تفسير سورة محمد

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة محمد من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مدنية وآياتها ٣٨.

تفسير سورة محمّد
وهي مدنيّة
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)
قوله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا: إشارةٌ إلى أهل مكّة الذين أخرجوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ... الآية: إشارةٌ إلى الأنصار الذين آووا، ونصروا، وفي الطائفتين نزلتِ الآيتان قاله ابن عباس ومجاهد «١»، ثم هي بَعْدُ تَعُمّ كُلَّ مَنْ دخل تحت ألفاظها.
وقوله: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أيْ: أَتْلَفَهَا، ولم يجعلْ لها نَفْعاً.
ت: وقد ذكَرْنا في سورة «الصف» أنَّ اسم محمّد صلّى الله عليه وسلّم لم يَتَسَمَّ به أحدٌ قبله إلاَّ قَوْمٌ قليلُونَ، رجاءَ أَنْ تكونَ النُّبُوَّةُ في أبنائهم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، قال ابن القَطَّانِ: وعن خَلِيفَةَ وَالِدِ أَبِي سُوَيْدٍ قال: سألْتُ محمَّدَ بْنَ عَدِيِّ بن أبي رَبِيعَةَ: كيف سَمَّاكَ أبوك محمَّداً؟ قال: سأَلتُ أبي عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فقال لي: كُنْتَ رَابِعَ أربعةٍ من بني غَنْمٍ أنا فيهم، وسفيانُ بْنُ مُجَاشِعِ بْنِ جَرِيرٍ، وأُمَامَةُ بْنُ هِنْدِ بْنِ خِنْدِف. ويزيدُ بنُ رَبِيعَةَ، فخرجْنا في سَفْرَةٍ نُرِيدُ ابنَ جَفْنَةَ مَلِكَ غَسَّانَ، فلما شارفنا الشام، نزلنا على غَدِيرٍ فيه شجراتٌ، وقُرْبَهُ شَخْصٌ نائمٌ، فتحدَّثْنَا فاستمع كلاَمَنَا، فَأَشْرَفَ علَيْنَا، فقال: إنَّ هذه لُغَةٌ، ما هي لغة هذه البلاد، فقلنا: نَحْنُ قومٌ من مُضَرَ، فقال: مِنْ أَيَّ المُضَرِيِّينَ؟ قلنا: من خِنْدِف، قال: إنَّهُ يُبْعَثُ فيكم خاتَمُ النبيِّين، فَسَارِعُوا إلَيْه، وخُذُوا بحظِّكُمْ منه تَرْشُدُوا، قلنا: ما اسمه؟ قال: محمَّد، فَرَجَعْنَا، فَوُلِدَ لِكُلِّ واحدٍ مِنَّا ابْنٌ سَمَّاه محمَّداً، وذكره
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٤) برقم: (٣١٣٣٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٧٧) عن ابن عبّاس، وابن عطية (٥/ ١٠٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٩)، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه.
المدائنيُّ، / انتهى.
وقوله تعالى في المؤمنين: وَأَصْلَحَ بالَهُمْ قال قتادة: معناه: حالهم «١»، وقال ابن عباس: شأنهم «٢».
وتحريرُ التفسيرِ في اللفظة أَنَّها بمعنى الفِكْرِ والموضعِ الذي فيه نظرُ الإنْسَانِ، وهو القلب، فإذا صَلُحَ ذلك منه، فقد صَلُحَ حالُهُ، فكأَنَّ اللفظة مُشِيرَةٌ إلى صلاح عقيدتهم، وغيرُ ذلك من الحال تَابِعٌ، فقولك: خَطَرَ في بالي كذا، وقولك: أصْلَحَ اللَّهُ بَالَكَ: المرادُ بهما واحدٌ ذكره المُبَرِّدُ، والبَالُ: مصدر كالحال والشأن، ولا يُسْتَعْمَلُ منه فِعْلٌ، وكذلك عُرْفُهُ لا يثنى ولا يُجْمَعُ، وقد جاء مجموعا شاذّا في قولهم: «بآلات».
والْباطِلَ هنا: الشيطانُ، وكُلُّ ما يأمر به قاله مجاهد «٣»، والْحَقَّ هنا: الشرع ومحمّد ع.
وقوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ: الإشارة إلى الأتباع المذكورين من الفريقين.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٤ الى ٩]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
وقوله سبحانه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ... الآية: قال أَكْثَرُ العلماءِ: إنَّ هذه الآية وآيةَ السَّيْفِ، وهي قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] مُحْكَمَتَانِ، فقوله هنا: فَضَرْبَ الرِّقابِ بمثابة قوله هنالك:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وصرَّح هنا بذكر المَنِّ والفداء، ولم يُصَرِّحْ به هنالك، فهذه مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ، وهذا هو القولُ القويُّ، وقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ مصدر بمعنى
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٥) برقم: (٣١٣٣٧- ٣١٣٣٨)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٠٩)، وابن كثير (٤/ ١٧٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٩)، وعزاه إلى عبد بن حميد.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٤) برقم: (٣١٣٣٥) بمعناه، (٣١٣٣٦) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (٥/ ١٠٩)، وابن كثير (٤/ ١٧٢).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٥) برقم: (٣١٣٤٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١١٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢٠)، وعزاه إلى عبد بن حميد.
229
الفِعْل، أي: فاضربوا رقابهم وعَيَّنَ مِنْ أنواع القَتْلِ أَشْهَرَهُ، والمراد: اقتلوهم بأَيِّ وجه أَمكَنَ وفي «صحيح مسلم» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلهُ في النَّارِ أبدا» «١».
وفي «صحيح البخاري» عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَا اغْبَرَّتْ/ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» «٢» انتهى.
والإثخان في القوم أنْ يكثر فيهم القتلى والجرحى، ومعنى: فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي:
بمن لم يُقْتَلْ، ولم يترتَّب فيه إلاَّ الأسْرُ، ومَنًّا وفِدَاءً: مصدران منصوبانِ بفعلَيْن مُضْمَرَيْنِ.
وقوله: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها معناه: حتى تذهبَ الحربُ وتزولَ أثقالُهَا، والأوزار: الأثقال ومنه قول عَمْرِو بنِ مَعْدِ يكرِبَ: [من المتقارب]
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورَا «٣»
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحربُ أوزارها، فقال قتادة: حتى يُسَلِّمَ الجميعُ «٤»، وقال حُذَّاقُ أهل النظر: حتى تغلبوهم وتَقْتُلُوهُمْ، وقال مجاهد: حتى ينزلَ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ «٥»، قال ع «٦» : وظاهر اللفظ أَنَّهُ استعارةٌ يُرَادُ بها التزامُ الأمْرِ أبداً وذلك أَنَّ الحربَ بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا وكذا إلى يَوْمِ القيامةِ، وإنَّما تريد أنّك تفعله دائما.
