛ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَجِرْ فِيهِ وَلا يَتْرُكْهُ حَتَى تأكُلَهُ الصدَقَةُ ".
* * *
قلنا إن الآيات الكريمات من أول السورة في بيان العلاقات الإنسانية، وقد نظم سبحانه وتعالى العلاقات بين بني الإنسان، وعني ببيان حقوق الضعفاء، وهم اليتامى والنساء، فقد كانت المرأة في الماضي مظنة أن تؤكل حقوقها وتهضم، واليتيم مقهور إلا إذا مَنَّ الله تعالى بكالئ من البشر يحوطه بعنايته، وفي هذه الآيات التالية يبين سبحانه معاملة اليتيم حتى يبلغ، وحقه في الميراث، وكيف تجب حياطته والعناية به وبماله، ولا يدفع إليه ماله إلا إذا رشد.
وإن نهاية اليتيم ببلوغ النكاح، أي بوجود المظاهر التي تدل على الرجولة في الغلام، والتي تدل على مبلغ بلوغ النساء في الفتاة، وإن أقصى مدة البلوغ ذلك المبلغ اختلف الفقهاء فيها، فالجمهور على أن البلوغ بالسن وهو أقصى غاية: لظهور أمارات النكاح ببلوغ خمس عشرة، وأبو حنيفة على أنه سبع عشرة بالنسبة للفتاة وثماني عشرة سنة بالنسبة للصبي... وقوله تعالى: (بَلَغُوا النِّكَاح) كناية واضحة عن ظهور أمارات الرجولة الكاملة، وأمارات الأنوثة؛ لأن الاستعداد للزواج هو كذلك، و " حتى " هنا للغاية، وهي داخلة على الجملة، فهي تبين نهاية الصغر، والجملة التي دخلت عليها ظرفية في معنى الشرط.
ولا يدفع المال بمجرد البلوغ، بل لَا بد من الرشد، ولذلك قال تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَكُلُوهَا إِسْرَافا وَبِدَارًا أَن يَكْبَروا) آنس معناها أبصر، ولذلك قال تعالى: (... آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا...)،
وقد نهى الله الأوصياء عن أن يأكلوا مال اليتامى، فقال: (وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا) أي لَا تأكلوا في مدة وصايتكم أموال اليتامى مسرفين في الأكل، أو مبادرين بالأخذ خشية أن يكبروا، فالإسراف والبدار مصدران وقعا في موقع الحال، وهما في معنى الوصف، وليس المراد أن لهم أن يأكلوا غير مسرفين ولا مبادرين، بل إن ذلك بيان لأشنع الأحوال التي يقع فيها الأوصياء، وهي أن يأكلوا أموال اليتامى بإسراف مبادرين إلى الأكل خشية أن يكبروا فتؤخذ منهم تلك الأموال وتئول إلى أصحابها.
وقد بين سبحانه جواز الأكل من مال اليتيم عند الضرورة فقال: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قسمت الآية الأوصياء إلى قسمين: غني يقوم برعاية اليتيم من غير أجر حسبة لله تعالى، وقال عنه: (فَلْيَسْتَعْفِفتْ) ومعناها ليُعِفَّ نفسه، وقال الزمخشري: إن الاستعفاف أبلغ
والقسم الثاني: فقير أذنه الله تعالى بأن يأكل من مال الصغير بالمعروف أي بالقدر الذي لَا يستنكر، فلا يسرف في الأخذ، وقد قال رجل للنبي - ﷺ -: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم، فقال له: " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل " (١) أي جامع مدخر تتجاوز الحاجة، وقد روي أن عمر بن الخطاب شبه الوالي على المسلمين بالوصي على اليتيم، قال: (ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت).
ونرى من هذا أن الآية تشير إلى أنه لَا تفرض أجرة للغني قط، أما الفقير فيأكل بالمعروف، ولا يكون ذلك أجرة لأنه ممنوع من التأثل والادخار " وذلك لأن اليتيم رعايته فرض كفاية على المسلمين ليخرج أليفا مألوفا، ولا يخرج منابذا الجماعة، شرا عليها.
وجمهور الفقهاء قد قرروا جواز فرض أجرة حتى للغني خشية أن يحجم الناس عن ولاية أمر اليتيم، والله سبحانه يتولاه برعايته، ويحفظه بكلاءته.
(فَإِذَا دَفَعْثمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَفمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكفَى بِاللَّهِ حَسِيب) هذا بيان ما يجب القيام به عند انتهاء الوصاية عليه، وهو أن يدفع إليه ماله كاملا، وللاحتياط من الخصومات والمنازعات يُشْهِد على دفعه المال، والشهادة في هذه الحال حجة لازمة ملزمة للمحجور عليه الذي انتهت الوصاية عليه، فهذا إرشاد
________
(١) رواه أحمد: الوصايا: مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (٦٧٢٦) ولفظه: عَنْ عَمْرُو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ، وَلِي يَتِيمٌ؟ فَقَالَ (٤): " كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ " أَوْ قَالَ: " وَلَا تَفْدِي مَالَكَ بِمَالِهِ " "، والنسائي: الوصايا - ما للوصى من مال اليتيم (٣٦٠٨).
وإنه في هذا الحساب يكتفي أبو حنيفة بيمينه إذا كان هناك خلاف في شأنها؛ لأنه أمين لم تعرف خيانته، إذ لو عرفت لعزل، والأمين يصدق باليمين إذا خولف، والمالكية والشافعية والحنابلة لَا يُقْبل الحساب عندهم إلا بالإقرار من القاصر، أو البينة الكاملة، وهي رجلان أو رجل وامرأتان، وإن حساب الناس قد يغادر الكثير، والأمر في ذلك إلى الضمير الديني، والقلب المخلص، ولذلك كان وراء حساب الناس حساب الله الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولذا قال سبحانه: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) والحسيب هو المحاسب المراقب المشاهد الدقيق الحساب الذي لَا يترك شيئا، وكفى أن يكون هذا الحساب، وكأن المعنى: حاسبوا أنفسكم فقدموا الحساب عن مال اليتيم صادقا؛ فإنكم إن أفلتم من حساب الدنيا فلن تفلتوا أبدا من حساب الله المحيط الدقيق، وإن استطعتم الإخفاء والكتمان والتحايل على الناس، فلن تستطيعوا ذلك عند الله تعالى.
* * *
* * *
هذه قاعدة عامة لأصل التوريث في الإسلام، وهي قاعدة أن الرجال لا يختصون بالميراث، بل للنساء معهم حظ مقسوم، ونصيب مفروض، سواء أكان قليلا أم كان كثيرا، وهذا إبطال لما كان يقع في الجاهلية من حرمان النساء من الميراث وقصره على الرجال. وذكر في هذا الموضع عند الكلام في شئون اليتامى؛ لأن الظلم عليهم كما يقع في أموالهم الثابتة، قد يقع في أموالهم التي تئول إليهم من مُوَرثيهم، فهذا النص أفاد دفع الظلم عن ضعيفين هما المرأة واليتيم، أفاد دفع الظلم عن المرأة بالنص، وأفاد دفع الظلم عن اليتيم بالإشارة، وسيصرح القرآن
وقد ذكر سبحانه الحق مرتين، فذكره أولا للرجال فقال: (للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ) ثم ذكره ثانيا للنساء فقال: (وَلِلنِّسَاءِ) وذلك ليؤكد حقهم، وليبين أنه حق مستقل عن حق الرجل، ثبت لها استقلالا بالقرابة، كما ثبت له استقلالا بالقرابة، حتى لَا يتوهم أحد أن حقها تابع لحقه بأي نوع من أنواع التبعية، ثم أكد سبحانه الحق بقوله:
(مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) هذا تأكيد لحق النساء في التركة، وقد أكده مرتين - أولاهما - أنه يجب في كل تركة قليلة أو كثيرة فليس حقها تسامحا يعطى، ولكنه حق ثابت، لَا يُقَدم حق للرجل، ويؤخر حق المرأة، بل يثبتان معا في القليل والكثير، ولا تسامح في القليل - ثانيهما قوله: (نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) وهي منصوبة على الاختصاص، والاختصاص يفيد العناية أي قدرا عناه الله تعالى وقصده (مَّفْروضًا) أي مقطوعا لَا سبيل إلى الهوادة فيه، والاكتفاء ببعضه نزرا يسيرا، أو مقدارا كبيرا، فلا بد من إعطائه كاملا غير منقوص.
* * *
________
(١) أورده السيوطي في الدر المنثور ج ٢، ص ٤٣٧ وقال: أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية لَا يورثون البنات، ولا الصغار الذكور حتى يدركوا.
* * *
هذا النص الكريم ورد في الأقارب الذين لَا ميراث لهم كما قال أكثر المفسرين، ولكن القارئ للنص يرى أنه أوسع شمولا؛ لأنه يشمل المساكين واليتامى بإطلاق، وإن لم يكونوا أولي قربى، والمساكين هم الفقراء الذين أسكنتهم الحاجة
وقال بعض التابعين: إن ذلك واجب، وهو للقرابة الفقيرة واليتامى والمساكين في التركات، فهو ثابت كثبوت حق الورثة، لَا يزيد أحدهما على الآخر، وعدم التقدير فيه ليس إجمالا، بل ترك الأمر فيه إلى الورثة، وإلى القاضي الذي يقوم على تنفيذ التركات، وقد ادعى بعض التابعين نسخ الوجوب في الآية فرد قوله سعيد بن جبير، فقال: " إن ناسا يقولون نسخت، والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون به الناس ".
وإن الذين قرروا أن الأمر للوجوب قصروا العطاء على (النقود) وما يشبهها كالقمح ونحوه دون العقار، وقد روي أن الحسن والنخعي قالا: " أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات واليتامى والمساكين من العين (أي الذهب والفضة " فإذا قسم الذهب والفضة وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق - قالوا لهم قولا معروفا.
وقد قرر من الفقهاء وجوب العطاء - الظاهرية، فقالوا يجب إعطاء هؤلاء من التركة مقدارا يتناسب مع حال الورثة وجال هؤلاء ومقدار التركة، ويقدره القضاء.
________
(١) رَضَخَ له من ماله يَرْضَخُ رَضْخا: أعطاه. ؛ الرَّضْخُ: العطية القليلة. [لسان العرب - رضخ].
* * *
* * *
واضح أن هذا النص وارد في اليتامى، ويحتمل أن يكون المراد الحث على إعطاء اليتامى غير الوارثين مقدارا يعين على إصلاحهم، ويكون تخصيصهم بالذكر للحث على إكرام اليتيم، وذلك سنن القرآن الكريم دائما، ويحتمل وهو الراجح أن يكون الكلام في شأن نصيب اليتامى في التركات، ويكون المخاطبون غير المخاطبين فيما مضى أو هم، ولكن لعمل آخر وهو المحافظة على حق اليتيم في الميراث فلا يضيع، وقد حث سبحانه على المحافظة على حق اليتيم بأبلغ تعبير، فقال ما معناه: على الذين يتحكمون في مال اليتيم فَيُطَفِّفُونَه أو تكون عندهم هذه النية أن يخافوا على أنفسهم، ويخشوا أن يكون لهم من بعدهم ذرية ضعاف أي أولاد لَا حول لهم ولا طول، ويكونوا يتامى كهؤلاء الذين يتحكمون فيهم، وإذا كانوا كذلك، فليتقوا الله في مال اليتيم ولا ينقصوه ولا يضيعوا له حقا؛ فإن القصاص لسيكون في أولادهم، وقد جعل الله تعالى من شعورهم بالحنان على ذرياتهم باعثا لهم على الحنان على أيتامهم، وخير الناس من يجعل من شعوره بالمحافظة على العزيز عنده شعورا مثله لمن يكونون في مثل أمره.
وقد فسر بعضهم القول السديد هنا بما يقارن القول المعروف، ونحن نرى أن القول السديد هو القول المسدد نحو الحق المصيب للهدف، وذلك بأن يقول القول لا تطييبا لليتامى فقط، بل يقوله للمحافظة على حقوقهم، فإن رأى من المقتسمين رغبة في نقصهم سدد القول وقال الحق ومنع الظلم حتى لَا يؤكل نصيب اليتيم في التركة، أو يضيع حقه في أي تصرف من التصرفات.
* * *
* * *
إن اليتامى مظنة أن يبخسوا في الميراث، فأكل مالهم هنا ظلما هو بخسهم حظهم في الميراث، أو أكل الأوصياء أموالهم والأخذ من مال اليتيم سماه الله تعالى أكلا لما فيه من معنى الأخذ وأن يقصد به تنمية ماله كما ينمي جسمه بالأكل، ولكنها تنمية آثمة مالها البوار " ومن نبت لحمه من حرام فالنار أولى به " (١) وقال سبحانه (ظُلْمًا) لكمال التشنيع على الأكل، إذ هم يظلمون ضعيفا لا يقوى على الانتصاف منهم، وقد ذكر سبحانه إثم ذلك الأكل بقوله: (إِنَّمَا يَأْكلُونَ فِى بُطُونِهِمْ) وهذا تصوير لضرر الأكل عليهم؛ لأنه يكون أكلهم كمن يأكل النار ويضعها في بطنه أي يملأ بطنه بها فهو في ألم دائم حتى يهلك، وكذلك دائما من يأكلون أموال اليتامى لَا يأكلون أكلا هنيئا ولا مريئا، بل هم في وسواس دائم حتى يقضى الله عليهم، وقد رأينا بيوتا خربت لأنها أكلت مال اليتيم. وهذا عقابهم في حاضرهم، أما العقاب الذي ينتظرهم في الآخرة فقال: (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) أي ستوقد بهم نار شديدة الأوار، يستمرون في بلاء شديد منها. اللهم ارزقنا رزقا حسنا، وجنبنا ما حرمت، وأقنعنا بالحلال الطيب، إنك سميع الدعاء.
* * *
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ
________
(١) جاء في كشف الخفا (١٩٧٣): " كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ". رواه البيهقي وأبو نعيم عن أبي بكر، قال المناوى: وسنده ضعيف، والمشهور على الألسنة: " كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به ".
* * *
إن الميراث قد تولَّى القرآن بيان أكثر أحكامه، ولم يُفصِّل أحكاما كما فصّل
أحكام الميراث، وقد قال - ﷺ -: " العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة " (١) وقد عده نصف العلم، وهذا العدد دليل على مقدار وجوب العناية به، فقد قال - ﷺ -: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنه نصف العلم، وهو أول شيء ينسى، وأول شيء ينتزع من أمتي " (٢).
والميراث هو وصية الله تعالى بتوزيع التركات على مستحقيها، فإنه إذا كان للعبد وصايا في أمواله من بعد وفاته، فالميراث هو وصيته سبحانه وتعالى ووصية الله تعالى أولى بالإيجاب وأحق بالتنفيذ. ولكي تكون وصية الله تعالى لها مكانتها فإنه قد جعل لها الثلثين، ولوصية صاحب المال الثلث، ولذلك قال - ﷺ -: " إن الله تعالى قد تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث أموالكم فضعوه حيث شئتم ". وقد أراد بعض الصحابة أن يوصي بماله كله، فمنعه النبي - ﷺ -، ثم أراد أن يوصي بالثلث فأجازه، وقال: " والثلث كثير، إنك إن تذَر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس "، أو كما قال النبي - ﷺ -.
وفى هذه الآيات كما قلنا بيان حقوق طائفة من الوارثين، وهم الأولاد والآباء، والأزواج وأولاد الأم، وقد مزج بين الآباء والأولاد في الحقوق؛ لأن الأولاد لَا يحجبون الآباء أي لَا يمنعونهم من الميراث، ولذلك يعدون طبقة واحدة، وقد قال تعالى في ذلك:
________
(١) عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ ان رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: " العِلْمُ ثَلاثَةٌ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيًةٌ محْكَمَةٌ أوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ أوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ ". [رواه أبو داود: الفرائض - ما جاء في تعليم الفرائض (٢٨٨٥)، وابن ماجه: المقدمة - اجتناب الرأي والقياس (٥٤)، وفي إسناده مقال.
(٢) رواه ابن ماجه: الفرائض - الحث على تعليم الفرائض (٢٧١٩).
الحال الثانية: أن الأولاد إن كن نساء فقط، يكون نصيبهن الثلثين، والنص الكريم يقول: (فَإِن كنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) يفيد بيان نصيب الأكثر من اثنتين، ولم يبين الاثنتين، ولكن يفهم من آية أخرى أن نصيب الثنتين هو الثلثان أيضا؛ لأن الله تعالى قال في توريث الإخوة والأخوات:
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ...).
ففي الأخوات نص على أن نصيب الأختين الثلثان، وبالأولى يكون نصيب البنتين الثلثين؛ لأن البنتين أقوى قرابة وأكثر اتصالا، وأجدر بالرعاية، فماذا كانت الأختان تأخذان الثلثين فأولى أن تأخذ البنتان الثلثين، فما حذف في آية البنات وجد ما يدل عليه في آية الأخوات. وكذلك حذف في آية الأخوات نصيب الأكثر من أختين، وصرح به في آية البنات، ففهم بطريق الأولى أن الأكثر من أختين تأخذان الثلثين؛ لأنه إذا كان أثر من بنتين يأخذ الثلثين فقط، فأولى أن يأخذ الأكثر من أختين الثلثين. والمعنى أنه حذف من آية البنات ما يفهم بالأولى من آية الأخوات، وحذف من آية الأخوات ما يفهم بالأولى من آية البنات، وذلك بلاغة الإيجاز، وهو من سر الإعجاز.
هذا توريث الأولاد، ويلاحظ ما يأتي:
أولا: أن نصب الأولاد إذا كانوا ذكورا وإناثا يكون بعد أن يأخذ الأبوان والأجداد والجدات وأحد الزوجين أنصبتهم. فإذا كان للمتوفى أب وزوجة وأبناء وبنات، فإن القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين تكون بعد أخذ الأب والزوجة نصيبهما.
ثانيا: أن الأولاد يطلقون على كل فروع الشخص من صلبه، أي أبناؤه وأبناء أبنائه، وبنات أبنائه. أما بنات بناته، فإنهن لَا يكن من أولاده. وقد خالف في ذلك الشيعة فلم يفرقوا في نسبة الأولاد بين من يكون من أولاد الظهور ومن يكون من أولاد البطون، أي لَا يفرقون بين من تتوسط بينه وبين المتوفى أنثى ومن لا تتوسط.
ثالثا: أن أبناء الشخص وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات ابنه، أي أن الطبقة الأولى تمنع من يليها.
رابعا: إن بنات الابن يأخذن حكم البنات تماما إذا لم يكن للشخص أولاد قط، لَا ذكور ولا إناث، بل إن جمهور الفقهاء يجعل لبنات الابن السدس، وإذا كان للمتوفى بنت واحدة تأخذ النصف، وذلك لحديث ابن مسعود الذي سئل فيه عن رجل توفى عن بنته وبنت ابن ابنه وأخته... فأعطى البنت النصف، وبنت الابن السدس، والأخت الباقي، وقال: ذلك قضاء رسول الله - ﷺ - (١).
________
(١) روى البخاري: الفرائض - ميراث ابنة الابن (٦٧٣٦) عن هُزَيْلَ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَسَيُتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ» فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لاَ تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الحَبْرُ فِيكُمْ ".
والأب قد يأخذ مع السدس باقي التركة إذا كان للمتوفى فروع من الإناث فقط، فإنه عند الجمهور يأخذ السدس مع الباقي، والباقي ثبت بقول النبي - ﷺ -: " ما بقي بعد أصحاب الفروض فلأقرب رجل ذكر " (١) فبهذا الحديث يأخذ الباقي، وبنص الآية يأخذ السدس.
وحالا ثانية ذكرها للأم صراحة، وللأب ضمنا، فقال سبحانه: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فإن هذا النص يفيد أمرين: أحدهما - أن
الميراث للأبوين إن لم يكن أولاد، وثانيهما - أنه يكون للأم الثلث، وما دام الميراث منحصرا في الأبوين؛ فإنه يكون للمم الثلث والباقي للأب.
وإذا كان معهما زوج أو زوجة، فهل الآية تفيد الحكم؛ ونقول إنها لَا تفيده صراحة، بل تفيده ضمنا، وذلك أنها قررت أنه في حال انحصار الإرث في الأبوين يكون نصيب الأم الثلث، ونصيب الأب الثلثين فهذه الآية قد حددت النسبة، أي أن نصيب الام يكون على النصف من نصيب الأب، وبتطبيق ذلك على حال وجود أحد الزوجين، فإن أحدهما يأخذ فرضه وتأخذ الأم ثلث الباقي، ويأخذ الأب ثلثيه، وهذا رأى ابن مسعود وزيد، وعلي، على أرجح الروايتين عنه، وعمر وعثمان، وهو الذي اختاره الأئمة الأربعة وأكثر فقهاء الأمصار.
________
(١) عَنْ ابْنِ عَباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَن النَبِي - ﷺ - قَالَ: " ألْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأوْلَى رَجُل ذَكَرِ " [رواه البخاري: الفرائض - ميراث الرجل من أبيه وأمه (٦٧٣٢)، ومسلم: الفرائض - ألحقوا الفرائض (١٦١٥)].
وحالا ثالثة بالنسبة للأم أنها تأخذ السدس إذا كان هناك إخوة أو أخوات زادوا على واحد، فإنها تأخذ السدس، وهذه الحال خاصة بالأم، لأن الأب لا يؤثر في نصيبه على الإخوة والأخوات، بل إنهم لَا يرثون معه.
هذا ميراث الأولاد والأبوين، وقد بين - سبحانه وتعالى - حكمة ذلك وأكد تقسيمه بقوله سبحانه:
(آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) يبين الله أن هذه قسمته، ولا يصح أن تحكِّموا أهواءكم في أموالكم بعد وفاتكم، فإنكم لَا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا، آباؤكم أو أبناؤكم، لأنه عند حكم الهوى يففد العقل تقديره وميزانه فلا يدري أين يكون النفع، وقد صدر الآية بذكر الآباء والأبناء لقوة قرابتهم واتحاد اتصالهم، ومع ذلك لَا يعلمون النافع منهم. وقد أكد الله معنى هذا التقسيم بتأكيدين: أحدهما - قوله سبحانه (فَرِيضَةَ مِّنَ اللَّهِ) أي فرض الله ذلك فريضة وقدره تقديرا فلا يجوز خلافه، لأنه تقدير الله وقسمته، وليس لأحد أن يخالف قسمة الله جلت قدرته - التأكيد الثاني: قوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). فإن الله تعالى ذيل النص الكريم بهذه الآية تأكيدا للنفع في هذا التقسيم؛ لأن الله هو الذي قسَّم تلك القسمة العادلة، وهو
* * *
* * *
هذا بيان أحوال ميراث الزوج، فإنه يكون له النصف إن لم يكن للمتوفاة ولد، والمراد من الولد أولاد الظهور أي الفروع الذين لَا يتوسط بينهم وبين المتوفاة أنثى، خلافا للشيعة، وإن كان للمتوفاة ولد فإن الزوج يكون له الربع.
(وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَد فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم) وهذا بيان ميراث الزوجة تأخذ الربع إذا لم يكن للمتوفى ولد، وقد بيَّنا معنى الولد، وتأخذ الثمن إن كان للمتوفى ولد. ونرى من هذا أن الزوجة على النصف في التقدير من الزوج، وهو قاعدة عامة في قسمة الميراث بالنسبة للرجل والمرأة، ولم يستثن إلا الإخوة لأم. (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) هذا النص في ميراث الإخوة والأخوات لأم، وقد عبر عنهم بالكلالة، والكلالة هم القرابة من غير الأصول والفروع، وقد قيل إن الكلالة مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، وقرابة الكلالة وهي غير الأصول والفروع تحيط بالشخص من جوانبه، وليست في أصله ولا فرعه، ومعنى (يُورَثُ كَلالَةَ) أي يورث من غير أصوله أو فروعه، وعلى ذلك يكون ميراث المذكورين في الآية شرطه ألا يكون أصول ولا فروع. والميراث بالكلالة ذكر في موضعين: أحدهما هذا الموضع، والثاني قوله تعالى في آخر هذه السورة: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ...).
هذا، ومرتبة الورثة في التقسيم بعد سداد الديون، وبعد تنفيذ الوصايا، فالتركة لَا تقسم إلا بعد سداد الديون، ولا تميز أنصبة كل وارث إلا بعد تنفيذ الوصايا التي لَا تتجاوز الثلث. فنصيب الورثة دائما لَا يكون إلا في الباقي بعد الوصايا، ولذا قال سبحانه في كل قسمة إنها بعد تنفيذ الوصية والدين، فقال بعد ميراث الأبوين والأولاد: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا)، وقال بعد ميراث الزوج: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا) وقال بعد ميراث الزوجة: (مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ توصونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ).
وهنا أمران تجب الإشارة إليهما:
أولهما: أنه كرر في كل حال حق الدائنين والموصى لهم، تبرئة لذمة المتوفى وتأكيدا لحقهم. وهو دليل على أن حق الدائنين والوصايا هو حق للميت نفسه، فهو أولى من غيره. وقدم الوصايا في الذكر، مع أنها مؤخرة عن الدين في السداد، وذلك للتشديد في تنفيذها؛ لأنها مظنة الإهمال أو مظنة الإخفاء، فكان من الأسلوب الحكيم العناية بتنفيذها، وكان من العناية تقديمها في الذكر.
وقد كانت أحكام المواريث مظنة التلاعب في الماضي، ولا تزال حقوق النساء فيها موضع التلاعب إلى اليوم، ولذلك أكد الله سبحانه حق الميراث بقوله:
* * *
* * *
أي أن الميراث حدّ رسمه الله تعالى، فمن أطاع الله تعالى فقد فاز فوزا عظيما. وإن ذكر الجنات في هذا المقام له موضعه؛ لأن هذا الذي يترك التوزيع لله تعالى، ويتغلب على هوى نفسه فيمن يحب أو يكره يجزيه الله تعالى جنات تجري من تحتها الأنهار، وهذا الجزاء هو الفوز العظيم؛ لأن فيه النجاة وفيه النعيم، فمن فعله فقد نال الحسنيين، فإذا كان قد تغلب على منازع الدنيا، فقد نال نعيم الآخرة، ومن ينظر إلى مآل ماله عليه أن ينظر قبل كل شيء إلى مآل شخصه.
* * *
* * *
هذا جزاء من يخالف حكم الله وخصوصا في الميراث، فهو عاص لله سبحانه، وقد تعدى ما رسمه الله من حدود في ماله. وإن جزاءه أن يدخل النار ويخلد فيها، وله عذاب مهين أبلغ إهانة في الآخرة، فهو قد باع آخرته بدنيا غيره، وإذا كان أراد السعادة الدنيوية لغيره بهذا المال فقد نال الشقاء الأخروي بعمله، وإذا كان قد أراد إعزاز بعض من يحب فقد أهان نفسه، والله هو الذي يبين الحق، ويهدي إلى الرشد، كما قال تعالى: (يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم).
* * *
* * *
ابتدئت سورة النساء ببيان العلاقة الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وتثبت أن الناس جميعا أمة واحدة بحكم الخلق والتكوين، وكان ذلك هو الذي ينبغي، ولكنهم اختلفوا من بعد. وبعد الإشارة إلى هذا المعنى الإنساني الجامع، بين - سبحانه - حق الضعفاء على المجموع، ثم أخذ يبين سبحانه حقهمْ في الأسرة، ووجوب رعايتهم.
وفى هذه - الآيات التي نتلوها، يتجه النص الكريم إلى إقامة دعائم الأسرة، التي هي خلية التكوين الإنساني، وخلية البناء الاجتماعي، والمهد الذي يتربى فيه.
(مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ)، (إِنَّ الَّذِين يُحِبُّونَ أَنِ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا)، (إِنَّمَا حَرَّم رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ)، (إِلَّا أَن يَأْتينَ بِفَاحِشَةٍ مبَيِّنَةٍ)، كناية عن الزنا، وكذلك قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يًأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ).
فالفاحشة هنا هي الزنا، والله سبحانه وتعالى يعبر عن هذه المعاني التي لا تألفها النفس الكريمة بعبارات تسترها، فتكون الكناية بدل التصريح، وذلك من تأديب الله لنا في التعبير.
وقد ذكر سبحانه وتعالى علاج النساء اللائي وقعن في ذلك الأمر المنكر، وقد سماه بهذا الاسم كما سماه بأنه " إدّ " (١)، فكان علاجهن بأمرين أحدهما - يختص بهن، والثاني - يشتركن مع الرجال فيه، فأما الذي يختص بهن فهو إمساكهن في البيوت، وليس الإمساك معناه الحبس والتضييق المجرد، بل الإمساك
________
(١) أي سمى الله تعالى الأمر المنكر بالفاحشة، كم سماه (أي الأمر المنكر بالإد) قال الرازي في تفسيره سورة النساء (١٥): " قوله: (يَأتِينَ الْفَاحِشةَ " أي يفعلنها يقال: أتيت أمرا قبيحا، أي فعلته قال تعالى: (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيًّا) (مريم: ٢٧) وقال: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (مريم: ٨٩) ". وفى لسان العرب (أدد) الإد هو العجَبُ والأمر الفظيع العظيم والداهية.
والرمي بالزنا أفحش ما ترمى به المرأة والرجل، وكثيرات من النساء يمُنَّ فريسة لشائعات كاذبة، ولذلك شدد الله تعالى في إثبات الزنا أبلغ ما يكون التشديد، فقرر أن يكون بشهادة أربعة من الرجال بحيث لَا تقبل في ذلك شهادة النساء، وقرر أن تكون الشهادة بالمعاينة لَا بالسماع، ولذا قال: (فَإِن شَهِدُوا) أي إن ذكروا أنهم عاينوا وشهدوا (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ)، ولحماية الشارع لعرض المرأة من أن يكون مضغة في الأفواه - قرر عقوبة شديدة لمن يرمي النساء والرجال من غير أن يكون أربعة يشهدون، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤).
هذا هو العلاج الوقائي الذي خص القرآن به المرأة، حتى لَا تستمر في غيها، وذلك هو طريق الإثبات، أما العلاج الذي يشمل الرجل والمرأة، فهو ما جاء في قوله تعالى:
* * *
* * *
هذا حكم الذكر والأنثى إذا أتيا تلك الفاحشة، وهي الأمر الإدُّ، وهي المنكر الذي تنكره العقول. والعلاج في هذه الحال ليس علاجا نفسيا لهما فقط، بل هو
ولقد ذكرت العقوبة هنا مجملة غير واضحة المقدار، بل كانت مجرد الإيذاء، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار في قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣).
ففي هذا النص عقوبتان مؤدبتان: إحداهما الجلد، والثانية منع الزواج من الزاني والزانية، وذلك ليحملهما على التوبة. وقد يقول قائل: إن الله تعالى ذكر علاجا تهذيبيا للمرأة، وهو الإمساك والرعاية في البيت، ولم يذكر علاجا تهذيبيا للرجل. نقول إنه ذُكر له علاج تهذيبي، وهو منع الزواج منه كالمرأة، وذكر علاج له في السنة وهو التغريب سنة (١)، لأن التغريب سنة يبعده عن الجو الذي عاش فيه آثما وأعلن فيه إثمه، وإنه في ذلك سيكون تحت رقابة الحاكم ورعايته، فهذا التغريب يقابل الإمساك في البيوت. ولم يعاقب الرجل بالحبس؛ لأن الرجل مطلوب منه الكدح والعمل لنفقته ونفقة من يعوله، فكان التهذيب مدة معلومة أنسب له، والإمساك في البيوت أليق بالمرأة.
وإذا تكررت الجريمة تكرر العقاب، إلى أن تكون التوبة والإقلاع عن ذلك المنكر، ولذا قال تعالى:
________
(١) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ - أنهُ أمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَام ". [رواه البخاري: الشهادات - شهادة القاذف والسارق والزاني (٢٦٤٩)].
________
(١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ: «اضْرِبُوهُ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: «لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ ". [رواه البخاري: الحدود - الضرب بالجريد والنعال (٦٧٧٧)، كما رواه أبو داود وأحمد].
* * *
* * *
التوبة هي الرجوع إلى الله تعالى وإلى أوامر دينه بعد الانحراف عنها، ويعرف الأصفهاني التوبة في الشرع بأنها ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما يمكنه تداركه من الأعمال بالإعادة، والتوبة على هذا النحو أعلى درجات الاعتذار، وذلك أن الاعتذار على أنواع ثلاثة، أحدها: وهو أدناها إنكار الوقوع، وهذا لَا يتأتي بالنسبة للعلام الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض، وثانيها: تبرير الفعل، وذلك أيضا لَا يمكن أن يكون أمام الله تعالى، وثالثها: وهو أعلاها الاعتراف بالوقوع وبأنه لَا مبرر له، وأنه يرجو الصفح والغفران، وأنه مقلع عما ارتكب، وذلك هو التوبة.
والتوبة إذا كانت قريبة من وقوع الذنب فقد وعدنا الله تعالى، ووعده الصدق الحق، بأن الله تعالى يقبلها. وتفضل الله سبحانه وتعالى تأكيدا للوعد، وحثا على التوبة، فعبر سبحانه بأن الغفران حق عليه، ولذا عبر سبحانه بلفظ " على " فقال: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) أي أن قبول التوبة حق على الله تعالى، وذلك أبلغ درجات الصفح والغفران، سبحانك إنك التواب الرحيم، غفار للذنوب.
وعبر سبحانه وتعالى بـ " إنما " الدالة على الحصر، أي لَا يكون قبول التوبة حقا على الله تعالى إلا بتحقق شروط ثلاثة: أولها: أن يكون ذنبه ليس كثيرا ولم يُحِط بنفسه وقلبه، ولذلك قال تعالى: (يَعْمَلُونَ السُّوءَ) أي يقع منهم ما يسيء من غير أن تُرْكَس نفسه في السيئات وتحيط بها. وثانيها: أن يكون الفعل (بِجَهَالَة) أي أنه وقع في حال غَفْوَةِ الضمير والضعف النفسي، ومن غير إدراك للعواقب، ولا قصد للنتائج، وقد قال السلف: إن كل ذنب على هذا النحو يكون
وذلك لأن من يفعل الذنب على ذلك النحو لَا يستغرق قلبه، وقد ورد في الأثر " إن المذنب إذا أذنب نُكِتَتْ نُكْتَةٌ سوداء في قلبه، ثم تتوالى النكَت السوداء حتى يَرْبَدَّ قلبه "، ومن يعمل السوء بجهالة ثم يتوب من قريب ليس كذلك، وقد أكد الله قبول التوبة فقال: (فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).
أي هؤلاء الذين أرتكبوا عن جهالة بعض الذنوب، ولم تَرْبَدَّ قلوبهم بتكرار الذنوب وتعددها واستمرائها والاستمرار عليها، يتوب الله عليهم أي يقبل توبتهم، ويأخذ بأيديهم إلى الهداية ويطهر نفوسهم من أرْجاس الذنوب، وهذا ما تضمنه النص السامي (يتُوبُ اللَّهُ) أي يسبغ التوبة عليهم، وهي تتضمن معنى الاهتداء والاتجاه إليه سبحانه، وإسباغ التوبة عليهم هو إلقاء الطهر عليهم فتتطهر نفوسهم، وقد بين سبحانه أن ذلك مقتضى علمه وحكمته، فقال: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي أن الله تعالى يعلم النفوس وحركاتها وخلجاتها وسكناتها وميولها وانحرافاتها، ويعلم ما يطهرها، وما يركسها، وما يهديها وما يغويها، وهو بحكمته يعالج أدواءها. وقبول التوبة أبلغ علاج، والصفح في أكثر أحواله دواء للأسقام التي تعرض للنفوس، ولم تستقر فيها استقرارا.
* * *
* * *
بعد أن بين سبحانه الذين أخذ العهد أن يقبل توبتهم، وهم الذين قد كانت حالهم ما ذكره سبحانه، بين حال الذين لَا تقبل توبتهم، فقال تعالت كلماته: (وَلَيْسَتِ التَوْبَةُ) هنا نفي لوقوع التوبة؛ لأن حقيقة التوبة كما بينا تقتضي أن يكون العبد في فسحة من الوقت تمكنه من معاودة الخير، فمن يقول عند حضور الموت: (إِنِّي تُبْت الآنَ) ليس بتائب.
وإذا لم تتحقق منه التوبة فإنه لَا يستحق من الله تعالى القبول؛ إذ لَا موضوع له.
أي أنهم يستمرون في غيهم يعمهون، لَا يستيقظ لهم ضمير، ولا يقلعون عن معصية، حتى إذا أزفت الآزفة، وحضر الموت، ولم يكن مناص من أخذهم، قال قائلهم: إني تبت الآن، ولم يقل سبحانه عن حالهم إنهم تابوا، بل حكى قول أحد: (إِنِّي تُبْتُ الآنَ) مما يدل على أنهم لم تقع منه توبة قط، وقوله لا يعد توبة في حقيقته، وإن سماه هو توبة.
وقد ذكر سبحانه من عصاة المسلمين فريقين:
أحدهما: الفريق الذي يتوب من قريب وقد ارتكب السوء بجهالة، وقد وعد سبحانه بأنه يقبل التوبة منه، وتفضل سبحانه فجعل القبول حقا عليه، وهو فوق عباده.
والفريق الثاني: أولئك الذين استمروا في غيهم حتى أدركهم الموت. وبقي ثالث لم يذكره سبحانه، وهو الذي لم يتب من قريب، ولكنه تاب قبل أن يحضره الموت، فما شأن هذا الفريق الثاك؛ قال مفسرو السلف إنه يعدُّ قد تاب من قريب، وإن تأخر في الزمان بالنسبة لأجله، ما دام قد تاب قبل أن يحضره
أي أن الله تعالى لَا يعتبر توبة الكفار عن ذنوبهم توبة لأنهم لم يؤمنوا، فأساس الطاعات الإيمان. وإن تابوا قبل أن يموتوا وهم في فسحة من الوقت، فإن توبتهم غير مقبولة، وإنما تكون مقبولة إذا آمنوا ولم تكن من قبيل قول فرعون عند الغرق: (... آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
(أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي أولئك الذين لم يتوبوا، هيأنا لهم عذابا مؤلما وجيعا، وهذا يشمل عصاة المؤمنين، والذين ماتوا وهم كفار، غير أن الكفار خالدون في النار، وأما عصاة المؤمنين فبمقدار ذنوبهم.. اللهم نجنا من عذاب النار واقبل توبتنا، (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ...).
* * *
________
(١) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَامًا تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ تِيبَ عَلَيْهِ»، حَتَّى قَالَ: «يَوْمًا»، حَتَّى قَالَ: «سَاعَةً»، حَتَّى قَالَ: «فُوَاقًا»، قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ مُشْرِكًا أَسْلَمَ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكُمْ كَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ. [رواه أحمد: مسند المكثرين (٦٨٨١)].
* * *
الكلام في الأسرة، وإن حماية الأسرة تكون بحماية ضعفائها، ومن لا يستطيع الذود عن نفسه، ولذلك تكلم القرآن الكريم في شأن اليتامى، ثم في شأن النساء. وقد تكلم سبحانه في الميراث وتقسيمه العادل، وفي هذه الآيات التالية يشير سبحانه إلى نوع من الميراث ظالم، كان من عادات بعض أهل الجاهلية، لم يكن موضوع الميراث فيه مالا، ولا حقا يقبل التوريث، بل كان موضوع الميراث في زعمهم حق امرأة المتوفى في نفسها، فقد زعموا أن من يموت زوجها، لا تكون مالكة لأمر نفسها بموته بل يكون أمر زواجها بيد أوليائه الذين يرثون ماله، فإنهم يرثون مع ماله الولاية على زوجه، فلا تتزوج إلا بإذنهم أو تزويجهم، ولذا قال سبحانه:
ولقد روى الزهري أنه كان من عادات أهل الجاهلية أنه إذا مات الرجل يُلْقِي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة، فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، ولم يُعْطِها شيئا، وإن شاء عضلها من الزواج، أي منعها منعا مشدَّدا لتفتدي نفسها بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها!!
ومغزى هذه الرواية أنهم يجدون لهم حقا في إمساكها ومنعها من الزواج، بما كان قد دفع لها زوجها من صداق، وبما كان له عليها من حق الإمساك. ونهى القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا)، ومعنى النص الكريم على هذا أنه لَا يصح أن يرث أولياء الميت حق تزويج نساء المتوفين كرها عنهن من غير توكيل، فليس الميراث هو ميراث ذات المرأة كزوجة، بحيث يملك زواجها بغير عقد، بل المراد حق تزويجها من نفسه أو من غيره، من غير أن تكون لها إرادة حرة في الزواج.
وبعض العلماء فهم أن المراد من الميراث هو ميراث الزوجية نفسها، بحيث تكون المرأة زوجا من غير عقد، كما فهم آخرون أن المراد لَا يحل أن ترثوا أموالهن. ولكن الظاهر من مجموع الروايات، أن المراد بالميراث هو ميراث حق التزويج، وميراث ما أعطيت من صداق. وقد عبر الله سبحانه وتعالى - ولكلامه المثل الأعلى - عن النهي عن هذا العمل بقوله تعالى: (لا يَحِلُّ) بدل لَا ترثوا للإشارة إلى أنه أمر غير مستحسن في ذاته، فهو في ذاته غير حلال وغير لائق، فلا يحتاج في نفي الحل إلى نهي ينشئ التحريم، بل إن الفطرة السليمة تدرك عدم
(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) العضل هنا معناه التضييق والتشديد لمنع الزواج، أو الظلم الشديد من الأزواج، وقد قال الراغب في معنى العضل: " العَضَلة كل لحم صلب في عصب الرجل، ورجل عَضِلٌ مكتنز اللحم، وعَضَلْتُه شددته بالعَضَل نحو عصبته، وَتُجُوِّزَ به في كل معنى شديد " قال تعالى: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) والمراد هنا التضييق الشديد، والخطاب هنا إما أن يكون لأولياء الميت، وتكون (لا تَعْضُلُوهُنَّ) معطوفة على (أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ) وتكون (لا) لتأكيد النفي، والمعنى على هذا: لَا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن وتمنعوهن من الزواج لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي لتضيقوا عليهن حتى يتركن حقهن في المهر الذي أخذنه، أو بقي لهن، ومعنى (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) تضيعون حقوقهن، إذ يقال ذهب بالأمر أو بالحق: أضاعه، ومن ذلك قوله تعالى: (.. ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ).
هذا احتمال في النص الكريم، وهناك احتمال آخر في توجيه الخطاب، وهو أن يكون ذلك نهيا مستأنفا، محمولا في النسق على نفي الحل السابق، ويكون الخطاب للأزواج، فيكون المعنى على هذا: لَا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، فتتزوجوهن أو تزوجوهن بغير رضاهن، وكذلك لَا تعضلوهن بأن تضيقوا عليهن وتظلموهن وترهقوهن وهن زوجات، لتكرهوهن على طلب التفريق في نظير أن تأخذوا بعض ما آتيتموهن. وإذا كان التضييق لأخذ بعض المهر منهيا عنه، فأولى أن يكون في موضع النهي التضييق عليهن لأخذ المهر كله.
وإنا نختار أن يكون الخطاب موجها للأزواج، ويكون النص السامي قد اشتمل على بيان التحريم في موضعين: أولهما - إكراه المرأة على زواج لَا تريده، وذلك بدعوى حقهم في ميراث حق تزويجها. والثاني - النهي عن إكراه المرأة
ولكن قد تكون المرأة ظالمة لزوجها، فهل يحل أخذ شيء من مهرها لأنها أفسدت الحياة الزوجية؛ قد بين النص الكريم أنه يحل ذلك بقوله تعالى: (إِلَّا أَن يَأْتينَ بِفَاحِشَةٍ مبَيِّنَةٍ).
الاستثناء هنا منقطع، معناه لكن إن يأتين بفاحشة مبينة يحل أخذ المهر الذي أوتينه أو بعضه، ومؤدى هذا الكلام تحريم وتحليل، أما التحريم فهو ما بين في الكلام السابق، وهو أنه لَا يصح أن يعضل امرأته ظالما لها كارها، ويريد طلاقها ويفعل ذلك ليكرهها على طلب الطلاق في نظير ما أعطى كله أو بعضه. وأما التحليل فهو إباحة أن يطلقها في نظير بعض ما قدم لها أو كله، إذا كانت ظالمة له مفسدة للحياة الزوجية. والفاحشة المبينة هي الفاحشة الواضحة المعلنة التي تعلن نفسها، وتكشف أمرها؛ لأن المُبيِّن يكون بيَّنا دائما، فعبر عن البيِّن بلفظ المُبين مبالغة في وضوحه وبيانه وإعلانه. وما هي الفاحشة؛ قال بعض العلماء هي الزنا، والمعنى أنه يباح في هذه الحال، استرداد المهر كله، ولو بغير رضاها، وقد قال الإمام مالك ذلك. والتعبير عن الزنا بلفظ الفاحشة تعبير يجري في القرآن كثيرا، وأصل الفحش الأمر السيئ الذي يزيد عن كل معقول مقبول، فالعقول تمجه في كل صوره ولا شيء أكثر من الزنا في ذلك.
وقال بعضهم: الفاحشة هي النشوز وإفساد الحياة الزوجية بكل طرق العناد والمشاكسة والمباغضة. وقال آخرون: البذاءة والفحش في القول والعمل والمكارهة بالعبارات والفعل. وفي الحق إن الفاحشة البينة الواضحة تشمل كل هذا، وهي في كل صورها إفساد المرأة للحياة الزوجية، وقد اتفق العلماء على أنه في هذه الحال يحل للزوج أن يأخذ كل ما أعطى أو بعضه.
هذا، وإن الرجل هو الراعي، وهو المسئول عن هذه الرعية، ولذلك خاطب الله تعالى الأزواج بقوله تعالى:
(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أمر الله سبحانه وتعالى الأزواج بالعشرة الحسنة، بالمعروف، وإن العشرة هي المخالطة والممازجة بحيث تلتقي النفسان، ومن طبيعتها أن تكون في ألفة لَا في نفرة، وقد أطلقت العشرة على المعاملة، والمراد بالمعروف أن يعامل الرجال أزواجهم معاملة تليق بأمثالهن من غير أن يكون منهم ما يستنكر عقلا أو شرعا، أو عادة، فهو يؤنسها ولا ينفرها، ويقربها ولا يبعدها، وكان الأمر بالعشرة الحسنة بعد الإشارة إلى ما قد يكون منهن من نشوز وبذاءة وفحش في القول، لبيان أنه لَا يسوغ لرجل أن يفترق لمجرد ظهور النشوز منها، بل يعالجها بالرفق، وإزالة أسباب النفرة إن أمكن. وإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعاشرون أزواجهم على أكمل ما تكون العشرة، ويقربونهن بكل وسائل التقريب، حتى إن ابن عباس كان يقول: إني أتزين لامرأتي كما تتزين لي. وقد يكون سبب النفرة من الرجل نفسه، وإنه ليروى في ذلك أن امرأة ذهبت إلى الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه تطلب الفراق من زوجها، فرأى عمر الزوج، وإذا هو أشعث أغبر خَلِق الثياب مستطيل الشر، فأدرك بثاقب نظره أن النفرة من هذه الحال، فأخلها وأرسله إلى المغتسل فاغتسل، وألبسه ثيابا حسنة، وأزال شعثه، ثم ناداها، فسألها: أمُصِرة على ما تطلب؟ فلما رأت زوجها على حاله الجديدة عدلت عن طلب الطلاق.
وإن معاملة المرأة بالحسنى دليل على كمال الرجولة والْخُلقُ، ولذا قال النبي - ﷺ -: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى " (١).
________
(١) رواه ابن ماجه: النكاح - حسن معاشرة النساء (١٩٧٧).
إن العشرة الحسنة مطلوبة ولو في حال كراهية الزوج لزوجته، فإنه لو أظهر الكره لكانت المباغضة، ولاسترسل في غواية تضله، فيصر على الكراهية، وقد كان في الإمكان أن يرى فيها السرة بدل المضرة، وأسباب المحبة بدل البغض.
وإن النص الكريم يشير إلى معنى سليم، ويدعو إلى إدراك معان مختلفة كثيرة: أولها - أن ينظر إلى الحياة الزوجية من جميع نواحيها، لَا من ناحية واحدة منها، وهي البغض والحب، فينظر إلى مصلحة أولاده، وإلى نظام بيته، وإلى محاسنها بدل أن ينظر إلى مساويها. وثانيها - أن يفكر في من يعقبها: أهي خير منها أم لَا؛ وثالثها - أن ينظر في شأن العلاقة بعين العقل والمصلحة المشتركة لا بعين الهوى المسيطر الجامح. ورابعها - وهو أعظمها أن ينظر إلى المسألة بالقلب الديني، وأن يتذكر في وقت الكراهية العشرة الحلوة السابقة، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، والخير الكثير يتكشف للرجل في الأمر المكروه بإحدى حالين: إما بالنظر الثاقب الذي يتغلب فيه العقل على الهوى، وإما بعد فوات الوقت، فيعرف الخير الذي فاته بفعله، فلا يمكن التدارك، ويكون الندم المرير، ولات حين مَنْدمَ.
وإن هذا النص يشير إلى معنى جليل عام لَا يخص الحياة الزوجية وحدها،
وهو ألا يبت في الأمور تحت تأثير الكراهة، فإنها عارض وجداني قد يزول، وقد يكون في المكروه الخير الكثير الذي غاب عنه في وقت إدراكه، فيفوته النفع العظيم تحت تأثير الكراهية التي قد يبعث عليها أمر حسي عارض. وفي الحديث الصحيح. " لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي منها آخر " (١) والفَرَكُ
________
(١) رواه مسلم: الرضاع - الوصية بالنساء (١٤٦٩)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (٨١٦٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
* * *
* * *
بين سبحانه في النصوص الكريمة السابقة حال أخذ الرجل بعض ما آتاه إذا أتت المرأة بفاحشة بينة واضحة تعلن نفسها، وذكر سبحانه علاج الرجل لنفسه إذا أحس بكراهية، لكي يتجنب الطلاق الذي قال فيه النبي - ﷺ -: " ما أحَلَّ الله شيئا أبغضه كالطلاق " (١)، فإذا استرسل في الكراهية، واختار أبغض الحلال، فإنه لا يصح أن يسترد منها أي مقدار أعطاها إياه ولو كان قنطارا من فضة أو ذهب، فالتفريق هنا بمجرد إرادته لَا بسبب من جانبها، ولذا قال: (وَإِنْ أَرَدْتُّمُ) وعبر في التعليق بـ " إن " وهي لَا تكون لوقوع الفعل مؤكدا، لينبه إلى أن الإرادة قد تكون غير سليمة، وغير مبنية على أسباب قوية، والاستبدال طلب البدل، بأن يطلق واحدة ويتزوج أخرى. وقوله تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا) لبيانه أنه لَا يُسترد شيء مهما يكن كبيرا؛ إذ القنطار أقصى ما يتصور من مهور. والقنطار أصله من قَنْطَرْتُ الشيء إذا رفعته، ومنه القنطرة؛ لأنها بناء مرتفع مشيد، وقد قال الشاعر:
كَقَنْطَرَةِ الرُّومِى أقْسَمَ رَبُّهَا... لَتكْتَنفَنْ حَتَّى تُشَادَ بِقَرْمَدِ (٢)
وخلاصة المعنى أنه لَا يصح أن يأخذ شيئا ما دام التفريق بإرادته وبسبب من جانبه، ولم يكن لها فيه أي عمل، وهذا لَا يتعارض مع قوله تعالى: (... وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ...)، فإن الآية التي نتكلم فيها كان الطلاق بسبب من جانبه وهو إرادته
________
(١) عَنْ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " مَا أحَل اللَّهُ شَيْئًا أبْغضَ إِلَيْهِ مِنْ الطَلاقِ ". رواه أبو داود: الطلاق - كراهية الطلاق (٢١٧٧).
(٢) البيت قاله طرفه بن العبد البكري في معلقته وهو تشبيه للناقة. والقرمد والقرمدة: الآجر.
وقد وبخ سبحانه وتعالى على الأخذ عند إرادة الاستبدال بنصين كريمين: أولهما قوله تعالى:
(أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) هذا توبيخ واستنكار للأخذ، والبهتان هو الكذب غير المعقول الذي يتحير فيه العقل، ويطلق على كل أمر يتحير العقل في إدراك سببه، أو لَا يعرف مبررا لوقوعه، كمن يعتدي على الناس من غير عداوة سابقة ولا نفع مجلوب، ولا غرض مقصود. والإثم الذنب العظيم، والمبين الواضح الذين يعلن نفسه ووضوحه، ويكشف عن مقدار الأذى فيه. وقد قال العلماء: إن البهتان والإثم مصدران قصد بهما الوصف، أي أتأخذونه باهتين فاعلين فعلا تتحير العقول في سببه، آثمين بفعله إثما واضحا معلن الوضوح مستنكر الوقوع، ويصح أن يكون المصدران مفعولين لأجله، ويكون ذلك توبيخا أشد، ويكون المعنى عليه: أتأخذونه لأجل البهتان والإثم المبين؛ ويكون في التعليل توبيخ أشد، وهذا هو الذي نراه.
هذا، هو النص الأول الموبِّخ، والنص الثاني هو قوله تعالى:
* * *
* * *
الإفضاء معناه الخلوص، أي يخلص كل واحد للآخر، وفسر بأنه الخلوة بين الرجل وزوجه ليس معهما أحد، لأن الفضاء هو الذي يكون بينهما. والاستنكار هنا للحال الواقعة، فالأول كان استنكارا لذات الأخذ، وهنا الاستنكار لما أحاط بالأخذ من أحوال. والمؤدى أن الأخذ عند إرادة الاستبدال أمر مستنكر في ذاته، ثم هو مستنكر لأجل الأحوال التي كانت بين الزوجين. وقد ذكر سبحانه وتعالى سببين للاستنكار: أحدهما - الإفضاء وخلوص زوج لنفس صاحبه حتى صارا كأنهما نفس واحدة. وثانيهما - الميثاق الغليظ أي الشديد القوي الثابت الذي هو عهد ثقيل لَا يصح منه التخلص. وذلك الميثاق، هو الارتباط بين الزوجين أمدا
هذا، وقبل أن نختم الكلام في هذه الآيات نقرر أمرين:
أحدهما - أن الرجل في افتراقه عن زوجه لَا يحل له دينا أن يأخذ منها شيئا إذا كان النشوز من جانبه، ولا يحل أن يأخذ أكثر مما أعطى إذا كان النشوز من جانبها، وما أخذ في غير ذلك يكون كسبا خبيثا، وقد اتفق على ذلك العلماء.
ثانيهما - أن قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) تدل على أنه ليس للمهر حد أعلى، وقد استدلت بذلك امرأة أمام أمير المؤمنين عمر عندما قال: (ألا لَا تغالوا في صَدُقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله - ﷺ -؛ ما أمهر قط امرأة من بناته ولا نسائه فوق اثنتي عشرة أوقية). وجعل رضي الله عنه ذلك حدا أعلى، فقالت امرأة: (يعطينا الله وتحرمنا)، وتلت الآية، فقال الإمام العادل: (أخطأ عمر وأصابت امرأة)، ولكن عمر كان ينظر بنور الله وروح الإسلام، فإن أخطأ في الحد بمقدار، فإنه لم يخطئ في منع المغالاة في المهور، ولله عاقبة الأمور.
* * *
* * *
كانت الآيات السابقة في بيان تحريم ظلم المرأة في حال الزوجية وظلمها بعد وفاة زوجها، وظلمها عند إرادة الافتراق عنها. وفي هذه الآيات يبين الله سبحانه من يحل من النساء الزواج بهن، ومن لَا يحل، وإذا كانت الآيات السابقة لدعم الأسرة بمنع الظلم؛ لأن العدل به قوام الأسرة وقوتها، ومنع الظلم تقوية سلبية، فالآيات التي تبين المحرمات من النساء تبين أسباب قوة الأسرة من ناحية المودة التي تربط بين الزوجين برباط الرحمة والمحبة، وتجعل الزواج مثمرا ثمراته الطيبة من العلاقة الزوجية التي لَا تُرنّقَها علاقة أخرى. وقد ابتدأ سبحانه ببيان تحريم زوجة
كان فاشيا بين العرب في الجاهلية أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا مات عنها أبوه، وكان ذلك يؤدي إلى منعها من حرية الاختيار في الزواج، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك في الماضي من الآيات الكريمات، وهنا يمنع تزوج الولد ممن كانت زوجة أبيه، بل ممن كانت زوجة آبائه على وجه العموم، وذلك لأن كلمة " آباؤكم " تشمل كل الأصول من الرجال أي تشمل الأجداد جميعا سواء كانوا من جهة أبيه أم كانوا من جهة أُمه، وذلك من قبيل الإطلاق المجازي.
والنكاح هو عقد الزواج، وهو لَا يستعمل في القرآن إلا على الزواج، وقد يطلق على المباشرة نفسها، ولكنه لم يطلق في القرآن إلا على العقد، ولذلك قال الشافعي وكثيرون من الفقهاء، إن النكاح حقيقة في العقد، وإذا أريد به المباشرة كان ذلك مجازا من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، وذلك أنه لَا يكون إلا في المباشرة الحلال، والحنفية قالوا إنه حقيقة في المباشرة مجاز في العقد. والذي يتفق مع تعبير القرآن هو رأي الشافعي.
ولما كان ذلك النوع من الزواج كثيرا في الجاهلية، وربما وقع فيه بعض المؤمنين في الجاهلية قبل الإسلام، أشار سبحانه إلى أن ما كان في الجاهلية هو موضع عفو لَا يعاقب الله تعالى عليه، ولذا قال سبحانه: (إِلا ما قد سلف) أي أنكم لَا تؤاخذون على ما قد مضى منكم في الجاهلية، والاستثناء هنا منقطع، و " إلا " بمعنى " لكن "، والمعنى: لكن ما قد سلف لَا تؤاخذون عليه، والله يعفو عنكم، وهو ينتهي بهذا التحريم، فمن كان متزوجا ممن كانت امرأة أبيه، فإنها حرام عليه من وقت نزول ذلك النص الكريم، وعفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام.
وفى النص إشارة إلى أنه لَا عقوبات من غير نص محرِّم، وهؤلاء كانوا يرتكبون ما يرتكبون مستحلين له، فلما جاء النص القاطع الحرم كان العقاب، ولا عقاب قبل النص الحرم.
وإن ذلك النوع من النكاح سيئ في ذاته، لَا يقدم عليه كريم، ولذا قال سبحانه وتعالى فيه:
(إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) هذه أوصاف ثلاثة وصف الله بها ذلك النوع من العقود: أولها أنه فاحشة، أي أمر زائد في القبح شرعا وخلقا، والفحش هو الأمر الزائد زيادة قبيحة، فهو زيادة قبيحة على موجب الفطرة المستقيمة. والوصف الثاني أنه مقت، وهو مصدر وصف به أي أنه ممقوت من ذوي المروءات لَا يقبلونه ولا يرضونه. والثالث أنه أسوأ سبيل لطلب الولد؛ إذ يكون ابنه أخا لأخيه من أبيه وبنته أختا لأخيه أو لأخته من أبيه، وذلك نوع من المجوسية، فهو لذلك كان سبيلا سيئا.
وقد قال الزمخشري في هذا النص: " كانوا ينكحون روابهم (أي تنكح المرأة ربيبها)، وناس منهم كانوا يمقتونه من ذوي مروءاتهم ويسمونه نكاح المقت، وكان المولود عليه يقال له المقتي، ومن ثم قيل (ومَقتا)، كأنه قيل إنه فاحشة في دين الله بالغة في القبح، قبيح ممقوت في المروءة، ولا مزيد على ما يجمع القبحين ".
بعد ذلك بين سبحانه وتعالى الحرمات من الأقارب فقال تعالى:
* * *
* * *
هذا النص الكريم لبيان تحريم أربع طوائف من القرابة، فمعنى حرمت عليكم أمهاتكم، أي حرم عليكم نكاح أمهاتكم.
والطوائف الأربع أولاهن: الأمهات والجدات، لأن الأمهات يراد بهن الأصول، إذ الأم تطلق على الأصل، كما قال تعالى: (... وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)، ويصح أن يراد من الأمهات الصُّلبيات، ولكن يثبت تحريم الجدات بطريق الأولى، لأنه إذا كانت العمة والخالة حراما، فأولى أن تكون الجدة حراما، لأن الأمّ هي طريق الوصول في القرابة إلى هؤلاء، وقد أجمع المسلمون على تحريم الجدات.
والطائفة الثانية: الفروع من النساء، وذلك ثبت بقوله تعالى: (وَبَنَاتُكُمْ) بالعطف على (أُمَّهَاتُكُمْ)، وقد ثبت تحريم البنات بالنص، وبقية الفروع من النساء ثبت تحريمهن بالأولى، لأن النص يحرم بنت الأخ وبنت الأخت، وإذا كانت بنت الأخ والأخت، حراما، فأولى بالتحريم بنت البنت وبنت الابن، لأن البنت أقرب من الأخت.
والابن أقرب من الأخ، فأولادهما أولى بالتحريم، وقد انعقد الإجماع على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهنّ.
والطائفة الثالثة: فروع الأبوين، وهن الأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، وثبت تحريمهن بقوله تعالى: (وَأَخَوَاتكُمْ) ثم قوله تعالى: (وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ)، وذلك يشمل الأخوات شقيقات أو لأب أو لأم، كما يشمل فروع الإخوة والأخوات جميعا؛ لأن كلمة (بنات الإخوة والأخوات) تشمل كل الفروع على سبيل المجاز، ولأن التحريم يثبت بالأولى، لأن عمة الجد حرام بالنص فأولى بالتحريم بنت ابن الأخ، وبنت بنت الأخ أو الأخت؛ لأنهن أقرب، وقد انعقد الإجماع على تحريمهن.
وإن هؤلاء المحرمات قد ثبت تحريمهن في الشرائع السماوية كلها؛ لأن تحريمهن مشتق من الفطرة، وفي الزواج بهن إيجاد نسل غير قوي، لأن التجارب العلمية أثبتت أن التلاقح بين سلائل مختلفة الأرومة ينتج نسلا قويا، والتلاقح بين حيوانات متحدة الأرومة ينتج نسلا ضعيفا، وعلى ذلك يكون التزاوج بين القرابة القريبة منتجا نسلا ضعيفا. ولقد ضعف آل السائب؛ لأنهم كانوا لَا يتزاوجون إلا فيما بينهم، فقال لهم الإمام عمر: (قد أضويتم يا آل السائب فانكحوا النوابغ). وإن الزواج من القرابة القريبة يفسد علاقة القرابة والعواطف الشريفة التي تربط بينهم، فعلاقة الأمومة والبنوة والأخوة والعمومة والخئولة يفسدها الزواج بما يكون بين الزوجين من مباسطات أو منافرات أحيانا، والحياة الزوجية على القبض والبسط، والرضا والسخط، والمداعبة والهجر أحيانا، وكل ذلك يفسد القرابة.
(وَأُمَّهَاتكُمُ اللَّاتِى أَرْضعْنَكمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) الأم الرضاعية هي التي أرضعته، والأخت الرضاعية هي التي أرضعتها أمه، أو رضعت من ظئر رضع هو منها، أو بعبارة عامة التقيا على ثدي واحدة، ولا يشترط أن تكون الرضاعة من لبنه أو لبنها، بل إن كل من ترضع ولدا تحرم عليه بناتها جميعا صغيرة أو كبيرة.
وقد قرر جمهور الفقهاء أنه يعتبر من الأخوات الرضاعيات كل من رضعت من امرأة أبيه إذا كان اللبن الذي رضعته كان أبوه هو السبب فيه. وهذه العلاقة
والأمهات الرضاعيات يشملن الأم التي أرضعته وجداته اللائي كانت العلاقة بينه وبينهن رضاعية، في أي طبقة من الطبقات، سواء اكن جدات رضاعيات له من جهة أبيه أم من جهة أمه.
وإنه يلاحظ أنه لَا يحرم بالرضاعة الأمهات والأخوات فقط، بل البنات والعمات والخالات، وبنات الأخ والأخت، وإن نزلت درجاتهن في القرابة. وقد فهم كثيرون من المفسرين تحريم هذا كله من الآية الكريمة؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى لما سمى المرضع أما، وابنة المرضع أختا، فقد نبه بذلك إلى أنه أجرى الرضاعة مجرى النسب، ففهم بفحوى الخطاب باقي المحرمات رضاعا اللائي يعتبرن نظيرا للقريبات، وإنه قد نص على تحريم الأخت رضاعا، وليست الأخت أقرب من بنت البنت الرضاعية، فتحرم عليه بالأولى، ولقد جاءت السنة موضحة ذلك المعنى، فقد روى أنه لما طُلِبَ إليه عليه الصلاة والسلام أن يتزوج ابنة عمه حمزة قال: " لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " (١) وروى أن عائشة كانت قد رضعت من امرأة أبي القُعَيْس، فجاء أخوه أفلح يستأذن عليها، فقالمت: أرضعتني امرأة أخيه، فلا آذن له، حتى أستأذن رسول الله - ﷺ -، فلما ذكرت ذلك لرسول الله قال: " ائذني له فإنه عمك تَربت يداك " (٢)، وذلك لأنها لما رضعت من امرأة أخيه على ولد أخيه اعتبر أبا رضاعيا لها، فيكون هو عمها.
________
(١) رواه بهذا اللفظ مسلم: الرضاع - تحريم ابنة الأخ من الرضاعة (١٤٧٧) عن سعيد بن أبي عروبة، وبنحوه رواه البخاري: الشهادات - الشهادة على الأنساب (٢٦٤٥) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي القُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا القُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي =
والحكمة من التحريم بالرضاعة أن المولود يتكون جسمه من جسم التي أرضعته فيكون جزءا منها، كما هو جزء من أمه، التي حملته، وإذا كانت هذه غذته بدمها في بطنها، فتلك غذته بلبنها في حجرها، وربما تكون مدة الإقامة في حجرها أطول كثيرا من مدة الحمل، فكان لابد أن يثبت لهذه الأم الرضاعية ما يثبت للأم النسبية من حُرْمَة وكرامة، وإن تكريم المرضعات بذلك التحريم الذي يكون للأمهات الحقيقيات يشجع النساء على الرضاعة، فلا يضيع الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، وفي هذا التحريم فوق ذلك تنبيه إلى أن يتخير الآباء من يرضعن أولادهم؛ لأنهم إذا علموا أن أولادهم ستتكون أجزاؤهم ممن يرضعنهم تخيروهن من ذوات الأجسام القوية، والدماء النقية التي لَا يدنسها مرض ينتقل بالوراثة، ولقد كان العرب والسلف الصالح يتخيرون مراضع أولادهم لهذه المعاني..
(وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) هذه النصوص تعرضت للمحرمات بسبب المصاهرة، وهي تتم ما ابتدأه سبحانه
_________
= امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي عَمُّكِ؟»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ. [رواه البخاري واللفظ له: النسب - قول النبي - ﷺ -: تربت يمينك (٦١٥٦)، ومسلم مختصرا (١٤٤٥)].
(١) متفق عليه: رواه البخاري (٢٥٩٥) كتاب الشهادات - باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض، ومسلم: إنما الرضاعة من المجاعة (٣٥٦١). من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.
أولاها: (أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) وأمهات من كانت زوجة للشخص يكُن حراما سواء أكن أمهات صلبيات أم جدات، فيشمل النص كل الجدات، لما ذكرنا من أن كلمة الأمهات تشمل الجدات، ولإجماع الفقهاء على ذلك، ولبيان النبي - ﷺ -.
وأما من عقد عليها وافترق تحرم عليه، سواء أدخل بها أم لم يدخل؛ لأن الأم توحش صدر ابنتها إذا تزوجت من مطلقها، ولأن الأم لَا يليق بها أن تتطلع إلى الزواج ممن كان زوج ابنتها، ولو لم يدخل بها، فإن ذلك مخل بكرامة الأمومة وشرفها وحنانها، وهو سبيل لقطع رحمها، وشيوع ذلك يؤدي إلى الفساد.
والطائفة الثانية بينها الله تعالى بقوله: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِى حُجُورِكُم مِّن نّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).
والربيبة هي ابنة الزوجة لأن الزوج في أكثر الأحوال يَرُبُّهَا أي يربيها ويعطف عليها، وهي في غالب الأحوال تكون في حجره، أي في بيته وتحت رعايته، فقوله تعالى: (اللَّاتِي فِى حُجُورِكُم) كناية عن الرعاية والحياطة والعطف، وغيرها من أنواع البر التي يحوط بها أولاد زوجته من غيره إن كان رجلا عطوفا كريما، وهذا الوصف جار مجرى العادة، والتعبير فيه مجازي لبيان قبح من يتزوج بنات امرأته، وقد اشترط للتحريم أن يكون قد دخل بزوجته التي افترق عنها، وأراد أن يتزوج ابنتها، ولذلك صرح سبحانه وتعالى بالحل، إن لم يكن قد دخل بالام وافترق عنها وأراد الزواج بالبنت، إذ قال سبحانه: (فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكمْ) أي لَا إثم عليكم في أن تعقدوا عليهن، وإن المعاني التي من أجلها حرم الزواج بالأم عند العقد على البنت ليست قوية في حال التزوج بالبنت بعد الافتراق عن الأم، فالأم لها من الحنان والعطف والشفقة ما يجعلها تغفر لابنتها تزوجها ممن كان زوجها إذا لم يكن دخول، ولأن البنت ليس
والحكمة في التحريم واضحة، لأنه لو كانت الإباحة، فيباح للرجل أن يطلق الأم المدخول بها ويتزوج ابنتها، ويطلق البنت ويتزوجها، لأدى ذلك إلى إلى تقطيع الأرحام بين الأم والبنت، ولأدى إلى التضييق في الأسرة، فلا يباح للرجل أن يضم إليه أولاد امرأته، ولا يباح له أن يعطف على بناتها، ويؤويهن عنده إن كن في حاجة إلى إيواء، خشية أن يؤدي ذلك إلى الرغبة في الزواج بواحدة منهن.
والطائفة الثالثة بين سبحانه وتعالى تحريمها بقوله: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) والحلائل جمع حليلة وهي الزوجة التي تحل، والأبناء يشملون الأولاد من الطبقة الأولى والطبقات الأخرى، وقد انعقد الإجماع على ذلك، فمن كانت زوجة ابنه أو ابن ابنه أو ابن بنته لَا تحل له لأنها كانت حليلة لأحد هؤلاء، والتحريم ثابت سواء أدخل بها فرعه أم لم يدخل، وقوله تعالى (مِنْ أَصْلابِكُمْ) - معناها من ظهوركم، وكان في ذكر كلمة (أبنائكم) ما قد يغني عن ذكر (أَصْلابِكُمْ)، ولكنها ذكرت ليخرج الذين يُتَبَنَّوْنَ، فقد كان العرب يعتبرون المتبنَّى ولدا له كل حقوق الأولاد، ويحرمون على أنفسهم الزواج من أزواج التبنين، وقد سماهم القرآن أدعياء، ولذلك قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥).
ومن أجل إباحة الزواج بمن كانت زوجة المتبنى أمر الله نبيه بأن يتزوج امرأة زيد بعد أن يطلقها لأنه كان متبنى للنبي - ﷺ - في الجاهلية، ولذا قال سبحانه عند الأمر بزواجها: (فَلَمَّا قَضي زَيْدٌ فِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
(وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) هذا نوع جديد من التحريم المؤقت، وهو ألا يجمع الرجل بين امرأة وأختها في عصمته، فلا يصح أن يتزوج أخت زوجته، وهي في عصمته، أو يكون قد افترق عنها وعدتها لم تنته، فإن ذلك حرام؛ لأنه يؤدي إلى قطع الرحم بينهما، ومثل الجمع بين الأختين الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وابنة أخيها وابنة أختها، وقد ثبت تحريم الجمع بين هؤلاء لقول النبي - ﷺ - فيما رواه أبو هريرة: " لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا المرأة على ابنة أخيها، ولا ابنة أختها "، وزاد في بعض الروايات: " إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم " (١)، وقد انعقد إجماع من يعتدّ بإجماعهم على ذلك. وقد قال بعض المفسرين: إن تحريم الجمع بين هؤلاء يثبت من نص القرآن في قوله تعالى: (وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَينِ)؛ ذلك لأن التحريم لخشية إيحاش قلب الأختين بالعداوة، ويكون بينهما ما بين الضرائر من مبادلة الأذى، وإن ذلك أظهر في الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها، فأولى أن يكون التحريم في الجمع بينهما، ولأن العمة والخالة بمنزلة الأم.
(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) يظهر أن هذا كان يقع من العرب في الجاهلية، ومنهم بعض الذين آمنوا، ولذلك بين الله سبحانه أن ذلك موضع
________
(١) رواه أصحاب السنن، وما اتفق عليه البخاري: النكاح (٥١٠٨)، ومسلم: النكاح - تحريم الجمع بين المرأة (٨ْ ٢٤) إلى قوله: " ولا على خالتها "، ورواه أبو داود (٢٠٦٥) وأحمد (٩٣٦٩) وغيرهما: عَنْ أبِي هرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " لا تُنْكَحُ الْمَرأةُ عَلَى عَمًتِهَا وَلا الْعَمَّةُ عَلَى بِنْت أخِيهَا وَلا الْمَرأةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلا الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أخْتِهَا وَلا تُنْكَح الْكبْرَى عَلَى الصُغْرَى وَلا الصغْرَى عَلَى الْكُبْرَى ". وأما هذه الزيادة وهو قوله: " فَإِنًكم إنْ فَعَلْتُم ذَلِكَ قَطَعْتُم أرحامكُم ".
فمن رواية الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى أبو داود في مراسيله عن عيسى بن طلحة: قال: نهى رسول الله - ﷺ - أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة. [راجع مرقاة المفاتيح - ج ٣ ص ٩٣٩، نصب الراية للزيلعي: فصل في بيان المحرمات - الحديث الرابع].
* * *
* * *
قوله تعالى (وَالْمُحْصَنَاتُ) بالضم معطوف على أمهاتكم في آية التحريم السابقة التي صدرت بقوله تعالى: (حرِّمَتْ عَلَيْكمْ أُمَّهَاتُكُمْ)، فهذه الآيات تتمّة لبيان المحرمات. ثم بعد ذلك بيَنت المحللات من النساء بعبارة جامعة، ثم بعبارة مفصلة لحل الإماء. وأحْصَنْ متلاقية في المعنى مع كلمة الحصن، وهو المكان المحكم الذي يُتقى به أذى العدو، فمعنى أحْصَنَ المرأة جعلها في حصن الفضيلة، وقد جاء في مفردات الأصفهاني: (يقال حصان للعفيفة، ولذات حرمة، وقال
وبهذا يتبين أن المرأة المحْصَنة هي التي صانت نفسها وتحصنت بحصن الفضيلة والبعد عن الفحشاء، وإحصانها بزواجها، أو بعفافها المجرد، أو بحريتها وشرفها، ولذلك تطلق كلمة المحصَنَات، ويراد بها أحيانا العفيفات، وتطلق بمعنى الحرائر، وفي هذه الآيات استعملت كلمة المحصنات بالمعاني الثلاثة، فقوله (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) المراد المتزوجات، وقوله تعالى (الْمُحْصَنَات الْمُؤْمنَات)، المراد الحرائر، وقوله (مُحْصَنَاتً غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)، المراد العفيفات، وقوله تعالى: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْف مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِن الْعَذَابِ) المراد بهن الحرائر.
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكمْ) المحصنات هنا المتزوجات اللائي يكنّ في عصمة أزواجهن، ويدخل في عموم المحصنات المعتدات، فزوجة الغير ومعتدته لَا تجوز، وتحريمهن ثابت بمقتضى الفطرة والطبيعة الإنسانية، وسنَّة الله تعالى في الخلق والتكوين، ولكن استثني من ذلك الدخولُ بغير الزوجات المملوكات، فإنه يجوز الدخول بهن، والاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن، ، لأن الكلام في العقد لَا في الدخول، إذ إن قوله تعالى: (حُرِّمتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتكُمْ) إلى قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ) كل هذا في تحريم العقد، لَا في تحريم الدخول فقط، فالاستثناء بعد ذلك في الدخول بملك اليمين، لَا يكون على منهاج الاستثناء المتصل، وقد قرر العلماء أن السبايا اللائي يدخلن في الرق لَا يلتفت إلى زواجهن السابق، بل تصير ملكا يحل للمالك أن يدخل بها بمقتضى الملك، لقوله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)، وهذا متفق عليه، وهو مما ينطبق عليه النص الكريم، فقط ينتظر حتى تستبرئ رحمها من الحمل.
ويتبين من هذا أن الاستثناء الخاص بالدخول بملك اليمين مقصور على حال السبى بالاتفاق، وقد قيل إن الآية نزلت في ذلك، وادعى بعض الفقهاء أنها تشمل حال المشتراة التي سبق زواجها.
(كتَابَ اللَّه عَلَيْكُمْ) جاء هذا النص بعد بيان المحرمات من قوله تعالى:
(حرِّمَتَْ عَلَيْكُمَْ أمَّهَاتُكُمْ) إلى قوله: (وَالْمُحْصَنَات) وكان سياقه لتأكيد التحريم وتوثيقه، و " كتاب الله "، لها في الإعراب تخريجان، كل واحد منهما يشير إلى معنى مستقيم: أولهما - أن يكون (كتاب) مصدر كتب، والمعنى: كتب الله تعالى التحريم كتابا مفروضا بأحكامه عليكم، فليس لكم أن تتخلوا عنه. وثانيهما - أن يكون المراد القرآن، والمعنى: الزموا كتاب الله الذي هو حجة عليكم إلى يوم القيامة، وهو الذي بين شريعة تحريم المحرمات فأطيعوه.
فكلا التخريجين يؤدي إلى توثيق التحريم وتوكيده بنسبته إلى الله تعالى، إما باعتباره كَتَبَه وفَرَضه هو، وإما لأنه نص عليه في كتابه الخالد الباقي إلى يوم القيامة، ولم يترك بيانه لرسول أو نبي.
(وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) في الآيات السابقة بيان المحرمات، وفي هذا النص الكريم يشير بلفظ عام إلى الحلال من النساء، فـ (ما) هنا المراد بها النساء، وقالوا تكون لما لَا يعقل و (من) تكون لمن يعقل؛ وهي هنا لمن يعقل، لأن العموم
وكلمة (وراء) المراد بها غير هؤلاء، وهي في أصل استعمالها للخَلْف، وكأن المعنى أن المحرمات مقدمات إلى الأمام، والمحللات خلفهن، وفي ذلك إشارة إلى أن التحريم كان للتكريم والتشريف، وملاحظة المودة، فليس التحريم إيذاء، ولكنه تكريم. وقد قيل إن الآيات السابقة لم تشمل كل المحرمات، فالجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها، حرام، ولم ينص عليه في المحرمات، فكأن الجمع جائز بينهن، ولقد فهم هذا بعض الذين لَا يأخذون بالسنة المشهورة، وقد أجيب عن ذلك بإجابتين:
الأولى: أن هذا النص جاء بصدد بيان المحللات بذواتهن، بخلاف التحريم - لعارض الجمع فقد بينته السثُنة، فإن الخالة وحدها حلال (٢)، وبنت الأخت وحدها، وكذلك بنت الأخ والعمة، كل واحدة حلال بذاتها، إنما التحريم هو في الجمع، والنص بين المحللات لذواتهن، وهذه الإجابة بينها الشافعي في الرسالة.
الثانية: أن التحريم ثابت في الجمع بالنص السابق، لأن النص السابق قال الله فيه سبحانه فحرم الجمع بين الأختين بالنص، وثبت تحريم الجمع بين الخالة وبنت أختها والعمة وبنت أخيها بالأولى، لأن الخالة صِنْوُ الأم، وكذلك العمة،
________
(١) تمحل للأمر: احتال له [القاموس - محل].
(٢) أي خالة المرأة وحدها حلال، وهكذا عمتها.
(أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) هذا بيان ضرورة المهر لشرف المحل، ولإعزاز المرأة وتكريمها، ولتستعين به فيما تتأهل به للزواج، ومعنى النص الكريم أن الإحلال يقتضي أن تبتغوا، أي أن تطلبوا الزواج أشد الطلب، وأن ترغبوا فيه أشد الرغبة، متقدمين في ذلك بأموالكم، فإن المال يكون دليل الرغبة.
ثم أشار سبحانه إلى فرق ما بين الزواج والفاحشة، فقال: (مُّحْصنينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) أي ابتغوا الزواج واطلبوه حالة أنكم تحصِّنون به أنفسكم، ونُطَفكم، وتحفظون به أولادكم، فمعنى الإحصان هنا الإعفاف، وما يتضمنه من حفظ النطف والولد. وجعل في مقابل الذين يحصنون أنفسهم ونطفهم الذين يسافحون، والسفاح من سفح الماء أو الدم أساله، ومنه قوله تعالى: (أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا...)، والزاني يسفح النطفة ويلقيها ويسيلها على تراب الرذيلة. فالسفاح على هذا إلقاء للنطفة الإنسانية، وهي الجوهر المادي للإنسان، والزواج تحصين لهذه النطفة، ووضع لها في حرْثها الذي أعده الله تعالى لها.
