تفسير سورة الأنعام

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
تفسير سورة الأنعام وهي مائة وخمس وستون آية وهي مكية إلا ثلاث آيات ﴿ قل تعالوا ﴾ إلى قوله ﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾.

(تفسير سورة الأنعام
وهي مائة وخمس وستون آية وهي مكية إلا ثلاث آيات قل تعالوا إلى قوله ثم آتينا موسى الكتاب)
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
القراآت:
وَأَنْشَأْنا بغير همز حيث كان: أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ وبابه بالهمز: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم، وقرأ يزيد والشموني وحمزة في الوقف بغير همز الباقون بغير همز مطلقا فَحاقَ بالإمالة حيث كان حمزة.
45
الوقوف:
وَالنُّورَ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار يَعْدِلُونَ هـ أَجَلًا ط تَمْتَرُونَ هـ وَفِي الْأَرْضِ ج وقيل: لا وقف ليصير التقدير وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض وفيه بعد، بل المعنى وهو المستحق للعبودية في أهل السموات وأهل الأرض. تَكْسِبُونَ هـ مُعْرِضِينَ هـ لَمَّا جاءَهُمْ ط للابتداء بالتهديد يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مِدْراراً ص لعطف المتفقين آخَرِينَ هـ سِحْرٌ مُبِينٌ هـ عَلَيْهِ مَلَكٌ ط لا يُنْظَرُونَ هـ يَلْبِسُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ الْمُكَذِّبِينَ هـ.
التفسير:
عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال «نزلت الأنعام جملة واحدة وتنزلت، معها من الملائكة سبعون ألف ملك فملؤا ما بين الأخشبين» فدعا رسول الله ﷺ الكتاب فكتبوها من ليلتهم سوى آيات معدودات.
وعن أنس أن رسول الله ﷺ قال «لقد بعث إليّ بها جبريل مع خمسين ملكا أو خمسين ألف ملك تحفها حتى أقروها في صدري كما يقرّ الماء في الحوض ولقد أعزني الله تعالى وإياكم بها عزا لا يذلنا بعدها أبدا فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه»
ولاشتمال هذه السورة على دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ولنزولها جملة ذهب علماء الكلام إلى أن علم الأصول مع جلالة قدره يجب تعلمه على الفور لا على التراخي بخلاف الأحكام فإنها نزلت كفاء المصالح وبحسب الحوادث والنوازل.
واعلم أن قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ مذكور في أوائل سور خمس واختص كل منها بصفة، لكن أعمها صدر فاتحة الكتاب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ١] فإن العالم كل موجود سوى الله سبحانه فكان سائر السور تفاصيل لهذه الجملة. أثنى الله سبحانه على نفسه بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ والثناء على النفس قبيح في الشاهد ففيه دليل على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في صفاته وأفعاله لا اعتراض لأحد عليه. والتحقيق فيه أن استحقاق المدح بحسب الفضيلة والكمال ولا يوجد في الممكن صفة كمال إلا وهي مشوبة بالنقص والاختلال أدناه الأفول في أفق الإمكان بخلاف واجب الوجود فإنه لا غاية لكماله ولا نهاية لعظمته وجلاله، فلا ينبغي أن يمدح إلا هو، ولا أن يثنى إلا عليه، ولا أن يشكر ويحمد إلا له. ثم الأوصاف الجارية عليه سبحانه إنما تذكر زيادة في المدح لا لأجل التوضيح والكشف.