(١) أخرجه مسلم (٣/ ١٥٠٥) كتاب «الإمارة» باب: من قتل كافرا ثم سدد، حديث (١٣٠/ ١٨٩١)، وأحمد (٢/ ٣٩٧)، والبيهقي (٩/ ١٦٥) من حديث أبي هريرة.
(٢) أخرجه البخاري (٦/ ٣٥) كتاب «الجهاد والسير» باب: من اغبرت قدماه في سبيل الله، وقول اللَّهَ عَزَّ وجلَّ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: ١٢٠] (٢٨١١)، والبيهقي (٩/ ١٦٢) كتاب «السير» باب: فضل المشي في سبيل الله.
(٣) البيت للأعشى ميمون بن قيس، وهو في «ديوانه» (٧١)، «مشاهد الإنصاف» (١/ ٢٥١)، «التهذيب» (١٣/ ٢٤٤) (وزر)، «اللسان» (وزر)، و «البحر المحيط» (٨/ ٧٥) منسوبا لعمرو بن معدي كرب، وقال: أنشده ابن عطية لعمرو هذا، وأنشده الزمخشري للأعشى. ينظر: «الكشاف» (٤/ ٣١٧)، و «الدر المصون» (٦/ ١٤٧).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٨) برقم: (٣١٣٥٤- ٣١٣٥٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١١١)، وذكره ابن كثير (٤/ ١٧٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢١)، وعزاه إلى عبد بن حميد.
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٨) برقم: (٣١٣٥٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ١١١)، وابن كثير (٤/ ١٨٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢١)، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد.
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١١١).
230
وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي: بعذابٍ مِنْ عنده، ولكن أراد سبحانه اختبار المؤمنين، وأنْ يَبْلُوَ بعضَ الناس ببعضٍ، وقرأ الجمهور: قاتلوا وقرأ عاصم بخلاف عنه: قتلوا- بفتح القاف والتاء-، وقرأ أبو عمرو وحَفْصٌ: قُتِلُوا- بضم القاف وكسر التاء «١» -، قال قتادة: نزلَتْ هذه الآيةُ فيمَنْ قُتِلَ يوم أُحُدٍ من المؤمنين «٢».
وقوله سبحانه: سَيَهْدِيهِمْ أي: إلى طريقِ الجَنَّةِ.
ت: ذكر الشيخ أبو نُعَيْمٍ الحافظُ أنَّ مَيْسَرَةَ الخادمَ قال: غزونا في بعض الغَزَوَاتِ، فإذا فتًى إلى جانِبي، وإذا هو مُقَنَّعٌ بالحديد، فَحَمَلَ على/ المَيْمَنَةِ، فَثَنَاها، ثُمَّ على المَيْسَرَةِ حتى ثَنَاهَا، وحَمَلَ عَلَى القَلْبِ حتى ثناه، ثم أنشأ يقول: [الرجز]
أَحْسِنْ بِمَوْلاَكَ سَعِيدُ ظَنَّا هَذا الَّذِي كُنْتَ لَهُ تمنى
تَنَحِّ يَا حُورَ الْجِنَانِ عَنَّا مَالَكِ قَاتَلْنَا وَلاَ قُتِلْنَا
لَكِنْ إلى سَيِّدِكُنَّ اشتقنا قَدْ عَلِمَ السِّرَّ وَمَا أَعْلَنَّا
قال: فحمل، فقاتل، فقتل منهم عددا، ثم رجع إلى مَصَافِّهِ، فتكالَبَ عليه العَدُوُّ، فإذا هو- رضي اللَّه تعالى عنه- قد حمل على الناس، وأنشأ يقول: [الرجز]
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو وَرَجَائِي لَمْ يَخِبْ أَلاَّ يَضِيعَ الْيَوْمَ كَدِّي وَالطَّلَبْ
يَا مَنْ مَلاَ تِلْكَ الْقُصُورَ باللُّعَبْ لَوْلاَكَ مَا طَابَتْ وَلا طَابَ الطَّرَبْ
ثم حَمَلَ- رضي اللَّه عنه- فقاتل، فَقَتَلَ منهم عَدَداً، ثم رجع إلى مصافه، فتكالب عليه العدو فحَمَلَ- رضي اللَّه عنه- في المرة الثالثة، وأنشأ يقول: [الرجز]
يَا لُعْبَةَ الخُلْدِ قِفِي ثُمَّ اسمعي مَالَكِ قَاتَلْنَا فَكُفِّي وارجعي
ثُمَّ ارجعي إلَى الْجِنَانِ واسرعي لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي
فقاتل- رضي اللَّه عنه- حتى قُتِلَ، ، انتهى من ابن عَبَّاد شارح «الحكم».
(١) ينظر: «السبعة» (٦٠٠)، و «الحجة» (٦/ ١٩٠)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٣٢٣)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٨٥)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٧)، و «العنوان» (١٧٦)، و «حجة القراءات» (٦٦٦)، و «شرح شعلة» (٥٨٥)، و «إتحاف» (٢/ ٤٧٥).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٩) برقم: (٣١٣٥٨- ٣١٣٥٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢٣)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.
231
وقوله تعالى: عَرَّفَها لَهُمْ قال أبو سعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وقتادة، ومجاهد «١» : معناه:
بَيَّنَهَا لهم، أي: جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«لأَحَدُكُمْ بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّة أَعْرَفُ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ في الدّنْيَا» «٢» قال القرطبيُّ في «التذكرة» : وعلى هذا القولِ أكثرُ المفسِّرين قال: وقيل: إنَّ هذا التعريفَ إلى المنازِلِ هو بالدليلِ، وهو المَلَكُ المُوَكَّلُ بِعَمَلِ العَبْدِ، يمشي بين يَدَيْهِ، ، انتهى، وقالت فرقة: معناه: سَمَّاها لهم، ورَسَمَهَا كُلُّ منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف، وقالت فرقة: معناه/ شَرَّفَهَا لهم ورفعها وعلاَّها، وهذا من الأَعْرَافِ التي هي الجبال، ومنه أعرافُ الخَيْلِ، وقال مُؤَرِّجٌ وغيره:
معناه: طَيَّبَهَا مأخوذٌ من العَرْفِ، ومنه طَعَامٌ مُعَرَّفٌ، أي: مُطَيَّبٌ، وعَرَّفْتُ القِدْرَ: طَيَّبْتُها بالمِلْحِ والتَّابِلِ، قال أبو حيَّان «٣» :«وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ» البال: الفِكْرُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، انتهى.
وقوله سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: دينَ اللَّه يَنْصُرْكُمْ بخلق القوَّةِ لكم وغَيْرِ ذلك من المعاون، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ أي: في مواطن الحَرْبِ، وقيل: على الصراط في القيامة.