(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) الاستمتاع الاستيلاء على ما فيه متعة وخير ومتاع، وقد كان الرجل في الجاهلية يتزوج المرأة، ويستمتع بها، ثم يتركها خالية الوفاض (١)، فذكر الله تعالى ضرورة إعطاء المهور التي فرضت وقدرت وقت العقد، وقد سماها الله تعالى هنا أجرا، والأجر هو الجزاء على ما قدم الإنسان من عمل، وقد يطلق على معنى العطاء، كما هو ظاهر قوله تعالى: (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنون)؛ لأن اقتران كلمة الأجر بعدم المَن يرشح لأن يكون المراد بها العطاء، إذ هو الذي يجري فيه المن والأذى، وعلى أي حال فإن الظاهر في كلمة الأجر هنا هو الجزاء، وقد يقال: لماذا عبر هنا بالأجر، وفي
________
(١) أصل الوِفَاض الجلدة التي توضع تحت الرحى [لسان العرب - وفض]. فخلوُّها إذن كناية عن الفقر.
وهذا النص قد تعلق به بعض المفسرين الذين لم يفهموا معنى العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة، فادعوا أنه يبيح المُتْعَة، وهي عقد بين الرجل والمرأة يستمتع بها مدة معلومة في نظير مهر معلوم، أو في نظير أجرة معلومة، ولو تخلفت المرأة في بعض المدة ولم تسلم نفسها نقص من مهرها، أو بالأحرى من أجرتها والنص بعيد عن هذا المعنى الفاسد بُعْدَ من قالوه عن الهداية، لأن الكلام كله في عقد الزواج، فسابقه ولاحقه في عقد الزواج، والمتعة حتى على كلامهم لا تسمى عقد نكاح أبدا، وقد تعلقوا مع هذا بعبارات رواها مسلم عن النبي - ﷺ - أنه أباح المتعة في غزوات ثم نسخها، وبأن عبد الله بن عباس كان يبيحها في الغزوات (٢)، وهذا الاستدلال باطل، لأن النبي - ﷺ - نسخها، فكان عليهم عند تعلقهم برواية مسلم أن يأخذوا بها جملة أو يتركوها، وجملتها تؤدي إلى النسخ لا إلى البقاء، وإذا قالوا: إنا نتفق معكم على الإباحة ونخالفكم في النسخ فنأخذ المجمع عليه ونترك غيره، قلنا لهم: إن النصوص التي أثبتت الإباحة هي التي أثبتت النسخ، وما اتفقنا معكم على الإباحة، لأننا نقرر نسخ الإباحة، على أننا نقول إن ترك النبي - ﷺ - المتعة لهم قبل الأمر الجازم بالمنع ليس من قبيل الإباحة، بل هو من قبيل الترك حتى تستأنس القلوب بالإيمان، وتترك عادات الجاهلية،
________
(١) أي سمت المهر أجرا.
(٢) عن الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَقَالَ: «أَلَا إِنَّهَا حَرَامٌ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَانَ أَعْطَى شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ ". [رواه مسلم: النكاح - نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ (١٤٠٦)].
(وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) الجنوح معناه الميل، والجناح الإثم، والفريضة المهر المقدر، والتراضي من بعده إما على زيادته، وإما على نقصه، والمعنى لَا ميل إلى الإثم في الأمر الذي تتراضون عليه من بعد المهر الذي سميتموه وفرضتموه على أنفسكم، وعليكم أن تلتزموا بما التزمتم من بعد العقد، قليلا كان أو كثيرا، مع ملاحظة أن المرأة إذا تركت بعض مهرها من بعد الفريضة فيجب أن يكون ذلك بطيب نفسها، كما قال تعالى: (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا)، فلابد من طيب النفس، وقد ذكرنا ذلك من قبل.
________
(١) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ» قال أبو عيسى: «حَدِيثُ عَلِيٍّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، «وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْرِهِمْ» وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ شَيْءٌ مِنَ الرُّخْصَةِ فِي المُتْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ حَيْثُ أُخْبِرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [الترمذي: النكاح - ما جاء في تحريم نكاح المتعة بل قد روى الترمذي (١١٢٢) عَنْ ابْنِ عَثاسِ قَالَ: إئمَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِى أوَلِ الإِسلام، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدُمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَجُ الْمَراةً بِقَدْرِ مَا يَرَى أنهُ يُقيمُ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ شَيْئَهُ حَتَى إِذَا نَزَلَتْ الآيَةُ: (إِلا عَلَى أزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلكت أيْمَانُهُمْ) قَالَ ابْنُ عَباس: فكل فَرْج سِوَى هَذَيْنِ فَهُوَ حَرَامٌ.
(٢) رواه البيهقي في الكبرى (١٤٣٦٢) ج ١٠، ص ٤٧٩، كما رواه الطبراني في الأوسط عن محمد ابن الحنفية ورجاله رجال الصحيح. راجع مجمع الزوائد (١٩٣٧).
* * *
________
(١) الرِّبْقُ، بالكسر: حَبْلُ فيه عِدَّةُ عُرى، يُشَدُّ به البَهْمُ، كُل عُرْوَةٍ: رِبْقَةٌ، بالكسر والفتح. القاموس المحيط - ربق.
* * *
واشترط الشافعي ومالك وأحمد لإباحة زواج الأمة أن تكون مؤمنة كنص الآية، وأبو حنيفة أباح الزواج من الأمة الكتابية إن لم يكن عنده حرة. وشدد الإسلام في إباحة الزواج من الإماء لحمل المالكين على عتقهن، فمن رغب في أمة فليشترها، وليعتقها ثم يتزوجها؛ ولأن الولد يتبع أمه في الرق، فلمنع كثرة الرقيق
________
(١) متفق عليه، رواه البخاري: العتق - كراهية التطاول على العبيد (٢٥٥٢)، ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (٢٢٤٩) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي مَوْلاَيَ، وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلاَمِي ".
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) هذه جملة معترضة بين إباحة نكاح الفتيات المؤمنات، وصورة العقد عليهن. وهذه الجملة السامية فيها فائدتان: أولاهما: التفتيش النفسي عن القلب، وما تخفيه الصدور بحيث يكون الشخص دائم التفتيش عن عيوبه؛ لأن الله تعالى أعلم بإيماننا منا، وهو سيحاسبنا على ما يعلم، وأفعل التفضيل في قوله تعالى: " أعلم " على بابه، فهو أعلم منا بأنفسنا، أو نقول إنه للعلم المطلق الذي لَا يصل علم مهما يكن إلى مقداره، فيكون أفعل التفضيل على غير بابه. والفائدة الثانية: بيان أن الناس جميعا من دم واحد وأنه لا يصح أن يستعلي حر على عبد، ولا حرة على أمة، فإن بعضنا من بعض، فقوله تعالى: (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) أي أنكم جميعا تضمكم إنسانية واحدة، وكل له حقوقها وعليه واجباتها. فالعبيد من الأحرار؛ لأنهم من أصل حر، والأحرار قد يكونون من العبيد، والله سبحانه وتعالى فوق الجميع بالعدل، فلا يظلم بعضكم بعضا.
(فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْروفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) النكاح العقد ولا يستعمل في القرآن إلا بهذا المعنى، والمعنى: فاعقدوا عليهن عقد الزواج بإذن أهلهن، وأهلهن في هذا المقام هم المالكون لهن. وعبر عن المالكين بالأهل حملا للناس على الأدب في التعبير، ولأنه يجب أن تكون العلاقة بين العبد ومالكه علاقة أهل لَا علاقة رق، ولذا يجب عليه أن يعطيه كل حقوق قرابته من مأكل ومسكن وملبس، ولذا قال النبي - ﷺ -: " إخوانكم خَوَلكُم (أي مكنكم الله من رقابهم) قد ملككم الله إياهم، ولو شاء لملكهم إياكم، أطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تكسون " (١). وأمر
________
(١) رواه بلفظ مقارب البخاري: الإيمان (٢٥٤٥)، ومسلم (١٦٦١) عن أبي ذر رضي الله عنه، كما رواه غيرهما من أصحاب السنن، وليس في هذه الرواية عندهم ذكر الملك.
- وقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) حال من قوله: (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)، وهنا وصف بالإَحصان، أي العفة، الزوجات دون الأزواج، وذلك لأن الزوجات من الإماء، وهن مظنة الانزلاق، إذ الرق والضعف وفقدان الحرية يكون معها الهوان، وحيث كان الهوان كانت الرذيلة قريبة؛ لأنه لَا شيء كالهوان يفتحِ السبيل للشيطان، ولذلك طالبهن الله تعالى وقد كرمهن بالزواج أن يُحَصِّن أنفسهن به، وأن يباعدن السفاح، ولهذا المعنى كانت الجريمة من الإماء أقل شأنا من الجريمة من الحرائر، وكانت العقوبة عليهن أقل. ومعنى اتخاذ الأخدان اتخاذ الخليل الملازم من غير زواج، ولو باتفاق على مهر ونفقة، فالخدن هو الخليل، وهذه هي المتعة التي حرمها القرآن والنبي - ﷺ -.
(فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) معنى الإحصان هنا الزواج، فمعنى قوله تعالى: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) إذا تزوجن.
وجاء الشرط بـ " إذا " الدالة على تحقق الشرط، لوقوع ذلك الإحصان وللترغيب فيه، والفاحشة هنا الزنا، والعذاب هو الحد، والمحصنات هنا الحرائر، وعبر سبحانه في جانب شرط الفاحشة بـ " إن " في قوله (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ)، و " إن " تدل على الشك في وقوع الشرط؛ لأن الفاحشة غير متوقعة وهي أمر منفور منه غير متصور أن يكون مرغوبا فيه، وخصوصا من زوجة حرة أو غير حرة.
ومرمى النص الكريم أن الأمة إذا ارتكبت الفحشاء تكون عقوبتها نصف عقوبة الحرة؛ لأن الجريمة تهون بهوان مرتكبها وتعلو بعلو مرتكبها. وإذا علَتْ
وإن الزواج من الإماء هو عند خشية العنت والمشقة، ولذلك قال سبحانه:
(ذَلِكَ لِمَنْ خَشِي الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رحِيمٌ) العنت المشقة الشديدة التي يخشى منها التلف أو الوقوع في الزنا، والإشارة في قوله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ) للزواج من الإماء المنوه عنه بقوله تعالى: (وَمن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ) و (خشي) معناها خاف من أمر متوقع هو قريب من الواقع، فالرق بين الخوف والخشية أن الخشية تكون من أمر متوقع قريب الوقوع أو واقع بالفعل، فكان زواج الإماء لَا يباح إلا للضرورة أو للحاجة الشديدة، ومع ذلك فالصبر أولى، ولذا قال: (وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لكُمْ) فتحملوا مشقة الحرمان أولى من زواج الإماء؛ لأن الولد يكون رقيقا، وفي ذلك تكثير للرق، ولأنه لَا يمكنه أن يقوم على تربيته وشئونه، ولأنها لَا يتكون منها مع بقائها على رقها بيت زوجية صالحة؛ إذ ستكون مطالبة بخدمة وليها، فالحياة
________
(١) قال الآلوسي: (فَإنْ أتَينَ بفَاحشَة) أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك. (فَعَلَيْهن أي فثابت عليهن شرعا (نصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَات) أي الحرائر الأبكار (منَ الْعَذَاب) أي الحد الذي هو جلد مائة، فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأنه لَا يتنصف. وقال ابن كثير: وقوله: نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه وهو الجلد لَا الرجم، والله أعلم. وقال الثعالبي: و (المُحْصَنَاتُ) في هذه الآية: الحَرَائِرُ؛ إذ هي الصفَةُ المَشْرُوطة في الحد الكامِلِ، والرجمُ لَا يتنصف، فلم يُرَدْ في الآية بإجماع.
ومن هذا يكون السبيل للزواج بهن شراءهن وإعتاقهن، وبذلك يقل الرقيق، ويكثر الأحرار، وإذا دخل بها مولاها كان ابنه حرا وكان سبيلا لحريتها ومنع بيعها، فيكثر الأحرار. وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله: (وَاللَّه غَفورٌ رحِيم) للإشارة إلى عظيم رحمته بعبادِه فيما شرع، وإلى عظيم غفرانه لمن يرتكب إثما ثم يتوب، وإلى أن غفرانه من رحمته، إنه غفار لمن اهتدى. فاللهم اجعلنا من التوّابين الذين ينالون مغفرتك، إنك أنت التوَّاب الرحيم.
* * *
(يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)
* * *
بين سبحانه في الآيات السابقة المحرمات، ونبه إلى ما كان يقع فيه أهل الجاهلية من استباحة بعض هذه المحرمات، كزواجهم ممن كانوا أزواجا لآبائهم،
________
(١) مسند الفردوس عن أبي هريرة مرفوعا، رواه الديلمي والثعلبي عن أبي هريرة وضعفه السخاوي [تنقيح القول الحثيث بشرح لباب الحديث - الباب الخامس والعشرون، وجاء في كشف الخفا (١١٢٣) ج ٤، ص ٤٠. رواه الثعلبي بسند فيه أحمد بن محمد اليماني - متروك - عن يونس بن مرداس خادم أنس - وهو مجهول - أنه قال: كنت بين أنس وأبي هريرة، فقال أنس: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " من أحب أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر "، فقال أبو هريرة: سمعته يقول: " الحرائر صلاح البيت، والإماء فساد البيت "، أو قال: " هلاك البيت ".
وفى النص القرآني الكريم مباحث لغوية لابد من الإشارة إليها لتقريب المعنى السامي:
أولها - معنى اللام في قوله تعالى: (يرِيدُ اللَّه لِيبَيِّنَ)، فإن له تخريجات مختلفة، منها أن المعنى: يريد الله تعالى ذكر ما ذكر من محرمات ويقصد إليه ليبين لكم، فاللام على هذا تكون للتعليل، و " أن " مضمرة بعدها - ومنها أن اللام
وثانيها - قوله تعالى: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم)، نرى أن " هَدَى " قد تعدت بنفسها هنا، ولم تعدب " إلى " ولا باللام، وإن ذلك جائز، فالفعل " هدى " يتعدى بنفسه كما في هذا النص، وباللام كما في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا...)، وقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، ويتعدى بـ " إلى " كما في قوله تعالى: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطِ مُّسْتَقِيمٍ)، وقوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ)، وقوله تعالى: (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ...). وفي الواقع أن اختيار القرآن الكريم للتعبيرات المختلفة من حيث إنه يعبر أحيانا بالتعدية بـ " إلى "، وأخرى باللام، وثالثة بنفسها، يكون لمعان اقتضاها المقام. ويصح أن يقال إنها تعدت هنا بنفسها لتضمنها معنى البيان وقبول الفطرة السليمة لهذا البيان، فمعنى يهديكم سنن الذين من قبلكم: بينها لكم بيانا مشفوعا بالقبول منكم لأنه الفطرة.
(وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قرن سبحانه وتعالى التوبة بعد هذا البيان لسببين:
أحدهما - أن يبين أن الله تعالى فاتح باب التوبة دائما، فمن تاب من الذنوب صغيرة أو كبيرة، فإن الله يتوب عليه، ويغفر له ما تقدم من ذنبه إذا كانت توبته نصوحا.
وثانيهما - أن الآيات السابقة تتضمن تحريما لأمور كان أهل الجاهلية يستبيحونها، فقد كانوا يستبيحون نكاح زوجات الآباء، ويستبيحون الجمع بين المحارم، ويستبيحون اتخاذ الأخدان، وهو ما يسمى اتخاذ الخلائل في عصرنا، وكانوا يثبتون بذلك النسب، فبين الله حرمة هذا كله، ولا تزال تطلع على طائفة من الناس يعيشون عيشة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخدان، ويستبيحونها، وقد ذكر سبحانه وتعالى لهذا أن الله بين الحلال والحرام، وعلى المرتكب لأي محرِم أن يقلع، وإن الله تعالى يتوب عليه، والتعبير عن قبول التوبة في كل المواضع (يتوبَ عَلَيْكُمْ) في التعدي بـ " على "؛ للإشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب، ومنع لكشفها، فهي غطاء على المعاصي يمنعها من الظهور، حتى يذهب تأثيرها في النفس، وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) للإشارة إلى أن الله ذا الجلال والإكرام والإنعام المستحق وحده للعبودية مطلع على كل ما يعمل الإنسان من خير وشر، وهو يعلم الذنوب التي يقع فيها العباد، وهو الذي يغفرها عند التوبة، وإنه سبحانه وتعالى حكيم يضع الأمور في مواضعها، فيغفر ويقبل التوبة من عباده إذا أخلصوا النية، واعتزموا الخير وأقلعوا عن الشر. وقد بين سبحانه محبته للتوبة فقال:
* * *
* * *
" هذا النص يفيد إرادة الله سبحانه وتعالى قبول توبة عباده، وستر ذنوبهم وغفرانها، وذلك إذا أقلعوا عن هذه الذنوب، وتابوا إلى الله توبة نصوحا؛ لأن الله تعالى يريد التوبة من عباده عما أسلفوا من ذنوب، وقد بين لهم طريق الحق، والوصول إليه، وأن الماضي من الذنوب لَا يعوق عن الاتجاه إلى الله ولا يكون سببا للقنوط من رحمته، كما قال تعالى: (قُلْ يَا عبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنًّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وعلى ذلك تكون إرادة الله تعالى للتوبة عليهم متضمنة بيان الهداية لهم، ووجوب سلوك طريق الفطرة المستقيمة، وتسهيل الرجوع إليه سبحانه لتتطهر نفوسهم وتصغي إلى الحق أفئدتهم، وغفران الذنب إن أحسنوا التوبة وأخلصوا النية، واعتزموا السير في طريق الحق، وإنه في الوقت الذي يريد الله للناس الهداية والتوبة - يوجد - من إخوان إبليس من يحرضون على الغواية، ولذا قال سبحانه:
(وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) هذه إشارة إلى كمال المباينة بين دعوة الحق التي يدعو إليها الله سبحانه وتعالى، ويبين سبلها، ودعوة أولياء الشيطان، فإن دعوة الله تعالى هي دعوة إلى الفطرة السليمة التي لم تنحرف، ولم تخرج عن النجد السوي، ليس فيها تحريم للطيبات ومتع الحياة وليس فيها انطلاق إلى الأهواء والشهوات والخروج عن سنن الفطرة المستقيمة.
وأما دعوة أولياء الشيطان، فهي دعوة إلى الانحراف، والميل إلى جانب الشهوة ميلا عظيما، ينحرف به عن سبيل الإنسانية المهذبة. وهذا الكلام يدل على أن الناس في كل عصر يوجد فيهم داعيتان: أحدهما إلى الحق والاعتدال، وأولئك يدعون بدعاية الرحمن، وهداية الأديان لَا تحرم ما أحل الله من طيبات، ولكن بقدر لَا اعتداء فيه ولا انحراف، وآخرون هم داعية الشيطان، وهؤلاء يكونون بأعمالهم وأقوالهم وأشعارهم في الماضي وصحفهم في الحاضر داعين إلى الانحراف، وعبر عن هؤلاء سبحانه بقوله: (وَيُرِيدُ الَّذِين يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) أي
سبحانك ربي، ما أصدق بيانك وأحكم قرآنك! إننا نجد الآن كما كان في الماضي الذين يتبعون الشهوات ويريدون من أهل الحق أن يميلوا ميلا عظيما، فهؤلاء الآن يدعون إلى مجونهم، مرة باسم الوجودية، وأخرى باسم التحرر، وثالثة باسم الحرية، وقد كتبوا في ذلك كتبا، ونشروا قصصا مثيرة يدعون إلى أن يميل الناس كل الميل، واسترسلوا في ذلك استرسالا بكل وسائل الدعاية، فمن خيَّالة تُرِي المناظر المثيرة، ومناظر في الطرقات تحرض على الفسق والمجون، ومن استباحة علنية لكل ما يخالف الدين والخلق لتتحقق إرادتهم، ولكن إرادة الله تعالى غالبة بعونه سبحانه.
* * *
* * *
يريد الله تعالى بهذه الأحكام التي ليست فيها شدة تنوء بها القوى الإنسانية، وليس فيها حرمان من الطبائع البشرية، كما أنها لا تفتح باب الشهوات والعبث والمجون، يريد سبحانه أن يخفف عنكم، فلا يكون فيكم الحرمان من متع الحياة، ولا يكون فيكم الانطلاق الذي يحل جماعتكم، ويسلط عليكم الأهواء والشهوات، فترديكم، وتذهب ريحكم، فشرع الله تعالى إباحة الطيبات، ومن حرمها فقد خالف أمر ربه إذ قال سبحانه: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ...)، وقال تعالى: (قُلْ مَنْ حرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...)، وقال - ﷺ -: " كلوا
(وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) أي خلق الله تعالى الإنسان والضعف ملازم له، وليس الضعف المذكور هو الضعف البدني فقط، بل يشمل الضعف النفسي، فالتكليفات يلاحظ فيها ذلك الضعف، ولذلك كانت كل التكليفات يسهل تعويد النفس عليها، ولا يصعب احتمالها والمداومة عليها، وقد حث الإسلام على السهل من الأعمال التي تمكن المداومة عليها، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " (٢)، ولضعف الإنسان أبيح له من الشهوات ما لَا يجعله عبدا لشهوته، بل يكون سيدا عليها، وإن أبرز مظاهر الضعف الإنساني يكون أمام النساء، ولذا أبيح له مثنى وثلاث ورباع، من غير بغي ولا ظلم. ، ولقد قال سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا آتاهم من قبل النساء، فقد أتى عليَّ ثمانون سنة، وذهبت إحدى عيني، وأنا أعشو بالأخرى، وإن أخوف ما أخاف عليَّ فتنة النساء (٣)! وقانا الله تعالى شر ضعف نفوسنا، وقوى عزائمنا وهدانا إلى الحق، والله سبحانه وتعالى يتولانا برحمته.
* * *
________
(١) ذكره البخاري تعليقا، وسبق تخريجه من رواية النسائي وابن ماجه وأحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(٢) عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ". رواه البخاري: الرقاق - القصد والمداومة على العمل (٦٤٦٤).
(٣) عَنْ أسَامَةَ بْنِ زَيْد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَبِي - ﷺ - قَالَ: " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَة أضَرَّ عَلَى الرجالِ مِنْ النسَاءِ " [رواه البخاري: النكاح - ما يتقى من شؤم المرأة (٥٠٦٩)، ومسلم: الذكر والدعاء - أكثر أهل الجنة الفقراء (٢٧٤٠)].
* * *
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى الأسس التي يقوم عليها بناء الأسرة، وكيف يختار كل واحد من الزوجين صاحبه، وبين الآفات التي قد تعتري الأسرة في ابتداء تكونها، وبين أن دعائم الأسرة التي يقيمها عليها هي من الفطرة، وهي سنن الذين كانوا قبل الإسلام. وبعد هذا انتقل إلى العلاقات الاجتماعية العامة، وذلك تدرج من الخاص إلى العام، فالعلاقات في الأسرة خاصة والعلاقات بالمعاملات المالية علاقة عامة، ولذا قال:
(إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ منكُمْ) الاستثناء هنا منقطع، والمعنى لكن يباح لكم أخذ المال بالتجارة الناشئة عن تراض، فلا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس أخيه (١)، كما ورد في بعض الآثار عن النبي - ﷺ -. وقد يسأل سائل: لماذا جاء هذا بعد النهي عن أكل مال الناس بالباطل؟ والجواب عن ذلك أن بعض ما يستباح مما حرمه الله يشّبه بالتجارة، فالذين يأكلون الربا يشبهون الزيادة بالكسب الذي يجيء من البيع والشراء، ولذلك حكى الله سبحانه عن المشركين أنهم قالوا: (... إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْل الرِّبَا...)، ورد الله قولهم: (... وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...)، وبهذا بيّن الله سبحانه وتعالى حل التجارة حتى لَا يتوهم أحد أن مكاسب التجارة من أكل أموال الناس بالباطل، فإنها مال حلال ما دام أساسها التراضي وطيب النفس.
والتراضي أساس العقود عامة وأساس المبادلات المالية خاصة، فلا بيع من غير تراض ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا. وقد وسع الفقهاء الباب للرضا، فأباحوا للعاقد أن يفسخ العقد إذا خفيت العيوب ولم تظهر، لأن الرضا لم يكن على أساس سليم، وأباحوا للعاقد
________
(١) " إِنهُ لَا يَحِل مَالُ امْرِئٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " جزء من حديث رواه أحمد (٢٠١٧٢): أول مسند البصريين عن عم أبي حرة الرقاشي.
وهل التراضي أساس حر للتعاقد من غير قيد يقيده إلا التحريم؛ بمعنى أن كل ما يشترط ويتعاقد عليه المتعاقدون يكون حلالا ملزما للعاقدين ولو لم يرد به نص خاص؛. للفقهاء في ذلك منهاجان مختلفان أحدهما: أن التراضي أساس للإلزام والالتزام ولو لم يرد نص لكل عقد وشرط ما دام لَا نص يمنع، فكل ما يشترطه العاقدان ويتراضيان عليه يكون لازما لَا يصح نقضه، إذا لم يكن نص يحرمه، ولقد قال في ذلك عمر - رضي الله عنه -: مقاطع الحقوق عند الشروط. وأكثر الحنابلة وبعض المالكية على ذلك المنهاج. والمنهاج الثاني: أنه لا يلزم من الشروط والعقود إلا ما جاء الدليل على وجوب احترامه، وهذا منهاج الشافعية والحنفية فعندهم لَا يلزم الشرط إلا إذا قام الدليل على وجوب الوفاء به.
والتجارة باب من أبواب الكسب الطيب وفيها فائدة للناس، وهي تنقل ما فيه الحاجة الإنسانية من مكان إلى مكان، وبهذا النقل تتغير قيمة الأشياء، وزيادة القيمة بهذا النقل تقارب زيادة الأشياء بالزرع، وزيادة قيم الأشياء بالتحويل الصناعي، فإن الحديد مثلا إذا تحول إلى آلة زادت قيمته بما زادت الصناعة فيه، فكذلك بنقل البضائع من مكان إلى مكان تزيد القيمة بهذا النقل.
وإن علماء المسلمين كانوا يرحبون بالتجارة التي تنقل البضائع من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم، ولا يرحبون بالتجارة في البلد الواحد؛ لأن هذا ليس فيه طلب للأرزاق، ولأنه قد يؤدي إلى الاحتكار، وقد جاء في القرطبي: " والبياعات التي تحصل بها الأغراض نوعان: تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر، وهذا تربص واحتكار، قد رغب عنه أولو الأقدار، وزهد فيه ذوو الأخطار.
وإن النبي - ﷺ - قد حث على الاتجار بالنقل من بلد إلى بلد، ومنع الاحتكار وما يؤدي إليه، فقال النبي - ﷺ -: " المحتكر خاطئ والجالب مرزوق " (٢).
(وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) جاء هذا بعد النهي عن أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن المال عند الناس بمنزلة النفس أو قريب منها، وقد اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفسَكمْ) فقال بعضهم: معناه لا يقتل أحدكم نفسه، فإن ذلك إثم، ومن قتل نفسه فقد اعتدى على نفس حرّم الله قتلها، وهذا تأويل غير متفق مع السياق، وإن كان ظاهر اللفظ ربما يفيده، وقال بعضهم: إن المعنى ولا يقتل بعضكم بعضا، فإن قتل واحد منكم للآخر قتل لأنفسكم، وتحريض على الدماء بينكم، وقتل نفس كقتل الناس جميعا، ومن ذلك قوله تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعَا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، وإن السياق على هذا يكون فيه ترقٍّ في النهي عن الاعتداء، ابتدأ بمنع الاعتداء على المال، ثم بمنع الاعتداء على النفس، فهو انتقال من الكبيرة إلى أكبر منها. وقال بعضهم إن المعنى لَا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض، وبارتكاب المعاصي، فإن ذلك مفرق لجماعتكم مفسد لأمركم مذهب لوحدتكم، وبذلك تقتل الأمم والجماعات، وقد ارتضى هذا ابن بشير فقال: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفسَكُمْ) أي بارتكاب محارم الله تعالى ومعاصيه، واكل أموالكم بينكم. وإن هذا هو الذي نرتضيه، وهو يتضمن في ثناياه النهي عن القتل بكل ضروبه لأنه داخل في محارم الله.
________
(١) راجع الجامع لأحكام القرآن: تفسير سورة النساء (٢٩). الجزء ٥، ص ٣١.
(٢) روى مسلم في صحيحه: المساقاة - تحريم الاحتكار في الأقوات (١٦٠٥) أنه كَانَ سَعِيدُ بْنُ
المُسَيَّبِ يُحَدِّثُ أنَّ مَعْمَرًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " مَن احْتكَرَ فَهُوَ خَاطِئ ".
ومعنى الاحتكار: إمساك السلعة وعدم بيعها حتى يرتفع ثمنها.
* * *
________
(١) قال ابن جرير الطبري - ج ٥، ص ٢٠: " فإنه يعني أن الله تبارك وتعالى لم يزل رحيما بخلقه، ومن رحمته بكم كفَّ بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضا قتلا وسلبا وغصبا " اه
* * *
الإشارة هنا إلى الأمرين: أكل أموال الناس بالباطل وما يتضمنه من معاصٍ وطرق للشر مختلفة، والثاني ما يترتب عليه من قتل نخوة الأمة وتفرق أمرها، وذهاب وحدتها وتمكن أعدائها منها. والنص تهديد شديد، والعدوان في أصل اللغة معناه مجاوزة الحد المشروع قصدا، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهما متلاقيان في المعنى، والجمع بينهما كان ليشمل العذاب كل أحوال الارتكاب، وليخرج ما كان غير مقصود، فمن الظلم ما لَا يكون مقصودا لمن يتلف مال غيره غير قاصد، فإنه ظالم ويعوض ما تلف، ولكن لَا يكون له ذلك العذاب الشديد.
وقوله: (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا) وإن إنزال ذلك العذاب الشديد ليس أمرا على الله عسيرا، ولكنه على الله تعالى يسير سهل، ولذلك قال: (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) فكل ما في الكون ما غاب منه وما ظهر هو في قبضة يده، وإن بيان يسر هذا العذاب فيه تهديد أشد، وفيه بيان لقوة الله تعالى وعظمته في العقاب وفي الثواب معا.
* * *ـ.
* * *
بعد أن أنذر سبحانه وتعالى ذلك الإنذار الشديد فتح باب التوبة حتى لَا ييئس العباد من رحمته، ولا
وبتعريف الصغائر نستهدي إلى تعرف الكبائر، وقد روي في الصحيحين أن رسول الله - ﷺ - قال: " اجتنبوا السبع الموبقات "، قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: " الشرك بالله، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات " (١)، ولا شك أن هذا الحديث لا يدل على الإحصاء للكبائر، فقد ذكر في أحاديث أخرى أن منها عقوق الوالدين، وشرب الخمر، وقد جاء في حديث آخر أن من أكبر الكبائر الزنا، وأفحشه ما كان بحليلة الجار (٢). وقد قيل لابن عباس: الكبائر سبع، فقال رضي
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الوصايا - قول الله تعالى (إن الذين يأكلون أموال (٢٧٦٧)، ومسلم: الإيمان - بيان الكبائر وأكبرها. عَنْ أبِي هُرِيْرَةَ رَضِيَ اللًه عَنْهُ عَنْ النَبِي - ﷺ - قَالَ: " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ ".
(٢) يؤيده ما رواه البخارَى ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ ". رواه البخاري: تفسير القرآن.
وإننا إذا تتبعنا الكبائر التي ذكرها النبي - ﷺ - من غير إحصاء، نرى أنها قد اتسمت بسمتين - إحداهما: أنها تهدم أمرا ضروريا من ضروريات المجتمع، فالزنا يهدم الأسرة، والقذف يهدمها ويشيع الفاحشة، وشرب الخمر يفسد العقل وهو ضروري للمجتمع، والسحر يفسد العلاقات الإنسانية، وعقوق الوالدين ينقض بناء الأسرة من قواعده، وهكذا - والسمة الثانية: أن الاعتياد عليها يميت الضمير، ويجعل النفس تمرن على الشر.
ولذلك نقول: إن الكبائر هي المفاسد التي تهدم بناء المجتمع الفاضل، والمعاصي التي يصر عليها الشخص ومن شأنها أن تفسده أو تفسد غيره، ولو كانت في ذاتها هينة؛ لأن استمراء النفس للمعصية الصغيرة يسهل الكبيرة (١).
(وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) وعد الله الذين يباعدون الكبائر عن نفوسهم بأن يكفر عنهم سيئاتهم، وإنه ليس بعد زوال السيئات إلا الثواب، ولذلك قال تعالى: (وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا). " المُدْخَل " اسم مكان من " أدْخَل "، وعبر بالإدخال للإشارة إلى أن ذلك تفضل من الله ورحمة، إذ لم يملكوا الأسباب والمفاتيح إلا بتفضل منه ورحمة، ووصف المكان بالكرم للإشارة إلى أمرين: أحدهما: أنه مكان طيب، ينعم المقيم فيه، ويستطيب الإقامة، والثاني: أن من يحل فيه يكرمه. الله تعالى، ويفيض عليه برضوانه، فهو مكان كريم في ذاته، ولا يدخله إلا كريم مكرَّم يفيض الله تعالى عليه بكرمه ومنَّته.
* * *
________
(١) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَ رَسُولَ اللَّه - ﷺ - قالَ: " إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ " وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا.
* * *
التمني تصور ما لَا حقيقة له وطلب ما لم تتخذ الأسباب لتحصيله، ويتضمن معنى الطمع فيما في يد الغير، والحسد له، وإن ذلك يؤدي إلى شقاء النفس وفساد الخلق والدين، وإن الله تعالى فضل بعض الناس بالعقل والذكاء، وبعضهم بالجاه، وبعضهم بالقدرة على إدارة شئون الدولة، وبعضهم بفضل من المال. والفضل معناه الزيادة لَا ترتيب الدرجات، فقد يكون المفضول أعلى درجة عند الله ممن زاد عليه. ومعنى النص الكريم: لَا تتمنوا ولا تطمعوا وتتطلعوا إلى ما زاد الله به بعضكم على بعض في المال أو الجاه أو العمل أو الجهاد، فإن ذلك يجعلكم في اضطراب وبلبال مستمر وقلق دائم يزعجكم ويزعج المجتمع بكم، وما كانت الانقلابات الاجتماعية والفتن المخربة إلا بسبب تطلع كل إنسان لما أعطاه الله غيره من فضل ليس عنده، فذو المال يحسد ذا العقل والتدبير، والفقير يحسد ذا المال، وهكذا يكون كل إنسان في انزعاج بسبب تمنيه وتطلعه لما لَا يستطيع.
وإن الله سبحانه وتعالى قد سهل عمل الخير لكل إنسان، وله من نتائج عمله الجزاء على قدر العمل، وإن التكليف على قدر الطاقة وعلى مقتضى التكوين الإلهي للأشخاص والأنواع، ولذلك قال سبحانه:
(لِّلرِّجَالِ نَصيبٌ ممَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ ممَّا اكتَسَبْنَ) إن للرجال حظا مما اكتسبوا من أعمال قاموا بها من جهاد في سبيله، وإدارة لشئون المسلمين، وفصل في الخصومات، وقيام بالتكليفات العامة، وللرجال حظ من الأموال بمقدار ما يكلفون من أعمال اجتماعية، وللنساء نصيب وأجر مما اكتسبن، فلهن جزاء على آلام الحمل وآلام الوضع، وآلام التربية والسهر على الطفل والرعاية لشئونه، والصبر على هذه الرعاية، ولهن الجزاء الأوفى على القيام على مملكة البيت التي هي راعيتها، ولهن من المال في الميراث بمقدار ما يكلفن من تكليفات اجتماعية، فليرض كل من الرجال والنساء بحظهم الذي يتفق مع تكوينهم وكل له جزاؤه في الواجبات العامة لكلا الصنفين، والواجبات الخاصة بأحدهما، ولا يتمنَ أحد ما ليس له.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) إن الله تعالى ذو الفضل العظيم وهو يعطي من فضله بمقدار علمه وبمقدار تكوينه للأشياء وتقديره لما يصلح، وإنه سبحانه وزع الأرزاق والمواهب بمقتضى علمه، فجعل من الناس الغني والفقير؛ إذ لو كان الناس سواء في الغنى والفقر ما كان من يعمل بيده ويزرع الأرض، ويقيم العمران وينمي الزرع والحرث، ولو كان الناس جميعا ذوي مواهب عالية ما وجد من ينفذ ما يفكر فيه أولئك العلماء، ولو كان الناس جميعا ساسة ما وجد من يسوسونه، ولكان الاختلاف ولا يكون الناس أمة واحدة، وإن الناس كهرم قاعدته أوْسَعه ساحة، ثم يعلو حتى يضيق أعلاه، والقاعدة هي أساس البناء، وإن ذلك التنظيم هو مقتضى العلم ومقتضى النظر، اللهم إليك الأمبر والنهي والتقدير، قد فوضنا كل أمورنا إليك، وإنك نعم المولى ونعم النصير.
* * *
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٣٣) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ
* * *
في الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى أنه جعل لكل من الذكور والإناث حظه مما اكتسب، رجالا ونساءً، فليس لأحد أن يتمنى ما فضل به غيره عليه، وإلا عبث الشيطان بعقله وقلبه، فالأماني الكاذبة مطايا الشيطان دائما.
وفى هذا النص الكريم يبين أنه جعل كذلك حظوظ الميراث بما قدر سبحانه وتعالى، وقد جعله في الأولياء النصراء الذين كان يستنصر بهم في حياته، ويأمن بهم من الاعتداء والجور، ففي ظلهم وقربهم كان كسبه، فيكون لهم بعد وفاته ما قدره العليم بكل شيء. وقد قدر سبحانه الميراث بنوع القرابة وقربها، لَا بآحادها كالشأن في كل الشرائع والقوانين، تقدر أحكامها بالأنواع لَا بالآحاد، ولذا قال تعالى:
فالنص يشير أولا إلى أن الذين يخلفون الآباء والأقربين والذين عقدت الأيمان هم النصراء والأقارب الأدنون؛ لأنهم شاركوه في الجهد بنصرتهم وقرابتهم، ولأن بقاء شخصه يكون ببقائهم، والنص يشير ثانيا إلى أن المال الذي يتركه موزع بين هؤلاء لايستبد به قريب دون قريب، إذا اتحدت درجة القرابة وقوتها؛ لأن الميراث يتبع الاقربية، فهو للأقرب فالأقرب. ويشير ثالثا إلى سبب الميراث، وهو القرابة ويدخل فيها الزوجية هنا، لأن الزواج يوجد ارتباطا نفسيا يكون كالقرابة، بل يكون أقوى من بعضها، فتصير المرأة بضعة من الرجل.
والسبب الثاني هو عقد اليمين، ويقال عَقَدَتْ الأيمان لكل عقد قوى موثق، والأيمان هنا هي الأيدي جمع يمين، وهي اليد اليمنى، لأن العقد الموثق يضع فيه يده في يد الآخر عند عقده، ولذلك يقال للبياعات الصفقات؛ لأن كل عاقد يصفق بيمينه على يمين الآخر. ومن هم (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) كما جاء في النص؛. لقد نسب إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده أنه قال: إن المراد الأزواج؛ لأن سبب الميراث هو عقد الزواج والقرابة، والأكثرون بل الجميع من المتقدمين على أن المراد عقد الولاء، وهو أن يعقد الشخص مع رجل أقوى منه نصيرا على أن تكون له نصرته، وأن يرثه إذا لم يكن له وارث، فالأقوى ينصر الأضعف، ويرثه إذا مات، وقد كان ذلك واقعًا. وقال بعض الفقهاء: إنه نسخ الميراث به، كما نسخ الميراث بالإخاء، وقال الحنفية ومعهم بعض الفقهاء: إنه ما زال باقيا لم ينسخ، وهذا ما نميل إليه، ونحن بهذا نخالف ما نسب إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده، ونخالف من ادعوا النسخ، ووجهتنا في الأول أن القرآن الكريم لم يعبر عن أحد الزوجين بمن عقدت أيمانكم، لأن الحياة الزوجية ليست العلاقة فيها مجرد تعاقد بين الرجل والمرأة، بل هي بعد استقرارها تكون ازدواجا نفسيا، فتكون هي قطعة
(فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) إذا كان توزيع التركات بِجَعْل الله تعالى وتقديره، فيجب أن يؤتى كل واحد حظه منه، إذ هو نصيب لم يكن بمنحة من أحد، ولكن بعطية من الله تعالى، فليس لأحد أن يمنع ذا حق حقه، إذا كان ذلك الحق قد قرره مالك الملك، فلا يجوز للذكور أن يحرموا الإناث من نصيبهم فإن ذلك يكون ظلما مبينا، ولا يجوز للقوي من الوارثين أن يُطَفِّفَ من نصيب الآخرين، كما أنه لَا يجوز لحاكم أن يغير ميراث الله تعالى، ولا أن يمنعه، فكل من ملك مالا أو حقا فلورثته، كما قال النبي - ﷺ -: " من ترك مالا أو حقا فلورثته " (١). وقد أكد الله سبحانه وتعالى أمره بمنع الظلم في الميراث بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدًا) أي أن الله تعالى ذا الجلال والإكرام
________
(١) رواه البخاري الاستقراض وأداء الديون - الصلاة على من ترك دينا (٢٣٩٨)، ومسلم: الجمعة - تخفيف الصلاة والخطبة (٨٦٧)، وغيرهما ولفظه عَن أبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللًهُ عَنْهُ عَن النَبِي - ﷺ - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ مَالا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَاِلَيْنَا! ".
* * *
* * *
يقال قام على الشيء وهو قائم عليه وقوام عليه، إذا كان يرعاه ويحفظه ويتولاه بعنايته والمحافظة عليه، وليست القوامة مطلق الرياسة، بل إن الرياسة تسمى قوامة إذا كان الرئيس يقوم على رعاية المرءوس والمحافظة على حقوقه وواجباته، ومن هذا المعنى قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) فإن المعنى أن الرجال يقومون على شئون النساء بالحفظ والرعاية والكلاءة والحماية، فيقوم الآباء على رعاية بناتهم والمحافظة على أنفسهن وأخلاقهن ودينهن، والأزواج يقومون على شئون زوجاتهم بالحفظ والرعاية والحماية والصيانة، ومن هنا تجيء الرياسة، بل إني أقرر أن قيام الرجل على شئون الزوجة ليس فيه رياسة، إنما فيه حماية ورعاية وهو من قبيل توزيع التكليفات، فإذا كان للرجل رياسة عامة، فللمرأة أيضا رياسة نوعية، ولذا قال النبي - ﷺ -: " الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها " (١).
وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب تكليف الرجل هذه الرعاية دون المرأة، فبين سببين: أولهما: قال فيه (بِمَا فَضَّلَ اللَّهَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، والتفضيل هو الزيادة في القوة الجسمية والمعرفة، واختصاص الرجال بالرسالة الإلهية، والولايات الكبرى، وقد تبع هذا تكليفات كثيرة على الرجل، منها الجهاد ودفع الأعداء، وما عرف التاريخ أن امرأة قادت الحروب، ومهما يكن من عمل للمرأة في الحروب فهو من قبيل الأعمال الثانوية، لَا الأعمال الأصلية، والتفضيل هو تفضيل الجنس
________
(١) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قَالَ: - وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ - «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ".
أرواه البخاري: الجمعة - الجمعة في القرى والمدن (٨٩٣)، ومسلم بنحوه: الإمارة (١٨٢٩)].
والسبب الثاني في القوامة والرعاية والحفظ والصيانة هو ما عبر الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: (وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، وذلك لأن تكليف الرجل بالإنفاق، وجعله حقا للمرأة عليه، يجعله مكلفا أيضا أن يرعاها ويصونها؛ إذ إن ذلك التكليف استوجب أن يكون عمل المرأة داخل المنزل، وعمل الرجل خارجه؛ فهي عاكفة على شئون الأطفال وإعداد البيت ليكون جنة الحياة، وهو مكلف رعاية الجنة وحمايتها وصيانتها.
(فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ للْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّه) إن رعاية الرجل للمرأة والعمل على صيانتها وحفظها تختلف باختلاف المرأة، والمرأة المتزوجة نوعان: إحداهما الصالحة، والثانية من ليست كذلك، وهنا يبين هذا النوع. ومعنى الصالحة النافعة المستقيمة في خلقها ودينها، فهي صالحة في نفسها وزوجيتها، وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بوصفين ظاهرين يميزانها، ويكشفان عن صلاحها، في نفسها ودينها: أحدهما أنها قانتة. وقانتة معناها مطيعة عن طيب نفس، واطمئنان قلب، لَا عن قسر وإكراه، وهي مطيعة لله تعالى في كل مظاهرها، ومن طاعة الله تعالى طاعة زوجها في غير معصية. ولم يبين في اللفظ من تطيعه للإشارة إلى أن من طبيعتها الطاعة لصاحب الطاعة. وصاحبها هو الله، وهو مصدر الطاعات كلها. والوصف الثاني أنها حافظة للرجل في غيبه، وقد عبر الله سبحانه عن ذلك بقوله: (حَافِظَاتٌ للْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّه) أي يحفظن الأمور المغيبة المستترة، فلا يفشين ما يكون بينهن وأزواجهن، ولا يكتمن ما خلق الله في
والخلاصة على التخريجين أن المرأة الفاضلة الصالحة مع طاعتها لزوجها تحفظ غيبه وستره وعرضه، وقد جاء الوصفان في قول النبي - ﷺ -: " خير النساء من إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته " (١).
هذا هو القسم الأول من النساء المتزوجات، والقسم الثاني ما بينه بقوله:
(وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُن وَاهْجُروهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) ذلك القسم هو غير الطائع وغير الصالح بلا ريب، والنشوز خروج الزوجة عما توجبه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها، وقيامها على شئون بيتها، وأصل النشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع في وسط الأرض السهلة المنبسطة ويكون شاذا فيها، فيكون نشوز المرأة ترفعا أو إعراضا عن الحياة الزوجية الطيبة وشذوذا فيها، وقال سبحانه، (تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) ولم يقل " ينشزن " للإشارة إلى أمرين: أولهما علاج الداء قبل أن يستفحل، وذلك بأن يكون العلاج عند وقوع بوادر النشوز وظهور أماراته، حتى لَا يصل إلى أقصى درجاته، وهو أن تهجر الزوج، وتخرج من منزله، لأن ذلك العلاج يكون وهي في ظل العُش الزوجي لم تغادره - والأمر الثاني استكثار وقوع النشوز بالفعل، وهو أن تترك البيت على من فيه وما فيه، وكأنه لَا يتصور أن تقع زوجة في ذلك، ولو لم تسم في لغة الشرع زوجة صالحة. وقد ذكر الله لهذا النوع من النساء ثلاثة أنواع من العلاج:
________
(١) مسند الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنهما، وروى أبو داود: الزكاة - في حقوق المال (١٦٦٤) عن ابن عباس مرفوعا.
الثالث - من دواء النشوز، الضرب، وهو أقصاها، ولا يلجأ إليه إلا عند فشل الدواءين السابقين. وقد ثبت أن الضرب المباح يكون عندما تبلغ الحياة الزوجية درجة يخشى عليها من النشوز والافتراق، وقد قيدته السنة بقيدين. أحدهما: أن يكون غير مبرح، وأن يكون غير مشين بألا يضرب الوجه، فقد صرحت بذلك السُّنة (١)، وسئل ابن عباس عن الضرب غير المبرح، فقال: هو
________
(١) عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟، قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوِ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ [ص: ٢٤٥] إِلَّا فِي الْبَيْتِ " رواه أبو داود: النكاح - حق المرأة على زوجها (٢١٤٢)، وابن ماجه: النكاح - حق المرأة على الزوج (١٨٥٠)، وأحمد: أول مسند البصريين (١٩٥٠٩).
(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) البغي الطلب الشديد، ومعنى النص الكريم: فإن أطاعت الزوجات فلا تطلبوا طريقا من طرق العقاب أيا كان باغين عليهن به ظالمين، والمغزى أن كل عقاب مع الطاعة ظلم وبغى لَا يقصد ولا يطلب، بل يقصد الزوج إلى اسْتِدْنَاء مودتها بالرحمة والعطف والتقريب والتحبب بكل أساليبه. وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)، للإشارة إلى قوته القاهرة، وأنه إذا استعلى الرجل على امرأته فالله العلي الكبير فوقه، وهو مؤاخذه وآخذه بعذاب أليم.
* * *
* * *
هذه حال ثالثة للحياة الزوجية، وهي حال خوف الشقاق، وهي غير حال خوف النشوز، لأن خوف النشوز يكون والزوجة في بيت زوجها له نوع سلطان عليها، وهناك مودة بينهما، فتكون تلك المودة من سبل العلاج، ولذلك كان من العلاج الهجر الجميل، إذ لَا يصلح عقابًا إلا عند قيام المحبة، أما الشقاق فإنه يكون عندما تنشعب المودة، ويكون كل واحد من الزوجين في شق، وهذه حال لَا يتولى إصلاحها الزوج؛ لأن القلوب تنافر ودها، ولهذا كان العلاج لَا بد أن يكون من طريق آخر، وقد بينه الله تعالى بقوله: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَأ، والبعث معناه الإثارة، وهو هنا الإثارة مع التخير؛ لأنه ليس كل إنسان يصلح طبيبَا معالجا للنفوس المتنافرة، والحكم من له حق الحكم والفصل، وعمل الحكم يتجه إلى أحد أمرين: أحدهما الإصلاح بينهما ورد النفوس الشاردة إلى مستقر الحياةَ الزوجية، وإن ذلك يقتضي
والأمر الثاني التفريق بينهما، وقد كان الخلاف بين الفقهاء في جوازه، فقال أبو حنيفة والشافعي؛ لَا يجوز ذلك إلا بتوكيل من الزوج، لأن النص بيّن أن عملهما في الإصلاح، فإن عجزا عنه فقد انتهت مهمتهما، ولأن الطلاق حق الزوج وحده، ولا يتولاه غيره إلا بالنيابة عنه، وقال مالك وأحمد: لهما التفريق إن عجزا عن الإصلاح؛ لأن الله تعالى سماهما حكمَيْن، والحكم هو الذي يحسم الخلاف، فإن عجزا عن الإصلاح حسما الخلاف بالتفريق، ولأن عليا - رضي الله عنه - عندما بُعِثَ حكمان لحسم الخلاف بين عقيل بن أبي طالب وامرأته قال: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. وعليٌّ أحق من فسَّر القرآن. وبعث الحكمين يكون بأمر القاضي، والبعث يكون عند خوف الشقاق؛ لأن الشقاق يكون بالانفصال التام، والخوف قبله. وقد ذيل الله الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) أي أنه متصف بصفة العلم الدقيق المحيط الذي يعلم أحوال النفوس وطرف علاجها، ويعلم ما يقوم به الناس، ويعلم ما تخفي الصدور، وعنده الجزاء والعقاب وهو على كل شيء قدير.
* * *
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ
* * *
في الآيات السابقة من أول السورة وردت أحكام الأسرة، وواجبات الأقوياء فيها بالنسبة لضعفائها، والدعائم التي تقوم عليها، والحقوق المتبادلة بين آحادها، وأشير إلى الآفات التي قد تعروها، ثم بينت عناصر تكوينها سليمة، وأشير إلى المعاملات المالية بينها من غير تفضيل، ثم بُيِّن علاج ما يكون بين الزوجين من أسباب النزاع التي قد تهدد المودة الواصلة بينهما بالقطع، وفي هذه الآيات ذكر سبحانه الأسس التي تقوم عليها المعاملات العامة والخاصة، وذكر وجوب الإحسان إلى كل من يتصل بالشخص بقرابة أو جوار، ثم بين حال الذين يقطعون العلاقات بين الناس، وبين سبحانه وتعالى أن أساس التعامل الفاضل هو عبادة الله تعالى وحده، من غير إشراك، وأن أساس التعامل الفاسد هو أن يريد الشخص بعبادته غرضا من أغراض الدنيا من غير اتجاه إليه سبحانه، ومراعاة حق الناس عليه.
ولذا قال سبحانه:
هذه هي العبادة، أو إشارات إلى أنواعها ومراتبها. وإن الأخذ بها يجعل كل الأعمال في دائرة الفضيلة، وينير البصيرة، وإن نقيض العبادة الخالصة لله تعالى الشرك، وهو منهي عنه. وكما أن العبادة مراتب فالشرك مراتب أيضا، أعلاها الشرك الأعظم، وهو اعتقاد شريك لله تعالى في ألوهيته واستحقاقه للعبودية، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...)، ويليه أن يعتقد أن أحدا ينفع ويضر من دون الله، والالتجاء إلى غير الله والخضوع لغير الله وبغير ما أمر الله تعالى.
والمرتبة الثالثة الإشراك في القُرُبات، بأن يصلي مرائيا، أو يزكي مباهيا، أو يصوم متعاليا، ولا يقصد وجه الله بصومه، وقد قال - ﷺ -: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (٣)، ويسمى هذا النوعُ الشركَ الخفي. وقد روى الترمذي أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن أخوف ما أتخوف
________
(١) رواه الترمذي: الدعوات عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وقد سبق تخريجه.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) سبق تخريجه من رواية أحمد عن شداد بن أوس بن ثابت.
وإن النهي عن الشرك يشمل الإشراك بالله في أي شيء أو أي حال، ولذا قال تعالى (وَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْئًا)، أي شيء وعلى أي نحو كان، سواء أكان شركا ظاهرا أم كان شركا خفيا. وإن الإشراك في كل صوره يضعف الضمير، والإيمان بالله يقوي الضمير، وإن أول مظاهر قوة الضمير التي توجدها عبادة الله وحده، البر بالناس، ولذا عقب طلب البر والإحسان بالنهي عن الإشراك فقال تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) وقد قرن الله سبحانه وتعالى النهي عن الإشراك بالإحسان إلى الوالدين، ومن وليهما، وقد جاء في آيات أخرى ذكر الإحسان بالوالدين فقط بعد النهي عن الإشراك، كما قال تعالى: (وَقَضي رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، لأن أحق من يستحق الإرضاء بعد الله الوالدان، ولا يستحق غيرهما بعد الله الشكر، ولذا قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ...)، وقال عليه الصلاة والسلام: " رضاء الرب من رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين " (٢)، والإحسان إلى الوالدين بالصحبة الكريمة، وسد حاجتهما، والقول الحسن، وعدم التململ من حياتهما إن بلغا الكبر، وتعبا تعب الشيخوخة، وصارت حياتهما عبئا على أولادهما، ولذا قال سبحانه وتعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤).
والإحسان إلى ذي القربى من هذا الصنف، فعلى القريب أن يحسن بقريبه، بسد حاجته، ويكرم صحبته، ويصله ولو قاطعه، ولذا قال النبي - ﷺ -: " ليس
________
(١) رواه بهذا اللفظ ابن ماجه: الزهد - الرياء والسمعة (٤٢٠٥) عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
(٢) رواه البزار عن عبد الله بن عمرو. الترغيب والترهيب ٣/ ٢٢١.
والإحسان باليتيم، يكون بإيوائه، والعطف الذي يقوم مقام عطف أبيه، وسد حاجاته، والاختلاط به بالرحمة، فيجعله مع أولاده مختلطا بهم، مؤتنسا معهم، ويسوّي بينهم وبينه، لكي ينشأ أليفا مألوفا مع المجتمع الذي يعيش فيه، وقد ورد في الأثر: " إن خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيت من بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم " (٢)، وإن قهر اليتيم وإذلاله ينشئه نافرا شاذا، فيكون عدوا للجماعة لَا يألفها، ويكون منه الإجرام، والإيذاء، وقد قال الله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ).
والمساكين هم الفقراء والذين لَا طاقة لهم على عمل، لمرض مزمن أو شيخوخة فانية، أو آفة في جسمهم تجعلهم غير قادرين، أو تعطُّل لَا يجدون معه عملا يعملون، والإحسان بهم سد حاجاتهم، وكفالة الراحة لهم.
وبعد أن بين سبحانه الإحسان اللازم المطلوب الذي لَا مناص عنه، وهو دفع الآفات الاجتماعية، اتجه إلى الإحسان إلى المجتمع القريب، والإحسان في المعاملة بشكل عام، فقال:
(وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) هو الجار الذي يتصل بالإنسان بصلة الرحم والقرابة، وهذا له مع حق الجوار حق الرحم، فقد ثبت له الإحسان من ناحيتين:
________
(١) (رواه البخاري: الأدب - ليس الواصل بالمكافئ (٥٩٩١)، والترمذي: البر والصلة - ما جاء في صلة الرحم (١٩٠٨)، وأبو داود: الزكاة - في صلة الرحم (١٦٩٧)، وأحمد: مسند المكثرين (٦٤٨٨).
(٢) سبق تخريجه، وقد أخرجه ابن ماجه في الأدب - حق اليتيم (٣٦٧٩) مرفوعا بلفظ: " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه " وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأبو نعيم في الحلية. عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(وَالْجَارِ الْجُنُبِ) هو الجار الذي يكون مسكنه أو متجره، أو مزرعته بجنبك، والإحسان إليه بألا يكون منه أذى له بأي نوع من أنواع الأذى، فلا يزعجه في أمنه، ولا يمنع الماء عنه، ولا يرسل إليه الماء غير الصالح، ويلقى عليه مزابل بيته. ثم من الإحسان به مواساته في شدائده، ومعاونته في حاجاته، وأن يحفظ سره، ولا يكشف عورته، ولا يعلن منه ما يخفى على الناس. ومن الإحسان إليه أن يهدي إليه ما يعجز عن شرائه لأولاده من حلوى وفاكهة ونحو ذلك. وإن الإحسان إلى الجار هو الأمر الذي يدعو إليه التآلف الإسلامي في المجتمعات الصغيرة، وقد أكثر النبي - ﷺ - من الحث على الإحسان بالجار (١).
(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هو الصاحب الذي يكون بجنبك في عمل أو سفر، أو طريق، أو مركب، وقد قال جار الله الزمخشري في ذلك: " الصاحب بالجنب هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه. فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان " وإن من الإحسان إلى الصاحب الذي يكون بجنبك، ألا تؤذيه بمنظر كريه أو ريح كريهة، وأن تحافظ على الحياء في مجلسك،
________
(١) من ذلك ما رواه البخاري: الأدب - الوصية بالجار (٦٠٤١)، ومسلم: البر والصلة - الوصية بالجار (٢٦٢٤) عَن عَائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ النَّبِي - ﷺ - قَالَ: (مَا زَالَ يُوصينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَى ظَنَنْتُ أنهُ سَيُوَرَثُهُ ".
(وَابْنِ السَّبِيلِ) هو المنقطع عن أهله ولا مال له، فكأن الطريق تبناه، والإحسان إليه بإيوائه وإطعامه وتسهيل الحياة له حتى يعود إلى أهله. وقد أوجب الإسلام إعداد مأوى لهؤلاء من بيت مال الزكاة، وإمدادهم بالطعام والكساء حتى يثوبوا إلى أهلهم.
(وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) هم العبيد والإماء الذين ملكت رقابهم في الحروب العادلة، فهم في سيطرة المالك لهم، وكأن رقابهم في يمينه يسيرها كما شاء. والإحسان إليهم يكون من مالكهم بالإطعام والكساء والمأوى، وعدم إيذائهم بأي نوع من أنواع الأذى، فلا يضربون، ولا يلطمون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإنْ كلفتموهم فأعينوهم عليه " (١).
وفى سبيل الإحسان بهم نهى النبي عن أن يقول المالك عبدي وأمتي، فقال: " لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، بل ليقل فتاي وفتاتي " (٢)، ونهى عن ضربهم: " من لطم عبده فكفارته عتقه " (٣)، وقال بعض الحنابلة: إنه بمجرد اللطم يكون عتيقا.
________
(١) عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ". [رواه البخاري: الإيمان - المعاص من أمر الجاهلية (٣٠)، ومسلم بنحوه: الأيمان (١٦٦١)].
(٢) سبق تخريجه.
(٣) رواه مسلم في صحيحه: الأيمان - صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده (١٦٥٧) وتمامه: عَنْ زَاذَانَ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، دَعَا بِغُلَامٍ لَهُ فَرَأَى بِظَهْرِهِ أَثَرًا، فَقَالَ لَهُ: أَوْجَعْتُكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَنْتَ عَتِيقٌ، قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ: مَا لِي فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ مَا يَزِنُ هَذَا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ، أَوْ لَطَمَهُ، فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ " وَفِى حَدِيثِ وَكِيع: " مَن لَطَمَ عَبْدَهُ.. " وَلَمْ يَذكُرْ الْحَدَّ " كما رواه أبو داود: الأدب (٥١٦٨)، وأحمد: مسند المكثرين (٤٧٦٩).
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) المختال هو ذو الخيلاء أي الكبر، وذلك لأن المتكبر يتخيل لنفسه من الصفات والسجايا والأفعال ما ليس فيه، فيستعلي على الناس، والفخور هو الذي يكثر من ذكر مزاياه ويبالغ فيها، ويحب أن يحمد بما لم يفعل. وإن هذين الوصفين يتلازمان، فحيث كان الكبر كان الفخر الكاذب، والله تعالى لَا يحب هؤلاء، لأنهم يستنكفون عن الاتصال بالناس، ويغمطون حقوق الناس، ولا يقومون بحق النعمة التي أنعم الله بها عليهم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: " الكبر بطر النعمة وغمط الناس " (٢).
وكان ذكر ذلك النص الكريم بعد طلب الإحسان للإشارة إلى أن المتصف بهاتين الصفتين لَا يمكن أن يكون محسنا لأحد - هو إيذاء بصفاته وبأفعاله، وهو مصدر الشر والتفرق في الجماعات، وقد بين الله سبحانه وتعالى حقيقتهم بأوصافهم، وذكرها سبحانه وتعالى صفة صفة، فقال:
* * *
________
(١) في مجمع الزوائد (٦٤٦): وفيه: مُصعب بن ثابت، وثقه ابن حبَّان، وضعفه جماعة. والحديث رواه البيهقي وابن عساكر بلفظ مقارب
(٢) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ ". [رواه مسلم: الإيمان - تحريم الكبر وبيانه (٩١)، والترمذي: البر والصلة (١٩٩٩)، ورواه أحمد في مسند المكثرين (٣٧٩٧) بنحوه.
* * *
وإن من صفة هؤلاء المختالين أنهم بخلاء، ويحرضون الناس على البخل، ويكتمون ما أعطاهم الله من فضله. والبخل أن يضن الشخص في مواضع الخير، فليس البخل مرادفا للاستمساك بالمال، إذ إن الإنفاق في الشر والضنّ على الخير يسمى بخلا في لسان الشرع والعقل، كما أن الإنفاق في سبيل البر مهما يكثر لَا يكون إسرافا، فتبرع أبي بكر بكل ماله في الحرب لَا يسمى إسرافا، ومثل ذلك تبرع عمر رضي الله عنه بالشطر من ماله، وكذلك تبرع عثمان بالأموال الضخمة للمسلمين، ولهذا روي عن عبد الله بن عباس: " درهم في الشر إسراف وألف في الخير ليس بإسراف " فلا غرابة إذن إذا وجدنا المختالين، ينفقون الألوف في المظاهر والاستعلاء، ومع ذلك وصفهم الله تعالى بالبخل، ولا تناقض بين وصفهم بالبخل، وكونهم مثل الذين ينفقون رئاء الناس؛ لأن كلا الوصفين ينبع من نفس واحدة، وهي الشح في الخير.
ودأب هؤلاء أن يبخلوا وأن يحرضوا على طريقهم الذي سلكوه، ويسخروا ممن يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، لأنهم في طبيعتهم لَا يحسون إلا بأنفسهم، ولا يؤمنون بحق الغير عليهم.
وقوله تعالى: (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، المراد بها كتمان المال في موضع البر، فهم أشحة على الخير يحسبونه مفنيا لمالهم، فيكتمون ما أعطاهم الله من مال بفضله، وعلى هذا سار بعض المفسرين، وحجته أن الكلام في المال، فالكتمان فيه.
وقال آخرون: إن المراد كتمان العلم الذي أُوتُوه بفضل الله عليهم، وإرسال رسل كثيرين فيهم، ويكون النص في اليهود لأنهم يتصفون بكل هذا، ويرشح لذلك قوله تعابى في ختام الآية: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِين عَذَابًا مُّهِينًا) وأرى أن يفسر الكتمان تفسيرا عاماً يشمل العلم والمال.
وتعقيب هذا النص السامي للأوصاف السابقة يشير إلى أن تلك الأوصاف أوصاف الكافرين الجاحدين بنعيم الله، لَا أوصاف المؤمنين المقربين بأنعمه، وقد وصف سبحانه أمثال هؤلاء بقوله:
* * *
* * *
الرئاء مصدر راءى يرائي مراءاة، ورياء، ورئاء، وهو أن يعمل العمل، أو ينفق المال يظهر للناس أنه يقصد الخير، وهو يقصد بذلك الظهور أمام الناس والشهرة بالخير، وهو من صنف مماثل للبخلاء أو هو منهم؛ لأنه ينفق لنفسه لَا لغيره، فكأن أولئك المختالين الفخورين صنفان: صنف لَا ينفق على الناس قط، ولا يعين بأي نوع من العون في طريق البر، وصنف يعطي في سبل النفع، ولكن لَا يقصد وجه الله تعالى، بل يقصد ما عند الناس، من رجاء مَحْمَدَة، أو تفاخر، أو استعلاء، أو طلب جاه لدى ذي جاه، كأولئك الذين ينفقون النفقات العظيمة، ويتصدقون بالصدقات الكبيرة، تملُّقا لذوي الجاه، أو رجاء لما عندهم، وإن هذا النوع يكون إنفاقه إلى بوار عليه، ولا ثواب عليه، ولو كان من أهل الإسلام.
وقد قال عليه الصلاة والسلام في المرائين الذين ينفقون رياء: " يقول صاحب المال يوم القيامة لربه: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول الله تعالى: كذبت إنما أردت أن يقال جواد، فقد قيل " (١)!.
________
(١) جزء من حديث رواه مسلم: الإمارة - من قاتل للرياء (١٩٠٥)، والترمذي في الزهد - ما جاء في الرياء والسمعة (٢٣٨٢)، والنسائي: الجهاد - من قاتل ليقال فلان جريء (٣١٣٧) وأحمد: باقي مسند المكثرين (٨٠٧٨). عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) الشيطان هنا كل ما يحرض على الشر من وسوسة نفس، وصاحب مفسد، ومن تسلط على عباد الله تعالى لإغوائهم، وفي النص القرآني إيجاز بالحذف معجز، إذ المعنى: وقد دفع هؤلاء إلى الرياء في إنفاقهم وإلى البخل والكتمان قرناء السوء من شياطين الإنس والجن، والقرين هو الصاحب اللازم الذي يخلط نفسك بنفسه، ويقرنها بها حتى تصيرا كأنهما شيء واحد، ومعنى قوله: (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) من يكن الشيطان صاحبا ملازما له قد اختلط به ومازج نفسه، فما أسوأه من قرين محرض على الشر يدفع إليه بصحبته، وملازمته وإغوائه، والعدوى التي تسري إليه. وفي النص إشارة إلى أن قرناء السوء يفسدون الأخلاق؛ لأن عدوى الأخلاق تصل بالمجاورة كما تصل عدوى الأمراض.
* * *
* * *
هذا النص توبيخ للذين يؤثرون رضا الناس على رضا الله، فلا يبتغون ما عنده، ويبتغون ما عند الناس، فيراءون ويمنعون الخير لذات الخير. والمعنى: ماذا يكون عليهم من مغبة أو تبعة أو ضرر، لو أنهم آمنوا بالله حق الإيمان وباليوم الآخر الذي يكون فيه الجزاء الحقيقي، ولم يأخذهم زخرف الحياة الدنيا فلا يرعوا سواها؛ إنه لَا ضرر
(وَكَانَ اللَّهً بِهِمْ عَلِيمًا) هذه إشارة إلى الضرر الذي ينالهم، وهو عقاب الله تعالى لهم، وهو عليم بأحوالهم يعلم سرهم وما يخفى من شئونهم، وإنه سيجافلهم بعملهم، فالعقاب لاحق بهم لَا محالة، وقانا الله تعالى شر نفوسنا،
وجعلنا لله لَا لأحد سواء.
* * *
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢)
* * *
وفى هذه الآية الكريمة بين الجزاء الأوفى من خير أو شر، وأن الشر لا يجازى إلا بمثله، وأن الحسنة تكون بأضعافها، ولذا قال سبحانه؛
وإن النص عام يشمل المؤمن وغير المؤمن في ظاهره، ولذا تكلم العلماء في أعمال الخير التي تقع من الكافر إذا قصد بها وجه الله تعالى مع كفره وضلاله، وقال الأكثرون إن الله لَا يغفر الشرك، ويعطي الكافر ثواب الخير في الدنيا، أما المسلم فيؤتيه ثواب الخير في الدنيا والآخرة، واستندوا في ذلك إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس، أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن الله لَا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى بها إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها " (١).
________
(١) رواه مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (٢٨٠٨) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ويميل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إلى أن الكافر إن عمل خيرا يقصد به وجه الله أو سبيل الخير المجردة، لَا يضيعه الله تعالى عليه يوم القيامة، ولكن ينقصبه من سيئاته، غير الكفر والإشراك فإن هذين لَا يكفرهما شيء. ويؤيد نظره هذا بأن الآثار قد وردت بأنه يخفف عن أبي طالب لكفالته النبي - ﷺ -، وحمايته له (١)، وقد كان في ذلك حماية للدولة الإسلامية.
وقد روى أيضا أنه يخفف عن أبي لهب لعتقه ثُوَيْبَة حين بشرت بمولد النبي - ﷺ - (٢)، وأبو لهب هذا هو الذي قال الله تعالى فيه وفي امرأته: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) إلى قوله (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥).
فحسنات الكفار تكفر السيئات التي دون الشرك والكفر، على هذا النظر، فالكفر لَا يغفر، ويذهب من السيئات الأخرى بمقدار الحسنات، ونحن لا نرى في ذلك خروجا عن حكم الإسلام، وهو معقول في ذاته يتفق مع عموم النصوص، وإن كنا نميل إلى الأول.
________
(١) قَالَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ " [رواه البخاري: المناقب - قصة أبي طالب (٣٨٨٣)، ومسلم: الإيمان - شفاعة النبي - ﷺ - لأبي طالب (٢٠٩). والضحضاح من النار: موضع لَا عمق له يبلغ كعبيه تغلي منه دماغه، كما فسرته الروايات الأخرى في صحيح البخاري.
(٢) قَالَ عُرْوَةُ، وثُوَيْبَةُ مَوْلاَةٌ لِأَبِي لَهَبٍ: كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ ". رواه البخاري: النكَاح (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) (٥١٥١). وشر حيبة: على أسوأ حالة من الهم والحزن.
(مَن ذَا الَّذِي يقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)، وقوله تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، فالله سبحانه وتعالى لَا ينقص من عمل الخير شيئا بل يضاعفه في الآخرة، وإن الله سبحانه وتعالى فوق هذا الجزاء المضاعف أضعافا كثيرة يزيد المحسن من عطائه، ولذا قال سبحانه: (وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) أي أن الله تعالى يعطي عطاءً كثيرا، غير ملاحظ فيه المثلية والمضاعفة، بل إنه سبحانه فوق مضاعفة الحسنة بأمثالها، يعطي عطاءً سمحا غير مقيد بالمضاعفة، بل إنه يكون سماحا، وكرما من الله تعالى. وسمى ذلك العطاء أجرا، وهو في الحقيقة ليس في مقابل عمل؛ لأن مقابلة العمل كانت بالأمثال السابقة؛ لأن الأجر قد يطلق على مطلق العطاء، وإن لم يكن له مقابل، وتفضل الله تعالى في كرمه فسماه أجرا، وإن لم يكن له نظير، فهو أجر غير ممنون.
وقد عظم الله سبحانه وتعالى ذلك العطاء غير المنون بوصفين.
أحدهما: أنه عظيم في ذاته ذو جلال وشأن، فهو رضوان الله تعالى، ونعيم مقيم، وجنات فيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
والثاني: أنه عطاء من لدن الله تعالى، فهو قد نال شرفا إضافيا بأنه من الله تعالى.
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن كل ما يكون يوم القيامة من حساب، أدلته ثابتة من نطق الجوارح بما صنعت، ومن شهادة الأنبياء بالتبليغ والبيان، فالجرائم معها دليل وقوعها، والقانون الذي نظم العقاب وجرمها قائم بشهادة الذين أعلنوه وبينوه، ولذا قال تعالى:
* * *
* * *
الاستفهام هنا للتنبيه، وبيان ما سيكون يوم القيامة من حساب يتبعه عقاب عادل، أو ثواب يتبعه جزاء سابغ وعطاء غير ممنون. والمعنى تنبهوا أيهؤلاء الذين يجحدون الأدلة القائمة، والرسالات الثابتة، وتصوروا حالكم، وأعمالكم تنطق بها ألسنتكم وجوارحكم، ومعكم النبيون يشهدون عليكم بالتبليغ والبيان، وأنه لم يكن لكم حجة في كفر، ولا معذرة في جحود. والشهيد هو الشاهد الناطق بالحق، المتحري المستقصي الذي لَا يترك حقا لم يبينه. ومعنى قوله تعالى:
(وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) أنه يؤتى لكل أمة من الأمم بشهيد منها هو نبيها الذي بعث فيها ودعاها إلى الحق، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكل نبي يشهد على قومه بالتبليغ والبيان. وما من أمة إلا كان لها نذير، فقد قال تعالى: (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فيهَا نَذِيرٌ)، وقال تعالى: (... وَمَا كنَّا مُعَذّبينَ حتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وقد اختلف في الإشارة في قوله تعالى: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)، فقال بعض المفسرين: إن الإشارة في هؤلاء إلى النبيين السابقين، فالنبي - ﷺ - باعتباره خاتم النبيين، وأن رسالته خالدة إلى يوم القيامة، ولتكريم الله تعالى، يكون شاهدا على كل النبيين السابقين، والشهادة عليهم بمعنى أداء الشهادة بأنهم بلغوا، وكانت التعدية بعلى للإشارة إلى معنى المحافظة على أصول الشرائع السابقة لاشتمال القرآن الكريم عليها، ونشرها خالصة سائغة واضحة بينة للأجيال.
* * *
________
(١) متفق عليه، وهذا الفظ في صحيح البخاري: تفسير القرآن - (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) (٥٤٨٢)، فضائل القرآن - قول المقرى للقارئ: حسبك (٥٠٥٠)، ورواه مسلم: صلاة المسافرين - فضل استماع القرآن (٨٠٠). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(٢) وفي البحر المحيط ج ٣، ص ٦٤٢: وبكاؤه - والله أعلم - هو إشفاق على أمته ورحمة لهم من هول ذلك اليوم. وقال الآلوسي ج هـ، ص ٣٣: " فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة، فماذا لعمري يصنع المشهود عليه؟! وكأنَّه بالقيامة وقد أناخت لديه.. ".
وفى الدر المنثور ج ٢، ٥٤٠: وأخرج ابن أبي حاتم والبغوي في معجمه والطبراني بسند حسن =
* * *
يومئذ - هي ظرف مضاف إلى الظرف، ودخله التنوين على غير ما يقرره قياس النحويين، لبيان عظم ذلك الزمان الثاني وهوله، وأضيف الظرف إلى الظرف لتأكيد وجود ذلك الزمان، فهو يوم مؤكد الوقوع وهو على الكافرين عسير، ولشدته يحب ويتمنى الذين كفروا وعصوُا الرسول محمدًا - ﷺ - أو عصحوا أي رسول بعث إليهم - وتكون اللام للاستغراق - أن يكونوا ترابا كالأرض؛ كما قال تعالى: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ ترَابًا)، وهذا معنى تسويته بالأرض. ويصح أن يكون المعنى أن يدفنوا ويعودوا إلى القبور، وتسوى بهم الأرض كما كانوا من قبل. ويصح أن يكون المراد ألا يبعثوا وأن يستمروا مقبورين، والأرض مسوّاة عليهم. والباء في قوله تعالى " بهم " على التخريجات السابقة التي تنتهي إلى معنى واحد، للملاصقة، أي يستمرون ملاصقين للأرض على أنهم جزء منها أو في داخلها.
وإن هذا التمني الذي تدل عليه " لو " سببه عصيانهم وكفرهم بالأنبياء، وشهادة النبيين عليهم بالتبليغ وشهادة جوارحهم عليهم بالارتكاب، وقد قال سبحانه من بعد ذلك:
________
= عن محمد بن فضالة الأنصاري - وكان ممن صحب النبي - ﷺ - أن رسول الله - ﷺ - أتاهم في نبي ظفر ومعه ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وناس من أصحابه، فأمر قارئا فقرأ فأتى على هذه الآية (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) فبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه، وقال: " يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره؟ ".
فائدة: في بكاء النبي - ﷺ - من زاد المعاد ج ١، ص ١٣٤: وأما بكاؤه، فكان مِن جنس ضحكه، لم يكن بشهيقٍ ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمَعُ عيناه حتى تَهْمُلا، ويُسمع لِصدره أزيز. وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها، وتارة مِن خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحب للخوف والخشية.
وقيل إن الواو في قوله تعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) للحال، والمعنى على هذا: أنهم يودون لو تسوَّى بهم الأرض، والحال أنهم مع ذلك لَا يكتمون حديثا من أحوالهم في الدنيا. والمؤدى على التخريجين واحد، فلا مناص من ثبوت جرائمهم. وشهادة الأنبياء بالتبليغ. اللهم إنا نضرع إليك أن تجنبنا الزلل، وأن تغفر لنا خطايانا، وأن تغمرنا برحمتك يوم المطلع والحساب والعقاب، كما غمرتنا بها في الدنيا، فإنك الغفور الرحيم.
* * *
* * *
أمر الله سبحانه وتعالى فيما سبق من قول حكيم بعبادته وحده، وألا يشرك العبد به شيئا، ثم أمر بعد ذلك بحسن المعاملة، بالأقربين، ثم بالناس أجمعين،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)
يذكر المفسرون في معنى لَا تقربوا الصلاة تأويلين: أحدهما: أن المعنى لَا تقوموا بها، أو لَا تغشوها واجتنبوها وأنتم سكارى، كما قال سبحانه: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيم)، وكما قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا).
والثاني: أن معنى قرب الصلاة قرب مواضعها، أي لَا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى، وإذا كان النهي عن قرب الموضع قائما، فهو بلا ريب متضمن النهي عن الفعل نفسه، فهذا التأويل يزيد المعنى فيه عن الأول بالنهي عن دخول السكران المسجد حتى يستفيق، وفي ذلك احترام للمسجد وتكريمٌ لبيوت أذن الله تعالى أن يرفع ذكره فيها. والنهي هنا نهى عن الصلاة في حال السكر؛ لأن ذلك يتنافى مع الخشوع والقصد وإخلاص النية في كل جزء من أجزائها لله تعالى. وقد حُدَّ النهي بنهاية معينة، وهي الاستفاقة وفهم ما يقول، ولذا قال سبحانه: (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) أي حتى تقصدوا قصدا حقيقيا بنية خالصة، عالمين موقفكم من الله تعالى، وعالمين بما يشير إليه لفظ التكبير، ولفظ التسبيح، ومعاني الفاتحة التي هي دعاء القرآن وضراعة المؤمن لربه، ومعاني الآيات التي تتلى في الصلاة، فهذا هو ما يقال في الصلاة. فليس العلم الذي هو الغاية التي ينتهي عندها هو مجرد الإدراك والفهم، وذهاب غيبوبة السكْر، بل العلم هو هذا اليقين والإدراك العالي الذي به تقام الصلاة، ويكون حسن إقامتها.
وقد يقال: كيف يخاطب السكران بهذا النهي؟ والجواب عن ذلك أنه خطاب له وهو في وعيه بحيث يعمل على تجنب السكر في وقت الصلاة، ولا
وإنه يترتب على هذا مراعاة أن يكون السكر في غير أوقات الصلاة، وأن يتأكد أن وقت الصلاة لَا يدركه إلا وهو يعلم ما يقول، فلا يسكر الشخص قط في أثناء النهار، لأنه لَا يمكن أن يضمن الصحو في وقت الصلاة، إذا شرب مسكرا في أثناء اليوم. ولا يتمكن من السكر إلا بعد العشاء، وإنه يجب أن يعلم أن الصحابة الذين كان يقع منهم الشرب أحيانا قبل التحريم الشافي، منهم من كان يتهجد في الليل، وإذا تردد بين الشرب والتهجد آثر صلاة الليل.
وإن ذلك كله قبل التحريم القاطع المنهى لحال العفو عن الشرب، وقد قالوا: إن ذلك قبيل كان من التدرج حتى يألفوا اجتناب الخمر، ويستأنسوا بتحريمها تحريما قاطعا.
(وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) والجنب هو من أتى النساء ولم يغتسل، وتكون المرأة أيضا جنبا، وهو يستعمل وصفا، وأصله مصدر، ولذلك يطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، ولفظ جنب هنا المراد به الجمع، وهو عطف على الحال، وهو: (وَأَنتُمْ سُكَارَى).
والمعنى: النهي عن قرب الصلاة جنبا، كالنهي عن قرب الصلاة (وهم سكارى). وإذا كان النهي في الأول مؤداه الأمر بتجنب السكر وقت الصلاة.