أساميا لم تزده معرفة... وإنما لذة ذكرناها
وقد تقدم في الأسماء أن معنى الخلق راجع إلى التقدير والتقدير عائد إلى العلم،
46
فالمراد أنه أوجد السموات والأرض على حسب علمه الأزلي. قال بعض العلماء: السماء كالدائرة والأرض كالمركز، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلهذا ذكر السماء قبل الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء. وجمع السموات حقيقة وكذا إفراد الأرض، وقد تجمع الأرض باعتبار الطبقات وسوف يجيء تقرير ذلك في قوله وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: ١٢] والمقصود من هذا الوصف إلزام المشركين، وأن تخصيص حجم الفلك بمقدار معين وتخصيص كل من أجزائه بحيز معين وتخصيص الفلك بالحركة والأرض بالسكون مع اشتراكهما في الطبيعة الجسمية، وتخصيص كل حركة بحد معين من السرعة والبطء وبجهة معينة دلائل ظاهرة على وجود فاعل مختار واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله. وأيضا إن لحركة كل فلك أوّلا لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة فتقتضي المسبوقية بالغير، وعدم الأولية ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال. وإذا ثبت أن لكل حركة أوّلا فاختصاص ابتداء حدوثه بوقت معين يدل على الفاعل المختار وكذا اتصاف بعض الأجسام بالفلكية وبعضها بالعنصرية مع تساوي الكل في تمام الماهية. وأيضا إن خارج العالم الجسماني خلاء لا نهاية له كما ثبت في الكلام، فحصول هذا العالم في حيزه الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن يحتاج إلى مرجح قادر مختار حكيم يفعل ما يشاء كما يشاء. هذا إذا نظرنا في ذوات هذه الأجرام، أما إن اعتبرنا منافعها وكيفية تأثير الأثيريات وهي- الآباء- في العنصريات- وهي الأمهات- لتحصيل المواليد الثلاثة: المعادن والنباتات والحيوانات، ارتقينا من ذلك أيضا إلى وجود صانع قدير وحكيم خبير رتبته أعلى وأجل من رتب الممكنات. أما قوله وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فمعناه أحدث وأنشأ، ولهذا اقتصر على مفعول واحد، ولو كان بمعنى «صير» اقتضى مفعولين. وإنما لم يقل «وخلق» لأنه أراد التضمين أعني إنشاء شيء من شيء كقوله وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [النساء: ١] فالنور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما تولد من الآخر. وقيل: لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار، ولهذا جمع الظلمات إذ لكل حرم ظل والظل ظلمة.
ووحد النور لأن النار واحد وهو منها، والظلمة والنور هاهنا هما الأمران المحسوسان بالبصر، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة والقرينة ذكر السموات والأرض. وعن ابن عباس أن الظلمة ظلمة الشرك والنفاق، والنور نور الإسلام واليقين، وعلى الأوّل فإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية، ثم إنها تقبل التناقص قليلا قليلا وتلك المراتب كثيرة، أو لأنه قصد بالنور الجنس. وعلى الثاني فذلك لأن الحق واحد والباطل أكثر من أن يحصى. وإنما قدمت الظلمة على النور لأن عدم المحدثات سابق
47
على وجودها، والظلمة عدمية عند من يجعلها عدم النور أو شبيهة بالعدم عند من يجعلها هيئة مضادة للنور. وقد ورد في الأخبار أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وقوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ معطوف على قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ والمعنى أنه حقيق بالحمد على ما خلق ثم الذين كفروا يعدلون عن طريق الإنصاف فيكفرون بربهم، أو على خَلَقَ السَّماواتِ معناه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون أي يسوّون به ما لا يقدر على شيء من ذلك. فعلى المعنى الأول يعدلون من العدول، وعلى الثاني هو من العدل. ومعنى «ثم» هاهنا وفي قوله ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ تراخي الرتبة واستبعاد مضموني الجملتين أحدهما عن الآخر. ثم ذكر دليلا آخر على إثبات الصانع وعلى صحة المعاد الجسماني فقال هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي من آدم لأنه مخلوق من الطين، أو خلقكم من النطفة المتولدة من الأغذية المنتهية إلى العناصر، ولا ريب أن خلق الأغذية المتنوعة من العناصر المتشابهة الأجزاء، ثم توليد النطفة المتشابهة الأجزاء من تلك الأغذية المختلفة، ثم تخليق الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل كالقلب والدماغ والكبد والعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها من المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم. ثم إن تلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد. أما قوله ثُمَّ قَضى أَجَلًا فاعلم أن لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: ٢٣] وبمعنى الخبر والإعلام وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الإسراء: ٤] وبمعنى صفة الفعل إذا تم فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: ١٢] ومنه قولك: قضى فلان حاجة فلان. والأنسب هاهنا هو الأول. والأجل في اللغة بمعنى الوقت المضروب لانقضاء الأمد. وأصله من التأخير ومنه الآجل نقيض العاجل. ثم إن صريح الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان. فقال أبو مسلم: الأول آجال الماضين لأنهم لما ماتوا صارت آجالهم معلومة، والثاني آجال الباقين لأنها غير معلومة بعد وإنما هي مسماة عند الله تعالى. وقيل:
الأول أجل الموت، والثاني أجل القيامة لأنه لا آخر له ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى. وقيل: الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأول النوم، والثاني الموت. وقيل: الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد، والثاني ما بقي من عمره. وقال حكماء الإسلام: الأول الأجل الطبيعي الذي يمكن بالنسبة إلى المزاج الأول لكل شخص لو بقي مصونا عن الآفات الخارجية، والثاني الأجل الاخترامي الذي يحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق والقتل واللدغ وغيرها من الأمور المنفصلة. ومعنى مُسَمًّى أي مذكور اسمه في اللوح المحفوظ.