وقوله: فَتَعْساً لَهُمْ معناه: عِثَاراً وهَلاَكاً لهم، وهي لفظة تقالُ للعَاثِرِ، إذا أُرِيدَ به الشَّرُّ قال ابن السِّكِّيتِ: التَّعْسُ: أنْ يَخِرَّ على وجهه.
وقوله تعالى: كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يريد: القرآن فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ قال ع «٤» : ولا خلافَ أَنَّ الكافر له حَفَظَةٌ يكتبون سَيِّئاتِهِ، واختلف الناسُ في حَسَنَاتِهِمْ، فقالت فرقة: هي مُلْغَاةٌ يثابُونَ عليها بِنِعَمِ الدنيا فقَطْ، وقالت فرقة: هي مُحْصَاةٌ من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أَنَّهُ قد يُسْلِمُ فينضافُ ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحدُ التأويلَيْنِ في قوله صلّى الله عليه وسلّم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «أَسْلَمْتَ على مَا سَلَفَ لك من خير» «٥».
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٩- ٣١٠) برقم: (٣١٣٦٠، ٣١٣٦٢)، وذكره ابن عطية (٥/ ١١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢٣)، وعزاه إلى عبد بن حميد عن مجاهد، وقتادة.
(٢) أخرجه البخاري (١١/ ٤٠٣) كتاب «الرقاق» باب: القصاص يوم القيامة، وهي الحاقة، لأن فيها الثواب، وحواقّ الأمور، برقم: (٦٥٣٥). [.....]
(٣) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٧٠).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١١٢).
(٥) أخرجه البخاري (٤/ ٤٨٠) كتاب «البيوع» باب: شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (٢٢٢٠)، (٥/ ٢٠٠) كتاب «العتق» باب: عتق المشرك (٢٥٣٨)، (٣/ ٣٥٤) كتاب «الزكاة» باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم (١٤٣٦)، (١٠/ ٤٣٨) كتاب «الأدب» باب: من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم-
232

[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٠ الى ١٢]

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢)
وقوله عز وجل: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ: توقيف لقريش، وتوبيخٌ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يريدُ: ثمودَ وقَوْمَ شُعَيْبٍ وغيرهم، والدمار: الإفساد، وهَدْمُ البناء، وإذهابُ العُمْرَانِ، والضميرُ في قوله: أَمْثالُها يَصِحُّ أَنْ يعودَ على العَاقِبَةِ، ويَصِحُّ أَنْ يعود على الفَعْلَةِ التي يتضمَّنها قوله: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا... الآية، المَوْلَى: الناصِرُ المُوَالِي، قال قتادة: نزلَتْ هذه/ الآيةُ يَوْمَ أُحُدٍ «١»، ومنها انتزع النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم رَدَّهُ على أبي سُفْيَانَ حينَ قال: «قُولُوا: اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مولى لَكُمْ» «٢».
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أي: أكلاً مجرَّداً عن الفِكْرِ والنظر، وهذا كما تقول: الجاهلُ يعيشُ كما تعيشُ البهيمةُ، والمعنى: يعيشُ عَدِيمَ الفَهْمِ والنَّظَرِ في العَوَاقِبِ.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٣ الى ١٥]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
وقوله سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ يعني: مَكَّة الَّتِي أَخْرَجَتْكَ معناه: وَقْتَ الهِجْرَةِ، ويقال: إنَّ هذه الآيةَ نزلت إثر خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكّة،
- (٥٩٩٢)، ومسلم (١/ ٣٨٧- ٣٨٨) - الأبي، كتاب «الإيمان» باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده (١٩٤/ ١٢٣)، وأحمد (٣/ ٤٠٢، ٤٣٤)، والبيهقي (٩/ ١٢٣) كتاب «السير» باب: ترك أخذ المشركين بما أصابوا، وابن حبان (٢/ ٣٧- ٣٨) كتاب «البر والإحسان» باب: ما جاء في الطاعات وثوابها، ذكر إطلاق اسم الخير على الأفعال الصالحة إذا كانت من غير المسلمين (٣٢٩)، والحميدي (١/ ٢٥٣) (٥٥٤)، والطبراني في «الكبير» (٣/ ٢١٠) (٣٠٧٦)، وعبد الرزاق في «المصنف» (١٠/ ٤٥٣- ٤٥٤)، كتاب «الجامع» باب: حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم (١٩٦٨٥).
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ١١٣).
(٢) تقدم.
233
وقيل غَيْرُ هذا «١».
وقوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ... الآية، توقيفٌ وتقريرٌ، وهي معادلةٌ بين هذين الفريقين، واللفظ عامّ لأهل هاتين الصفتين غابر الدّهر، وعَلى بَيِّنَةٍ أي: على يقين وطريق واضحةٍ وعقيدة نَيِّرَةٍ بَيِّنَةٍ.
وقوله سبحانه: مَثَلُ الْجَنَّةِ... الآية، قال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ وغيره مَثَلُ معناه:
صفةٌ كأَنَّهُ قال: صفة الجنة: ما تسمَعُونَ فيها كذا وكذا.
وقوله: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ معناه: غيرُ مُتَغَيِّرٍ قاله ابن عباس وقتادة «٢»، وسواءٌ أنتن أو لم يُنْتِنْ.
وقوله في اللبن: لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ: نَفْيٌ لجميعِ وجوهِ الفَسَادِ فيه.
وقوله: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ جمعتْ طِيبَ الطَّعْمِ وَزَوالَ الآفاتِ من الصُّدَاعِ وغيره، وتصفيةُ العَسَلِ مُذْهِبَةٌ لمومه وَضَرَره.
ت: ورُوِّينَا في «كتاب التِّرْمِذِيِّ» عن حَكِيمِ بن مُعَاوِيَةَ عنِ أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ في الجَنَّةِ بَحْرَ المَاءِ، وَبَحْرَ الْعَسَلِ، وَبَحْرَ اللَّبَنِ، وَبَحْرَ الخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الأَنْهَارُ بَعْدُ» «٣» قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، انتهى.
وقوله: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي: من هذه الأنواع/ لكنها بعيدة الشبه تلك لا عَيْبَ فيها ولا تَعَبَ.
وقوله: وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ معناه: وتنعيمٌ أعطته المغفرةُ وَسَّبَّبَتْهُ، وإلاَّ فالمغفرة إنَّما هي قبل دخول الجنّة.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٣١٣) برقم: (٣١٣٧٢)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢٤)، وعزاه إلى عبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣١٣- ٣١٤) برقم: (٣١٣٧٣- ٣١٣٤٧) بمثله ومعناه، وذكره ابن عطية (٥/ ١١٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢٥)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة بمعناه.