فكذلك الأمر هنا مؤاده تجنب ما يكون سببا للجنابة وقت الصلاة.
وقوله تعالى: (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ)، قال بعضهم: إنه المسافر، لأن المسافر يعبر الطريق ولا يتوقف بل يسير. وقد استبعد الأستاذ الشيخ محمد عبده أن يعبر عن المسافر بـ " عابر سبيل " بل التعبير القرآني الشائع هو كلمة " على سفر ". وقالوا
وقوله تعالى: (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب، فكما أن المخ بالنسبة لمن هو في حال سكر هو أن يعلم ما يقول، فكذلك النهي لمن هو في حال جنابة نهايته هو الاغتسال. والاغتسال تعميم الجسم كله بالماء، وإن الاغتسال بعد الجنابة طهارة حسية، ونفسية، وتعويض بدني، وإنعاش للأعصاب بعد أن أنهكت أو أجهدت. وإن الطهارة النفسية بالاغتسال لما في الاغتسال والاستعداد به للصلاة من تذكر لله تعالى وقت أن استحكمت الشهوة وتحكمت ونفذت، فتخلص نفسه من المادية التي كانت فيها وسيطرت عليها، وإذا تذكر الله طلب الولد والنسل والذرية الطيبة من زوجه الطاهرة. وأما الإنعاش للأعصاب، والتعويض البدني، فإن هذين الأمرين يؤيدهما الحس والتجربة، ولا ينكرهما الطب.
وإن بعض الناس يكون مريضا يشق عليه استعمال الماء، أو يكون على سفر يشق عليه الحصول على الماء، ولذلك شرع له التيمم، وهو طهارة روحية فقط، إذا عجز عن الطهارة الحسية بالماء، ولذا قال سبحانه:
________
(١) روأه أبو داود (٢٣٢)، والبيهقي في السنن الكبرى (٤٣٥٦)، وفي صحيح ابن خزيمة (١٣٢٧)، وفى مسند إسحاق بن راهويه (١٧٨٠) عن عائشة رضي الله عنها.
وبيَّن سبحانه بالإشارة أسباب الوضوء أو التيمم فقال: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُم النِّسَاءَ)، والغائط من الغيط، الأصل في معناه ما انخفض من الأرض، والجمع غيطان وأغواط، ولما كان ما يلفظ من باطن الإنسان عن طريقه
________
(١) عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: ٢٩] فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. [رواه أبو داود: الطهارة - إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، وأحمد: مسند الشاميين (١٧٣٥٦) وذكره البخاري تعليقا: كتاب التيمم، فقال: بَاب إِذَا خَافَ الجُنُبً عَلَى نَفْسِه الْمَرَضَ أوْ الْمَوْتَ أوْ خَافَ الْعَطَشَ تَيَممَ، وَيُذْكَرُ أن عَمرو بْنَ الْعَاصِ أجْنَبَ فِى لَيْلَةِ بَارِدَة فَتَيَممَ وَتَلا: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فَذَكَرَ لِلنًبِي - ﷺ - فَلَمْ يُعنفْ.
وقوله تعالى: (أَوْ لامَسْتمُ)، في قراءة: (أوْ لامَسْتم النِّسَاءَ) (١) كناية عن الدخول بهن، فهو لَا يعبر عن هذا المعنى إلا بهذه الكناية الظاهرة، ومثله المس يعبر به عن الدخول، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا). وقال تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)، ففي هذه العبارات السامية وأمثالها، يكون المس المراد به الدخول. وقد جوز الشافعي الجمع بين الحقيقة والمجاز، فلم يمنع أن يراد باللمس معناه الحقيقي وهو مس بشرة الجسم، ومعناه المجازي أو الكنائي، وهو الدخول بالمرأة، ولذا نقض الوضوء عنده بمطلق لمس امرأة ليست ذات رحم محرم ما دامت قد بلغت البلوغ الطبيعي.
و (أو) في قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الْغَائِطِ) قال بعض العلماء إنها بمعنى الواو، والمعنى على ذلك: وإن كنتم مرضى، أو على سفر، وجاء أحد منكم من الغائط، أو جامعتم النساء، فتيمموا صعيدا طيبا. والأولى أن تكون على معناها، ويكون الكلام على تقدير محذوف دل عليه ما بعده، وتأويل القول هكذا: وإن كنتم مرضى أو على سفر، وأصابتكم جنابة، أو ما ينقض الوضوء، فتيمموا. أو أصابكم ما ينقض الوضوء أو ما يحدث جنابة فلم تجدوا ماء فتيمموا.
ويكون في الكلام تقسيم حسن أوله التيمم لأجل المرض أو السفر وشح الماء،
________
(١) قرأها (لمستم) بغير ألف: حمزة والكسائي وخلف، والمفضل عن عاصم، وقرأ الباقون " لامستم ". غاية الاختصار - ج ٢، ص ٤٦٤. تحقيق د. أشرف محمد فؤاد طلعت. التوعية الإسلامية.
(فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) التيمم معناه في اللغة القصد، وأطلق شرعا على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به، ولذا قال: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)، أي اقصدوا ترابا على ظاهر الأرض طاهرا. فالصعيد هو سطح الأرض، والتيمم من التراب الثابت فيه، ومعنى الطيب الطاهر، فمادة التيمم تراب طاهر، والتيمم عبادة يتقدم بها إلى الصلاة، والأمر فيها تعبدي، لَا يبحث عن علته، ولكن الطاعة فيه تدل على قوة الإيمان، وهو كيفما كان رمز لخلوص القلب وصفاء النفس بالاتجاه إلى الله تعالى. وينقض التيمم ما ينقض الوضوء، كما ينقضه وجود الماء والقدرة على استعماله قبل انتهاء وقت الصلاة أو قبل أدائها به، فإجماع العلماء أن على من وجد الماء أو قدر على استعماله قبل أداء الصلاة - نقض تيممه ووجب عليه الوضوء.
وقد بين سبحانه وتعالى أركان التيمم فقال: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب. وقد اتفقوا على ضرورة مسح الوجه كله كالوضوء، والأكثرون على أن مسح اليدين إلى المرفقين، وهو المنصوص عليه في القرآن بالنسبة للوضوء، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)، والأكثرون بالنسبة للتيمم على أنه من ضربتين: إحداهما للوجه، والأخرى لليدين، ومسح اليدين يكون ظهرا وبطنا، ليعم المسح أجزاءهما.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بهذا النص الكريم لبيان أن الله تعالى متصف بالعفو، فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذي يسهل عليهم أداؤه من غير مشقة مرهقة، ويعفو عن التقصير في الواجبات الأصلية
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤٦)
* * *
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الإخلاص لله سبحانه وتعالى فيما يؤدي العبد من فرائض، وما يقوم به من صدقات، وأشار إلى أن الرياء يمحق فعل الخير، ويقرب العبد من الشرك، بل إن الرياء في العبادات هو الشرك الخفي، ثم بين سبحانه وتعالى مقام أهل الإيمان ممن سبقوهم، ومقام صاحب الرسالة في الشهادة على كل من سبقوه، فرسالته هي الحق، وأنه لَا يصح لمؤمن أن يستمع لما يكذب به الضالون من أهل الكتاب، وقال سبحانه في ذلك:
(أَلَمْ تَرَ) هذا تعبير قرآني قد تكرر في كثير من آي القرآن الكريم، وأصل الصيغة للاستفهام، وهو موجه إلى عدم الرؤية، والاستفهام إنكاري لنفي وقوع ما دخل عليه، فإذا قال القائل: أفعلَ فلان كذا.. ؟! يستنكر نسبة الفعل إليه، فمعناه نفي الفعل مع توبيخ من نسب إليه ذلك، أو تنبيه السامع إلى النفي؛ لأن معناه حينئذ: ما وقع من فلان هذا الفعل، وما كان يُعقل أن يقع منه. والاستفهام هنا متجه إلى أمر منفي، ويقول العلماء إن نفي النفي إثبات، فيكون معنى النص: قد رأيت ونظرت ببصيرتك وبصرك إلى عمل الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي هذا التعبير تنبيه إلى تأكد العلم بحال هؤلاء الذين تراهم من أهل الكتاب، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أوتوا نصيبا أي مقدارا من الكتاب ولم يؤتوا الكتاب كله؛ لأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، ولأن الأحداث التي توالت عليهم من غارات التتار ومظالم الرومان، قد جعلت أجزاء من كتبهم تتقطع سلسلة سندها، ويذهب عنهم علمها، وهم فوق ذلك لم يعملوا بأحكام ما وصل إليهم، فهم قد وصل إليهم بعض الكتاب، وحرفوا ذلك الذي وصل إليهم، وأوَّلوه على غير معناه، وأهملوا العمل بأكثره، فهم لم يؤتوا علما وتفسيرا وعملا إلا أقله!.
وموضع التنبيه والغرابة ليس هو وصفهم، وإن كان في ذاته أمرا أعجبا، إنما موضعه أنهم يبتغون الضلالة ويطلبونها ولو دفعوا فيها أغلى الأثمان، وهو الهُدى، ولا يطلبونها لأنفسهم، بل يريدون أن يكون غيرهم مثلهم في ضلالهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: (يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي تبعدوا عن الطريق المستقيم الذي هو صراط الله تعالى الذي قال فيه تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَبِعُوهُ وَلا تَتَبِعوا السُّبُلَ فَتَفَرقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ).
وهنا يرد بحثان لغويان: أحدهما أنه ذكر هنا المطلوب وهو الضلالة، ولم يذكر المتروك كما في بعض الآيات الكريمة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)، والجواب عن ذلك أن ذكر المطلوب وهو الضلالة من غير ذكر
البحث اللغوي الثاني: أن " ال " في السبيل للعهد، لَا للاستغراق، والسبيل الحق معروف بيِّن لَا عوج فيه، وهو وحده الموصل إلى الحق، لأنه الطريق المستقيم، ولأنه صراط العزيز الحميد.
وإن هؤلاء هم أعداء أهل الإبمان حقا وصدقا؛ لأنهم يبتغون الضلالة لأنفسهم، ويبتغون الضلالة لغيرهم من المؤمنين، ولقد قال سبحانه مقررا عداوتهم:
* * *
________
(١) ليست في العشر المتواترة.
* * *
في هذا النص السادس تحذير للمؤمنين من هؤلاء الذين أُوتوا حظا من الكتاب، وهم يطلبون الضلالة ويبتغونها لأنفسهم وللمؤمنين، لأنهم يحسدونهم، ولأنهم يريدون لهم الخذلان والضلال وأن يكونوا قوما بورا،! وقد أشار بالنص الكريم إلى أنهم أعداء المؤمنين، وإن كانوا يخفون ما لَا يبدون، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) أي أن الله جلّت قدرته أعلم منكم بأعدائكم، لأنكم تعلمون ما يبدو من أفعالهم وما يظهر على ألسننهم، والله سبحانه وتعالى يعلم ما تخفي الصدور، وقد قال تعالى في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ
ومع أن هؤلاء أعداؤكم فلا تخافوهم ولكن احذروهم، ولا تتخذوا منهم أولياء توالونهم، بأن تتخذوا ولايتهم ولاية لكم بأن تنضووا تحتها، ولا تستنصروا بهم لأنهم يريدون لكم الخذلان لَا النصر، ومن اعتز بغير الله ذل، ومن استنصر بعدوه خذل، وقال سبحانه: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) ويكفي المؤمن في الاعتزاز أن يكون الله وليّه، لَا ينضوي إلا تحت لواء أهل دينه، ولا يدخل في ولاية غير ولايتهم، كما قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا). وكما أنه يكفي المؤمن أن يكون الله وليّه، فإنه يكفيه أيضا أن يكون الله تعالى ناصره: (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالبَ لَكُمْ وَإِدْ يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ).
وهنا بحثان لغويان: أولهما: أن النحويين يقررون أن الباء في قوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ) زائدة في الإعراب، ولكن ليست زائدة في المعنى؛ إذ هي تشير إلى تضمن الاكتفاء بولاية الله وعونه ونصرته، وكان المعنى: اكتفوا بولاية الله ونصرته، وكفاكم الله الولاية والنصرة والمعونة.
والبحث الثاني: تكرار كلمة (وَكَفَى بِاللَّهِ) وذلك لإلقاء الاطمئنان في قلوب المؤمنين، فإن التكرار فيه توكيد، وفيه الإشعار بعظمة الله جل جلاله الذي يتولى ولايتهم ونصرتهم.
* * *
* * *
هذه طائفة من أعمال اليهود في استماعهم لدعوة النبي إلى الحق، وإلى صراط الله المستقيم، وقد ذكر سبحانه أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقوله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُون) فيه مبتدأ محذوف يقدر بفريق، والتحريف معناه الإمالة وجعل الكلام محتملا غير معناه.
وهذا الفريق ليس تحريفه هو التحريف العام الذي وقع من اليهود في تأويل كتبهم وإهمال كثير منها، وإخفائهم التبشير بالنبي - ﷺ -، إنما تحريفهم هو حمل كلام النبي - ﷺ - على غير وجهه، وجعله يحتمل ما لَا يراد به، كما سنبين، هذا الفريق هو الذي قال الله تعالى فيه: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ منْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
فهذا الفريق لَا يكتفي بما فعله أسلافه وما يتحمل وزره الذين يعلمون الكتاب المنزل من قبل ويكتمونه، بل إنه يجعل كلام النبي - ﷺ - منحرفا في أذهانهم الملتوية عن حقيقة معناه، ويتهكمون عليه، ويحمَّلونه بأغراضهم الفاسدة ما لا يحتمل من المعاني، ولا يكتفون بذلك التحريف، بل يجمعون معه النطق بالعصيان عند السماع، وقد قال الله سبحانه عن تلقيهم لأحكام الشرع التي يبينها النبي - ﷺ -:
(وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعِ) وإن حال هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، كما حرف أسلافهم كتبهم، إنهم إذا سمعوا ما أنزل على الرسول لَا يستمعون ليتبعوا الحق إن ظهرت بيناته، بل يستمعون على نية الرد، والاستمرار في العناد، وسد كل أبواب الهداية لكيلا تصل إلى قلوبهم، فإذا سمعوا الرسول يدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، جمجموا في أنفسهم (١) أو غمزوا به فيما بينهم قائلين: (سَمِعْنَا وَعَصيْنَا) أي سمعنا قولك ووعيناه، وعصينا ما تدعونا إليه، وإن كان الحق الذي لَا مِرْيةَ فيه، ولا توجد نفس أوغلت في
________
(١) والجَمْجَمَةُ: ان لَا يُبَينَ كلامَه من غير عِيَ، وفي التهذيب: ألا تُبين كلامك من عِيَ.
(وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) بدل أن يعبروا في خطابهم بقولهم: " انظرنا " نظرة رعاية ومحبة طالبين منه الإقبال عليهم، وإن كان ذلك موجودا، يقولون (وَرَاعِنَا) يفتلون بها ألسنتهم ويحولونها عن المعنى الظاهر لها إلى معنى غير قويم ولا مستقيم، وهو رمى النبي - ﷺ - بالرعونة والسفه، ويطعنون بذلك في الدين الذي يدعو إليه، والحق الذي ينفذه. وقد جاء في مفردات الراغب في تفسير قولهم: (وَرَاعنَا): قال الله تعالى: (... لَا تَقُولُوا رَاعنَا...)، (وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) كان ذلك قولاً للنبي - ﷺ - على سبيل التهكم يقصدون رميه بالرعونة، ويوهمون أنهم يقولون: (راعنا) أي (احفظنا) فهم ينطقون بالكلمة على أن النون من بنية الكلمة، وليس ضمير المتكلمين، وذلك لَيُّ اللسان وفتله، والطعن في الدين.
(وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) استدراك مما كان ينبغي لهم، أي أنهم لم يفعلوا ما ينبغي؛ لأن الله تعالى لعنهم بأن طردهم من رحمته، فبعدوا عن الهداية بسبب إصرارهم على الكفر، وهم بذلك دخلوا في الكفر بإرادتهم، وأوغلوا فيه حتى صار الكفر بالنبوات ديدنهم، فغلقت أبواب الحق عليهم وطمس الله على بصائرهم، فلم تر الحق ولم تذعن له، فلا يؤمنون، أي ليس الإيمان من شأنهم بعد أن كان منهم ما كان، ولكن الله تعالى بعدله وحكمته لَا ينفي الإيمان عنهم نفيا مطلقا، بل يقرر أن منهم من يؤمن، ولكنه عدد قليل، ولذا قال سبحانه وتعالى: (فَلا يُؤْمنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي إلا عددا قليلا لَا يدخل في عموم اللعنة التي كتبها الله تعالى عَليهم في جملتهم، وهذا كقوله في آية: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) - هدانا الله تعالى إلى الحق.
* * *
* * *
يقرن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم طلب التوبة والإيمان بحال المذنبين ولو كانوا قد أسرفوا على أنفسهم، كما قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، فباب الإيمان والتوبة مفتوح للعصاة والكافرين، وإن يَنتهوا يُغفر لهم ما قد سلف. وإن أولئك اليهود الذين كانوا في عصر النبي - ﷺ -، ولا يزالون على عهدهم، قد أسرفوا في عصيانهم، ولجوا حتى لقد كان قائلهم يقول إذا سمع دعوة الحق: (... سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا...)، ويلوون ألسنتهم استهزاءً عند سماع الهدى النبوي!! ولا لجاجة في الكفر أكثر من الاستهزاء بالداعي إلى الإيمان! ومع هذه الحال فيهم وجه الله سبحانه وتعالى الدعوة إلى الإيمان منذرا لمن لَا يجيب، ومرغبا من يجد باب الهداية مفتوحا في قلبه، فقال:
وثانيها: أن هذا الإيمان هو التصديق بما نزل الله تعالى على نبيه، والله هو الذي أنزل على نبيكم أو أنبيائكم شرائعه، وهو الذي نزل الشريعة التي تدعوكم إلى الإيمان، ووحدة المنزل توجب الإيمان بكل ما أنزل، وإلا كنتم تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض.
وثالثها: أن هذا الذي يدعوكم رب العالمين إلى الإيمان به، هو يصدق ما معكم من الحق؛ لأن البشارة برسوله عندكم، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، ولأن الفضائل الدينية والاجتماعية قد اتفقت فيما يدعو إليه النبي مع ما دعا إليه أنبياؤكم من قبل، فالوحدة الدينية قائمة بوحدة المُنزل، وبوحدة الحق الذي يدعوكم إليه رب العالمين.
وقد يقول قائل: في الآيات السابقة، ذكر سبحانه في غير هذا المقام أنهم أُوتوا نصيبا من الكتاب، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وفي هذه الآية يناديهم بأنهم " أوتوا الكتاب "؛ ونقول في الإجابة عن ذلك: إن نسيانهم حظا مما ذكروا به، وتركهم نصيبا منه، لَا يمنع الحكم بأنهم أوتوا الكتاب؛ لأنه نزل على أنبيائهم السابقين كاملا غير منقوص، فهم أعطوه ثم نقصوه، والخطاب لهم على أساس ما أوتوه، لَا ما حرفوه، ولعله كان من أحبارهم من يعلم علم الكتاب كله، بل إن ذلك يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠).
(من قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ) هذا إنذار بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا، وقد جاء في مفردات الأصفهاني في معنى الطمس ما نصه: (الطمس إزالة الأثر بالمحو، قال تعالى: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ...)، أي أزل صورتها، (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ...)، أي أزلنا ضوءها وصورتها كما يطمس الأثر. وقوله تعالى: (مِّن قَبْلِ أَن نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ)، منهم من قال عنى ذلك في الدنيا، وهو أن يصير على وجوههم الشعر، فتصير صورهم كصور القردة والكلاب، ومنهم من قال ذلك هو في الآخرة إشارة إلى ما قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)، وهو أن تصير عيونهم في قفاهم. وقيل معناه يردهم عن الهداية إلى الضلال، كقوله تعالى: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ).
وقيل عنى بالوجوه الأعيان والرؤساء، ومعناه نجعل رؤساءهم أذنابا وذلك أعظم البوار!.
هذا هو التفسير اللغوي لمعنى الطمس، وقد حاول الأصفهاني تخريج الآية التي نتكلم في معناها على ما ارتأى من وجوه، فصرنا حيارى في أيها نختار، لو اقتصرنا على ما قال، وقبل أن نبين ما نراه معنى للنص الكريم نبين معنى الأدبار وردها: الأدبار جمع مفرده " دُبُر "، هو الخلف، أو ما اشتملت عليه أجزاء الجسم الخلفية، والارتداد على الأدبار يكون في القتال يوم الزحف يجعل الوجوه في موضع الأدبار فرارا أو جبنا، بمعنى أنه كان يجب أن يستقبل المقاتلين بوجهه فينقلب إلى جهة دبره. وقد يكون الارتداد على الأدبار معنويا كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).
وعلى ذلك يكون المعنى أنكم استرسلتم في غيكم وضلالكم، ومع ذلك نطالبكم بالهداية والإيمان قبل أن ينزل الله سبحانه وتعالى غضبه عليكم في الدنيا إذ تماديتم، وذلك بتسليط المؤمنين بالحق عليكم، فيذيقونكم بأس القتال فتفرون، وتختفي وجوهكم، وترد إلى مواضع الأدبار، فلا ترى إلا أدباركم. وإذا لم يكتب الله سحقكم وحملكم على تولى الأدبار، فإنكم ستلعنون كما لعن أصحاب السبت، وتطردون من رحمته، ويكتب عليكم الذل إلى يوم القيامة.
(أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) اللعن الطرد من الرحمة وإنزال العذاب، وقد كان في شريعة بني إسرائيل ألا يعملوا في يوم السبت ليستريحوا وينصرفوا للعبادة، والتعاون الاجتماعي، ولكن رغبتهم في المال وشرههم إليه كان يحمل بعضهم على العمل، فإنه كانت قرية كبيرة تطل على البحر، قد اختبرها الله تعالى، فكانت في يوم السبت تأتيهم الحيتان ظاهرة في هذا اليوم الذي ينقطعون فيه عن العمل، ولا تأتيهم في اليوم الذي يعملون فيه، ليحملهم الله تعالى على الطاعة للأوامر الإلهية، وليدركوا سر الله في خلق الكون، وأنه فعال لما يريد، وهذا قوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣):
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، فالله سبحانه عاقب الذين اعتدوا في السبت بأن سلط عليهم نزوات أهوائهم وشهواتهم، وبها ضربت عليهم الذلة، ولعنهم الله تعالى، فكذلك هؤلاء الذين عاندوا وكفروا. وذلك أمر قدره الله عليهم فهم ملعونون في كل الأجيال
* * *
* * *
اشتملت الآية السابقة على دعوة أهل الكتاب، وأنه إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وعلى إنذار شديد في الدنيا بإجلائهم وقتلهم، أو لعنهم من الناس أجمعين، وفي هذا النص الكريم فتح لباب المغفرة التي كتبها الله على نفسه لعباده؛ لأنه كتب على نفسه الرحمة، ومعنى النص: إن الله تعالى ليس من شأنه أن يغفر لمن يشرك به في العبادة أو في الربوبية؛ لأن الشرك انحراف شديد لَا يقبل الغفران، إلا أن يعود إلى التوحيد المطلق بعد الإشراك. والإشراك نوعان: إشراك في الإنشاء والتكوين أو العبادة، كأولئك الذين يعتقدون أن الكواكب لها دخل في الإنشاء، وكأولئك الذين يعبدون غير - الله، وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى وحده هو الذي خلق وأنشأ وكوَّن، ويعبدون الأوثان لأنها في زعمهم تقربهم إلى الله زلفى. والنوع الثاني من الإشراك أن يتركوا كتب الله تعالى، ويعرضوا عنها، ويتخذوا دينهم من الأحبار، ولو غيروا فيه وبدلوا، زاعمين أنهم لَا يتكلمون إلا عن الله تعالى، وإن كان الكتاب يخالف قولهم، ومن هؤلاء من أشار الله تعالى إليهم بقوله تعالى: (اتَّخَذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكونَ).
وقد ذكر سبحانه أنه لَا يغفر ذلك، وأكد عدم الغفران لهذه الحال بـ (إنَّ) التي تفيد التوكيد، فلا يرجو مشرك غفرانا، أيا كان نوع الشرك، إلا أن يقلع عنه، فإن الله تعالى غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
وقد ذكر سبحانه أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وما دون الشرك يكون من مرتكب الكبيرة أو الصغيرة من أمة محمد - ﷺ -، ومن آمن بالأنبياء السابقين قبل أن تنسخ شريعتهم بالشريعة المحمدية، فإن هؤلاء قد وعد سبحانه وتعالى فضلا منه ومنَّة على عباده أن يغفر لهم ما يشاء لمن يشاء من عباده. ذلك أن من يرتكب الكبيرة إن تاب عنها غفرها الله تعالى، وإن لم يتب ولم تحط الخطايا بنفسه، وله حسنات، فإن الحسنات يذهبن السيئات. وفي ميزان الله تعالى العادل يوم القيامة توزن الحسنات والسيئات، فمن ثقلت كفة حسناته فأولئك هم المفلحون.
ومشيئة الله تعالى هي مشيئة الحكيم الخبير، الذي يضع كل أمر في موضعه، ولا يظلم ربك أحدًا.
(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) الافتراء هنا معناه الكذب الشديد الذي يؤدي إلى الفساد. جاء في مفردات الراغب: الفرى قطع الجلد للخرز والإصلاح، والإفراء للإفساد، والافتراء فيهما، وفي الإفساد أكثر، وكذلك استعمل في القرآن في الكذب والشرك والظلم نحو: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) فمعنى (فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) فقد كذب كذبا فيه ظلم وفيه إفساد وضلال، وكان ذلك كله إثما عظيما.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣)
* * *
كانت الآيات السابقة تدعو أهل الكتاب إلى الإيمان، وتذكرهم بعاقبة الكفر، وهي الذل في الدنيا والخزي في الآخرة، واللعن من الرحمن، والهوان.
وبين سبحانه وتعالى لهم ولغيرهم أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لكل من يذعن لرسالة الله تعالى، ولا يكفر بها، وذلك لكيلا يسرفوا على أنفسهم، ويوغلوا في معاصيهم. وفي هذه الآيات يبين سببا من أسباب ضلال اليهود ومن على شاكلتهم، فقال تعالى:
وتزكية اليهود والنصارى لأنفسهم تحتمل أمرين: أولهما: أنهم يصفون أنفسهم بالطهارة والتقوى، وتحري ما يربي التقوى في النفس، ويستطيلون على الناس بذلك. والأمر الثاني: أن يدَّعوا أنهم بأعمالهم واتخاذهم ما هم عليه مذهبا يطهر النفس، أي يدعون أنهم يسلكون سبيل الهداية وتطهير النفس. والأمر الأول هو الذي عليه جمهور المفسرين، وهو أوضح ويتفق مع المأثور من أسباب النزول، فقد تضافرت المرويات عن التابعين على أنهم كانوا يدعون أنهم المغفور لهم دائما. وقال الضحاك والسُّدِّي إنهم كانوا يقولون: (لا ذنوب لنا، وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا. وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال). وقد رد الله تعالى ذلك بقوله: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).
على تفسير تزكيتهم أنفسهم بمعنى أنهم يدعون أنهم بأفعالهم يطهرونها، يكون المعنى أن الله تعالى رد عليهم ادعاءهم أن ما هم عليه تطهير لأنفسهم. فبين أن الله تعالى هو الذي يطهر النفوس ويزكيها، لأنه هو الذي يبين طريق الهداية،
* * *
* * *
انظر أيها الرسول أنت ومن معك كيف تطوع لهم نفوسهم أن يدعوا أنهم بأعمالهم القبيحة، وتكذيبهم للرسل، يزكون أنفسهم ويطهرونها، وأنهم بذلك ممدوحون أمام الله تعالى، وأنهم محبوبون منه، وأنه يغفر لهم كل ما يفعلون! انظر إلى هذه الحال وتعجب! وإنهم بهذا يكذبون على الله تعالى قاطعين في هذا الكذب فيحسبون أنهم مقبولون عند الله محبوبون، وهم يعاندون رسوله، ويبالغون ويكيدون له، فهم يفترون الكذب على الله ورسوله والمؤمنين.
والإثم والآثام الأفعال المبطئة عن الخيرات التي يثاب عليها، وهؤلاء قد ارتكبوا بتزكيتهم أنفسهم بغير الحق الأمر البين الذي يبطئهم عن فعل الخيرات ويوقعهم في السوء؛ ذلك أن هؤلاء ضلوا وحسبوا ضلالهم هو الخير، ومن كان شأنه كذلك فإنه لَا يتجه إلى الخير؛ لأن الذين يرتكبون الشر ثلاث مراتب: أدناها أنه يقع فيه عن جهل وسفه وحمق، وهذا قريب التوبة والرجوع إلى الحق، وهو من الذين قال الله تعالى فيهم (إِنَّمَا التَّوْبَة عَلَى اللَّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبونَ مِن قَرِيبٍ...). والثانية: أنَ يرتكب السيئات ويوغل فيها، ولكنه يعلم أنها سيئات لَا يمدح فاعلها، بل يذم، وأنها لَا تستحق التزكية، بل تستحق اللوم، وهذا ترجى توبته وعودته إلى الله. والثالثة: أن يزين له سوء أعماله، فيفعل الشر، ويفخر به، وهذا يكون في مرتبة تبطئه أو تبعده إبعادا كليا عن الاتجاه إلى الحق وطلبه.
* * *
* * *
قد رأيت أيها النبي الأمين متعجبا مستغربا حال الذين أوتوا حظا من الكتاب، وعلموا بعض علم الرسالات الإلهية، يؤمنون بأردأ العقائد والأخلاق، وبالطغيان والظلم والاندفاع نحو الشر. فالجبت هنا هو الرديء من الأفكار، أصله الجبس قلبت السين تاء، وهو الرديء من الأشياء، فهؤلاء يؤمنون باردأ الأوهام، ويؤمنون مع ذلك بالطغيان والسيطرة الظالمة، ولذلك يخنعون لكل ذي سلطان، ويضعون ظهورهم لكل رأب، ويطغون على كل عادل لَا يُذل ولا يؤذى!! وعبر هنا بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي مقام آخر خاطبهم بقوله: (يَا أَيهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم...)، وذلك لأنهم أنزلت عليهم كتب الرسالة الأولى لنبيهم، فبمقتضاها يدعوهم إلى الإيمان، ولذا عبر بالكتاب كله لَا ببعضه، فهم في هذا المقام يخاطبون بمقتضى الكتاب الذي نزل على رسولهم. أما هنا فيذكر حقيقة أمرهم، وهو أنهم نسوا حظا مما ذكروا به.
(وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) والذين كفروا هنا هم المشركون، أي أنهم يقولون لأجل إرضاء الذين كفروا وأشركوا وعبدوا الأوثان: هؤلاء في شركهم وعبادتهم غير الله تعالى أرشد طريقا، وسبيلهم هو سبيل الهداية، أما سبيل الذين آمنوا بالله وحده، ولم يشركوا به غيره، وأذعنوا لأحكام الله تعالى في أوامره ونواهيه، فليس هو سبيل الرشاد.
ويروى أن اليهود عندما بلغ بهم حسدهم للنبي - ﷺ - أقصى مداه، ذهب فريق منهم إلى أهل مكة يحالفونهم على النبي - ﷺ -، فقال لهم المشركون: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقال التحدث باسم اليهود: ماذا يقول محمد؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك، وقال: ما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت ونسقي الحجيج، ونقري الضيف ونفك المعاني، قال: أنتم أهدى سبيلا.
هذا شأن أولئك اليهود العجب، وهم قد أوتوا بعض علم الكتاب، يدفعهم الهوى والتعصب وفساد النفس إلى أن يجعلوا عبدة الأوثان أهدى من عبدة الديان!.
* * *
* * *
أولئك الذين غلب عليهم الهوى، ودفعهم تعصبهم الأعمى إلى أن يحالفوا أولياء الشيطان على أولياء الرحمن ويمالئوهم في القول والعمل، فيسجدوا لأصنامهم، ويزكوا أفعالهم،
* * *
* * *
(أم) هنا تفيد الانتقال في القول من التعجب من حالهم في ممالأة المشركين إلى بيان حالهم العجيب إذا أُوتوا أي حظ من السلطان والحكم؛ والمعنى: أثَبتَ أنهم إذا كان لهم حظ من الملك والسلطان ولو كان ضئيلا يحكمون بالعدل، ويقومون بالقسطاس المستقيم؛ والاستفهام لنفي الوقوع، وهو نفي لوقوع العدل منهم إذا أعطوا أي حظ من الحكم؛ ذلك لأن المنافق لَا يمكن أن يكون عادلا؛ لأن العدل والالتواء نقيضان لَا يجتمعان، ولأنهم أهل هوى، ولا عدل مع سيطرة الهوى، ولأنهم غلبت عليهم عصبية دينية جامحة، وكل حكم
(فَإِذًا لَا ئؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) النقير العلامة السوداء الصغيرة التي تكون في ظهر النواة، وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة، ويضرب به المثل في الشيء الصغير البالغ أقصى حدود الصغر. والمعنى: إذا تولى هؤلاء نصيبا من الملك والسلطان، فإنهم لَا يعطون الناس أي قدر من حقوقهم عليهم، ولو كان ضئيلا بالغا أقصى حدود الضآلة؛ ذلك لأن العادل يكون حكمه لمصلحة المحكومين، لا لمصلحته. وهؤلاء لَا ينظرون إلا إلى منافعهم الذاتية. ولأن العادل يحس بأنه من الناس له ما لهم وعليه ما عليهم، وهؤلاء يظنون أنهم صنف في الخليقة ممتاز، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، والناس جميعاً دونهم. ولأنهم يبغضون الناس جميعا؛ لأنهم يظنون أنهم سلبوهم حقوقهم، بمقتضى ما لهم من امتياز بمقتضى التكوين. فهم بهذه الأهواء الواهمة عادوا الناس وأبغضوهم، ويحسبون أنفسهم في حرب مستمرة من البشر! أنقذ الله أهل الإسلام من شرهم، وأرْدَاهم هم ومن يعاونونهم على الغَي والظلم والفساد، وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ.
* * *
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ
* * *
الآية موصولة بما قبلها، فالحديث في اليهود الذين ذهب بهم حقدهم على النبي - ﷺ - والمؤمنين، أن يقولوا وهم أهل كتاب نزل عليهم من السماء وإن حرفوه، إن المشركين أهدى إلى الحق وإلى الصراط المستقيم من المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين من بعده. وفي هذه الآية يبين سبب انحرافهم، وجزاء الضالين يوم القيامة، ثم جزاء المهتدين. والسبب الباعث على ضلالهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولذا قال سبحانه:
________
(١) المؤمن يغبط والمنافق يحسد. من كلام الفضيل بن عياض كما في كشف الخفا للعجلوني (٢٦٩٤).
وفى سير أعلام النبلاء (ج ٥، ص ٤٨٣): " وعن الفضيل قال: المؤمن يَغْبِطُ ولا يحسدُ، الغبطة من الإِيمان، والحسدُ من النفاق.
والناس هنا في النص الكريم، قيل العرب، وعندي أنهم النبي - ﷺ - وأصحابه، إن أريد التخصيص، وإن كان التعميم فهي على عمومها. وأولئك اليهود قد أسكن الله تعالى قلوبهم حسدا على الناس، فهم إذا حسدوا النبي والمؤمنين، فلأنهم ناس آتاهم الله تعالى جزءا من فضله، فإن فضله عظيم، فـ " مِن " هنا للبعضية، أو نقول إنها بيانية، فقد كان الإيتاء صادرا عن فضله ومجرد تكرمه. وفي هذا إشارة إلى أن الذين يحسدون من يتكرم عليه الله، فإنما يعاندون الله تعالى. وسبب هذا الحسد الدائم فيهم أنهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم اختصوا بالنبوة دون غيرهم من الناس، وقد بيَّن اللهُ سبحانه أن ذلك وهم، فقال تعالت كلماته:
(فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) أي إذا كنتم تحسدون الناس لما توهمتم أن النبوة فيكم، وأنكم أهل الوحي دون غيركم، فقد كذبتم على أنفسكم، فإن الله تعالى قد أعطى آل إبراهيم، أي قرابته القريبة من ذريته من إسماعيل وإسحاق الكتاب، أي بعث فيهم النبيين بالكتب من غير تفرقة. والحكمة، أي العلم النافع الذي يصحبه عمل نافع وإصلاح بين الناس، وأعطاهم مع علم النبوة ومع نشر أحكامها ملكا عظيما، أي سلطانا وبسطة في الأرض فلستم مختصين بالنبوة، ولستم مختصين بإبراهيم، فله قرابة غيركم كانوا في العرب، ولم يكن تلقي الناس لذلك الهدى ولهذا السلطان واحدا:
وهنا بحثان لفظيان: أحدهما - أن (صَدَّ) تستعمل لازمة متعدية، وإذا كانت لازمة فمصدرها الصدود ومعناه الإعراض، وإن كانت متعدية فمصدرها الصد، ومن ذلك قوله تعالى: (... وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ...)، والنص هنا معناه الإعراض عن الهداية التي جاءت إليهم، فهو من اللازم.
والثاني: قوله تعالى: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) لم يذكر فيها من كانت جهنم كفاية لهم، وهو مفهوم من فحوى الكلام، والمعنى كفاهم أن تكون جهنم بسعيرها ولهيبها مصيرا لهم.
وإن هذا مصير كل كافر سواء أكان من اليهود أم كان من غيرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى:
* * *
* * *
الصَّلى معناه إيقاد النار، وصَلِيَ وقع في النار، وأصليناهم نارا: ابتليناهم وعذبناهم بنار، فالتمييز هنا فيه تأكيد لمعنى العذاب بالنار والإيقاع فيها، وإن هذا العذاب الشديد الذي يستقبلهم يوم القيامة يستحقه الكافرون بسبب كفرهم، من غير تفرقة بين ذرية إسحاق وإسماعيل وغيرهم، ولذلك عبر بالموصول، إذ التعبير بالموصول يشعر بأن الصلة سبب الحكم، فهؤلاء حكم عليهم بالعذاب، لأنهم كفروا، ومتى تحقق السبب تحقق الحكم بلا فرق بين قبيل وقبيل، وأن عذاب الكفار دائم، وآلامه مستمرة، وقد أكد وجود العذاب بقوله سبحانه: (سَوْفَ نصْلِيهِمْ نَارًا) فسوف هنا كما قال سيبويه
(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقوا الْعَذَابَ) فعذاب هؤلاء الكفار دائم لَا مناص لهم من الاستمرار فيه. فكلما أصاب العذاب موضع الإحساس من الجسم أعاد الله تعالى ذلك الإحساس إليه، وذلك أن موضع الإحساس في الجسم هو الطبقة التي تلاصق اللحم من الجلد، فإذا فسدت هذه الطبقة ذهب الإحساس بالألم، ولقد عبر الله تعالى عن موت الإحساس ثم إعادته بقوله تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)، فشبه سبحانه وتعالى حالهم في تعذيبهم بالنار بحال قطع من اللحم تلقى في النار، فإذا تهدأت الجلود من شدة النار حتى صارت لَا تحس بدَّل الله تعالى هذه الجلود بأخرى، فيكون العذاب وآلامه في استمرار دائم! ولا موضع إذن لاعتراض الذين يقولون: كيف يعذب جلد لم يعص لجريمة جلد قد عصى؛ لأن الجسم المعذب واحد، ولكن الكلام تصويري لبيان استمرار الإحساس بآلام العذاب، فلا ينقلبون كقطعة فحم، بل يستمر الإحساس بالألم الدائم، وهذا يتلاقى مع ما روي عن الفضيل في تفسير هذا النص: " يجعل النضج غير نضيج " أي يجعل الجلد مع إصابة موضع الإحساس منه بما يميته لَا يموت، بل يستمر! ومن العلماء من قال: إن الجلد لا يتغير ذاته بل يتغير وصفه، فيخلق فيه هذا الإحساس بعد أن يبلى موضع الإحساس بالنار.
والغاية أن يذوقوا العذاب، أي أن يستمروا في ذوقه والإحساس به، وقد شبه الإحساس بالذوق، للإشارة إلى عظيم الألم، لأنهم يحسون به كمن يحس بذوق المرير من الطعام أو بمن يذوق النار ليأكلهما، واللسان أشد أعضاء الجسم حساسية، فإذا كان العذاب يذاق، فهذا دليل على شدة الإحساس، وحيث اشتد الإحساس كان الألم، وحيث مات الإحساس فلا ألم، وليس لجرح بميت إيلام! وقد ختم الله تعالى الآية بما يبين عظم سلطان الله:
وقد أكد سبحانه عزته وحكمته بـ " إن "، وبـ " كان " التي تدل على الاستمرار، وإن من مقتضى حكمته أن يثيب الأبرار كما يعاقب الكفار.
* * *
* * *
وفي مقابل العذاب الذي نزل بالكافرين كان الثواب للمؤمنين.
وإذا كان الكفر هو السبب في العقاب، فإن الإيمان والعمل الصالح هو سبب الثواب، وقد عبر سبحانه وتعالى بالموصول للإشارة إلى أن العلة التي أثبتت الثواب الذي يتفضل الله تعالى به على عباده المؤمنين، هو الإيمان والعمل الصالح، ولا شك أن الإيمان هو الأساس في الجزاء، والعمل الصالح ثمرته، ولا إيمان من غير عمل صالح إلا أن يكون غير مثمر لأعظم ثمراته. ولقد قرر سبحانه وتعالى في وعده أنه سيدخل هؤلاء المؤمنين العاملين جنات تكمل فيها أسباب النعيم، فالأنهار تجري من تحت أشجارها، وهي ليست نعيما وقتيا، بل هي نعيم خالد، وقد أكد الخلود بالتأييد، فكأن الخلود ثابت ثبوتا مؤكدا لَا شبهة فيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ويلاحظ هنا أنه في التعبير عن المستقبل عبر بقوله (سندخلهم) أتى بالسين دون سوف، وكلاهما يفيد تأكيد القول في المستقبل، واختيار السين هنا يؤيد سيبويه فيما قاله من أن سوف
قد تكون للتهديد، ويظهر على هذا أن السين عكسها.
وأن كل ما يتصور من نعيم الدنيا يوجد مثله على صورة أعظم وأكمل، ومن أكمل متع الحياة الدنيا الحياة الزوجية:
(وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) الظل هو ما يحجب الشمس وحرارتها، ويقال ظل الليل وظل الجنة، وقد قال الأصفهاني أنه يعبر عن الظل بالعز والمنعة، وقد قال في ذلك: " ويعبر بالظل عن العز والمنعة وعن الرفاهة، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ...)، أي في عزة ومتاع. قال تعالى: (... أكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا...)، (هُمْ وَأَزْوَاجُهمْ فِي ظِلال...).
وعلى ذلك نقول إن هذا النص السامي: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)، إما أن يراد به الظل الحسي، ومعنى ظليل أنه عميق ساتر لَا يتخلله أي شيء مما يؤذي، ويقول الزمخشري في تعريف الظل الظليل: (هو ما كان فينانا لَا جدب فيه، ودائما لَا تنسخه شمس، وسجسجا لَا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة) ويصح أن يراد بالظل المنعة والعزة، ويكون المعنى ندخلهم في عزة ومنعة ورحمة ورعاية كريمة من الله تعالى. اللهم ارزقنا نعمة رضاك ووفقنا للعمل الصالح.
* * *
* * *
ضاع اليهوِد بأمرين: أولهما أنهم كانوا لَا يؤدون الأمانات، كما قال تعالى في أكثرهم: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ...).
الأمر الثاني الذي أضاع بني إسرائيل في الماضي، أنهم لا يقيمون العدل إذا حكموا كما قال سبحانه: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ منَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتونَ النَّاس نَقِيرًا)، فبالظلم ذهب ملكهم في الماضي، وسيذهب في الحاضر إن شاء الله تعالى. وإذا كانت الخيانة قد أفسدت أمرهم، والظلم قد أذهب سلطانهم، فعلى المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على دعائم الأمانة والعدالة؛ ولذا قال سبحانه:
وقد أسند الأمر إلى الله تعالى بقوله تعالت كلماته مؤكدا أمره (إِنَّ اللَّهَ يَأمرُكُمْ)، وذلك لتأكيد الأداء فضل تأكيد بهذا التصريح، وذلك أن الأمر من قبل الله سبحانه مضافا إليه أمر مؤكد، كما يقال لتأكيد الأمر للعبد بالطاعة: سيدك
والأمانة مصدر بمعنى المفعول، فالمراد بالأمانة ما يؤتمن الإنسان عليه، وقد جمعها سبحانه بقوله تعالى (الأَمَانَاتِ) لتشمل كل ما يؤتمن الإنسان عليه من علم، ومال، وودائع، وأسرار، وغير ذلك مما يقع في دائرة الائتمان وتنبغي المحافظة عليه. ومعنى أدائها إلى أهلها توصيلها إلى ذويها كما هي، من غير بخس ولا تطفيف. فالعالم يؤدي أمانة العلم من غير تزيّد عليها، ولا تحريف لها؛ لأن التزيّد طمس لمعالم العلم، والتحريف تبديل للحق. فمن أوتي علما بالقرآن لا يؤوله لهوى في نفسه، بل يقدمه للناس من غير تحريف للكلم عن مواضعه.
والحكم أمانة في أعناق الحكام، عليهم أن يؤدوا الأمانة فيه بإقامة العدل، وتوخي المصلحة، وتجنب الفساد، سواء أكان فسادا معنويا، أم كان فسادا ماديا، والأول أعلى أنواع الفساد، والثاني أدناها. ومن أمانة الحكم ألا يشقوا على الرعية، وألا يفسدوا ضمائرهم، ولا يزعجوهم بالتظنن والتتبع ما داموا مؤمنين مذعنين، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا...). وإذا كانت رعاية الأمانات وأداؤها واجبا مفروضا على الأمة كلها، حاكمها ومحكومها، وأنها متفاوتة المراتب، فإن الحاكم قد اختص بواجب آخر هو العدل، وهو من نوع الأمانة التي اختص بها، ولذا قال سبحانه بعد الأمر بأداء الأمانات:
(وِإذَا حَكَمْتم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) قال بعض العلماء: إن الخطاب في هذا النص موجه إلى الذين يحكمون، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم، ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها للأمة كلها؛ لأن الأمة العزيزة غير الذليلة التي تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر، هي محكومة ومُحكَّمة، فهي التي تختار حاكمها، وهي في هذا محكّمة،
والعدل معناه في أصل اللغة المثيل، وأطلق في مقام الحكم بمعنى أن يكون الحكم مساويا لما يستوجبه، فماذا ارتكب شخص جرما كان الحكم النازل مساويا للجرم المرتكب، وإذا كان الحكم بدين وجب أن يكون مساويا لما أخذ من غير زيادة، وهكذا. وإن العدل أنواع مختلفة، وله وسائل متباينة، وإذا كان مطلوبا في ذاته فوسائله يجب أن تتحقق فيها العدالة أيضا، وأخص أنواع العدالة عدالة القاضي في حكمه، وهي تتطلب أمورا أربعة: أولها: معرفة حكم الشرع والقانون فيما يقضى فيه. ثانيها؛ معرفة موضوع القضية معرفة متقصٍّ لأطرافها مستوعب لكل أجزائها. وثالثها: أن يبعد الهوى من نفسه، وأن ينظر دائما نظرا غير متحيز.
ورابعها: أن يسوي بين الخصمين في كل شيء، وقد جاء في تفسير فخر الدين الرازي عن الشافعي ما يأتي: " قال الشافعي - رضي الله عنه -: ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء: في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم عليهما.. ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته؛ لأن ذلك يضر بأحد الخصمين. ولا يلقن المدعي الدعوى والاستخلاف، ولا يلقن المدعَى عليه الإنكار والإقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لَا يشهدوا.
وعدالة الحاكم الأكبر تقتضي الرفق بالرعية، وألا يعمل إلا ما فيه مصلحة، وأن يمنع الرشوة، وألا يولي أحدا ممن دونه لهوى أو غرض! فلا يوسّد الحكم لمن
________
(١) سبق تخريجه من رواية مسلم وغيره عن تميم الداري، وذكره البخاري في ترجمة الباب.
والأمانة واجبة سواء أكان من ائتمنك عادلا أم كان جائرا، فالنبي - ﷺ - يقول: " أدِّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك " (٢). ومن المقررات في الفقه الإسلامي أن الظالم لَا يُظلم.
والعدل مطلوب في ذاته، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم، فقد قال تعالى (... وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى...).
(إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) الوعظ معناه التذكير بالخير والتحذير من الشر، بما يرق له القلب، ويخضع له الوجدان. و (ما) هنا إما نكرة بمعنى شيء، أو موصول، والمعنى واحد، وإن اختلف التخريج النحوي. ومؤدى النص أن الله جلت حكمته وهو العليم بكل شيء يأمركم بالأمانة والعدالة وَلَنِعْمَ هما شيئا خطيرا جليلا ذا أثر عظيم، في حياتكم العامة والخاصة، يذكركم به ويدعوكم إليه، فأداء الأمانات وإقامة العدالة، بهما تقوم الأمم، وعليهما تبنى دعائم العزة والكرامة الإنسانية، فهما ممدوحان دائما، ولا ينتج عنهما إلا خير، ولا ينتج عن تركهما إلا شر.
________
(١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ» قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ". رواه البخاري: العلم - من سئل علما وهو مشتغل بحديثه فأتم (٥٩)، ورواه أحمد: باقي مسند المكثرين (٨٥١٢) بلفظ: " إذا توسد ". ومعنى وُسِّد: أُسنِد.
(٢) رواه الترمذي: البيوع - النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر (١٢٦٤). ورواه أبو داود: البيوع - في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (٣٥٣٥).
وإذ كان العَدْل، وجبت الطاعة لولي الأمر مقرونة بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله؛ لأبها مشتقة من طاعتهما، ولذا قال تعالى:
* * *
________
(١) سبق تخريجه من رواية أبي داود: الفتن والملاحم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
* * *
طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، فإطاعة الرسول إطاعة لله، وإطاعة الله إطاعة للرسول أو تقتضيها، فقد قال الله تعالى: (... وَمَا آتَاكمُ الرَّسُولُ فَخُذوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهوا...). وأولو الأمر هم الذين بيدهم الْحَلِّ والعَقْدِ وبيدهم مقاليد الأمة التي يقومون على رعاية مصالحها وشئونها وإرشادها وتوجيهها. وقد قال بعض الحكام إنهم الفقهاء والذين يستطيعون استنباط الأحكام، ولكن الأكثرين على أن ولاة الأمر هم الحكام وأهل الْحَلِّ والعَقْدِ.
أحدهما - أن القرآن الكريم يصرح بأن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم يجب أن يكونوا من المؤمنين، ولذلك يقول سبحانه " منكم "، فلا طاعة مطلقا لمن يغلبون على شئون المسلمين ممن ليسوا من أهل الإيمان، فأُولئك المنحرفون من بعض أهل الهوى الذين يزعمون أنهم مسلمون، ويزعمون أن الإنجليز أيام حكمهم كانوا من ولاة الأمور الذين يوجب النص طاعتهم - قد ضلوا ضلالا بعيدا، وهم بهذا وبغيره خارجون عن حكم الإسلام.
ثانيهما - أن الله قرن طاعة أولي الأمر بطاعة الله ورسوله، فوجب أن تكون طاعتهما من جنس طاعة الله تعالى ورسوله، بأن تكون في سبيل العدل، ولا تخرج عن حدوده. وإنه باقتران هذه الآية بالآية السابقة يستبين أن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم هم العادلون؛ لأن الأولى أوجبت العدل، والثانية أمرت بالطاعة، فلو كانوا غير عدول لكانت الطاعة مسايرة لهم على الظلم. وقد نهينا عنه. ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه:
" المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق، لأن أمراء الجور - الله ورسوله بريئان منهم - فلا يُعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل، واختيار الحق، والأمر بهما، والنهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين. وكان الخلفاء يقولون: أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.
وعن أبي حازم أن سلمة بن عبد الملك قال: ألستم أُمرتم بطاعتنا في قوله تعالى: (وَأولِي الأَمْرِ مِنكمْ) قال: أليس قد نُزِعَتْ عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: (فَإِن تَنَازَعْتمْ فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ). وعن النبي - ﷺ - أنه قال:
ولكي تكون طاعة أولياء الأمر في سبيل الحق والعدل، ومقترنة بطاعة الله ورسوله، وجب الرجوع عند الاختلاف إلى الكتاب والسُّنة، ولذا قال سبحانه: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) لقد ثبت بإجماع العلماء الذي لَا مماراة فيه أن طاعة أولياء الأمر إنما تكون فيما فيه طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله الأمين كما نوهنا، وأنه ليس لوليِّ الأمر طاعة في معصية، لقوله - ﷺ -: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (٢)، ولقوله - ﷺ -: " إنما الطاعة في المعروف " (٣)، والمعصية منكر لَا طاعة فيه، ولقوله عليه الصلاة والسلام: " على المرء المسلم السمع والطاعة، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " (٤)، ولِمَا قررنا من أن طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله، وأنه
_________
(١) رواه البخاري: الأحكام - قول الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (٣١٣٧)، ومسلم: الإمارة - وجوب طاعة الأمراء في المعصية وتحريمها في المعصية (٨٣٥ ١) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) رواه القضاعي في مسند الشهاب ج ٢، ص ٥٥ (٨٧٣) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، والبغوي في شرح السنة عن النواس بن سمعان، كما في مشكاة المصابيح ج ٤، ص ٢٣٨. كما رواه أحمد في مسنده وعن الحكم بن عمرو الغفارى وعمران بن حصين (٢٠١٣٠)، وعن علي رضي الله عنه (١٠٩٨)، ولفظه عَنْ عَلِى عَنْ النَبِي - ﷺ - قَالَ: " لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوق فِى مَعْصِيَةِ اللهِ عَز وَجَل ". وهو عند البخاري بسنده عن علي.
(٣) متفق عليه. وراجع التخريج السابق.
(٤) متفق عليه رواه البخاري: الأحكام - السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (٧١٤٤)، ومسلم: الإمارة - وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (١٨٣٩) ولفظه عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ " ولفظ البخاري عن نَافِع عَن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أي ابن عمر حيث الرواية عن نافع) عَنْ النَبِي - ﷺ - قَالَ: " السمْعُ وَالطاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِم فِيمَا أحَبَ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ فَإِذَا أمِرَ بِمَعصِيَةٍ فَلا سَمع وَلا طَاعَةَ ".
وإذا كانت طاعة ولي الأمر لَا تكون إلا في دائرة الكتاب والسنة، فلا بد أن يكونا هما المرجع في الوفاق والخلاف معا، فإن اتفق أهل الحَل والعقد على أمر مشتق من كتاب الله وسنة رسوله، وغير خارج عنهما ولا عن أصولهما المقررة، فهو الحجة الواضحة، كما كان يفعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد كانا يعرضان الأمر الذي لَا يعرفان له حكما من كتاب ولا سنة على الصحابة، وأحيانا على كل أهل المدينة، فما يثبت أنه ورد فيه قرآن أو سنة خضع الجميع له، وإلا فإنهم ينظرون مجتهدين فيما يكون من جنس ما يأمر به الكتاب أو السُّنَّة، فإن اتفقوا عليه نفذوه. وإذا كان اختلاف، فإنه لَا حكَم في الاختلاف إلا الكتاب والسُّنة أيضا، وهذا موضع قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتمْ) وليس التنازع هو المحاربة، إنما التنازع هو الاختلاف في طلب الحق في الأمر، وقد جاء في تفسير معنى التنازع في مفردات الراغب: " نزع الشيء جذبه.. والتنازع والمنازعة المجاذبة، ويعبر بهما عن المخالفة والمجادلة ". وكأن كل واحد من المختلفين يجذب من الآخر الحجة لدليله، ويجعل الحق في جانبه بجذب الحجة على مخالفه، ومن هذا قول النبي - ﷺ -: " ما لي أنَازعُ القرآن " (١)! وذلك أن بعض المأمومين جهر
________
(١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: «هَلْ قَرَأَ مَعِيَ أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟»، فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنِّي أَقُولُ مَالِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟»، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " َ [رواه الترمذي: الصلاة - ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام (٣١٢)، والنسائي: الافتتاح - ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به (٩١٩)، وأبو داود: الصلاة - من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام (٨٢٦)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها - إذا قرأ الإمام فأنصتوا (٨٤٩)، وأحمد: مسند المكثرين (٧٢٢٨).
ويجب بهذا النص عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، وذلك بالتماس ما يكون من الأحكام متفقا مع المقاصد والغايات التي جاء بها الكتاب والسُّنة، وإن لعلماء الإسلام في ذلك منهاجين: أحدهما: أن يبحث في الأصلين عن حكم منصوص عليه يشبه في سبب الحكم الحادثة التي لَا يجدون فيها نصا، وهذا يسمى القياس الفقهي، وهو ما تسير عليه الكثرة الكبرى من الفقهاء. والمنهاج الثاني. أن ينظر إلى المقاصد العامة للشريعة، وهي مصالح الناس، الثابت الأخذ بها من مجموع النصوص لَا من نص بعينه، فإذا كان في الأمر المتنازع فيه مصلحة ملائمة لمقاصد الشارع، من غير مخالفة أي نص، أخذ بها، وهذا المنهاج أخذ به الإمام مالك، وأحمد، وزَيْد.
ولكن يرد هنا سؤالان: من الذين يجري بينهم التنازع؛ ومن الذين يتولون رد الأمر إلى الكتاب والسُّنَّة؟.
والجواب عن السؤال الأول: أن الذين يجري بينهم الخلاف هم أهل الحَل والعقد، وذلك يقتضي أن تكون هناك جماعة مصطفاة مختارة تتولى سن النظم ووضع القوانين المشتقة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهم رجال الشورى الذين ترتضيهم الأمة.
والجواب عن السؤال الثاني - أن الذين يردون الأمر المختلف فيه، يجب أن يكونوا على علم بالكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وغاياتها، وهم علماء الإسلام المتفقهون في أحكامه. ولذلك يجب أن يكون في أهل الحَل والعقد، أو بجوارهم يعملون معهم، رجال من فقهاء الإسلام المخلصين المؤمنين بحقائقه، الذين لا يغلب عليهم الهوى، ولا يخضعون لهوى الحكام، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه.
وإن اتباع القرآن والسُّنَّة في الحكم فيه الخير وحسن المآب، ولذا قال سبحانه:
(ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا) إن ذلك الرجوع إلى الكتاب والسُّنة، في الفرقان والافتراق، خير لكم في الدنيا؛ لأن فيه مصلحتكم الحقيقية، وفيه بعد عن الهوى، وفيه خضوع لله تعالى. وأحسن تأويلا أي مآلا ونهاية، وفهمًا لأمور هذه الحياة، فإن شئون الحياة معقدة، تختلط فيها الشهوات بالمصالح، فلا يمكن فهمها على حقيقتها إذا تشبابكت إلا بالرجوع إلى شرع الله، ففيه الفهم الصحيح، وفيه الغاية السامية، وفيه المآل الذي لَا شر فيه. فاللهم وفق أمتك للأخذ بِشرعَتِك واجعلنا من الذين لَا يحرِّفون الكلم عن مواضعه، إنك سميع الدعاء.
* * *
* * *
دعت الآيتان السابقتان المؤمنين إلى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل. وقد ذكرت الآية الثانية أن طاعة الله ورسوله واجبة، وأن طاعة أولي الأمر لازمة ما استقاموا على الحق من غير عوج، وأن ذلك سبيل الحق والعدل، واستقرارهما. وفي هذه الآيات يبيّن سبحانه وتعالى حال بعض أهل الكتاب الذين يتركون الأحكام المقررة في الشرائع السماوية، ويستبدلون بها الظلم وحكم الطغيان، ولذا قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أئزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)
وواضح من النص الكريم أن هؤلاء متصفون بصفتين: أولاهما - أنهم يدعون الإيمان وليسوا بمؤمنين، إذ قال سبحانه: (يَزْعُمُونَ أَنَّهمْ آمَنُوا).
وثانيتهما - أنهم في الأصل من أهل الكتاب الذين يدعون أنهم آمنوا بما أنزل على موسى والأنبياء قبله. وبهذا النص الكريم يتعين أن يكون أولئك من المنافقين من اليهود الذين كانوا يظهرون الإيمان، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، أو من الضعفاء الذين ليس عندهم من قوة الإيمان ما يحملهم على الخضوع لأحكام الله تعالى.
وإن المفسرين قد تكلموا في سبب نزول هذه الآيات، ورووا في ذلك روايات مختلفة، وأقربها إلى معنى الآية أن منافقا اختلف مع يهودي، فأراد اليهودي أن يكون الحكم هو النبي لما يعرف عنه من عدالة وامتناع عن رشوة، ولأنه يحكم بقانون ثابت لَا عوج فيه ولا انحراف، وأراد المنافق أن يتحاكما إلى غير النبي - قيل إلى كاهن، وقيل إلى أحد كبار اليهود - وكلا الحكمين لَا يمكن
(وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) وإذا كان الله تعالى قد أمرهم أن يكفروا بحكم الهوى والغرض والظلم وبحكم الأوهام والكهنة، واختاروا هم الاحتكام إلى طاغية من طغاتهم، أو كاهن من الكهان، فقد كان ذلك بوسوسة الشيطان المضل في نفوسهم، وهو لَا يريد لهم إلا العدول عن الخط المستقيم.
فالضلال هو العدول عن الخط المستقيم، سواء أكان ذلك في المعنويات أم كان في السير الحسي. ومن عدل عن الطريق المستقيم واستمر في غيره، فهو كمن بعُد عن الطريق السوي، وسار في متاهات، كلما أمعن بعد. وهؤلاء قد ابتدأوا بالنفاق، فكلما وسوس لهم شيطانهم بالباطل أبعدهم عن الحق وعن طريقه. فمعنى يضلهم ضلالا بعيدًا يبعدهم عن الحق الذي ابتدأوا باجتنابه، فصاروا كمن يوغلون في متاهات من الأرض، كلما أوغلوا زادوا بعدا عن الطريق المستقيم.
وإن هذا النص يومئ إلى أنه لَا يتفق مع الإيمان الصادق أن يتحاكم المؤمن إلى غير النظام الذي يقرره القرآن والسُّنَّة. ويومئ النص أيضا إلى أن كل تحاكم لغير شريعة الله تعالى وما تقرره من أحكام، هو تحاكم إلى طغيان كبير لَا يقوم الحكم فيه إلا على الهوى. ألم تر كل النظم التي تحكم بغير القرآن لَا تعاقب الزاني، ولا تعتبر فعله جريمة إلا إذا كان فيه اعتداء على الزوجية أو اغتصاب، أو زنى بقاصرة! وأي طغيان وهوى أعظم من ذلك جرما؟!
ويومئ النص كذلك إلى أن من يرفض حكم القرآن يخضع لحكم الشيطان، ويضل به ضلالا، كلما سار فيه بعد عن الحق المبين:
* * *
* * *
إذا قيل لهؤلاء الذين ضعف إيمانهم فلم يذعنوا للحق، ولم يخضعوا لحكم الله: تعالوا وأقبلوا على الخضوع لله تعالى ولحكمه - رأيت الذين اتسموا بالنفاق منهم يعرضون عنك إعراضا شديدا، وذلك لأنهم لمرض النفاق في قلوبهم
وفى الآية الكريمة إشارتان بيانيتان:
إحداهما - التعبير بقوله تعالى: (إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) فإن هذا يبين لهم أنهم يتركون الحكم المنزل من السماء من عند الله إلى حكم الأرض وأهواء أهلها، ويبين لهم أن الرجوع في الحكم إلى الرسول هو رجوع إلى حكم الله الذي ينطق به رسوله الأمين، وأن امتناعهم عن ذلك إنكار للرسالات الإلهية مع أنهم من أهل الكتاب، الذين يعتزون على العرب بأنهم يؤمنون بشرائع السماء ويخرهم أميون!! ثم يبين ذلك أن الخضوع لحكم الرسول خضوع لحكم الله تعالى وما أنزله الله، فالمعترض على حكم الرسول معترض على الله سبحانه وتعالى.
الثانية - في قوله تعالى: (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) فإنه يشير إلى أن الذين يعرضون عن حكم الله تعالى وينفرون منه هم المنافقون الذين يسرون ما لَا يظهرون ويخفون ما لَا يبدون، فالإعراض عن حكم الله تعالى سمة من سمات النفاق أو بالأحرى أوضحها وأبينها.
والنص يشير مع هذا إلى أن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت فريقان: فريق ضعيف الإيمان، وفريق منافق، وأن المنافقين من بينهم شديدو النفرة والإعراض. اللهم إلا أن يقال إن ذلك إظهار في موضع الإضمار، أي أن الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله وبالرسول، الذين يرتضون حكم الطاغوت هم منافقون، وهم بسبب نفاقهم يعرضون عن حكم الله إعراضا شديدا، فهم طائفة واحدة!
________
(١) والدَّخَل: ما داخَل الإِنسانَ من فساد في عقل أو جسم، وقد دَخِلَ دَخَلا ودُخِلَ دَخْلاً، فهو مَدْخُول أي في عقله دَخَل. وفي حديث قتادة بن النعمان: وكنت أرى إِسْلامه مَدْخُولا، الدَّخَل، بالتحريك: العيب والغِش والفَساد، يعني أن إِيمانه كان فيه نِفَاق.
* * *
* * *
إذا كان أولئك المنافقون يصدون ذلك الصدود، ويعرضون هذا الإعراض، فلينظروا إلى حالهم عندما تصيبهم مصيبة بسبب تركهم التحاكم إلى القانون العادل والحاكم العادل، كيف تكون حالهم عندما تنزل بهم مصيبة الظلم وعدم الخضوع لقانون عادل يرد الحق إلى نصابه! وذلك أن الذي يترك القانون الذي لا يخضع لهوى، والقاضي الذي لَا يخضع لغرض، ولا ينحرف عن الحق لأي غرض من أغراض الدنيا - تنزل به مصيبته لَا محالة، وهي الاضطراب، وعدم الاطمئنان إلى حكم حاكم! والجماعة التي تترك الحكم المستقيم إلى الحكم المعوج الذي يستمد من الطغيان والظلم، لَا بد أن تنزل بها مصيبة التفرق والانقسام، وعدم التواصي بالحق. فالقرآن يشير للمنافقين بهذه النتيجة، بل ينبئهم فيقول لهم: كيف تكون حالكم إذ تصيبكم مصيبة التظالم، وأكل بعضكم مال بعض، ونفرة الرسول منكم، وظهور أمركم وانكشاف حالكم، وذلك بما قدمته أيديكم من ترك للحق وعدم خضوع له! والتعبير " بما قدمت أيديكم " يبين ما سبق من أمرهم، وإن لم يكن باليد؛ لأن اليد مظهر العمل، فهي كناية عن عمل الإنسان، وإن كان باللسان أو القلب.
ثم إنهم بعد أن تصيبهم مصيبة الباطل وانكشاف أمرهم، ونفرتك منهم - جاءوك يعتذرون إليك ويوثقون اعتذارهم بالحلف بالله تعالى قائلين: ما أردنا بالمخاصمة لغيرك إلا إحسان المعاملة والتوفيق بين الخصوم.
والمعنى الجلي للنص السامي: كيف تكون حالهم إذا نزلت بهم النازلة التي تترتب على تركهم حكم الله إلى حكم الطغيان، ثم جاءوا إليك معتذرين عما سبق منهم، قائلين حالفين بالله أنهم ما قصدوا الإعراض، بل أرادوا التوفيق، والمعاملة الحسنة!!.
* * *
* * *
أولئك النافرون عن حكم الله إلى حكم الطغيان والهوى والشيطان، وهم يزعمون أنهم من أهل الإيمان يعلم الله تعالى ما يستكن في قلوبهم، وما يدفعهم إلى أعمالهم وخروجهم عن حكم الحق إلى حكم الهوى. والإبهام في قوله تعالى (يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) للإشارة إلى خفائه إذ يخفونه ويبدون غيره، وإلى أنه شيء كثير من الفساد والانحراف النفسي يحكمون إخفاءه، وإلى تنوعه من رغبة في الكيد والأذى، والتفريق بين المؤمنين، وممالأة المشركين، وغير ذلك.
وإذا كان الله يعلم ما في نفوسهم علما دقيقا، لَا يغيب عنه شيء؛ لأنه وحده العليم بذات الصدور الذي لَا يخفى عليه شيء في السماء والأرض، فإنه سبحانه وتعالى مجازيهم في الآخرة بأعمالهم ودوافعها المكنونة في قلوبهم، إن استمروا على حالهم ولكن عليك أنت أيها الرسول أن تبلغهم الحق، وتدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) أي: إذا كانوا كذلك من السوء فأعرض عنهم. وفي هذا النص بيان لطرق علاج المنحرفين في نفوسهم إذا كانوا صالحين للعلاج، وهذه الطرق ثلاث مراحل متداخلة: أولاها - الإعراض عنهم بألا يقبل عليهم ليشعروا باستنكاره لأعمالهم، وأنه غير راض عنهم، وذلك في غير جفوة؛ لأنه إن كانت الجفوة كان العناد، فلا يمكن أن يصل إلى المرحلة الثانية. وهذه المرحلة الأولى هي التي عبر عنها سبحانه بقوله تعالى: (فَأعْرِضْ عَنْهُمْ).
الثانية - الوعظ، وهو الزجر مع التخويف بسوء العاقبة والمآل ونتائج أعمالهم، فإن ذلك قد يدفعهم إلى التفكير، ومع التفكير في العاقبة ينفتح باب الهداية وسلوك الطريق المستقيم.
وإن القول البليغ الذي يصل إلى كنه القلوب، يجب أن تتحقق فيه ثلاثة أوصاف: أولها، أن يكون المطلوب حقا، والثاني، أن يكون اللفظ مستقيما، والمعنى سليما، فلا يصل إلى الحق إلا بالحق، والثالث، أن يكون القول منبعثا من النفس، بحيث يؤمن القائل بصواب ما يقول، فإنه لَا يؤثر إلا المتأثر.
هذه طرق الدعوة إلى الحق، هدانا الله إلى الطيب من القول وهدانا إلى صراط الحميد.
* * *
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (٦٤) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)
* * *
ما قبل هذا النص الكريم كان في وجوب إطاعة الله تعالى ورسوله، ووجوب إطاعة أولي الأمر الذين ينفذون حكم الله تعالى ويقومون على رعاية
وفى الآيات التالية يبين سبحانه أن الالتجاء إلى حكم الله تعالى، عندما يكون الخلاف، هو من الإيمان، فمن ترك حكم الله إلى غيره عامدا مستهينا بحكم الله، أو منكرا عدالته وصلاحيته، لَا يعد مؤمنا ولا يعد آخذا بحكم الرسالة، ولذا قال سبحانه وتعالى:
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ) يدل على أبلغ عموم وأبلغ استغراق، إذ تأكد الاستغراق بالتنكير وبحرف (من) وبالنفي والإثبات، وإن هذا يدل على أن الطاعة هي مقتضى الرسالة، فأساس الإيمان بالرسالة الإيمان بأن ما يبلغ إنما يبلغ عن الله تعالى، ولقد أيد سبحانه وتعالى هذا المعنى وهو التبليغ عن الله تعالى بقوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، فكل أمر يأمر به هو من الله تعالى، وكل ما
________
(١) سبق تخريجه قريبا.
_________
(١) أومأ إمامنا إلى قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). قال القرطبي: هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابا من الله عر وجل لأصحاب نبيه - ﷺ -. والنبي - ﷺ - لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب؛ فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي - ﷺ - بأخذ الفِدية.
(٢) متفق عليه؛ رواه البخاري: الشهادات - من أقام البينة بعد اليمين (٢٦٨٠)، ومسلم: الأقضية - الحكم الظاهر واللحن بالحجة (١٧١٣).
(٣) رواه ابن ماجه: المقدمة - اتباع سنة الرسول - ﷺ - (١) ولفظه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ". وهو في الصحيحين؛ (١٣٣٧) البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٢٨٨)، ومسلم في الفضائل: ولفظه عند البخاري: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا [ص: ٩٥] أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ".
ولقد ذهبت الجرأة ببعض الذين يتكلمون في الفقه إلى أن ما يكون باجتهاد من النبي - ﷺ - لَا يكون حجة. كأن النبي يمكن أن يقر على الخطأ في اجتهاده! وذلك كلام باطل لَا يكون إلا من مستهين بمقام النبوة، وتبليغ الرسالة! ولقد قال بعض المالكية وقولهم الحق: إن كل من لم يرض بحكم النبي - ﷺ - وطعن فيه وردّه، فهي ردّة يستتاب فاعلها. فأولى بهؤلاء أن يصمتوا ولا يتكلموا، فكلامهم تلبيس وأوهام لَا تصدر عن عالم في الدين يفهم حقائقه، ويدرك معانيه!.
طاعة الرسول إذن واجبة في كل ما يأمر به على أنه دين واجب الأخذ به، وكل من يعاند الرسول في حكمه يكون ظالما لنفسه؛ لأنه تمرد على أمر ربه، ولأنه اختار الباطل بدل الحق، ويجب عليه التوبة والاستغفار. ولذا قال تعالى في أولئك الذين يتمردون على أحكام الرسول وقضائه.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) أي: لو ثبت أن أولئك الذين تحاكموا إلى الطغيان والظلم، من اليهود أو المنافقين، وظلموا أنفسهم بخروجهم عن جادة الحق وردهم الحق الثابت، جاءوا إليك تائبين راجعين، فطلبوا غفران الله تعالى، وطلبت لهم ذلك، لعلموا علم اليقين أن الله كثير القبول للتوبة، رحيم بعباده، يفتح باب المغفرة ليدخلوه آمنين مطمئنين إليه، وما سلكوه من طريق الضلال يغفر لهم سلوكه؛ لأن الله تعالى يحب قبول التوبة ويحب المغفرة. وإن مثلهم كمثل الناقة
وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها:
أولاها - أن الله تعالى سمى الذين تحاكموا إلى غير الشرع ظالمين لأنفسهم، يستوي في ذلك من حكم له ومن حكم عليه؛ لأن تحكيم الطاغي الظالم هو بث للظلم ونشر له، وإذا شاع الظلم وكثر شاع معه الفساد والاضطراب، ومن فعل ما يؤدي إلى ذلك هو ظالم لنفسه، وظالم لجماعته التي يعيش فيها.
وثانيتها - أن الله تعالى قرن الاستغفار من الرسول بالاستغفار له، ليشير بهذا إلى أن الرسول - ﷺ - لَا يقول من عند نفسه، بل يقول عن الله تعالى، ولتكريم مقام الرسالة ومقام الحاكم العادل، فإن الإعراض عنه استهانة به، والاستهانة بالحاكم العادل تؤدي إلى الفوضى وعدم استقرار الأحكام.
والثالثة - أن قوله تعالى: (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، ويقول الزمخشري في ذلك " لم يقل: (واستغفرت لهم) وعدل عنه إلى طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول الله - ﷺ -، وتعظيما لاستغفاره. وتنبيها على أن شفاعة من اسمه رسول من الله بمكان ". فالالتفات كما نرى للتنبيه إلى مكانة الرسالة، وتفخيمها، ولبيان أن شفاعة الرسول بمقتضى كونه رسولا، لها مقامها من الله تعالى، وفوق ذلك أن الالتفات يؤدي إلى أن يكون الاستغفار للرسول بوصف أنه رسول، فالباعث على وجوب الاستغفار له هو أنه يبلغ رسالة الله، فترك حكمه استهانة بحكم الله، وهو رسول الله، ورسول الله له حق الكرامة الكاملة.
* * *
* * *
(شَجَرَ بَيْنَهُمْ) معناها تنازعوا فيما بينهم، واختلط الحق بالباطل، وتشابكت الأمور كما تتشابك غصون الأشجار، وإن التحاكم يكون في مثل هذه الأمور التي
(فَلا وَرَبِّكَ) أيها النبي الكريم، لَا يؤمنون، ولا يعدون في عداد المؤمنين، حتى يحكموك فيما يكون بينهم من خلاف، فإن من أول مظاهر الإيمان والإذعان للحق الرضا بتحكيم الشرع في الخلاف.
وهنا ثلاثة بحوث لفظية:
أولها: (الفاء) في قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ) ونقول إنها فاء الإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، ومعنى الكلام: إذا كانت طاعة الرسول واجبة بحكم أنه رسول من عند الله، فإنهم لايؤمنون برسالته حتى يرتضوا التحاكم إليه. ثانيها: (لا) في قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ) قال الزمخشري إنها زائدة لتقوية الكلام، فيكون النص كقوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقد قال الطبري إن " لا " ليست زائدة، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم الشرع، وقد قال في ذلك: " قوله (فَلا) رد على ما تقدم ذكره، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ثم استأنف القسم بقوله (وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنونَ).
ثالثها: أن الله سبحانه وتعالى أقسم بذاته العلية، ولكنه أضاف الربوبية إلى
النبي - ﷺ - فقال: (وَرَبِّكَ) يَا أيُّهَا النبي، تكريما لذات النبي)، وإعالأً لشانه، وجواب القسم هو قوله تعالى: (لا يُؤْمِنُونَ).
ومن هذا النص السامي يتبين أن أول مظهر من مظاهر الإيمان الرضا بحكم الشرع، ولكن الرضا وحده ليس كافيا بل لَا بد من أمرين آخرين، وهما أن يكون الرضا عن طيب نفس من غير حرج ولا ضيق، وثانيهما التسليم والخضوع لحكم الشرع. وقد قال سبحانه وتعالى في ذلك:
(وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) هذا هو الوصف الثالث لأهل الإيمان بالنسبة لأحكام الشرع الشريف. والتسليم معناه الانقياد والإذعان التام في المظهر والحس. وإذا كان الوصف الثاني لبيان الخضوع النفسي، فهذا الوصف الثالث لبيان الخضوع الحسي الظاهر. وقد أكد سبحانه وتعالى التسليم بالمصدر فقال " تَسْليما " للإشارة إلى وجوب الإذعان المطلق من غير أن يثيروا أي شبهة حول الحكم، ولا أن يماروا فيه مراءً ظاهرا، فإن المراء قد يثير نزاعا جديدا، والقضاء يجب أن يكون حاسما قاطعا.
وأصل التسليم هو تقديم النفس، وجعلها خالصة لمن يسلم إليه. يقال: سلَّم لأمر الله وأسلم له. إذا جعل نفسه خالصة لله تعالى، ثم أطلق التسليم على الانقياد الظاهري، وعدم المماراة فيما يقرره الشرع من حقوق وواجبات.
ويجب التنبيه إلى أن التحاكم إلى النبي بعد وفاته هو التحاكم إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي - ﷺ -، فيجب أن يعلم كل من يُسمى نفسه مسلما أن الله تعالى يقرر أنه لَا يؤمن من لَا يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، ثم لَا يجد ضيقا في حكم الشرع، بل يرضى به، وينقاد له انقيادا ظاهرا وباطنا. وإذا كان ذلك ما يقره الشرع، فليعلم المسلمون اليوم مكانهم من الإيمان، وقد ارتضوا حكم القوانين
بالله.
* * *
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)
* * *
الآيات السابقة بينت أحوال المنافقين وصفات الإيمان، وأن مظهر قوة الإيمان إطاعة الله ورسوله، والرجوع إلى الكتاب والسُّنة عند الاختلاف، وتحكيمهما في كل أمور الحياة التي تحتاج إلى حكم وفصل. وأقسم الله بذاته العلية التي خلقت كل ما في الوجود، وقامت عليه بالحفظ، ألا يكون الإيمان الكامل إلا لمن يُحكِّم الله ورسوله في كل الخصومات، ويذعن للحكم من غير تململ، ولا تردد. وفي هذه الآيات يبين أن الذين يذعنون لأمر الله ونهيه، حتى في النفس وترك الأهل، قليلون، وليسوا كثيرين، وهم الذين تقوم عليهم قوة الأمة، ولذا قال سبحانه:
ومعنى النص الكريم: لو ثبت أننا فرضنا عليهم أن يعرضوا أنفسهم للتلف من غير أمل في النجاة، أو يخرجوا من موضع استقرارهم وأمنهم في ديارهم، إلى حيث المشقة الشديدة والعمل الكادح، ما استجاب لهذه الفريضة إلا عدد قليل من الناس، وهذا يشير إلى أمرين:
أولهما: أن التكليفات الشرعية لَا تكون إلا فيما يطاق من غير مشقة
مجهدة، لأن الله - تعالى - يقول: (لا يُكَلِّف اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...)، والتعبير بـ (لو) يدل على أن التكليف لَا يقع على هذا؛ لأن (لوْ) كما يقول العلماء تدل على امتناع الشرط لامتناع الجواب، فالله تعالى لو يكلف ذلك التكليف لثقل التكليف إلا على عدد قليل منهم.
الثاني: أن في كل طائفة عددا يقوم بذلك الأمر الشاق، فهؤلاء المؤمنون الأولون قد صبروا على أذى المشركين في مكة من غير وهن ولا ضعف، ومنهم
________
(١) سبق تخريجه.
(وَلَوْ أَنَهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) وإذا كان الله سبحانه لَا يكلف ما يشق أداؤه، ولا يمكن احتماله، إلا لعدد من الأقوياء جعلوا منار الهدى أمام الناس في كل العصور، فإنه سبحانه يكلف الناس ما فيه خيرهم وتثبيتهم على الحق.