48
ومعنى عِنْدَهُ أي في حكمه وعلمه كما تقول: هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا. وارتفع أَجَلٌ بالابتداء وجاز ذلك مع تنكيره لمكان وصفه فقارب المعرفة.
وإنما لم يقل «وعنده أجل مسمى» تعظيما لشأن هذا الأجل فكأنه قيل: وأي أجل مسمى عنده؟ والمرية والامتراء الشك. ومعنى «ثم» تبعيد الامتراء عن مثل هذه الحجة الباهرة الموجبة للتيقن في أمر المبدأ والمعاد، ثم قرر أنه سبحانه عالم بجميع المعلومات ردّا على من زعم أنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو فقال وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وزعمت المجسمة بهذا وبنحو قوله أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك: ١٧] أنه سبحانه مستقر في السماء قالوا:
ويؤكده وقف بعض القراء على السموات والابتداء بقوله وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ أي يعلم سرائركم الموجودة في الأرض. ولو سلم أن لا وقف فالإجماع حاصل على أنه ليس موجودا في الأرض، ولا يلزم من ترك العلم بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل. ونوقض بأنه تعالى قال في مواضع لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ [البقرة: ٢٨٤] فلو كان هو في السماء لزم أن يكون مالكا لنفسه، ولا يخفى ضعف هذا النقض لأنه مخصوص بالقرينة كقوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: ٢٠] وبأنه إما أن يراد كونه في سماء واحدة وهو ترك الظاهر، أو في جميع السموات وهو يقتضي كونه ذا أجزاء أو حصول المتحيز الواحد في مكانين وكلاهما محال. والحق أنه لا يلزم من استصحاب المكان الافتقار إليه ولا التجسيم والتجزئة وهو دقيق يفهمه من وفق له، وبأنه لو كان موجودا في السموات لكان محدودا متناهيا فيكون قابلا للزيادة والنقصان، فيكون اختصاصه بمقدار معين لمخصص فيكون محدثا. ويرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون في السموات وفوقها إلى ما لا يتناهى لا سيما عند من يقول إن وراء هذا العالم خلاء غير متناه، وبأنه لو كان في السموات فإن لم يقدر عل عالم آخر فوقها لزم تعجيزه، وإن قدر فلو فعل لحصل تحت ذلك العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم، والاعتراض أنه لا يلزم من القدرة الإيجاد، وقال غير المجسمة: المراد وهو الله في تدبير السموات والأرض كما يقال: فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاحه. وعلى هذا يكون فِي السَّماواتِ خبرا بعد خبر، ويوقف على اسم الله ثم يبتدأ بما بعد ذلك ويكون المعنى أنه يعلم في السموات والأرض سرائر الملائكة والإنس والجن، أو المراد وهو المعبود فيهما، أو المعروف بالإلهية أو المتوحد بها، أو هو الذي يقال له الله فيهما لا شريك له في هذا الاسم. والسر من صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف، والجهر من أعمال الجوارح، ولأن الأول مقدم على الثاني طبعا فلا جرم قدم عليه وضعا. والجملة أعني قوله يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ مقررة لما قبلها أو خبر ثالث أو كلام مبتدأ. وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ
49
الكسب أخص من الأعمال السرية والجهرية لأنه الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو اندفاع ضر ولهذا لا يوصف فعل الله تعالى بأنه كسب. وإفراد الأخص بالذكر بعد الأعم للتقرير والتأكيد، أو لكونه أهم حسن لا يلزم منه عطف الشيء على نفسه. والمراد أنه عالم بما يستحقه الإنسان على أفعاله من ثواب أو عقاب.