(٣) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٩٩) كتاب «صفة الجنة» باب: ما جاء في صفة أنها الجنة (٢٥٧١)، وأحمد (٥/ ٥)، والبيهقي في «البعث والنشور» (٢٦٤)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢٥)، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن مردويه.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
234
وقوله سبحانه: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ... الآية، قبله محذوفٌ، تقديره: أَسُكَّانُ هذه، أو تقديره: أهؤلاءِ المتقون كَمَنْ هو خالد في النار.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٦ الى ٢١]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠)
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١)
وقوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ يعني بذلك: المنافقين حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً عَلَى جِهَةِ الاسْتِخْفَاف، ومنهم مَنْ يقوله جهالةً ونسيانا، وآنِفاً معناه: مبتدئاً، كأَنَّه قال: ما القولُ الذي ائتنفه الآنَ قَبْلَ انفصالنا عَنْهُ، والمفسِّرون يقولون: آنِفاً معناه: الساعةَ الماضيةَ، وهذا تفسيرٌ بالمعنى.
ت: وقال الثعلبيّ: آنِفاً أي: الآنَ، وأصله الابتداء، قال أبو حَيَّان «١» :
آنِفاً بالمدِّ والقَصْرِ: اسمُ فاعِل، والمُسْتَعْمَلُ من فعله: ائتنفت، ومعنى: آنِفاً مبتدئاً، فهو منصوبٌ على الحال، وأعربه الزَّمْخَشْرِيُّ ظَرْفاً، أي: الساعةَ، قال أبو حَيَّان «٢» : ولا أعلم أحداً من النحاة عَدَّه مِنَ الظُّرُوفِ، انتهى، وقال العراقيّ: آنِفاً أي: الساعة.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً أي: زادهم اللَّه هدى، ويحتمل:
زادهم استهزاءُ المنافقين هُدًى، قال الثعلبيُّ: وقيل: زَادَهُمْ ما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هُدًى قال ع «٣» : الفاعل في وَآتاهُمْ يتصرَّفُ القولُ فيه بحسب التأويلاتِ المذكورةِ، وأقواها أنَّ الفاعِلَ اللَّهُ تعالى، وَآتاهُمْ معناه: أعطَاهُمْ، أي: جعلهم مُتَّقِينَ.
وقوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ يريد: المنافقين، والمعنى: فهل ينتظرون؟ وبَغْتَةً معناه/ فجأة.
وقوله: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي: فينبغي الاستعدادُ والخوفُ منها، والذي جاء من
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٧٩).
(٢) ينظر: المصدر السابق.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١١٥).
235
أشراط الساعة: محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأنّه آخر الأنبياء، وقال ع: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» «١» والأحاديثُ كثيرةٌ في هذا الباب.
وقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ... الآية: إضرابٌ عن أمْرِ هؤلاء المنافقين، وذكر الأَهَمِّ من الأمر، والمعنى: دُمْ على عِلْمِكَ، وهذا هو القانُونُ في كُلَّ مَنْ أُمِرَ بشيْء هو مُتَلَبِّسٌ به، وكُلُّ واحدٍ مِنَ الأُمَّةِ داخلٌ في هذا الخِطابِ، وعن أبي هُرَيْرة قال: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا قَالَ عَبْدُ: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ مُخْلِصاً، إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، حتى تُفْضِيَ إلَى الْعَرْشِ مَا اجتنبت الكَبَائِرُ» «٢»، رواه الترمذي والنسائيّ، وقال
(١) يروى هذا الحديث عن جمع من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وسهل بن سعد.
فأما حديث أنس رضي الله عنه: أخرجه البخاري (١١/ ٣٥٥) كتاب «الرقائق» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«بعثت أنا والساعة كهاتين» (٦٥٠٤)، ومسلم (٤/ ٢٢٦٨)، كتاب «الفتن وأشراط الساعة» باب: قرب الساعة (١٣٣- ١٣٤/ ٢٩٥١)، والترمذي (٤/ ٤٩٦) كتاب «الفتن» باب: ما جاء في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ- يعني السبابة والوسطى-» (٢٢١٤)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٦/ ٢٨١)، وأحمد (٣/ ١٢٣، ١٢٤، ١٣٠، ١٣١، ١٩٣، ٢١٨، ٢٢٢، ٢٣٧، ٢٧٤)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
أما طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أخرجه مسلم (٣/ ٤١٨) - النووي كتاب «الجمعة» باب:
تخفيف الصلاة والخطبة (٤٣/ ٨٦٧)، والنسائي (٣/ ١٨٨) كتاب «الخطبة» باب: كيف الخطبة (١٥٧٨)، وابن ماجه (١/ ١٧) «المقدمة» باب: (٧) (٤٥)، وابن حبان (١/ ١٨٦) المقدمة: باب:
الاعتصام بالسنة (١٠)، وأبو يعلى (٤/ ٨٥) (٣٤٦/ ٢١١١)، وابن خزيمة (٣/ ١٤٣) كتاب «جماع أبواب الآذان والخطبة في الجمعة» باب: صفة خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبدؤه فيها بحمد الله والثناء عليه (١٧٨٥)، والبيهقي (٣/ ٢٠٦)، كتاب «الجمعة» باب: رفع الصوت في الخطبة (٩/ ٢١٣)، كتاب «الجمعة» باب: كيف يستحب أن تكون الجمعة، وأحمد (٣/ ٣١٠- ٣١١).
وفي الباب من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (١١/ ٣٥٥)، كتاب «الرقاق» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«بعثت أنا والساعة كهاتين» (٦٥٠٥)، وابن ماجه (٢/ ١٣٤)، كتاب «الفتن» باب: أشراط الساعة (٤٠٤٠)، وابن حبان (١٥/ ١٣- ١٤)، كتاب «التاريخ» باب: إخباره صلّى الله عليه وسلّم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث (٦٦٤١).
أما من طريق سهل بن سعد الساعدي: أخرجه البخاري (١١/ ٣٥٥) كتاب «الرقاق» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» (٦٥٠٣)، (٩/ ٣٤٨)، كتاب «الطلاق» باب: اللعان (٥٣٠٢)، وأحمد (٤/ ٣٣٠، ٣٣١، ٣٣٥، ٣٣٨، ٣٠٩).
(٢) أخرجه الترمذي (٥/ ٥٧٥)، كتاب «الدعوات» باب: دعاء أم سلمة (٣٥٩٠)، والنسائي (٦/ ٢٠٨) - «الكبرى»، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: أفضل الذكر وأفضل الدعاء (١٠٦٦٩/ ٣)، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (٢/ ٣٩٢) (٢٢٥٥) كلهم قال: «... أبواب السماء... »، وليس أبواب الجنة.
وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١١/ ٣٩٤) (٦٢٧١) نحوه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. [.....]
236
الترمذيُّ واللفظ له: حديث حسن غريب، انتهى من «السلاح».
وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي: لِتَسْتَنَّ أُمَّتُكَ بِسُنَّتِكَ.
ت: هذا لفظ الثعلبيِّ، وهو حَسَنٌ، وقال عِيَاضٌ: قال مَكِّيٌّ: مخاطبةُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هاهنا هي مخاطبةٌ لأُمَّتِهِ، انتهى.