ومعنى النص السامي (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ): لو ثبت أنهم فعلوا ما يكلفونه من تكليفات محتملة بينت لهم فيها نتائجها وثمراتها، لكان فيها الخير لهم في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة يكون الثواب العظيم والنعيم المقيم، وفي الدنيا يكون العدل والفضيلة، والمصلحة الحقيقية، وهذه الأمور هي خير الدنيا. فالشرع الإسلامي بني على هذه الأمور الثلاثة: الأول الفضيلة المهذبة للنفس، الموجهة إلى توثيق العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعبد وربه، والسعي نحو الكمال الإنساني، والمنزلة الرفيعة. والثاني العدالة التي هي الميزان في العلائق الإنسانية التي ينتظم بها معاشهم ومعادهم، والثالث المصلحة الحقيقية، فما من مصلحة حقيقية ليست هوى ملحا ولا شهوة جامحة - إلا دعا إليها الإسلام، وما من حكم جاء به التكليف الإلهي إلا طويت فيه المصلحة، وكانت نتيجة وثمرة للأخذ به.
ومعنى قوله تعالى: (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) أي يكون في الأخذ بالتكليف الذي يطاق تثبيت على الحق، هو أشد تثبيت وأقواه. وكان في التكليف الذي يطاق تثبيت للحق، لأنه يمكن الاستمرار عليه، والاستمرار على فعل ما هو حق يثبته ويقرب الغاية منه، ولذلك كان النبي - ﷺ - يدعو إلى المداومة على الخير ولو كان
* * *
________
(١) سبق تخريجه.
* * *
وإنما قام المكلفون بما كلفوا، وأدوا حق الله تعالى، وقد زاد ثباتهم على الحق، ونالوا الخير، فإن لهم مع ذلك جزاء عظيما، لَا حدود لعظمته. وقد تأكدت عظمة الجزاء بأمور ثلاثة: أولها - تنكيره، فهذا التنكير يشير إلى أنه غير محدود بحدود، فهي عظمة أقصى ما يصل إليه الخيال. ثانيها - أنه قال إن ذلك من لدن الله تعالى، وهذا شرف إضافي لهذا الجزاء، وهو جزاء يعلو على كل جزاء من الناس، ثم إنه جزاء يستهان في سبيله كل أذى. وثالثها - الوصف بالعظمة، والذي وصفه بذلك هو الحكيم الخبير، والخلاق العظيم.
* * *
* * *
الصراط هو الطريق، والمستقيم هو الذي يوصل إلى غايته أو هدفه، ويقول علماء الهندسة: إن الخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، فالصراط المستقيم هو أقرب طريق يوصل إلى الحق، والهداية هنا هي التوفيق لأقرب طريق موصل إلى الله تعالى. ومعنى النص الكريم: من أجاب داعي الحق، وقام بالأوامر والنواهي على وجهها الأكمل، وفقه الله تعالى إلى طريقه المستقيم الذي لَا اعوجاج فيه، ويصل بذلك إلى القرب من الله تعالى، فإن الذي يتقرب إلى الله تعالى بالطاعات يصل إلى إدراك نوراني لحقائق العبودية.
ولقد قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: (يصلون بسلوكه جناب القدس، ويفتح عليهم أبواب الغيب، قال النبي - ﷺ -: " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم
وإن الأساس في الارتفاع إلى هذه المقامات العليا هو طاعة الله وطاعة رسوله، ولذا قال سبحانه:
* * *
________
(١) أبو نعيم في (الحلية) من حديث أنس بهذا اللفظ. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعا: " مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا فَعَمِلَ بِهِ كَانَ حَقا عَلَى الله أنْ يُعَلِّمَهُ مَا لَمْ يكنْ يَعْلَمُ ". وفي كتاب (رواية الكبار عن الصغار) لأبي يعقوب البغدادي عن سفيان: " مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعلَمُ وُفَقَ لِمَا لاً يَعْلَمُ ". الدرر المنتثرة ج ١، ص ٧٩٣ برقم (٤٢٢).
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة فضل الطاعة وجزاءها، وهو أجر عظيم، وهداية إلى الطريق الذي يوصل إلى القدسية ومرتبة المشاهدة لله تعالى، وعظمته التي ذكرها النبي - ﷺ - في قوله: " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (٢) وفي هذه الآية الكريمة يذكر لهم جزاءً آخر، وهو كرم الصحبة في الدنيا والآخرة، فهم إذ يسيرون في الصراط المستقيم الموصل إلى الله يكونون في قافلة الأطهار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما أحسنها رفقة طاهرة كريمة طيبة!!.
والإشارة في قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم) إلى أولئك السابقين الذين أعطاهم الله سبحانه الأجر العظيم، وهداهم للوصول إلى مرتبة السُّمُو، ومشاهدة المعاني القدسية، وكرر ذكر الطاعة فقال: (وَمَن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ)، لأن هذه الطاعة هي الأساس في هذه الأجْزِية المجزية، الرافعة السامية الهادية، وفي تكرارها تحريض عليها، ودعوة إليها.
وقد ذكر سبحانه أن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قد أنعم عليهم، وإن ذلك هو الحق الذي لَا ريب فيه، ففيهم جميعا نعم ثلاث قد اختصوا
________
(٢) سبق تخريجه.
والثالثة - نعمة العمل الصالح. وتلك النعم هي معاني الإنسانية العالية التي تسمو عن كل مظاهر الحيوانية، وما بقي منها فإنه تقوى به هذه المعاني العالية، وتلك النعم السامية.
ومن هم أولئك الرفقاء الأطهار؛ إنهم مراتب ودرجات، وهم أربعة: أولهم: النبيون، وهم الذين أنبأهم الله، واختارهم ليخبروا عنه سبحانه، ويبلغوا الناس شرعه ويفسروه، وإن من يبالغ في محبتهم وطاعتهم يكون معهم، لأن النبي - ﷺ - يقول: " المرء مع من أحب " (١).
وقد روى ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال: " جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله - ﷺ - وهو محزون فقال: يا رسول الله، شيء فكرت فيه! فقال الرسول: " ما هو "؟ قال: نحن نغدو إليك ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك! فنزل قوله تعالى: (وَمن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسولَ فَأوْلَئكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم...) الآية. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أَنها قالت: جاء رجل إلى النبي - ﷺ - فقال له: " إنك لأحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي، فانظر إليك، وإذا ذكرت موتي عرفت أنك إن دخلت الجنة رفعت مع النبيين فخشيت ألا أراك. فنزلت الآية الكريمة " (٢).
والذي يعنينا في هذا أن من يحب الله ورسوله يكون مع حبيب الله محمد - ﷺ - وغيره من الأنبياء الأطهار.
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - علامة حب الله عز وجل (٦١٦٨)، ومسلم: البر والصلة - المرء مع من أحب (٢٦٤١). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(٢) رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة. عن عائشة رضي الله عنها. مجمع الزوائد (٧٣٩٠١).
وان هذه المعاني متلازمة، فمن صدق في قوله لَا يكذب قط؛ إذ يصير الصدق عادة نفسية له، فلا يتأتي منه الكذب، ولقد قال النبي - ﷺ -: " عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا " (١).
وإن الصدق في القول إذا صار عادة نفسية زكت النفس وطهرت، واستقام الفكر والعمل، وصار يدرك الحق لذات الحق، ويتجه إلى طلبه من غير التواء، فيدركه من غير طلب حجة ولا برهان؛ لأن أمارات الحق تلوح له، ويدركها بنور قلبه. وكذلك كان صدِّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه، وقد روى ابن مسعود عن النبي - ﷺ - أنه قال: " ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له نظرة، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم " (٢).
________
(١) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا ". رواه مسلم: البر والصلة والآداب - قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (٢٦٠٧)، كما رواه البخاري بلفظ مقارب. الأدب - قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (٦٠٩٤)].
(٢) رواه الديلمي عن ابن مسعود. كما في كنز العمال (٣٢٦١٢).
والفريق الثالث من قافلة البر، هم الشهداء، وهم الذين شهدوا الحق وعلموه علما كعلم المعاينة والمشاهدة، فهؤلاء يشهدون بالحق، ويعلنونه ويدعون إليه، فهم الذين قال الله تعالى في أمثالهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، فهم حضور الحق والشاهدون به والداعون إليه، وإن من أولئك بلا ريب الذين يقتلون في الجهاد في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمة الحق، قاصدين وجه الله بقتالهم؛ لأنهم شهدوا الحق وأعلنوه، وضربوا الأمثال على افتدائه بأنفسهم، وشهد الله تعالى لهم بالجنة.
والفريق الرابع الصالحون، وهم من صلحت نفوسهم وأعمالهم، فهم صالحون في الباطن والظاهر.
هذه القافلة المكونة من هذه الطوائف الأربع، هم أهل الإيمان حقا وصدقا، وهم رفقاء الخير، ورفقتهم أحسن النعم، ولذا قال سبحانه:
(وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) الرفيق هو الصاحب الذي يلازمك في عمل أو سفر، وسمي رفيقا لأنك ترتفق به وتستعين، ويعاون كل منكما صاحبه، ويأتنس به في العمل والسفر والملازمة بشكل عام. والرفيق هنا ذكر مفردا واستعمل في معنى الجمع، فالمعنى: وحسن أولئك رفقاء! وإنما أفرد لأن الحسن في ذات الرفقة، ولأن المصاحبة إفرادية، فكل واحد يصاحب الأحاد والجميع، فهم جميعا في معنى رفيق واحد، لتشاكل النفوس وتوافقها. وقال الزمخشري: إن (حَسُن) في معنى فعل التعجب، فالمعنى: ما أحسن وأطيب رفقة هؤلاء! ولذلك كانت نعمة أنعم الله بها على عباده المخلصين. وهي من فضله.
* * *
* * *
الإشارة إلى كل ما ذكر من جزاء على طاعة الله وطاعة الرسول - ﷺ -، من أجر عظيم، وهداية إلى الصراط المستقيم، ورفقته مع الأخيار الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هذا كله فضل من الله تعالى العلي الكبير، وعطاء منه، ورحمة يرحم بها المتقين -، وهو العليم بكل ما يعملون من خير، لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير. فقوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) فيه بيان أنه يعلم سبحانه من يستحق فضله وعطاءه ومن لَا يستحق، وفيه إشارة إلى أن الطاعة هي طاعة العالم بكل شيء، فالطاعة فيها مصلحة للعباد؛ وكون الجزاء بفضل الله فيه إشارة إلى أن العمل وحده لَا يستوجب العطاء، إنما هو من فضل الله تعالى. ولقد روى أن النبي - ﷺ - قال: " لن يُنَجِّي أحدا منكم عمله "، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: " ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة (أي من قيام الليل) والقصد القصد تبلغوا " (١). اللهم اختم لنا بخير ما نعمل، ونجنا بفضل رحمتك من سوء أعمالنا، إنك ذو الفضل العظيم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (٧٢) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ
________
(١) رواه البخاري: الرقاق - القصد والمداومة على العمل (٦٤٦٣)، ومسلم بنحوه: صفة القيامة والجنة والنار - لن يدخل أحد الجنة بعمله (٢٨١٦). عن أبي هريرة رضي الله عنه.
* * *
في الآيات السابقات بين الله سبحانه وتعالى دعائم الحكومة الإسلامية الوثيقة الأركان، فذكر لها ثلاثة أوصاف:
أولها - أن تسودها الأمانة في القول والعمل والمال، فلا تقوم حكومة قويمة إلا إذا كانت الأمانة هي السائدة بين الحكام والسائدة بين الشعب، والسائدة في العلاقات بين الشعب والحكومة. فإذا لم تكن الأمانة فسد أمر الحاكم والمحكوم، وضاعت الأمة.
وثانيها - العدل، فهو ميزان الجماعة وميزان الحكم. ولقد كان العدل شعار الإسلام وسيماه ومعناه، فإذا كان لكل دين سمة واضحة فيه، فسمة الإسلام العدل من العدو والولي على سواء. ولا تقوم أمة إذا لم يقم بينها العدل، واحترام الحقوق التي قررها الله تعالى، ومنحها لعباده.
وثالثها - الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - ﷺ -، واتخاذهما الحكم المرضي للحكومة دائما، لَا يأخذ أحد منهما ما يحب ويدع ما لا وإنه يجب أن يكون للأمة مجلس للحل والعقد يستشيره الحاكم ويشير عليه، فإن اختلف أهل الْحَلِّ والعَقْدِ، احتكموا إلى كتاب الله تعالى، يشير إلى ذلك قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ).
وإذا تكونت الأمة ذلك التكوين العادل الأمين، تقدمت للدفاع عن نفسها، ولذلك جاء بعده أخذ الأهبة للقتال، فقد قال سبحانه وتعالى:
وأولى هذه العبارات قوله تعالى: (خُذُوا حِذْرَكمْ)، فقد قال الزمخشري: " إن الحِذْرَ والحَذَرَ معناهما واحد، ويقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترس. ومعنى خذوا حِذركم، أي خذوا ما فيه الاحتياط لكم، ودفع كل مخوف عنكم "، وقد ذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: " أن مِنْ أخذ الحذر تعرف حال البلاد الإسلامية، وترف حال بلاد الأعداء، أو من يتوقع منهم الاعتداء، وتعرف بلاد المعاهدين وغيرهم، بحيث إذا اضطروا إلى الحرب كانوا عالمين بمواطن قوتها وأماكن ضعفها ". وذكر رضي الله عنه " أنه يدخل في الاستعداد وأخذ الحذر، واتقاء كل مخوف معرفة الأسلحة واستعمالها فإذا كان ذلك يتوقف على معرفة الهندسة والكيمياء والطبيعة وجر الأثقال، فإنه يجب تحصيل ذلك ". ولقد قال الإمام هذا في أول هذا القرن الذي يعيش فيه، وهو ألزم في هذا العصر الذي
________
(١) الكلكل: الصدر من كل شيء. لسان العرب.
والثانية في قوله تعالى: (فَانفِرُوا ثُبَات أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)، فمعنى انفروا: اخرجوا إلى ميدان القتال أو الحراسة. وقالوا: إن نفر يتفر معناه انزعج وخرج إلى عمل من الأعمال، ومنه قوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ منْهُمْ طَائِفةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)، ومصدره النفر أو النفار أو النفير، والأخير قد يطلق بمعنى الجماعة النافرة. وقالوا إنَّ نَفَرَ يَنْفُر - معناها انزعج عن الشيء، ومنه النفور من الأمور ونفور الدابة. (وثُبَات) جمع ثُبَة، وهي في الأصل ثُبَيَّة، حذفت الياء، ووزنها فعة، ويقال: ثيبت الجيش، جعلته ثبة ثبة، أي جعلته جماعة متفرقة، كل واحدة لها مقصد خاص، وعمل تقوم به، اقتضاه توزيع القوى.
والنفير جماعة جماعة، هو الحال الدائمة المستمرة، فيجب أن تكون حراسة مستمرة للحدود والثغور، وهي المرابطة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وأما النفير العام فإنما يكون عند قيام الحرب التي لَا تكفي فيها كتيبة، أو كتيبتان، أو كالتعبير التاريخي في الإسلام: سرية أو سريتان أو أكثر، بل لَا بد من الجيش المحارب كله والأمة من ورائه تؤيده وتؤازره.
ولكن ما المراد من النفير جميعا؛ أهو الجيش المحارب كله، أم نفير الأمة كلها؟ لَا شك أنه إذا لم تغن السرية وجب أن يتقدم الجيش كله، وتقدم الجيش كله هو في معنى نفير الأمة كلها؛ لأن الأمة عليها أن تكوِّن الجيش المقاتل، تؤازره وتؤيده بالمال والقول والعمل، وتكون من وراء ظهره تدفعه إلى العمل وتحميه من
إن هذا واجب المخلصين في الأمة، وفي كل أمة معوِّقون يقولون: هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا! ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
وإن ممن يعيشون معكم ويساكنونكم ويرتبطون معكم برحم واصلة، ويعلنون اسم الإيمان لمن يتثاقلون عند الدعوة إلى القتال، فيبطئون ولا يخرجون، يبطئون غيرهم ويثبطونهم. وهؤلاء لَا ينظرون إليكم نظرة الحب الذي يودكم، بل يتوقبون الأمر معكم، فإن أصابتكم هزيمة وقتية، أو استشهد عدد منكم، لا يتألمون، بل يفرحون، ويعتبرون قعودهم نعمة أنعم الله بها عليهم، ويحمدون الله تعالى إذ لم يكونوا حاضرين هذه الحرب!! فمعنى (شَهِيدًا) حاضرا الحرب، يقاتل فَيَقْتُلُ أو يُقْتَلُ.
ومن هم هؤلاء؛ أهم المنافقون، أم ضعاف الإيمان؟ قال أكثر مفسري الرواية: إنهم منافقون، وذلك شأنهم. والتعبير بـ " منكم " يحتاج إلى توفيق بين هذا وقوله تعالى في شأن المنافقين: (مَّا هُم منكُمْ وَلا مِنْهُمْ)، والتوفيق أن يقال هنا إن المراد بقوله منكم، أي من أهلكم وعشيرتكم وتربطكم بهم رحم، فكل منافق كان في قرابته من هو صادق الإيمان، مجاهد في الله حق جهاده. ويزكي هذا قوله تعالى في الآية الآتية: (كَأن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ).
وبعض المفسرين رأى أن المراد ضعاف الإيمان، ومن ليست عندهم عزيمة الجهاد، ذلك موجود في كل جماعة، ففي كل جماعة المؤمن القوي في نفسه ودينه، ومنهم الضعيف في نفسه وهمته ودينه.
* * *
* * *
ولئن نلتم نصرا وغنما بفضل الله تعالى، لَا يفكرون في سروركم ولا يحمدون الله على نصركم، ولكن يفكرون في أمانيهم، ويتمنون أن لو كانوا معكم ليفوزوا الفوز العظيم الذي نلتموه، وهو فوز النصر وفوز الغنيمة، فوز الاطمئنان وأداء الواجب، يفكرون فيما ينالهم من خير يرجونه، أو آلام يتجنبونها، ولا ينظرون إلى آلامكم وسروركم، كان لم يكن بينكم وبينهم أية موفى ة، ولو كانت ضئيلة!! فتنكير المودة لبيان تصغيرها، وهذا شأن الأثر الذي يحب نفسه فقط، ولا يفكر في الجماعة التي يعيش فيها.
وهنا ثلاثة بحوث لفظية ومعنوية:
أولها: التعبير عن هذه الجماعة، المنافقة أو ضعيفة الإيمان، بالمفرد اتباعا للفظ (مَنْ) الذي يجوز عود الضمير عليه مفردا. وفي هذا التعبير إشارة إلى معنى الانفراد في الإحساس الذي اختصوا به، ولم يشاركوا أحدا في إحساسهم بالألم أو السرور.
وثانيها: التعبير بقوله: (أَصَابَكُمْ فَضْلٌ) فإن التعبير بإصابة الخير مع أنهم نالوه، للإشارة إلى أن ذلك إرادة الله تعالى. فإن أصابكم ما يؤلمكم فبإرادته، وإن نلتم من خير فبإرادته وبتفضله.
وثالثها: إن قوله تعالى: (كَأن لَّمْ تَكن بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) جملة معترضة بين القول ومقوله، للإشارة إلى فقدهم الإحساس الاجتماعي فقدًا تاما، الذي
وفى قوله تعالى: (فَوْزًا عَظِيمًا) إشارة إلى استعظام الخير الذي ينال المؤمنين، شأن الحسود غير المحب.
وإن هؤلاء الذين يعيشون مع جماعة المؤمنين، ولا يحسون بإحساسهم، لا يخرجون إلى قتال، وإنما يخرج للقتال أولئك الذين يؤثرون على أنفسهم، ويقدمونها لله تعالى رجاء ما عنده، فهؤلاء هم القوة، وهم العماد في الحروب والشدائد، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
إذا كان المخذلّون يتربصون بالمجاهدين، فإنه يجب أن يكون الجهاد للمخلصين، وأن يبعدوا عنهم المعوقين، فإنهم لَا يزيدونهم إلا خبالا واضطرابا! فليتقدم للقتال الذين لَا ينظرون إلى مغنم يبتغونه، ولا مال يريدونه، إنما يبيعون الحياة الدنيا ومتعها وشهواتها، ويطلبون ثمنا هو الآخرة وما فيها من جنات وعيون، ونعيمها ثابت دائم، ومعها رضوان الله تعالى. وسبيل الله التي يجب القتال فيها هي سبيل الحق، وإعلاء دينه، وجعل كلمة الله هي العليا.
و" يَشْرُونَ " هنا معناها يبيعون أنفسهم، وذلك مثل قوله تعالى: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ)، وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، وقوله تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدودَة)، أي باعوه. وإن الذي يبيع نفسه لله، ليفتدى الحق وأهله، له جزاؤه وأجره العظيم، ولذا قال سبحانه: (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
وإنما ينال ذلك الجزاء من خرج مجاهدا في سبيل الحق، لَا يبتغي غير رضاء الله، ولا يبغي علوا في الأرض ولا تفاخرا. ولقد قال - ﷺ -: " تَضَمَّن الله لمن خرج في سبيله لَا يخرج إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو عليَّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة " (١).
اللهم هب أمتك روح الجهاد في سبيل الحق، وهبنا رحمة من عندك، إنك أنت الوهاب.
* * *
(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (٧٦)
* * *
________
(١) رواه مسلم: الإمارة - فضل الجهاد والخروج في سبيل الله (١٨٧٦)، والبخاري بلفظ: " تكفل الله ": فرض الخمس - أحلت لي الغنائم (٢١٢٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وإنه في سبيل الاستعداد أن يبعدوا عن حسابهم أولئك الذين يثبطون عن القتال ولا يحتسبوا في عدادهم إلا أولئك الذين باعوا أنفسهم لله، وباعوا متع الحياة الدنيا، لينالوا نعيم الآخرة.
وفى هذه الآيات يحض على القتال بتذكيرهم بشرف ما يجاهدون من أجله، وهو رضا الله، وإعلاء كلمة الحق، ويذكرهم بإخوانهم الذين يرهقون بالظلم، ويعيشون مستضعفين أذلاء، لَا يجدون وليا يلي أمرهم، ولا نصيرا ينصرهم ويستنقذهم مما هم فيه من بلاء، ولذلك قال تعالى:
وأولئك المستضعفون الذين أراد المشركون إضعافهم وإذلالهم، منهم الرجال الذين سلبوا كل حول وقوة، وصاروا أذلاء، ومنهم النساء اللائي لَا قدرة لهن بحكم الأنوثة ومنهم الذرية الضعاف.
وهنا بحوث نحوية وبلاغية، لَا بد من الإشارة إليها.
أولها: موضع (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) من الإعراب، وقد قيل: إن (ما) دخلت على فعل محذوف يتضمن الكلام معناه ويقتضي تقديره، ويكون
ثانيها: قوله تعالى: (وَالْمُسْتَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) فإنهم قالوا إن القتال لاستنقاذهم قتال في سبيل الله، فلماذا ذكر بعد القتال في سبيل الله، وهو يشمله؛ وقد أجابوا عن ذلك بأن هذا من قبيل عطف الخاص على العام؛ لأن للخاص مزيد عناية بيانية. ومنهم من قال إن قوله تعالى:
(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) منصوب على الاختصاص، والمعنى: لَا تقاتلون في سبيل الله وخصوصا المستضعفين إلخ. ومهما يكن من التخريج النحوي، فإن المؤدى أن النص على هؤلاء للتحريض على القتال، بحكم الشرف والمروءة، بعد التحريض عليه بحكم الدين والقربى إلى الله سبحانه وتعالى، ذلك أن العربي الكريم المعدن، وإن لم يكن مؤمنا، يرى من المروءة والشرف والنجدة ألا يعتدى على ضعيف، لَا قوة له، وأن من الواجب عليه أن ينصره، وأن يغيثه.
ثالثها: أن النص على النساء والولدان الصغار فيه تحريض أقوى تحريض؛ لأن هؤلاء يعيرون إذا تركوهم في أيدي الأعداء. وذكر الأولاد بالذات، وهم لم يجنوا أي جناية، فيه حث بذاته على القتال، فإذا كان المشركون قد أفحشوا في الاعتداء، فليس للمسلمين أن يخذلوا هؤلاء الضعفاء.
وإن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والذرية ليسوا مستسلمين للظلم، ولكنهم يريدون دفعه، ويتجهون إلى اللَّه تعالى أن يخرجهم منه، إذ يقولون كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم:
(رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِم أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) لَا يجدون لهم قوة إلا الدعاء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى يطلبون معونته وإمدادهم، فيقولون مقرين بأن لله وحده حق الربوبية، وبأنه هو
أولها: الإخراج من نير الظلم، وحكم الظالمين.
وثانيها: أن يكونوا تابعين لولاية دولة الله، وهي الدولة الإسلامية، فلا يخرجون مشردين لَا دولة تحميهم، ولا ديار تؤويهم.
وثالثها: أن يكون لهم من الله نصير دائم ينصرهم، فلا يتمكن الأعداء وهنا بحوث بلاغية:
أولها - أن المراد من القرية مكة، وقد وصف أهلها بأنهم ظالمون، ولم توصف هي بأنها ظالمة، كما وصف غيرها من القرى مثل قوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، وذلك تكريم لمكة، إذ هي حرم الله الآمن، ولم يمكن أن يوصف حرم الله الآمن بالظلم، ولو على سبيل المجاز والتقدير. وقد قال ناصر الدين السكندري في كتابه " الانتصاف " في هذه الآية ما نصه: (ووقفت على نكتة في هذه الآية حسنة، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز، فالظلم إليها ينسب بطريق المجاز، كقوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَة كَانَتْ آمِنَةً مطْمَئِنَّةً)، إلى قوله تعالى: (فكفرت بأنعم الله)، وقوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، وأما هذه القرية في سورة النساء، فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة، لأن المراد بها مكة، فوُقِّرت عن نسبة الظلم إليها، تشريفا لها، شرفها الله تعالى).
ثالثها - في التعبير (لَدنكَ) وهي بمعنى (عند)، ولا تكاد تستعمل في القرآن إلا مضافة إلى لفظ الجلالة، وعلى أي حال هي تفترق عن عند بأن (عند) تستعمل للعلو، والانخفاض في العندية، كما تستعمل في التساوي، فيقال فلان عند فلان إذا كانا متساويين في الرتبة أو أحدهما دون الآخر، أما (لدنك) فإنها لا تستعمل إلا إذا كان المضاف إليه عاليا، والمضاف دونه، فهذا التعبير يشير إلى أن أولئك الضعفاء قد لَجأوا إلى الجانب الأعلى الذي لَا يدانيه علو في الأرض ولا في السماء، وإذا كانوا قد لجأوا إلى الله، فإن الله ناصرهم.
* * *
* * *
سبيل الله تعالى هي سبيل الحق الثابت الذي لَا يكون فيه العدل، ولا يكون بغي ولا فحشاء ولا أذى، وفيه قيام المصالح ودفع المفاسد. والطاغوت هو فَعَلُوت من طغى، وهو مجاوزة الحد، والبغي الشديد، وترك الخير، وفعل الشر، والسعي في الأرض بالفساد.
وهنا مقابلة بين قتال أهل الإيمان، وقتال أهل الكفر - بالغاية منهما - فغاية المؤمنين نصرة الحق ودفع الفساد، وغاية الكافرين نشر الظلم والفساد في الأرض، ولو ترك الظالمون من غير أن يقاومهم أهل الحق، لعم الفساد، وذهب الخير، وهدم الحق، كما قال سبحانه: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنً اللَّهُ ذُو فَضلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠).
وإن هذه ظاهرة ثابتة، فالقتال في ظل الدين، والتمسك بمثله العليا، رفعة للإنسانية، ومنع الفساد، ومنع لتحكم الرذيلة في الفضيلة. والماضي ينبئ عن ذلك، فقتال النبي والصحابة من بعده كان فيه حد من طغيان الملوك، وظلم الظالمين، ونشر للواء العدل، ومنع للفتنة في الدين، وتحكم الإنسان في أخيه الإنسان. وقد وصف الله المؤمنين إذا انتصروا، فقال سبحانه وتعالى في أحوالهم: (الَذينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ)، أي أنهم إذا انتصروا رفعوا لواء العدل، وأقاموا مجتمعا فاضلا على أساس من الفضيلة ودفع الرذيلة.
وأما الذين لَا يذعنون للحق، ولا يؤمنون به، ولا يقيمون للفضيلة وزنا، فإن قتالهم في سبيل الغلب، والسلطان الغاشم، والتحكم والسيطرة، وإن الماضي والحاضر يشهدان بصدق ذلك، وإن العيان ليؤيد هذه الشهادة الصادقة. ألم تر إلى أولئك الذين يتحكمون الآن في مصاير العالم، لَا يفكرون إلا في الغلب على قطعة من الأرض يستولون عليها، أو يبسطون نفوذهم فيها، وما ذلك إلا طغيان المتحكمين المسيطرين في بلادهم! وانظر نظرة عميقة إلى أولئك الذين وضعوا أيديهم على أدوات الحرب المخربة، التي إن ألقيت لَا تبقي ولا تذر، وتأكل الأخضر واليابس، فإنهم يتغالبون على النفوذ، ولو استشيرت أمَمُهم فردا فردا، لاستنكروا ما هم مقدمون عليه أو يكادون! فالحروب التي يثيرها الكافرون في هذا الزمان لَا يدفعها إلا طغيان أفراد معدودين، يتحكمون في الشعوب ومصايرها، بطريقة أقسى مما كان يتحكم الملوك من قبل!.
وسمى الله سبحانه تدبير الكافرين مع شيطانهم (كَيْدَ)، لأنهم لا يقصدون بالتدبير رفع حق أو خفض باطل، بل الكيد والأذى لأهل الحق.
اللهم اهد المؤمنين إلى أسباب القوة، وأخذ الأهبة، وإعداد العدة للجهاد في سبيلك، سبيل الحق والكرامة والسمّو والعلو.
* * *
* * *
الآيات السابقة في الحض على القتال، وبيان أن القتال دفاع عن العجزة، والنساء، والأطفال، الذين لَا يجدون حيلة للخروج من الهوان والاستكانة للظالمين، ولا يجدون سبيلا لأن يخرجوا من ديار الذل أو يدفعوا عن أنفسهم أوْضَاره وآلامه، ففي القتال دفاع عن هؤلاء، وإخراج لهم. ولكن المسلمين لم يكونوا سواء في تلقي شدائد القتال: فمنهم من يتقدم للميدان لَا يهمه أن يقع على الموت أو يقع عليه، كعلي بن أبي طالب، وغيره من صناديد المؤمنين، ومنهم من يخشاه ويخافه، وهذا الصنف في كل جماعة، ولقد قال الله تعالى فيه:
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الخشية الخوف الشديد مع مهابة الضعيف لمن يخافه، وهذا الفريق الذي خاف القتال مع الهيبة من الأعداء هو من الضعفاء الذين لَا يعلون بإيمانهم.
والتعبير بقوله تعالى في أوصاف هذه الخشية: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)، فيه بعض إشارات بيانية.
________
(١) سبق تخريجه من رواية الترمذي وأبى داود والنسائي.
الثانية - التعبير بلفظ الجلالة فيه إشارة إلى بيان خورهم وفساد تفكيرهم؛ إذ يجعلون خشية الله - جل جلاله -، في مقابل الخشية من الناس، والله تعالى إذا كان معهم وقاموا بحق الجهاد، فلن يخذلوا أبدا.
الثالثة - في الترديد بين أن تكون خشيتهم من الله بمقدار خشيتهم من الناس، أو أكثر، فيه بيان لحال ضعفهم، واستمكان الضعف، وهو ترق في التوضيح، إذ إنه من المقرر أن المؤمن لَا يليق به أن يخاف الناس، كما يخاف الله، فكيف إذا كان يخاف الناس أكثر من الله؟! ولا شك أن فريقا من أولئك الضعفاء أو المنافقين كان على هذه الحال.
وأولئك الجبناء لَا يكتفون بالخوف والفزع، بل يصل بهم الأمر إلى درجة أن يعترضوا على فرضية القتال.
(وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخرْتَنَا إِلَى أَجَل قَرِيب) قد قالوا لفزعهم: ربنا الذي خلقنا ونمانا وربانا، لأي شيء كتبت علينا القتال وفرضته وألزمتنا به، وهو أمر مخوف مرهوب؟! فمن فرط ذهولهم وجبنهم ينسون العزة والكرامة، وأنهما مطلبان لَا ينالان إلا بالحرب والجهاد؛ وينسون إذلال الكافرين للمؤمنين، والفتنة في الدين، ويسألون عن أسباب القتال!. نعم إن القتال أمر تكرهه النفوس، ولكن إن كان دفعا للذل يصير واجبا، كما قال تعالى: (كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تَكرَفوا شَيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ).
فيصير القتال أمرا مستمرا لشرف الغاية التي تدعو إليه.
وإذا ذُكر أولئك الضعفاء بالباعث على شرعية القتال لَا يذهب فزعهم، بل يقولون وجلين هلعين: (لَوْلا أَخَّرتَنَا إِلَى أَجَل قَرِيب)، أي: هلا أخرتنا في إجابة
(قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيل وَالآخِرَةُ خَيْر لِّمَنِ اتَّقَى) إن الحرص على الدنيا والتعلق بها، يدفع إلى الرغبة في البقاء على أية صورة كان البقاء، سواء أكان البقاء في عزة أم كان في ذلة. فمطامع المال ومتاع الدنيا تجعل النفس ترضى بالحياة بكل صورها، وقديما قال العرب: (أذل الحرصُ أعناقَ الرجال). فكان لابد لتربية روح الجهاد من تعريف المسلم بقيمة هذه الحياة، ووزنها بالنسبة لما بعدها، ولذلك أمر الله نبيه أن يقول لهؤلاء الذين كانت خشيتهم للناس كخشية الله أو أشد، واضطربوا عندما أمروا بالقتال: إن كل منافع الدنيا ولذاتها قليلة، مهما كبرت في نظركم، فكثيرها قليل إذا كانت في ذلة، ولا يبقى الانتفاع إذا تحكم فيكم الأعداء، وهي فانية لَا تبقى، وكل ما يكون مآله الزوال ضئيل مهما تكاثر في العدد، وإذا وزن متاع الدنيا بمتاع الآخرة الباقي الخالد الدائم، فإنه لَا يكون شيئا مذكورا!! ولذا جاء قول النبي بأمر الله تعالى: (مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْر لِّمَنِ اتَّقَى) والآخرة بما فيها من متاع دائم خير من الدنيا بكل حذافيرها؛ لأنه لَا نزاع
(وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الفتيل: هو الخيط الدقيق الذي يكون في شق نواة التمر، وهو يضرب مثلا للقلة والتفاهة. والمعنى: إنه إذا كانت الآخرة خيرا من الدنيا وأبقى من متاعها، فإن طريق الآخرة هو الجهاد في سبيل الله، والقيام بطاعته، وإنكم ستنالون الجزاء الأوفى، ولا ينقص من أحد منكم أي قدر من جزائه، ولو كان قدرا ضئيلا لَا تأبهون له في دنياكم، فإذا كان حرصكم هو الذي جعلكم تخشون القتال، وترجئونه، فإنه يجب أن يكون حرصكم كبيرا على ما هو أغلى وأعظم، وما هو مؤكد لَا احتمال فيه، ولقد كان حرصهم وخوفهم من القتال؛ لأنهم يريدون الحياة ويخافون الموت، فبين لهم سبحانه أن الموت آت لا محالة، وأنه لاحق بهم أينما يكونوا:
* * *
* * *
البروج جمع برج، وهو يطلق على الحصن المنيع، ويطلق على القصر العالي الذي لَا يصل إليه أحد، ويبنى للملوك والكبراء لكيلا تصل إليهم الرعايا. مشيدة: أحكم بناؤها، وارتفعت، أو بنيت بالشيد، وهو الملاط القوي الذي تربط به اللبنات بعضها ببعض. ولقد قال طرفة بن العبد:
كأنها برج رومي تكنَّفها... بانٍ بشيد وآجرّ وأحجار
ومعنى النص: إن كنتم تريدون بقعودكم عن الجهاد وطلب إرجائه أن ترجئوا الموت أو تطيلوا الحياة، فقد أخطأتم، فإنه حيثما كنتم يدرككم الموت ولو كنتم في أقوى الحصون، وأمنعها، وأحكمها بناء.
ومن هاب أسباب المنايا ينلْنه | وإن يَرْقَ أسباب السماء بسلَّم |
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي إن تصبهم حال حسنة تحسن عندهم، من رخاء أو خصب أو ظفر أو غنيمة أو سعة في الرزق، يقولوا: هذه الحال من عند الله تعالى، فإن كان النصر قالوا: من عند الله. وإن يصبهم أمر يسيئهم، كالهزيمة، قالوا: ذلك من محمد، كأنهم ينسبونه إلى سوء تدبيره - عليه الصلاة والسلام -، أو يتشاءمون به، ويهبطون بذلك هبوطا شديدا! فالحسنة ما يحسن عندهم، والسيئة ما يسوؤهم. وذلك التفكير الذين يفكرونه ناشئ من ضعفهم النفسي، وضعفهم الإيماني، وسوء ظنهم بالنبي - ﷺ -، وذلك شأن أهل النفاق ومن يستمعون إليهم من ضعفاء أهل الإسلام:
(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) أي إذا كنتم تنظرون إلى ما قدره الله تعالى في علمه المكنون، وما يوفق إليه عباده، وما يمدهم به من عون، فإن كل شيء من عند الله، فالشدة والرخاء من عند الله، والغنيمة والهزيمة بتقدير الله عند اتخاذ الأسباب، فلا ينصر الله متخاذلا، ولا يخذل من يريد ما عند الله، ويتجه إلى الجهاد مستعدا بقلبه وعدته وتنظيمه، وبهذا يرد عليهم ما توهموه، أو قالوه.
* * *
(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (٨٠) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٨١)
* * *
هذه الآيات تتميم للمعاني التي اشتملت عليها الآيات السابقة، فإن هؤلاء المنافقين وضعاف الإيمان، كانوا يُحمِّلون النبي - ﷺ - تَبِعة الهزيمة إن كانت!. وإن كان ما يحسن في نظرهم قالوا: هذا بفضل الله، ونسوا أن كل شيء بتقدير الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، فقد قدر النصر والفوز، كما قدر الضرر والأذى، وكلٌّ من عند الله سبحانه وتعالى. وقد حسب أولئك المنافقون والضعفاء أن البعد عن
وفى هذه الآيات يبين سبحانه أن ما يصيبك من أمر يحسن عندك، فإنه بفضل الله تعالى؛ إذ وفقك إلى سببه، وجعل السبب منتهيا بالنتيجة وما أصابك من أمر يسوؤك فبسببك وعمل منك، وأن الرسول لَا يحمل أوزاركم، وأن طاعته واجبة في المنشط والمكره، وأن الذين يظهرون الطاعة بألسنتهم أمامه، ويبيتون العصيان من ورائه، الله بهم عليم، ولذا قال سبحانه:
والمراد بالحسنة ما يكون فيه ما يسر وما يحسن في نظر الإنسان، والسيئة ما يسوء في نظر الإنسان. والمعنى على هذا التخريج: ما أصابكم من أمور حسنة فبتوفيق الله تعالى لكم، وجعل النتائج مترتبة على أعمالكم التي اتخذتم فيها الأسباب، ولم تتقاصروا عن الاتجاه فيها إلى أسباب الظفر. وما يصيبكم مما يسوؤكم وينزل بكم من غم، فلتجنبكم الأسباب الموصلة إلى الغاية، ومخالفتكم أوامر الله ورؤسائكم، كما كان الشأن في أحد، فما كان الأمر الذي ساء إلا من المحاربين الذين امروا فخالفوا، وما كان النصر في بدر إلا من الله، وإطاعتهم الأوامر.
والتوفيق بين النص الكريم، وقوله من قبل: (قُلْ كُل مِّنْ عِندِ اللَّهِ)، هو أن النص الأول كان موضوعه الكلام في تقدير الله، فهم إن انتصر المؤمنون لَا ينسبون للنبي - ﷺ - أي فضل، بل يجردونه من الفضل، ويقولون هو من عند الله!! وما قصدوا التفويض والإيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة!! وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبي إيذاءً وتمردا، فالله قال لهم: كل ذلك بتقدير الله وإرادته. أما هذا النص: (مَا أَصَابَكَ)، فموضوعه اتخاذ الأسباب، ومعناه أن من أخذ الأسباب وتوكل على الله، فالله تعالى يعطيه النتائج، ومن
وهذا هو التخريج الأول، والتخريج الثاني أن يكون: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسكَ)، من حكاية قول المنافقين والضعفاء في إيمانهم، لأن آخر الآية السابقة: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)، ثم ذكر سبحانه حديثهم الذي لم يفقهوه، وهو قولهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) إلخ، ويكون الخطاب للنبي - ﷺ -، فهم يقولون: ليس لك من فضل في النصر الذي تناله، فإن ما أصابك من ظفر فمن الله، وما أصابك من هزيمة فمن نفسك! وقد ذكر هذا التخريج القرطبي، وقال: " والمعنى: فمال هؤلاء القوم لَا يكادون يفقهون حديثا، حتى يقولوا: ما أصابك الله من حسنة فمن الله! ".
ويكون ذلك الكلام على هذا التخريج ترديدا لقولهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، ويكون في الأول الحديث عن أنفسهم، وفي الثاني الحديث عن النبي - ﷺ -، ففي الأول معنى التطير والتشاؤم، وفي الثاني تجريد النبي - ﷺ - من كل فضل!.
وهم في الأمرين خارجون عن الطاعة متمردون، وقد رد الله تعالى كلامهم بقوله سبحانه:
(وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) وإنا أيها النبي قد شرفناك برسالتنا، فأرسلناك رسولا فقط، لَا تتكفل بالأرزاق، ولا تهب النصر، ولا تمسك مقاليد الكون، ولست تملك من أمر نفسك شيئا، إنما أنت مكلف بالتبليغ فقط، فإن بلغت فما عليك شيء، وإن اتخذت الأسباب في الحروب للظفر، وتوكلت على الله، فإن الله مانحك النصر، ومعطيك الغلب، وإن خالف من معك ما سننت لهم من منهاج للظفر، فإن الهزيمة واقعة بهم، ولست مسئولا عما يصيبهم
وإذا كانوا قد اتهموك وقالوا ما قالوا، فكفاك شهادة الله لك بأنك بلغت وجاهدت، وأن ما يرمونك به باطل، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
وإن تصرف أولئك المنافقين ولضعفاء فيه إخلال بواجب الطاعة، وإن الرسالة التي حمل عبئها محمد - ﷺ - توجب عليهم طاعته من غير تمرد، بل مع الإذعان والخضوع لما يطلبه باسم الله، وأن يعلموا أن طاعته فيها طاعة الله، فإن تمردوا عليه أو تشاءموا به، فليعلموا أن ذلك تمرد على الله، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
إن هؤلاء كانوا ينتقصون فضل النبي بنسبة الظفر إلى الله والهزيمة إلى النبي، وقد بين الله تعالى أنه رسوله، فإن تنقصتموه فإنما تتنقصون من أرسله، وإن تمردتم عليه فإنما تتمردون على من أرسله: (مَن يطِعِ الرَّسُولَ). فيما يأمر به، وينهى عنه، وفي دعوته إلى الجهاد، فإنما يطيع الله تعالى، لأنه إنما يتكلم عن الله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥)، ولقد روى أن رسول الله - ﷺ - قال: " من أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله "، فقال الذين يشككون في الإسلام من المنافقين: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل. لقد قارف الشرك، وهو ينهى أن يعبد غير الله! ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه رتا كما اتخذت النصارى، فنزلت هذه الآية: (مَن يطِع الرَّسُولَ) (١) وعندي أن الآية لَا تحتاج إلى سبب نزول في بيانها لأنها واضحة بينة، يشهد لمعناها سابقها ولاحقها، وإن الحديث في ذاته صحيح المعنى، وروى مسلم مثله عن أبي هريرة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " من
________
(١) ذكره جماعة من مفسري السلف منهم القرطبي والرازي وأبو السعود والألوسي والبيضاوي والسمرقندي عن قتادة (من التابعين).
والرسول - ﷺ - قد أدى واجبه في التبليغ، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) ومن عصى أمرك ولم يطعك، وأعرض عن الحق الذي أمرك الله تعالى بتبليغه، فإنه وحده الذي يتحمل تبعة إعراضه عن دين الله، ولا تبعة عليك، إنما عليك التبليغ فقط، وعلى الله تعالى حسابهم يوم الحساب، فلا تكلف نفسك ما لست مكلفه، فما أرسلك الله تعالى إلا مبشرا ونذيرا، وليس عليك أن تحمل الناس على الإيمان، ثم ما أنت مكلف بالمحافظة عليهم ومراقبتهم وتتبعهم حتى يكونوا مهتدين: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ...)، وما أنت بمهيمن عليهم حتى تحاسبهم على الإيمان، إنما الحساب عند الله...
وإن هؤلاء المنافقين يظهرون الطاعة، ويبطنون المخالفة، ولذا قال سبحانه:
* * *
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
* * *
إنما يقول المسلمون جميعا: أمرُنا معك طاعة وخضوع لما تطلب، فليس لنا إلا أن نطيعك، ولا يجوز أن نخالفك؛ لأن طاعتك هي طاعة الله، فانت فينا المطاع دائما، وقد قصرنا أحوالنا على طاعتك.
هذا قول المسلمين عامة، ولكن المؤمنين يقولون ويذعنون ظاهرا وباطنا، وسرا وإعلانا، والمنافقون يقولون ذلك بظاهر من القول، وهم ينوون المخالفة ويصرون عليها ولا يتركونها، وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: (فَإذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ منْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)، أي فإذا خرجوا من عندك بارزين ظاهرين غير مستخفيت، أخذوا يتدبرون فيما بينهم الأمر الذي يكون مخالفا للطاعة!
(وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) والله سبحانه وتعالى يعلم ما يبيتون، فلم يكن خافيا قبل أن يقع، ولم يزدد به علما بعد الوقوع، فهو يعلم ما كان وما يكون إلى يوم الدين. وفي هذه الجملة تهديد لهم وتطمين للنبي - ﷺ -، فإن الله تعالى يبين أن تبييتهم وإخفاء نياتهم لَا يخفى على الله، بل إن علمه به علم ما يكتب وما يسجل عليهم، ليكون مرئيا لهم في صحائف أعمالهم يوم القيامة، وليعلم نبيه بتدبيرهم السيئ ونيتهم، ليتقى شرهم، ويحفظه من أذاهم، فإنه هو ناصره وكافله. وإذا كان الله تعالى يكتب عليهم ما يخفونه، فليس للنبي أن يأبه لهم والله حافظه وكالئه، ولذلك أمره بألا يلتفت إليهم، ولا يأخذه هئم في شأنهم، وليعتمد على الله، وليكل إليه أموره، ولا يكل أموره إلى غيره، وإنه إن توكل على الله حق التوكل، حفظه، وكفاه شرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا).
والمعنى: يكفيك أن الله تعالى هو الموكل بأمرك، وهو حافظك وكالئك وحاميك، ومن كان الله تعالى وكيله والموكل بأموره، فلن يضيع أبدا.
اللهم هيئ للمسلمين أسباب العزّة، ووفقهم للعمل الصالح، واجعلهم يكلون مآل أمورهم إليك، إنك نعم المولى ونعم النصير.
* * *
* * *
في الآيات السابقة بيَّن الله تعالى لنبيه - ﷺ - أحوال المنافقين، وما هم عليه من لؤم الطبع والمكر والخداع، ثم أمره - ﷺ - بالإعراض عنهم، فهم لن يضروه شيئا مهما كان لؤمهم وخداعهم، وما عليه إلا أن يتوكل على الله، فهو حسبه، وسيكفيه شرهم، ولن يبلغوا منه شيئا.
وهم لو تدبروا القرآن لرأوا فيه العجب العجاب، ولتبين لهم أن هذا الكتاب منزل من الله رب العالمين، وأن محمدا عبد الله ورسوله.
ولكن القرآن الكريم بين أيديهم، فليتدبروه حق التدبر، فلن يجدوا فيه اختلافا في وصف، ولا ردا في معنى، ولا تناقضا في قضاياه، ولا كذبا فيما يخبر به من أمور الغيب، ولكنهم بإعراضهم عن التدبر، يظلون كالأنعام بل هم أضل، قد أغلقوا قلوبهم عن الهدى، وأصموا آذانهم عن صوت البشير النذير، فما لهم لَا يعقلون، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا)، فهم لَا يفقهون.
* * *
* * *
عجبا لأمر هؤلاء المنافقين، إنهم يسارعون في الفتنة، ويتحينون الفرص ليزرعوا الشكوك والظنون في صدور المؤمنين، ويشيعون الأخبار على غير حقيقتها، فإذا سمعوا خبرا عن أمن المسلمين أو انتصارهم، أو عن الخوف عليهم
وقال بعض المفسرين إن ضعاف المسلمين كانوا يفعلون ذلك أيضا، فقد كان بعضهم يفشي أمر النبي - ﷺ -، دون إذن في ذلك، ويحسبون أنهم لَا يخطئون فيما يفعلون، ويسيئون ويحسبون أنهم يحسنون.
وسواء أكان ذلك من المنافقين أم من ضعاف المسلمين فهو خطأ لَا يجوز أن يحدث، لذلك يجيء الأمر من الله تعالى بألا يسرع المسلم في الحديث بأخبار لم يتحقق منها، ولم يتبين له صدقها من كذبها، ولم يميز من أمرها بين النفع والضرر، بل يجب على هؤلاء وأولئك أن يردوا الأمر إلى النبي - ﷺ -، وينتظروا حتى يكون عليه الصلاة والسلام، هو الذي يتحدث به ويكشف عن صدقه، ويبين نفعه للمسلمين أو ضرره، وهذا الحكم ماضٍ في كل زمان ومكان، فإذا كان النبي - ﷺ - قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، فإنه قد ورَّث العلم لطائفة من أمته هم أولو العلم وأولو الأمر، وأهل الفقه في الدين، فيجب على المسلمين أن يردوا مثل هذه الأمور إليهم، لأنهم إذا ردوا الأمر إليهم (لَعَلِمَة الَّذِينَ يَسْتَنيِطُونَهُ مِنْهُم) أي يستخرجون معثاه، ويبينون فحواه، فإذا الأمر معلوم، والحق واضح لَا شبهة فيه، ولا غموض.
والاستنباط هو استخراج الماء من البئر، فشبهت الأفكار التي تدور في خَلَد الإنسان بالماء الذي في البئر، والعلماء يستخرجون هذه الأفكار ويكشفون عن معناها، فيعلمون ما ينبغي أن يقال وما يجب أن يستر ويكتم فلا يشيع بين الناس.
وفى تلك الجملة دليل على جواز اجتهاد العلماء في الأمور الفقهية عن طريق القياس، والحكم بما يبينه ذلك القياس، ما لم يكن هناك نص من القرآن أو السنة، وما لم يكن هناك إجماع.
* * *
* * *
حتى ولو تركوك وحدك منفردا لَا أحد معك، فإن معية الله خير وأبقى، فهو الذي أمرك بالقتال، وهو الذي تكفل بنصرك (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١). في الآية أمر من الله تعالى لرسوله محمد - ﷺ -، بألا يترك جهاد العدو، حتى ولو كان وحده، لأن الله ضمن له النصر، وهناك من يقولون أن الخطاب للأمة كلها، إذ قال ابن عطية في تفسيره: " هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال قد فرض عليه وحده دون الأمة مدة ما، فالمعنى، والله أعلم، أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد، وكل واحد من أمتك، هذا الخطاب موجه إليه، وكل إنسان ليس مكلفا إلا عن نفسه، فإن تقدم نفسك للجهاد فإن الله هو ناصرك، وليس الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف من الجند، فالنصر أولا وأخيرا من عند الله.
وقيل إن النبي - ﷺ - دعا الناس إلى الخروج للقاء المشركين في معركة بدر الصغرى، وكان أبو سفيان قد واعد الرسول على أن يتلاقوا فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا، فنزلت الآية، وخرج النبي - ﷺ - وليس معه إلا سبعون، ولو لم يخرج معه أحد لخرج وحده، فكان الله سبحانه وتعالى يقول له: يا محمد، إنك لا تكلف إلا نفسك وحدها، فاخرج (وَحَرِّضِ الْمُؤْمنينَ) إذ ليس عليك بالنسبة لهم إلا التحريض، وأمرهم دون تعنيف (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
* * *
* * *
أصل الشفاعة والشفعة ونحوها، من الشفع، وهو الزوج في العدد، ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا، فالشفاعة إذن هي ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، للوصول إلى مصلحة ترغبانها، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع، وإيصال المنفعة إلى المشفوع له، والشفاعة الحسنة هي ما تكون في البر والطاعة، والشفاعة السيئة هي ما تكون في المعاصي، فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى في غير طاعة، فقد أثم واستوجب العقاب.
يقول الزمخشري في " حقائق التنزيل ": الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم، ودُفع بها عنه شر، وابتُغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، وليست في حد من حدود الله ولا في حق من الحقوق، ولكل منها نصيب من الأجر، بقدر ما فيه من طاعة أو معصية.
وقد حث النبي - ﷺ - على الشفاعة لقضاء الحوائج، والتعاون على البر والتقوى، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: " اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما أحب " (١).
________
(١) متفق عليه؛ رواه مسلم: البر والصلة والآداب - استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام (٢٦٢٧)، والبخاري بلفظ مقارب: الزكاة - التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (١٤٣٢) عن أبي موسى الأشعري عن أبيه، وأبوه هو عبد الله بن قيس بن سلا بن حضار. رضي الله عنهما.
* * *
* * *
التحية هي السلام، وأصل التحية الدعاء بالحياة، والتحيات لله هي السلام من الآفات، وإنما يقال " التحيات لله " بصيغة الجمع، ولم يقُل " التحية " بصيغة الإفراد، لأنه كان في الأرض ملوك تؤدي لهم تحيات مختلفات، فيقال لبعضهم: " أبيت اللعن "، ويقال لبعضهم: " اسلم وانعم " فقيل لنا نحن المسلمين، قولوا: " التحيات لله " أي كل الألفاظ التي تدل على تحيات الملوك وتؤدي معانيها، هي الله.
والعلاقة بين هذه الآية وما قبلها أن الله تعالى يقول، إذا خرجتم للجهاد، كما سبق الأمر، فحياكم إنسان بتحية الإسلام، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام، فإن الأحكام تجري عليهم، وقد أجمع الفقهاء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغَّب فيها، ورده فريضة، لقوله تعالى (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) أو قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)، فقد قال المفسرون عن ذلك، إن هذه الصفة " الحسيب " حسنت هنا، لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص، أو يوفَّى قدر ما يجيء به، والله سبحانه وتعالى يجازي الإنسان بقدر ما فعله، حتى في لفظ التحية والسلام.
روى النسائي عن عمران بن حصين قال: كنا عند النبي - ﷺ -، فجاء رجل فسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه رسول الله - ﷺ -، وقال: " عشر " ثم جلس، ثم جاء آخر فسلم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فرد عليه رسول الله - ﷺ -،
وهذا الخبر يعطي تفسيرا بأن من قال لأخيه المسلم " السلام عليكم " كتب له عشر حسنات، فإن قال: " السلام عليكم ورحمة الله " كتبت له عشرون حسنة، فإن قال: " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " كتبت له ثلاثون حسنة، وكذلك من رد التحية له مثل ذلك الأجر.
وللتحية وردها آداب يجب أن يتعلمها المسلم، ويتخذها منهجا وسلوكا، فمنها أن يسلم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، وفي المسألة مسائل فقهية متشعبة، على المسلم أن يتعرف عليها من مظانها، ولا يغفل عنها؛ لأن التحية وإفشاء السلام من الأسباب التي تصل القلوب بعضها ببعض، فتأتلف الأرواح، وتتحاب النفوس، تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم " (٢).
ثم عليكم أن تتذكروا في كل شئونكم أنه جل ذكره:
* * *
________
(١) رواه الترمذي: الاسنئذان والآداب - ما ذكر في فضل السلام (٢٦٨٩)، وأبو داود: الأدب - كيف رد السلام (٥١٩٥)، وأحمد: أول مسند البصريين (١٩٤٤٦)، والدارمي: السلام - فضل التسليم ورده (٢٦٤٠). عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(٢) رواه مسلم: الإيمان - بيان أنه لَا يدخل الجنة إلا المؤمنون (٥٤)، والترمذي: الاستئذان والآداب - ما جاء في إفشاء السلام (٢٦٨٨)، وأبو داود: الأدب - في إفشاء السلام (٥١٩٣)، وابن ماجه: المقدمة - في الإيمان (٦٨). عن أبي هريرة رضي الله عنه.
* * *
وقد نزلت هذه الآية في شأن هؤلاء المكذبين الذين يشكون في البعث والحساب، فأقسم الله تعالى لهم بنفسه، والدليل على ذلك القسم هو وجود اللام المتصلة بكلمة ليجمعنكم، ثم نون التوكيد المشددة بعدها، يقول النحاة أن اللام
وفى رأي آخر أن حرف الجر " إلى " صلة في الكلام، معناه: ليجمعنكم يوم القيامة، وسميت القيامة قيامة؛ لأن الناس يقومون في هذا اليوم لله رب العالمين. قال جل شأنه: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦).
(وَمَنْ أَصْدَق مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، استفهام تقريري، هل هناك من هو أصدق من الله؟ فيكون الجواب تقريرا للحقيقة التي لَا يشك فيها مؤمن: لَا، لَا أحد أصدق من الله، فهو سبحانه، يخاطبنا بما كان، وما سيكون، وكل ما جاء من عنده صدق لَا ريب فيه، فهو جل شأنه لَا يجوز عليه الكذب، لأن الكذب إخبار عن الشيء بغير ما هو عليه، والكاذب لَا يكذب إلا أنه في حاجة للكذب، لكي يستفيد منفعة، أو يدفع مضرة، والله سبحانه وتعالى حكيم غني لَا يجوز عليه الاحتياج، فهو عالم بكل معلوم، منزه عن الكذب، كما هو منزه عن سائر النقائص والقبائح. سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
* * *
* * *
كان المنافقون في الحروب عنصر فتنة مستمرة، وكانوا في السلم مثيري النزاع والخصام، فهم في الحرب إن رأوا ضعفا استغلوه، وإن لم يجدوا ضعفا ظاهرا أثاروه، ولم يكن النفاق في داخل المدينة فقط، بل كان يمتد كلما قوى المؤمنون في البلاد. ففي أول إقامة الدولة الإسلامية بالمدينة، وانتصار المؤمنين في بدر،
والإركاس معناه قلب الشيء على رأسه، ورد مقدمه إلى مؤخره. جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: " الركس قلب الشيء على رأسه، ورد أوله إلى آخره، يقال أركسته فركس وارتكس في أمره ".
والمعنى على هذا أن الله سبحانه وتعالى أوقعهم في الضلال فقلب مداركهم، ورد الأول على الآخر في تفكيرهم، بحيث صاروا لَا يستطيعون ترتيب المقدمات الفكرية ونتائجها، وذلك بما كسبوا من الإيغال في الشر بعد ابتغائه وطلبه، فلما ساروا فيه خطوة امتد بهم السير خطوات حتى أوغلوا فيه، وأصبحوا لا يستطيعون الحكم في قول.
(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) أيها المؤمنون المختلفون أتريدون أن تحملوا على الإيمان من أضله الله، أي من كتب عليه الضلالة، بسبب أنه سار في طريقها، وانحرف عن جادة الحق وسبيل المؤمنين، فإن من يسير في طريق لَا بد أن ينتهي إلى نهايته، ما دام لم يرجع ولم يعد. ومن يضلل الله، أي من يكتب عليه في لوحه المحفوظ، وقدره المحتوم، أن يكون ضالا، فلن يجد أحد سبيلا إلى هدايته؛ لأن قَدَر الله تعالى لَا يتغير، وقضاءه لَا يتبدل، وحكمه لَا يتخلف، فمن حاول هداية المنافقين الذين حكم عليهم بالضلال، فكانما يحارب قدر الله سبحانه وتعالى.
وإن المؤمنين يحاولون هداية المنافقين، أو الحكم لهم بالإيمان، بينما المنافقون يودون للمؤمنين عكس ذلك.
* * *
* * *
وإن هؤلاء الذين تتمنون هدايتهم أو تحكمون بها عليهم، أو ترجونها لهم، يتمنون أن تكفروا كما كفروا، بحيث تكونون أنتم وهم على سواء؛ ومن تكون هذه حاله لَا يعد مسلما،
وإنه لَا يصح أن يربط بعض المؤمنين معهم مودة؛ لأنهم ببقائهم في ظل الكفر، وقوتهم له، يكونون في ضمن من يحادون الله ورسوله، والله تعالى يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ). وإن أمر القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، فلا يصح أن تحكموا عليهم بالإيمان حتى تظهر أماراته، وتبدو معالمه. وإن مظهره الحقيقي في هذا النوع من الناس هو أن ينضموا إلى جماعة المؤمنين بالهجرة إليهم، لتكون قوتهم للمؤمنين لا عليهم، ولذا قيد سبحانه وتعالى ترك ولايتهم بغاية، وهي الهجرة، فقال: (حَتَى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) بأن يخرجوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مع المؤمنين ومناصرين ومؤيدين لهم.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) أي فإن أعرضوا عن الهجرة، وهي واجبة، فلا تعتبروا إسلامهم؛ لأنهم
لايزالون قوة عليكم، وخذوهم من نواصيهم بالأسر، والترصد لمتاجرهم
وإن السياق يدل على أن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآية - وإن كان اللفظ عاما - هم من الذين يظهرون الإسلام في قبائلهم، ولا يخرجون إلى المسلمين ليكونوا معهم، فإن زمان إنشاء الدولة الإسلامية يحتاج إلى التجمع، ليكون المؤمنون قوةً واحدة، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (٤).
والخلاصة أن أولئك المنافقين يعاملون معاملة الذين ينتمون إلى دولة أخرى، فإذا كانت دولتهم تقاتل المؤمنين قوتلوا وقتلوا، وإن كانت دولتهم تسالم المؤمنين بميثاق، فلا يقاتلون احتراما للعهد والميثاق، ولذا قال تعالى:
* * *
* * *
الاستثناء هنا منفصل بمعنى " لكن "، وهو من الأمر بالأخذ بالنواصي، والقتل حيثما وجدوا. والمعنى: لكن لا تأخذوا ولا تقتلوا أحدا من هؤلاء الذين يصلون بالانتماء أو الرعوية إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد موثق، لَا يصح النكث فيه، ولا الخروج على أحكامه، أو
وإن قوله تعالى: (يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ)، يدخل في مضمونه طائفتان:
أولاهما - طائفة تكون رعية لدولة بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإنه لا يشترط لنجاتهم أن يخرجوا إليكم مهاجرين، فإنهم آمنون بمقتضى العهد والميثاق، فإن أعلنوا الإسلام، لَا يستراب في أمرهم.
والثانية - من يتصلون بعهد أو ميثاق أو ولاء ممن كان بينكم وبينهم عهد، فإن لهم حكم من يكونون رعية لمعاهديكم. وإن هذا الصنف يصح أن ينطبق على من لَا يظهرون الإسلام ولكن يعلنون السلام.
وهناك صنف لَا ينتمي لقوم ذوي عهد، ولكنه لَا يقاتل قومه لعذر عنده، ويخرج إلى المؤمنين مخلصا لله الدين أو ملقيا بالسلام، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم:
(أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُذورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكئم أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ) هذا فريق آخر ممن يعلنون الإسلام في وسط أقوامهم أو لايعلنونه ولا يقاتلون مع المؤمنين، وهؤلاء ينتمون إلى قوم يقاتلون المؤمنين، وهم في حال حرب، فهؤلاء يعلنون إسلامهم ويجيئون إلى المسلمين معلنين الإسلام، ولكنهم يكونون في ضيق وحرج، فلا يستطيعون قتال أقوامهم، خشية على ذرياتهم أو ذوي أرحامهم أو أموالهم، ويريدون أن يتذرّعوا بالامتناع عن قتال قومهم، فإنه يقبل منهم الاعتزال. ومعنى (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) ضاقت. وقد قال الراغب: (الحصر التضييق. قال الله عز وجل: (فخذوهُم واحصروهُم) أي ضيقوا عليهم، وقال
ويظهر أن مادة (حصر) تكون من باب نصر ومن باب فرح، وإذا كانت من باب نصر تكون دالة على التضييق على الغير تضييقا حسيا، وإن كانت من باب فرح تكون لازمة ودالة على ضيق النفس. والمعنى على هذا أن هؤلاء ضاقت نفوسهم، وصاروا في حرج لَا يستطيعون قتال المسلمين، ولا يستطيعون قتال أقوامهم، فهؤلاء مسالمون، لأن الله كفى المؤمنين أمرهم، ولأنهم لَا يعدون منافقين، ولقد حرض الله سبحانه المؤمنين على مسالمتهم رغبة في السلام، فقال سبحانه:
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) أي أنه من رحمة الله بكم أن قلل أعداءكم، وأضعف شأن الذين يقاتلونكم، بأن يخرج من بين صفوفهم من يسالمونكم، وإن الله ناصركم في هذا بأمرين: بتقوية جمعكم، وإضعاف شأن عدوكم، ولو شاء سبحانه أن يكونوا جميعا عليكم ولا يخرج منهم من يسالمكم، وجعل أولئك الذين يمدون يد السلام مسلطين عليكم بالقتل والقتال، لكان ذلك، وليس في مصلحتكم، فاختاروا ما أمركم الله به، وهو مسالمة أولئك الذين يسالمونكم، وقد خرجوا من بين أقوامهم.
ولقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله تعالى:
(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) أي فاقبلوا من هؤلاء المسالمة، إن اعتزلوا قتالكم، ولم يكونوا مع أعداثكم عليكم، ولم يريدوا أيضا أن يكونوا معكم على أقوامهم، وألقوا إليكم السلام غير معاندين، ولا مخالفين، فاقبلوا ذلك منهم، ولا تحاربوهم، لأنهم لا يقاتلونكم ولا يؤلبون عليكم، ولا يعتدون، والله تعالى يقول: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ الْمُعْتَدِينَ)، ، وما داموا لا يقاتلون لَا يحل قتالهم، وإلا كنا معتدين. والقتال في الإسلام شرع
وفى النص الكريم إشارتان لفظيتان: أولاهما - قوله سبحانه: (فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا)، إذ التعبير بـ " عليهم " يومئ إلى أن قتالهم اعتداء عليهم، وما جعل الله لكم حق الاعتداء، فالمعنى: ما جعل الله سبحانه لكم سبيلا للاعتداء بـ " عليهم ". الثانية - التعبير بلفظ السلم بدل السلام للإشارة إلى معنى التسليم، لَا مجرد الأمن والسلام؛ لأن السلم يفيد معنى التسليم، فهم ألقوا إليكم الأمن وتسليم القيادة لكم.
وهناك صنف آخر غير هؤلاء المسالمين، وهم قوم يخادعون، لَا يكفون عن القتال، وقد قال سبحانه فيهم:
* * *
* * *
هذا صنف أخير يتجه إلى أن يأمن قومه، فلا يقاتلهم، ويأمن المؤمنين حتى لَا يقتلوه، ولكنه لَا يمدّ يد الأمان، ولا يسلم القياد، وهؤلاء إذا دعوا إلى القتال، ولم يعترضوا منفردين لأذى المؤمنين، استجابوا للقتال في صفوف المشركين، فهم يظهرون الأمان، أو يظهرون الإسلام، ليأمنوا جانب المؤمنين، فإن لاحت لهم فرصة الانضمام لأعداء الله قاتلوا معهم، وهذا مرمى قوله تعالى: (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا)، أي كلما ردوا إلى قومهم مفتونين بعصبيتهم وكفرهم، قلبت نفواسهم أقبح قلب، فأركسوا في فتنة الكفر والحصبية، وهؤلاء أوجب الإسلام قتالهم إذا لم يعتزلوا أقوامهم ويكفوا أيديهم عن قتال المسلمين، ولذا قال سبحانه:
(فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) أي إن لم يعتزلوا قتالكم،
ويمتنعوا عن حربكم، ويلقوا إليكم بالأمان مع تسليم أنفسهم منقادين، ويكفوا أيديهم عن القتال، فقد حل دمهم، وزالت عصمتهم، فخذوهم بالنواصي أسرى،
* * *
* * *
كان الكلام في الآيات السابقة في المنافقين الذين يعملون على نقض بناء الدولة الإسلامية، ويعملون على إلقاء الريب في قلوب أهل الايمان، وفي وجوب قتل الكافرين الذين ينقضون العهد والميثاق، والذين يظهرون الإيمان بين قبائلهم، ولا يعملون عملا للإسلام، فإنهم منافقون يريدون أن يتخذوا من مظهر الإيمان
والمعنى على ذلك ما ساغ ولا جاز ولا أبيح أن يقتل مؤمن مؤمنا قط، فإن ذلك أمر محرم تحريما قاطعا، لكن إن كان خطأ، فإن ذلك قد يكون معذرة يعتذر بها؛ لأن الله تعالى رمع عن أمة محمد إثم الخطأ، إذ قال عليه الصلاة والسلام: " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (١)، وليس على المؤمن إثم القتل إن قتل خطأ، وإن كان يجب الاحتراز من الخطأ. وإن التقصير لَا يخلو من مؤاخذة، ولذلك قال الزيلعي من فقهاء الحنفية: " وبهذا النوع من القتل (أي الخطأ) لَا يأثم إثم القتل، وإنما يأثم إثم ترك التحرز، والمبالغة في التثبت؛ لأن الأفعال المباحة لَا تجوز مباشرتها إلا بشرط ألا تؤذي أحدا، فإذا آذى أحدا فقد تحقق ترك التحرز ".
والقتل الخطأ يتصور في ثلاث صور: أولاها - أن يرمي هدفا، فيصيب إنسانا معصوم الدم، بأن تنحرف الرمية.
________
(١) رواه بهذا اللفظ الطبراني عن ثوبان رضي الله عنه، كما في الفتح الكبيرج ٢، ص ١٢١، برقم (٦٦١٩)، والجامع للسيوطي جـ ٤، ص ٤٠١ برقم (١٢٥٦).
وقد ذكر الزمخشري في سبب نزول هذه الآية أنه " روى أن عياش بن أبي ربيعة، وكان أخا أبي جهل لأمه، أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة الرسول - ﷺ -، فأقسمت أمه ألا تأكل ولا تشرب، ولا يؤويها سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد، فقال أبو جهل: أليس محمد يحثك على صلة الرحم؛ انصرف وبرّ أمّك وأنت على دينك! حتى نزل وذهب معهما، وقدما به على أمه، فلما أبعدا عن المدينة كتفاه، وجلده كل واحد مائة جلدة، فقال عياش للحارث: هذا أخي، فمن أنت يا حارث، لله عليَّ إن وجدتك خاليا أن أقتلك، وقدما به على أمه، فحلفت لَا يحل كتافه أو يرتد، ففعل، ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحارث، وهاجر، فلقيه عياش بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه، وأنحى عليه وقتله، ثم أخبر بإِسلامه فأتى رسول الله - ﷺ -، فقال: قتلته، ولم أشعر بإسلامه، فنزلت الآية ".
وسواء أصح هذا سببا للنزول أم لم يصح، فإن الآية عامة تعم كل قتل خطأ. والقتل الخطأ يوجب كفارة، ويوجب دية تسلم إلى أهله، أي أنه يجب تعويض أهل الإيمان، إن أمكن، ويجب تعويض أسرة القتيل. وتعويض أهل الإيمان يكون بإعتاق رقبة مؤمنة، وتعويض أسرة القتيل. إن كانت غير منتمية لقوم عدو للمؤمنين يكون بالدية. وقد ذكرت أحوال ثلاثة للدية، تجب في حالين، ولا تجب في حال أخرى: أما الحالان اللتان تجب فيهما، فهما إذا كان القتل حدث على رجل مؤمن يعيش بين المؤمنين، والثانية إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق عدم اعتداء، وقد ذكر سبحانه الحال الأولى في قوله تعالت كلماته:
وعبر عن نفس الحر بكلمة الرقبة، للإشارة إلى أن الرق غل معنوي في الرقاب، وأن المؤمن الصادق لَا يجوز له أن يَغُلَّ رقاب العباد، إلا لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ولذلك عبر سبحانه وتعالى عن العتق بفك الرقبة في آية أخرى، فقال سبحانه وجلت كلماته: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣).
والدية التي قدرها النبي - ﷺ - هي مائة من الإبل لمن يملك إبلا، وألف دينار من الذهب لمن لَا يملك إبلا، وعشرة ألاف درهم لمن يملك فضة، وقيل اثنا عشر ألف درهم: وقال الشافعي: إن الدية في الأصل مائة من الإبل، ومن لَا يجد مائة من الإبل تكون عليه قيمتها من الذهب أو الفضة، بالغة ما بلغت، قليلة كانت أو كبيرة.
وإن الدية تسلم إلى ورثة المقتول، وقد كان رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لَا تسلم الدية إلا إلى عصبته، فلا يسلم جزء منها لزوجته مع أنها وارثة، فيروى أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها، فقال: لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة، فقام الضحاك بن سفيان الكلابي وقال: " كتب
والدية عند الأكثرين تجب على عصبة القاتل، ليكون ذلك دليلا على تضافر الأسرة كلها، وإذا كان فقيرا وأسرته فقيرة، فإن دية المقتول تكون على بيت مال المسلمين؛ لأنه وارث من لَا وارث له، فيجب عليه ما كان يجب على الوارث؛ ولأنه لَا يطل دم في الإسلام، ولأنه إذا كانت الأسرة الصغرى قد عجزت عن دفع الدية، فإنها تجب على أسرته الكبرى، وهي الأمة. وهنا بحثان لفظيان: أولهما: التعبير عن أداء الدية بقوله: (مُسَلَّمَة إِلَى أَهْلِهِ). فإن هذا التعبير يومئ إلى وجوب حسن الأداء، بألا يكلفوا أسرة المقتول شطط التقاضي والمطالبة، فيجمعوا عليها ألم الفقد، ومضاضة الشكوى والتظلم، وهذا مثل قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ).
والبحث الثاني: قوله تعالى (إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا)، أي إلا أن يتبرع أهل القتيل، وفي التعبير بكلمة " يصدقُوا " إشارة إلى أن ذلك أمر مرغوب فيه محبب، وأنه صدقة لها ثوابها، إذا كان أولياء القاتل وعصبته يرهقون بأدائها، أو كان العطاء من بيت المال فيتركونها صدقة لجماعة المسلمين، وإن ذلك يكون إذا كانوا هم في ثروة لَا يحتاجون معها إلى هذه الدية، وفي الجملة يكون لها كل أحكام الصدقة، ولا صدقة إلا عن ظهر غنى.
بقي أن نبين الحكمة في هذه العقوبة: لماذا كانت العقوبة أولاً؟ ولماذا كانت بهذا الشكل؟! أما عن شرعية العقوبة، فحكمتها واضحة وهي تربية الناس على
________
(١) رواه الترمذي وصححه: الديات - في المرأة هل ترث من دية زوجها (١٤١٥)، وأبو داود: الفرائض (٢٩٢٧)، وابن ماجه: الديات (٢٦٤٢)، وأحمد: مسند المكيين - مسند الضحاك بن سفيان رضي الله عنه (١٥٣١٨) عن سعيد بن المسيب والضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنهما.
وأما السبب في كون العقوبة على هذا النحو، فقد أشرنا من قبل إلى أنه قد اعتدى على الجماعة بتقصيره في التحرز، فوجب عليه أن يعوض الجماعة الإسلامية عما فقدت، واعتدى على الأسرة فثكلت عائلها أو وليها، فكان لَا بد من تعويضهما، فأما تعويض أماعة فبإعتاق رقبة مؤمنة، لأن تحرير العبد كأنه إحياء له، إذ الحرية هي الحياة، ولأنه أفقد الجماعة عنصرا عاملا فيها، فكان لابد من تعويضها بعنصر عامل لها، والعبد عمله لسيده، أما الحر فعمله لجماعته، واعتداؤه على الأسرة كان تعويضها عنه ذلك المال المدفوع.
هذه حال الاعتداء بالخطأ على المؤمن في دولة الإيمان. أما إذا كان المؤمن ينتمي إلى الأعداء فإن الدية لَا تدفع. قال تعالى:
(وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤْمِنَةٍ)
أي أنه إذا كان ينتمي إلى الأعداء، فإن الدية لَا تدفع. لأن أموال الأعداء وأرواحهم غير مصونة، ولأن إرسال الدية إلى قومه تقوية لهم على المؤمنين، فلا تعوض أسرة القتيل، ولكن تعوض الجماعة الإسلامية بالحرية التي تمنح لواحد منها تعويضا عما فقدت.
والحال الثالثة: إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق، وفى هذا تدفع الدية إلى أهله، ولذا قال سبحانه: (وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهم مِّيثَاقٌ فَدِيَة مّسَلَّمَة إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، والذين لهم ميثاق فريقان: فريق
وهنا إشارة بيانية تؤكد حرص الشرع على دفع الدية لأهل المقتول ولو كانوا غير مسلمين، وهي تقديم الدية على الكفارة؛ لأنها نفيت في حال القاتل الذي ينتمي إلى الأعداء، فكان لابد من توكيدها حتى لَا يتردد القاتل في دفعها إلى غير المسلمين، إن كان بينهم وبين المسلمين ميثاق بمنع الاعتداء.
وقد قال بعض العلماء. إن الدية ذُكرت منكّرة ولم تذكر معرّفة، فلم يقل تعالت كلماته: الدية تسلم لأهله؛ وهي قد ذكرت منكرة في الحالين اللتين وجبت فيهما، واستنبط من هذا أنها لو ذكرت معرفة لكان تقدير النبي - ﷺ - بيانا لمعناها في القرآن، وما جاز تقديرها بغير تقديره، ولا الاتفاق على غيرها.
ونحن نؤيد هذا الاستنباط بشرط ألا يكون تفاوت في تقدير الدية من حيث الجنس أو اللون، أو القوة والضعف، أو العلم والجهل، أو التحضر والتَّبَدِي، فإن هذا شأن الجاهلية، ولا يقره الإسلام، ولا يصح أن يترك الأمر ليستغل القوي ضعف الضعيف.
وهنا يجب أن نذكر فرعين: أحدهما - إذا قتل المؤمن ذميا أو معاهدا غير مسلم، فهل تجب الدية والكفارة؟ والجواب عن ذلك أن الدية واجبة الأداء باتفاق
________
(١) رواه الخطيب عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا كما في الفتح الكبير: ج ٦، ص ٤٨١ برقم (٢٠٠٣٨).
الفرع الثاني: إذا قتل الذمي ذميا، فإن الدية بلا ريب واجبة؛ لأنها تعويض لأسرة القتيل، ولأنها في معنى القصاص من القاتل قتلا خطأ، وأما الكفارة فإنها عبادة، فلا تجب على غير المسلم، وخصوصا أن فيها صوم شهرين متتابعين، والصوم عبادة إسلامية، والأمر فيه بين العبد وربه، والصوم يكون حيث لَا توجد الرقبة.
(فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي فمن لم يجد رقبة مؤمنة يعتقها، فالواجب في الكفارة، حيث تجب، صيام شهرين متصلين في أيامهما، لَا يفرق بينها فطر، بحيث لو أفطر يوما فيها استأنف من جديد ابتداء الشهرين، إلا أن يكون إفطار اليوم لعذر كمرض أو سفر مضطر إليه، وخالف في ذلك أبو حنيفة والشافعي، وقررا وجوب الاستئناف من جديد، ولو كان الإفطار لعذر قاهر. والآية تصرح بأن سبب الكفارة هو التوبة والرجوع إلى الله تعالى من تقصير في التقدير. وقد يقال: إذا لم يكن إثم فمن أي شيء تكون التوبة، مع أنه باتفاق العلماء لَا إثم في الخطأ؛ ونقول: إن إثم القتل لَا يتحقق عند الخطأ كما نقلنا من قبل، ولكن التقصير قد يكون ثابتا، والتوبة إنما هي من هذا التقصير، والحمل على الاحتياط والتحرز في المستقبل، والكفارة مذكر مستمر بالتقصير حتى لَا يتكرر من بعد.
وقد ذيل الله تعالى النص الكريم بذكر اتصافه بأنه عليم بكل شيء، عليم بالنفوس وحركاتها ومداها، وعليم بما يقع من الأعمال، ويجول في النفوس والخواطر، وهو المدبر لكل شيء بحكمته، والذي يشرع الأحكام على مقتضى المصلحة الإنسانية العالية.