ثم لما فرغ من دلائل التوحيد والمعاد شرع في النبوات فرتب أحوال الكفار مع الأنبياء في ثلاث مراتب: الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل وذلك قوله وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ «من» الأولى للاستغراق والثانية للتبعيض. والمراد وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا وهم على حالة الإعراض لقلة تدبرهم وفرط غفلتهم. الثانية: كونهم مكذبين وهذه شر مما قبلها لأن الإعراض قد يكون للغفلة لا للتكذيب وإذا كذب فقد أعرض وزاد. قال علماء المعاني: هاهنا حذف كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وهو الحق. قال أنس: هو انشقاق القمر بمكة انفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة. وقيل: هو القرآن الذي تحدّوا به فعجزوا عنه.
وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: شرعه. وقيل: وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره. والأولى الحمل على الكل. المرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين لأن التكذيب إذا انضم معه الاستهزاء كان غاية في الغواية وذلك قوله فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا أي أخبار الشيء الذي كانوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهو القرآن وغيره من المعجزات. وليس المراد نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به كقوله وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: ٨٨] والحكيم إذا توعد فربما قال:
ستعرف نبأ هذا إذا نزل بك ما تحذره. وذلك أن الغرض من الخبر حصول العلم بالمخبر عنه وذلك إنما يتحقق بعد المعاينة. ومعنى الآية سيعلمون بأي شيء استهزؤا وأنه لم يكن موضع استهزاء وذلك عند نزول العقاب بهم في الدنيا كيوم بدر وغيره أو في الآخرة. ثم لما زجرهم عن الإعراض والتكذيب والاستهزاء وأوعدهم على ذلك عاد إلى الموعظة والنصيحة بتذكير أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية. والقرن القوم المقترنون في زمان من الدهر المفترقون بعد ذلك بالموت وذلك الزمان في الأغلب ستون سنة. وقيل: سبعون.
وقيل: ثمانون. والأقرب أنه غير مقدر بزمان لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، ولكنه إذا انقضى الأكثر من أهل كل عصر فقد انقضى القرن. وليس المراد أن يصدّق الكفار محمدا في هذه الأخيار لانهم بصدد التكذيب فسيكذبونه فيها أيضا، وإنما المراد أن ما يختص بالمتقدمين منهم مشهور بين الناس فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا تلك الحكايات ومجرّد سماعها يكفي في الاعتبار. ثم وصف تلك القرون بثلاثة أوصاف: الأول: تمكينهم في الأرض.
مكن له في الأرض جعل له مكانا، ومكنه فيها أثبته، وهما متقاربان ولهذا جمع بينهما في
50
الآية. والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما آتينا عادا وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال وأسباب الدنيا. الثاني: إرسال السماء عليهم مدرارا يعني الغيث أو السحاب أو الخضراء، لأن المطر ينزل من ذلك الصوب والمدرار كثير الدرّ درّ اللين إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير. ومدرارا نعت المطر ويقال أيضا سحاب مدرارا إذا تتابع أمطاره. ومفعال من أبنية المبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث. الثالث وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت أمكنتهم والمراد أنهم أصحاب البساتين والقصور والمنتزهات. فإن قيل: الهلاك غير مختص بهم وإنما يجري ذلك على الأنبياء والمؤمنين أيضا، قلنا: لدفع هذا الإشكال كرر فقال فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فإن الإهلاك بسبب المعاصي والآثام لا يكون إلا بالعذاب والإيلام. ثم نبه بقوله وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ على كمال عزته واستغنائه ونهاية قدرته واستعلائه كقوله إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: ١٦] فالبلاد بلاده والعباد عباده بيده التخريب والتعمير وإليه الإعدام والإيجاد. ثم ان الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف متعددة. منهم من بالغ في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها على وفق هواه ومناه لا على قانون الخير والعدل فمنعه ذلك عن التزام التكاليف وهو المذكور في الآية، وفيه أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باق، وليس من العقل تحمل العقاب الدائم لأجل اللذات الفانية. ومنهم من حملته العصبية والعناد على تكذيب معجزات الأنبياء وجعلها من قبيل السخر الذي لا أصل له وهم الذين عنوا بقوله وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ والمعنى أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر. وهاهنا سؤال وهو أن نزول الكتاب من السماء جملة إن لم يكن من باب المعجزات لم يكن إنكاره منكرا، وإن كان من قبيل الإعجاز فالملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الإيمان بصدق الرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة، وحينئذ يجوز أن يكون نزول ذلك من قبل بعض الجن والشياطين، أو من بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم فلا يكون دليلا على الصدق. وأجيب بأن المقصود من الآية ليس بيان الإعجاز، ولكن المراد أنهم إذا لمسوه بأيديهم يقوى الإدراك البصري بالإدراك اللمسي وبلغ الغاية في القوة والظهور. ثم إن هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا، وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة. قال القاضي: في الآية دليل على وجوب اللطف لأنه بيّن أنه إنما لم ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول فيفهم منه أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة، وزيف بأن المفهوم ليس بحجة، ولو سلم فوقوع اللطف لا يدل على وجوبه. ومن الكفرة من قابل النبوات بإيراد الشبهات والاقتراحات. قال الكلبي: إن مشركي مكة قالوا:
51
يا محمد والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله وذلك قوله وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فأجاب الله تعالى عن مقترحهم بقوله وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ومعنى القضاء الإتمام والإلزام كما مر. وتقرير الجواب أن إنزال الملك على البشر آية باهرة وحينئذ ربما لم يؤمنوا فيجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال، أو لعلهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم. ألا ترى أن رسول الله ﷺ لما رأى جبرائيل على صورته الأصلية غشي عليه؟ وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم ولوط، وكالذين تسوّروا المحراب، وأن جبرائيل تمثل لمريم بشرا سويا؟ وفائدة ثمّ أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أفظع من نفس الشدة. ثم إنهم كانوا يطعنون في نبوة محمد ﷺ من جهة أخرى وهي أنه بشر مثلهم ويقولون: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: ٧] وتقرير الشبهة أن الرسل إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق
أكمل والاشتباه في نبوتهم ورسالتهم أقل، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم اختار ما هو أسرع إفضاء إلى المطلوب، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله وَلَوْ جَعَلْناهُ أي الرسول مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا لأن إنزال الملك آية ظاهرة جارية مجرى الإلجاء وإزالة الاختيار وذلك مناف لغرض التكليف، ولأن الجنس إلى الجنس أميل، ولأن البشر لا يطيق رؤية الملك، ولأن طاعات الملك كثيرة فيحقرون طاعات البشر ويستعظمون إقدامهم على المعاصي فلا يصبرون معهم، ولأن إنزال الملك يقوي الشبهة من وجه آخر وذلك أن أيّ معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة لفعلنا مثل ما فعلت. ثم قال وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلا ومنه لبس الثوب لأنه يفيد الستر.
والمعنى إذا جعلنا الملك في صورة البشر كان فعلنا نظيرا لفعلهم في التلبيس، وإنما كان ذلك لبسا لأن الناس يظنونه ملكا مع أنه ليس بملك، أو يظنونه بشرا مع أنه ليس ببشر وإنما كان فعلهم لبسا لأنهم يخلطون على أنفسهم ويقولون إن البشر لا يصلح للرسالة فلا ينقطع السؤال أبدا ويبقى الأمر في حيز الاشتباه. وعلى هذا التفسير يكون قوله ما يَلْبِسُونَ مفعولا مطلقا. ويجوز أن يراد ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فيكون مفعولا به يعني أن القوم إذا رأوا الملك في صورة الإنسان اشتبه الأمر عليهم، وإذا كنا قد فعلنا ذلك كان اللبس منسوبا إلينا.
ثم إنه سبحانه وتعالى سلى رسول الله ﷺ عما يلقى من قومه بقوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ أي نزل. وقال الفراء: عاد عليهم والتركيب يدور على الإحاطة ومنه
52
الحوق بالضم ما استدار بالكمرة ما كانُوا أي الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أسند الحق إليه حيث أهلكوا لأجل الاستهزاء به. ويحتمل أن يراد بلفظة «ما» العذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وهم يستهزؤن بذلك، ثم أمر رسوله بأن يقول لهم: لا تغتروا بما وجدتم من زخارف الدنيا وسيروا في الأرض لتشاهدوا آثار الأمم السالفة الذين كذبوا رسلهم ونزل بهم ما نزل فإن الأسفار تورث الاعتبار وتفيد الاستبصار.