قال ع «١» : وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَليَسْتَغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ» «٢» وبَوَّبَ البخاريُّ- رحمه اللَّه- العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ لقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ.
وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ... الآية: وواجبٌ على كل مؤمن أنْ يستغفر للمؤمنين والمؤمنات فإنَّها صَدَقَةٌ، وقال الطبريُّ وغيره «٣» : مُتَقَلَّبَكُمْ: مُتَصَرَّفَكُمْ في يقظتكم وَمَثْواكُمْ منامكم، وقال ابن عباس: مُتَقَلَّبَكُمْ تَصَرُّفُكُمْ في حياتكم الدنيا وَمَثْواكُمْ: إقامتكم في قبوركم، وفي آخرتكم «٤».
وقوله عز وجل: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ... الآية: هذا ابتداءُ وَصْفِ حالِ المؤمنينَ على جهة المَدْحِ لهم، ووصفِ حالِ المنافقين على جهة الذَّمِّ وذلك أَنَّ المؤمنين كان حرصهم على الدين يبعثهم على تَمَنِّي ظهور الإسلامِ وتمنِّي قتال العدوِّ، وكانوا يأنسونَ بالوحي، ويستوحشون/ إذا أبطأ، وكان المنافقون على العكس من ذلك.
وقوله: مُحْكَمَةٌ معناه: لا يقعُ فيها نسخ، وأَمَّا الإحكام الذي هو الإتقان، فالقرآن كلُّه سواءٌ فيه، والمرض الذي في قلوب المنافقين هو فَسَادُ مُعْتَقَدِهِمْ، ونظر الخائف المولَّه قريبٌ من نظر المَغْشِيِّ عليه، وَخَسَّسَهُمْ هذا الوصف والتشبيه.
وقوله تعالى: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ «أولى» : وزنها أَفْعَلُ، من وَلِيَكَ الشَّيْءُ يَلِيكَ، والمشهورُ من استعمال أولى أَنَّك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي: أَحَقُّ، وقد تَسْتَعْمِلُ العرب «أولى لكِ» فقطْ على جهة الاختصار، لما معها من القول على جهة الزّجر والتّوعّد،
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١١٦).
(٢) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٢١٣) كتاب «التوبة» باب: الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات.
قال الهيثمي: رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه من لم أعرفهم.
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٣١٨).
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٨٣) برقم: (١٩)، وابن عطية (٥/ ١١٦).
237
فتقول: أولى لَكَ يا فُلاَنُ، وهذه الآية من هذا الباب ومنه قوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة: ٣٤] وقالت فرقة: فَأَوْلى رُفِعَ بالابتداء، وطاعَةٌ خبره، قال ع «١» : وهذا هو المشهورُ منِ استعمال «أولى»، وقيل غير هذا، قال أبو حيَّان «٢» : قال صاحب «الصِّحَاحِ» : أولى لَكَ: تهديدٌ ووعيدٌ، قال أبو حَيَّان «٣» : والأكثر على أَنَّه اسم مُشْتَقٌّ من الوَلي، وهو القُرْبُ، وقال الجُرْجَانِيُّ: هو مأخوذ من الوَيْلِ، فَقُلِبَ، فوزنه «أَفْلَعْ»، انتهى.
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ: ناقضوا وعصَوْا، قال البخاريُّ: قال مجاهد: عَزَمَ الْأَمْرُ جَدَّ الأمر «٤». انتهى.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)
وقوله سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ مخاطبةٌ لهؤلاءِ الذينَ في قلوبهم مرضٌ، والمعنى:
فهل عسى أَنْ تفعلُوا إنْ تولَّيتم غيرَ أنْ تُفْسِدُوا في الأرض، وتُقَطِّعُوا أرحامكم، ومعنى إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي: إنْ أعرضتم عن الحَقِّ، وقيل المعنى: إنْ توليتم أمور الناس من الولاية وعلى هذا قيل: إنَّها نزلَتْ في بني هاشِمٍ، وبني أُمَيَّةَ ذكره الثعلبيُّ.
ت: وهو عندي بعيدٌ لقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فتعيَّن التأويل/ الأَوَّل، واللَّه أعلم.
وفي البخاريِّ عن جُبَيْرِ بن مطعم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنّة قاطع» «٥»
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١١٧).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٨١).
(٣) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٨١).
(٤) أخرجه البخاري (٨/ ٤٤٢) كتاب «التفسير» باب: سورة محمّد صلّى الله عليه وسلّم معلقا بصيغة الجزم، ووصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه.
(٥) أخرجه البخاري (١٠/ ٤٢٨) كتاب «الأدب» باب: إثم القاطع (٥٩٨٤)، ومسلم (٤/ ١٩٨١)، كتاب «البر والصلة والآداب» باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (١٨- ١٩/ ٢٥٥٦)، وأبو داود (١/ ٥٣٠)، كتاب «الزكاة» باب: في صلة الرحم (١٦٩٦)، والترمذي (٤/ ٣١٦)، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في صلة الرحم (١٩٠٩)، والبيهقي (٧/ ٢٧)، كتاب «الصدقات» باب: الرجل يقسم صدقته على قرابته وجيرانه، إذا كانوا من أهل السهمان، كما جاء في صلة الرحم وحق الجار، وأحمد (٤/ ٨٠، ٨٣، ٨٤)، وابن حبان (٢/ ١٩٩)، كتاب «البر والإحسان» باب: صلة الرحم وقطعها، ذكر نفي دخول الجنة عن قاطع رحمه (٤٥٤)، وعبد الرزاق في «المصنف» (١١/ ١٦٩- ١٧٠)، كتاب «الجامع» باب: صلة
238
يعني: قاطعَ رحِمٍ، وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ- فَليَصِلْ رَحِمَهُ» «١». اهـ، وفي «صحيح مسلم» عن عائشةَ قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» «٢» وفي رواية: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» «٣» وفي طريق: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَيُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» «٤» وخرَّجه البخاريُّ من طريق أبي هريرةَ «٥» على ما تقدَّم، وخرَّج البخاريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مُقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ، وأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكَ؟ قَالَتْ: بلى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ «٦»، وفي رواية: قال الله «مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ» «٧» انتهى.
وروى أبو داودَ في «سُنَنَهِ» عن عبد الرحمن بن عَوْفٍ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أنا الرحمن، وَهِيَ الرَّحِمُ شَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي، مَنْ وصلها وصلته، ومن قطعها بتّته» «٨». انتهى.
الرحم (٢٠٢٢٩)، والطبراني (٢/ ١١٨، ١٢٠) (١٥٠٩، ١٥١٩)، والحميدي (١/ ٢٥٤) (٥٥٧)، والبخاري في «الأدب المفرد» (٢٧) باب: إثم قاطع الرحم (٦٤)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٧/ ٣٠٨).