* * *
* * *
في الآية السابقة بيَّن - سبحانه وتعالى - حكم القتل الخطأ، وفصل القول فيه تفصيلا؛ فذكر الحكم إذا كان المقتول من قوم أعداء للمؤمنين، والحكم إذا كان من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق، والحكم إذا كان المقتول من المؤمنين الذين ينتمون إلى الدولة الإسلامية. وفي هاتين الايتيق يبين سبحانه أمريق: أولهما - حكم قتل المؤمن متعمدا، وثانيهما - وجوب تجنب الخطأ عند الجهاد، فإن الجهاد والضرب في الأوض مظنة قتل غير القاتل، أو غير المعتدي، وفي حاق قتل غير المعتدي يكون القتل عمدا، ولكن على أساس وصف من الأوصاف المسوغة للقتال، فوجب الاحتواز منه. ولأن فيه نوعا من القصد والتعمد، جاء بعد حكم القتل المتعمد، الذي بينه سبحانه وتعالى بقوله:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) تبين تلك الجيلة السامية عظم الجرم في القتل المتعمد المقصود، سواء أكان بآلة من شأنها أن تقتل كالرصاصة أو السيف أو السكين، أم كان بآلة ليس من شأنها أن تقتل، ولكن قصد بها القتل، وكان الضرب في مقتل، فإن القتل في كلتا الحالين مقصود متعمد، يعلم الله تعمده وقصده. والتفرقة بين ما يكون بآلة تقتل، وأخرى لا تقتل، هي تفرقة في الأحكام الدنيوية. والآية هنا تبين الحكم الأخروي، وهو الدخول في جهنم. أما الحكم الدنيوي، وهو القصاص الذي ثبت بآية القصاص، وقال فيه سبحانه: (وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاة)، فهو الذي فرق فيه بعض الفقهاء بين القتل الذي يكون بآلة من شأنها أن تقتل، والقتل بآلة لا
وإن الجزاء الأخروي صارم قاطع، فهو جهنم والمكث فيها. على الدوام، إن كان قد استباح ذلك، ولم يؤمن بحرمته، ولم يتب عن جريمته، ولا نجد قاتلا يقتل غيره إلا وهو مستحل لدمه مستبيح له! أفلا يستحق بهذا أن يخلد في النار ما لم يتب ويقدم رقبته، أو يعفو عنه أولياء المقتول؛ والمعتزلة الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ويخلد في النار، يستدلون بهذه الآية. ونحن نقول: إن خلوده في النار ليس لمجرد الفعل، بل لاستباحة القتل، وإنكاره التحريم. ولا يوجد قاتل عند ارتكابه تلك الجريمة التي تعد أكبر جريمة في الوجود، لَا يستبيح فعله؛ فكانت العقوبة على الاستباحة، والنبي - ﷺ - يقول فيما يُروى عنه: " لزوال السماوات والأرض أهون عند الله من قتل امرئٍ مسلم بغير حق " (١).
(وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) هاتان عقوبتان معنويتان، وثالثة مادية، أما المعنويتان فهما الطرد من رحمته الذي عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله " وَلَعَنَهُ "، وأي عقوبة أعظم من الطرد من رحمة الله تعالى، ونفحاته القدسية، ووادي رحمته المشرق المنير؛ والعقوبة المعنوية الثانية هي غضب الله تعالى، وغضب الله من أشد عقابه، كما أن رضوانه أعظم ثوابه، وكيف لا رب العالمين من يهدم ما بناه سبحانه في خلق الإنسان الذي سواه وعدَّله في أحسن تقويم؟!.
وأما العقوبة المادية، فقد أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا)، وهذه إشارة إلى عظم الجريمة، لأن العقوبة العظيمة لَا تكون إلا لجرم عظيم، وأي جرم أعظم من هدم بناء الإنسان الذي سجد له الملائكة، ولعن من
________
(١) رواه بهذا اللفظ الترمذي: الديات - ما جاء في تشديد قتل المؤمن (١٣٩٥) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا وقال: والموقوف أصح من المرفوع، كما رواه النسائي: تحريم الدم - تعظيم الدم (٣٩٨٧) مرفوعا.
وأما العذاب العظيم، فهو ما قرره سبحانه وتعالى في الدنيا من قصاص، وفى الآخرة من نيران شديدة، وقد يقال: أليس هذا تكرارا لقوله تعالى: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)؛ ونقول، لَا تكرار؛ لأن هذا الجزاء في مقابل جزاء من قتل خطأ وفي هذا الجزء الأخير بين سبحانه أن هذا الجزاء معد بالفعل يوم القيامة، فبين سبحانه وتعالى العقوبة وتنفيذها، وأنها لَا هوادة فيها، ولا تسامح بالنسبة لمرتكبها.
وإن القتل الخطأ الذي بين القرآن الكريم أحكامه في الآيات السابقة، قد يكون سببه أن يقتل مُحرم الدم، على أساس أنه مباح الدم، كمن يلقى طائفة من الناس في بادية يحسبهم من الأعداء الذين يباح دمهم، لاعتدائهم على المسلمين، فيقتل منهم أحدا، فيكون الخطأ: ولذا نبَّه سبحانه إلى توقِّي المجازفة في القتل، فلا يسارع المؤمن إليه؛ لأن الأصل في الدماء أنها محرمة، ولا تباح إلا عند الاعتداء؛ ولذا قال سبحانه بعد الآية السابقة.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤)
ومعنى النص الكريم: يا أيها الذين أذعنوا للحق وصدقوا به، وخرجوا مجاهدين في سبيل الله، إذا سرتم في جهادكم، فتعرقوا من يحاربكم ومن يعاديكم، ولا تضعوا السيف في موضع البرء والسقم، في المقاتل وغير المقاتل، في المحارب وغير المحارب، ولا تتعجلوا بالقتل عند الشك في أن من تقتلونه عدو أو ولي، أو عند احتمال ألا يكون عدوا؛ فإن الأصل في الدماء التحريم، وكل شك يمنع القتل؛ إذ القتل إنما هو لدفع الاعتداء، فلا يقتل إنسان إلا عند تأكد الاعتداء منه، أو نيته عنده، ومن لم يتثبت، فقد خالف أمر الله واعتدى.
وروى في سبب نزول هذه الآية روايات مختلفة، كلها يتلاقى عند معنى واحد، وهو أن المجاهدين الأطهار قتلوا رجلا نطق بالشهادتين: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله "، بعد أن استمكن المسلمون من رقبته، أو قال للمجاهدين: السلام عليكم، فقتلوه، وقد جاء في (أحكام القرآن) للقرطبي: في سنن ابن ماجة عن عمران بن حصين، قال: بعث رسول الله - ﷺ - من المسلمين إلى المشركين بعثا، فقاتلوهم قتالا شديدا، فمنحوهم أكتافهم، فحمل رجل على رجل من المشركين، فلما غشيه قال: أشهد أن لَا إله إلا الله، إني مسلم، فطعنه فقتله،
________
(١) وبها قرأ حمزة والكسائي، وخلف، وقرأ الباقون (فتبينوا). غاية الاختصار، ج ٢، ص ٤٦٦.
ويروى مثل، ذلك بالنسبة لأسامة بن زيد، فقد قتل رجلا نطق بالشهادتين، فلامه النبي - ﷺ -، فقال أسامة: لقد قالها تحت حرِّ السيف، فقال النبي - ﷺ -: " هلَّا شققت عن قلبه " (٢)!.
ولعل وقائع قد وقعت من هذا الصنف، والقتال شديد، وقد حمي الوطيس، فجاء الأمر الكريم بالتثبت.
وليس النطق بالشهادتين فقط هو الذي يحقق الدم، بل إعلان السَّلام وحده كاف لمنع القتل، ولذا قال سبحانه:
(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) السلام معناه الأمن، وقد أطلق على اللفظ الذي يدل عليه، وهو تحية الإسلام: " السلام عليكم ". وأطلق على استسلام العبد لربه. و " ألقى السلام "، معناه: قاله، أو قدمه. والنص الكريم جاء للنهي عن قتل من ألقى السلام وقدمه بالاستسلام، سواء أكان مؤمنا، أم غير
________
(١) سنن ابن ماجه: الفتن - الكف عمن قال لَا إله إلا الله (٣٩٣٠) عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(٢) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَهَذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ - قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: ٣٩]؟ فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ ". [رواه مسلم: الإيمان - تحريم قتل الكافر بعد أن قال لَا إله إلا الله (٩٦)، وبنحوه البخاري: الديات (٦٨٧٢)، كما رواه أبو داود: الجهاد - على ما يقاتل المشركون (٢٦٤٣)، وأحمد: مسند الأنصار - حديث أسامة بن زيد (٢١٢٩٥).
وإن الذين يقتلون من يطلب الأمان مستسلما، أو من يعلق الإسلام مسلما، يخرج قتالهم عن معنى الجهاد في سبيل الله تعالى إلى معنى آخر يجافيه، وهو أن يبتغوا عرض الدنيا بالمال يطلبونه، أو بإعلان قوتهم، وليس ذلك مقصد الإسلام من القتال، إنما مقصده إعلاء كلمة الله تعالى، وبيان كلمة الحق، ولذلك قال سبحانه:
(تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) الابتغاء الطلب الشديد، والرغبة الملحة. وعرض الدنيا، جميع متاعها، وسمي متاع الدنيا عَرَضا؛ لأنه مهما يكن زائل غير ثابت، فهو عارض لَا يدوم، ومنه قول - رضي الله عنه: " الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البَرُّ والفاجر " (١)! ومنه ما روي في صحيح
________
(١) عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ وَعَدٌ صَادِقٌ، يَحْكُمُ فِيهَا مَلِكٌ قَادِرٌ، يُحِقُّ بِهَا الْحَقَّ، وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ ". رواه البيهقي ج ٤، ص: ٤٦٥ (٥٨٣٧)، كما رواه الطبراني في الكبير.
تقنع بما يكفيك واسْتعمِل الرضا | فإنك لَا تدري أتصبحُ أم تمسي |
وقد أكد سبحانه وتعالى النهي عن قتل من أعلن الإسلام أو الاستسلام بقوله سبحانه:
(كذَلكَ كنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) بهذه الحال التي ترونها في المشركين الآن، من جحود بالحق وكفر به، كنتم من قَبْلُ، حتى هداكم الله تعالى، وإذا كنتم كذلك، فتبينوا حال الذين تقاتلونهم، عسى أن يكونوا قد هدى الله بعضهم كما هداكم، وأن يكون قد مَنَّ عليهم كما مَنَّ عليكم، فلا تستكثروا على مشرك أن يُؤْمِنَ، ولو كان ذلك في حومة الوغى، فنور الهداية مفتوح في كل
________
(١) متفق عليه؛ رواه مسلم: الزكاة - ليس الغنى عن كثرة العرض (١٠٥١)، والبخاري: الغنى غنى النفس (٦٤٤٦) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد كرر الأمر بالتبين؛ لأنه في الأول كان عاما يستدعي التثيت قبل القتال، وفى أثنائه وبعده، فلا يهاجمون إلا من يتأكدون منه الاعتداء، والأمر هنا يتضمن تبين حالهم في الماضي، وحال الكافرين في الحاضر، كما يتضمن التثبت عند الاستسلام، وعند إعلان الإسلام. فالتبين لمعرفة الحال قبل القتال وبعده وفي أثنائه يتضمن الموازنة، ويتضمن التبين عند القتال وبعده فقط فبينهما أمر مشترك، وكلاهما ينفرد بتبين خاص. وفوق ذلك، فإن التبين هنا اقترن بتذكير وإنذار إذا لم يكن، ولذا قال تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) أي أنَّ الله تعالى متصف بالعلم الدقيق، الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فالخبرة هي العلم الدقيق بالأشياء. وقد اقترن ذلك الوصف بأعمال المؤمنين المخاطبين بذلك الخطاب لبيان مراقبة الله تعالى الدائمة لأعمالهم، دقيقها وجليلها، ولأحوال نفوسهم ما ظهر منها وما بطن، وأنه لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض. وقدم سبحانه وتعالى لفظ " بما تعملون " على الوصف العام، ليراقبوا أنفسهم، فقد علموا أن الله تعالى يراقبهم، وأنهم إذا لم يراقبوه في تصرفاتهم مع خلقه فهو تعالى يراقبهم. اللهم إنا نضرع إليك ألا تمكننا من ظلم أحد من عبادك، إنك على كل شيء قدير.
* * *
* * *
في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الجهاد، وتخللت هذه الدعوة آيات في وجوب الحذر من المنافقين، ، وفي بعض العلاقات الدولية، وأحكام الخطأ إذا كان المقتول معصوم الدم، ثم جاء في السياق قتل المؤمن عمدا، وعظم الجرم فيه، وإنزال العقاب الشديد بمن يرتكب ذلك الجرم. وكان هذا بمثابة التمهيد لوجوب الاحتراس من قتل المؤمن إذا استعرت الحرب واشتد أوارها، فكان على المؤمنين إذا ضربوا في الأرض ألا يضعوا السيف في موضع البرء والسقم. وفي هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه - وجوب الخروج للجهاد إن وجدت دواعيه، وأن الأجر اللذين يخرجون مجاهدين، وأنه لَا يصح أن يقعد مؤمن عن الجهاد، وهو قادر عليه، فقال تعالى:
ونجد في هذا النص الكريم أن الإخلاص مع الاستعداد وعدم القدرة على التتفيذ قد يغني عن الجهاد، أو علي الأقل يسقط المؤاخذة، ولذا قال تعالى (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي أخلصوا، وبذلوا في سبيل الله ما يستطيعون بذله.
ونجد في النص الكويم إشارة إلى أن الجههاد بالمال جهاد، وإلى أن القعود نوعان: أولهما قعود مادي حسي، بمعنى ألا يخرج من الدار والعدو متأهب لمنازلة أهل الإسلام، أو غزوهم في عقر دارهم، وما غزى قوم في عقر دارهم، إلا ذلوا، كما قال فارس الإسلام عليٌّ - رضي الله عنه -، والثاني. قعود عن
________
(١) رواه أبو داود: الجهاد - كراهية ترك الغزو (٢٥٠٤)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (١١٨٣٧)، والدارمي: الجهاد - جهاد المشركين باللسان واليد، كما رواه النسائي: الجهاد - وجوب الجهاد (٣٠٩٦) ولفظه عند النسائي: " جَاهِدُوا المشركِينَ بِأموَالهُمْ وَأيْدِيكئم وَألسنتكمْ " كلهم عن أنس ابن مالك رضي الله عنه.
ولا شك أن أكمل الجهاد ما كان بالمال والنفس، كما هو الشأن في جهاد كثير من الصحابة، كأبي بكر وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من كبار الصحابة الذين كان لهم مال بذلوه، وكان لهم بلاء في ميدان القتال، فقاتلوا في سبيل الله بأنفسهم.
والآية تشير إلى وجوب إعداد الشباب في الأمة للجهاد، بأن يتربوا منذ طفولتهم على أساليب الحرب والنزال، فإنه لَا يسوغ استنفار طائفة إن حملت السلاح لَا تستطيع الضرب، ولذلك وردت الآثار بتعليم الشباب الرماية، والدربة على القتال، ويعدُّ ذلك ضَرُوريا من ضروريات التعليم الديني. وإذا كان الإسلام قد منع العكوف في الصوامع للعبادة وحدها، فقد أمر الأمة كلها بالجهاد في سبيله، أو الاستعداد له، وقد قال النبي - ﷺ -: " رَهبانيةُ أمَّتي الجهاد في سبيل الله " (١).
وإذا كانت المساواة بين القاعد والمجاهد غير سائغة في حكم العقل والشرع، فالفضل في الدرجة للمجاهدين؛ ولذا قال سبحانه:
(فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) وإذا كان التساوي بين المجاهدين والقاعدين من غير ضرر يمنعهم غير مستساغ، فإن الله تعالى فضَّل المجاهدين بالمال والنفس على القاعدين ذوي الضرر، وجعلهم في درجة أعلى من القاعدين لعذر، والمراد بالدرجة أن يكون لهم فضل أعظم، ومكانتهم عند الله أكرم من ذوي الأعذار؛ وذلك لأن جهاد
________
(١) سبق تخريجه.
وإن تفضيل الدرجة على القاعدين ذوي الضرر لكي يسير القادر ولو نسبيا، فلا يقعد لضرر وهمي، أو عذر غير قهري، فكثير من الناس يتوهمون أعذارا، حيث لَا عذر.
هذا فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ذوي الضرر، وقد رحم الله الضعفاء، فجعل لهم الحسنى كالمجاهدين، وإن كانوا دونهم فضلا، أما الذين قعدوا من غير عذر، فقد بين سبحانه فضل المجاهدين عليهم بأنه درجات، فقال سبحانه: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).
كان التفضيل الأول بالدرجة الواحدة، وذلك النص في تفضيل الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير ضرر. فالمجاهدون بأموالهم وأنفسهم مفضلون عليهم بأجر عظيم، وأنَّى يكون من قعد بين أهله آمنا في سربه، كمن ارتكب المشقة وترك الأهل والولد!.
________
(١) رواه البخاري: المغازى - نزول النبي - ﷺ - الحجر (٤٤٢٣)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، كما رواه مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه بلفظ مقارب، ولفظ مسلم: الإمارة - ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (١٩١١) عَنْ جَابِرِ قَالَ: كُنا مَعَ النَبِى - ﷺ - فِى غَزَاةٍ فَقَالَ: " إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ) وفي رواية: " إِلاً شَركُوكُمْ فِى الأجْرِ ".
* * *
* * *
هذا بيان للأجر العظيم الذي يعلو به المجاهد بنفسه وماله عن القاعد كسلا أو تراخيا، أو لأنه سبقه غيره إلى الجهاد. وهذا الأجر مكون من عناصر ثلاثة: أولها: أن الله تعالى يرفعه دوجات، ويقربه إليه سبحانه منازل يوم القيامة، فيكون في مرتبة الصديقين والأنبياء والصالحين؛ إذ إن الشهداء الذين أخلصوا النية في جهادهم، والمجاهدين الذين تعرضوا لشرف الاستشهاد لهم المنازل العليا، والمقامات الكبرى. ونُكِّرت الدرجات لبيان أنها لَا يحدها الحصر، ولا يعيِّنها المقدار، بل هي شرف عظيم لَا يناله إلا المقربون الأبرار.
ثانيها: أن الله تعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأي حسنات أعظم من تقديم النفس والنفيس.
ثالثها: الرحمة تنزل بالمجاهد، فإنه يكون مغمورا برحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة: ففي الدنيا براحة الضمير وأداء الواجب، والإحساس بأنه كان سببا للرحمة بالمؤمنين، إذ وقاهم شر العدو، ومنعه من أن يتحكم فيهم، ودفع عنهم الفتنة في دينهم، وجعل الدين خالصا لوجهه الكريم، ومنع الفساد في الأرض.
وفى الآخرة بالثواب العظيم.
وقد ختم الله تعالى النص بأن الغفران والرحمة وصفان دائمان لذاته العلية، لا ينفصلان عنها، وفي ذلك دعوة لكل من يكسل عن الجهاد لأن يعمل، وللعاصي ليتوب، فإن باب المغفرة مفتوح قد فتحه الغفور، وباب الرحمة متسع قد وسَّعه الرحيم. اللهم اكتبنا في عبادك التائبين، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
* * *
* * *
في الآيات السابقة ذكر سبحانه خروج المؤمنين مجاهدين، وما يجب أن يكون عليه المجاهد من حذر، فلا يثق بخائن أو منافق، ولا يضع سيفه على من يلقى إليه السلام، وذكر أن الخروج للجهاد واجب، وأن القعود لَا يجوز إلا عند عدم الحاجة أو المعذرة. والتعود قسمان: قعود عن الجهاد، وقعود عن الهجرة.
وإذا كان القعود الأول فيه ملامة إن لم يكن لمعذرة، فالقعود الثاني فيه ذلة، وفيه إثم الرضا بالذلة، ولذا قال تعالى:
ومهما يكن سبب النزول، فالعبرة بعموم اللفظ، لَا بخصوص السبب، فإن كل مؤمن يعيش في أرض يستذل فيها، أو لَا يستطيع إقامة حق دينه فيها، أو يعامل بغير الأحكام الإسلامية يكون من الواجب عليه أن يهاجر إلى الأرض التي يكثر فيها سواد المسلمين. وقد فهم هذا المعنى العام " الزمخشري "، فقد قال في ذلك: (وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لَا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، والعوائق عن إقامة الدين لَا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله تعالى، وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة. وعن النبي - ﷺ -: " من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم، ونبيه محمد " (١)، وقد ذكر الزمخشري أنه فعل ذلك - ﷺ - إذ جاور بيت الله الحرام، وقال جار الله الزمخشري داعيا ربه: (اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة) (٢).
هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالإقامة في دار لَا تحكم بالإسلامِ، ولا يكون فيها قوة لأهل الحق - تسألهم الملائكة يوم القيامة، فيقولون لهم: (فِيم كُنتمْ)، ويقول الزمخشري إن المعنى: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والسؤال للتوبيخ، ومؤداه إنكم لم تكونوا مستطيعين إقامة شئون دينكم، فكيف ترضون بذلك؟ وعندي أن معنى النص: (فِيمَ كُنتمْ)؛ في أي حال كنتم؟ أكنتم في عزة أم في ذلة؟ وكيف ترضون لأنفسكم الهوان، ولدينكم الدنية؟. والاستفهام للتوبيخ أيضا كما قرر الزمخشري.
________
(١) أخرجه الثعلبي من طريق الحسن مرسلا، وقد ذكر ذلك الآلوسي ج ٥، ص ١٢٥.
(٢) ذكره الزمخشري ج ١ ص ٥٥٦ من الكشاف.
وإن هذا النص الكريم يدل على أن المؤمن محاسب إذا رضي بالذل والدعة والعيش الناعم في غير أرض الإسلام، وأنه خير له أن يعيش في ظل الإسلام وفي خشن العيش مع العزة، من أن يعيش في نعيم مع الذلة، ولذا قال تعالى في عقاب هؤلاء المنقطعين عن الإسلام:
(فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أي إن هؤلاء الذين رضوا بالذل وظلموا أنفسهم، أو رضوا بأن يكونوا في قوة أعداء الإسلام، ولم يكونوا مع المسلمين، مدَّعين أن الضعف هو الذي أقعدهم - إذا كانوا قد ارتضوا الإقامة في مكان الهوان في الدنيا، فإن مأواهم الذي يأوون إليه في الآخرة هو جهنم، وهي مصيرهم الذي يصيرون إليه، ونهايتهم التي ينتهون إليها، وما أسوأ جهنم مآلا ونهاية ومأوى لمن يسيرون في طريقها، فأُولئك جمعوا على أنفسهم هوان الدنيا وعذاب الآخرة!.
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الصلاة - تشبيك الأصابع (٤٨١)، ومسلم: البر والصلة والآداب - تراحم المؤمنين وتعاطفهم (٢٥٨٥). عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
* * *
* * *
هذا استثناء من المصير الذي سيئول إليه هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وهؤلاء هم ضعفاء حقا، فقد استضعفهم الأعداء وأرهقوهم، ولم تكن عندهم قوة تمكنهم من الإفلات من بقائهم في أرضهم وخروجهم إلى أرض الإسلام.
وهؤلاء ثلاثة أصناف:
أولهم: ضعفاء الرجال من الشيوخ الفانين، والمرضى وذوي العاهات، ونحوهم، ومن هؤلاء من كان لَا يرضى بالذلة ولو فني بالطريق! ويروى أنه لما نزلت هذه الآية بعث بها رسول الله - ﷺ - إلى مسلمي مكة، فقال ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني، فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، والله لا أبيت ليلة بمكة!. فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا، فمات في الطريق!.
والصنف الثاني: النساء اللائي لَا يستطعن الخروج، إما لثقلهن بالأولاد، وإما لخشية أمن الطريق، وإما لعدم وجود زوج يصحبها، ولا ذي رحم محرم يكون معها في الطريق.
والصنف الأخير: الولدان، وقد قال بعض المفسرين: إنهم العبيد ونحوهم، وذلك القول ليس بشيء، والأصح أنهم الصبيان، ويقول الزمخشري: إنهم الذين تجاوزوا الحلم قريبا. ويصح أن يكون المراد هؤلاء والأولاد الذين يتبعون آباءهم، أو الذين ليس لهم آباء يتبعونهم، وهم بهذا الضعف غير مسئولين، واستثناؤهم لعدم تكليفهم أو لأنهم لَا قوة لهم على تفسير الزمخشري، إذ إن ضعف الصبا لا يزال بهم، إذا كانوا قد بلغوا الحلم، ولم يدخلوا في دور الرجولة.
* * *
* * *
إن هؤلاء الذين استضعفوا حقا وصدقا بسبب ضعفهم، عسى أن يعفو الله عنهم، أي يرجى أن يكونوا محل عفو الله تعالى، فلا يؤاخذهم برضاهم بالبقاء في أرض الذل، فالفاء هنا هي فاء السببية، أي أن السبب في أنهم محل عفو الله، ورجاء العفو لهم، هو ضعفهم. وهنا بحثان تشير إليهما الآية الكريمة:
أولهما - أن الهجرة هي الأمر المفروض الذي لَا مناص منه إلا عند العذر الشديد، وإن الأعذار يقدرها أصحابها. ومع وجودها يرجى لهم العفو، ويرجونه، ويقول الزمخشري: إن هذا يدل على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني. وهذا كله معناه أن الأصل هو الهجرة "
ثانيهما - أن الأمور التي يرخص بها في مقابل واجب مفروض، لَا تكون مباحة في ذاتها، بل تكون في مرتبة العفو، لأن المباح يكون مطلوبا على وجه التخيير، وهذه لَا طلب فيها، بل رخص بها في الترك، والأصل وجوب الهجرة.
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بأنه كثير العفو عن عباده في الرخص التي يرخص لهم بها، كثير المغفرة لمن تاب وأناب، والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.
* * *
* * *
في الآيات السابقة كان بيان حال الذين رضوا بالذل والهوان والضيق، وأنهم مؤاخذون لذلك، إلا إذا كانوا عاجزين عن الانتقال. وفي هذه الآيات يرغب سبحانه في الهجرة عند الضيق كما ألزم بها عند الذل، فقال تعالى:
والآية تحث على الهجرة إذا توافرت أسبابها، وتشير إلى أن المهاجر، إن ترك محل العيش الرتيب، فإنه سيجد في النهاية مذاهب مختلفة للرزق، وسعة في الحياة، وعدم ضيق، فهو معوض بلا ريب.
(وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا) المهاجر في سبيل الله تعالى ينتقل من حمى الناس إلى حمى الله تعالى، فهو مهاجر منتقل إلى جانب الله تعالى ورسوله، فإذا كان يترك بيته وأهله وعشيرته، وجيرانه الذين عاش بينهم وعاشرهم، فهو يتركهم إلى جانب أعظم، ورحاب أوسع، وهو جانب الله تعالى ورسوله ورحابهما. وإن المهاجر إلى الله تعالى في سبيل تحقيق مقصد من مقاصد دينه التي نوهنا عنها سابقا ينال إحدى الحسنيين: إما الظفر بالسعة والعزة، والمال، وإما الظفر بالأجر العظيم، وذلك إذا أدركه الموت، وهو في الطريق الى الله.
وهذا قد قال فيه سبحانه: (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، أي فقد حق له الأجر العظيم عند الله تعالى. وقد تفضل سبحانه، فاعتبر ذلك الاجر حقا عليه - سبحانه، ولذا عبر بـ " على " في قوله: (عَلَى اللَّهِ) ووقع هنا معناه ثبت وتقرر، وكأنَّه صار وثيقة على الله تعالى وذلك كله تأكيد لتحقق الأجر بهذه الهجرة. وإن ذلك الأجر غفران لما مضى من ذنبه، ورحمة به بالنعيم المقيم في الآخرة، ولذلك قال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) أي أن الوصف الدائم الثابت لله تعالى في الأزل أنه كثير المغفرة، ومن شأنه الرحمة بعباده، فبمقتضى
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وبدلمهم من بعد خَوفهِم أمنا، ومن بعد ضعفهم قوة، واهدهم للعمل بكتابك وسنة نبيك، إنك سميع الدعاء.
وبعد أن ذكر أن الهجرة فيها عزة، وأن المهاجر يجد سعة من الرزق، يذكر سبحانه ما سهله تعالى للمهاجر أو المسافر من عبادة تيسيرا له، وتشجيعا على السفر، فقال سبحانه:
* * *
* * *
الضرب في الأرض هنا هو السفر، وأطلق الضرب في الأرض على السفر، لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته وبمتوكئه على الأرض في حركة مستمرة جزءا من النهار، فكان التعبير عن الضرب في الأرض بالسفر في موضعه، وهو مجاز واضح في علاقته.
ونجد التعبير في هذا النص الكريم يختلف عن قوله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) في الآية السابقة في أمرين: أحدهما: أنه في الآية السابقة عبر عن السفر بالهجرة: والهجرة تقتضي الانتقال على غير عودة، وعلى نية الإقامة في مكان آخر يتخذه موطنا ومستقرا ومقاما دائما له، وفي هذا النص عبر عن السفر بالضرب في الأرض، أي أنه سفر على نية العودة غالبا، ولا يريد به اتخاذ مكان آخر موطنا له.
والثاني: أن الآية الأولى تنص على الهجرة في سبيل الله تعالى، والخروج من أرض الذل إلى أرض العزة، حيث يمكن أن تكون بالهجرة نصرة للمسلمين، يعد في سبيل الله؛ أما في هذه الآية، فإن السفر عام يشمل ما يكون في سبيل إفامة الدين، وما يكون في طلب الرزق، وزيارة ذوي الأرحام، وغير ذلك مما يعد قربة أو أمرا مباحا.
ومعنى الفتنة هنا هو إنزال الأذى بالمؤمنين، بأن يجعلهم في حال شدة، وينزل بهم كارثة بمداهمتهم وقتلهم أو الانقضاض عليهم، وهم ليسوا في حال استعداد للقتال.
وبهذا يكون قد ثبت بالنص القرآني قصر الصلاة، في حال خوف الفتنة من الذين كفروا، وصاروا في عداوة مستمرة للمؤمنين بسب كفرهم. ولكن ثبت بالسنة القصر في الصلوات التي عدد ركعاتها أربع في حال سفر، ولو لم يكن السفر في موضع مخوف، وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة عن النبي - ﷺ -، والتي أجمعِ الصحابة عليها (١). ويصح أن نقول أن قوله تعالى: (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِين كَفَروا) لم يكن إلا في بيان القصر في حال خوف الفتنة من الذين كفروا؛ لأن السياق كله كان في الجهاد، ولكن يمنع ذلك الفرض أن النص جاء في مطلق سفر، لَا لأجل الجهاد.
________
(١) من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: صلاة المسافرين وقصرها (٦٨٦)، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتُ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ".
(إِنْ خِفْتمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَروا) هذا النص لتأكيد الحذر من الكفار دائما؛ لأن عداوتهم مستمكنة في قلوبهم، وقد أكد سبحانه وتعالى هذه العداوة بمؤكدات أربعة: أولها - " إنَّ " الدالة على التوكيد، مع وصف الذين كفروا بالكفر، وجعله شأنا لهم، ومن كان جمود الحقائق شأنه لَا يؤمن على شيء. وثانيها - التعبير بـ " كان " الدالة على الدوام والاستمرار. وثالثها - وصف الكافرين بالعداوة؛ لأن العدو يطلب لعدوه دائما الشر، ويترقب مواضع غفلته لينقض عليه، فلا تنتظر منه رحمة أو حلم، أو نسيان للحقد. ورابعها - وصف العداوة بأنها ظاهرة بينة لا خفاء فيها، فالمغرور من يأمن عواقبه.
وقد تكلم العلماء في السفر المسوغ لقصر الصلاة: ما مقداره؟ وما حكم القصر؟ أهو واجب أم سنة؟ ونوع السفر الذي يجوز فيه القصر؟.
أما بالنسبة لمسافة السفر التي يجوز فيها القصر، فالفقهاء اختلفوا فيها على أقوال ثلاثة:
أولها - قول أهل الظاهر أن القصر يكون في كل ما يسمى سفرا، سواء أكان قصيرا أم كان طويلا، لأنه لم يثبت عن النبي - ﷺ - مقدار محدود يمنع القصر فيما عداه، فبقيت كلمة السفر على إطلاقها، من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة.
وثانيها - قول الحنفية، أن السفر الذي يُسوِّغ القصر مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، بالسير المعتاد، وهو سير الإبل، مع أخذ الراحة الواجبة في السفر، فلا يسير المدة كلها، بل يسير في الزمن الذي يعتاد فيه السفر؛ وذلك لأن عرف العرب أن الرجل كان لَا يعتبر مسافرا إلا إذا تجاوز موطنه بسير نحو ثلاثة أيام.
وبالنسبة لكون القصر واجبا أو مخيرا فيه، فالمذهب الشافعي أنه مخير فيه، وروى أنه سنة، ومن اختار القصر صلى قصرا بالنية، ومن اختار التمام صلى تماما بالنية، ويكون الفرض في حقه بعد أن ينوي التمام أربعا. وبقية الأئمة تقريبا على أن القصر واجب، وما يصلي فوق القصر يكون نافلة، وحجتهم ما تواتر عن الصحابة من أنهم يقصرون كلما كان سفر، وقدره يوم للإمام عثمان إذ لم يقصر عندما حج، وقال أصحاب هذا الرأي أن الفرض شرع اثنين، ثم بقي في السفر كذلك ثم زيد في الحضر. وحجة الرأي الأول قوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُروا مِنَ الصَّلاةِ)، ونفي الإثم يقتضي التخيير. وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بأن ذلك للتيسير والتسهيل. وفي الحق أن كلمة " لا جناح " استعملت في السعي بين الصفا والمروة، ومع ذلك كان السعي بينهما واجبا، فالله تعالى يقول: (إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم).
وبالنسبة لنوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فقد أجمع الفقهاء على أن السفر للجهاد أو الحج أو العمرة أو صلة الرحم أو القيام بواجب، يجيز القصر أو يوجبه. والأكثرون على أن السفر للتجارة والأعمال المباحة يكون فيه القصر.
________
(١) رواه مسلم: الحج - سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (١٣٣٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) من ذلك ما رواه البخاري: الجمعة - في كم يقصر الصلاة (١٠٨٨).
(٣) من ذلك ما رواه البخاري: الجمعة - في كم يقصر الصلاة (١٠٨٧)، ومسلم: الحج - سفر المرأة (١٣٣٨).
وفقنا الله تعالى لإقامة الصلاة عمود الدين، وفيها برد المتقين.
* * *
(وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٠٢) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣)
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى وجوب الهجرة على المؤمن للجهاد في سبيل الله تعالى، ولطلب الرزق، إن ضاقت أرضه التي نشأ فيها، ثم
ومعنى النص السامي: إذا كنت أيها الرسول في المؤمنين، فأردت إقامة الصلاة على وجهها في هذا المقام، فلتقم طائفة منهم معك، بأن تبتدئ بالصلاة معها، على أن يكون معها السلاح، وهي في حال الصلاة، حتى يكونوا على أهبة القتال دائما. وحمل السلاح في الصلاة لَا يبطلها، ولا يؤثر في حال الخشوع، وخصوصا إذا كان حمل السلاح لإعلاء كلمة الله تعالى وخفض الباطل، فهو عبادة من أعظم العبادات، فكان النبي - ﷺ - يقسم المؤمنين المجاهدين صفين، صفا يبتدئ بالصلاة معه، فإذا سجدوا للصلاة وقد ألقوا وجوههم على الأرض، لا يرون شيئا ولا يستحضرون إلا عظمة الله تعالى، فإن الصف الثاني يكون من وراء هؤلاء، يدفع عنهم أذى الكفار، والاعتداء على أهل الحق والايمان، وهذا معنى قوله تعالى: (فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ)، أي فليكن الصف الآخر، أو الطائفة الأخرى من ورائكم، حامية لظهوركم، مانعة نزول الأذى بكم، ومن بعد ذلك تجيء الطائفة الحارسة، وتكون من بعد ذلك في محل المصلية، وتذهب الأخرى حارسة، وهذا قوله تعالى: (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).
اتفق الفقهاء على أن صلاة الخوف تقتضي أن يصلي النبي - ﷺ - بطائفة، ثم يصلي بالأخرى التي تكون أمام العدو ابتداءً، وتحل الأولى محلها، ولكن اختلفوا بعد ذلك في كيفية صلاة الخوف تبعا لما فهموا من اختلاف الروايات في صلاة النبي - ﷺ -، وها هي ذي الروايات ومن اختاروها:
الرواية الأولى - رواية عبد الله بن مسعود التي أخرجها أبو داود والدارقطني، وخلاصتها أن الصلاة في هذه الحال ركعتان إن كانت رباعية، ويقسم النبي المجاهدين إلى صفين: أحدهما يصلي به ركعة، ثم يقوم، حتى تجيء الطائفة الأخرى فيصلي بها الركعة الثانية، حيث تكون الأولى في مواجهة العدو، ثم يسلم، وتأتي الأولى فتتم صلاتها بغير قراءة، لأنها كما يعبر الحنفية لاحقة، أي كأنها وراء الإمام حكما طول الصلاة، ولا قراءة وراء الإمام، فإذا أتمت جاءت الثانية فصلت بقراءة، لأنها تكون مسبوقة، إذ تكون كمن أدرك آخر صلاة الإمام وفاتته ركعة، فتكون القراءة واجبة. وبهذه الرواية أخذ أبو حنيفة وأصحابه.
الرواية الثانية - هي ما رواه الإمام مالك في موطَّئه، أن صلاة الخوف أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ولا يسلم، وتتم هي الصلاة وحدها، فإذا أتمتها جاءت الأخرى، فصلى الإمام معها الركعة الأخرى وسلم، وهم يتمون الركعة، وبذلك تقل الحركات عن الرواية الأولى. وبهذه الرواية أخذ الإمام مالك، وروي
الرواية الثالثة - أن الرسول صلى بالطائفة ركعة، وبها تتم صلاتها، ثم قام حتى تجيء الثانية، فصلى بها الركعة الثانية، وسلم، وبها تتم صلاتها فتكون صلاة الخوف على هذه الرواية ركعة واحدة بالنسبة للمأموم، وركعتين للإمام، وبهذا أخذ بعض الفقهاء.
الرواية الرابعة - أن النبي - ﷺ - صلى ركعتين بالأولى ولم يسلم، وذهبت، وجاءت الثانية فصلى بها اثنتين أخريين، ثم سلم معها. وفي رواية أنه سلم بينهما، فسلم مع الأولى، وسلم مع الثانية. وقد اختار بعض الفقهاء هذه الرواية الأخيرة.
ولقد قال الإمام أحمد بن حنبل، وهو عالم السنة الأول في عصره: " لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت، وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه، إن شاء الله ".
وإن كل هذه الروايات تتفق مع النص الكريم، واختلاف الرواية الصحيحة يدل على أن النبي - ﷺ - صلاها بكل هذه الوجوه المختلفة، لبيان أنها جائزة بكل وجه من هذه الوجوه.
وبعض العلماء قالوا: إن صلاة الخوف خاصة بما إذا كان النبي - ﷺ - مع المجاهدين، أي أنها خاصة بعصر النبي - ﷺ -، وبشرط أن يكون هو قائد الجند، وحجتهم في ذلك أن الخطاب خاص بالنبي - ﷺ -، إذ يقول: (وَإذَا كنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)، فالكيفية مقيدة بشرط، وهو إقامته فيهم، وليست كل التكليفات التي يوجه فيها الخطاب للنبي - ﷺ -، على أن يكون موجها لكل الأمة، مشروطا فيها هذا الشرط، فالتكليف مقيد بالشرط، وليس بمطلق، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه عليه الصلاة والسلام. وقال الجمهور: أُمرنا باتباعه،
هذا، ولا بد من التنبيه لأمرين: أحدهما - صلاة المغرب، فقد كانت الصلاة التي تكلم فيها الفقهاء هي الصلاة الثنائية بالأصالة، وهي الفجر، أو الثنائية بالقصر، وهي صلاة الظهر والعصر، والعشاء. وأما المغرب فقد روي عن النبي - ﷺ - فيها روايتان: إحداهما أنه صلى بالطائفة الأولى ثلاثا، وبالثانية مثلها، وبهذه الرواية أخذ الحسن البصري. والرواية الثانية أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية واحدة، وهذا قول أبي حنيفة ومالك. وروى أن الشافعي قال: يصلي بالأولى واحدة، وبالثانية اثنتين.
الأمر الثاني - أنه لَا يلزم الاتجاه إلى القبلة إذا خيف أن يأخذ العدو المؤمنين على غرة، وذلك في حال الالتحام الشديد، وإذا خيف فوات الوقت يصلي متى أمكن له أن يصلي، وبذلك قال مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وقال غيرهم: يصلون بالإيماء، ولا يتركون الوقت.
والسبب في شرعية صلاة الخوف هو الحذر، والخوف من المباغتة، ولذا كرر الله الأمر بأخذ الأسلحة والحذر، وبين ما يوده الكفار فقال: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً).
________
(١) جزء من حديث سبق تخريجه من رواية البخاري وغيره عن مالك بن الحويرث.
ومعنى: (وَدَّ الذِينَ كفَرُوا) تمنى الذين كفروا، وهم أعداؤكم الذين نصبوا راية العداوة لكم، أن تأخذكم الغفلة عن أسلحتكم التي بها شوكتكم وقوتكم، وعن أمتعتكم التي فيها زادكم وبها تستمرون على القتال من غير أن يصيبكم جوع أو عُري. وأنهم يريدون هذه الغفلة ليميلوا بقوتهم وَكَلكِلِهم عليكم، فيكونوا ثقلاء الوطأة، ويضربونكم الضربة القاصمة الفاصلة، فيما يتوهمون ويزعمون! وهذا معنى قوله سبحانه: (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)، أي يثقلون الوطأة عليكم ويضربونكم الضربة المستأصلة في زعمهم ووهمهم!!.
وفى هذه النصوص كلها نجد الأمر المتكرر بوجوب أخذ الأهبة دائما، وحمل السلاح باستمرار. ولكن قد يتعسر حمل السلاح، وهنا يرخص في عدم حمله، مع أخذ الحذر، بحيث يكون في مكان قريب، كي يعمل عند أول صيحة، ولذا قال سبحانه:
(وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) لَا إثم عليكم في أن تضَعُوا أسلحتكم في أغْمِدَتِها، إذا كان في الميدان مطرٌ شديد يعوق استعمالها ولقاء الأعداء، فإنها إن لم توضع تعرضت للصدأ، ووراء ذلك تلفها، والاحتياط لسلامتها في الميدان واجب، وكذلك من يكون به مرض يغمد سلاحه حتى يستطيع استعماله، فإن تركه من غير استعمال يفسده، فلا يصلح عند وجوبه، وقوله تعالى: (أَوْ كُنتُم مَرْضَى) الخطاب للجميع، ويراد به البعض من وجه؛ لأنه يبعد أن يكون جميع الجيش مريضا، فالله تعالى يرخص للمريض في أن يدع القتال حتى يشفى، فليس على المريض
ومع أنه لَا إثم في وضع السلاح عند المطر المعوِّق الذي يعد أذى، ولا يعد غيثا، والترخيص للمريض في غمد سلاحه، فلابد من الحذر، فيترقبون من العدو دائما انتهازه للفرصة، ومن ذلك أن يتقلدوا السيوف (١)، ولو أنها في أغمدتها، ووضع الرقباء، وبث العيون على العدو ليعرفوا حاله، فعسى أنه يحاول الهجوم من ثغرة أو طريق سهلة عليه، وإن ذلك لأن الله تعالى يريد أن تعلو كلمة الإيمان في الدنيا، وتنخفض كلمة الكفر، ولذا قال سبحانه:
(إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) أي إن الله أعد للجاحدين به وبالحق عذابا مذلا لهم في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة بالعذاب الشديد الذي لَا نجاة منه، وفى الدنيا بالغلب عليهم، وإذهاب صولتهم، ودولتهم، وذلك يكون بأخذ الأهبة والحذر، والاعتماد على الله تعالى، وقد أكد سبحانه العذاب المهين الذي ينزل بهم في الآخرة بثلاثة مؤكدات: بحرف (إن)، وبأن الله تعالى هو الذي ينزله، وما أراده الله تعالى لابد واقع، وبالتعبير بكلمة (أعَدَّ)، فإنها تفيد أنه هيئ لهم فعلا، وهو يستقبلهم، وهم صائرون إليه لَا محالة.
* * *
________
(١) أو ما في معناها من عدة الحرب.
* * *
أي إذا أديتم الصلاة على حال الخوف، فإن العبادة لم تنته، بل إن معناها قائم مطلوب منكم، وهو أن تذكروا الله تعالى في كل أحوالكم، قائمين في الميدان، أو غادين ورائحين، أو قاعدين مستريحين، أو نائمين على جنوبكم، فإن ذكر الله تعالى هو العبادة المستمرة التي بها تطمئن القلوب، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقلُوبُ).
(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) أي إذا ذهب الخوف، وعادت القضب إلى أجفانها (١)، ورجعتم إلى مساكنكم، فأقيموا الصلاة أي أدُّوها كاملة، مستقبلين القبلة، موصولة من غير فاصل بين أجزائها. والكمال هنا كمال الصورة، وإلا فالمعنى يتحقق في صلاة الخوف بمقدار لا يقل عن كماله في الإقامة، إذ إنها عبادة في عبادة، هي عبادة الصلاة في عبادة الجهاد، وهو أشق عبادة، ولا شاغل قد يشغل المصلِّي عن صلاته إلا هذه العبادة العالية، وفي الإقامة قد تشغله بعض أعراض الدنيا. وقد بين سبحانه مكان الصلاة في الإسلام، فقال سبحانه: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، أي الصلاة مكتوبة على المؤمنين مؤقتة بأوقاتها، وهذا تأكيد لفرضيتها، وقد أكدت الفرضية بأربعة مؤكدات: أولها " إنَّ " التي للتوكيد. وثانيها " كانت " التي تدل على الدوام والاستمرار في الماضي والمستقبل، وثالثها. التعبير عن فرضية الصلاة بأنها (كتاب) فهو تعبير عن الوصف بالمصدر، وفيه فضل توكيد، ورابعها. التعبير بقوله تعالى: (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، فإن ذلك يفيد الإلزام والحتمية. اللهم وفقنا لإقامة الصلاة، وإقامة الحق، والعمل على إعلاء شأن الإسلام، إنك سميع الدعاء.
* * *
________
(١) أي السيوف إلى أغمادها. وسيفٌ قاضِبٌ وقضيب: قطاع (مقاييس اللغة)، وأجفان السيوف وجفونها أغمادُها، واحدها جَفن. (لسان العرب).
* * *
في الآيات السابقة كان بيان ما يتبعه المؤمنون من الصلاة عند الخوف، ولقاء العدو، ومن قبل ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يتبعه المؤمنون المغلوبون على أمرهم في دولة غير إسلامية من الهجرة. فالآيات كلها في وجوب الجهاد، وما حول الجهاد، وذلك أكد سبحانه طلبه بقوله تعالى:
ومعنى النص الكريم: لَا يصيبكم وهن، أي ضعف في همتكم وعزيمتكم، في ابتغاء العدو وطلبه، وتحرِّي موضع ضعفه والنيل منه، ولا تقعد بكم آلام الحرب عن متابعته، واللحاق به، فإن تكونوا قد أصابتكم جراح فقد أصابته، ولذا قال سبحانه:
ويسوق الزمخشري النص الكريم مساقا فيه شبه لوم للمؤمنين، فيقول في تفسير قوله تعالى: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ): (أي ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه، ويتشجعون، فما لكم لَا تصبرون مثل صبرهم؛ لأنكم ترجون من الله ما لَا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة).
ونحن نرى أن النص فيه تحريض على الصبر، ولا لوم فيه ولا شبه لوم، فما كان عند المشركين صبر كصبر المؤمنين، حتى يوازَنوا بهم ويحرصوا على مثل ما هم عليه.
وفى جعل رجاء المؤمنين من الله، في قوله تعالى: (وَتَرْجونَ مِنَ اللَّهِ)، إشعار للمؤمنين بأنهم في جانب الله تعالى، وأن رجاءهم عنده، وهو يجيب رجاء المؤمن ودعاءه، ويؤيده بنصره: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِن عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم)، وليس للمشركين من يرجون إلا أن يكون أصناما لَا تضر ولا تنفع!.
وإذا كان الرجاء من الله، فهو رجاء من العليم بكل شيء، الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، وينصر من ينصره بحكمته، ولذا قال سبحانه: (وَكَانَ اللَّه عَلِيمًا حَكِيمًا) أي ثبت وتقرر أن العلم والحكمة من أسماء الله تعالى الحسنى،
وإن العليم الحكيم هو الذي أنزل القرآن مشتملا على شريعته، ليكون القسطاس المستقيم، والحكم العدل، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
يذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان، قال: كان أهل بيت منا، يقال لهم بنو أبيرق، ثلاثة: بشر وبشير ومبشر، وكان بشير منافقا، وقد كان طعام وسلاح لعمي رفاعة، كان قد ابتاعه فسُرِق منه، فقال: يا ابن أخي، قد عُدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مَشْربتنا (أي غرفتنا) وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتحسسنا وسألنا، فقيل لنا: إن بني أبيرَق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نراهم إلا على بعض طعامكم.. ويسترسل قتادة في القصة، فيذكر أن بني أبيرق اتهموا رجلا له صلاح وإسلام، وهو لبيد بن سهل، فغضب وهدد بالسيف... فذهب قتادة إلى النبي - ﷺ -، فقال: " سأنظر في ذلك "، فلما سمع بنو أبيرق، أتوا رجلا يقال له أسيد بن عروة، فكلموه في ذلك، فاجتمع بأناس، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا، أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، ويقول قتادة: فأتيت رسول الله - ﷺ -، فقال: " عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة "!. فرجعت فأخبرت عمي، فلم يلبث أن نزل القرآن: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، وقد كشف أمر بشير فلحق بالمشركين مرتدا! (١).
________
(١) رواه الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة النساء (٣٠٣٦) عن قتادة بن النعمان.
وهنا ثلاث إشارات بيانية:
الأولى - أن الله تعالى عبر عن القرآن بـ " الكتاب " للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مدون، باق إلى يوم القيامة.
الثانية - كلمة " بالحق "، والباء تدل على الملابسة والاتصال والمعية، فهو مع الحق، وبالحق، وناطق بالحق، ومشتمل عليه، ولا شيء في هذا الكتاب إلا ما هو حق، ولا يخالفه إلا ما هو باطل.
الثالثة - قوله تعالى (بمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، فإنها مقابلة لقوله تعالى: (إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ)، وهذه المقابلة تقتضي أن تكون كلمة (بِمَا أَرَاكَ اللَّه) لها معنى خاص، وهو النظر بنور الله تعالى في الأقضية التي يقضى فيها، فالقاضي لكي يكون قضاؤه عدلا لابد من أمرين: أحدهما - قانون عادل هو الحق من كل نواحيه، وهو هنا الكتاب الكريم، الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - والثاني - أن يكون فحصه للقضية ببصيرة نيرة نافذة، وقلب مشرق مدرك، وهذا يكون بنور الله، وهو للنبي ما عبر عنه بقوله تعالى: (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ).
ولكن نور الحق لَا يكون إلا إذا نظر القاضي فيما يعرض عليه نظرة غير متحيزة، ولا منحرفة، وهذا هو ما نهى الله عنه نبيه، والنهي لعموم أمته، ولذا قال تعالى:
(وَلا تَكُن للْخَائنينَ خَصيمًا) تبادر إلى النبي - ﷺ - في القصة السابقة أن من فيه صلاح وإسلام يكون علي الحق، فانحاز فكره ككل البشر، فالله سبحانه وتعالى نبهه، تعليما لأمته، ولكل قاض من بعده، إلى أنه لَا يجوز أن ينحاز فكره إلى أحد الخصمين، فعسى أن يكون هو الخائن، وغيره هو البريء، ولابد أن يسمع البينات، ويجعلها هي الحاكمة. والخصيم بمعنى المخاصم، كالجليس بمعنى
وسُمي هؤلاء خائنون؛ لأنهم في علم الله كانوا كذلك، وهو يخبر النبي - ﷺ - بخيانتهم، والله تعالى خير شاهد.
وهذا إرشاد لكل قاض أن ينظر إلى المتخاصمين نظرا غير متحيز، لكي يستمع إلى البينات منصفا مقدرا، ويجعل الأدلة توجهه إلى الحق، ولا يوجهها.
وإن على كل قاض أن يستغفر الله دائما في أقضيته؛ لأنه لَا يدري: لعله أصاب الباطل! والعصمة لله تعالى وحده، ولأنبيائه، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
الأمر في ظاهره للنبي - ﷺ -، وهو في عمومه لكل أمته، ولكل قاض يفصل بين الناس. وطلب الاستغفار دائم يوجهه الله تعالى إلى النبي، وإلى كل مؤمن تقي، لأن الاستغفار إنابة، وعبادة، وهي مطلوبة. وإذا كانت القصة قد ذكرت أن النبي - ﷺ - تبادر إلى ذهنه براءة خائن، فإن هذا ليس بذنب، ولكنه يوجب الاستغفار من الرسول، فإن علو مقامه يجعل مثل هذه التي لَا تعتبر ذنبا من الناس، موجبة للاستغفار، على حد قول العلماء: (حسنات الأبرار سيئات المقربين).
وفوق ذلك فإن طلب الاستغفار، مع ما فيه من القنوت والطاعة، حث لكل قاض يفصل بين الناس على الاستغفار في كل قضية، وقد بين سبحانه أن هذا الاستغفار الضارع يقبله الله تعالى؛ لأنه سبحانه قد ثبت واستقر له أن المغفرة بأقصى درجاتها، والرحمة بأوسع معانيها، صفتان له سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).
وقد أكد سبحانه اتَصافه تعالى بهاتين الصفتين بأربعة مؤكدات: أولها - (إنَّ) التي تفيد التوكيد، وثانيها - (كان) التي تفيد الاستمرار، وثالثها - صيغة المبالغة في غفور ورحيم، ورابعها - الجملة الاسمية.
اللهم لَا تجعلنا في جانب الخائنين والعصاة، واجعلنا مع الأبرار الأتقياء.
* * *
* * *
الكلام مستمر في نهي المؤمنين عن أن يدافعوا عن رجل يظهر غير ما يبطن، أو يرتكب أمرا، ويحمِّل غيره وزره، فهو يرتكب الشر مرتين، ويتحمل إثمين: إثم الارتكاب وإثم رمي الأبرياء، والتدليس ولبس الحق بالباطل، وكان النهي موجها إلى النبي - ﷺ -، ليبين وجوب الاحتراس على كل مؤمن، حتى لَا يقع في الدفاع عن الآثمين الخاطئين؛ لأنه إذا كان النبي - ﷺ -، وهو الذي ينزل عليه الوحي، إن اعتمد على نظره، قد يلبس الأمر عليه، فالاحتراس عن هذا أولى بكل مؤمن وأجدر، وقد قال سبحانه:
والاختيان، الذي هو مصدر (يَخْتَانونَ أَنفُسَهُمْ)، يُعَرِّفه الأصفهاني في مفرداته بأنه: " تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة "، وتحرك الشهوة لتحري الخيانة قصد إليها وَتَعَمُّد لها، وعمل على إحكامها. والخيانة والنفاف باب واحد، موضعهما من النفس واحد.
ومعنى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ): الذين يقصدون خيانة أنفسهم، ويتحرونها، ويحكمون إخفاء المستور من جرائمهم. وأضيفت الخيانة للنفس؛ لأن الذين يصنعون ذلك إنما يحدثون في الأمة ذعرا عاما، يعود ضرره على الجماعة، ويعود عليهم أنفسهم، إذ يعيشون في جماعة قد فسد أمرها، وارتابت في شئونها، وضَلَّ عن الناس معرفة الحق، وغاب عنهم لبُّه!! وكذلك لأن تلك الخيانة مغبتها على أنفسهم شديدة أمام الله تعالى، وسيحاسبهم عليها من لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولأن هؤلاء الخائنين الذين يتحرون الخيانة، إنما يحلون فطرهم السليمة عن الفطرة التي فطرهم الله عليها، فيصيب الفساد نفوسهم، وتنحل كل العُرَا فيها، وبذلك تضطرب، وتكون في بلبال مستمر:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) إذا كان الخائنون الذين تحروا الخيانة وقصدوها، وانحرفوا بفطرهم عن أصلها، ينالون العذاب في الدنيا بالحكم عليهم، وإعراض أهل الفضل عن معاونتهِم، فإنهم لَا ينالون حب الله تعالى، والمعنى الظاهر للنص: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ من كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) هو أن الله تعالى العلي الحكيم، الذي لَا تُرجى محبةَ سِواه، لَا يحب من كانت الخيانة وصفا
وقد أكد سبحانه نفي محبته لهؤلاء الذين أرْكسَت نفوسهم في الخيانة، ودنَّس الإثم نفوسهم، حتى أصبحوا لَا يعيشون إلا في آثام، بالجملة الاسمية المصدرة بحرف " إن " الدال على التوكيد.
وهنا إشارة معنوية: وهي أنه تعالى وصف الذين حرموا محبته بأنهم خوانون أثيمون؛ وذلك له معناه لأن اختيان النفس، وتعودها الخيانة يجرها إلى آثام كثيرة، فمن خان يسرق ويكذب، ويأكل أموال الناس بالباطل، ولا يتحرج عن إثم، فكأن الخيانة جاذبة معها كل الآثام!.
* * *
* * *
إن أولئك الخوانين الأثيمين لا تنالهم محبة الله تعالى، ولا رحمته ولا مغفرته، ومن شأنهم أن يكونوا بعداء عن الناس غير ملتقين بهم، فهم دائما يستخفون من الناس ليدبروا ما يدبرون، ولأنهم في جفوة مستمرة، ولا يحبون الناس ولا يألفونهم، ولا يحبون لقاءهم، وإذا لقوهم أظهروا غير ما يكتمون، وأبدوا غير ما يخفون!. فالخائن لمجتمعه وأمته يتسم بسمة تجمع عيوبا ثلاثة: هذه السمة هي الاستخفاء، وهذه العيوب هي الجفوة التي تحمله على ألا يظهر، وكتمانه أمره حتى لَا يكشف، وتدبيره السوء في استخفائه! والباعث على ذلك كله الأنانية الظالمة، والأثَرة القاطعة!.
والاستخفاء المبالغة في طلب الخفاء، والابتعاد، وذلك ليتسنى لهم تدبير ما يريدون، والله سبحانه معهم إذ يدبرون السوء، لذا قال سبحانه تعالت كلماته وجلت قدرته:
(وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) هؤلاء الذين يستخفون من الناس مجافين لهم، ولا يشعرون برقابة الله تعالى عليهم، والله مطلع على أقوالهم وأعمالهم، اطلاع من يصاحبهم في غدوهم ورواحهم، وهو معهم عندما يدبرون الأعمال في خفية من الناس والأقوال التي لا يرضي الله عنها. فالتبييت تدبير الأمر في البيات، أي الليل، وأطلق على كل ما يدبر بعيدا عن الناس، ويقول الزمخشري في معنى النص الكريم: " يدبرون ويزورون - وأصله أن يكون بالليل - ما لَا يرضي من القول... فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس؛ قلت: لما حدَّث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز ".
فالتبييت معناه التدبير في الخفاء مطلقا، سواء أكان تدبير قول يسترون به عملهم، ويزينون به مظهرهم، أم ترتيب عمل يخفونه، ويقومون به، فإن أعمال المنافقين جميعها تدبَّر بليل، وتنفذ بليل، حتى تظهر آثارها في الجماعة، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر القول فقط، فقال: " ما لَا يرضي من القول "، فلماذا ذكر القول وحده؛ لقد وجه الزمخشري سؤالا قريبا من هذا، وأجاب عنه، ونحن نقول: إنَّه ذكر القول وحده مقترنا بعدم رضا الله تعالى، لأن أقصى ما يتستر به المنافق قول مزخرف يضل، ولذلك بَيَّن النبي - ﷺ - أن عليم اللسان منافق القلب هو
وقد عبر سبحانه عن فعلهم وقولهم بأنه لَا يرضاه، للإشارة إلى مقته لهم، وحسابهم عليه. وإذا كان الله تعالى عليما بما لَا يرضى من القول علم من يصاحبهم عند التدبير والتبييت، فهو بعملهم عليم أيضا، وهو أيضا لَا يرضى عنه، ولذا قال سبحانه:
(وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) فإذا كان الله تعالى مصاحبهم في قولهم الذي لَا يرضيه، فهو محيط دائم بكل عملهم إحاطة الدائرة بقطرها، لَا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة منه. والتعبير عن علم الله تعالى لأعمالهم بالإحاطة، فيه إشارة إلى أمور ثلاثة: أولها - أن علمه كامل لَا ينقصه شيء، فهو علم إحاطة واستغراق. وثانيها - أن الله معاقب بقدر ما ارتكبوا. وثالثها - أن الله واضع أعمالهم في دائرة، فلا يمكن أن يصل إلى أهل الحق أذاهم؛ لأن الله محيط بهم وبما يعملون:
* * *
________
(١) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ. رواه أحمد: مسند العشرَة - أول مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
* * *
يستطيع أهل النفاق بحلو قولهم، وقدرتهم على تزوير الكلام وتحسينه، أن يجدوا لهم أنصارا من أهل الحق، يخدعون بمظهرهم، ولطف مداخلهم، فيظنون بهم الخير، ويندفعون للدفاع عنهم، والله سبحانه وتعالى يبين أن هذا الدفاع إن أجدى في الدنيا لهم، فهو جداء يؤدي إلى إيغالهم في الشر والفجور، وإذا كان ينجيهم من عذاب الدنيا، فلن ينجيهم من عذاب الآخرة، إذ لَا يكون العقاب إلا من علام الغيوب الذي لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والجدال عنهم في الدنيا أمام البشر، أما الجدال عنهم في الآخرة، فهو أمام الله تعالى العليم
وهنا أربع إشارات بيانية:
أولها - التنبيه إلى مجادلة المؤمنين عن المنافقين، ووقوعها في الماضي، وتوقعها في القابل، وذلك للإشارة إلى حسن ظن المؤمنين بالناس. وقد قرر سبحانه التنبيه إلى ذلك في قوله تعالى: (هَا أَنتُمْ هَؤلاءِ)، فتكررت هاء التنبيه، وذكر اسم الإشارة الذي هو تنبيه ثالث، وذلك التنبيه إلى الواقع والمتوقع للتنبيه إلى الاحتراس، ومراقبة أنفسهم عندما يفرطون في الثقة بمن ليس بها جديرا.
ثانيها - التعبير بالماضي في قوله تعالى (جَادَلْتُمْ) مع أن النهي منصب على المستقبل، لبيان تحقق وقوع المجادلة عن المنافقين مع توقع وقوعها، إذ النهي لا يكون إلا عن أمر محتمل الوقوع في المستقبل، والصيغة تتضمن اللوم على الواقع، والنهي عما يمكن أن يقع.
ثالثها - الإشارة إلى أن المجادلة في الحياة الدنيا، إنما سببها الجهل بالقلوب، وعدم تحري ما تنطوي عليه، وأن حالهم ستنجلي يوم القيامة، فإذا كانوا يخدعون أهل الدنيا، فالله سبحانه كاشفهم وخادعهم يوم القيامة.
رابعها - أن الله سبحانه وتعالى نبَّه إلى أن المجادلة عنهم نوع من المحاماة عن الرذيلة، والدفاع عنها، ولذا قال سبحانه:
(أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) ومعنى النص الكريم: إذا كانوا يحامون عنهم، ويجادلون عنهم في الدنيا، فسيلقون ربهم يوم القيامة غير راض عنهم ولا محب لهم، فلا يُرحمون في ذلك اليوم، ولا يُغفر لهم؛ لأنهم لم يتوبوا، واستغرقت نفوسهم الخطيئة، ولا منجاة لهم من العذاب، ولا مخاصم عنهم أمام الله!! اللهم ارحم أمتك من نفاق المنافقين واجعلنا من عبادك المخلصين.
* * *
* * *
في الآيات السابقة ذكر سبحانه أحوال المنافقين والذين يختانون أنفسهم، وأشار إلى الذين يرتكبون الشر، ويرمون به غيرهم، وما يجب أن يكون عليه القاضي المنصف الذي يرد الحقوق إلى أصحابها، وتكون عنده المقاسم الحقيقية للحق والباطل، وكل ذلك في الأحكام الدنيوية. وفي هذا النص يبين الله سبحانه مراتب العصاة أمام الله تعالى فذكر ثلاث مراتب: المرتبة الأولى مرتبة التوابين، والثانية مرتبة الذين لَا تتعدى آثامهم أنفسهم أو لَا يرمون بها غيرهم، والثالثة، وهي التي تنال أشد الجزاء الأخروى بعد الخزي الدنيوي، هي التي ترتكب الشر وترمي به غيرها. وقد بين الله سبحانه الرتبة الأولى بقوله تعالى:
ولا بد أن نذكر بإجمال عبارات في بعض الإشارات البيانية القرآنية: الأولى - عن التعبير بقوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا) فإن هذا التعبير يشير إلى أن نفسه لم تركس في الشر، ولم يستغرقها، بل إنه عمل عارض، ولذا كان التعبير (يَعْمَلْ)، وهذا في مقابل قوله في الطبقة الثانية: (يَكْسِبْ)، فإن الكسب كما تبين يشير إلى تدنس النفس، وارتكاسها في الشر، أما العمل ففي ظاهر الأمر إنه لَا يتجاوز الجوارح؛ ولذا كانت التوبة قريبة، وكان الاستغفار غير بعيد.
الثانية - أن التعبير عن المعاصي الشخصية التي لَا تتعدى صاحبها ابتداء بظلم النفس، فيه معان واضحة، فهي تفيد أن كل ما نهى الله عنه فلمصلحة العبد، فإن تجاوز حدود ما نهى الله عنه فقد وقع في ضرر مؤكد. وفيه تنبيه إلى أن المعاصي، سواء أكانت إيجابية كشرب الخمر، أم سلبية كترك الصلاة والصوم، مغبة وقوعها تكون على العبد ابتداء، ثم تكون على غيره من بعد.
وفى الحق أن كل ما نهى الله عنه، وما أمر به فهو لمصلحة الجماعة، ومخالفة أمر الله فيه ظلم للنفس وإساءة للمجتمع، بيد أن بعضه يكون أثره مباشرا، إما على الغير كالقتل والاعتداء بكل أنواعه، أو يكون أثره المباشر على شخص المرتكب، ثم يتعدى إلى المجتمع من وراء ذلك، حتى أن مَنْ ظَلَمَ النفس عده الله تعالى اعتداء على حقه تعالى، كالزنا وشرب الخمر، وكونه ظلما للنفس لا يمنع أنه اعتداء على حق الله تعالى وذلك للمآل والآثار، لَا بالمباشرة.
والاستغفار هو طلب المغفرة، وذلك يقتضي الإقلاع عن الذنب، والندم على ما كان منه، والالتجاء إلى الله تعالى فالاستغفار هو التوبة النصوح، ومن مقتضيات هذه التوبة أن يرد الحقوق إلى أصحابها، ويطلب العفو ممن أساء إليه؛ لأن حقوق العباد لَا تتحقق فيها التوبة إلا إذا ردت إلى أصحابها، أو كان العفو منهم.
وقوله تعالى: (يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا)، يفيد استجابة طلب الغفران إن تحققت شرائطه، ولم يصب النفس بدنس، فالمعنى إن استغفر وتاب وأناب استحق المغفرة، لأنه يعلم وصف الله تعالى لذاته العلية بأنه المتصف بصفة الغفران والرحمة، وكان من رحمته أن يقبل توبة التائب، ويعاقب العاصي المصر. ثم ذكر سبحانه المرتبة الثانية في المعاصي بقوله:
* * *
* * *
الكسب معناه طلب ما يرغبه الإنسان، ويطلق الكسب على ما يناله الإنسان من أمور الدنيا، وما تناله النفس من حظوظها أو ما تراه حظا لها، وقد ورد الكسب في القرآن بمعنى طلب الرزق، وورد بمعنى فعل الخير، وورد بمعنى فعل الإثم.
ولاحظنا في تعبيرات القرآن عن كسب الآثام أنها تقرن بما تدل على استمراء النفس للشر، وتأثرها به، فقد قال تعالى: (... أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ...)، أي تمنع من الخير بسبب ما كسبته من ذنوب، وقال تعالى: (... أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا...)، وقال تعالى: (... إِن الَّذِينَ
ومن وصل الشر في نفسه إلى هذا الحد، فإن ذلك الذي اكتسبه لَا يعود بالشر ابتداء إلا على نفسه، لأنه أفسد فطرتها، وحولها عن طريق الانتفاع بها إلى أركاسها في الشر. وخسارة الشرير في نفسه أكثر من خسارة الناس فيه، ولأنه يصير من الشُذَّاب الذين تلفظهم الجماعات الإنسانية، ولأن عذاب الله يستقبله، ولذا قال سبحانه مهددا بأنه عالم بما يرتكب، ولو أخفاه، حكيم، يضع لكل امرئ ما يستحق، فلا يتساوى عنده المسيء مع المحسن وهو وحده المتصف بأعلى درجات العلم والحكمة.
ويلاحظ في الفرق بين التعبير في الآية السابقة وهذه الآية أمران: أولهما - أنه عبر في الأولى عن مرتكب الشرب " يعمل " وقد بينا ما فهمناه من ذلك، وفي هذه الآية عبر بـ " يكسب "، للإشارة التي تدنس النفس بالشر، واسوداد القلب به، حتى اربدَّ، وأصبح لَا نور فيه.
ثانيهما - أنه لم يعبر عن الشر الذي وقع في الأولى بالإثم، بل عبر بالسوء أو الظلم للنفس، وهنا عبر بالإثم المبطئ المبعد عن الله تعالى، لأن الشخص في الحال السابقة قريب من الخير بالتوبة القريبة، أما هنا فحاله حال من تبطؤ توبته. وقد قال سبحانه في المرتبة الكبرى من الشر:
* * *
* * *
الخطأ هو العدول عن الجهة، وقد قال في تفسيره الأصفهاني في مفرداته: (الخطأ العدول عن الجهة، وذلك أضرب: أحدها - أن يريد غير ما تَحسُن إرادته، وهو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، يقال خطئ
ومنها يتبين أن الخطأ الكامل ما يكون انحرافا في الإرادة، بأن يريد ما لا تصح إرادته، ويأثم بهذه الإرادة، ومن ذلك كلمة " خطيئة " فإنها تستعمل في كثير من آي القرآن فيمن يرتكب الشر، منحرف النفس، ، حتى أنه يصدر عنه من غير تكلف، ولا معاناة، ومن ذلك قوله تعالى: (بَلَى من كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بهِ خَطِيئَتُة...)، وقوله تعالى أيضا: (... وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا (٢٤) مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا...)، وكانت الخاطئة هي الذنب العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: (... وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ).
وعلى ضوء هذه المعاني نقول: إن الخطيئة هنا في قوله تعالى: (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً) هي الذنب العظيم، الذي تمرست به النفس، حتى صار وصفا من أوصافها، يصدر عنها من غير قصد، بل هو انحراف النفس التي أحاطت بها ظلمات الشر، والإثم هو الذنب المبطئ عن الاتجاه إلى الله بالاستغفار.
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ". [البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة - أجر الحاكم إذا اجتهد (٧٣٥٢)، ومسلم: الأقضية - أجر الحاكم. (١٧١٦)،
وإن هذه الجريمة تتضمن هي الأخرى في ثناياها جريمتين: إحداهما - البهتان، وهو الكذب الذي لَا يتصور عند أهل الخير وقوعه، والثانية - إثم واضح، وهو إلقاء التبعة على الغير، إذ إنه كذب حير البريء وأذْهله.
وإن هؤلاء، مع هذه الذنوب التي يرتكبونها، منافقون يظهرون غير ما يبطنون، وهم شر الجماعة الذين يسعون بالفساد في الأرض، وأن السعاية التي يرتكبونها بنفاقهم توجب قطعهم عن الأمة، ولقد أوجب بعض الفقهاء عقابهم. وإن هؤلاء يفسدون الحكام على شعوبهم، ويسعون في الأرض فسادا بجرمهم، وإن الله يحذر نبيه من أمثالهم، وهو قدوة حسنة لكل الحكام.
* * *
* * *
الضمير في قوله تعالى: (لَهَمَّت طَائِفَةٌ منْهُمْ) يعود على ما يفهم ضمنا من حال هؤلاء الذين أُرِكست نفوسهم في الخطايا، حتى أصبحوا يقدمون عليها من غير قصد خاص إليها، كأن ذلك حال من أحوالهم، فهم منافقون يبتغون الفتنة في الذين آمنوا، وأول فتنة وأقوى فتنة هي التي تجيء في الحكام، فتبعد ما بينهم وبين الأخيار من الأمة، ويتقرب بها الأشرار الذين يرتكبون الشر، ويرمون به الأبرياء. ومعنى النص الكريم: إن أولئك المنافقين العصاة جريئون على رمي الأبرياء وتضليل الحكام. ولولا أن الله تعالى مَنَّ عليك بفضله العميم، ورحمته الواسعة، لهمت طائفة منهم أن يجعلوك في ضلال بالنسبة لمن تحكمهم وتهديهم، فهم لم يهموا بذلك؛ لأنهم يعلمون فضل الله تعالى عليه بالوحي الذي يبين له الحق، ورحمته الواسعة التي يمن بها عليه وعلى قومه، فلا يكون منهم ما يعنتهم، كما قال تعالى في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام: (... عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحِيمٌ)
وإنه يعلم القرآن، وبالحكمة التي أنزلها على قلبه، قد أنار الله بصيرته، فعلمه علما كثيرا لم يكن يعلمه، وكان فضله بهذه الرسالة، وبهذا القرآن، وبهذه الحكمة، وبهذا العلم النوراني الذي علمه إياه، عظيما لَا حدود لعظمته. وإن هؤلاء الذين يَسعَوْن في الأرض فسادا، كانوا يحاولون أن يضلوا النبي، لولا كتاب الله الذي أنزل عليه، وحكمته التي أوحى بها إليه، وما علمه من علم، وأن أمثالهم في كل زمان، وهم أجرأ على الحكام؛ إذ لَا هداية من السماء تنزل على الحاكمين، فلا حواجز تحجزهم عن السعاية بالشر، فعلى الحكام أن يأخذوا حذرهم منهم، ولا يجعلوا منهم ألسنة تحكي حال غيرهم، بل عليهم أن يقطعوها، والله من ورائهم محيط.
* * *
* * *
في آخر الآيات السابقة، أشار سبحانه إلى أن هناك طائفة تدبر التدابير للإخلال والإضرار، وأن الله تعالى مبطل مكرهم وتدبيرهم الشر، وفي هذا النص الكريم يشير إلى أن الشر لَا يدبر إلا في خفاء، ولا يكون في إعلان، وأن الناس يعلنون خيرهم ويخفون شرهم. والإسرار بمقتضى الطبيعة البشرية لَا يكون إلا فيما يُخشى إعلانه، ويتقى اطلاع الناس عليه، ولكن مع ذلك قد يكون من الخير الإسرار في بعض الأمور، ولذا قال تعالى:
والأمر الثاني من التناجي المحمود: الأمر بالمعروف في لغة القرآن الكريم معناها ما يقره العقل ولا يستنكره، ويقوي الروابط الاجتماعية، ويقيمها على دعائم من الفضيلة ورعاية الحقوق والواجبات، فالمعروف لفظ يعم كل أعمال البر، وخصوصا الاجتماعية منها: وإن المعروف مقابل المنكر. من حيث معناه، ومن حيث حكمه. فالمنكر هو كل ما يضر الإنسان والمجتمع، وهو منهي عنه، والمعروف كل ما يصلح الإنسان والمجتمع، وهو مأمور به مطلوب. فالتناجي لتدبير خطة إصلاحية، ومبادئ اجتماعية، وقيام بحق الله تعالى في إقامة مجتمع فاضل، هو من أفضل الفضائل. وإن المعروف يجب القيام به حيثما لاحت فرصته، وقد قال في ذلك الماوردي في كتابه القيم " أدب الدنيا والدين ": " ينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف
________
(١) هذا الحديث رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند جابر بن عبد الله (١٤٢٢٦)، والدارمي: البيوع - من أحيا أرضا ميتة فهي له (٢٦٠٧). عن جابر رضي الله عنه.
وتأتي رواية مسلم: المساقاة (١٥٥٢) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ ". قلت: فليس المقصود هنا بالعافية القوة البدنية، كما سيأتي بعد. ولا عطر بعد عروس.
(٢) رواه البخاري: الأدب - كل معروف صدقة (٦٠٢١) عن جابر رضي الله عنه، ومسلم: الزكاة - بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (١٠٠٥) عن حذيفة رضي الله عنه.
والأمر الثالث الذي يصح التناجي فيه: أمر الإصلاح بين الناس، سوإء كانوا جماعات وأمما، أم كانوا آحادا وأفرادا. والإصلاح بين الناس فريضة اجتماعية تجب على أولي العزم من الرجال، وهي ضريبة ذي الجاه والمنزلة، فإذا كان بين اثنين خصام وأزاله، فقد قرب الله بين قلبين، وإن القضاء والفصل في الخصومات يورث في القلوب إحنا، بينما الصلح بينهم يبقي المودة. ولقد قال في ذلك الإمام عمر - رضي الله عنه - في كتابه إلى أبي موسى الأشعري " رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن القضاء يورث بينهم الضغائن "، ولقد قال النبي - ﷺ -: " من أصلح بين اثنين أعطاه الله تعالى بكل كلمة عتق رقبة " (١)، وقال عليه الصلاة والسلام لأبى أيوب الأنصاري: " ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله؛ تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا " (٢).
والإصلاح بين الجماعات المتناحرة أوفر خيرا من إصلاح الآحاد، والله
تعالى يقول: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠). فكرر سبحانه الأمر بالإصلاح قبل القتال وبعده، وفي أثنائه.
وإن الذي أذهب النخوة من المسلمين قتال كبرائهم، وعدم وجود من يصلح ذات البين بينهم، حتى ترامى بعضهم في أحضان أعدائه وأعداء الله، وإثم ذلك على من لم يسع بالصلح، ورأب الكَلْم.
________
(١) ذكره مع ما يليه القرطبي في التفسيرج ٥، ص ٣٨٢. عن أنس بن مالك. وذكر القرطبي أخبارا أخرى ثم قال: ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضّل النسفيّ في كتاب اللؤْلُئيّات له، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه.
(٢) المرجع السابق.
ومن أجل هذا كان من يفعل الخير بالتناجي والتعاون على إصلاح الجماعة، بإفشاء البر والإصلاح بين الناس، وإقامة المعروف، وإبعاد المنكر - من يفعل ذلك طالبا مرضاة الله تعالى ولا يبغي سواه، فإن الله تعالى سيؤتيه جزاء عظيما بالغا أقصى درجاث العظمة. وسوف هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل.
وعلى الناس من بعد أن يطلبوا مرضاة الله بقوة إيمان في كل ما يتجهون إليه من إصلاح شئون الجماعة، فلا بركة في عمل، مهما يكن صالحا في ذاته، إلا إذا طلب به إرضاء الله، فالقوانين والثظم التعاونية والاشتراكية إذا لم يقصد بها وجه الله لَا بركة فيها. فعلينا أن نتجه إلى الله في كل ما نعمل:
* * *
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
(٢) سبق تخريج ما في معناها من حديث صحيح.
* * *
إن الكثير الذي يتناجى به الآثمون هو في أكثر أحواله يكون منشؤه أنهم لا يندمجون بإحساسهم مع المؤمنين، فهم في جانب بإحساسهم وشعورهم، والرسول والمؤمنون في جانب آخر، وهم في الجانب الذي اختاروه يجعلون السلطان عليهم لجماعة أخرى، كأولئك المنافقين الذين كانوا يجعلون نصرهم في أمرهم لليهود أو للمشركين، وهذا معنى قوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)، والشقاق أو المشاقة، وهو أن يكون في شق، والآخرون في شق، أي يكون في جانب بإحساسه وولائه، والرسول والمؤمنون في جانب آخر بإيمانهم وولائهم لله تعالى، وذلك كله بعد أن يتبين له الحق وقامت أدلة الهداية.
وقد قال الإمام الطبري في تفسير هذا النص: " ومن يباين الرسول من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله؛ لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجه.
(نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى): يجعل ناصره ما استنصره، واستعان به "، ونرى من هذا أنه يجعل الشاقين كافرين، وذلك حق، ولكننا نخصهم بالمنافقين من الكفار؛ لأنهم الذين كانوا مع إظهارهم الإسلام يكونون في شق، والمؤمنون والرسول معهم في جانب الحق، وقد ذكر سبحانه العقوبة المترتبة على ذلك فقال:
(وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أصل الصلى إيقاد النار، وصلى بالنار بلى بها، وصلى النار دخل فيها، وأصلاه فيها أدخله فيها، فمعنى قوله تعالى:
(وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أدخلناه جهنم يشوى فيها كما تشوى الشاة، وأنها باقية، وهو يخلد فيها لَا يخرج منها يوم القيامة أبدا. كذا قال تعالى: (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أي أنها مصيره الدائم الباقي ولا مصير له سوأه؛ لأنه كافر معاند للحق بعد أن تبينت له كل الأدلة المثبتة، وما أشد ذلك المصير سوءا وقبحا، وهو جزاء لما كانوا يعملون.
وقبل أن نختم الكلام في ذلك النص نقول: إن بعض علماء أصول الفقه قالوا إن هذه الآية دليل على أن الإجماع حجة وينسبون ذلك الاستدلال إلى الشافعي، ولم نجد فيما كتبه الإمام الجليل ما يدل على أنه استشهد بها في بيان حجية الإجماع، ولا نجد روح الآية ومعناها يدل على ذلك لأنها كانت في قوم منافقين كافرين، شاقوا الرسول والمؤمنين. وقد رد الغزالي في كتاب " المستصفى " القول بأنها دليل على حجية الإجماع، وكان كلامه حقا، والله سبحانه وتعالى أعلم، اللهم لَا تجعل ولايتنا لغيرك واجعل ولايتنا لك ولرسولك وللمؤمنين.
* * *
* * *
كانت الآية السابقة على هذه النصوص مبينة مصير أولئك الذين يكونون في شق، والنبي وأصحابه في شِق آخر، يوالون أعداء المسلمين، ويناصرونهم، ويتخذون النصرة منهم، لَا يرجون خيرا إلا منهم، ولا يقدمون الولاء لغيرهم، وفى هذا النص الكريم يفتح الله تعالى باب التوبة والغفران لهم، حتى لَا يسرفوا على أنفسهم، ويقنطوا من رحمة الله تعالى، وقد نهى سبحانه وتعالى عن ذلك فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وفى نص الآية التي نتصدى للكلام في معناها، يبين سبحانه أن كل ذنب قابل للغفران عند التوبة إلا أن يكون مشركا مصرا على الشرك:
والله تعالى لَا يغفر الشرك، وكان تعبيره سبحانه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ) للإشارة إلى أنه لَا يغفر ذات الشرك، ولكن يغفر للمشرك إذا خلعه وتاب عنه، ودخل فيما يدعو إليه الرسل، كما قال تعالى: (قُل لِلَّذِينَ كفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ).
ولذلك أضيف نفي الغفران إلى الشرك لَا إلى من تلبس به، فإن الغفران يلحقه إذا خلعه.
وما دون الشرك وإنكار الرسالة من العاصي، يكون تحت غفران الله سبحانه وتعالى، ويتعلق بمشيئته، ومشيئته سبحانه قد أشار إلى بعض ما تتعلق به من أعمال العباد، ومنها التوبة، فإن التوبة النصوح تخلع المؤمن من ذل المعصية إلى عزة القبول، ومنها كثرة الحسنات وقلة السيئات، فان الله تعالى يقول: (... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...). فمن رجحت كفة الحسنات في ميزانه يوم القيامة، قد وعدنا رب العالمين بأنه يغفر له، ومشيئة الله تعالى لا حدود لها، ولكن منها ما بينه.
وقد قالوا في سبب نزول هذه الآية: إنه جاء شيخ من العرب إلى النبي - ﷺ -، فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله تعالى ولا مكابرة له، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا، وإني لنادم مستغفر، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت هذه الآية (١).
________
(١) أخرجه الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما في تفسير الآلوسي، وذكره القرطبي في التفسيرج ٥، ص هـ ٣٨ عن الضحاك.
(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا) قد يسأل سائل: إذا كانت التوبة تجبُّ ما قبلها، والإيمان يجبّ ما قبله، فإذا انخلع الشرك، وحلت محله عقيدة الوحدانية، وغفر الله ما تقدم من الشرك، كما ورد النص الذي تلوناه، فلماذا يفرق بين الشرك وغيره من المعاصي؟ والجواب عن ذلك أن الشرك إذا سكن النفس واستقر فيها، كان الخروج منه صعبا وعسيرا، ولذا قال سبحانه: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا).
والضلال هو السير في غير الطريق الموصل، فالضال في بادية يسير في غير طريق النجاة، وكلما بعد عن الطريق المستقيم أوْغَل في الضلال، والمشرك الذي تدرنت نفسه بالشرك قد ضل عن طريق النجاة، وكلما استمر في سيره كان مستمرا في الضلال، فمن يشرك بالله غيره، فَيدَّعي أن له شريكا في الخلق والتكوين، أو في الوجود مما يماثله ذاتا أو صفات، أو يدعي أنه يستحق العبادة معه، فقد سار في طريق الشر سيرا بعيدا، ومن ضل سيجد كلما سار أبوابا من الشر، فمن كان في بحبوحة الإيمان قريب الرجوع، وتكون له حسنات بجوار السيئات، فيكون باب الغفران مفتوحا، أما من أشرك بالله، فقد كان في معاص مستمرة، وليس له من الحسنات ما يرجح كفة الميزان؛ لأن الشرك يقتل الحسنات قتلا، فلا تقبل فيه طاعة.
والشرك هنا هو نقيض الوحدانية، وهناك شرك خفي، وهو أنه يرائي في عبادته، كما قال النبي - ﷺ -: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (١)!.
________
(١) رواه أحمد عن شداد بن أوس، وقد سبق تخريجه.
وقد بين سبحانه صورا من ضلال المشركين، وهي:
(١) عبادة من لَا يتصور عبادته عاقل مدرك. إدراكا خاليا من التأثر بالباطل.
(٢) ومنها خضوعهم المطلق للشيطان.
(٣) ومنها توهم التقرب بما لَا يتصور عقلا أنه مقرب، كتقطيع آذان الإبل والبقر والغنم وتغيير خلق الله تعالى فيها، ولذلك قال تعالى:
* * *
* * *
" إن " هنا هي النافية، والدعاء هنا العبادة، والالتجاء لإنقاذه من الهلاك أو المرض أو الكوارث بشكل عام. والمعنى: لَا يتجهون في عبادتهم وضراعتهم بعد الله سبحانه ذي الجلال والإكرام إلا إلى إناث قد استبدلوهن بعبادة الله. فهم قد تركوا عبادة القوي القادر القاهر الذي هو فوق كل شيء، إلى عبادة العاجز الذي لَا يستطيع حماية نفسه ورفع الضر عنه! فالعبارة تفيد بمرماها أنهم تركوا عبادة من يحميهم ويكلؤهم إلى من لَا يستطيع حماية نفسه.
ولكن لماذا عبر عن الأوثان التي كانوا يعبدونها بالإناث؟ قد ذكر العلماء لذلك ثلاثة تعليلات مختلفة: أولها - أن العرب كانت عندهم أوثان تتسمى بأسماء إناث، كاللات والعزَّى ومناة؛ وعن الحسن البصري، أنه لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه: أنثى بني فلان، وثانيها - أنهم كانوا يقولون عن أصنانهم: بنات الله، تعالى الله عما يقولون. وثالثها - ما قرره الأصفهاني من أن المراد جماداتهم التي كانوا يعبدونها، فقال: " لما كانت معبوداتهم من جملة الجمادات التي هي منفعلة، لَا فاعلة، سماها الله تعالى
وخلاصة هذه التعليلات أن الله تعالى يبين ضلال الشرك بأن العابد فيه لا يعبد إلا ما هو كالإناث، يحتاج إلى من يحميه ولا يحمي أحدا، ويترك عبادة الله تعالى القهار القادر على كل شيء. الذي لَا يوجد ذو قوة في هذا الوجود إلا كان يستمد قوته منه سبحانه.
وإن الذي يدفعهم إلى ذلك هو وسوسة الشييطان الذي كان سلطانه عليهم كسلطان المعبود الذي يعبد! ولذلك يقول تعالى:
(وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا) " المريد " على وزن فعيل من الفعل (مرد)، وهذا الفعل يطلق بعدة إطلاقات، منها أن (مرد)، معناها مَرَن على الشر، ومن ذلك قوله تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، ومنها أنه من يخرج على الطاعة، ومن ذلك (مارد، ومتمرد)، ويطلق على من ظهر شره، وتجرد من الخير، ومن هذا (شجرة مرداء) إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها. وإن الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس ويدفعها إلى الشر، فيه كل هذه الأوصاف، فهو قد تعوَّد الشر، وهو قد عتا، وهو قد خرج على الطاعة لله تعالى، وهو قد تجرد من كل خير، فيكون المعنى على هذا: إنهم يدعون، أي يعبدون، في الواقع شيطانا قد عتا، وتجرد من الخير، وتعود الشر، فلا يكون منه إلا شر، وإذا كان هؤلاء يلجأون إليه في دعائهم، وكأنهم يعبدونه، إذ يعبدون الأوثان التي زينها لهم، فهم في أبعد الضلال، ويسلكون طرقا من الشر متعددة! وقد ذكر سبحانه ما يفعله الشييطان بعقول هؤلاء، فقال تعالى:
* * *
* * *
أي إن الله سبحانه وتعالى طرده من رحمته، وأخرجه من جنته، كما عتا وتمرد وخرج عن طاعته، فلم يسجد لآدم، وقد أمره الله تعالى بالسجود له، فلما طرده الله من ظلال جناته بسبب عصيانه بالنسبة لآدم، وجعل عمله في هذا الوجود مصادمة الخير، وجذب
اللهم جنبنا وسوسة الشيطان وتزيينه، واجعلنا معك، ومع القرآن، ومع الرسول، ومع المؤمنين.
* * *
(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (١٢٠) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (١٢٢)
* * *
(وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ) والبتك معناه القطع، وقد اختص بقطع أعضاء الجسم أو الشعر، والمراد بالقطع هنا ما كانوا يفعلونه، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام، أو يشقونها شقا واسعا، ويتركون الحمل عليها، ويفعلون ذلك كأنه أمرٌ تكليفي مطلوب منهم تقربا للأوثان، وما كان ذلك الأمر إلا من الشيطان الذي زين لهم ذلك فاتبعوه، فهو كالآمر لهم الذي يجعل ما ليس بعبادة أصلا عبادة، وإن ذلك تشويه لما خلق الله سبحانه وتعالى. يروى في ذلك أن أبا الأحوص من الصحابة أتى النبي - ﷺ -، وكان رث الهيئة فقال له النبي - ﷺ -: " هل لك من مال؟ "
(وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرنَّ خَلْقَ اللَّهِ) أي أنه يزين لهم الشر، فيغيرون خلق الله تعالى بتشويه الأجسام بالخصاء، وفقء الأعين، والوشم، وتغيير الفطرة بتحويلها إلى أوهام.
ولقد قال النبي - ﷺ - عن ربه: " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، فحرّمت عليهم ما أحللت، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وأمرتهم أن يغيروا خلقي " (٣). فتغيير الخلق يشمل التغيير المادي والمعنوي، وكان كل ذلك خضوعا لأوامر الشيطان. فكانوا بهذا أولياءه.
(وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا) ومن يوالي الشيطان فيطيعه مع أنه متمرد عن الحق، داع إلى الشر، ويترك الحق وأمر الله، فإنه بهذا يخسر خسرانا واضحا يخسر الحق فلا يتبعه، ويرتكب الشر، ويترك المعقول إلى المرذول، ويمسخ فطرة الله تعالى، وتنحرف نفسه، ويلتوي تفكيره، وتشوه إنسانيته، وذلك خزي في الدنيا ووراءه عذاب في الآخرة. وأي خسارة أعظم من هذه الخسارة وأوضح منها.
* * *
________
(١) رواه: النسائي: الزينة (٥٢٢٣) وأحمد: مسند الشاميين - حديث أبي الأحوص عن أبيه (١٦٧٨٠).
(٢) تتمة الرواية السابقة كما في مسند أحمد: مسند المكيين - حديث مالك بن نضلة عن أبيه (١٥٤٥٧).
(٣) جزء من حديث طويل رواه مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها - الصفات التي يعرف بها في الدنيا (٢٨٦٥).
* * *
صور الله سبحانه وتعالى حال إغراء الشيطان بأنه عمل عملين، لَا يكون فيهما أي نفع عاجل أو آجل، فهو أولاً يسرف في وعدهم بمتع لَا حد لها، بأن يصور لهم أن فيما يفعلون من شر متعا كثيرة، ونفعا كبيرا، وليس لذلك أي أثر. وثانيهما - أنه يجعل النفس تتمنى ما لَا يعقل ويكون بعيد الوقوع. ومن وراء تلك الأماني تنفذ إلى النفس الأوهام فتسيطر عليها. وما كان ذلك الوعد، وإثارة الأمنيات إلا الغرور والخيبة في ذاتها.
* * *
* * *
أولئك الذين يعطون ولايتهم للشيطان، ويخسرون فطرتهم السليمة، ونفوسهم المستقيمة، وعقولهم المدركة، تحت سلطان الأماني الكاذبة والأوهام الخادعة، لَا يكون لهم مأوى يوم القيامة غير جهنم. ولا يجدون ملجأ دونها يلجأون إليه، فلا مفر منها ولا مهرب، وذلك جزاء إضرارهم لفطرتهم وانحرافهم عن الجادة، ويرميهم بغرور الشيطان، وإن ذلك يتبعه الأذى لبني الإنسان، وتركهم عبادة الديان، والإعراض عن الحق، إذا جاءهم به رسل الله تعالى، وأنهم لَا معدل لهم عنها ولا مهرب، وهذا معنى: (وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) أي معدلا ومهربا، من حاص يحيص عدل وهرب.
ولقد بين الله تعالى في مقابل ذلك جزاء المتقين. فإنه لَا يستوي الذين
يعلمون والذين لَا يعلمون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى:
* * *
* * *
إذا كان الشيطان يَعِد أولياءه بالأماني الكاذبة، ويدفعهم إلى أوهام لَا أصل لها، فالله تعالى قد وعد المؤمنين وعدا حقا، وإذا كان المشركون قد رأوا مآلهم جهنم لَا يجدون عنها معدلا، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأولئك يستحقون هذا، أولا - بإيمانهم الصادق، وانفكاكهم عن حبائل الشيطان، وبعدهم عن غروره وخديعته، وثانيا - بأعمالهم الطيبة الصالحة المبنية على أسباب
وإن ذلك الجزاء اتصف بأمور ثلاثة:
أولها - أنه نعيم مادي فهو جنات وحدائق فيها كل ما تشتهيه الأنفس.
وثانيها - أن فيها نعيما معنويا تلذ به الأعين، وتنشرح له الصدور، وهو أن الأنهار تجري من تحت قصور، فتريهم منظرا بهيجا يسر الناظرين إليه.
وثالثها - أنها خالدة لَا تنقطع ولا تزول، ولا يعرض لها تغيير ولا تبديل.
وهناك ما هو أغلى من كل هذا، وهو رضوان الله تعالى.
وإذا كان الشيطان قد غر أولياءه فقد صدق الله تعالى أولياءه، فقال: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) وعد الله تعالى وعدا، وحقه حقا، فهو وعيد ثابت لَا يقبل تغييرا ولا تبديلا، إذ هو وعد ثابت صادق لأنه وعد الله تعالى، ولا يوجد أصدق قولا من الله تعالى، فالاستفهام في قوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَق مِنَ اللَّهِ قِيلًا) للنفي، والمعنى لَا يوجد في هذا مَنْ أصدق من الله قولا، فقيل معناها قول مؤكد لَا ريب، وصدق وعد الله تعالى، لأنه من ذي الجلال والإكرام المهيمن على كل شيء، فلا يتصور أن يكون من قوله سبحانه غير الحق والصدق، وفوق ذلك هو وحده القادر على تنفيذ ما وعد به.
وهذا في مقابل تغرير الشيطان بالأوهام والوعود الكاذبة؛ لأنه عاجز عجزا مطلقا، والله تعالى هو القادر قدرة مطلقة، اللهم اجعلنا ممن يصدق فيهم وعدك ولا يصدق فيهم وعيدك، وتب علينا إنك أنت التواءب الرحيم.
* * *
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يلقي بالأماني الباطلة في نفوس الذين يوسوس لهم بالشر، فيجعلهم يتمنون الخير في غير موضعه، ويقومون بأعمال يرجون بها نفعا ولا نفع فيها، فليس الخير عندهم بعمل صالح يقومون به، ولكنهم يتمنون المثوبة فيما لَا مثوبة فيه، ويرجون الخير من غير أن يتخذوا أسبابه، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الأمور ليست بالتمني، ولكن بالعمل، ومن يعمل سوءا يجز به، ومن يعمل صالحا ينل جزاءه، فقال سبحانه:
وقد يكون في هذا الوجه نظر؛ لأنه يضع أهل الكتاب في موضع المؤمنين في الاحتجاج، مع أن كلام أهل الإيمان هو الحق الذي لَا شك فيه، وفيه الإيمان بالكتب السابقة، مع الكتاب الكريم.
والوجه الثاني أن يكون الخطاب لمشركي العرب. ويكون في الكلام التفات فبعد أنه كان يتكلم عنهم بضمير الغائب (٢)، التفت وخاطبهم بضمير الخطاب تنبيها لهم وبيانا للحق، وبيان أن العمل هو الذي يقدم صاحبه ويؤخره، ويزكي هذا الوجه ما روي عن مجاهد شيخ مفسري التابعين فقد قال: " قالت العرب: لن نبعث، ولن نعذب، وقال اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم "، فكانت هذه الآية (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) ردا على هذه الأوهام.
________
(١) المقصود بالضمير، أي المستتر وهو اسم ليس.
(٢) أي فيما سبق من الآيات البينات قبل هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) فإلحاق معنى قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) بما جرى ذكره قبل، أَحق وأولى من ادعاء تأويل لَا دلالة عليه من التنزيل ولا أثر عن الرسول - ﷺ -، ولا إجماع من أهل التأويل. وإنما نختار ما اختاره ابن جرير، لما ساقه من دليل.
وقوله تعالى: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ). ما هو الجزاء؛ أهو الدنيوي أم الأخروي؟. قال بعض العلماء إنه الجزاء الدنيوي، ويستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام - فيما رواه عطاء - لأبى بكر: يا أبا بكر، إنك تمرض، وإنك تحزن، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك (١)، وكان هذا تفسيرا للنص. وقال آخرون: إن المراد الجزاء الأخروي، وهو المناسب للنص، وللآيات السابقة، والجزاء القرآني دائما جزاء أخروي، والحق هو القول الأخير، أن الجزاء هو الأخروي، والدنيوي إن كانت حكمة الله تعالى في جزاء دنيوي كالتشريد والذلة، والهزيمة في الحروب.
وقوله تعالى: (وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) أي أن الشيطان الذي كان يوسوس لهم يختفي سلطانه ولا يكون له ولاء لهم، لَا يوادّهم ولا يحبهم، ولا يناصرهم، كما قال تعالى عنه وعنهم يوم القيامة: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ
________
(١) عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَظُنُّهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الصَّلاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: " يَرْحَمُكَ اللهُ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ أَلَسْتَ (١)... " قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَإِنَّ ذَاكَ بِذَاكَ ". [رواه أحمد في مسند العشرة: مسند أبي بكر (٧٠)]. وروى مسلم في صحيحه: البر والصلة والآداب - ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (٢٥٧٤).
هذا جزاء أهل الشر، أما جزاء أهل الخير فقد ذكره سبحانه وتعالى بقوله:
* * *
* * *
وهنا يذكر سبحانه وتعالى جزاء الذين يعملون عملا صالحا، فيعينه، ولا يتركه مجملا، فقد ذكر في الآية السابقة، جزاء الشر به ولم يبينه، ولكنه ذكر أنه على قدر العمل من غير أن يبين صنف الجزاء. والعبرة في ذلك هو المساواة بين الجزاء والعمل، وأنه بهذا لَا يظلم لأن الجزاء على قدر العمل، فالجريمة والعقاب متساويان.
وهنا ملاحظتان، إحداهما أن الله تعالى يقول: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ) أي أنه يعمل بعض الصالحات؛ وذلك لأن الإنسان لَا يستطيع أن يعمل كل الصالحات، بل يستطيع أن يعمل بعضها؛ لأن طاقته النفسية والبدنية لَا تمكِّنه من عمل كل الخير، وكل يعمل على قدر طاقته من غير تقصير، والله تعالى يغفر القصور، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان يطلب من العبادة ما يطيق من غير شُقَّة ولذلك لم يطالب النبي - ﷺ - بأقصى الغاية من العبادة، بل قال: " سددوا وقاربوا " (١).
والملاحظة الثانية: أنه ذكر الأنثى في قوله تعالى:
(مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) و (من) هنا بيانية، فهي بيان لمن في قوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ) والأحكام الشرعية كلها تشمل النساء والرجال، إلا ما يقوم الدليل فيه على أن أحد الصنفين مختص بحكم؛ لأنه يكون ملائما لطبيعته، وإن ذكر الإناث
________
(١) جزء من حديث متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد اشترط لاستحقاق الأعمال الصالحة أن يكون من يعملها متصفا بالإيمان، فإن الجزاء من الله تعالى ويجب أن يكون العمل قد قصد به وجهه وحده. فالثواب ليس على مجرد العمل، بل على النية فيه، وقصد الخير، وذلك لا يكون إلا إذا قصد به وجه الله تعالى.
وقد أكد سبحانه وتعالى الجزاء بقوله:
(وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) أي لَا ينقصون من عملهم الصالح شيئا، ولو كان شيئا صغيرا بقدر النقير، وهو العلامة التي تكون في ظهر النواة، فتظهر كثقب صغير، وتسمى نُقْرة كأنها حصلت بمنقار طائر صغير، ويضرب العرب بها المثل في القلَّة.
وإن مثل هذا الجزاء لَا يستحقه العبد إلا بفضل من الله تعالى بدليل أنه يقبل بعض الصالحات ويدخل الجنة عليها، ولا ينقص شيئا فهو يفيض بالثواب، ولا ينقص من عمل الخير.
وقد تساءل الزمخشري لماذا ذكر عدم الظلم ولم يذكره في عمل السوء؟ وأجاب عن ذلك بأن عدم الظلم ملاحظ هناك بذكره هنا. وفي الحق إن عدم الظلم ملاحظ هناك من النص ذاته، فقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى قال: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) وهذا فيه النص على أن الجزاء بقدر العمل، ومؤدى هذا ألا يظلم، وكان الجزاء عمل الغير أكثر منه من أن ينقصوا، أما في
* * *
* * *
والاستفهام هنا بمعنى النفي، فالمعنى لَا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن، والنفي هنا هو نفي الحسن، ولكن المراد هو الحق، والمعنى لَا أحد يؤمن بحق إلا من أسلم وجهه لله. ولكن التعبير بأحسن يفيد بأن هذا هو الحق وهو الأمر الحسن في ذاته، الذي لَا تستحسن العقول السليمة سواه، وتستقبح غيره.
ومعنى (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أخلص نفسه، وجعلها كلها لله تعالى، لَا يحب إلا له، ولا يبغض إلا له، ولا يطلب جاه غيره. والتعبير (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) معناه أسلم ذاته، فالوجه يعبر عنه بالذات؛ لأن به المواجهة، ولأنه أوضح أجزاء الجسم. وإن هذا الدين الخالص لوجهه تعالى لَا يستقيم بمجرد النية، بل لَا بد أن يقترن مع ذلك بإحسان العمل وإتقانه، ولذلك قال تعالى: (وَهُوَ محْسِن) فالدين الحق الخالص يقتضي أمرين لَا محالة: أحدهما إخلاص القلب والنية لله تعالى، بحيث لَا يكون عامرا إلا بذكر الله تعالى، والثاني: إتقان العمل الصالح وإجادته، فلا عمل يكون صالحا من غير إيمان، ولا إخلاص يكون من غير إحسان العبادة والعمل الصالح.
وقد ذكر سبحانه أن الإخلاص والعمل هو دين النبيين أجمعين، ولذلك قال: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي أن هذه الملة هي الدين والمنهج، أي كان في إخلاصه وإتقانه للعمل متبعا منهاج إبراهيم، وإبراهيم أبو الأنبياء، فمنهاجه هو منهاج كل الرسل، واتباع ملته اتباع لكل الرسل. وكان حنيفا أي مائلا إلى الحق متجها إليه دائما، منذ كان غلاما إلى أن بعثه الله تعالى نبيا مرسلا، وقد قال لأبيه " وقومه كما حكى القرآن الكريم: (... إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨).
وقد كرم الله سبحانه وتعالى إبراهيم لإخلاصه وتوجهه إلى الله تعالى بقلب سليم، وإحسانه في العمل، بأن جعله خليله، فقال تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) أي اصطفاه من بين خلقه، فأعطاه ذلك الاسم الجليل، وذلك الوصف الكريم. ومعنى الخليل الحبيب الذي يلجأ إلى حبيبه، فهو من الخلة وهي المحبة، أو من الخلة بمعنى الحاجة (١). والحقيقة أن إبراهيم عليه السلام كان فيه الأمران معا فهو من جانبه كان يحب لله، ويبغض لله ولا يطلب شيئا إلا لله. وكان مع ذلك لَا يعتمد في حاجة إلا على الله سبحانه وتعالى وهو يقول في بيان حاجته إلى ربه: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤).
هذا ما كان من جانب إبراهيم. أما ما كان من جانب الله، فإنه قد أفاض عليه بنعمه ظاهرها وباطنها، وجعل من ذريته النبيين، وحماه من أعدائه، وقربه إليه، وصار من عباده المخلصين، ثم منحه وضعا لم يمنحه غيره، وهو أنه خليله.
* * *
________
(١) الأولى خُلَّة (بالضم)، والثانية وهي الحاجة والفقر - بالفتح.
* * *
وبعد أن أشار سبحانه إلى أن الله تعالى منفذ عقابه وثوابه، وإلى أن الدين الحق هو إخلاص الذات. والقلب والنفس لله تعالى، بين سبحانه وتعالى أن ما في السماوات والأرض كله له. فمن أخلص لله تعالى، فقد أخلص للقوي القادر القاهر الذي لَا يخرج عن سلطانه شيء في الملكوت. وإن هذا لدليل على أنه وحده المستحق للعبادة، وإسلام الوجه والطاعة له سبحانه وتعالى.
* * *
* * *
تعرضت سورة النساء لأحكام الأسرة في أولها، وبينت أحكام المواريث، والعلاقات المحرمة للزواج، ثم أشار سبحانه إلى حق الرجل وحق المرأة في الأسرة، وتعرضت من بعد ذلك للعلاقات الاجتماعية بين الناس، وبينت أن أساسها إقامة العدالة، وتنفيذ أحكام الله تعالى ثم ذكرت أدواء الجماعات، وأساسها الاعتداء من الخارج بالحروب ومن الداخل بالنفاق، وما يتبعه من فساد خلقي، وانحلال نفسي، وتعرضت من بعد ذلك لسبب الاعتداء والشرك والنفاق وهو تحكم الشيطان في النفوس.
ومن بعد ذلك عاد إلى بيان العلاقة بين الزوجين وفقه علاجها، وعلاقة آحاد الأسرة، والطب لأدواء الضعف بينهم. وفي خلط أحكام الأسرة والعلاقات فيها، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية العامة إشارة إلى قيام المجتمع على الأسرة وأن صلاحها صلاح له، وأنه من الأخلاق الاجتماعية الفاسدة تجيء آفات الأسرة،
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ) الاستفتاء معناه طلب الفتيا أو الفتوى، ومعنى الفتوى حل ما يشكل من الأمور، وإن العرب قد وقعوا في إشكال بالنسبة للمرأة، فقد كانوا في الجاهلية لا يفرضون لها حقوقا، لَا تأخذ من ميراث، ولا يكون لها أي حق قِبَل زوجها، بل كان عليها تبعات، من غير أن تلاحظ من جانبها واجبات، فجاء الإسلام وأعطاها في مقابل واجباتها حقوقا، فقال تعالى: (... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ).
فكانوا في كل تصرفهم بالنسبة للمرأة تعتريهم حيرة، أينفذون دينهم وحكمهم الجاهلي أم أن للإسلام في كل أمر من هذه الأمور حكما تجب رعايته ويجب اتباعه فكثرت الأسئلة، وتعددت موضوعاتها، فمنهم من يسأل عن الميراث، ومنهم من يسأل عن الصداق. ومنهم من يسأل عن المعاملة، وجاءت الروايات فرادى ببعض الأسئلة، وكلها ينتهي إلى مجموعها، وهو حيرتهم في أمر المرأة وقد أجاب سبحانه هذا الاستفتاء بقوله تعالى:
(قلِ اللَّه يفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تؤْتُونَهُنَّ مَا كتِبَ لَهنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ) أي يفتيكم الله تعالى مبينا أمرهن وما يجب لهن، وقوله تعالى: (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) قال كثير من المفسرين إن " ما " هنا في موضع الرفع بالعطف على لفظ الجلالة، والمعنى يفتيكم الله ويعلمكم أحكام النساء وحقوقهن، كما يعلمكم ما يتلى عليكم في كتاب الله من أحكام اليتامى من النساء اللاتي كتب لهن في كتاب الله من ميراث وحقت رعايتهن والقسط معهن عند الزواج، وإلا فليتزوج من غيرهن.
وهناك نجد قوله تعالى: (أَن تَنكِحُوهُنَّ) مصدرا (١) قد دخل عليه حرف جر محذوف، وهو إما (فِي)، و (إما) عن وعلى أن المحذوف: لَا تعطونهن ما كتب الله لهن من حقوق وترغبون في نكاحهن لأنفسكم، فلا تعطوهن ميراثا ولا صداقا، وعلى أن المحذوف " عن " يكون المعنى لَا تعطونهن ميراثهم، وتمنعونهن من النكاح، وترغبون عنه لكي يبقى المال تحت أيديكم.
ويظهر أن الذين كانوا يقدمون على شأن يتامى النساء فريقان، فريق يأكل مالها ولا يعطيها صداقها، ويرغب في نكاحها لجمالها، وفريق يستبد بمالها، ويرغب عن زواجها من نفسه أو من غيره حرصا على مالها، والآية تشمل الفريقين وتندد بالطائفتين، ولقد رُوي أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه وليّ اليتيمة، فإن كانت حسنة غنية قال عمر: زوِّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك، وإذا كانت بها دمامة، ولا مال لها، قال له: تزوجها، فأنت أحق بها، وقد قال علي بن أبي طالب لولي يتيمة: تزوجها إن كنت خيرا لها، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير.
ولم تكن رعاية الله تعالى في أحكامه خاصة بيتامى النساء، بل إنها تعم المستضعفين وسائر اليتامى، ولذا قال سبحانه: (وَالْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الْوِلْدَان وَأَن تَقُومُوا لِلْيتامى بِالْقِسْطِ) وصيتان بنوع واحد من الضعفاء في الَأسر وهم اليتامى، بيد أن إحداهما مؤداها إعطاؤهم حقهم من المال. والثانية القيام على رعايتهم، وحفظهم من الضياع، وواضح أن الثانية عامة تشمل اليتيم الذي ترك له أبوه مالا، أو نال مالا من أية ناحية من النواحي، والأولى تكون لذوي المال.
________
(١) أي مصدرا مؤولا، وهو المنسبك من (أن) و (الفعل المضارع).
والوصية الأخرى، وهي القيام على شئون اليتيم برعايته وكفالته، وإصلاح حاله، وتعهده بالعطف والمحبة والإكرام، وقد تكرر في القرآن الكريم الأمر برعاية اليتيم، وتكرر في قول النبي - ﷺ - الأمر برعايته والتوصية به، ففي القرآن الكريم نجد كثيرا من ذلك مثل قوله تعالى: (فَأمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ).
وفى السنة مثل قوله - ﷺ - " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا... " وضم أصبعيه (١) الكريمتين - عليه الصلاة والسلام - وقوله - عليه الصلاة والسلام -: " خير بيت من بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيت من بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم " (٢).
________
(١) رواه البخاري: الأدب - فضل من يعول يتيما (٦٠٠٥)، والترمذي كتاب البر والصلة - ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته (١٩١٨)، وأبو داود: الأدب - فيمن ضم اليتيم (٥١٥٠)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٢٢٣١٣) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
(٢) سبق تخريجه.
وهذا التعبير فيه ثلاث إشارات بيانية:
أولاهما - التعبير بالقيام، فإن مؤداه أن ينهض الولي على القاصر بعناية واهتمام لرعاية حاله، وكون الخطاب للجميع لَا لخصوص الأوصياء يدل على الوجوب على الأمة بشأن يتاماها، أو رعايتهم فرض كفاية فهو على الأمة مجتمعة.
ثانيها - التعبير باللام في قوله تعالى " لليتامى " أي أن يكون القيام والنهوض لمصلحة اليتامى الحقيقية، من حيث التربية والتهذيب، والمحبة من غير تدليل مضعف لقوة النفس والعزيمة والإرادة القوية.
ثالثها - أن يكون ملاحظا في ذلك القسط والعدل، بألا ينقص من ماله شيء ولا يترك هملا إذا لم يكن له مال، فإذا كانت العدالة المالية توجب ألا ينقص من ماله، فالعدالة الاجتماعية توجب أن تسد خلته وضعفه.
وكانت عناية الإسلام باليتامى؛ لأنهم قوة للأمة إن صلحوا، وقوة مدمرة في الأمة إن لم يصلحوا، إذ إنهم لو قُهروا ينشأون وبينهم وبين الناس عداوات مستمرة، ونفور يدفعهم إلى أن يكونوا مدمرين في الجماعة وعنصر تخريب، فإن أكثر الخارجين على الجماعة تبتدئ عقدهم النفسية في طفولتهم بالجفوة معهم، وحرمانهم من المودة والرحمة. (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا).
أي خير تفعلونه، ويكون نافعا لجماعتكم، مصلحا بينكم، فإن الله سبحانه وتعالى يكون عليما به علما دقيقا، لَا تخفى عنه فيه خافية، وفي ذكر هذا النص الكريم بعد الوصايا السابقة إشارة إلى أن هذه الوصايا تنفيذها خير محض، ونفعها لا شك فيه ولا ريب، نفعه لمن يفعله لأن عاقبته حسنى له، وخير للجماعة لأنه يقدم للمجتمع عناصر قوية بانية، وخير للضعفاء في أنفسهم، وهو خير عند الله يحتسب به الجزاء الأوفى عنده.
* * *
(وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (١٣٠)
* * *
وبعد هذه الوصايا في إعطاء الضعفاء من اليتامى حقوقهم والإنصاف لهم ذكر سبحانه وصاياه في علاج ما يكون بين الزوجين، فقال:
وإن المرأة إذا لَا حظت ذلك من زوجها لَا تقابل النشوز بمثله ولا الإعراض بالصد، فإن ذلك يوسع الهوة بينهما ويفك الأسرة، وينتهي الأمر إلى شقاق لا لقاء بعده، وإن العلاج في هذه الحالة نفسي يختلف باختلاف قوة النفرة، فإذا كانت لم تستحكم ويمكن أن يتوليا علاجها كان عليهما دينا أن يوليا العلاج، وإذا كان مع النفور خصام كان لَا بد من تدخل الغير، لإصلاح ذات البين، وإذا استحكمت النفرة، ولا سبيل للإصلاح فالافتراق، فهذه ثلاثة أنواع. وقد ذكر سبحانه وتعالى علاج المرتبة الأولى، فقال:
(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْح خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) ففي هذه المرتبة يكون الواجب الديني على المرأة والرجل أن يعملا بأنفسهما على إصلاح ما بينهما، فتتطامن المرأة للعاصفة ويقرب الرجل امرأته إليه، ويترك شِماسَه (١) وإعراضه، ويتطامن لأهله، ويعلم قول النبي - ﷺ -: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي " (٢)، وإن التطامن من الرجل لزوجه لتكون العشرة على مودة ورحمة هو عين العزة، فالكريم لَا يذل أهله والذليل هو الذي يهين أهله، وقد لوحظ في التعبير أمور ثلاثة.
أولها - أنه عبر عن طلب الصلح بقوله تعالى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يصْلِحَا بَيْنَهُمَا) وذلك ترفق في الإيجاب، فعبر عنه بنفي الإثم لكيلا يتوهم أحدهما أن في التساهل عن بعض حقه إثما. والصلح يقتضي أن يتسامح أحد الفريقين في
________
(١) الشِّماس: العداوة الظاهرة والعناد. [لسان العرب - شمس].
(٢) سبق تخريجه.
ثانيها - أنه أكد الصلح بقوله " صلحا " للإشارة إلى أن الصلح في هذا المقام لا يكون صلحا ظاهرا، بل يكون نفسيا، بحيث تتلاقى القلوب وتصفو النفوس، ويحل الوئام محل الخصام، فليس الصلح في هذه الحال إنهاء لمشكلة فقط، بل هو تلاقي القلوب على المودة والرحمة.
ثالثها - أن الله تعالى أكد الصلح بقوله تعالى أولا " والصلح خير " أي أنه في ذاته خير يعم الطرفين؛ مَن تسامح يناله من الخير بمقدار ما تسامح أو بأضعاف ما تسامح، فهو قد أعطى ليأخذ وتساهل لتلزم ولتدوم نعمة الزوجية.
وأكد سبحانه الصلح بدعوة الزوجين ألا يشح أحدهما بالعطاء لرفيقه، ولذا قال تعالى: (وَأُحْضرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) والشح هو البخل، وهو هنا التشاح النفسي بأن يلتزم كل واحد من الزوجين موقفه متمسكا بحقوقه الشكلية، ومعنى قوله تعالى (وَأُحْضرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) أن الشح جُعل حاضرا لَا يغيب عنها ولا تنفك عنه كأنها مطبوعة عليه، وعلى المتصالحين اللذين يريدان التصافي أن يلاحظا هذا ويعالجاه، فهو الداء، وإذا عرف سهل الدواء، وما دام الصلح كاملا يجب اجتثاث الشح الحاضر، ليكون الصفاء الدائم.
وأكد سبحانه وتعالى طلب الصلح ثالثا بقوله تعالى: (وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) في هذا النص الكريم علاج لشح النفس إذا حضر، ولوقوف كل في الجانب الذي يحفظ به حقوقه، ولا يتحرك، فإن العلاج لهذه الحال هو الإحسان، فليكن محسنا بدل أن يكون مُلحفا، فإذا كان الإحسان ذهب التشاح، والعلاقات في الأسرة لَا تبنى على الظاهر، بل تبنى على القلوب، والقلوب لَا يطهرها إلا تقوى الله في المعاملة، إذ إن المعاملة الطيبة، والإحسان وزيادة العطف وتقوى الله هي البلسم الشافي من الشح النفسي الذي يعتري ما يكون بين الزوجين.
وإنه في الحياة الزوجية تحقيق العدالة الكاملة غير ممكن، ولذا وجب التسامح، فقال تعالى.
* * *
* * *
إن الله سبحانه وتعالى نفي استطاعة العدالة بين النساء نفيا مؤكدا، لأن حرف (لن) لتأكيد النفي، فالعدالة بمعنى تنفيذ كل الحقوق المقررة والواجبات النفسية أمر غير ممكن مهما يكن حرص الإنسان على العدالة.
وقد فرض العلماء أن هذه العدالة غير الممكنة لَا تكون إلا إذا كان الرجل ذا زوجين فأكثر، وذلك ظاهر؛ لأن العدالة النفسية بالمساواة في الإقبال القلبي والمحبة. أمر غير ممكن؛ لأن الناس بحكم الخلقة لَا يملكون نزعات نفوسهم وميول قلوبهم، ولقد كان النبي - ﷺ - يقسم بين زوجاته في كل ما هو ظاهر كالمبيت والكسوة والنفقة، وكل ما يتعلق بصورة الحياة الزوجية، ولكنه وهو أكمل البشر لم يستطع العدالة النفسية، ولذلك كان يقول - ﷺ -: " اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " (١).
وقد ادعى بعض الكتاب في أول هذا القرن العشرين الميلادي وتبعه غيره، أنه بضم آية (... فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً...)، إلى هذه الآية التي نتكلم في معناها يكون منع تعدد الزوجات، وما هكذا تفهم النصوص في
________
(١) رواه أبو داود: النكاح - في القسم بين النساء (٢١٣٤) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وأرضاها.
المعلقة هي التي تهمل نفسيا ومعنويا وحبا ومودة، فلا هي ذات زوج تنال الحقوق الزوجية أو بعضها، ولا هي خالية الأزواج، ترجو أن يوفقها الله تعالى وهذا تشبيه بالشيء المعلق بشيء من الأشياء، لأنه لَا يكون قد استقر على الأرض، ولا ما علق عليه تحمله، أو يستطيع تحمله.
وإنه لأجل الوصول إلى هذا الحل ألذي لَا يكون فيه شطط يجب التدخل لإصلاح ذات البين، ولذا قال الله تعالى: (وِإن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) وهذه هي المرتبة الثانية من الشقاق التي يتعذر فيها على الزوجين أن يقوما بعلاجها، ولذا يستمد العلاج من المتصلين بهما وهو المنصوص عليه في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحَا يُوَفِقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا...)، وعند التدخل للإصلاح يجب أن تكون تقوى الله هي التي تحكم الحكمين ولذا قرن الإصلاح بالتقوى، فإن كان إصلاح القلوب مع تقواها، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر ما عساه يكون من تجاوز للحد قبل ذلك، ولذا ختم سبحانه وتعالى هذا الجزء من العلاج بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) أي أن غفرانه البالغ ورحمته الواسعة المستمرة المؤكدة يفيضان على المصلحين المتقين، فإن لم يجد هذا كانت المرتبة الأخيرة، وهي الفراق، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
أي إنه إذ لم يستطيعا إصلاح ما بينهما، ولم يصلح غيرُهما ذلك الإصلاح لم يبق إلا أن يتفرقا، وهذا ما تقتضيه الفطرة، ولذلك أسند التفرق إليهما معا، لَا إلى أحدهما! لأن التفرق بالطلاق نتيجة تفرق القلوب، وإنه إذا كانت هذه الحال أغنى الله كلِ واحد عن الآخر من سعة الرحمة التي يرحم بها عباده، (وَكَانَ اللهُ وَاسِعَا حَكِيمًا) وكان الله تعالى ولا يزال واسع الرحمة فكلمة " واسعا " على تقدير مضاف، وهو الرحمة، وكان ولا يزال حكيما، يشرع بعباده بمقتضى حكمته ما هو أصلح لهم، ولو كانت النفوس تنزعج له أو تبغضه، وإن المرأة الفاضلة الكريمة إذا أعرض زوجها أو استعلى عليها ولم يمكن إصلاح ستجد من المجتمع من يقدر فضلها، ويبدلها من الناشز عدلا من الرجل، اللهم أصلح أمورنا، وابسط المودة بيننا، إنك سميع الدعاء.
* * *
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (١٣١) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (١٣٣) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (١٣٤)
* * *
وقد جاء في تفسير الطبري وجه آخر للمناسبة قال فيه ما نصه: " وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كلًّا مِّن سَعَتِهِ) تنبيها منه لخلقه على موضع الرهبة عند فراق أحدهم زوجه، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجه، وتذكيرا منه أنه هو الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذر عليه أن يغنيه وكل ذي فاقة وحاجة ويؤنس كل ذي وحشة ".
ولذا أكد سبحانه الأمر بالتقوى بأربعة مؤكدات.
أولها - التأكيد باللام وقد، فـ (قد) وحدها مؤكدة، واللام تتضمن معنى القسم فهي مؤكد آخر، وهذا ما تضمنه قوله تعالى " ولقد " في صدر الكلام. ثانيها - التعبير بقوله - جل جلاله - " وَصَّيْنَا ". فإن التوصية تكون طلبا مشددا لَا يقتصر على زمان الأمر، بل يتعاقب الطلب بتعاقب الأزمان والدهور، ولا يقتصر على زمان دون زمان، وهذا يفيد أن الأمر بالتقوى قانون محكم، لا يعتريه فسخ ولا تغيير مهما تختلف العصور؛ لأنه لب الأديان.
ثالثها - ذكر كتب النبيين السابقين مع خطاب أمة خاتم النبيين محمد - ﷺ -، فإن ذلك الذكر يفيد أن التقوى شريعة السماء.
رابعها - التعبير بـ " أن " في قوله تعالى جلت قدرته (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) فإنها هي " أنْ " المفسرة، أي أنه سبحانه وتعالى يفسر وصيته الخالدة الباقية بأنها شيء واحد، وهو الأمر بالتقوى، ومن المقرر في علم البيان العربي أن الإبهام ثم البيان
وقد أكد سبحانه وتعالى وصيته الخالدة ببيان نتيجة مخالفتها، وأنها لمنفعة العبادة، فقال سبحانه:
(وَإِن تَكْفُرُوا فَإنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) وإن الأمر بالتقوى فيه خيركم، إذ فيه سلامة اعتقادكم، واطمئنان قلوبكم؛ وصلاح جموعكم، ومنع الفساد في الأرض، وإن جحدتم أوامر الله تعالى، ولم تعبدوه وحده، وتخشوه حق الخشية، فستفسد أموركم أنتم، ولن يضر الله منكم شيء؛ لأنه مالككم، ومالك كل ما في السماوات والأرض، وهو بهذا الملك الظاهر والسلطان القاهر، يستغني عن تقواكم، وهو المستحق للحمد الدازم، والمحمود في ذاته وشرائعه وأوامره ونواهيه وفي إنشائه وإبداعه، فلا يضيره كفر الكافر، ولا ينقص من سلطانه فجور الفاجر؛ لأن الجميع في قبضة يده وتحت سلطانه.
ولقد قال ابن جرير الطبري في معنى هذه الآية الكريمة: " وإن تجحدوا وصيته إياكم فتخالفوها فإن لله ما في السماوات وما في الأرض. يقول فإنكم لا تضرون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تعدون في كفركم هذا أن تكونوا أمثال اليهود والنصارى في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما حل بهم، إذ بدلوا عهده، ونقضوا ميثاقه، فغير بهم ما كانوا فيه من خفض العيش، وأمن السِّرب، وجعل منهم القردة والخنازير، وذلك أن له ملك جميع ما حوته السماوات والأرض، لَا يمتنع عليه شيء أراد تجميعه.. من إعزاز من أراد إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله ".
وقد قرر بعض العلماء أنه يجوز أن يكون في ضمن الوصية المؤكدة، ويكون المعنى: ووصينا أولي الكتاب وإياكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض. وإننا نرى أن الأول أظهر، وقد سار عليه ابن جرير، ووضح المعنى على أساسه... وقد أكد سبحانه عظيم سلطانه، وحاجتهم إليه وغناه - جل ثناؤه - عنهم، فقال تعالت كلماته:
* * *
* * *
الوكيل هو من يتولى الأمر ويحفظه ويرعاه، والمعنى: كفى أن يكون الله تعالى حافظا للإنسان يتولاه، ويكلؤه ويقيه، فإذا كان الله تعالى غنيا عن عباده فعباده فقرإء إليه، كما قال سبحانه: (... وَاللَّهُ الْغَنِيّ وَأَنتمُ الْفُقَرَاءُ...) فعلى المؤمن أن يتقي الله تعالى، وأن يعلم أنه مالك أمره، وهو الذي يتوكل عليه، وأن الله سبحانه يحب المتوكلين لأنهم يحسون بقدرته، وعظم سلطانه، فكل متوكل عليه سبحانه يحس بعظم سلطان ربه، وضآلة سلطانه وقدره وذلك إيمان صادق، إذا قام بما يستطيع، وما تمكنه قدرته المحدودة، ويترك بعد ذلك الأمر لربه، وهنا أمر يجب أن نشير إليه، وهو تكرار قوله تعالى:
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) فقد ذكر ذلك القول السامي ثلاث مرات، فلماذا كان ذلك التكرار؟ إنه بلا شك بهذا التكرار يتأكد المعنى الذي يشتمل عليه القول، ولكن هذا التوكيد للمعنى جاء في كل مرة مبينا معنى خاصا، فالذكر الأول كان لتربية الإحساس بعدله، وعظم سلطانه وسعة رحمته، وأنه تسع رحمته كل الناس، فينصف المظلوم، ويبسط الرزق لذي الفاقة، فلا يضيق أحد الزوجين بالفراق، بل الله سبحانه يكلؤه، ويسعه برحمته، وذكر ذلك القول في
وبعد هذا بين سبحانه قدرته القاهرة، وأنه هو الذي أنشأ الناس، وطالبهم بالعبادة، وأن من أنشأ يستطيع الإفناء، ويستطيع التبديل والتغيير في خلقه، فيستبدل بالناس ناسا، وبالأقوام أقواما، ولذلك قال سبحانه:
* * *
* * *
والمعنى الجملي للنص السامي: إن يشأ الله تعالى أيها الناس إفناءكم ويأت بآخرين، فإنه سبحانه وتعالى يفعل، لأنه على ذلك قادر قدرة مطلقة لَا يحدها حد. وهي العامة الشاملة لكل شيء، وهنا نجد جواب الشرط قد حذف ودل عليه قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) وحذفه مع ما يدل عليه يجعل الذهن يتجه إلى تعرف مدى عظمته وقدرته، وحذف مفعول الشيئة في قوله (إِن يَشَأ) قد دل عليه جواب الشرط في قوله: (يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ).
ومن هم الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب؛. يحتمل هذا وجهين: أحدهما، أن يكون الخطاب للناس في أمة محمد، ومن كانوا قبلهم، ويكون الكلام تابعا لقول القول المقدر عند من قدره في قوله تعالى: (وَإِن تَكْفرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) ويكون أيضا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) له هذه التبعية. ويكون الكلام كله في خطاب السابقين واللاحقين. وقد قلنا إن ذلك غير الظاهر.
والوجه الثاني أن يكون الخطاب في أمة محمد - ﷺ -، وهو بهذا يشمل المؤمنين والمشركين. ويكون للمشركين بشكل خاص. وإن اختلاف التوجيه على هذا النحو يترتب عليه الاختلاف في جواب الشرط، وهو من الذين يذهبهم الله تعالى، ويأتي بآخرين، وله القدرة التامة على تنفيذ ما يقول تعالى؟ فعلى الوجه الأول يكون المعنى: إن يشأ سبحانه أن يذهب بهذا العالم الإنساني، ويأتي بعالم
وعلى التوجيه الثاني - وهو أن يكون الخطاب للمشركين الكافرين بالرسالة المحمدية والمسلمين الذين يكونون على طرف الإسلام - يكون المعنى إن استمررتم على الشرك أو كان منكم الكفر بعد الإيمان، فإن الله تعالى بمقتضى سننه في الفطرة الإنسانية يفنيكم بإذهاب قوتكم وسيطرة الفساد عليكم، ويجيء من بعدكم من ينصر الحق، ويكون النص كقوله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدلْ قَوْمًا غَيْرَكُم ثمَّ لا يَكونوا أَمْثَالَكُمْ)، وكقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وقد ذيل الله سبحَانه النص الكريم ببيان قدرته الكاملة على ذلك التغيير، فقال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) أي أن الله سبحانه وتعالى قدير على ذلك التغيير والتبديل الذي تستغربونه وتستبعدونه، وقد قدم الجار والمجرور وهو قوله (عَلَى ذَلِكَ) لموضع الاهتمام وهو التغيير والتبديل، الذي يستبعدونه لفرط إحساس المشركين بقوتهم، وغرورهم بدولتهم، واستضعافهم لشأن المؤمنين الصادقين.
* * *
* * *
الثواب ما يعود على الإنسان من أي عمل يعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثم أطلق الثواب في القرآن على الجزاء، وذلك في مقابل العقاب الذي هو جزاء الشر، والمراد هنا على هذا الأساس نعيم الدنيا، والنتائج الطيبة لأعمال الدنيا. ومعنى النص السامي من يكون من شأنه وطوية نفسه أن يطلب نعيم الدنيا وما فيها من خير، فإن الله
وهذا الكلام يطوي في ثناياه معاني ثلاثة:
أولها - أن الاستجابة لما يطلبه الله سبحانه وتعالى تؤدي إلى خير الدنيا من عزة ورفعة وقوة وسلطان في الأرض، وتعاون على إصلاحها ومنع فسادها، وتواصل وتراحم، من غير تقاطع ولا تدابر.
ثانيها - أن من يطلب الدنيا من غير طلب الآخرة ولا يستجيب لداعي الله، يكون قد طلب الأخس وترك الأخطر منهما، ولا يكون طالبا لها على وجه الحق، ويكون محاسبا على كل ما نال من مغانم في هذه، ولذا قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا). ثالثها - أن النص الكريم يفيد قدرة الله، وكمال سلطانه، وعدله في الثواب والعقاب، وأنه يعلم الخير ويجزي عليه والشر ويعاقب صاحبه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨). ولذاً ختم سبحانه الآية بقوله:
(وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) أي أن الله سبحانه وتعالى عالم علما دائما أزليا علم من يسمع ما يجهر به ويسر، ومن يطلع على حركات النفوس، وخلجات القلوب، وما يجيش في الصدور، وعالم علم من يبصر أدق الأعمال وأخفاها من خير أو شر، وإنه مجازي كل إنسان على مقتضى هذا العلم الذي لَا تخفى عليه خافية.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
* * *
* * *
في الآيات السابقة أمر الله بالعدل، ولو كان في مصلحة الكافرين، وأمر بالعدل بين الأزواج، وإنه أساس قيام الأسرة، وإن كان العدل في الأسرة أمرا شاقا، لأنه يتصل بالنفوس، لَا بالأمور المادلة. إذ العدل في الحقوق الظاهرة يكون ممهلا ليس صعبا، أما المساواة في الأمور النفسية فمن الأمور التي تشق على النفوس. ثم بيَّن سبحانه وتعالى سلطانه الكامل، ورقابته على الأعمال ما ظهر منها وما بطن، وتستوى في ذلك أعمال الجوارح، وأعمال القلوب وخلجات النفوس، وفي هذه الآية يبين أن العدل خاصة أهل الإيمان، وقد أمر الله به المؤمنين، لأنه مقتضى الإيمان، وهذا العدل يعم العدو والوليّ على السواء.
ولذلك قال سبحانه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) النداء (يَا أَيُّهَا) للتنبيه، وقد اختير اللفظ الدال على النداء. للبعيد لتعظيم التنبيه إلى الأمر الخطير الذي يدعوهم إليه، وهو العدالة التي بها ميزان السماء والأرض، والتي هي دعامة الإسلام الأولى، وسِمَتُهُ ومظهره، ومعنى " قوَّامين " أن تقوموا على القسط وهو العدل وترعوه حق رعايته، فقَوَّام صيغة مبالغة من قام بالأمر، وقام عليه وتعهده، وهو أبلغ من كونوا عدولا، لأن القوَّام بالعدل تكون فيه خصال ثلاث:
أولاها: أن يعدل في ذات نفسه، فلا يظلم أحدا.
والثانية: أن تكون العدالة شأنا ملازما له لَا يفترق عنه، لتكون كالسجية من سجاياه، والملكة من الملكات.
وقد أمر الله تعالى بالعدل بهذه الصيغة فقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) فلم يقل تعالت كلماته " اعدلوا "، أو " قوموا بالقسط ". ، بل قال سبحانه: (كُونُوا) وهذا التعبير يقتضي أمرين:
أحدهما - أن يروضوا أنفسهم على العدالة، ويربوها ويعلموها لشباب هذه الأمة، وَيفْطِموا النفوس عن شهواتها، فإنه لَا يذهب بالعدل إلا الشهوة، فليربوا أنفسهم على السيطرة عليها، وجعلها أمة ذلولا، لتكون النفس عادلة دائما. وثانيهما - أن ينصبوا أنفسهم لنشر لواء العدل، فلا يتركوا ظالما يرتع، ولا مظلوما يخضع، سواء أكان الظالم فردا أو جماعة، أم كان أمة، فأمة العدل يجب أن تكون قوَّامة بالعدل.
وإن القوامة على العدل توجب عدالة الإنسان في نفسه، وأهله، وولده، وصحبه، وكل من يتصل به، وتوجب منع الظلم أنَّى يكون، وتوجب العدل في الولاية والقضاء، والصلح بين الناس.
وهناك أمر هو سبيل الحق، وطريق معرفته، وهو الشهادة، إذ هي السبيل للعدل في القضاء والولاية والصلح، وهي سبيل إحقاق الحق، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ).
________
(١) سبق تخريجه.
وقد فهم بعض المفسرين أن قوله تعالى: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) حال من الذين آمنوا، والمعنى على هذا كونوا قائمين بالحق حال كونكم شهداء به لله تعالى، وعلى هذا التفسير تكون القوامة على الحق مقصورة على الشهادة غير عامة. وقد ضَعَّفَه أكثر المفسرين. وجمهورهم على أن قوله تعالى " شهداء لله " خبر بعد خبر، أي أن هناك أمرين طلبهما المولى جلّ شأنه:
أولهما: القوامة بالقسط، وهذا عام للشَّهادة وغيره.
وثانيهما: أنه خصَّ الشهادة بالذكر، لأنها السبيل للحق، والشهادة لأجل رضا الله تعالى هي السبيل لكل عدل وكل حق.
والشهادة لله تعالى توجب ألا يحابَى قريب لقرابته، ولا يحابى غني لغناه، ولذا قال تعالى:
(وَلَوْ عَلَى أَنفسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) والمعنى اجعلوا الشهادة لله تعالى فلا تنطقوا إلا بالحق، ولو أدى ذلك إلى أن تكون العاقبة ألما ينزل بالوالدين والأقربين، فالمحاباة على حساب الغير ظلم، وصلة الرحم لَا تبرر الظلم، وليس من الإحسان إلى الوالدين أن تقرهما على الظلم، وترضي لهما أن يأكلا الحقوق، كما أنه لَا يصح أن تكون الرحمة بالأقارب الأقربين طريقا للظلم، فإن هذه لا تكون رحمة حقيقية، ولكنها شفقة جنونية، فالأولى حملهم على الحق، وذلك بأداء الشهادة لله، وبالحق.
وقد يسأل سائل: ما معنى الشهادة على النفس، وقد أجاب عن ذلك المفسرون بأن الشهادة على النفس هي الإقرار عليها بما ارتكبت، وقد قال
وإنه بهذا الذي قرره جار الله الزمخشري ننتهي إلى أن الشهادة على الوالدين والأقربين تكون بإلزامهم بحقوق عليهم مباشرة، وتكون بالنسبة للأنفس بالإقرار بإلزامها، وتكون بالشهادة في الأمور التي ربما تؤدي إلى الإضرار بهم كشهادتهم في أمر عام قد يؤدي إلى حرمانهم من المزايا الاي يطلبونها، كمن يشهد بمجرى ماء لشخص تؤدي إلى حرمانهم من بعض ما يبغون، وقد تكون بالشهادة على أصحاب السطوة الذين يؤذون من يشهد عليهم... وهكذا.
وإنه قد قال قتادة في معنى هذه الآية: " أقم الشهادة يا بن آدم، ولو على نفسك أو الوالدين، أو الأقربين، أو على ذي قرابتك، وأشراف قومك، وإنما الشهادة لله، وليست للناس، وإن الله تعالى رضيَ بالعدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق... وبالعدل يصلح الناس ".
وقد يكون سبب الانحراف في العدل أو الشهادة أن تكون الخصومة بين غني وفقير، فقال سبحانه:
(إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) أي لَا يصح أن يكون اختلاف المتخاصمين أو المتعاملين، أو المشتركين غنًى وفقرًا سببا في اجتناب العدالة، فلا يمنع الغنى حقا لغناه، ولا يعطى أحد غير حقه لفقره، كما لَا يصح أن يحابَى الغني أو يعفى من العقاب لجاه ماله، ويعاقب الفقير بعقوبة أشد لفقره، فالفقر والغنى بأمر الله تعالى، ولذا قال: (فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) أي فالله سبحانه وتعالى هو الأولى والأجدر بحساب الغني والفقير، وهو الذي رتب الحقوق والواجبات، وقسم الأموال بحكمته، ونظمها بإرادته، وهو الأعلم بمصالح العباد، وهو الذي
وإن الذي يستفاد من هذه الرواية مع أصل النص الكريم أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا في التفاوت في الحكم؛ لأن الله هو الذي نظم الكون بما فيه ومن فيه، فهو الذي أراد للفقير الفقر مع الأسباب، وأراد للغني الغنى مع الأسباب الظاهرة لدينا، والمصلحة الإنسانية هو سبحانه وحده قدرها، فهو أولى بأن يكون الغني له لأنه هو الذي منحه، وأن يكون الفقير له لأنه هو الذي منعه، فابتلى الأول بالمال، وابتلى الثاني بالحرمان.
هذا حكم الله، وقد رأينا ناسا يحاربون الغنى، ورأينا مع الأسف قضاة يمنعون بعض الحقوق، ويمنحون باسم الغنى والفقر. فهذا " محمد " خير البشر عندما علم الله - الذي يعلم السر وأخفى - أنه يضلع مع الفقير بقلبه، ذكره بأن الله أولى بالغني والفقير، وأنه مقسم الأرزاق، فكيف يسوغ لأحد من البشر أن يظلم غنيا لماله؟!! أو يحابيه لذلك.
وقال الزمخشري: " - فإن قلت - لِمَ ثنى الضمير في (أَوْلَى بِهِمَا) وكان حقه أن يوحد، لأن قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا في معنى إن يكن أحد هذين - قلت: قد رجع الضمير إلى ما دلَّ عليه قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنِيّ وجنس الفقير، كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الغني والفقير، أي بالأغنياء والفقراء ".. وفي هذا التخريج الذي ذكره الزمخشري إشارة إلى أن الغنَى والفقر أمران ثابتان في هذا الوجوب، لَا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإنسانية، لأن ذلك تنظيم الله تعالى، وإرادته الخالدة، وهو الذي يتفق مع الطبيعة الإنسانية؛ لأن القُدَر متفاوتة والأعمال مختلفة، ونتائج الأعمال كثمرات الزرع والشجر، تختلف باختلاف ما يزرع وما يغرس، وإن
وإن الميل في الشهادة أو في الحكم عن الحق سببه هو اتباع للهوى، ولذا نهى الله تعالى عن اتباع الهوى فقال:
(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا) " الفاء " هنا هي التي تسمى فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، كأنه يقول إن اتجهتم إلى الحق ظبونه، (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى)، بل اتبعوا داعي العقل وحكم الشرع، والهوى هو الخضوع للشهوات، وعدم الخضوع لحكم العقل، وما يوجبه الشرع، ومن اتباع الهوى الخضوع للنزعات الوقتية، والظاهر، وعدم البحث عن ذات الحقائق، فمن الخضوع للهوى أن تمنع الغني حقا لمجرد أنه غني، وتحابي الفقير لمجرد أنه فقير، فهذا من قبيل الخضوع لمجرد الإحساس من غير تفكير وبحث عن الحقائق، فإن الغني لَا يحل ظلمه، والفقير لَا يقر على ظلم.
ومعنى النص الكريم: (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى) وتجنبوه لكي تعدلوا، وتتجهوا إلى الحق من غير تعويق من العواطف أو الأحاسيس التي تلقى وهْمًا لَا حقيقة، فقوله تعالى: (أَن تَعْدِلُوا) في مقام بيان الغاية لعدم اتباع الهوى، فهو تعليل للنهي، ولا حاجة فيه إلى تقدير، ومؤدى الكلام على ذلك نهيتم عن اتباع الهوى لتعدلوا.
والكثيرون من المخرِّجين على تقدير محذوف، والمعنى على ذلك لَا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق إن اتبعتم الهوى، فإن الهوى من القاضي أو الشاهد يذهب بالحق ويضيعه، وإن هذا التخريج فيه تقديران:
وثانيهما: تقدير أن تعدلوا عن الحق.
والأظهر، والأكثر اتفاقا مع السياق والنسق البياني هو التخريج الأول، وما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج إلى تقدير.
(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) قراءة الجمهور في هذا النص الكريم بواوين " وَإِنْ تَلْوُوا "، وقرأ حمزة وبعض الكوفيين بواو واحدة، " وإن تَلْوُا أوْ تعرضوا، (١).
ومعنى النص على القراءة الأولى وَإِنْ تَلْوُوا في الحكم أو في الشهادة بأن تحكموا بغير الحق، أو تشهدوا بغير الحق، أو تحرفوه، أو توجهوا الكلام إلى غير وجهته في الشهادة بأن تظهروا في الكلام معنى، وتُعَرِّضوا بغيره قاصدين له لكيلا تكون الشهادة على وجهها، فإن كل هذا لَيٌّ للكلام، إذ لَيُّ الكلام تحريفه وتوجيهه إلى غير وجهته السليمة، وذلك يشمل قول الباطل والحكم به، وتلوية مقاصد القول وإبهامه، والإعراض معناه الامتناع المطلق عن الشهادة أو الحكم، وجواب الشرط هو التهديد الشديد بالعذاب الأليم، تضمنه قوله سبحانه: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلًونَ خَبِيرًا).
أي أن علم الله المستمر الذي يعلم به دقائق الأشياء والنفوس وخفاياها قائم على أعمالكم وقلوبكم، وظواهركم وبواطنكم فاحذروه. اللهم اجعلنا من القوامين بالقسط، الشهداء بالحق، الذين لَا يتبعون الهوى، ولكن يعدلون في أنفسهم وذويهم وأهليهم، وما وُلُّوا.
* * *
________
(١) قرأها بواو واحدة حمزة وابن عامر، وقرأ الباقون بواوين. [غاية الاختصار (٧٨٨) جزء٢، ص ٤٦٧].
* * *
في الآيات السابقة كان الأمر بالعدالة في خاصة الأسرة، وانتهى الكلام إلى الأمر العام بالعدالة مع العدو ومع الولي، ومع الغني ومع الفقير. ومع الأقربين من ذوي القرابة، ومع الغرباء، وبذلك أثبت الكتاب الكريم أن العدالة خاصة الإسلام، ولازمة من لوازمه، ولا تتحقق معاني الإسلام إلا مع العدالة، وإنها قرينة الإيمان، لَا تفترق عنه، ولا تنفصل، ولذلك قرن الأمر بالعدالة بالأمر بأركان الإيمان كلها، فقال سبحانه:
تمامه وكماله.
ومعنى النص السامي: يا أيها الذين أذعنوا للحق وطلبوه، وصدقوا به اجعلوا إيمانكم مستقرا وثابتا بالله جلّ جلاله، وبرسوله الذي جاء بشيرا ونذيرا وبالكتاب الذي نزَّله منجما مقسطا، وهو القرآن، وبالكتاب الذي أنزل من قبل. والمراد جنس الكتب السابقة، لَا واحد منها.
ونرى أن النص الكريم فيه أجزاء الإيمان التي يلازم بعضها بعضا، ولا ينفصل واحد منها عن باقيها، فهي كل لَا يقبل التجزئة، ولا يمكن أن يتحقق معناه إلا باتصاله بعضه ببعض.
وأول عناصر الإيمان هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى. وذلك باعتقاد أنه واحد أحد فرد صمد، فوق كل شيء وليس فوقه شيء، ليس كمثله شيء، منفرد وحده بالألوهية، فهو الواحد في ذاته وصفاته، وهو الواحد في خَلْقه وتدبيره، فهو خالق كل شيء؛ وهو القادر على كل شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو الواحد في استحقاقه للعبادة، فلا يعبدُ بحق سواه.
هذه إشارات إلى معنى الإيمان بالله الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام.
وإن الإيمان بالله تعالى على ذلك النحو يقتضي الإيمان بأن رحمته توجب ألا يترك الناس هملا يضلون، ولا يهتدون، ولا يقومون بحق الطاعة، بل لَا بد من بشير ونذير، ومن يكون رحمة للعالمين، فلا بد من الرسل يرسلهم، وكان حقا على الذين يدركون رسولا أن يؤمنوا به، فكان حقا على الذين أدركوا محمدا أن
________
(١) في معناه ما رواه البخاري: المناقب - خاتم النبيين (٣٥٣٥)، ومسلم: الفضائل - ذكر كونه - ﷺ - خاتم النبيين (٢٢٨٦) وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ " مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ ".
والكتاب الذي نُزَل على رسوله هو القرآن الكريم، وقد ذكر التعبير عن نزوله بـ (نَزَّلَ) للإشارة إلى نزوله منجما، وأنه لم ينزل جملة واحدة، وأنه كان لا يزال ينزل وقت هذا الخطاب القدسي، ومعنى الإيمان بالكتاب الإيمان بأنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه من عند الله العليّ الحكيم، وأنه كلامه سبحانه وتعالى. وأن كل ما فيه من أخبار صادق، وما فيه من أحكام واجبة الطاعة. وأنه حجة الله الخالدة، وأنه حبل الله - تعالى - الممدود إلى يوم القيامة، وأنه محفوظ بحفظه، لَا يعتريه تغيير ولا تبديل، لأن الله تعالى قد وعد بحفظه، وهو صادق، وأنه ما حاربه جبار إلا قصم الله تعالى ظهره.
والكتاب الذي أنزل من قبل هو كتب النبيين السابقين التي أنزلها الله - تعالى عليهم، ومعنى الإيمان بها التصديق برسالات الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى، وذكر فيها كتبهم، وذكر بجوارها أنها أنزلت، لأنها قد مضت وانقطع نزولها.
وعبر عنها بالفرد دون الجمع، للإشارة إلى تصديق معناها الجامع لها، وهو أنها رسالات الله تعالى إلى أهل الأرض، وهو معنى لَا يتغير، بل يشير إلى الوحدة.
وقد يقول قائل ما معنى أمر أهل الإيمان بالإيمان، ألا يكون في هذا تحصيل حاصل، وأمر بما هو كائن؟ لقد أجاب المفسرون عن ذلك بأن المراد بالأمر في قوله " آمِنوا " اثبتوا على إيمانكم واستمروا عليه، ولا تتحولوا عنه، فالأمر أمر بالثبات والدوام.
ويصح أن نقول مع ما قاله المفسرون إن الحال التي عليها المؤمنون حال إذعان وتسليم وتصديق، والأمر بالإيمان مع هذه الحال التي هم عليها واستنارت قلوبهم بها بيان لأجزاء الإيمان، وأركانه وأصوله ومعانيه المتلازمة، فلا يفرقون بين
وننبه هنا إلى أمر لفظي، قد أشرنا إليه، وهو أن الله تعالى عبر عن القرآن بقوله " نزَّل " وعن غيره بـ " أنزل "، لأن القرآن قد نزِّل منجما (١)، وكان لَا يزال ينزل وغيره قد تم نزوله، وفي ذلك إشارة إلى طريقة نزول القرآن وأنه أمر أراده الله تعالى لمصلحة العباد، وتسهيل هدايتهم به، وتسهيل حفظ النبي - ﷺ - ومن معه له، ولأُنس النبي - ﷺ - باستمرار الوحي ينزل عليه.
وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان، ذكر ما يؤدي إليه الكفر فقال سبحانه وتعالى:
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) أي من يجحد بالله، فلا يؤمن بوحدانيته ولا بقدرته المبدعة الخالقة ولا بحق الإذعان له، والعبودية له سبحانه وحده، ومن ينكر الملائكة، والكتب المنزلة، والرسل المرسلة واليوم الآخر، الذي ينتهي إليه أمر العباد، من يجحد ذلك الجحود، فقد حاد عن السبيل، وانحرف عن الجادة، وبُعد في التيه بعدا كبيرا، لَا يمكن معه أن يعود إلى الطريق المستقيم؛ لأنه أوغل في الشر إيغالا شديدا، وهنا نجد عناصر خمسة يجب الإيمان بها، وهي الإيمان بالله جل جلاله، والإيمان بالملائكة وهم عباده المطهرون الغائبون عنا حسنا، القريبون منا ومنهم من ينزل بوحي الله تعالى على رسله، ومن ينزل بالكتب؛ ولذلك قرن بالكفر بهم الفكر بالكتب التي ينزلها تعالى على خلقه مسجلة أحكامه وشرائعه وأوامره ونواهيه، واقترن الكفر بالرسل بالكفر بالكتب؛ لأن الرسل هم الذين يبلغونها، ويبينونها، ويدعون إليها،
________
(١) أي مفرقا بحسب الحوادث.
وإن قوة الإيمان وعظمة الإذعان تكون في الإيمان بالغيب، لأن المؤمن يخرج من أسر الحسِّ إلى انطلاق الروحانية، فيعلو فيها مدارج، ويسلك سبلا فجاجا.
وإن قوة الإيمان يقين ثابت مستمر، فلا هداية لمن يكون مزعزع العقيدة، مضطرب النفس يعرض له عارض فيرى نور الإيمان، ثم تعرض ظلمة فينطمس، ويستمر حائرًا بائرًا، ولذا قال سبحانه في أصحاب هذه الحال:
* * *
* * *
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري: إن هذه الآية واردة في أهل الكتاب، فقال في ذلك: " عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد - ﷺ -، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره.
ومؤدى هذا الكلام أن هؤلاء هم أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة، ثم عبدوا العجل وحرَّفوا التوراة، ثم آمنوا بالإنجيل ثم حرَّفوه وكفروا بعيسى وبالله، إذ جعلوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ".
ونرى أن نص القرآن يفيد أن الذين يخبر عنهم - سبحانه طائفة واحدة آمنت ثم كفرت، ثم آمنت ثم كفرت، ثم ازدادت كفرا.. وما قاله ابن جرير يؤدي إلى أن يكون الكلام في طائفتين: إحداهما اليهود والأخرى النصارى، ولذلك نرى
وإن أولئك الذين يترددون ذلك التردد، ثم ينتهون إلى تلك النهاية الموغلة في الكفر لَا تنالهم المغفرة، ولذا قال سبحانه:
(لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) هذا نفي مؤكد للغفران والهداية معا، فالله لَا يغفر لهم، ولا يهديهم سبيلا مستقيما، بل هم في حيرة مستمرة، واللام في قوله: (لِيَغْفِرَ)، و (لِيَهْدِيَهمْ) هي اللام التي يسميها النحويون لام الجحود أي النفي المؤكد، وهي تكون بعد الفعل المشتق من الكون، ، ككان ويكون، ولتقريب معناها نضرب مثلا من عبارات الناس، فيقول بعض الناس: لم أكن لأكرمك أي لم أوجد لأكرمك، أي ليس من شأني وحالي المستمرة استمرار وجودي أن أكرمك، ويكون معنى النص السامي على هذا ذكر ما يؤدي إليه الكفر.
وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان لم يكن من حكمته وعلمه وكمال تدبيره أن يغفر لهؤلاء، ولا أن يهديهم السبيل، والسبب في ذلك أنه لَا تتصور منهم التوبة والرجوع إلى الحق، والإنابة إلى الله، حتى تكون منهم التوبة النصوح التي تجبُّ ما قبلها من الذنوب، إذ أن التوبة تكون لمن يقع في الذنب عن جهالة، ثم يتوب قبل أن يوغل في الشر ويفقد معه كل عناصر، وكذلك لَا يهديهم سبيلا؛ لأن الهداية تكون لمن لم يظلم قلبه، ولمن أراد الهداية، وهؤلاء لَا يريدونها.
فنفي الغفران، ونفي الهداية، بسبب أنهم أركسوا في الشر، وأحاطت بهم خطيئاتهم، ولقد قال في ذلك الزمخشري - رضي الله عنه -: " والمعنى أن الذين
اللهم هبنا إيمانا ثابتا وقلوبا مخلصة نقية من أخلاط الريب، إنك سميع الدعاء.
* * *
(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (١٤١)
* * *
وهذه الآيات في شأن المنافقين:
المنافقون هم الذين خلصوا للنفاق، وأصبح الإيمان لَا موضع له في قلوبهم، وهم المنافقون في الاعتقاد بالرسالة المحمدية؛ وذلك لأن النفاق قسمان: نفاق خالص، وهؤلاء كفار في ذات الرسالة المحمدية، وهؤلاء كفار كما قال تعالى في الآيات اللاحقة. والقسم الثاني نفاق ليس خالصا، وهو لَا يتصل بالعقيدة، بل يتصل بالأخلاق، وهو الذي جاء ذكره في الحديث " آية المنافق أربع: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر " (١)، وبعض الروايات ليس فيها الخصلة الرابعة (٢). وهذا النوع هو الكثير الشائع في عصرنا.
والتعبير بقوله: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ) فيه نوع مجاز؛ لأن البشارة لَا تكون غالبا إلا في الخبر السار، ويقول في ذلك الأصفهاني في مفرداته: " وبشرته أخبرته بسار
________
(١) روى البخاري: الإيمان - علامة النفاق (٣٤)، ومسلم: الإيمان - بيان خصال النفاق (٥٨) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو.
(٢) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّه - ﷺ - قَالَ: " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإِذَا اؤْتمِنَ خَانَ " [رواه البخآرى: الأدب].
وقالوا إن التعبير بالبشرى في هذا المقام، وهو إنذار المنافقين بالعذارب الأليم فيه نوع تهكم بهم؛ لأن المنافق فيه طمع وهو يريد النفع الدنيوي، أو المادي، فيقال لهم ما تنتظرونه من أمر مبشركم ويرضي مطامعكم هو عذاب شديد. مؤلم أشد الإيلام، فهو ثمرة نفاقكم، فما غرستم من غرس هو شر محض، فلا ينتج إلا شرا.
* * *
* * *
هذه بعض أحوال المنافقين، وموقع (الَّذِينَ يَتَّخِذونَ) إما أنها بدل أو عطف بيان من المنافقين المذكورين في الأولى، وإما أنها في موضع النصب على الاختصاص، ويكون المعنى على هذا: أخص الذين يتخذون...
وعندي أن البدل أولى؛ لأن تلك الأحوال تعمهم، ولا تخص فريقا منهم دون فريق.
وما معنى اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين - نقول إن الذي يقرب معنى الآية الكريمة أن نقول إنهم يلتمسون النصرة والعزة والكرامة من الكافرين، ويجعلون انتماءهم إليهم لَا إلى الدولة الإسلامية، ويتخذون هذا الولاء ضد المؤمنين، أي أنهم يجعلون الولاء في الأمر الذي يكون فيه خلاف بينهم وبين المؤمنين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
أي مخالفين ومعاندين ومباعدين ولاء المسلمين، ومتجهين إلى ولاء الكافرين، ومؤدى هذا أنهم يتركون ولاء المؤمنين، للوصف اللازم لهم وهو الإيمان، ويتخذون ولاء الكافرين للوصف المميز لهم وهو الكفر، وهم بهذا يحاربون الله ورسوله، والله تعالى يقول: (لا تَجِدُ قَوْمًا يؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
والولاء قسمان: ولاء نصرة وانتماء، وهذا منهي عنه من المؤمنين إلا بالضرورة، وولاء مودة ومحبة، وهذا غير منهي عنه بالنسبة لغير المسلمين إلا إذا كانوا قد حاربوا الله ورسوله وخرجوا محاربين له منابذين.
وقد استنكر سبحانه وتعالى أن يكون لهؤلاء المنافقين ما يبرر هذا الولاء، ولذا قال سبحانه وتعالى:
(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) إن هؤلاء المنافقين تضل أفهامهم، ويطمس على مداركهم، ويفسد تفكيرهم؛ لأنهم مردوا على الابتعاد عن الحقائق والحكم على الزمان بحالهم الوقتية، ولا تنفذ عقولهم إلى ما وراء ظاهر الأمور، فهم يطلبون العزة من غيره.
والاستفهام هنا لإنكار الواقع، أي للتوبيخ على أمر وقع منهم، وهو أنهم يطلبون العزة ويريدونها إرادة شديدة راغبين فيها من الكافرين الذين لَا يملكون أن يعزوا غيرهم لأنهم يعاندون الله تعالى، ولا عزة لمن يجحد ويعاند الله العزيز الحكيم. وقد أكد الله تعالى ذلك المعنى بقوله تعالت كلماته:
(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي أنه لَا عزة إلا ما يكون من عند الله تعالى، ولمن يطيع أوامره، وينتهي عن نواهيه، وقد أكد الله تعالى أن العزة له وحده بعدة مؤكدات منها التوكيد بـ " إنَّ "، ومنها ذكر لفظ الجلالة، ومنها ذكر عمومها بكلمة (جَمِيعًا).
إن العزة لله وحده، فليس بعزيز من يعانده؛ إذ ليست العزة غطرسة وكبرياء، ولكنها معنى نفسي يسكن في القلب فيحس باستعلاء على مظاهر الحياة، واستجابة لمعانيها وأولئك الذين يريدون العزة من غيرهم يبنونها على أوهام، وعلى مطامع مادية، وليست هذه العزة، إن كل استعلاء يبنى على أمر مادي، أو جاه خارجي، أو مطمع دنيوي، إنما هو وهم سرعان ما يزول، وتذل النفوس التي
وإن أولئك المنافقين لفرط كفرهم وإيغالهم في البعد عن الله يشاركون الذين يثيرون السخرية عند تلاوة القرآن، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
إن المنافقين يوالون الكفار ويجعلون الولاية لهم، ويجلسون معهم مستهزئين ساخرين معاندين الله تعالى مع أنه سبحانه وتعالى نزل في كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم أيها المخاطبون بالحقائق الإسلامية الذين يتحدثون ساخرين بالقرآن، فلا تقعدوا بل اتركوا مجلسهم وأعرضوا عنهم حتى يخوضوا أي يتكلموا في حديث غيره، والذي نزل في القرآن ونهى عن الجلوس مع الذين يستهزئون بما جاء به هو في سورة الأنعامِ المكية التي نزلت قبل سورة النساء المدنية، وهو قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِين يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخوضوا فِي حَدِيث غَيْرِهِ).
والخطاب في قوله تعالى: " عليكم " لعامة الذين يتلون القرآن الكريم من مؤمنين صادقين، ومنافقين، ومؤدى الكلام أنه من المنهي عنه أن يجلس المسلم مع مثير السخرية على آي القرآن، والمشركون يفعلون ذلك، ومع ذلك لَا يكتفى المنافقون بهذا، بل إنهم يولونهم أمورهم، ويجعلون عزتهم منهم، ويكون ضمير الغيبة عائدا على الكافرين.
وبعض العلماء قال إن الخطاب للمنافقين وهو لَا يخرج عن المعنى السابق.