(١) روى هذا الحديث أنس بن مالك، وأبو هريرة رضي الله عنهما.
فأما حديث أنس: أخرجه البخاري (٤/ ٣٥٣) كتاب «البيوع» باب: من أحب البسط في الرزق (٢٠٦٧)، ومسلم (٤/ ١٩٨٢) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (٢٠- ٢١/ ٢٥٥٧)، وأبو داود (١/ ٥٢٩) كتاب «الزكاة» باب: في صلة الرحم (١٦٩٣)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٤٣٨)، كتاب «التفسير» باب: سورة فاطر (١١٤٢٩/ ١).
وأما من طريق أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري (١٠/ ٤٢٩)، كتاب «الأدب» باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم (٥٩٨٥).
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٨١)، كتاب «البر والصلة والآداب» باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (١٧/ ٢٥٥٥) عن عائشة.
(٣) تقدم.
(٤) تقدم. [.....]
(٥) تقدم.
(٦) أخرجه البخاري (١٠/ ٤٣٠)، كتاب «الأدب» باب: من وصل وصله الله، برقم: (٥٩٨٧).
(٧) أخرجه البخاري (١٠/ ٤٣٠)، كتاب «الأدب» باب: من وصل وصله الله، (٥٩٩٨).
(٨) أخرجه أبو داود (١/ ٥٣٠)، كتاب «الزكاة» باب: في صلة الرحم (١٦٩٥)، والترمذي (٤/ ٣١٥)، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في قطيعة الرحم (١٩٠٧)، والبيهقي (٧/ ٢٦)، كتاب «الصدقات» باب:
الرجل يقسم صدقته على قرابته وجيرانه إذا كانوا من أهل السهمين لما جاء في صلة الرحم وحق الجار.
239
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إشارة إلى المرضى القلوب المذكورين.
وقوله: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ: استعارةٌ لعدم فهمهم.
وقوله عزَّ منْ قائل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ/ الْقُرْآنَ... الآية: توقيفٌ وتوبيخٌ، وتَدَبُّرُ القرآن زعيم بالتبيين والهدى لمتأمِّله.
ت: قال الهرويُّ: قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ معناه: أفلا يتفكَّرُون فيعتبرون يُقَالُ: تَدَبَّرْتُ الأمر: إذا نظرتَ في أدباره وعواقبه، انتهى.
وقوله تعالى: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها معناه: بل على قلوب أَقفالها، وهو الرَّيْنُ الذي منعهم من الإيمان، ورُوِيَ أَنَّ وَفْدَ اليَمَنِ وَفَدَ على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيهم شابّ، فقرأ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذه الآيةَ، فقال الفتى: عَلَيْهَا أَقْفَالُهَا حتى يَفْتَحَها اللَّهُ تعالى ويُفَرِّجَهَا، قَالَ عُمَرُ:
فَعَظُمَ في عَيْنِي، فما زَالَتْ في نَفْس عُمَرَ- رضي اللَّه عنه- حتى وَلِيَ الخلاَفَة فاستعان بذلك الفتى.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ... الآية: قال قتادة: نزلَتْ في قَوْمٍ من اليهود «١»، وقال ابن عباس وغيره: نَزَلَتْ في منافقين كانوا أَسْلَمُوا، ثم نافَقَتْ قُلُوبُهُم «٢»، والآيةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ دخل في ضمن لفظها غابر الدّهر، وسَوَّلَ معناه: رجَّاهم سؤلهم وأمانِيهم، ونقل أبو الفتح عن بعضهم أَنَّهُ بمعنى دلاَّهم مأخوذٌ من السَّوَلِ، وهو الاسترخاء والتَّدَلِّي، وقال العراقيُّ سَوَّلَ أي: زيّن سوء الفعل.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٨٤)، وابن عطية في «تفسيره» (٥/ ١١٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٣)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٢٢) برقم: (٣١٤١٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٨٤)، وابن عطية (٥/ ١١٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٣).
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا... الآية، قيل: إنَّها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدَّم ذِكْرُهم الآن، ورُوِيَ أَنَّ قوماً من قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ كانوا يَعِدُونَ المنافقين في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والخلافِ علَيْهِ بنَصْرٍ ومؤازرةٍ فذلك قولهم: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وقرأ الجمهور: «أَسْرَارَهُمْ» - بفتح الهمزة-، وقرأ حمزة والكسائيُّ وحفص:
«إسْرَارَهُمْ» - بكسرها «١» -.
وقوله سبحانه: فَكَيْفَ إِذا/ تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَعْنِي: مَلَكَ المَوْتِ وأعوانه، والضمير في يَضْرِبُونَ للملائكة، وفي نحو هذا أحاديثُ تقتضي صفة الحالِ، وما أَسْخَطَ اللَّهَ: هو الكفر، والرِّضْوَانُ: هنا الحَقُّ والشَّرْعُ المُؤَدِّي إلى الرضوان.
وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ... الآية، توبيخٍ للمنافقين وَفَضْحٌ لسرائرهم، والضِّغْنُ: الحقد، وقال البخاريُّ: قال ابن عبّاس: «أضغانهم» حسدهم «٢»، انتهى.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢)
وقوله سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ... الآية، لم يُعَيِّنْهُم سبحانه بالأسماء والتعريف التامّ إبقاءً عليهم وعلى قراباتهم، وإنْ كانوا قد عُرِفُوا بلحن القول، وكانوا في الاشتهار على مراتبَ كابنِ أُبَيٍّ وغيره، والسِّيما: العلامة، وقال ابن عباس والضَّحَّاكُ: إنَّ اللَّه تعالى قد عَرَّفَهُ بهم في سورة براءة بقوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً «٣»
(١) وحجة من أفرد قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ [التوبة: ٧٨] فلما أفرد السر ولم يجمع فكذلك قال: «إسرارهم». وأما الآخرون، فكأنهم جمعوا للاختلاف في ضروب السر، وقد قيل: إنه جمع فأخرج الأسرار بعددهم، كما قال بعدها: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ.
ينظر: «حجة القراءات» (٦٦٩)، و «السبعة» (٦٠١)، و «الحجة» (٦/ ١٩٦)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٣٢٦)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٨٧)، و «شرح الطيبة» (٦/ ١٠)، و «العنوان» (١٧٦)، و «حجة القراءات» (٦٦٩)، و «شرح شعلة» (٥٨٦)، و «إتحاف» (٢/ ٤٧٨).
(٢) أخرجه البخاري (٨/ ٤٤٢)، كتاب «التفسير» باب: سورة محمّد صلّى الله عليه وسلّم معلقا بصيغة الجزم، ووصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٨٥)، والسيوطي (٦/ ٥٤)، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٢٤) برقم: (٣١٤١٦- ٣١٤١٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٢٠).