وأرى أن الخطاب كله للمؤمنين، وفيه تحذير للمؤمنين من أن يجالسوا المنافقين إذا استهزءوا بآيات الله تعالى، وسخروا من الأحكام الإسلامية؛ لأن سماع الشر شر؛ ولأن سماع الاستهانة بالقرآن قد تؤدي إلى الاستهانة من السامع، فأول الشر سماع الشر، وإن أولئك المنافقين يبدو في مجالسهم كلمات الكفر وكلمات الاستهزاء.
وقد بين سبحانه أن القعود مع الأشرار، وسماع كلمات الكفر والاستهزاء، يجعل المؤمن كالكافر والمنافق، ولذا قال سبحانه:
(إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ) أي إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهم يعلنون الكفر بآيات الله تعالى وجحودها تكونون مثلهم في الاستهانة بكتاب الله تعالى ورسالة الرسول الأمين، والاستهانة بالأحكام الإسلامية، وقد رأينا ذلك عيانا، فإن أولئك الذين يجالسون الفرنجة ويقرءون ما يكتبون عن الإسلام، ويثيرون السخرية على أحكامه تسري إليهم العدوى، ولقد سمعنا بعض هؤلاء ممن يتسمى باسم إسلامي، وهو من أسرة إسلامية، يتهكم على قوله تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...)، فلعنه الله تعالى، ولعنة الله على كل من لا يؤمن بسلامة هذه القضية، ولعنة الله على كل من ينكر ميراث القرآن أو يهون من شأنه.
وإن الآية يستفاد منها فوائد: أولها أن الاستهزاء بالحقائق القرآنية لَا يقدم عليه مؤمن. وثانيها أن الاستماع إلى الكفر بها والاستهزاء يجعل السامع كالمتكلم؛ لأن السكوت لَا يخلو من رضا ولو كان جزئيا، ثالثها أن الشر يسري من القائل إلى السامع كما يسرى السم في الجسد، وكما يجري الشيطان في النفس.
وقد أكد سبحانه النهي عن مجالسة المنافقين بقوله تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ جَامِع الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) أي أنه إذا كان المنافقون يطلبون العزة من الكافرين، ويطلبون الولاء والنصرة منهم ويحاولون بذلك أن يجتمعوا على النبي - ﷺ -، فإن الله سبحانه وتعالى جامعهم في الذل والهوان، لا في العز والاستمكان، إنه جامعهم في جهنم جميعا بلا استثناء قط؛ لأنهم تحدوا الله ورسوله، ولأنهم جحدوا بآيات الله تعالى وسخروا منها، ولأن كلمة الكفر تجمعهم وتفرقهم في النوع لَا في الأصل. فإن الكفار قسمان: قسم أعلن الكفر
* * *
* * *
التربص الانتظار، فيقال تربص بمعنى انتظر، ويقال تربص به إذا انتفره مراقبا له، ففي قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بِأنفسِهِنَّ ثَلاثَةَ فرُوءٍ)، يراد التربص مع مراقبة النفس، وملاحظة حال الحيض وغيرها.
وهؤلاء المنافقون عند اشتداد الشديدة، وقيام الحرب ينتظرون مراقبين المؤمنين وغيرهم، فإن كان النصر الفاتح الفاصل بين قوة الشرك وقوة أهل الإيمان بنصر الله تعالى وتأييده قالوا: نحن معكم لنا حظ في الغنيمة ولابد أن يسهم لنا سهم فيها، وإن كان للكافرين نصيب من النصر قالوا: ألم نحطكم بحمايتنا ورعايتنا ونمنع المؤمنين من أن ينتصروا عليكم، أي أن انتصاركم كان بفضل حياطتنا ورعايتنا، فهم لطمعهم مترددون بين الفريقين كالشاة العاثرة بين غنمين، يذهبون إلى حيث المطمع العاجل، إذا احتدم القتال بين الفريقين، أما إذا كان السلم فقلوبهم وولاؤهم للكافرين دائما لأنهم منهم.
وفى النص القرآني بعض بحوث لفظية تقرب معنى النص الكريم:
أولها - أنه سبحانه وتعالى عبر عن النصر في جانب المؤمنين بأنه فتح؛ لأن الفتح فصل بين الحق والباطل، ولأنه من وراء نصر المؤمنين فتح الطريق لكي يدرك الناس الإسلام، ويدخل فيه من أراد، ولأن النصر للمؤمنين دائم، وقد عبر سبحانه عن الفتح أنه يجيء من الله وفي ذلك معنى الدوام؛ لأن الذي يجيء به هو الله القائم على كل شيء فهو باق ما بقيت الأسباب التي تتخذ للنصر.
ثانيها - أن الاستفهام في قوله تعالى: (ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) معناه أننا كنا معكم مؤكدين ذلك بالاستفهام، وهو الذي يسمى الاستفهام التقريري وهو في أصله للنفي، وهو داخل على النفي، وهو: لم نكن معكم، فهو نفي لهذه القضية، ونفي النفي إثبات، ومثل ذلك قوله تعالى: (ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ).
رابعها - أن كلمة استحوذ معناها أحطنا بحاذيكم أي جانبيكم وهذا كناية عن الإحاطة بهم للحماية والمنع.
(فَاللَّهُ يَحْكمُ بَيْنَكمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) وإذا كانت تلك حال المنافقين، في الدنيا وحال الكافرين فيها، فإن مالهم إلى الله تعالى يوم القيامة، وهو الذي سيحكم بالحق وحده، ولا يستوي الذين يؤمنون والذين يكفرون، ومهما يكن من استنصار المنافقين بالكافرين، وتمالؤ الفريقين على المؤمنين، فالله سبحانه ولي المؤمنين سيقطع ما بين الفريقين، وسيكون المؤمنون في النعيم، وأولياء الشيطان في الجحيم.
وإنه في الدنيا والآخرة لن يجعل الله تعالى للكافرين بوصف أنهم كافرون سبيلا أيَّ سبيلٍ للسيطرة على المؤمنين بوصف أنهم مؤمنون، وإذا كنا نرى غلبة من أهل الكفر على الذين يتسمَّوْن باسم الإسلام الآن؛ فلأنهم تخلوا عن أوامر الله تعالى للمؤمنين، وخذلوا الحق، فما كانت الغلبة من كافر على مؤمن بل كانت من كافر على مسلم تخلى عن واجب الإيمان، اللهم ارفع كلمة الحق والإيمان، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لَا يرحمنا، إنك سميع الدعاء.
* * *
* * *
الكلام في المنافقين، وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة علاقتهم بالمؤمنين، فذكر أنهم يتربصون بهم الدوائر، ويريدون أن ينالوا من الغنائم من غير أن يعملوا، وقلوبهم مع الكافرين.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا لأهل النفاق، وهو أنهم يظنون أن أعمالهم مستورة، وأن الناس عنهم غافلون بل إنه ليصل بهم فرط غرورهم إلى أن يظنوا أن الله تعالى لَا يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويعاملوا الناس على أساس هذه الخديعة، ولذا قال سبحانه فيهم:
أحدهما - أن معنى مخادعتهم لله تعالى أنهم يعاملون الله تعالى كأنهم يخادعونه؛ إذ يظنون أنه يخفى عليه أمرهم فيعلنون غير ما يبطنون، ويظنون أن الله تعالى لَا يعلم ما في قلوبهم، وخفايا نفوسهم؛ وذلك لأن المخادع يتوهم أن من يخادعه لَا يعلم أمره، فهؤلاء لفرط جحودهم، وكفرهم بالله وجهلهم لذاته وصفاته يتوهمون أن أمورهم خافية عليه، وأنهم معه كأمرهم مع الناس، إذ يخفون ما لَا يبدون.
والثاني - أن معنى مخادعتهم لله أنهم يخادعون النبي والمؤمنين؛ إذ هم أولياء الله تعالى، ومن يخادعهم كأنما يخاح الله سبحانه وتعالى، وقد وضح هذا التخريج الراغب الأصفهاني، فقال: " الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه. قال تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ) أي يخادعون رسوله وأولياءه، ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث إن معاملة الرسول كمعاملته، ولذلك قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) ".
وجعل ذلك خداعا له تفظيعا لفعلهم وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه، وقول أهل اللغة إن هذا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لَا يحصل لو أتى بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين: أحدهما فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة، وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله، والثاني التنبيه على عظم المقصود بالخداع، وأن معاملته كمعاملة الله تعالى.
ومرمى هذا الكلام هو بيان منزلة الرسول وأولياء الله، وأن خداعهم خداع لله وهو أمر فظيع، وأن الأصل هو أن الكلام على حذف مضاف وهو الرسول والمؤمنون، وكأن نسق الكلام: يخادعون رسول الله، فحذفت كلمة الرسول،
وفى الحق إن التخريجين يمكن الجمع بينهما، فهم يعاملون الله تعالى معاملة من يظنون أنهم يخادعون لعدم إيمانهم بالله، وهم يخادعون أولياءه ومن هذا الطريق أيضا يخادعون الله تعالى.
ومعنى خدع الله تعالى لهم أنهم مقابل ذلك الخداع الذي يصنعونه يجزون بجزائه، وهو ثمرة له، فمعنى خدع الله تعالى مجازاتهم على نفاقهم، ومحاولتهم خداع الرسول - ﷺ - ومن معه.
ويصح أن يقال إن معنى خدع الله تعالى أن يرد عليهم كيدهم في الدنيا، فيأتيهم سوء العاقبة في الدنيا من حيث كانوا يظنون أنهم واصلون إلى مقاصدهم؛ إذ يحسبون بنفاقهم أنهم واصلون إلى غاياتهم، فيأتيهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا، ويظنون أنهم مجهولون، والله تعالى كاشفهم.
وهنا إشارة بيانية دقيقة، وهي أنه سبحانه وتعالى عبر عن خداعهم بصيغة تدل على المشاركة والمغالبة، وأنهم قد ينجحون وربما لَا ينجحون، أما خداع الله تعالى لهم، فلم يعبر عنه بصيغة المشاركة بل عبر سبحانه بقوله: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ) للدلالة على الغلب، وأن الله تعالى لَا محالة كاشف أمرهم ومزيل مغبة خداعهم، ومحاسبهم لَا محالة على ما يرتكبون.
(وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسَالَى يرَاءُونَ النَّاسَ) هذه حال من أحوال المنافقين تدل على مقدار نفاقهم وتظهره، وهي أيضا من قبيل الخداع لله ولرسوله، وللمؤمنين وذلك في الصلاة، ففي المظهر الحسي لها يقومون كسالى متثاقلين، لا نشاط يحركهم ولا إيمان يبعثهم، وهذا مظهر يريدون به إظهار الإيمان، وهو يكشف عن خبيئة أنفسهم، ولذلك جعل النبي هذا النوع من الصلاة شيمة النفاق، فقد قال - ﷺ - ذامًّا الذي صلى على هذا النحو: " تلك صلاة المنافقين " تلك صلاة
والحقيقة النفسية في هذه الصلاة أنهم يتوهمون بها أنهم يخدعون غيرهم، إذ إنهم يصلون هذه الصلاة ليراءوا بها، والرياء أن يقوم الشخص بالعمل الجميل في مظهره لَا لاتباع أمر الله والقيام بحق الغير عليه ونفع الناس به، بل ليخدع به الناس ويظهر بالخير ابتغاء رضاء الناس. والرياء نوع من الشرك، فقد قال - ﷺ -: " من صلى يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (٢).
وإن هذا النوع من الخداع مكشوف كما رأيت، فهم لَا يقصدون وجه الله بصلاتهم، ولكن يقصدون ستر نفاقهم وتغطية أمرهم، ولذلك قال الله تعالى فيهم:
(وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) أي أنهم لَا يجري ذكر الله تعالى في قلوبهم إلا ذكرا قليلا، أو إلا وقتا قليلا لَا يلبث أن يطفئه النفاق وإذا قامت في قلوبهم شعلة من الإيمان بالله لَا تلبث أن تخبو لغلبة أهوائهم؛ وذلك لأن هؤلاء المنافقين يعرفون الله تعالى، ويدركون معاني الإيمان، ولكن غلبت عليهم شِقْوَتُهم، فكفروا به إذ عرفوه، ومن كانت هذه حاله يعتريه أحيانا تذكر لله تعالى وعظمته.
_________
(١) رواه مسلم بلفظ مقارب بلفظ الفرد (تلك صلاة المنافق) بغير تكرار، كما رواه الترمذي، والنسائي، ورواه أبو داود، وأحمد، ومالك بنحو من الرواية المذكورة في التفسير. أما ما رواه مسلم: المساجد ومواضع الصلاة - استحباب التبكير للعصر (٦٢٢) عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ، حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الظُّهْرِ، وَدَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ، قَالَ: أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟ فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ، قَالَ: فَصَلُّوا الْعَصْرَ، فَقُمْنَا، فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا.
(٢) سبق تخريجه من رواية أحمد عن شداد بن أوس.
(وَلا يَذْكُرونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) هو حال لهم ذكرها يفيد أنهم قد طمس على قلوبهم حتى إذا جاءهم بريق من النور أطفأوه، ولا يبقونه. وهؤلاء المنافقون أمرهم عجب هم أحيانا يدعون أنهم من دولة أهل الإيمان وفي ولايتهم إن وجدوا للمؤمنين غلبا، وينتمون إلى دولة الكفر إن كان للكفر نصيب من نصر أو غَلَبَ أهل الحقد على أهل الإيمان، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
الذبذبة الاضطراب، ومن ذلك قول النابغة في مدح النعمان: ألمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعطاكَ سورةً... تَرَى كُلَّ مُلكٍ دُونها يتذبذبُ أي يضطرب ولا يصل إليها، كذلك هؤلاء المنافقون في اضطراب دائم مستمر، ويترددون: أيخرجون من الكفر إلى الإيمان، أم يبقون على ما هم عليه من كفران، ثم أهم يجعلون أنفسهم مع محمد وأوليائه، أم مع الذين يحاربونه من أعدائه، وقد أشرنا من قبل إلى ما رواه مسلم من قول النبي - ﷺ -: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه أخرى " (١).
وهنا أمر لفظي، وهو قوله تعالى: (بَينَ ذَلِكَ) الإشارة في الظاهر إلى المذكور آنفا، في طي الكلام، وهو الكفر والإيمان، أو الاستنصار بأهل الإيمان والاستنصار بأعدائهم، فهم مترددون بين هذين الأمرين وهما المذكوران في مضمون الكلام، فالإشارة إلى المذكور، وهو يتضمن أمرين متعارضين هما الالتجاء لأهل الإيمان أو البقاء مع أهل الشيطان. والتعبير بكلمة (بين) الدال على المكان الذي يكون بين أمرين مؤداه أنهم يكونون في مكان متوسط بين الأمرين،
________
(١) سبق تخريجه.
ويصح أن تكون الإشارة إلى الولاء، فهم مترددون فيه، فإما أن يستنصروا بالمؤمنين ويوالوهم، وإما أن يستنصروا بالمشركين، فهم في هذا الاستنصار مترددون حائرون، لَا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وإنه لَا سبيل إلى هداية هؤلاء الحائرين، ولذا قال سبحانه:
(وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) لقد كان النبي - ﷺ - يتمنى الهداية لكل الذين يدعوهم، حتى الذين ينافقون منهم، فبين الله تعالى أن ذلك غير ممكن إلا أن يريد الله، لقد كان النبي - ﷺ - يستغفر للمنافقين، فبين الله تعالى أن الله لَا يغفر لهم، فقال تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ). وبهذا الحكم الثابت لن تكون لهم هداية لم يُرِدْها الله تعالى.
ومعنى النص: ومن يكتب الله تعالى عليه الضلال في سجله المحفوظ يتردى في مهاوي الرذيلة، حتى يركس فيها، ويتكاثف الشر في قلبه، ويزيد بالخطايا فلن ينفتح باب الهداية له، ولن يشرق عليه نور الإيمان، وبذلك لن تجد سبيلا لهدايته. وإن ما يكتبه الله تعالى إنما هو علمه المكنون الذي لَا يتخلف أبدا، وهو لَا يمنع إرادة الشر من مرتكبه، وإرادة الخير من فاعله، ونسبة الإضلال إلى الله تعالى هي من قبيل المجاز من حيث إنه تركه في غيه ولم يسد عليه طريق الشر؛ لأنه استمرأ الرذيلة، وسار في طريق الضلال إلى النهاية، فكان ضلاله بعيدا، والله تعالى يهدي من أراد لنفسه الخير، وسلك سبيل الرشاد، فإن الله تعالى يوصله الى طريق النجاة.
* * *
* * *
النداء للمؤمنين بالبعيد ليكون التنبيه قويا، ونادى بالموصول للإشارة إلى أن الإيمان يقتضي ألا يكون ولاء المؤمن لغير المؤمنين، ومعنى النص: يا أيها الذين آمنوا وحسن إيمانهم بالله، لَا تتخذوا الكافرين بالله الذين لم يخلصوا له نصراء لكم تدخلون في ولايتهم وتكونون تابعين لهم وتتركون المؤمنين، فإن ذلك لا يتفق مع الايمان، فالمراد بالولاية هنا النصرة والانتماء إلى جماعة الكافرين، وإن الولاء يطلق بمعنى المحبة، وبهذا المعنى جاء النهي عنه، وهو التبعية والنصرة، وإن هذا الأخير منهي عنه بالاتفاق، ولا يجوز من المؤمن إلا اتقاء الأذى إن تيقن الإيذاء، أما المحبة فغير منهي عنها إلا أن يكون الكافر قد انتقل إلى المحادة والعداوة، ولا يقتصر على مجرد الكفر، ولذلك قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ).
وقوله تعالى: (دُونِ الْمُؤْمِنينَ) يشير إلى أنهم يتركون المؤمنين لينضموا إلى ولاية الكافرين، وذلك لَا يسوغ من مسلم، ولذلك قال تعالى: (أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا).
الاستفهام للإنكار والتوبيخ إن وقع هذا منهم، وهو يتضمن التهديد لهم بتسليط مقت الله عليهم إن فعلوا فهو استفهام يتضمن إنكارا للوقوع، أي لَا يقع منهم، ولا يصح أن يقع، ويتضمن التحذير والإنذار، والمعنى: إنكم إن فعلتم ذلك فقد جعلتم لله حجة في عقابكم، وتسليط ذنوبكم عليكم وتخليه عن نصركم فإن نصر الله لَا يكون إلا لمن يطلب النصرة من الله وحده، ولن ينصر الله من يستنصر بغير الله كما قال تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
* * *
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (١٤٦) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (١٤٧)
* * *
الحديث في أقوال المنافقين، وشئونهم وعاقبة أمرهم لَا يزال مستمرا، وهذا النص القرآني يبين مآل المنافقين يوم القيامة، فهم في خزي دائم في الدنيا، وعذاب شديد مقيم في الآخرة، وجزاؤهم هو أشد جزاء؛ لأن كفرهم أشد كفر، لأنه كفر بالله، وكذب على رسول الله، وافتراء على المؤمنين، واستغلال لإخلاص المخلصين، ومن المشركين من يصدق في القول كما رأينا من أبي سفيان عندما سأله هرقل عن النبي - ﷺ - وأحواله، وليس من المناففين من يصدق في قول، أو يخلص في عمل أيا كان، ولذا قال تعالى:
وإن جهنم طبقات بعضها أسفل من بعض، وإن أسفلها أقساها عذابا؛ لأنها تتكاثف عليها ما فوقها من طبقات؛ ولأن أعمق النيران أشدها توهجا، وأكثرها لهيبا.
والمعنى: إن المنافقين الذين مردوا على النفاق واستمرءوه، صار وصفا لهم يمالئون الكافرين، ويخذلون المؤمنين، ينالهم عذاب يوم القيامة على أشده، وأشده هو أعماق جهنم، وهي الهاوية التي تهوي بهم أعمالهم فيها، وإن هذا النص الكريم يفيد أن جهنم طبقات ومنازل، وأن العقاب فيها مرتب على طبقاتهم، وهي كلها عذاب أليم، وقد وصفها القرآن الكريم بأوصاف كلها تنبئ عن الشدة في العذاب، فذكرت باسم " جهنم "، وهو ينبئ عن التردي في النار، ووصفت بأنها " لظى "، وبأنها " الحطمة "، ثم " السعير "، ثم " سقر "، ثم " الجحيم "، ثم " الهاوية "، وقال بعض العلماء إنها مرتبة في مقدار شدتها بهذا الترتيب، والله أعلم بما يكون يوم القيامة.
ولماذا كان المنافقون في الدرك الأسفل في الهاوية من العذاب؛ قد أجاب عن ذلك العلماء بأن المنافق أوغل في فساد النفس من أي مشرك كافر، وقد جعل الله تعالى لآل فرعون الذين مالئوه وعاونوه في طغيانه أشد العذاب، فقال سبحانه: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
وأولئك في كفرهم ونفاقهم أكثر إيذاء من أي كافر سواهم، ذلك أنهم جمعوا بين الكفر، والفسق والتضليل والتغرير والكذب، وتعرُّف أسرار المؤمنين وكشفها، وإظهار عورات المسلمين في الحروب، وإفساد لجماعة المؤمنين بإشاعة قول السوء بين المؤمنين، واستغلال ضعف الضعفاء منهم، وتوهين أمر المؤمنين بسبب ذلك الاستقلال، كل هذه جرائم متتابعة تدل على أن نفوسهم قد فسدت، وقلوبهم قد شغرت (١) من كل خير، والكافر الجاحد أقرب إلى الهداية من هؤلاء، فكان عقابهم أشد؛ لأن جرائمهم أشد.
________
(١) أي خلت.
ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها، وهو أشد الكفر، ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين، ولا تخرج المسلم عن إسلامه، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا، ومن ذلك ممالأة الحكام، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا، وخداعا.
وقيل لابن عمر - رضي الله عنهما -: " ندخل على السلطان، ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال - رضي الله عنه -: (كنا نعده من النفاق).
ولقد جاء في الحديث النبوي الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان، فريق خلص للنفاق، وهذا منكوس القلب والنفس والفكر؛ وقسم فيه خصلة من النفاق، وهذا يتنازعه الخير والشر، ولنضيء القرطاس بنور الرسالة، فقد قال - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه الإمام أحمد: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يَزْهَرُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ، فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ: فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ: فَقَلْبُ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ: فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ، ثُمَّ أَنْكَرَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصْفَحُ: فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ وَالدَّمُ، فَأَيُّ الْمَدَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ " (١).
وإننا لهذا نقول إن النفاق في داخل الإسلام مراتب، وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام، وينحدرون إلى درجة وضعهم في مقام النبيين ومنهم من يذهب به فرط نفاقه، فيفضل بعض عملهم على عمل النبيين، وهؤلاء نتردد في الحكم بأنهم
________
(١) أجرد: ليس فيه غش ولا خداع. أغلف: عليه غشاء من سماع الحق وقبوله. مصفح: ذو وجهين اجتمع فيه نفاق وإيمان. والحديث رواه أحمد: باقي مسند الكثرين - مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (١٠٧٤٥).
هذا عقاب المنافقين في إيمانهم في الآخرة، ولهم عقاب في الدنيا والآخرة، ذكره سبحانه بقوله تعالى:
(وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) نفَى الله تعالى عنهم نفيا مؤكدا، أن يكون لهم نصراء، وجعل الخطاب موجها للنبي - ﷺ -، وهو الذي ذاق آثار نفاقهم، وذاق المؤمنون معه مرارة ذلك النفاق، لأن في ذلك تثبيتا للمؤمنين، حتى لَا يتزلزل أحد منهم بعمل المنافقين الذي مردوا عليه، ولم يتراجعوا عنه، ولأنهم أرادوا بالنفاق الاستنصار بغير دولة الحق، لتفوز دولة الباطل على النبي - ﷺ -، فذكر الله تعالى لنبيه أنه لن يجدهم منصورين عليه أبدا لأنهم لَا ناصر لهم.
وإن هؤلاء لن يكون لهم نصير يوم القيامة، لأنه لله وحده، ولن يجدوا نصيرا يخلص في النصرة لهم في الدنيا، لأن النفاق يسلب الثقة عنهم، فلا ينصرهم أحد ممن يستنصرون بهم، بل إنهم يستخدمون شرهم، ولا يعطونهم خيرا، وما وجدنا منافقا في الماضي أو الحاضر يخون قومه، وينال نصرة صحيحة ممن ينافق لأجلهم، فتلك سنة الله تعالى في المنافمَين: (وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا).
إن الله سبحانه وتعالى ذكر المنافقين بما يدل على أنهم أُركسوا في الشر، وطغى على قلوبهم، وأغلق باب الهداية عليهم، حتى أن رجوع المشرك عن شركه أقرب من رجوع المنافق عن نفاقه، فغلاف القلوب قد ينكشف ولكنه سبحانه مقلب القلوب، فقد تكون من المنافق توبة، ولذلك فتح الله سبحانه وتعالى بابها بقوله سبحانه في هذا الاستثناء:
* * *
* * *
الاستثناء هنا منقطع، لأن الذي يتوب التوبة النصوح لَا يمكن أن يعد في صفوف المنافقين الذين يستحقون الدرك الأسفل من النار؛ ولذا نقول إن المعنى هو: لكن الذين تابوا من النفاق وخرجوا من صفوفه يكونون مع المؤمنين، وإن أولئك الذين يخرجون من أوكار
أول هذه الأوصاف: التوبة، وهي التوبة النصوح، وأركانها ثلاثة - أولها إدراك لقبح العمل ثم الندم على ما كان منه ثم الإقلاع وأن يعزم على ألا يعود إليه من بعد أبدا، فماذا تحققت هذه الأركان فإن الله يفتح قلب العبد لنور الهدى، ويأخذ بيده إلى سلوك طريق الحق المستقيم.
والوصف الثاني: أن يكون التطهير القلبي له مظهر عملي ليقوى، وذلك بالإصلاح، بأن يتجهوا في ذات أنفسهم إلى الأعمال الصالحة التي هي مظهر الإذعان والتوبة، فكل ما يكون في النفس من درن النفاق يطهرها منها بالاستمرار على العمل الصالح ويدوم عليه، فليست التوبة، كلاما باللسان، ولكنها طهارة للوجدان، ومع إصلاح النفص وتقوية عزيمتها يتجه إلى الإصلاح في الأرض وعدم الإفساد فيها، فلا يفسد بين الناس، ولا يغري بالعداوة بينهم، ولا يخذل أهل الحق، وينصر أهل الباطل، فالإصلاح المطلوب يتضمن عناصر ثلاثة، تطهير النفس من أدناس النفاق كلها، فيخرجها منها كما يخرج الذهب الخالص مما اختلط به، والعنصر الثاني العمل الصالح يقوم به لذات نفسه وللناس، والثالث أن يكون بين الناس عنصر إصلاح وتوفيق، لا عنصر إغراء وتوهين للجماعة.
والوصف الثالث: الذي يلتحق به بأهل الإيمان الاعتصام بالله، والاعتصام به سبحانه هو التمسك باوامره ونواهيه والالتجاء إلى كتابه وسنة رسوله، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)، والاعتصام بالله يقتضي ألا يجد المؤمن ملجا إلا في جماعة المؤمنين، فلا يستنصر بغيرهم، ولا يجعل ولاءه لمن دونهم، فذلك شر بلايا النفاق.
الوصف الرابع: الإخلاص في دين الله، بأن يجعل كل قلبه لله تعالى، ولا يجعل في قلبه مكانا لغير الله تعالى، وأن يجعلوا طلبهم الدين لأجل الله تعالى لا لدنيا يصيبونها، ولا لهدف غير الإيمان يستهدفونه، فيطلبون الحق لوجهه، وينفذون كل
إذا تحققت هذه الأحوال دخلوا في الجماعة المؤمنة، ولذا قال سبحانه: (فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) أي فأولئك الذين اتصفوا بهذه الأوصاف بسببها يخرجون من صفوف المنافقين إلى صفوف المؤمنين، فالإشارة في قوله تعالى (فَأُولَئِكَ) للسابقين، وهم قد عرفوا بأوصافهم، فكانت الإشارة إليهم موصوفين بها، وكانت هذه الأوصاف هي السبب في ارتفاعهم من دركة النفاق السفلى إلى درجة أهل الإيمان العليا، وذكر الله سبحانه وتعالى هذه المعية للمؤمنين لشرف الصحبة مع الأخيار الأبرار، بعد طلبهم النصرة من الأشرار الكفار، فهذا دليل على الرفعة في الصحبة بعد الانخفاض فيها، كما ارتفعوا عند الله، والإشارة بالبعيد للدلالة على رفعة منزلتهم بالتوبة، وفي كل ذلك تحريض عليها وترغيب فيها فإن الله تعالى يحب توبة عبده، وهو الغفور الرحيم، العزيز الكريم.
وإنهم إذا كانوا مع المؤمنين، فإن لهم جزاءهم وقد وعد الله المؤمنين جزاء عظيما، ولذا قال سبحانه:
(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) والأجر هو الجزاء، وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما - أن التعبير بـ " سوف " لم يكن استعماله في القرآن، وهو أحكم الكلام للدلالة على مجرد التسويف الزماني، بل هي لتأكيد الوقوع في الأمر المستقبل، وكأن المعنى أنه من المؤكد أنه سينزل المؤمنون بمقام الرضا والجنات في قابل أمرهم كما ظفروا بالرضا والنصر، والتأييد في عاجلهم.
ثانيهما - تنكير الأجر إذ قال " أجرا عظيما "، فنكر الأجر ووصفه بالعظم، والتنكير هنا للتعظيم، فكأنه قد أكد عظم هذا الأجر مرتين مرة بما تضمنه معنى التنكير، ومرة أخرى بالتصريح بوصف العظم، وإن جزاء الله لعظيم أيَّ عِظَم.
________
(١) سبق تخريج ما في معناه من حديث.
* * *
* * *
الاستفهام هنا للنفي، والمعنى ما الذي يفعله الله تعالى راضيا به محبا له بعذابكم وآلامكم إن شكرتم نعمته، وأديتم حقها حق الأداء فآمنتم به، ومن الإيمان به تصديق رسله وإجابتهم وإطاعتهم؟! أي أنه سبحانه لَا يفعل بكم شيئا من العذاب ولا الإيلام في الآخرة إن كان منكم الشكر والإيمان، بل إنه سبحانه وتعالى مجازيكم شاكرا لكم توبتكم بعد الكفر، وطاعتكم بعد العصيان، ولذا قال سبحانه:
(وَكانَ اللَّه شَاكِرًا عَلِيمًا) أي أنه من صفات الله تعالى، وشأنه الدائم أنه مثيب الطائع، عليم بموضع طاعمه، وما تخفي الصدور، فالآية ذيلت بما يدل على الثواب والنعيم لأهل الإيمان، ومن ينضم إليهم من التائبين، وفي الآية الكريمة ثلاث إشارات بيانية:
الأولى - التعبير بالاستفهام للإشارة إلى أن الله تعالى رتب الجزاء على العمل، وأنه يجب على عباده أن يعرفوا ذلك ويدركوه، وأنه ليس من المعقول مع حكمته تعالى، وكريم وعده ألا يعطي عاملا عملا طيبا جزاء عمله.
الثانية - تقديم الشكر على الإيمان، في قوله تعالى: (إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ).
ذلك أن الرجل الذي يتجه إلى الخير تكون نفسه مدركة للنعم التي أنعم الله بها على عباده، شاكرا لأنعمه، قادرا لها حق قدرها، فيكون ذلك سبيلا لطلب الحقيقة فيكون الإيمان، فالشكر يؤدي إلى الإيمان، والإيمان يؤدي إلى أعظم الشكر.
الثالثة - أن الله تعالت عظمته سمى ثواب الطائعين شكرا منه، وذلك إجلال للطاعة، وتشريف للمطيع، ومنة وفضل منه سبحانه فوق منته وفضله، وأن هذا تعليم لنا لنشكر للمحسن فضل الله، اللهم اهدنا إلى أن نشكر لك في ضرائنا وسرائنا، إنك نعم المولى ونعم النصير.
* * *
* * *
في الآيات السابقة كشف الله سبحانه وتعالى عن أوصاف المنافقين، وبيَّن ظواهر أحوالهم، ومجموع أمورهم، وما يرتكبون من سيئات واضحة معلمة، وما يخفون في صدورهم من أحقاد مكنونة، وبيَّن مآل أمرهم إن استمروا في غيِّهم يعمهون، وبيّن سبحانه وتعالى أن باب التوبة مفتوح، وأن الله تعالى لَا يغلق باب الرحمة بالتوبة على أحد من عباده، ولو كانوا منافقين، فإن الله تعالى يحب التوابين، والتوبة عنده سبحانه تجبُّ ما قبلها من سيئات مهما تكن.
وفى هذا النص الكريم بين أن الجهر بالسوء من القول لَا يكون إلا في أحوال تقتضي ذلك، وقد وجد مقتضاه في أهل النفاق، فليحترز المؤمن من الاسترسال في الجهر بالسوء إلا عند أشد الحاجة إليه، ولذا قال سبحانه:
والمحبة أكثر من الرضا، والرضا أكثر من الإرادة، فهذه كلها صفات للذات العلية مرتبة في القوة، فالإرادة تتعلق بالخلق والتكوين، فما أراده الله تعالى يقع، وما لا يريده لَا يمكن أن يقع، فلا يمكن أن يقع من أفعال الإنسان ما لَا يريده رب العالمين، ولا يمكن أن يفعل الإنسان شيئا لَا يريده العليم الخبير الذي لَا تخفى عليه الأنفس، وما تكنُّ الصدور.
والحبة مرتبة فوق الرضا، أو هي أبلغ الرضا، وقد وعد الله تعالى أهل الإيمان الحق الصادق بأنهم ينالون محبته، وهي أقصى درجات الرضا.
ومع أن المحبة من الناحية الإيجابية أقصى درجات الرضا، هي من الناحية السلبية، تكون في مرتبة الغضب، فمعنى (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ). أن الله تعالى يبغض الجهر بالكلام الذي هو سوء في ذاته، ويسيء الناس، ويؤذي الفضيلة، فإن ذلك إعلان سيئ الأعمال، وقبيح الأقوال.
والجهر معناه النطق به في إعلان لَا خفاء فيه؛ ونشر هذا الكلام بين الناس، وإذاعته بين ربوعهم.
والمعنى الإجمالي للنص السامي أن الله تعالى يبغض الجهر بالأمر السَّيئ أو الأفعال السيئة. وكل إعلان للمنافق والفاجر من الجهر بالأمر المسيء هو من قبيل الجهر بالسوء من القول، فـ " مِنْ " هنا بيانية وهي بيان لنوع السوء بأنه من القول، وذلك يشمل كل إعلان للأعمال القبيحة، والترامي بها، فيشمل القذف والسباب وإعلان المعاصي والجرائم، وتفصيل القول فيها من غير حاجة إلى بيانها، ولا إقامة حق في إعلانها، فإن ذلك كله من سوء القول وفاحشه.
وإن الإسلام في سبيل تكوين رأي عام مهذب نهى عن إعلان الآثام والمفاسد الشخصية، ولقد قال النبي - ﷺ -: " أيها الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات،
وإن الجهر بالسوء يسهله، فتزداد الجرائم ويسهل ارتكابها لمن هو على استعداد لها، وكثيرا ما نرى الشبان يرتكبون جريمة معينة قد أخذوها من قصة أذيعت، أو نشرت، أو تردد ذكرها، فإن ذكر الشر يستهوي الشباب، خصوصا إذا قدم في عرض منسق يحبب الاستماع إليه، فإنه يسري في النفوس سريان الطعام المسموم في الأجسام.
وفوق ذلك فإن كثرة ذكر السوء والفجور يزيل استنكاره في النفس، ويذهب بروعة الحق، وإن ذكر السوء لأهل السوء يثير عدوانهم ويجعلهم يتبجحون في ارتكابه، ويباعد بينهم وبين الاستجابة لداعي الهدى، ذلك أن الناس إذا استتروا في شرهم، وظنوا أن الناس لَا يعلمونه كان كتمانه مسهلا لقتله في نفوسهم، فإن أعلن وفقدوا حياءهم استمرءوا الشر وأعلنوه، وكل إعلان منهم تغليق لباب الهداية في قلوبهم بيد أن الشر أحيان ايجب إعلانه لدفعه، إذا كان ثمة فريسة لهذا الشر، وتعدٍّ بالظلم، فإنه يجب دفعه، ولذلك ذكر سبحانه بعد أن قرر القاعدة العامة، وهي أنه لَا يحب الجهر بالسوء استثناء حال الظلم فقال:
(إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) الاستثناء هنا عند بعض العلماء استثناء منقطع، فـ " إلا " هنا معناها لكن، والمعنى: لكن من ظلم له أن يجهر بالسوء لدفع
________
(١) موطأ مالك - الحدود فيمن اعترف على نفسه بالزنا (١٥٦٢) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ. فَقَالَ: دُونَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ. ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا. فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ ".
(٢) سبق تخريجه.
وقال بعض العلماء إن الاستثناء متصل، وتأويل الكلام أن الله تعالى لَا يحب الجهر بالسوء إلا جهر من ظلم فإنه ليس بخارج عن محبة الله تعالى لأن دفع الظلم واجب ولازم، ولقد قال رسول الله - ﷺ -: " لَتَأْمُرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذنَّ على يدي الظالم ولتأطُرُنَّه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم ".
فدفع الظلم واجب، وإذا كان الجهر سبيله فهو واجب؛ لأن ما لَا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، ولكن ما مدى الاستثناء الذي يسوغ الله سبحانه وتعالى به للمظلوم أن يجهر بالسوء، وأن يعلنه؛. نقول بالإجمال إن مداه هو منع الظالم من الاستمرار في ظلمه وحمله على الانتهاء عن غيِّه، وإن ذلك يشمل الأحوال الآتية: الأولى - أن يجهر الخصم بما ارتكب خصمه من مآثم في حقه أمام القاضي، فإن الجهر في هذه الحال لَا يبغضه الله تعالى؛ لأنه إقامة حق، ودفع باطل، ولقد قال تعالى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ).
ولقد قال رسول الله - ﷺ -: " ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته " (١) والمراد أن يغلظ له في القول، ولا يقول القاضي قولا لينا إذا ثبت مُطله في أداء الدَّين ".
الثانية - إذا كان الحاكم ظالما، فإنه يجب توجيه اللوم الشديد إليه بالنقد من غير إسفاف، ولكن لَا يقول الناقد إلا حقا، ويستر نقده، حتى يرعوى هذا من غيه وذلك إذا لم تُجدِ فيه الموعظة الحسنة، فإن كانت مجدية لَا يصح الاتجاه إلى الجهر بمظالمه.
ولقد قال النبي - ﷺ -: " أفضل المجاهدين رجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر
________
(١) ذكره البخاري تعليقا: الاستقراض وأداء الديون - لصاحب الحق مقال، ورواه الترمذي: البيوع - مطل الغني ظلم (٤٦٨٩)، وأبو داود: القضية - في الحبس في الدين وغيره (٣٦٢٨)، وابن ماجه: الأحكام - الحبس في الديَن والملازمة (٢٤٢٧)، وأحمد: مسند الشاميين (١٧٤٨٦) عن السويد ابن الشريد الثقفي.
الثالثة - الدعوة على الظالم، فإن هذه الدعوة يصح أن تكون جهرا. ومن ذلك دعوة النبي - ﷺ - على العرب الذين ناوءوه، فقد قال - عليه الصلاة والسلام - في دعائه: " اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " (٣). وخص - عليه الصلاة والسلام - أسماء بالدعاء عليهم، وقد أثر عن السلف الصالح الدعاء على من ظلمهم، وكان يوصي الحسن البصري المظلوم بأن يقول في ظالمه: " اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي منه، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي ".
الرابعة - أن يذكر المظلوم الظالم الذي ظلمه بالسوء في مجالسه من غير كذب ولا بهتان، وقد روي عن بعض السلف أنهم ترخصوا في ذلك، وأجازوا لمن شُتم أن يرد الشتم بمثله، ولكن إن افترى عليه لَا يفتري؛ لأن الكذب حرام لَا يسوغه شيء، فلا تجوز المعاملة بالمثل فيه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لَا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول. ولقد روى أن عليًّا بن أبي طالب قال: " ادفعوا الحجر من حيث جاء، فإنه لَا يدفع الشر إلا شر مثله ".
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) رواه مسلم: الإيمان - بيان كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان (٤٩)، وابن ماجه: الفتن - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤٠١٣)، وأحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي سعيد الخدري (١١٠٦٨)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (٥٠٠٨)، والترمذي: الفتن (٢١٧٢)، وأبو داود: الصلاة (١١٤٠).
(٣) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأذان - يهوي بالتكبير (٨٠٤)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة - استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت نازلة (٦٧٥). عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والحديث أطرافه في البخاري تسعة وفي بعضها زيادة على بعض. فراجعه هنالك إن شئت.
ومهما يكن من أمر الجهر بالسوء، فإن الله تعالى عليم بالبواعث، سميع لما يجهر به الجاهر، وما يحدث به نفسه، ولذلك ذيل سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) أي أنه تعالى متصف بوصف السمع الكامل، والعلم المحيط الشامل، فهو سميع لما يجهر به الإنسان، وما تحدثه به نفسه، وما هو مطويّ من خلجات وجدانه، وعليم بالبواعث التي تبعثه على المنطق، ومجازيه بقوله وعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو عليم بكل أعمال الجوارح، وما يرتكبه العباد من خير وشر علما محيطا يليق بذاته العلية.
* * *
* * *
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى ما لا يحبه من الجهر بالسوء وأشار إلى الترخيص بالنطق به لدفع الظلم أو للقضاء على منكر من الأفعال أو زور من الأقوال، بين سبحانه وتعالى ما يحبه من الخير الإيجابيّ والخير السلبي ويكون بالعفو، فمعنى قوله تعالى (إِن تُبْدُوا خَيْرًا) أن الله سبحانه وتعالى يحب الخير في كل صوره، والخير هو عمل البر، والنفع الإنساني العام، فإن عملتوه فإنكم تعملون ما يحبه الله، فإن تبدوه وتظهروه وتعلنوه، أو تخفوه وتكتموه، فهو مقبول مجزي عليه في كلتا حاليه، فإن أظهرتموه للدعوة إليه، فإلى الخير تدعون، وأن أخفيتموه اتقاءً لله ومنعا للرياء. سترا على ما تعطون فنعمَّا تفعلون.
هذا فعل الخير الإيجابي، وفعل الخير السلبي هو العفو عن الإساءة، والصفح الجميل عن الناس، فإن ذلك مما يحبه تعالى. ولقد روى أحمد عن النبي - ﷺ - أنه قال: " ما نقص مال من صدقة، وما زاد عبد بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه
وقوله تعالى: (فَإِن اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) موقعها من المعنى أنها تعليل لكلام مطوي تدل عليه إذ المؤدى: وما تفعلوا من خير وتبدوه أو تخفوه أو تعفوا عمن يسيء إليكم، فإنكم تقربون إلى الله تعالى، ويحبكم الله لأنه سبحانه عفو دائما وقدير على أخذ المسيء بإساءته، فتخلقوا بصفات الله تعالى، وله سبحانه المثل الأعلى. وهنا ملاحظات ثلاث:
الأولى: أن الآية الكريمة تفيد أن إبداء الخير محبوب، فهل يدخل في هذا الرياء؛ ونقول في ذلك إن الفعل النافع إذا قصد به الرياء لَا يكون خيرا، بل يكون شركا، فلا يدخل تحت عنوان إبداء الخير، لأن النبي - ﷺ - يقول: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (٢) فهذا فعل خارج عن نطاق الخير، فلا يلتفت إليه، إذ لَا يدخل في عمومه.
الثانية: أن العفو عن الأمر السيئ إنما يكون في حال ما إذا كانت الإساءة تمس شخص من يعفو، وهو بهذا بذل حقا خالصا له، أما إذا كان الأمر السيئ يتعلق بنظام في الإسلام، فلا يصح أن يترك، بل لَا بد أن يقاوم، ولا يقال لتاركه إنه عفا، بل يقال عنه إنه قصَّر وترك الواجب.
الثالثة: أن الإسلام دعا إلى الصفح الجميل، فقال الله لنبيه: (... فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، وهو الصفح من غير منٍّ. ولله تعالى ولرسوله المنّ والفضل.
________
(١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ " رواه مسلم: البر والصلة - استحباب العفو والتواضع (٢٥٨٨)، والترمذي: البر والصلة (٢٠٢٩)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (٨٧٨٢)، ومالك: الجامع (١٨٨٥)، والدارمي: الزكاة (١٦٧٦) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) سبق تخريجه.
اللهم اهدنا لنفع الناس، وجنبنا ضرهم، واعف عنا فيما كان منا، واغفر لنا وارحمنا إنك غفور رحيم.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٥٢)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين، وما كانوا يصنعون مع المؤمنين، وذكر سبحانه وتعالى ما تكنه نفوسهم وما هم عليه من تردد وتذبذب، ومع ذلك فتح الله سبحانه وتعالى باب الثوبة لهم إن أرادوا أن يسلكوا المنهاج القويم المستقيم. ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الجهر بالسوء إلا ممن ظلم لَا يجوز، وأن إبداء الخير خير، وإخفاءه خير وأن الله تعالى مُجاز به. وجاءت هاتان الآيتان بين ذكر المنافقين، ثم ذكر الكافرين
فمن آمن ببعض النبيين وكفر ببعض آخر قامت الأدلة على نبوته لَا يعد مؤمنا برسالة الله تعالى ولا يعد مؤمنا بالله تعالى؛ إذ إنه فصل الجزء الذي لَا يتحقق إلا في كل، وفصل الإيمان برسالة الله عن الله تعالى.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية صفتين لهم، ونتيجتين باطلتين: أما الوصفان فهما الكفر بالله ورسله، ومحاولتهم أن يفرقوا بين الله ورسله.
والكفر بالله تعالى هو هنا جحود رسالته الإلهية التي يبعث بها إلى خلقه؛ لأن جحود رسالة الرسل أو بعضهم مع قيام الدليل عليها جحود بالله الذي بعث بهذه الرسالة؛ لأن إنكار الرسالة الإلهية لنبي من الأنبياء عصيان لله وجحود به، وكفر بأصل الرسالات ومرسلها، إذ إن الإيمان بالله تعالى يستلزم الإيمان بأنه لم يخلق الناس سدى، والإيمان بعقابه وثوابه وحسابه والإيمان بأنه يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فمن أنكر رسالة رسول من الرسل فقد كفر بالله وكفر برسله؛ لأن الكفر برسول ينسحب عليه بقية الرسل، إذ إن ما ثبت من تكذيب لرسول، فقد كذب الباقين، فمن كفر بموسى فقد كفر بمحمد وإبراهيم وعيسى، وغيرهم من الرسل.
وأما النتيجتان الباطلتان فهما قولهم نؤمن ببعض ونكفر ببعض، واتخاذهم بذلك سبيلا بين الإنكار المطلق، والإيمان الكامل، وإن ذلك القول متلازم مع الكفر بالله وبرسله إذ إن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان، والتصديق بالرسالة الإلهية حق التصديق يستلزم، كما نوهنا الإيمان بكل الرسل؛ لأنهم جميعا أتوا بغاية واحدة، وهي إصلاح الخليقة في ناحية رسالة كل رسول، وحثها على الجادة المستقيمة والإنذار والتبشير، ولا يصح لهذا أن يقال نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض لأن الكفر بالبعض كفر بالكل، إذ هو جحود للغاية من الرسالة، وجحود بذات الرسالة.
وأما إرادتهم اتخاذ سبيل أي طريق وسط بين الإيمان الكامل بكل الرسل، والكفر الكامل بكل الرسل، فمؤداه أن يكونوا في حال بين الإيمان والكفر. ولا شك أن هذه الحال ليست إيمانا بالله ورسله وليس بعد الإيمان إلا الكفر، فهم داخلون في سلك الكافرين، سواء أكانوا مؤمنين بالبعض أم كافرين بالكل، ولذلك حكم الله تعالى بهذا الحكم الحاسم الفاصل ما بين الكفر والإيمان بقوله تعالى:
* * *
* * *
التعبير بالإشارة للإفادة إلى أن هؤلاء الذين قالوا ذلك القول، وجحدوا ذلك الجحود بسبب هذه الأقوال وتلك الأحوال كافرون كفرا لا مجال للشك فيه، وقد أكد - سبحانه وتعالى الحكم عليهم بالكفر بثلاثة مؤثرات: أولها - الإثيان بكلمة " هم " الدالة على تأكيد الحكم، وقصرهم على الكفر وإثبات أنهم لَا يخرجون عن دائرة الكفار يسارعون فيها ولا ينثقلون منها.
ثالثها - التعبير بكلمة (حَقًّا)، أي أن كفرهم ثابث قد ثبت وحق حقا، وقد قال الزمخشري في تخريج هذه الكلمة " أى هم الكاملون في الكفر، وحقا تأكيد لمضمون الجملة كقولك هو عبد الله حقا أي حق ذلك حقا وهو كونهم كافرين، أو صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لَا شك فيه ".
ولماذا كان ذلك التوكيد؟ والجواب عن ذلك أن التوكيد يكون حيث مظنة التردد في عقول الذين قالوا ذلك القول، فقد حسبوا بقولهم وإرادتهم أنهم يرضونه بذلك فبين الله سبحانه أنه لَا وسط بين الإيمان الكامل والكفر في شيء، وخصوصا أن جحود هؤلاء ببعض الرسل انبعث من حقد دفين، وتفريقهم بين الأجناس، حتى في مقام الرسالة، وقد قال تعالى: (... اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْث يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وإنهم بهذا الكفر يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ إذ إنها كانت في اليهود وأشباههم الذين رفضوا محمدا، لأنه عربي، وليس بعبري، وحيث كان التردد في عقل وجب تأكيد الحق، ليزول التردد، ويتبع التابع عن بينة ويقين، وقد ذكر الله تعالى عقاب هؤلاء، وأمثالهم فقال: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِين عَذَابًا مُّهِينًا).
والمعنى هيأنا للكافرين الذين يندرجون في جمعهم عذابا مهينا يذيقهم الهوان والذل، كفاء استكبارهم في الدنيا، واعتزازهم بالباطل فيها، ويصح أن يقال إن كلمة (الكافرين) لَا تعم كل الكفار، ولكنها تخص الذين ذكروا في الآية السابقة؛ لأن اللفظ إذا أعيد معرفا كان المراد به المذكور أولا، ويكون تخصيصهم بالذكر، لبيان نتيجة ما ارتكبوا وما فرقوا به بين رسله سبحانه.
وهنا بحث لفظي في لفظ " أعتدنا "، وهو تعبير قرآني اختص القرآن به؛ لأن اعتد من العتاد، والتخريج اللفظي هيأنا لهم عتادا هو عذاب جهنم. وقد قال في ذلك
وخلاصة المعنى أن هؤلاء الكافرين ادخر لهم عذابا مذلا جزاء استكبارهم.
هذا شأن الذين كفروا بالله ورسله، وفرقوا بينهم، وما يدخر لهم، ويقابلهم المؤمنون حق اوصدقا، وقال فيهم سبحانه:
* * *
* * *
وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين حقا وصدقا بوصفين: الوصف الأول الإيمان بالله تعالى ورسله أجمعين، لَا فرق بين رسول ورسول، إذ الجميع يؤدون رسالات ربهم ويبلغونها، والثاني أنهم لم يفرقوا في الإيمان بين رسول ورسول، بل إن الجميع في موضع من نفوسهم، والإيمان من قلوبهم. ذلك أنه حق على المؤمن أن يؤمن بكل رسول أرسله الله تعالى، كما قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦).
فإذا كان محمد خاتم النبيين فرسالته متممة للرسالات، وهو آخر لبنة في صرح النبوة الإلهية.
وإذا كان المؤمنون حقا وصدقا هم الذين يذعنون لما أمر الله، ويصدقون برسالاته، ويستجيبون لدعوة رسول الله وهم يناقضون الذين فرقوا بين رسله، فجزاؤهم لذلك مختلف، ولذا قال سبحانه في هذا الجزاء:
(أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) الإشارة هنا إلى الذين آمنوا الموصوفين بالصفات السابقة وتكرار ذكرهم بالإشارة للتوكيد بأن الإذعان الكامل من غير استعلاء، وجحود، وحقد، وعدم التفرقة بين الأنبياء وهو وحده الذي جعل لهم ذلك الجزاء، والأجر هنا هو الجزاء، وهي رحمة الله تعالى عليهم إذ جعل ذلك
ولذلك ذُيلت بقوله الآية تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) للدلالة على أن ذلك الثواب هو من فضل الله وسعة رحمته، وإن ذلك لأنه متصف بالغفران الدائم والرحمة الدائمة.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الجزاء والثواب بالتعبير بسوف الدالة على تأكيد الفعل في الزمن المستقبل. اللهم اغفر لنا وارحمنا فأنت خير الراحمين.
* * *
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (١٥٣) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (١٥٤)
* * *
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحوال بعض أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض النبيين وكفروا ببعض، واعتبروا بهذا كافرين بالله تعالى؛ لأن من كفر برسول، فقد كفر بالرسالة الإلهية، ومن كفر برسالة الله تعالى، فقد كفر به، ثم بين سبحانه وتعالى حقيقة الإيمان واصفا الذين آمنوا بالله ورسوله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله موازنا بذلك بين الإيمان والكفر في الحقيقة وفي النتيجة، وأن الكافرين أعد الله لهم عذابا أليما، وأن المؤمنين لهم أجرهم نعيم مقيم، وغفران ورحمة، ورضوان من الله
وقد اختلف أهل التأويل من السلف الصالح، فقال بعضهم إنهم سألوا أن ينزل على النبي كتاب شامل مكتوب كما نزلت التوراة مكتوبة جملة واحدة، وقال آخرون إنهم طلبوا أن ينزل كتاب خالص في قرطاس يدعوهم إلى الإيمان بمحمد ليكون حجة الله تعالى عليهم، وقال آخرون من السلف إنهم طلبوا أن ينزل ذلك الكتاب الداعي إلى الاستجابة الى النبي - ﷺ - إلى بعض كبرائهم.
والحق كما قال ابن جرير الطبري إنهم طلبوا كل هذا، فقد طلبوا أن ينزل القرآن مكتوبا جملة واحدة كالتوراة وذلك ليشككوا في حقيقته، وفريق آخر منهم طلب أن ينزل من السماء كتاب خاص يقرءونه داعيا لهم بالإذعان. وفريق ثالث طلب كتابا يُنزل على بعضهم، فالمطالب الثلاثة وجدت، ولو أجيبوا إلى ما طلبوا ما ضمنا إيمانهم، ولأن التعنت لَا يقلعه شيء، وقد قام الدليل القاطع المثبت، وهو القرآن المعجز، ولقد قال تعالى في سورة الأنعام: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩).
وسياق النص القرآني يفيد أنه منسوب إلى اليهود والذين عاصروا النبي - ﷺ -، فكيف ينسب إلى الخلف ما قاله السلف؟ والجواب عن ذلك أنه سبحانه ينسب القول إلى جنسهم، لَا إلى آحادهم، ولا إلى طوائف منهم، وإذا نسب القول إلى الجنس جاز أن يخاطب به الحاضرون وخصوصا أن التشابه في الجمود والتعنت قائم بين السلف والخلف، فهم يحملون مثل ما وقع من أسلافهم، وإن كان الأول أشد إعناتا؛ لأنه أكبر، ولما أفاض الله به عليهم من نعم على يد موسى عليه السلام - ولكن دأبهم الجمود، فحاضرهم كماضي أسلافهم، لَا يهمهم قوة الدليل، إنما يهمهم إعنات الرسول، واتخاذ فعلات للإنكار بعد أن ثبتت على يد موسى - عليه السلام - البينات الحسية وتكاثرت، حتى وصلت إلى سبع آيات بينات، ومع ذلك طلبوا طلبا غريبا، فلم يطلبوا أن يجيئهم كتاب كما طلبوا منك، بل طلبوا أن يروا الله سبحانه وتعالى جهرة، أي بالعين، وأن يكون أمامهم معاينا، ويطلب إليهم أن يصدقوا موسى، وهو سؤال لا تتصور إجابته في الدنيا، فالله سبحانه وتعالى لَا يمكن أن يرى في الدنيا، وقد روى في ذلك أن النبي - ﷺ - سئل هل رأى ربه؛ فقال " إنه نور فأني أراه " (١) وقد عاقبهم الله سبحانه وتعالى على ذلك عقابا شديدا، ذكره بقوله سبحانه: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) الصاعقة - فسرها بعض العلماء بأنها النار التي تنزل، وهي التي يقرر علماء الكون أنها تنشأ من احتكاك سحابة موجبة بأخرى سالبة، فيتكون من احتكاكهما ذلك اللهب، وأنها أصابت هؤلاء فَبُهِتُوا لها، فغشيهم من
________
(١) عَنْ أبِي ذَر قَالَ سَألتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - " هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ "؟ قَالَ: " نُورٌ أنَّى أرَاهُ " [رواه مسلم: الإيمان - نور أنى أراه (١٧٨)، والترمذي: تفسير القرآنَ ومن سورة النجم (٣٢٨٢)، وأحمد: مسند الأنصار - حديث أبي ذر رضي الله عنه (٢٠٨٨٤)].
وقال بعضهم: الصاعقة ما يصيب الإنسان من حال يترتب عليها موته أو إغماؤه إلى درجة الموت، ومن ذلك قوله تعالى: (... فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ).
وقد قال الراغب الأصفهاني في مفرداته. " إن الصاعقة على ثلاثة أوجه: أولها الموت كقوله تعالى: (فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ)، وقوله تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ).
والثاني: العذاب، كقوله تعالى: (أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).
والثالث: أن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون منه نار، وينتهي بأن الصاعقة هي في الأصل بهذا المعنى، ثم تكون منه الآثار فهو سبب الموت، أو يكون إنذارا ".
ولذلك نرجح التوجيه الأول الذي ذكرناه وهو تفسيرها بالنار التي تجلجل بصوت رهيب مفزع، قد يترتب عليه الموت، وهو في ذاته عذاب شديد، وقد يسأل سائل: إن الصاعقة لها سبب طبيعي، وهو احتكاك سالب بموجب، فكيف يكون عقابا أو إنذارا، أو معجزة؟ ونقول إن الأسباب الطبيعية لَا تمنع الإرادة الإلهية، فالله سبحانه وتعالى سير الأكوان، وهي تحت قدرته وإرادته، فهو الذي يُسيِّر السحاب، والرياح، فإذا أراد جلت قدرته إنزال عذاب أو إنذار قوم أرسل الرياح المسخرات بأمره، فكانت منها الصاعقة أو الرعد، أو المطر الغزير الذي يكون غيثا ولا يكون غيثا، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بأنه ينزل بالأقوام من الآفات بمقدار جرمهم وذلك لَا يمنع تحقق الأسباب الطبيعية فمسير الكون هو خالقه، ومسبب الأسباب، وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وقد قال تعالى في أهل مصر عندما أيدوا فرعون في طغيانه:
ومع هذه البينات اتخذ السابقون من بني إسرائيل العجل معبودا، ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ) هذا النص الكريم فيه بيان إمعانهم في الكفر والجحود، فهم بعد ما جاءتهم البينات أي الحجج البينة للحق، الثبتة له الدامغة، وبعد أن أنقذهم الله سبحانه وتعالى من جبروت فرعون وطغيانه، واستعباده لهم، وبعد أن رأوا من الآيات ما رأوا، اتخذوا شكل العجل الذي صور من ذهب معبودا لهم، وإطلاق العجل على هذا التمثال الجامد لهم، من قبيل إطلاق اسم الشيء على شبهه في الصورة والهيكل، فهو ليس عجلا حقيقة، ولكنه صورة، وإن اتخاذ العجل بقية من بقايا الوثنية التي كانت تستولي على قلوبهم، ففي مصر كانت عبادة البقر، وفي مصر كانت عبادة نوع من الأوثان فاستمكنت الوثنية من قلوبهم حتى نسوا عقولهم وتفكيرهم، وما آتاهم الله تعالى من عزة، وما قام عليهم من برهان، ولذلك ذكر الله تعالى عنهم أنهم قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فقد قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمِ يَعْكُفونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِثكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون).
ولقد نبهوا إلى ضلالهم في عبادة هيكل العجل، فتنبهوا، وتابوا، وأقلعوا عن عبادته، فعفا الله تعالى عنهم؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، والإيمان بعد الكفر يذهب بآثار الكفر. (قُل لِّلَّذِينَ كفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)، ولقد كان ذلك التمرد المتوالي مع ما آتى الله نبيه موسى من حجج باهرة قاهرة، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
هؤلاء اليهود في ماضيهم، لَا يتجهون إلى الحق اتجاه المؤمن المذعن، ولكن يحملون عليه حمل الملجأ، فلا تنتظروا أيها المؤمنون بمحمد - ﷺ - ورسالته أنهم يستجيبون له؛ لأن ذلك لم يكن من طبعهم فهم في ماضيهم لم ينفذوا التوراة ولم يذعنوا ويأخذوا على أنفسهم ميثاقا بتنفيذ أحكامها إلا بعد أن هُدِّدُوا تهديدا حسيا بأن العذاب واقع بهم لَا محالة حسا ونظرا، فقد رفع الله تعالى فوقهم الطور، ليقدموا عهدا بالطاعة. فمعنى قوله تعالى:
(وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) أي بسبب الميثاق الذي يحملون عليه حملا، وهو ميثاقهم الذي كان يجب تمديمه طوعا واخثيارا، فالميثاق أخذ بعد الرفع، وإلى هذا يومئ قوله تعالى في آية أخرى: (وِإذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
فالميثاق هو أحكام التوراة، وحملهم على الخضوع المطلق لله تعالى، وطاعته فيما يأمرهم به من غير تمرد ولا عصيان، وقد صرح سبحانه بأنه أمرهم بما فيه خضوع تعبدي، لكن يتعودوا الطاعة، فذكر سبحانه وتعالى أمرين هما:
(وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) ادخلوا باب المدينة مطأطئي رءوسكم بهيئة الساجدين أمارة الخضوع حِسا، وهو دليل على الخضوع معنًى بالإذعان لأوامر الله تعالى، وفي الآية تصريح بالطاعة المطلقة الذي يتضمنه الأمر
والمدينة أو القرية قيل هي بيت القدس، وقيل غيرها، وقد أبهمها الله، ولم يوجد من السنة الصحيحة ما يبينها، فلنترك أمرها، ولا ينقص ذلك الهدف القرآني من سياق هذه القصة، وهي أنهم أمروا بالطاعة المطلقة.
والأمر الثاني الذي أُمروا - ذكره الله تعالى بقوله (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي لَا تتجاوزوا الحدود التي أمركم بالتزامها يوم السبت، وهي ألا تصطادوا الحيتان في ذلك اليوم، وتكرر قوله تعالى (وقُلْنَا) لبيان تأكيد الأمر ونسبته اليه سبحانه وتعالى: وقد اختبرهم سبحانه وتعالى اختبارا، فقد كانت الحيتان تأتيهم يوم السبت واضحا، وتختفي في غيره، كما قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣).
(وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) أخذ الله سبحانه وتعالى عهدا موثقا كامل التوثيق شديدا في قوته وفي موضوعه وأضاف سبحانه وتعالى الأخذ إلى ذاته العلية تقوية له، وتأكيدا، فإن ذا الجلال والإكرام العليم الخبير هو الذي أخذه، وهو الذي يتولى أمرهم إن نكثوا في أيمانهم، وأنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وغلظ الميثاق كما أشرنا في قوة توثيقه، فقد أخذه بعد أن رفع الجبل عليهم كأنه ظلة، وأمرهم بالطاعة المطلقة، وشدته في موضوعه، فقد كلفهم تكليفات شديدة، لإفراطهم في الفساد، فكان السبيل لفطم نفوسهم عن الشهوات، وتربيتها على الضبط والعمل الصالح أن ينص على تحريم أمور كثيرة، ذلك أن النفس التقية تمتنع من ذاتها كثيرا من غير أوامر أو تكليف. أما النفوس المنحرفة، فتحتاج إلى النص على تحريم
اللهم ارحمنا، وقنا شر الشهوات وطغيانها، إنك بكل شيء عليم.
* * *
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (١٥٦)
* * *
كانت الآيات السابقة في بيان غلظ قلوب اليهود، وعنادهم وامتناعهم عن قبول الحق، وأن حاضر اليهود في عصر النبي - ﷺ - كماضيهم مع موسى - عليه السلام - يتعنتون في طلب الدليل، ولا يهتدون إلى الحق إذا قامت عليهم البينات، حتى إنهم ليطلبون من موسى - عليه السلام - أن يريهم الله جهرة عيانا، وقد أنزل بهم من الشدائد ما يدفعهم إلى الخضوع، فنزلت بهم الصاعقة وارتفع الجبل عليهم، وقد خضعوا ولا يكادون، وأخذ عليهم الميثاق، ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوه، وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه وتعالى ما ارتكبوا من مظالم، وعواقب ذلك عليهم، ولذا قال تعالى:
(بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) والحق، أن الله سبحانه وتعالى، لما رأى أنهم لَا يهتدون، ولا يعطون التفاتا للدعوة، ويدرءون حجة الرسل، ويدفعون براهينهم بباطل من عندهم نجزاهم على كفرهم هذا بأن طبع على قلوبهم، وختم عليها، فهم لذلك لَا يهتدون سبيلا، ولا يؤمنون إلا قليلا.
* * *
* * *
لقد كفروا بالمسيح من قبل، وأتوا ببهتان عظيم، فاتهموا مريم العذراء البتول، بأن لها علاقة بيوسف النجار، ويوسف هذا كان أحد الصالحين من بني إسرائيل، وقد خطب مريم، ورغب في أن يتزوجها، وعندما ولدت المسيح عليه السلام، صدَّقها، ووثق ببراءتها وطُهرها، وبقي معها يرعاها هي وابنها، ولكن اليهود كفروا ورموا مريم ويوسف ببهتان عظيم، ونحن المسلمين نؤمن بطهارة مريم، ونؤمن بعيسى نبيا ورسولا، فويل بعد ذلك للمكذبين.
* * *
* * *
(وَمَا قَتَلُوهُ) فما ذهبت روحه - عليه السلام - بقتل أنزلوه (وَمَا صَلَبُوهُ).
وما كان صُلب لأنه لم يكن قُتِل، ولكن شبه الأمر عليهم، فظنوا المقتول المصلوب هو المسيح، وما كان هو، بل كان المصلوب المقتول غيره، فخيل إليهم أنه قتل وصلب، وما كان كذلك. وقد يسأل سائل: لماذا ذكر نفي الصلب بعد نفي القتل مع أن نفي القتل يقتضي ألا يكون صُلِب؛ لأن الصلب لَا يكون إلا لمقتول؟ والجواب عن ذلك أن هذا تأكيد في النفي، ولأن النصارى واليهود يدعون أنه صُلِب، فلابد من النص على نفي الصلب، ليكون ردا على هذه الدعوى، ولو اقتصر على نفي القتل ما كان التصريح برد الدعوى، ورد الدعاوى لَا يكتفى فيه ما تضمن عن التصريح، ولو نفي الصلب فقط ما اقتضى نفي القتل، فكان النسق البليغ مقتضيا نفيهما معا.
وقد نسب القتل المنفي إليهم مع أن التاريخ والأناجيل تثبت أن القتل المنفي والصلب كان من حاكم الرومان، ولكن بتحريض اليهود؛ وذلك لأنهم هم الذين ألحوا في طلب القتل حتى إن الروماني يلقى عليهم تبعة قتله، والمحرِّض قاتل، والشاهد الكاذب قاتل، وكل متسبب يعد قاتلا، وهؤلاء قاموا بكل ذلك، فقد دبروا شهادات الزور، وحرَّضوا وتسببوا فكانوا بهذا قاتلين كفعل الجبناء، ولكن الله تعالى أنقذه منهم ومن الرومان معا.
والتشبيه لهم بأن خلق الله تعالى شبهه على أحد الذين خانوه، ودبروا القتل، وقد جاء ذلك في إنجيل برنابا الذي عثر عليه في خزانة أحد البابوات في آخر القرن الخامس عشر، فقد جاء في هذا الإنجيل الذي لَا يوجد ما يدل على أنه ليس في قوة أناجيلهم: (إن يهوذا الأسخريوطي الذي كان عينا على السيد المسيح عليه السلام قد ألقى الله تعالى عليه، شكل السيد المسيح فقبض عليه على أنه هو، فقد قال برنابا في هذا: (الحق أقول إن صوت يهوذا ووجهه وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن اعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافة أنه يسوع، كذلك خرج بعضهم من تعاليم يسوع معتقدين أن يسوع كان نبيا كاذبا، وإنما الآيات التي فعلها
ومن هذا يتبين معنى أنه خُيلَ لهم أنهم قتلوه، وما قتلوه، وأنهم قد اعتراهم الشك من بعد ذلك في أمره، ولذا قال تعالى:
(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ منْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) ولقد اختلف اليهود والمسيحيون في شأن السيد المسيح، فمنهم من أنكر أنه نبي، ومنهم من زعم أن فيه عنصرا إلهيا مع العنصر الإنساني، ومنهم من زعم أنه ابن الله تعالى وأن النبوة ليست نبوة ألوهية، إنما هي نبوة ثقة ومحبة ورحمة، ومنهم من قال إن الذي ولدته مريم هو العنصر الإنساني، وفاض عليه من بعد العنصر الإلهي، ومنهم من قال إن مريم ولدت العنصرين، ومنهم من قال إن كلام عيسى وإرادته هي من العنصر الإنساني، ومنهم من قال إن الإرادة وليدة العنصرين. وهكذا كان الاختلاف، وكل كون طائفة وحزبا، كما قال تعالى: (ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَق الَّذِي فِيهِ يمْتَرُونَ) إلى أن فال تعالى: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
ولا يزالون يختلفون حول حقيقة المسيح وصلبه، ومع أن اليهود هم الذين سعوا بلا ريب لقتله، ولكن ردهم الله تعالى على أعقابهم خاسرين، وأبطل الله مكرهم وكيدهم، مع هذا تجد الآن المجمع المسكوني المسيحي قام باقتراح قسيس
________
(١) كتاب محاضرات في النصرانية للإمام أبو زهرة.
* * *
(وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أكد الله سبحانه وتعالى نفي قتل السيد المسيح الذي حاوله اليهود، فقال تعالت كلماته:
(وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا).
وهنا تأويلان لكلمة (يَقِينًا) - التأويل الأول: أنها وصف لمحذوف، والمعنى وما قتلوه قتلا قد استيقنوا به وتأكدوه، وهذا فيه ترشيح للاختلاف والشك الذي اعتراهم. التأويل الثاني: أنها تأكيد للنفي، والمعنى وما قتلوه حقا وصدقا، فاليقين منصب على النفي، أي أن نفي كونه قتل أمر مستيقن مؤكد، وليس ظنا كظنكم،
ولا وهما كوهمكم.
* * *
وقوله تعالى
* * *
إضراب بياني فيه رد لزعمهم القتل، والمعنى بل إنه لم يقتل، وأن الله رفعه إليه، وظاهر القول أن الرفع كان بجسده وروحه، لَا بروحه فقط، وبهذا جاء التفسير المأثور، وعليه أكثر المفسرين، وأيدته السنة، وإن كانت أخبار آحاد، وقد فسر بعض العلماء الرفع بأنه رفع الروح، وأخذوا ذلك من قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ).
فبمقتضى النسق الظاهر يكون الرفع عقب الوفاة. وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).
وفي به وصف الله تعالى الدائم بأنه العزيز الرفيع الجناب الذي - لَا يلجأ إليه أحد إلا أعزه، وأعلى قدره، وحماه، كما فعل مع ابن مريم وغيره من أنبيائه عليهم السلام، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها.
* * *
* * *
" إن " هنا النافية، والمعنى ما من أحد من أهل الكتاب اليهود أو النصارى، أو بعبارة أدق الذين يسمون أنفسهم نصارى أو مسيحيين إلا ليؤمنن به حق الإيمان، ويخضعون حق الخضوع قبل موته - عليه السلام -، فالضمير في موته يعود إلى المسيح - عليه السلام -، وهذا يسير على أن عيسى سيعود، ويحكم بشريعة النبي - ﷺ -، ويؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهناك تخريج آخر، وهو أن الضمير في (موته) يعود إلى أحد المطوية في الكلام ومقدرة، والمعنى ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى عند موت أي كتابي، لأنه عند حشرجة الموت يتنبه الشخص لما أنكر وجحد، فيؤمن، كما كانت حال فرعون إذ قال عندما أدركه الغرق: آمنت أنه لَا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. وإن عيسى - عليه السلام - سيكون شهيدا بالحق يوم الحق يشهد على اليهود بما كفروا به، ويشهد على الذين يقولون إنهم نصارى، وأنهم كفروا به فادعوا أنه إله أو ابن الله، وأن كلامهم في هذا باطل، وأنه عبد الله ورسوله.
وهنا نريد أن نشير الى موقف الإسلام، ومن يقولون أنهم نصارى - من المسيح عليه السلام: هم يقولون أنه قتل وصلب ليطهر الخليقة من ذنب أبيهم آدم، وأن الله اختار ابنه ليكون فداء، وأما الإسلام فإنه يقول إن الله نجاه، ورفعه إلى المنازل العليا.
ولا نريد أن نقول إنهم يرمون الله تعالى بالجهل إذ سكت أزمانا طويلة - حتى بدا له أن يجعل ابنه فداء، ولا نريد أن نقول إن العنصر الإلهي كيف حل في مريم البتول، ولا نريد أن نقول إن الله عفا عن آدم، وإن لم يعف فإن العقاب يكون عليه ولا يكون على غيره، لَا نريد أن نقول إن هذا كله مخالف لكل معقول، ولكن نقول كيف يتصور أن يكون الفداء للخليقة بإنزال ابنه إلى الأرض ليقتله بعض ذرية آدم الذي عصى؟!! إن المعقول أن يكونوا قد أضافوا إلى قولهم جريمة أخرى هي قتل ابن الله بل إنها جريمة أشد وأنكى، وإذا قيل لهم ذلك
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤).
* * *
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦١) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (١٦٢)
* * *
في قلوبهم قسوة، وفي نفوسهم جفوة، وعقولهم غُلْف لَا تنفتح للحق، ولا تذعن له، ظهرت آياته وقامت بيناته، أتتهم آيات الحق والمعجزات فكذبوا بها وطلبوا غيرها، وقالوا أرنا الله جهرة، ورأوا الجبل يعلو عليهم، فقبلوا ميثاق الإيمان، ثم نقضوه، وقتلوا بعض الأنبياء لغلظ قلوبهم، وانطماسها، وغفلتها عن الحق، ورموا مريم البتول ببهتان وكذب، ومحاولتهم قتل عيسى ابن مريم رسول الله، وافتخارهم لقتله وما قتلوه، فهذه مظالم تتلوها مظالم، ولا بد من تربية نفوسهم على الحق، وتهذيبها لتذعن له، والنفس الشرهة الشرسة لَا يهذبها إلا الحرمان أبدا، عسى أن تنقشع عنها غياهب المادة فترى، ولذا قال سبحانه:
فالظلم إذن هو هذا الكفر الذي أوغلوا فيه إيغالا. ولا شك أن ما جاء بعد ذلك ظلم بين، فالصد عن سبيل الله ظلم، وأخذهم الربا ظلم، وأكلهم أموال الناس بالباطل ظلم، وكل واحدة من هذه الجرائم التي أركسوا فيها ظلم وذنب، ولذلك صح أن تذكر كل واحدة منها منفردة، وإن كانت تدخل في عموم كلمة ظلم. ولكن عند اجتماعها مع هذه الجرائم تخصص كل كلمة بما ذكر أولا أنهم ارتكبوه، ودل على غلظ أكبادهم وقسوة قلوبهم، وكفرهم الصريح وهو أشد أنواع الظلم، وإن الشرك لظلم عظيم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى العقوبة بقوله تعالى:
(حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) هذا هو حكم الله تعالى الذي قرره تهذيبا وتأديبا لهم، وفطما لنفوسهم عن الشهوات، ولقلوبهم التي استغرقتها المادة، والنفوس إذا فطمت تتهذب، وقد تذهب قسوتها. حرم الله سبحانه وتعالى أمورا كانت حلالا لهم، وهي بتكوينها من الطيبات التي أحلها الله تعالى، وليست من الخبائث التي يحرمها الله تعالى، فهي في أصل تكوينها طيبات من شأنها الحل، ولكن حرم بعضها عليهم تهذيبا وتربية لكي تذهب عن قلوبهم بعض القسوة، وبعض الأنانية التي استولت عليها، والتنكير في قوله تعالى: " طيبات " فيه إشارة إلى أنه لم تحرم كل الطيبات، بل بعض منها، وقد بينه سبحانه وتعالى بقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦).
وإنه يلاحظ أن هذه المحرمات من الطيبات من شأن الإكثار منها أن يوجد شحما في الجسم واسترخاء، وحيث كان الجسم كذلك تضعف الهمة، وحيث ضعفت الهمة، كانت محبة المادة، والكسب الرخيص، وطلب من غير الله، وقد
وكان في فطمهم عن الشحوم، وما يزيد البدن ترهلا، تهذيبا لنفوسهم، وتقوية لأبدانهم، وفتح باب الهمة العليا لهم.
ومن المظالم التي ارتكبوها صدهم أنفسهم عن طريق الحق، وصدهم غيرهم ومنع غير اليهود من أن يدخلوا في ديانة موسى، ولذا قال سبحانه: (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) أي صدا كثيرا في ذاته أو صدا لناس كثيرين.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بقية الأسباب التي أوجبت ذلك التحريم فقال:
* * *
* * *
كان الظلم الأول موضعه القلب والاعتقاد، وما ينبعث من أفعال شاذة فيها اعتداء على رسل الله تعالى وأنبيائه، فالاعتداء فيها كان على جنب الله تعالى والفساد كان في القلوب، وفى الأعمال التي تمعلق بها. أما الظلم هنا فهو واقع على العباد.
ذلك أن ضعف همتهم في الكسب، وعدم الاتجاه إلى العمل المثمر المنتج جعلهم يتجهون إلى الكسب الفاسد غير المنتج وذلك بالربا، وأكل مال الناس بالباطل، فأما الربا، وهو الزيادة في نظير الزيادة في الأجل فهو كسب الخبيث، وغير منطقي، لأنه كسب بالنقد، والنقد لَا يلد النقد كما قال أرسطو، وهو كسب بالانتظار فالزمن هو العامل فيه، والكسب بالانتظار عمل الكسالى الجبناء، لأنه يجيئهم من غير عمل، ومن غير تعرض للخسارة وهو في الغالب نوع من البطالة، ويؤدي إلى القمار والمراهنات، ولذلك تقترن هذه الآفات الاجتماعية بالتعامل بالربا، وتكون في أكثر أحوالها ممن يتعاملون به، حيث لَا مخاطرة كالتي تكون في التجارة أو الزراعة. ويندر أن تجد يهوديا في أي بلد من البلاد يشتغل
وحيث كانت المعاملات اليهودية كان معها أكل أموال الناس بغير الحق الذي فيه أخذ وعطاء، ونفع وانتفاع، بل تكون معاملاتهم قائمة على الاحتكار، والرشوة كيفما كانت تسميتها، وكيفما كانت صفتها، والمخادعات والاحتيال، والنصب الماهر المستور، وغير ذلك من التعامل الذي لَا شرف فيه.
وقد بين سبحانه وتعالى عقابهم بقوله:
(وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي بسبب هذه المظالم في الدنيا لا يكتفى بحرمانهم الجزئي فيها، بل لابد للكافرين من عقاب شديد مؤلم في الآخرة، وقد ذكر وصف الإيلام في العذاب، للإشارة إلى أنهم إن كانوا يتمتعون في الدنيا كما تتمتع الأنعام، ويرتعون كما ترتع، فذلك إلى أمد قصير.
إن أولئك الماديين الذين فسدت ضمائرهم وضعفت عقائدهم، وأصبحوا لا يؤمنون إلا بالدنيا، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب وما نحن بمبعوثين.. يكون منهم دائما الاستهانة بحقوق غيرهم وينشرون اللهو والعبث والمجون، وتكون الدنيا متعتهم وتكون هذه المتعة غايتهم، ومطلبهم، فلا يذكرون أن وراء هذه المتعة آلاما، ووراءها عذاب أليم، فليذكروا ذلك، وإن ربك لبالمرصاد.
وليسوا جميعا على هذا النحو، ولذلك قال في العقاب للكافرين منهم، فكل طائفة فيهم الخير والشر، واليهود مع ما كانوا عليه في الماضي كان منهم المؤمنون، وإن كانوا قليلا، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
الراسخون في العلم هم الذين أدركوا حقائقه وصدقوها، وأذعنوا لها، وثبتت في قلوبهم ثباتا لَا يكون معه ريب يزعزعه أو شبهة تفسده، أو هوى يعبث به، وقد
وإن الله سبحانه وتعالى الحكم العدل تكون أحكامه على مقتضى عدله، فهؤلاء اليهود، وإن كثر جحودهم فيهم العلماء المحققون الراسخون، وإن كانوا مختفين في لجة من جحود اليهود، هؤلاء الراسخون في العلم الديني، والعلم برسالته، وسائر رسائل النبيين هم والمؤمنون سواء، فهم يعتقدون كل ما يعتقده المؤمنون من صدق رسالة النبي محمد - ﷺ -، وصدق سائر الرسالات الإلهية. وهؤلاء قد ضموا إلى صفوف المؤمنين، بل إنهم صاروا منهم، وإنما ذُكروا كأنهم صنف قائم، باعتبار أنهم من اليهود، ولم يكونوا كالمنحرفين البارزين، وهؤلاء اليهود لم يكفروا بموسى كما لم يكفر سائر المؤمنين بموسى، ولذلك قال سبحانه وتعالى: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) أي أنهم يؤمنون بالرسالة المحمدية وكتابها ورسالات الرسل السابقة وكتبها، فأولئك الراسخون في العلم من بني إسرائيل هم والمؤمنون لم يخرجوا على موسى، بل آمنوا به أوثق إيمان؛ لأنهم آمنوا بالرسالات كلها.