[التوبة: ٨٤] وفي قوله: «قل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عَدُوًّا» [التوبة: ٨٣] قال ع: وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تامٍّ، ثم أخبر تعالى أَنَّهُ سيعرفهم في لحن القول، أي: في مذهب القول ومنحاه ومَقْصِدهِ، واحتجَّ بهذه الآية مَنْ جعل الحَدَّ في التعريض بالقذف.
- ص-: قال أبو حيان «١» :«ولتعرفنهم» اللام جواب قسم محذوف، انتهى.
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر.
وقوله سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ... الآية، كان الفُضَيْلُ بن عِيَاضٍ إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إنْ بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ... الآية، قالت فرقة: نزلت في بني إسرائيل، وقالت/ فرقة: نَزَلَتْ في قوم من المنافقين، وهذا نحو ما تقدم، وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين في سفرة بدر «٢»، وقالت فرقة: بل هِي عامَّةٌ في كل كافر.
وقوله: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تحقيرٌ لهم.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ رَوِيَ أَنَّ هذه الآية نزلت في بني أَسَدٍ من العرب، وذلك أَنَّهم أسلموا، وقالوا للنبي- صلّى الله عليه وسلّم-:
نحن آثرناك على كُلِّ شيء، وجئناك بأنفسنا وأهلينا، كأَنَّهم يمنُّون بذلك، فنزل فيهم:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «٣» الآية، ونزلت فيهم هذه الآية وظاهر الآية العموم.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ...
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٨٤).
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٧٦)، وابن عطية (٥/ ١٢١).
(٣) أخرجه النسائي في «الكبرى» (٦/ ٤٦٧)، كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا (١١٥١٩/ ١)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١١٣)، وعزاه إلى البزار، وابن مردويه.
الآية، رُوِيَ أَنَّها نزلت بسبب أَنَّ عديَّ بن حاتم قال: يا رسول اللَّه، إنَّ حَاتِماً كَانَتْ لَهُ أَفْعَالُ بِرٍّ فَمَا حَالُهُ؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هُوَ في النَّارِ فَبَكَى عَدِيُّ، وَوَلَّى فَدَعَاهُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ لَهُ: «أَبي وَأَبُوكَ وَأَبُو إبْراهِيمَ خَلِيلِ الرحمن في النَّارِ» ونزلت هذه الآية في ذلك «١»، وظاهر الآية العموم في كُلِّ ما تناوَلته الصفة.
وقوله سبحانه: فَلا تَهِنُوا معناه: لا تَضْعُفُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أي: إلى المسالمة، وقال قتادة: معنى الآية: لا تكونوا أُولَى الطائفتين ضَرَعَتْ للأخرَى «٢» : قال ع «٣» وهذا حَسَنٌ مُلْتئِمٌ مع قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال:
٦١].
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ: في موضع الحال، المعنى: فلا تَهِنُوا وأنتم في هذه الحال، ويحتمل أنْ يكون إخباراً بمغيب أبرزه الوجودُ بعد ذلك، والأعلون: معناه الغالبون والظاهرون من العُلُوِّ.
وقوله: وَاللَّهُ مَعَكُمْ معناه: / بنصره ومَعُونَتِهِ وَيتِرُ معناهُ: يُنْقِصُ ويُذْهِبُ، والمعنى: لن يتركم ثواب أعمالكم.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
وقوله سبحانه: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تحقير لأمر الدنيا.
وقوله: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ معناه: هذا هو المطلوب منكم، لا غيره لا تُسْأَلُون أموالكم، ثم قال سبحانهُ مُنَبِّهاً على خُلق ابن آدم: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا والإحفاء هو أشدُّ السؤال، وهو الذي يستخرج ما عند المسئول كرها.
(١) أخرجه أحمد (٤/ ٢٥٨) بلفظ: قلت: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا، قال:
«إن أباك أراد أمرا فأدركه». [.....]
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٢٦، ٣٢٧) برقم: (٣١٤٢٦، ٣١٤٢٨)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٢٢).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٢٢).
243
ت: وقال الثعلبيُّ: فَيُحْفِكُمْ أي: يجهدكم ويلحف عليكم.
وقوله: تَبْخَلُوا جزماً على جواب الشرط وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي: يخرج اللَّه أضغانكم، وقرأ يعقوب: «وَنُخْرِجْ» بالنون، والأضغان: مُعْتَقَدَاتُ السوء «١»، وهو الذي كان يخاف أنْ يعترِيَ المسلمين، ثم وقف اللَّه تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم بقوله: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ وكرر «هاء» التنبيه تأكيداً.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي: بالثواب وَاللَّهُ الْغَنِيُّ أي:
عن صدقاتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلى ثوابها.
ت: هذا لفظ الثعلبيِّ، قال ع: يقال: بَخِلْتُ عليك بكذا، وبخلت عنك بمعنى أمسكت عنك، وروى التِّرْمِذِيُّ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ»، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. غريبٌ، انتهى «٢».
وقوله سبحانه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ قالت فرقة: هذا الخطاب لجميعِ المسلمين والمشركين والعرب حينئذٍ، والقوم الغير هم فارس، وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنْ هذا وَكَانَ سَلْمَانُ إلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَقَالَ: «قَوْمُ هَذَا
(١) وقرأ بها ابن عبّاس.
ينظر: «مختصر الشواذ»
ص: (١٤٢)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ١٢٣)، و «البحر المحيط» (٨/ ٨٥)، و «الدر المصون» (٦/ ١٥٨).
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٣٠٢) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في السخاء، حديث (١٩٦١)، والعقيلي في «الضعفاء» (٢/ ١١٧)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧/ ٤٢٩) (١٠٨٥٢)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢/ ١٨٠) - بتحقيقنا، كلهم من طريق سعيد بن محمّد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعا.
قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمّد، وقد خولف سعيد بن محمّد في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إنما يروى عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيء مرسل. اهـ.
وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل من حديث يحيى ولا غيره وقال ابن الجوزي: لا يصح، المتهم به سعيد بن محمّد الوراق، قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال البيهقي: تفرد به سعيد بن محمّد وهو ضعيف. -
244
- وقال السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (٢/ ٩١) (قلت) أخرجه الترمذي، وابن حبان في «روضة العقلاء»، والبيهقي في «شعب الإيمان»، والخطيب في كتاب «البخلاء» من طريق عن سعيد الوراق به، وقال ابن حبان: غريب، وقال البيهقي: تفرد به سعيد بن محمّد الوراق وهو ضعيف، والله أعلم.
اهـ. وللحديث شواهد من حديث عائشة، وأنس، وجابر.
حديث عائشة:
أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «اللآلئ» (٢/ ٩٢)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧/ ٤٢٨- ٤٢٩) (١٠٨٥٠)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢/ ١٨١) - بتحقيقنا، من طريق سعيد بن مسلمة، حدثنا يحيى بن سعيد عن محمّد بن إبراهيم التيمي عن عائشة مرفوعا بلفظ: «السخي قريب من الله قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من العاقل البخيل». قال ابن الجوزي: سعيد بن مسلمة، قال يحيى: ليس بشيء، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا فاحش الخطأ، وقال ابن عدي: ليس لهذا الحديث أصل من حديث يحيى بن سعيد ولا غيره، وقال الدارقطني: لهذا الحديث طرق لا يثبت منها شيء بوجه اهـ.