وقد يقول قائل: إن الله تعالى ذمَّ اليهود عمومًا، ثم خصَّ الراسخين بالثناء، فلم كان التعميم ثم التخصيص؟ والجواب عن ذلك أن أولئك الراسخين لم يكونوا هم الظاهرين منهم، بل كان الشر هو الطافح على سطحهم، فكان من أجل وصفهم عموما بالشر، لأن الجماعة توصف بالشر إذا اختفى الخير فيها، ثم كان الظاهر هو الشر، وكان من إنصاف الله تعالى أن ذكر أولئك العلماء المغمورين في وسط جماعة الأشرار، وبين حقيقتهم، وانضمامهم إلى جماعة المؤمنين.
(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ذكر في هذا النص الكريم أعظم أعمال الخير التي يقوم بها المؤمن الصادق في إيمانه، وهي قسمان: عبادة هي تطهير النفس وتهذيبها، وهي الصلاة، فإن إقامة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهذب الضمير. والصلاة عمود الدين، ولب اليقين، وتهذيب الوجدان، وتجعل المؤمن يألف ويؤلف، وتصرفه إلى الخير، ولذلك ذكرت على سبيل التخصيص ونصبت حيث الظاهر، لتقدير فعل يدل على الاختصاص، والمعنى أَخُصُّ الصلاة بالذكر؛ لأنها ذكر الله تعالى الأكبر، وبذكر الله تطمئن القلوب، وتصفو النفوس وتهذب الضمائر.
والقسم الثاني: عبادة هي معونة اجتماعية للمؤمنين، فهي عطاء بنية العبادة، وهي تومئ إلى التعاون بين المؤمنين، بحيث يعين القوي الضعيف، والغني الفقير، وكل امرئٍ في حاجة أخيه وعونه كما قال عليه الصلاة والسلام: " الله في عون العبد، ما دام العبد في عونه أخيه " (١)، وكل امرئٍ مهما يكن يحتاج إلى غيره في ناحية، ويمد الغير بالحاجة من ناحية أخرى.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك لب اليقين، ونور الايمان وما يكون الرسوخ في العلم والعقيدة؛ فقال سبحانه:
(وَالْمُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) فالإيمان بالله جل جلاله، وإدراك معنى صفاته، والإذعان له، واعتقاد أنه فوق كل الوجود وما فيه وأنه القاهر فوق عباده،
________
(١) جزء من حديث رواه مسلم: الذكر والدعاء - فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (٢٦٩٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه، والترمذي: الحدود - ما جاء في الستر على المسلم (١٤٢٥)، وأبو داود الأدب - في المعونة للمسلم (٤٩٤٦)، وابن ماجه: المقدمة - فضل العلم (٢٢٥)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (٧٣٧٩)، وابن ماجه: القراءات ما جاء في نزول القرآن على سبعة أحرف (٢٩٤٥).
والإيمان باليوم الآخر هو إيمان بالغيب، وهو أخص عناصر الإيمان، وهو الذي يجعل المؤمن يعرف حقيقة الدنيا، ويصبر على سرائها وضرائها، ولا تذهب نفسه حسرات عند الحرمان، ولا يطغى ويغتر عندما يعطيه، ويعلم أنه مجزي بالصبر، محاسب على ما أنعم الله تعالى به عليه.
وقد بين سبحانه من بعد ذلك جزاء هؤلاء المؤمنين، فقال تعالت كلماته: (أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) أي أولئك الذين نالوا هذه الخصال كلها، فآمنوا بكل الأنبياء وتهذبت ضمائرهم بالصلاة، وتعاونوا فيما بينهم بالزكاة، وآمنوا بالله تعالى حق الإيمان، وصدقوا البعث والنشور، وصبروا في السراء والضراء، هؤلاء المتصفون بتلك الصفات يستحقون بسببها جزاء عظيما. وقد أكد ذلك الجزاء بثلاثة مؤكدات:
أولها - " السين " في قوله (سَنُؤْتِيهِمْ)؛ لأنها لتأكيد الوقوع في المستقبل. وثانيها - إسناد العطاء إلى الله تعالى القادر على كل شيء، وهو لَا يخلف الميعاد.
ثالثها - تنكير الأجر، ووصفه بالعظمة، فهو أجر عظيم لَا يجري في خيال البشر، ويعلمه خالق البشر.
اللهم اجعلنا ممن تغفر لهم، فينالون رضاك يا رب العالمين.
* * *
* * *
الآيات السابقات بينت أحوال القلوب إذا أظلمت، والنفوس إذا انحرفت وعصت أمر ربها، وجعل حال بني إسرائيل في ماضيهم وحاضرهم مثلا واضحا بينا، فقد مالت قلوبهم عن الحق بعد أن جاءتهم البينات، وما من آية أتتهم لتزيدهم إيمانا إلا ازدادوا بها كفرانا، وما تركوا جريمة إلا ارتكبوها باسم أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ومع ذلك الزعم يقتلون أنبياء الله ويعصون الآخرين من رسله، وهم يعاملون محمدا - ﷺ - بما عاملوا به من سبقه من الأنبياء، غدروا بعد أن عاهدهم ووفى لهم، وحاولوا قتله غدرا، واشتركوا مع أعدائه لقهره، ولكن الله تعالى منعه منهم، ومكنه من رقابهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على شدة جحودهم، أشار سبحانه إلى أنه لا يلتفت إليهم، وأنه ليس بدعا من الرسل، بل هو كمال السلسلة من النبوة التي
هذا النص مربوط في المعنى بقوله تعالى: (يَسْئَلُكَ أَهْل الْكِتَابِ أَن تنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا موسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ...).
وقد قالوا غير ذلك في آية أخرى فأنكروا الرسالة الإلهية جملة من بعد موسى، وقالوا: (... مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ من شَيْءٍ...)، مبالغة في إنكار رسالة النبي - ﷺ -، ففي هذه الآيات وما إليها بيان بوحي الله تعالى إلى النبي - ﷺ - وأنه مثل بقية الرسل، فما كان بدعا من الرسل، بل هو في تلقي رسالة الله كسائر الرسل. ولذا قال تعالى:
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) والوحي في الأصل الإعلام الخفي، والإشارة والإيماء، والإلهام، وغير ذلك من المعاني التي تدل على أنه إعلام خاص، لَا يكون بطريق الإعلام الظاهر، وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يرْسِلَ رَسولًا)، فالوحي على هذا نوع من خطاب الله تعالى لرسله ويقابله الكلام من وراء حجاب، وإرسال ملك من الملائكة بالخطاب.
والوحي هنا يعم الأنواع الثلاثة من كلام الله تعالى لرسله، كما يدل السياق على ذلك.
والكلام سيق لبيان المشابهة والمشاكلة بين وحي الله تعالى لنبيه الكريم الذي هو آخر لبنة في صرح النبوة والرسائل الإلهية، وبين الوحي للرسل السابقين، وقد أكد سبحانه وتعالى المشابهة بنسبة الإيحاء إليه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وبـ " إنَّ " المؤكدة، فقال: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ).
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نوح - عليه السلام -، لأنه الأب الثاني للخليقة، ولأنه أول نبي معروف في القرآن بعد أبي البشر، ولأن في ذكره معنى
فذكره تذكير بتهديده، واستجابة الله تعالى لدعائه. وقد ذكر سبحانه وتعالى نبيين من بعده في الزمان الطويل الذي كان بينه وبين إبراهيم أبي الأنبياء من بعده، ثم قال سبحانه وتعالى من بعد:
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ) وقد ذكر سبحانه وتعالى كلمة " وأوحينا " لتأكيد الإيحاء، وللإشارة إلى وجود فترة زمنية طويلة بين نوح عليه السلام وإبراهيم، فإن التكرار في الذكر إيحاء الى التباعد في الزمن؛ ولأن هنا مفارقة بين الأنبياء الذين جاءوا بعد نوح، والمذكورين، لأن أولئك جميعا من ذرية إبراهيم وإن تفاوتت مراتبهم، واختلفت أماكنهم.
وإن القارئ يلاحظ أمرين:
أولهما - أن كل نبي من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذا النص الكريم يختص بصفة! فإبراهيم أبو الأنبياء، وإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو أنبياء بني إسرائيل ومثله يعقوب، وقد اختص بالصبر على فراق ولده، وحبيبه، والأسباط، وهم أولاد يعقوب - عليه السلام - جمع سبط، وهو ولد الولد - مثل للغيرة البشرية تعتري الشباب في فورته وحدته، ثم يثوب إلى رشده بعد أن يكتمل عقله، وتكتمل نفسه، وقد أوحى الله تعالى إليهم، وبلغوا مرتبة الأصفياء المهديين، ولعل الوحي إليهم كان من قبيل الإلهام، لأنه لم يكن لهم رسالات بشرائع خاصة، وعيسى عليه السلام كان روحانيا في حياته كلها، ولد من غير أب، وعاش طول حياته يدعو إلى الروح، والخروج من سلطان المادة، فله بين الأنبياء خواصه، وهو من البشر الذين خلقهم الله تعالى آية للعالمين، وأيوب عليه السلام له صفة الصبر على المرض الأليم، وقد قال تعالى فيه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى
وقد ختم سبحانه ذلك الفريق من النبيين بذكر داود فقال تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) أي كما أعطينا داود كتابا خاصا هو الزبور، والقراءة المشهورة بفتح الزاي، وقراءة حمزة بضمها أي " زبورا " (١)، وعلى الأول يكون معنى زبورا بمعنى الزبور أي المكتوب، وعلى الضم يكون جمعا لزِبر بكسر الزاي، والزبر هو الشيء المكتوب، وعلى أي القراءتين فالمعنى أعطيناه كتابا مكتوبا يقرأ ويرتل.
ويظهر أن كتاب الزبور لم يكن فيه بيان للأحكام، لأن التوراة كانت شرائعها هي النظام المتبع، بل هو حكمٌ ومَواعِظ، وقد قال فيه القرطبي: " الزبور كتاب داود، وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ ".
ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى داود صفتين تبدوان بين الناس متعارضتين، إحداهما - أنه كان رجل حرب وجلاد، ورجل حكم وفصل بين الناس. والثانية - أنه كان طيب النفس متواضعا متطامنا، فكان لَا يأكل إلا من عمل يده، ولذلك كان مثلا للنبوة التي تحكم وترشد وتتواضع وتقود الجيوش، وهو الذي كان تحت يده كل خزائن ملكه، ويعف عن أن يمد يده إليه، ويأكل من عمل يده، كما قال النبي - ﷺ - في بيان حاله: " إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " (٢) فهو
_________
(١) قرأها بالضم حمزة وخلف وقرأ الباقون بالفتح. غاية الاختصار برقم (٧٩٥).
(٢) رواه البخاري: البيوع - كسب الرجل وعمله بيده (٢٠٧٣)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (٢٧٣٧٧) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
* * *
* * *
هذا بيان إجمالي يقرر أن الله تعالى أرسل رسلا كثيرة، قد قص بعضهم على النبي - ﷺ -، والآخر لم يقصه، والقص تتبع الأثر يقال قصصت أثره، ثم أطلق على الأخبار المتتابعة، ونرى هنا أن (قَصَّ) متعدية، مفعولها المذكور من أخبارهم، والمعنى على هذا في النص تتبعنا آثارهم وأخبارهم التي يكون في ذكرها عبره لأولي الألباب، وليكون ضرب الأمثال للنبي - ﷺ - في صبرهم، وإيذاء أقوامهم لهم، وإن الرسل الذين قصهم الله تعالى على نبيه من قبل كان في السور المكية، فإنها مملوءة بأخبارهم وفيه ذكرى النبوات الأولى السابقة على نبوة النبي - ﷺ -. وإن أكثر هؤلاء الذين قص الله تعالى أخبارهم ممن كانوا في البلاد العربية أو يجاورونها، أو كانت له صلة بالنبي - ﷺ - في نسب، أو كان الذين يدَّعون اتباعهم يجادلون النبي - ﷺ -، ويمارون في دعوته.
وليست النبوة مقصورة في هؤلاء، إنما هناك نبوات ورسالات أخرى كانت في الأمم البعيدة مثل الصين والهند، وغيرها من الأراضي التي سكنها أقوام كثيرون، وليس لنا إلا أن نفرض أن رسلا بعثوا إلى هؤلاء الأقوام؛ لأن الله تعالى يقول: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)، ولا شك أن تركهم من غير نبي مبعوث ترك لهم سدى، وذلك ما نفَى الله تعالى في استنكار أن يقع، وقد قال تعالى: (وَإن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ).
ولذلك قال تعالى في هذا النص الكريم الذي نتكلم في معناه (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ) ونصبت " رسلا " على الاشتغال أي نصبت بفعل قد تضمن معناه الفعل الذي ولي المنصوب، والمعنى قصصنا رسلا من قبل: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ) ويكون الابتداء بذكر الرسل والاهتمام بهم لأنهم المقصودون، وأخبارهم وقصصهم جاء تبعا لهم وختم الله النص بقوله تعالى:
وإن هذا يدل على أن الله تعالى متصف بصفة الكلام، والمعتزلة من الفرق الإسلامية ينكرون نسبة صفة الكلامِ لله تعالى، ويذهب فرط غلو بعضهم إلى أن يفسروا قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا) بأنه كَلَّم من الكَلْم لَا من الكلام، أي أن الله تعالى اختبر موسى - عليه السلام - اختبارات شديدة كانت كالكلام والجروح وتلك مغالاة في تفسير القرآن الكريم بالمذهبية، وقد أنكره الزمخشري - وهو منهم - وسماه من بدع التفاسير. والحق أن كَلَّم من الكلام، وقد أكد تكليم الله تعالى لموسى بالمصدر، والظاهر من الكلام إذا أكد، كان غير قابل للمجاز ولا للتأويل، وأنه يجب تفسير القرآن بظواهره، وخصوصا الظواهر المؤكدة ولا تطغى الآراء المذهبية على المعاني القرآنية، فالقرآن منبع الحق، ونور المتقين.
* * *
* * *
في هذا النص الكريم بيان لعمل الرسل، والحكمة من بعثهم، وقد أرسل هؤلاء مبينين الحق داعين إليه، يبشرون الطائعين بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وينذرون العاصين بسوء العقبى، وإن وَاتاهم نفع في الدنيا، فالعذاب الأليم يستقبلهم في الآخرة.
وكان بعث الرسل لكي يكون الذين يعصون على علم بما يستقبلهم والذين يطيعون على بينة بأوامر ربهم ويكون الذين يعذبون ليس لهم عذر من جهل،
وقد قال المعتزلة: إن لله دائما الحجة على خلقه بالعقل الذي أودعه خالقهم، وهو هاد مرشد، ولكن إرسال الرسل رحمة من الله تعالى، ولذا قال الزمخشري في تفسير النص: الرسل منبهون من الغفلة وباعثون على النظر كما يرى علماء أهل العدل والتوحيد (أي المعتزلة) مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف، وتعليم الشرائع فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له.
والحق أن الناس لَا يهتدون في جملتهم إلى الشرائع الصحيحة، بل هم بعدها مراتب منهم من يهتدون بمجرد بيان الحق، ومنهم من لَا يقنعون إلا بالبرهان الملزم، ومنهم من لَا يطيعون إلا بالتهديد ومنهم عصاة جائرون بائرون.
وقد ختم سبحانه الآية بقوله (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أي أنه القادر الغالب على كل شيء وهو الحكيم، الذي يدبر الأمر بحكمته وعزته.
* * *
* * *
جحد أهل الكتاب وكفروا برسالة النبي - ﷺ - وطلبوا اليه أن يأتي بشهادة من عند الله، وعينوا الشهادة بأن تكون كتابا كما قال تعالى (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ...)، فرد سبحانه وتعالى عليهم بقوله تعالى (لَكِنِ اللَّه يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) فالاستدراك هنا عن مستدرك من كلامهم وجحودهم، فالمعنى إذا كانوا لَا يقرون بالحق، ويذعنون له، فالله تعالى شاهد بالحق وأي بينة أجل من بيان الله تعالى تلزم المنكرين أنى يكونون، والشهادة هي قول الحق المبني على اليقين القاطع، وشهادة الله أقوى وثيقة في هذا الوجود،
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي أنه لَا عبرة بإنكار المنكرين بعد شهادة الله تعالى، ففيها عزة الحق وخفض الباطل، ولم تذكر هنا شهادة الملائكة لأنها تبع لشهادة الله تعالى، وفي ذكر المتبوع غناء عن التابع، والله سبحانه وتعالى على كل شيء شهيد.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٦٩)
* * *
في الآيات السابقة كان الكلام في أحوال اليهود، وسائر الكافرين، وبين سبحانه كيف كانت تأتيهم المعجزات القاهرة، والبينات الباهرة، ومع ذلك يستمرون في إنكارهم، ويلجون في عنادهم، ويطلبون آيات أخرى، والمآل الكفران، حتى إن بعضهم في الماضي ليسألون موسى أن يريهم الله جهرة، وبعضهم في عصر نزول آية يطلب آية أخرى، والنبي يتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ولو مفتراة، وهو يجادلهم بالتي هي أحسن. وقد بين سبحانه أنه تعالى أرسل الرسل ليقيم الحجة، ويختار من عباده للرسالة من يشاء،
والصد هنا في هذا النص الكريم بمعنى التعدي، فمعنى النص السامي، إن الذين جحدوا بالحق إذ جاءهم ولا يكتفون بانصرافهم عن الإذعان والإيمان، بل يصدون غيرهم، ويمنعونهم من الحق بإثارة الشبهات، وإيقاد الفتن بين المؤمنين، يوغلون في الضلال، ويسيرون في طريقه سيرا بعيدا.
ويتضمن ذلك المعنى أمورا:
أولها - أن الكفر بطبيعته انصراف عن الحق وصدود عن طريقه، ولذلك فسرنا كلمة (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) بمعنى منع غيرهم من سلوك الأقوم والهادي إلى الحق الذي لَا ريب فيه، وإن الذي يصد غيره قد ابتدأ بصد نفسه، فالمضل لغيره هو في ذات نفسه ضال، فإن الإضلال من ثمرات الضلال، ولا يضل الناس إلا ضال، وقد ضل مرتين إحداهما بإنكاره للحق، والثانية بمحاولته إضلال غيره.
وثانيها - أن الضلال البعد عن الطريق المستقيم فمن ضل فقد بعد عن الحق، ومن أضل غيره فقد بعد عن الحق بمقدار أوسع، وهكذا كلما سار في التضليل،
ثالثها - أن قوله تعالى (قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا) فيه استعارة تمثيلية؛ لأن فيه تشبيه حال الذين يمعنون في الغي والفساد وإنكار الحقائق عندما يلحفون في الإنكار، وإثارة الشبه بحال الذين يسيرون في بيداء، وقد ضلوا الطريق، وساروا على غير هدى، فكلما ساروا بعدوا عن الجادة، وكان سيرهم ضلالا بعيدا لا يهتدون من بعد، إذ لَا يجدون من يهديهم إلى سواء الصراط.
الأمر الرابع - أن النفس البشرية قد هداها الله تعالى النجدين طريق الحق، وطريق الباطل، وألهمها فجورها وتقواها، فإذا اتجهت إلى الخير سارت فيه، وكلما كثرت خيراتها زاد فضلها، وإذا انحرفت عن الطريق السوي، أو سارت فيه، فإذا نبهت من قريب عادت إلى الفطرة والحق، وأمامها الأمارات والعلامات المبينة المرشدة، وإذا لم تنتبه من قريب، سارت في الشر، وبمقدار سيرها تأخذ أمارات الحق تختفي أمامها، حتى تنطمس فلا ترى. ولذلك لَا يكون ثمة أمل في العودة إلى الجادة، لأنه قد اختفت في النفس أمارات الحق، وانطفأ نوره ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
الظلم هنا ظلم النفس وظلم الغير، وأولئك الذين كفروا ولجوا في كفرهم، واسترسلوا في جحودهم قد ظلموا أنفسهم بأن أبعدوها عن طريق الهداية وطمسوا نور الحق فيها وارتكبوا من المآثم ما تردوا به في مهاوي الرذيلة. وظلموا غيرهم بأن أثاروا الشبهات ليضلوهم، وأوقعوا بهم الأذى ليفتنوهم، والوصفان لطائفة واحدة من الناس، فهم اتصفوا بالجحود المطلق، والظلم، وهي الطائفة الموصوفة بالأوصاف السابقة، فالأوصاف الأولى كانت الكفر، والصد عن طريق الحق، والأوصاف الثانية هي الكفر والظلم، فالكفر مشترك، والاختلاف في الصد، والظلم، وهما متلاقيان، لأن الإعراض عن الحق ظلم للنفس ومنع الغير من الحق ظلم له، كما
وإن الذين يوغلون في الجحود والظلم لَا ترجى لهم توبة، وإذا كانت توبتهم لَا ترتجى، فالغفران لهم لَا يرجى، لأن الغفران نتيجة التوبة من الجاحدين الظالمين، وما كانت التوبة للذين يعملون السيئات، وتستغرق نفوسهم، ولا يتجهون إلى الله قط، ولذلك قال تعالى: (لَمْ يَكُنِ اللَّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ) اللام في قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَهُمْ) هي التي تسمى في اصطلاح النحويين لام الجحود، أي لام النفي المطلق، أي النفي الذي يكون ناشئا عن طبيعة موضوعة، وعلى ذلك يكون المعنى لم يكن من حكمة الله تعالى، وتدبيره الحكيم أن يغفر لهم، لأن حالهم تنفي الغفران إذ تنفي سببه، وهو الإقلاع عن الكفر والظلم، والندم على ما وقع منهم، وإذا كان ذلك لَا يتحقق، فالنفي المؤكد، والجحود المطلق لاستحقاق المغفرة مؤكد، إذ لَا يقابل جحودهم بالله إلا جحود الغفران لهم، وإن الهداية إلى الحق تبتدئ بالاتجاه السليم إلى طلبه، والسير في طريقه المستقيم، وأولئك الذين أوغلوا في الشر وساروا في طريقه، أو غابوا في صحرائه وبعدوا عن الجادة لَا يمكن أن يهديهم الله تعالى إلى الطريق المستقيم، لأنهم بعدوا عنه بعدا شديدا، ولا يمكن أن يسمعوا نداء الحق؛ لأنه لَا يصل إليهم صوته، وقد اختفت من قلوبهم أماراته، فهداية الله تعالى إنما تكون لمن لم يبعد عن طريق الخير، ولا تكون إلا إذا أتجهت النفوس إلى طلبه، ولم تحط بها الخطايا (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١).
والآية الكريمة تتضمن بيان حقائق:
الأولى - أن الظلم وإرهاق النفس بالإكراه أشد الموبقات التي توبق أعمال العبيد، وترهقهم، وإن ظلم العباد لَا يغفره الله تعالى إلا إذا عفا الذين وقع الظلم عليهم، ولذلك ذكر امتناع الغفران مقرونا بالظلم، ومسببا له، وثمرة مترتبة عليه.
الثالثة - أن التوبة أساس الغفران، والتوبة ندم على الذنب، وإقلاع عنه، واعتزام على عدم العودة.
* * *
* * *
الاستثناء هنا من ختام الآية السابقة، أي أن الله تعالى لَا يوصلهم إلى طريق إلا طريق جهنم، ويكون معنى الهداية التوصيل، وليس التوصيل إلى جهنم فيه نوع من الهداية، بل هو التردي في الهاوية، وكان التعبير عن الهداية من قبيل المشاكلة اللفظية، وفيه نوع من التهكم في مثل قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وفى الكلام تنبيه إلى أن أعمالهم تنتهي بهم لَا محالة إلى جهنم، وعذابها الشديد، فإذا كانوا ممن يظنون أنفسهم في سعادة في الدنيا، فسيجدون الألم الشديد، (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
وقد ذكر سبحانه أنهم خالدون في جهنم أبدا، فأكد سبحانه العذاب بأنه عذاب خالد دائم، فوصفهم بأنهم خالدون على وجه التأبيد، وقد وصفهم بالخلود الدائم في العذاب ولم يصف العذاب، للإشارة إلى أنهم متلبسون به ولتصوير الآلام التي تنزل بهم، وأنهم لإخلاص لهم منها، بل هي ملازمة لهم ملازمة الوصف للموصوف.
وقد قال الأصفهاني في معنى الخلود: الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ التغيير والفساد فيه تصفه العرب بالخلود.. ويقال خلد يخلد خلودا قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ).
والأبد قال فيه الراغب: " مدة الزمان الممتد الذي لَا يتجزأ، وأبد يأبد بقي أبدا، ويعبر به عما يبقى مدة طويلة "، وإن تفسير الخلود على ما ذكره الراغب يقتضي بقاء الناس يوم القيامة بأبدانهم من غير أن يعتريها فساد ولا فناء ولا تحلل أجزاء، فأهل الجنة يبقون بقاء تمتع ونعيم وأهل النار تبقى أجسامهم في شقاء وعذاب أليم، لَا تبليها النار ولا يفنيها العذاب، ولا يذهب بالحساسية فيها توالي الاكتواء، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (٥٦).
والأبدية معناها الدوام، كما دل على ذلك مجموع النصوص القرآنية، وإن تأكيد الخلود بالأبدية يدل على بقاء العذاب والنعيم.
ذيَّل الله سبحانه وتعالى الآيات بهذا ليبين لهم أن الله تعالى غالب على كل شيء، وأن عذابهم أمر يسير عليه، لإبطال زعمهم في أنهم لَا يقدر عليهم أحد، ذلك أن كل طاغية من طغاة الدنيا سبب طغيانه واسترساله في شره ظنه أن لن يقدر عليه أحد، مع أن الله تعالى هو القاهر فوق عباده، اللهم أبعد عن خلقك طغيان الطاغين، وغرور المغترين، وأرزق المؤمنين الأمن والاطمئنان.
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا
* * *
كان كل الكلام السابق في شأن الذين لجوا في الإنكار من اليهود حتى لقد سألوا أن يأتي لهم النبي - ﷺ - بكتاب من السماء يقرءونه، وكان حاضرهم في عصر النبي - ﷺ - كماضيهم، وفي هذه الآيات بيان منزلة الرسول محمد - ﷺ -، وأنه يخاطب الناس جميعا برسالته، ويدعوهم إلى شريعته، وإشارة إلى طائفة أخرى من أهل الكتاب غالوا في تقدير رسولهم، وهم النصارى، فإذا كان اليهود قد لجوا في الإنكار والجحود بالنسبة لرسولهم الذي أنقذهم من فرعون وطغيانه، الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم. فالنصارى قد غالوا في تقدير رسولهم حتى جعلوه إلها، وجعلوا الآلهة ثلاثة استرسالا في المغالاة في تقدير المسيح عيسى - عليه السلام -، وهو بريء مما يقولون.
أهل الشرك وأهل الكتاب، والعرب والعجم، والأبيض والأسود، والقريب الداني، والبعيد القاصي، فهي رسالة عامة، لَا تختص بجنس، ولا لون، ولا إقليم، فإذا كان موسى يخاطب بني إسرائيل، فمحمد - ﷺ - يخاطب الناس أجمعين.
وذكر الرسول معرفا بالألف واللام لمعنى كمال الرسالة فيه، فهي للتعيين بالكمال المطلق، أي أنه رسول الأجيال اللاحقة، ولا رسالة من بعده، فالتعريف
وقد أكد الله سبحانه وتعالى فضل رسالته وكمالها وعمومها بثلاثة أمور:
أولها - في قوله تعالى (قَدْ جَاءَكُمُ) أي بعث هذا الرسول الأمين الكامل في معنى الرسالة وأدائها. قد جاءكم أيها الناس جميعا، فهي رسالة جاءت لصالحكم جميعا، أي لصالح البشرية كلها، لَا لجزء من أجزائها.
ثانيها - التعبير بقوله تعالى (بِالْحَقِّ) أي مقرونة بالحق مصاحبة له، متلبسة به، فهي حق ثابت مستقر موافق لفطرة البشر أجمعين، لَا يأتيه باطل قط، وما كان حقا ملائما لفطرة البشر لَا بد أن يكون عاما، شاملا لَا يختص بمكان، ولا بزمان، ولا بعصر من العصور.
ثالثها - قوله تعالى: (مِن رَبِّكُمْ) أي أن رسالة محمد - ﷺ - جاءت من ربكم الذي خلقكم، وقام على أموركم الذي يعلم ما فيه نفعكم، وما فيه خيركم، ولا يرضى لعباده إلا النفع لعمومهم.
ولذلك كان الإيمان بهذه الرسالة والإذعان لها أمرا واجبا لمصلحة الناس أجمعين، فقال سبحانه:
(فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، وتقدير الكلام: إذا كان ذلك الرسول هو الكامل في رسالته التي جاءت بالحق تلازمه ويلازمها، وفيها مصلحة لكم لأنها من عند ربكم، فآمنوا خيرا لكم، أي فأذعنوا للحق وصدقوه، واعملوا به خيرا لكم. وهنا أمران لفظيان فيهما توضيح المعنى وكشف لبعض أسرار البلاغة القرآنية.
ثانيهما - قوله تعالى: (خَيْرًا لَّكُمْ) ونصبت كلمة " خيرا " وصفا لمحذوف تقديره آمنوا إيمانا هو خير لكم، أو مفعولا لمحذوف وتقديره آمنوا قاصدين خيرا لكم، ويصح أن تكون خبرا لكان المحذوفة في فعل شرط وجوابه، والمعنى إن تؤمنوا يكن خيرا لكم، وذلك مثل (كل امرئٍ مجزي بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر).
ومهما يكن فإن النص الكريم يبين أن الإيمان فيه الخير المطلق؛ لأنه الحق، ولأنه من عند رب العالمين.
هذا فضل الايمان وما فيه من خير، وأما الكفر، فإنه الضرر كله للعباد، ولا يرضى سبحانه وتعالى الكفر لأنه لَا يرضى ما يضرهم، وأما هو سبحانه فإنه لا يضره شيء من كفرهم لأنه المالك لكل شيء، مالك لكل السماوات من أفلاك ونجوم ومدارات، وما تحوي من كائنات، وما في الأرض مما هو على ظاهرها وما في باطنها، فهو المالك والسلطان القاهر، فلا يضيره كفر العباد، وإن كان لا يرضاه، ويرضى إيمانهم، وإن كان لَا ينفعه، وهذا تقريب لمعنى قوله تعالى: (وَإِن تَكْفُروا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) هذا ختام النص الكريم فيه وصف الله الدائم بالعلم المحيط الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وبالحكمة وحسن التدبير والإبداع في ملكوت السماوات والأرض، إذ يسير الكون بنظام محكم التقدير والتدبير، وبنواميس وأسرار كونية لا يعلمها إلا العليم الخبير الذي خلق كل شيء فقدره وأحسن تقديره، وأنه كان من مقتضى علمه ألا يخفى ضلال الضالين، ولا هداية المهتدين، وكان من مقتضى حكمته، أن يجزي بالكفر عذابا، وبالإيمان نعيما، وأن يجعل من عباده الشكور المهتدي، ومنهم من ضل وغوى.
* * *
* * *
نهى في هذا النص الكريم عن الغلو في الدين، والغلو هو تجاوز الحد سلبا أو إيجابا، وقد تجاوز اليهود الحد في شأن عيسى - عليه السلام -، فأنكروا رسالته لعنة الله عليهم، واتهموا أمه البتول، وغالى فيه النصارى، حتى أخرجوهُ من مرتبة البشرية مع أن البشرية واضحة فيه، وفي ولادته، وفي حياته، وفي كونه لحما ودما يحيا ويموت، ويأكل ويشرب، كما يأكل سائر البشر، وإذا كان الغلو في شأن عيسى وقع من اليهود، ومن النصارى، فإنه يصح أن يكون الخطاب موجها إلى الفريقين، باعتبار أن الغلو وقع مستمرا، فيكون النهي عن الاستمرار، ولكن سياق القول يدل على أن أهل الكتاب المخاطبين في هذه الآية هم النصارى لأنه سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّمَا الْمَسِيح عيسَى ابْن مَرْيمَ رسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا) إلى آخره، فالسياق في خطاب النصارى ومغالاة اليهود بشأن عيسى قد سبق بيانها آنفا.
ولقد أردف الله سبحانه النهي عن المغالاة بتجاوز الحق، وبالأمر بالحق، فقال تعالى: (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ).
أي لَا تقولوا يا معشر النصارى على الله إلا الحق الثابت القائم على الدليل المقنع، لَا على الوهم البعيد، وفي هذا النص السامي إشارات إلى معان، فإن أقوالهم التي قالوها غير الحق هي افتراء وكذب على الله تعالى، وكذلك عدى القول فقال على الله؛ لأن القول يتضمن معنى الافتراء، وفوق ذلك إنها لَا تعتمد على الحق الثابت، وتناقض الدليل الواضح، والبرهان القاطع قائم في أن عيسى ولد، والإله لَا يولد، وعيسى كان يأكل ويشرب، والإله ليس كذلك، وقد زعموا أنهم قتلوه، والإله لَا يُقتل، وزعموا أنه قتل افتداء للخليقة عن عصيان آدم لله تعالى، وليس من المعقول في أي منطق أن يفتدي الله الخليقة عن عصيان أبيها بتمكينهم من قتل ابنه في زعمهم، فإن ذلك القتل جريمة أشد وأشنع، وإذا كانت الأولى تحتاج إلى فداء، فالثانية لَا يغني عنها فداء، ولكن هكذا سوغ الوهم لهم.
(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منْهُ) صدر الكلام بأداة القصر، وهي " إنما " ومعنى القول ليس المسيح عيسى ابن مريم إلا رسول الله أرسله لهداية الحق، وهو قد نشأ بكلمته، ونفخ بروح منه في مريم، فكان من بعد بشرا سويا، وهو في إيجاده آية قدرة الله تعالى على الخلق من غير تقيد بالأسباب التي تجري بين الناس، فهو سبحانه خالق الأسباب والمسببات بديع السماوات والأرض وليس له ولد: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤).
ولا بد أن نتعرض بقليل من البيان لثلاث عبارات: الأولى - التعبير بـ (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مرْيَمَ) والثانية (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) والثالثة (وَرُوح مِّنْهُ) فقد تعلقت الأوهام بالعبارتين الأخريين، فوجب بيانهما، مع أن في الأولى إزالة الأوهامهم.
أما العبارة الأولى، وهي (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فإن الله تعالى قد ذكر أنه المسيح، وأنه عيسى، وأنه ابن مريم، فأما الأول فهو الاسم الذي يذكر به في القرآن، وذكر بجواره عيسى للإشارة إلى أنه شخص ككل الشخوص فيه إشارة إلى بشريته، والتصريح بالبشرية في قوله تعالى " ابن مريم " فهو مولود خرج من رحم أنثى، كما يخرج الأولاد من أمهاتهم، وإذا كان لم يخرج من صلب أب، فإنه قد خرج من رحم أم، وحسبنا ذلك دليلا على البشرية المطلقة، وفي ذكر الأم من غير ذكر أب دليل على أنه لَا ينتسب إلى أب قط، فليس ابن يوسف النجار، وليس ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
والعبارة الثانية، وهي (كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) فإن الكلمة هنا قد تكون مجملة، ولكنها ذكرت في آيات مبينة، ذكرت في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، فقد قال تعالى في شأن خلق عيسى عليه السلام: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
هذا ما جاء في سورة مريم، وقد جاء في سورة آل عمران: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧).
وقال في شأن خلق عيسى من غير أب: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ).
وبهذا يتبين أن الله سبحانه وتعالى خلقه بكلمة منه، وهو " كن "، كما خلق آدم، وكان عيسى بهذا كلمة الله لأنه خلقه بها، فقد خلق من غير بذر يبذر في رحم أمه، فما كان تكوينه نماء لبذر وجد، وللأسباب التي تجري بين الناس، بل كان السبب هو إرادة الله وحده، وكلمته " كن " وبذلك سُمِّيَ كلمة الله. وتعلق النصارى بأن كون عيسى كلمة الله دليل على ألوهيته، وما كانت الكلمة من الله إلهًا يعبد، فضلا عن أنه سمي بذلك؛ لأنه فعلا نشأ بكلمة، لَا بمنيِّ من الرجل يمنى، بل كلمته التكوين ألقاها (أي أوصلها) إلى مريم فكان التكوين لعيسى.
والعبارة الثالثة (وَرُوحٌ) وهذه أيضا من العبارات التي تعلقت بها أوهامهم، إذ قد فتحوا باب الوهم فيها حتى غشى عقولهم، فحجبها، فظنوا أن هذه الكلمة تدل على معنى الألوهية في عيسى.
وإن تتبع هذا اللفظ في القرآن يدل على أنه يراد به أحيانا الروح التي ينشئها الله تعالى في الأبدان، وينفخ بها فيها، وتكون بمعنى الملك جبريل عليه السلام، وتكون بمعنى رحمة، وليس في ذلك ما يدل على الربوبية أو الألوهية فيمن تقال فيه أو يسمى باسمه، وقد قيل المعنيان الأولان في شأن عيسى وشأن أمه، فقد قال
وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى: (وَرُوح مِّنْهُ) أي أنه سبحانه أنشأه بروح مرسل منه، وهو " جبريل الأمين "، وقد يقال أنه نشأ بروح منه سبحانه، أي أنه أفاض بروحه في جسمه كما أفاض بها على كل إنسان، ولقد قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٩).
والأول أولى.
وعلى ذلك يكون معنى قوله (وَرُوحٌ منْهُ) أي أنه نشأ بنفخ الله تعالى الروح فيه من غير توسيط سلالة بشرية، ونطفة تتشكل إنسانا، وذلك بالملك الذي أرسله وهو جبريل وقد تمثل لها بشرا سويا.
ولكن قد يسأل سائل لماذا سماه الله تعالى روحا؟ ونقول في الإجابة عن ذلك أن عيسى سمي روحا باعتباره نشأ من الروح مباشرة، ولأنه غلبت عليه الروحانية، وإن كان بشرا كسائر البشر، يأكل ويشرب، ويمشي في الأسواق، ولهذا المعنى سمي روحا، و (مِن) هنا للابتداء أي أن الروح مرسل من عند الله تعالى، ونافخ بإذنه.
وبهذا الكلام يزول الوهم الذي سلطه الله على عقول الذين غالوا في المسيح - عليه السلام - غلوا بعيدا، فنحلوه ما ليس له. وما ليس من شأنه، وجعلوه إلها، وابن إله، ومنهم من جعل أمه مريم إلها، إلى آخر ما توهموا.
ولقد لج الوهم ببعضهم فظن أن في القرآن الكريم ما يدل على ما توهموا، فقد قالوا إن في القرآن ما يدل على أن عيسى - عليه السلام - مؤيد بروح القدس، فقد قال سبحانه: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).
وإذن لَا لبس ولا التباس، ويجب أن تفسر بذلك روح القدس التي جاءت في الأناجيل بالنسبة لعيسى، فقد جاء في إنجيل متى: " ولما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس " وبالتفسير المعقول المتفق مع نص القرآن يكون الحبل بنفخ من روح القدس جبريل، وقد جاء في الإنجيل ما يدل على أن روح القدس هو جبريل - عليه السلام -: " وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر نفسه إسرائيل والروح القدس "، وجاء في الإصحاح الثاني من إنجيل متى آية ٢٦ (وكان قد أوحى إليه بالروح القدس).
وإذا كان الحق في عيسى - عليه السلام - أنه رسول الله، وأنه تعالى خلقه من غير طريق الأسباب المعتادة، إذ خلقه بكلمة، وأنه روح جاءت من قبل الله إذ نفخ جبريل الروح في مريم فكان منها الحبل، وأنه غلبته روحانية، إذا كان كذلك، فيجب الإيمان بالحق، وإزالة الأوهام، وكذا قال سبحانه: (فآمِنوا بِاللَّهِ وَرسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ) أي إذا كانت تلك حقيقة المسيح، وليس بابن إله، فآمنوا بالله وحده لَا شريك له في العبادة، ولا في السلطان، وليس معه ثان ولا ثالث، وليس بوالد ولا ولد، وآمنوا بالرسالة الإلهية، وآمنوا بالرسل الذين سبقوا عيسى والرسول الذي جاء من بعده، ولا تكفروا بأحد منهم ولا تغالوا فتقولوا ثلاثة، ولذا قال سبحانه: (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ).
وعبر سبحانه وتعالى بقوله: (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) بدل قوله " ولا تؤمنن بثلاثة أو لَا تصدقوا بثلاثة، أو لَا تزعموا ثلاثة "؛ لأن أمر الثلاثة قول يقولونه، فإن سألتهم عن معناه قالوا مرة الأب والابن وروح القدس أي أنهم ثلاثة متفرقون،
وإن الدارس لتاريخ النصرانية من غير تحيز لهذه الأوهام أو متحيز عليها يرى أنها في ابتدائها ديانة توحيد خالص، وأنه ما كانت ألوهية المسيح عندهم رائجة، ولا يعتنقها الأكثرون، بل كان الأكثرون على أن الله إله واحد ليس له ولد ولا والد، واستمر الحال كذلك إلى أن أراد قسطنطين أن يدخل في المسيحية، وقد كان وثنيا، ولكنه أراد أن يدخلها بعد أن يحرفها، فعقد مجمع (نيقية) سنة ٣٢٥ ميلادية، وقد ادعى أن انعقاده للرد على أريوس الذي أنكر ألوهية المسيح، فكان المجتمعون أكثر من تسعمائة، وقد كانت الكثرة منكرة ألوهية المسيح، والذين قالوا ألوهية المسيح ٣١٨ فاكتفى بهم وأعلنوا الألوهية، وعلى رأسهم أسقف الإسكندرية، ودخل قسطنطين في المسيحية من بعد قرارهم، وقد استنكر أكثر المسيحيين ما قرره مجمع نيقية، ولذلك انعقد فوره مجمع (صور) ورفض دعوى ألوهية المسيح بالإجماع، ولكن استخدمت القوة والإرهاب لتشتيت المجتمعين، وأخذت القوة تعلن الألوهية، وتخفي الوحدانية.
ولم يكن إلى ذلك الوقت أحد يقول إن روح القدس إله، حتى دعا أسقف الإسكندرية إلى عقد المجتمع القسطنطيني الأول سنة ٣٨١، فقرر ألوهية روح القدس.
وبذلك قالوا ثلاثة، وبتوالي العصور، وإخفات صوت المخالفين، وتقرير التثليث وتثبيته سيطرت الأوهام، واستقر الأمر على ثلاثة.
وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن أن يقولوا ثلاثة، وأكد سبحانه وتعالى النهي بقوله: (انتَهُوا خَيْرًا لَّكمْ) وفي التعبير بـ " انتهوا " دليل على أنهم لم يعتنقوا ما يدعون اعتقادا جازما، بل إنهم إن فكروا غيروا، فكان الأمر بالانتهاء، وقال انتهوا خيرا لكم، أي انتهوا يكن الانتهاء خيرا لكم؛ لأنكم تخرجون من حيرة الأوهام إلى تفكير العقول، وتدركون الحق، وتذعنون له، وتكونون مؤمنين
(لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكفَى بِاللَّهِ وَكيلًا) أي أن المعبود بحق ليس إلا واحدا، وهو الله تعالى ذو الجلال والإكرام، ووحدانيته تكون في الذات والصفات والعبودية، فليست ذاته الكريمة كذات المخلوقات، وهو وحده سبحانه الجدير بالعبودية والألوهية فلا معبود سواه، وهو وحده الخالق للكون، وقد تنزه سبحانه عن أن يكون له ولد، لأن هذه صفات المخلوقين، وذاته تعالى واحدة ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لأن كون أحد ولده يقضي الاتصال بالمخلوقين ويكون مثلهم، وهو الخالق لهم ولكل شيء، فكيف يكون المخلوق ولدا. وكيف يكون البشر متولدا من الله تعالى الخالق له المنشئ المكون المربي، ولذا قال سبحانه وتعالى:
(لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكفَى بِاللَّهِ وَكيلًا) كل ما في السماوات من بروج ونجوم وكواكب، وما في الأرض من أحياء على ظهرها، ومعادن وفلزات وكنوز في باطنها، وما في البحار من أحياء، ومن جواهر ولآلئ، هو ملك لله تعالى، فعيسى ابن مريم وأمه وغيرهما مملوكان لله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا). والله سبحانه هو المدبر للكون الذي وكل إليه أمره، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَكفَى بِاللَّهِ وَكيلًا) أي أن الله تعالى هو الذي قد وكل إليه أمر الكون، وتدبيره ظاهره وباطنه، وما ظهر منه للناس، وما خفي عليهم، وكفى بالله وكيلا ليستقيم الأمر فيه، وليسير على سنن مستقيم لَا اضطراب فيه ولا اختلاف. اللهم أنت بديع السماوات والأرض لا نؤمن إلا بك، ولا نعبد إلا إياك، ولا نرجو الخير إلا منك، اللهم إنك أنت مانح النعم ومجريها، ولا يرجى سواك.
* * *
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة مغالاة النصارى في تقدير السيد المسيح - عليه السلام -، وأنهم رفعوه إلى مرتبة الألوهية، وقالوا بألسنتهم إن الله ثالث ثلاثة من غير أن يحددوا معنى الألوهية في الاثنين اللذين زادوهما في أقوالهم، ومن غير أن يميزوا علاقة الثلاثة بعضهم ببعض، إلا أن يقولوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ودفعهم إلى ما يقولون أن عيسى ولد من غير أب، وأنه كان إنسانا روحانيا، فزعموا أنه ليس كغيره من رسل الله تعالى، واستنكفوا أن تكون علاقته بالله تعالى (الخالق لكل شيء) كعلاقة سائر العباد من حيث إنه مخلوق لرب العالمين، وفي هذه الآية يبين سبحانه أن علاقة المسيح - عليه السلام - بربه علاقة عبد بخالقه، وأنه لن يترفع عن هذه العلاقة، ولذا قال سبحانه.
روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله - ﷺ -: لم تعيب صاحبنا؟ فقال عليه السلام: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى (عليه السلام) فقال النبي - ﷺ -: وأي شيء أقول؟
وهنا بحثان لفظيان نريد أن نلم بهما بعض الإلمام.
أولهما - التعبير بـ " لن " فإن هذا التعبير النافي فيه تأكيد للنفي، وفيه بيان استمراره وفيه فوق ذلك إشارة إلى أن المنفي هو الأمر الذي لَا يتصور العقل غيره، فلا يتصور العقل أن يترفع المسيح عن أن يكون عبدا لله، لأنه هو الذي خلقه، وهو الذي سواه، وهو الذي جعل له كل الصفات التي امتاز بها على غيره من الناس في عهده، إن الكمال للإنسان في أن يحس بعبوديته لله تعالى وحده، فذلك ليس عارا كما ذكر الرسول - ﷺ -، لأن شكر المنعم هو كمال الإنسان، والمنعم بنعمة الوجود، ومجري النعم هو الله سبحانه وتعالى، فالعبودية له سبحانه شكر وهي كمال الصلة بين الله تعالى وخلقه.
وثانيهما - أصل معنى يستنكف، أنها في مغزاها لن يأنف أو يترفع، ولكن في أصل اللغة لها أصول ثلاثة.
أولها - أنها مشتقة من التنزيه، فالفعل الثلاثى لها (نكف)، دخله السين والتاء فيقال نكفت من الشيء واستنكفت منه، وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه، وروى في الحديث أن النبي - ﷺ - سئل عن معنى سبحان الله فقال - عليه السلام - " إنكاف الله عن كل سوء " (٢) بمعنى تنزيهه عن كل سوء، ويكون معنى " لن يستنكف ": لن يتنزه عن أن يكون عبدا لله، فالعبودية ليس للبشر أن يتنزهوا عنها، بل عليهم أن يخضعوا لها.
ثانيها - أنها مأخوذة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك سترا
________
(١) ذكره هكذا بلفظ " روى ": الزمخشري، والنسفي، والرازي، والآلوسي، والبيضاوي، سببا لنزول الآية الكريمة.
(٢) النهاية في غريب الحديث (نكف).
تالثها - أنها مأخوذة من النكف وهو العيب، ويكون المعنى " لن يعاب المسيح أن يكون عبدا لله " وكلها معان متلاقية.
وعطف سبحانه على المسيح - عليه السلام - الملائكة فقال: (وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي لَا يستنكف المسيح عن أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف أيضا الملائكة المقربون إليه سبحانه كجبريل وإسرافيل وميكائيل، وحملة العرش فإن هؤلاء على روحانياتهم الكاملة، ومع أن الله تعالى خلقهم من غير أب ولا أم لا يترفعون، أن يكونوا عبيدا لله تعالى؛ لأن الله تعالى خلقهم وهم المدركون لجلاله وكماله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦).
ولقد أخذ الزمخشري من هذا النص أن الملائكة المقربين أعلى درجة من الأنبياء وقال في ذلك: ولا من هو أعلى قدرا وأعظم خطرا وهم الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم، فإن قلت من أين دل قوله تعالى (وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على أن المعنى ولا من فوقه، قلت من حيث إن علم المعاني لَا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم لن يترفع المسيح عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح! ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
وما مثله ممن يجاود حاتم | ولا البحر ذو الأمواج يلتج ذاخره |
(١) السابق.
(٢) السابق.
وينتهي من هذا إلى أن الملائكة المقربين أفضل من عيسى - عليه السلام -، وعيسى من أولي العزم من الرسل، فالملائكة أفضل من النبيين.
وقد خالفه في ذلك كثير من العلماء، وردوا عليه بردود لَا تسقط مقدمة الدليل وهو كون النص يفيد الترقي من المفضول إلى الأفضل، فالمسيح مفضول، والملائكة المقربون أفضل، ولكنها تبطل النتيجة في ذاتها، وهي كون الملائكة أفضل؛ ذلك لأن الحديث في الملائكة المقربين، فكيف تكون النتيجة أوسع وتعم الملائكة أجمعين، المقربين ومن دونهم؟.
وعندي أن الترقي قائم، ولكن في المعنى الذي سيق له الكلام، ذلك أن النصارى غلوا غلوا كبيرا في المسيح؛ لأنه ولد من غير أب، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة، ولأنه روحاني المعاني، فبين الله سبحانه وتعالى أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف من هو أعلى منه في هذه المعاني وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم، وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من معجزات، ومنهم من كان الروح الذي نفخ في مريم، وهم أرواح طاهرة مطهرة، فكان الترقي في هذه المعاني، وهم فيها يفضُلون عيسى وغيره، وبذلك تكون الآيات بعيدة عن الأفضلية المطلقة، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل في المنزلة عند الله تعالى ورضوانه، وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف، والترقي دائما يكون في المعاني التي سيق لها الكلام دون غيرها، وليس المتأخر أعلى في ذاته صن لمتقدم وأفضل، ولكنه أعلى في الفعل الذي كان فيه كقول القائل لَا تضرب حرا ولا عبدا، فالتدرج هنا في النهي عن الضرب، لأنه إذا كان ضرب العبد غير جائز فإن ضرب الحر من باب أولى غير جائز.
* * *
* * *
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة جحود المشركين وأهل الكتاب للرسالة المحمدية، وبين بطلان قولهم، والإفك فيما يزعمون من تدين، وأن المسيح - عليه السلام - كان موضع المغالاة، فاليهود غالوا في إنكار رسالته، وزعموا أنهم قتلوه وما قتلوه وما صلبوه، وما مكنهم الله تعالى من أن يقتلوه، كما قتلوا نبيين من قبله، وغالى فيه النصارى فادعوا له الألوهية، بعد أن بين سبحانه وتعالى ذلك أخذ يبين المنهاج المستقيم، والدين الحق الذي لَا يأتيه الباطل، وليس فيه غلو في أمر من الأمور، بل فيه النور والحجة والبرهان، ولذا قال تعالى:
وإذا كان الرسول - ﷺ - له ذلك السمو، فشخصه برهان الصدق، ودليل الحق، وكثيرا ما كان يراه الرائي، فيسمع قوله، فيحكم بصدقه من غير أن يطلب دليلا من غير شخصه الكريم. رآه أعرابي فاسترعاه منظره الكريم، فقال: مَن أنت؟. قال الرسول الكريم: أنا محمد. فقال الأعرابي الذي يتكلم بما يسمع: " أنت الذي تقول فيك قريش أنك كذاب، لَا، ليس هذا الوجه وجه كذاب " (١).
ثم آمن به بعد أن علم ما يدعو إليه.
________
(١) نقل الآلوسي هذه الرواية عن الفتوحات المكية باب (١٧٢، ٢٧٧). روي نحو هذا عن عبد الله بن سلام في مصنف ابن أبي شيبة، ومسند الشهاب للقضاعي.
وأما قول الذين قالوا إن البرهان هو القرآن الكريم، فهو واضح لأن القرآن هو معجزة النبي - ﷺ - الدالة على صدق رسالته، ولكن الذي يقتضي توضيحه هو قوله تعالى بعد ذلك:
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) فإنه واضح أن المراد منها القرآن، لأنه المنزل من رب العالمين، وهو النور الواضح الهادي إلى الرشاد، ويجاب عن ذلك بأن القرآن الكريم فيه المزايا الثلاث، فهو الحجة القائمة، والمعجزة الدائمة، وهو تنزيل من رب العالمين، وهو نور يهدي للتي هي أقوم، وإن النور المبين في القرآن، ما اشتمل عليه من أحكام شرعية خالدة تنير السبيل وتوضحه لمن يسلك سبيل المؤمنين، فهي نافعة في الدين مبينة الحق، ومن اتبع أحكام القرآن هدى، ومن خالفها هوى.
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا). أنزلنا إليكم مواعظ وقصصا وأحكاما شرعية هي كالنور في هدايته وإرشاده وبيانه للأشياء فهي مبينة للطريق المستقيم، والنهج القويم، والحق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
ولا يتغير المعنى اذا قلنا إن البرهان هو النبي - ﷺ -، فإنه حينئذٍ يفسر قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا). بأنه القرآن، والمعنى والمؤدى فيهما، لا يختلف.
وهنا مباحث لفظية لَا بد من الإشارة إليها بعبارات موجزة موضحة.
أولها - التعبير بقوله تعالى: (مِّن رَّبِّكُمْ). في قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ) فيه تقوية لمعنى البرهان، لأن ذلك الدليل إذا كان قد جاء من عند علام الغيوب الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما، لابد أن يكون برهانا صادقا مقنعا لطالب الحق، مفحما لأهل الباطل الجاحدين، وقد زكى معنى التأكيد التعبير
ثانيها - إسناد الإنزال إلى الذات العلية ذات الجلال والإكرام في قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ) فأسند إليه تعالى للإشارة إلى أنه تعالى المرجع وكما أن المآب إليه.
ثالثها - وصف الشرائع والقصص والمواعظ التي نزل بها القرآن بأنها نور مبين واضح، أي أنه لَا يخفى إلا على من أنفت حواسه، وفسدت مشاعره، وأصيب بعمى البصيرة، وكان عليه غشاوة، لَا يرى معها النور الواضح المبين.
وإن الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب الإلهي قسمان، فريق آمن واهتدى، وانتفع بالنور الذي جاء الرسول - ﷺ - به، وفريق ضل وغوى، ولم ينتفع بالنور الذي حمل مصباحه المزهر محمد - ﷺ -، وقد بين سبحانه وتعالى الفريق الذي اهتدى فقال تعالت كلماته:
* * *
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى وصفين للذين اهتدوا وزادهم هدى. أول هذين الوصفين أنهم آمنوا بالله تعالى، وثاني هذين الوصفين أنهم اعتصموا به، فلا يلجأون إلا إليه، ولنتكلم في كل من هذين الوصفين، ومقامهما من اتباع الحق، والاهتداء بهديه.
أما الإيمان بالله فمعناه الإيمان بعظمته وجلاله، والإحساس بأنه فوق كل شيء، وهو القاهر فوق عباده والإذعان له، والمحبة لذاته الكريمة واجبة على الإنسان، وأن يذكره دائما كأنه يراه، كما في الحديث، " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك " (١)، والإيمان بالله تعالى يقتضي اعتقاد الوحدانية، وأنه لا منشئ للكون سواه، ولا يعبد بحق غيره، ويقتضي أن يحب الوجود؛ لأن الله تعالى خالق الوجود، ويقتضي ألا يحب شيئا إلا ابتغاء مرضاة الله، كما قال النبي - ﷺ -:
________
(١) سبق تخريجه.
وأما الاعتصام بالله تعالى، فإن معناه ألا يجد لنفسه عاصما من الناس إلا هو، ولا ملجأ يلجأ إليه الا هو، ولا معاذ له إلا رب العالمين، وبهذا يعلو عن طاعة المستكبرين، وبتجافى عن الخضوع لذوي السلطان إلا بالحق، فلا يذل ولا يخضع، ولا يجبن، ولا ينافق، ولا يكذب، ولا يكون فيه إلا السلوك الفاضل، ولا يكون إلا المجتمع الفاضل المؤمن بالله، وبالحق لَا يخشى في الله لومة لائم، ولا يدهن في كلامه، ولا أفعاله، ولا يخاف إلا الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي يخضع لكل شيء، تبارك وتعالى بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء، فقال تعالت كلماته:
(فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ منْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) هذا جزاء الذين آمنوا بالله واعتصموا به، وهو جزاء مكون من ثلاثة أجزاء: رحمة وفضل، وهداية إلى الطريق المستقيم الذي لَا عوج فيه ولا أمت.
ولكن ما هي الرحمة؟ وما هو الفضل، وما هي الهداية؟ ثم أهذا الجزاء في الدنيا أم هو في الآخرة؟ أم هو فيهما معا؟ لم يبين النص الكريم مكان ذلك الجزاء المؤكد، وعندي أن هذا الجزاء في الدنيا والآخرة.
وعلى هذا يكون معنى الرحمة في الدنيا أن يكونوا في سعادة واطمئنان وهدوء بال، لأنهم فوضوا أمورهم للعلي الأعلى الذي ليس كمثله شيء، وهو العلي الحكيم، وركنوا أنفسهم إلى الملجأ الأعصم، والركن الأمكن، فاطمأنوا
________
(١) سبق تخريج ما في معناه.
هذه رحمة الدنيا، أما رحمة الآخرة، فهي النعيم المقيم، وجنات عدن خالدين فيها أبدا.
هذه الرحمة بنوعيها، ومعانيها، أما الفضل، فأصل معناه الزيادة، وهو يطلق على الزيادة في الإحسان، والزيادة في العطاء، والزيادة في المنزلة.
والفضل في الدنيا هو علو المنزلة والسلطان العادل والتمكين لهم إذا كانوا على جادة الايمان لم يجانبوها، كما قال تعالت كلماته: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥).
يؤمنون بالله تعالى ويعتصمون به، وينصرونه وينصرهم، ويمكن لهم في الأرض، ويمن عليهم بالعزة، وإذا وجدت الذين يحملون شعار أهل الايمان في ذلة ومغلوبين على أمرهم بعد أن قامت دولة الحق، فاعلم أن ذلك لأنهم جانبوا طريق الإيمان، وضعف إيمانهم بالله، والأخذ بأوامره. (الَّذِينَ آمَنوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
هذا هو الفضل في الدنيا، وأما الفضل في الآخرة، فهو رضوان الله تعالى، والرفعة في الدرجات، والقرب منه سبحانه، وذلك هو الفضل العظيم.
والجزء الثالث هو الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو في الدنيا السبيل إلى الآخرة؛ وذلك لأن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يضيء في القلب، فيعرفه السبيل القويم، الذي يوصل إليه تعالى، فمن آمن بالله فقد اهتدى إليه، ومن
وفى الآية بعض مباحث لفظية تؤدى إلى توضيح معاني النص الكريم.
أولها - أن السين في قوله تعالى: (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ منْهُ) للتأكيد، والسين وسوف في القرآن يدلان على توكيد الوقوع في المستقبل.
ثانيها - الضمير في قوله تعالى: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ)، يعود على لفظ الجلالة، ذلك أن الهداية إلى الله تعالى هي ثمرة الإيمان به، وطريق النجاة، وبها يهتدي المؤمنون إلى أقوم سبيل، وصراط الله تعالى طريقه الذي يوصل إلى الغاية.
ثالثها - إعراب " صراطا مستقيما " لقد قال بعض العلماء إنها مفعول ثان لـ يهدي، وآخرون قالوا إنها مفعول لفعل محذوف، وتقدير الكلام هكذا (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) ويعرفهم طريقا يوصل إلى أعلى الغايات، وكان قوله تعالى: (ويَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) اشتمل على جزءين ساميين - أولهما - الهداية إلى الله وهو نعمة في ذاته، لأنه معرفة الله تعالى حق معرفته.
وثانيهما - معرفة الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق، وتلك نعمة أخرى تفضل بها مانح النعم ومجريها رب العالمين.
* * *
* * *
ثم انتقلت إلى علاج العلاقات الإنسانية العامة، وضرورة الحرب إن اعتدت الرذيلة على الفضيلة؛ لأن فضيلة الإسلام إيجابية عاملة لَا سلبية خاملة، وتكلمت عن فساد الأمم والجماعات، وسببه التعصب للباطل، وسيطرة الأوهام والغلو في الأحكام مبينة قصة الذين اجترءوا على الحق وأصله وأهله من اليهود، والذين غلوا غلوا خرج بهم عن كل معقول ومقبول، وهم النصارى الذين غلوا في دينهم، ورفعوا المسيح إلى مرتبة الألوهية، وزعمهم أنه ابن الله.
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). وكان ختام السورة ببعض أحكام الميراث تذكيرا بأمرين:
أولهما - أن الأسرة هي الخلية الأولى التي يتربى فيها النزع الاجتماعي بكل ضروبه، وكل شعبه وأنه لَا يوجد مجتمع صالح إلا بأسر صالحة، وفساد الأسرة فيه فساد المجتمع.
ثانيهما - أن أحكام الأسرة مستمدة من الله تعالى من غير توسط أحد كبيرا كان أو صغيرا، وأن مخالفة أحكام الله تعالى ضلال ليس بعده ضلال، ولذا أختمت السورة بأن بيان الله تعالى لمنع الضلال، كما سنتلو من الآية الكريمة إن شاء الله تعالى.
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) رويت روايات كثيرة في الاستفتاء الذي وقع من الصحابة، رضي الله عنهم، ويظهر أن السؤال في ميراث الإخوة
والاستفتاء طلب الفتيا، أو الإفتاء، والإفتاء الإجابة السريعة التي تكون جديدة بالنسبة للسائل الطالب لها، وأصل الفتيا من الفتاء والفتى والفتاة الطرى الشباب المقبل على الجديد فيها، وأطلق على العبد فتى، وعلى الأمة فتاة لسرعة استجابتها لحاجة مولاها.
والكلالة كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني وغيره من المعاجم وكتب التفسير والفقه اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة.. وروى أن النبي - ﷺ - سئل
________
(١) متفق عليه، رواه البخاري: المرضى وضوء العائد للمريض (٥٦٧٦) وأطرافه سبعة كلها بلفظ مقارب، ومسلم: الفرائض (١٦١٦) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(٢) رواه أبو داود: الفرائض - من كان له ولد وليس له أخوات (٢٨٨٧)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (١٣٨٨٦).
(٣) جزء من حديث رواه مسلم: المساجد ومواضع الصلاة.
وقد فسر النبي - ﷺ - الكلالة هنالك بأولاد الأم، وانعقد الإجماع على ذلك، وأما الكلالة هنا ففسرت بأولاد الأب الأشقاء أو لأب أي العصبات وانعقد الإجماع على أن الميراث يكون للأشقاء، فإن لم يكن أشقاء فإنه يكون للإخوة لأب، على ذلك انعقد إجماع المسلمين ترجيحا لقوة قرابة الأبوين على الأب الواحد.
وقد بين الله ميراث الكلالة من العصبة بقوله تعالى:
(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ) الأخت هنا هي الأخت الشقيقة أو الأخت لأب، فإنها ترث النصف إذا لم يكن للمتوفى ولد، والولد يشمل الذكر والأنثى، فالأخت الشقيقة أو لأب لا تأخذ النصف إذا كان ثمة ولد ذكر أو أنثى، وكذلك الأخت لأب، وإن كانوا عند عدم وجود الولد الذكر أو الأنثى إخوة ذكورا وإناثا، فإن الميراث يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كانت عدة من الأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن أشقاء فإنهن يأخذن الثلثين، لقوله تعالى:
________
(١) عن أبي بكْرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلاً وَالِدٌ فَوَرَثَتُهُ كَلالَةٌ " فَضَجَّ مِنْهُ عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلى قَوْلِهِ. (عبد بن حميد). جامع الأحاديث (ج ١٢، ص ١٩٢). وفي كنز العمال (ج ١، ص ٣٠٢) من مسند أبي بكر الصديق: إذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة.
وقد يقال إن النص الكريم جاء في حال ما إذا كانتا اثنتين، ولم يبين حال الأكثر من ثنتين، ونقول أن ذلك فهم من دلالة النص أو قياس الأولى في ميراث البنتين، فإنه جاء النص في ميراث البنتين في قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).
فذكر في هذا النص السامي أنهن إن كن فوق اثنتين يأخذن الثلثين، وهن أقرب إلى المتوفى من الأخوات فبالأولى الأخوات إذا كن أكثر من اثنتين لَا يأخذن أكثر من الثلثين؛ لأنهن لسن أقوى قرابة من البنات، فحذف من هنا ما بانَ بالمفهوم من الآيات الأولى، وكذلك حذف من الآية الأولى ما يفهم بدلالة النص من هذه الآية، فإن آية البنات قد نص فيها على ميراث الأكثر من ثلثين ولم ينص فيها على ميراث الثنين؛ وذلك لأنه إذا كان الاخوات اثنتين أخذن الثلثين، فبالأولى البنات لأنهن أقرب من الأخوات نزلت في آية الأخوات ما يفهم من آية البنات، وترك من آية البنات ما يفهم من آية الأخوات وذلك من الإعجاز.
وقد بين النص القرآني حال ميراث الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن لهن ولد ذكرا كان أو أنثى، ولم يبين حال ما إذا كان ثمة ولد، فبقي على الأصل وهو لَا يستحق شيئا في حال ما إذا كان الولد ذكرا؛ لأنه لم يرد أثر عن النبي - ﷺ - يورث الإخوة أو الأخوات عند وجود الولد الذكر، وفوق ذلك فإن
والشيعة لَا يورثون الإخوة والأخوات مطلقا عند وجود الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا، لعموم النص القرآني الذي يثبت أن ميراث الإخوة والأخوات هو بمقتضى الكلالة، والكلالة تقضي ألا يكون هناك والد ولا ولد، فإذا كان هناك ولد كانت الحال كما لو كان هناك والد، والإخوة والأخوات لَا يرثون عند وجود الوالد، فكذلك لَا يرثون مطلقا عند وجود الولد. ولم يصح عندهم حديث ابن مسعود، وإذا فرض وكان رواته ثقات فإنهم لَا يعارضون النص القرآني الذي اشترط ألا يكون ولد، واشترط ثانيا أن يكون ميراث الإخوة والأخوات ميراث كلالة، ولا يرثون إذا كان ثمة ولد.
________
(١) روى الترمذي: الفرائض (٢٠٩٢)، وأبو داود: (٢٨٩١): وابن ماجه: (٢٧٢٠) والدارقطنِيّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ امْرَأَةَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَعْدًا هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأَخَاهُ، فَعَمَدَ أَخُوهُ فَقَبَضَ مَا تَرَكَ سَعْدٌ، وَإِنَّمَا تُنْكَحُ النِّسَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ. فَلَمْ يُجِبْهَا فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنَتَا سَعْدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْعُ لِي أَخَاهُ " فَجَاءَهُ فَقَالَ: «ادْفَعْ إِلَى ابْنَتَيْهِ الثُّلُثَيْنِ، وَإِلَى امْرَأَتِهِ الثُّمُنَ، وَلَكَ مَا بَقِيَ ". وفي رواية الترمذي وغيره: فنزلت آية المواريث. قال: هذا حديث صحيح.
(٢) سبق تخريجه.
الأصل الثاني - أن الأخت الشقيقة إذا استحقت النصف، فإن الأخت لأب، والأخ لأب لَا يستحقان معا شيئا. بل تأخذ النصف فرضا، والباقي ردا، وتحجب أولاد الأب والجمهور على أن الأخت الشقيقة تأخذ النصف فرضا، والأخت لأب تأخذ السدس تكملة للثلثين إذا لم يكن أخ شقيق أو لأب، وإذا كانت أخت شقيقة أو أخوات، وليس معهن أخ شقيق، وكان هناك أخ لأب، فإن الباقي يكون للأخ لأب هو وأخته التي لأب للذكر مثل حظ الأنثيين وإذا كان أخ شقيق يحجب الأخوة والأخوات لأب.
هذا ما اقتضى التفسير أن نذكره، وهناك فروع كثيرة تركناها لكتب الفقه في السنة والشيعة.
(يُبَيِّن اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هذا النص الكريم يبين أن الله سبحانه وتعالى هو الذي تولى شرح بيان أحكام الميراث، وحسب الميراث فضلا أن يكون تأكيده وتوثيقه ببيان الله تعالى.
وقد ذكر النص الكريم لماذا تولى القرآن الكريم بيانه فقال سبحانه " أن تضلوا " أي خشية أن تذهبوا إلى طرق ضالة بأمور ثلاثة - إما بإهمال الميراث جملة بألا تعطوا أحدا من الورثة شيئا، كما حاول أن يفعل الشيوعيون فأضعفوا الأسرة، وأضعفوا النشاط الإنساني، والإقبال الاختياري على العمل، وتركوا ذرية ضعافا لا يجدون ما يقيم أودهم، وإذا كانت الدولة ترعاهم في بعض الأحيان، فعلى نقص بين واضح.
وإما يجعل الحرية للمورث يوصي بماله لمن يشاء من غير قيد، وفي ذلك ضلال أي ضلال، إذ يترك ورثته ضياعا، ويعطي المال غيرهم.
وتجب الإشارة هنا إلى أمر بياني يقتضي تمام التفسير ذكره هو أن الله تعالى يقول (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وهنا لم يبين في السؤال موضع الاستفتاء، ولكن الإجابة بينته فاستبان، ويلاحَظ أنهم سألوا النبي - ﷺ - ولكن الله تولى الإجابة هو، فقال (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) ونجد في مثل هذا المقام يقول الله تعالى: (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامى قُلْ إِصْلاحٌ لهُمْ خَيْرٌ).
ولم يسند الأمر إلى ذاته العلية كما أسنده هنا فما السر؟ السر في ذلك هو تأكيد أن شرع الميراث منسوب للذات العلية، وهو الذي يتولى الشرح، وإذا كان النبي - ﷺ - يتولى الشرح عنه في كثير، فهنا قد تولى هو توثيقا للحكم وتأكيدا له وتربية للمهابة. ويلاحظ أن أحكام الميراث كلها أسندها العلي الحكيم، العليم الخبير لنفسه، فابتدأ آياتها في أول السورة بقوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مثْلُ حَظّ الأنثَيَيْنِ)، وختمها بأن الميراث كله وصية الله تعالى، َ فقال تعَالت كلماته: (... وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤).
* * *
________
(١) سبق تخريجه.
تمهيد
هذه سورة المائدة جاءت بعد سورة النساء، وسميت سورة المائدة لأنها اشتملت في آخرها على طلب الحواريين من عيسى ابن مريم - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم - أن ينزل عليهم ربهم مائدة من السماء، واستجاب عيسى عليه السلام لما طلبوا فطلب من الله تعالى قائلا كما أخبر القرآن الكريم عنه: (... اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
وقد نزلت بعد فتح مكة، وهي سورة مدنية، وإن قال الأكثرون: إن آية: (... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا...) إنها نزلت والنبي - ﷺ - واقف بعرفات، في حجة الوداع؛ لأنها نزلت على أي حال بعد الهجرة.
وهي من آخر القرآن نزولا، وقد اشتملت على أحكام شرعية كثيرة، وابتداؤها يدل على ما فيها، فقد ابتدأت بوجوب الالتزام بالتكليفات التي كلف الله عبيده إياها، وما يعقده العبد مع الناس، ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح، والحرام منها، مع الإشارة إلى تحريم الصيد في الحرم من المحرمين، واحترام الشعائر في الحج.
ثم أشارت من بعد ذلك إلى تمام الشرع الإسلامي، وكماله، وتكلمت السورة الكريمة من بعد ذلك في العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب من الناحية الشخصية، وإباحة ذبائحهم، وحل نسائهم.
(... مَا يُرِيدُ اللَّهُ ليَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ ليُطَهِّرَكمْ وَليتمَّ نعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ...)
وإن الطهارة في الصلاة لها غاية اجتماعية عالية، وهي حسن التعامل، وإقامة العدالة، ولذلك أمر من بعد هذا بإقامة العدالة مع العدو، ومع الولي على سواء، ثم ذَكَّر المؤمنين بأن العدالة هي التي تحمي المجتمعات، وأن الله تعالى حماهم عندما هَمَّ قوم أن يبسطوا أيديهم بإيذائهم، ثم ذكَّرهم ببني إسرائيل أنهم عندما نقضوا الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم بإقامة العدل لعنهم الله تعالى، وجعل قلوبهم قاسية قد غلقت عن الحق، وأغلفت على تحكُّم الهوى، فأخذوا يحرِّفون الكتب ويحذفون منها ما لَا تهوى الأنفس، وكذلك فعل النصارى حتى ادَّعوا الألوهية للمسيح عيسى ابن مريم، فكفروا، واسترسلوا حتى ادَّعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ثم وجه الله تعالى الخطاب من بعد للذين عاصروا النبي - ﷺ - يدعوهم إلى الحق، ويقيم الحجة عليهم بهذه الدعوة القائمة.
وإن الذل يفسد القلوب، وَيُذهب النخوة، وكذلك كان الأمر بالنسبة لليهود، فقد ذكرت السورة الكريمة أنهم بعد أن ضربت عليهم الذلة في مصر أراد موسى - عليه السلام - بأمر ربه أن يجعل منهم قوما ذوي بأس، فأراد أن يقودهم ليدخلوا الأرض المقدسة، ولكنهم آثروا الاستنامة، فأخذوا يتيهون في الأرض أربعين سنة.
وإن النفس البشرية إذا دخلها الحسد فسدت، وصارت العداوة بدل المودة في موضع كان يجب أن تسوده المحبة، وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة خبر ابني آدم إذ قتل أحدهما الآخر؛ لأنه قُبِلَ قربانُه، ولما أخذه الندم بعد فوات وقت العمل
وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدي إلى القتل؛ فلذلك شرعت عقوبة القصاص، كما ذكر النص القرآني في هذه السورة الجامعة.
وإذا كان الحقد البشري في الجماعات هو الذي يؤدي إلى أشد الجرائم فتكًا بها، فقد ذكر سبحانه عقوبات شديدة تناسب الجرائم العنيفة الشديدة، فذكر سبحانه عقوبة الذين يحاربون النظام، وينقضُّون على الشرع ويزعجون الآمنين، ويقطعون الطريق على السابلة (١)، وقد ذكر سبحانه وتعالى - بعد ذكر عقوبة قطع الطريق المغلظة بطبيعتها - ذكر سبحانه أن طلب الحق والجهاد في سبيله، وتثبيت النظام الإسلامي ووضعه في نصابه، هو الوسيلة الكبرى للتقرب إلى الله تعالى.
وذكر من بعد عقوبة الذين يهددون الأمن بقوة قاهرة ظاهرة، وحكم الذين يهددون الأمن في خفية، ويزعجون الناس في مآمنهم، فذكر عقوبة السرقة، وهي قطع اليد.
وبعد بيان هذه العقوبات الزاجرة للجرائم المنبعثة، والتي يسوق إليها الحقد والحسد أخذ يبين سبحانه حال أهل الكتاب من اليهود، وما فسدت به قلوبهم من حقد أثر في قولهم واعتقادهم، وأوجد النفاق في قلوبهم، وجعل أعمالهم إثما مستمرا، وأنهم لم ينفذوا أحكام التوراة في جرائمهم، وأرادوا أن يفروا منها إلى أحكام الإسلام زاعمين أنها تخفف عنهم، وقد بيَّن سبحانه أحكام التوراة. التي نزلت على موسى، ووجوب أن يخضعوا لها، كما يجب أن يخضع أهل الإنجيل لما جاء في الإنجيل، ومنها التبشير بمحمد - ﷺ -، وأشار سبحانه وتعالى إلى أن لكل أمة جعل - سبخانه - شِرعة ومنهاجا مؤقتا، حتى جاءت شريعة محمد - ﷺ - وإنه بعد نزول القرآن لَا حكم إلا له؛ ولذا قال سبحانه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا
________
(١) السابلة: أبناء الطريق المختلفة في الطرقات. الصحاح. سبل.
وإن الحقد الذي سكن قلوب الذين يخالفونكم من أهل الكتاب لَا يسوغ لكم أن تتخذوا منهم نصراء، فإن بعضهم نصراء لبعضهم، وإن الذي يرضى أن يكونوا أولياء عليه يكون منهم، وإن من يفعل ذلك يكون مرتدا عن دينه خاذلا له، ومن يرتد عن دينه لَا يخسر الله تعالى به شيئا، بل سيخلفه في الإسلام قوم يحبهم الله ويحبونه، بعد أن زال فساد المنافقين المرتدين.
وبَيَّنَ سبحانه وتعالى أن الولاية للَّه وحده وأن اليهود يتخذون الإسلام هزوا ولعبا، وأنهم يسارعون في الإثم والعدوان متنقلين في دركاتهما، وأن الذي أفسدهم أنهم لَا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل، وقد أمر الله نبيه في وسط ذلك الغبار الذي يثيرونه أن يبلغ ما أنزل إليه، وقد بَيَّنَ سبحانه بعد ذلك أنه من يخلص لله يدخل الجنة؛ لأنه لَا محالة سيدرك ما جاء به محمد ويؤمن به، ولقد بين سبحانه كفر الذين ألَّهوا المسيح، وقالوا: إن الله - تعالى - ثالث ثلاثة، وبَيَّنَ أنه يجب أن يرجعوا إلى الله تعالى، ولكنهم غلوا في دينهم، فغلا النصارى في شأن المسيح فقدسوه وألَّهوه، وغلا اليهود في الطعن فيه، وهموا بقتله، وادَّعوا أنهم قتلوه.
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك مراتب أعداء المؤمنين، فذكر أنه في المرتبة الأولى في العداوة اليهود والمشركون، والنصارى أقرب مودة من غيرهم، وذكر سبحانه حال النصارى في عهد النبي - ﷺ -، وقد كانوا يسارعون إلى الإيمان إذا سمعوا الحق كما قال تعالى: (وَإِذَا سَمعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفيضُ مِنَ الدَّمْعِ ممَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
بعد هذا البيان المعجز، الذي ابتدأ بذْكر آثار الحسد والحقد في ابني آدم إذ قربا قربانا، ثم ما أدى إليه الحقد من كفر وطغيان، وطمس للحقائق، ومعاندة
وإذا كان الله تعالى أباح الطيبات، فقد حرم الخبائث، وأول الخبائث الخمر والميسر، وإن الخمر أم الخبائث، وأم الجرائم، وإنه ليس على المؤمنين إثم فيما يتناولون من طيبات إنما الإثم فيما يتناولون من خبائث.
وقد بين سبحانه أن من الطيبات ما يحرم في بعض الأوقات، لَا لذاته، بل للمكان الذي يكون فيه، والحال التي يكون فيها، فحرم الصيد في البيت الحرام للمحرمين، وأن المنع مقصور على صيد البر، ولا يشمل صيد البحر؛ وإن ذلك لمكانة البيت، ولمكانة الإحرام، وقد ذكر سبحانه وتعالى مقام البيت ومكانته.
وأن الخبيث من الأشياء ومن الأشخاص لَا يستوي مع الطيب، وندد سبحانه بالذين يحرِّمون بعض الطيبات على أنفسهم لأوهام توهموها، وأفكار جاهلية اعتنقوها.
وأن الذي يقوم بالواجب ويبين الخير ويدعو إليه لَا يكون مسئولا عمن يضل من بعد.
وفى وسط أحكام الحلال والحرام أخذت السورة تبين سببا من أسباب الملكية، وهو الوصية في السفر، وطريق إثباتها.
بعد ذلك أخذ يبين الضلال الذي وقع فيه الذين ادَّعوا المسيحية وهو ألوهية المسيح، مع ذكر معجزاته عليه السلام، ومنها أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه أخرج الموتى بإذن الله تعالى، وأنه نزلت عليه المائدة من السماء.
ومع هذه المعجزات الباهرة كفر به من كفر، وشهد الحواريون بأنه رسول من عند الله، وغالى غيرهم فزعموا أنه وأمه إلهان، ومنهم من زاد غيرهما.
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
* * *
هذه نظرات كليلة في سورة المائدة، ولننظر في ذكر معانيها.
* * *