وللحديث طريق آخر عن عائشة:
أخرجه الخطيب في كتاب «البخلاء» كما في «اللآلئ» (٢/ ٩٢)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢/ ١٨١) من طريق خالد بن يحيى القاضي عن غريب بن عبد الواحد القرشي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عائشة مرفوعا.
وقال ابن الجوزي: خالد وغريب مجهولان.
وقال السيوطي: أقره صاحب «الميزان» على أن اسمه غريب، والذي في كتاب «البخلاء» للخطيب:
عنبسة بن عبد الواحد. اهـ.
وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧/ ٤٢٨) (١٠٨٤٧) من طريق تليد بن سليمان، وسعيد بن مسلمة عن يحيى بن سعيد عن محمّد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عائشة مرفوعا.
وقال البيهقي: تليد وسعيد ضعيفان.
وأقره صاحب «اللآلئ» (٢/ ٩٢).
حديث أنس:
أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢/ ١٨٠) - بتحقيقنا، من طريق محمّد بن تميم، حدثنا قبيصة بن محمّد عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا: «لما خلق الله الإيمان قال:
«إلهي، قوني، فقواه بحسن الخلق، ثم خلق الكفر فقال الكفر: إلهي قوني، فقواه بالبخل، ثم خلق الجنة، ثم استوى على العرش، ثم قال: ملائكتي فقالوا: ربنا، لبيك وسعديك قال: السخي قريب من جنتي قريب من ملائكتي بعيد من النار، والبخيل بعيد مني بعيد من ملائكتي قريب من النار»
.
قال ابن الجوزي: المتهم به محمّد بن تميم قال ابن حبان: كان يضع الحديث.
وقال السيوطي في «اللآلئ» (٢/ ٩٢) محمّد بن تميم يضع.
حديث جابر:
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧/ ٤٢٨) (١٠٨٤٨) من طريق سعيد بن مسلمة، عن جعفر بن محمّد عن أبيه، عن جابر مرفوعا.
245
لَوْ كَانَ الدِّينُ في الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ من أهل فارس» «١».
- وقد تقدم ضعف سعيد: وللحديث شاهد أيضا من حديث ابن عبّاس: أخرجه تمام في فوائده كما في «اللآلئ» (٢/ ٩٣)، وفيه محمّد بن زكريا الغلابي.
قال الدارقطني: يضع الحديث.
ينظر: «تنزيه الشريعة» (١/ ١٠٥).
والحديث: ذكره السيوطي في «الجامع الصغير» (٤/ ١٣٨) - فيض، برقم: (٤٨٠٤)، من حديث أبي هريرة، وجابر، وعائشة، ورمز له بالضعف، ووافقه المناوي في «شرحه» وقال المناوي في «الفيض» (٤/ ١٣٨- ١٣٩) :(السخي قريب من الله) أي: من رحمته وثوابه، فليس المراد قرب المسافة، تعالى الله عنه، إذ لا يحل الجهات، ولا ينزل الأماكن، ولا تكتنفه الأقطار، (قريب من الناس) أي: من محبتهم فالمراد: قرب المودة، (قريب من الجنة) لسعيه فيما يدنيه منها، وسلوكه طريقها، فالمراد هنا قرب المسافة، وذلك جائز عليها لأنها مخلوقة، وقربه منها: برفع الحجاب بينه وبينها، وبعده عنها:
كثرة الحجب، فإذا قلّت الحجب بينك وبين الشيء. قلت مسافته، أنشد بعضهم:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت وأنت كئيب إن ذا لعجيب
فقلت وما تغني ديار قريبة إذا لم يكن بين القلوب قريب
والجنة والنار محجوبتان عن الخلق بما حفتا به من المكاره والشهوات، وطريق هتك هذه الحجب مبينة في مثل: «الإحياء»، و «القوت» من كتب القوم، (بعيد من النار والبخيل بعيد من الله) أي: من رحمته، (بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار)، وقال الغزالي: والبخل ثمرة الرغبة في الدنيا، والسخاء ثمرة الزهد والثناء على الثمرة ثناء على المثمر لا محالة، والسخاء: ينشأ من حقيقة التوحيد والتوكل والثقة بوعد الله وضمانه للرزق، وهذه أغصان شجرة التوحيد التي أشار إليها الحديث، والبخل: ينشأ من الشرك وهو الوقوف مع الأسباب والشك في الوعد، قال الطيبي: التعريف في السخي والبخيل للعهد الذهني وهو ما عرف شرعا أن السخي من هو والبخيل من هو، وذلك أن من أدى الزكاة فقد امتثل أمر الله، وعظمه، وأظهر الشفقة على خلقه، وواساهم بماله، فهو قريب من الله وقريب من الناس، فلا تكون منزلته إلا الجنة، ومن لم يكن كذلك فبالعكس ولذلك كان جاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل، كما قال: (ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل) فخولف ليفيد أن الجاهل غير العابد السخي أحب إلى الله من العابد العالم البخيل، فيالها من حسنة غطت على عيبين عظيمين، ويا لها من سيئة حطت حسنتين خطيرتين، على أن الجاهل السخي سريع الانقياد بما يؤمر به من نحو تعلم، وإلى ما ينهى عنه بخلاف العالم البخيل، (تنبيه) قال الراغب: من شرف السخاء والجود، أن الله قرن اسمه بالإيمان، ووصف أهله بالفلاح، والفلاح أجمع لسعادة الدارين، وحق للجود أن يقترن بالإيمان، فلا شيء أخص منه به ولا أشد مجانسة له فمن صفة المؤمن: انشراح الصدر فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً، وهما من صفة الجواد والبخيل لأن الجواد يوصف بسعة الصدر والبخيل بضيقه اهـ.
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٥١٠) كتاب «التفسير» باب: قوله: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (٤٨٩٧)، ومسلم (٤/ ١٩٧٢)، كتاب «فضائل الصحابة» باب: فضل فارس (٢٣٠- ٢٣١/ ٢٥٤٦)، وأحمد (٢/ ٣٠٩).
246
وقوله سبحانه: ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ معناه: في الخلاف والتوَلى والبُخْلِ بالأموال ونحوِ هذا، وحكى الثعلبيُّ قولاً أَنَّ القوم الغير هم الملائكة.
ت: وليس لأحد مع الحديث: إذا صَحَّ نظر، ولولا الحديثُ لاحتمل أن يكون الغير ما يأتي من الخَلَفِ بعد ذهاب السَّلَفِ، على ما ذكر في غير هذا الموضع.
247
Icon