واعلم أنه سبحانه قال هاهنا ثُمَّ انْظُرُوا وفي موضع آخر فَانْظُروا [آل عمران: ١٣٧] فالفاء لمجرد اعتبار ترتيب النظر على السير. وثم لتباعد ما بين المباح والواجب فإن السير مباح والنظر واجب. وأيضا شتان بين السير الصوري بقدم الأشباح وبين السير المعنوي بقدم الأرواح والله أعلم.
التأويل:
حمد نفسه القديم الأزلي بكلامه القديم الأزلي على أن خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل الظلمات. أي الصفات البهيمية والسبعية في النفوس والنور في القلوب وهو صفاتها الملكية والروحانية، فخص الجعل بالمعاني التي هي من عالم الأمر والخلق بالأعيان لأنها من عالم الصورة، ولهذا لما ذكر صورة آدم قال إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: ٧١] وحيث أراد معناه قال إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: ٣٠] ثم بعد هذا الجعل والخلق مال نفوس الكفار بغلبات الظلمات إلى طاغوت الهوى فجعلوه عديلا لربهم ثُمَّ قَضى أَجَلًا للروح المفارق عن حضرته لأيام فراقه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو أجل الوصال بعد الفراق بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ يا أهل الوصال كما يمتري أهل الفراق وهذا محال وَهُوَ اللَّهُ في سموات القلوب وفي أرض النفوس يعلم سر الخلافة الذي أودع فيكم وَجَهْرَكُمْ الذي يظهر عنكم وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ باستعمال الاستعداد السري والجهري في المأمورات والمنهيات في الخير أو الشر مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ في الآفاق وفي أنفسهم مكناهم في طلب الحق من قهر النفس وأسباب الخيرات والطاعات. وأرسلنا مطر الواردات من سماء القلوب عليهم مدرارا متواليا، وجعلنا أنهار الحكمة تجري من تحت نظرهم فأهلكنا مع هذه المقدمات أرواحهم بسموم ذنوب طلب الدنيا مالها وجاهها وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ من الطلاب الصادقين التائبين المستقيمين لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ليفهموا خطابه ويكون واقفا على الأحوال البشرية فيعالجهم بما يرى فيه صلاح حالهم كما قال وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: ٤] قل سيروا في أرض النفوس بقدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواحل بحار القلوب فتشاهدوا بأنوار الله المودعة فيها عاقبة من هلكوا في بوادي القطيعة إذ ساروا بقدم الطبيعة.
53

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢ الى ٢٤]

قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
القراآت:
إِنِّي أُمِرْتُ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع إِنِّي أَخافُ بفتح الياء:
هما وابن كثير وأبو عمرو. الباقون: بالسكون. مَنْ يُصْرَفْ مبنيا للفاعل: سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: مبنيا للمفعول أَإِنَّكُمْ بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة أينكم بالياء بعد الهمز: ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آينكم بالمد والياء: أبو عمرو ويزيد. وقالون بَرِيءٌ بغير همز حيث كان: يزيد وحمزة في الوقف يحشرهم ثم يقول بياء الغيبة فيهما: يعقوب. الباقون: بالنون ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بتاء التأنيث: حمزة وعلي وحماد والمفضل وسهل ويعقوب الباقون: بالياء فِتْنَتُهُمْ بالرفع: ابن كثير وابن عامر وحفص والمفضل. الباقون: بالنصب وَاللَّهِ رَبِّنا بالنصب على النداء: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: بالجر على البدل أو البيان.
الوقوف:
وَالْأَرْضِ ط قُلْ لِلَّهِ ط الرَّحْمَةَ ط لأن قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف. وقيل: لا وقف ولَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب معنى القسم في كَتَبَ وفيه نظر لأن كَتَبَ وعد ناجز ولَيَجْمَعَنَّكُمْ وعد منتظر. لا رَيْبَ فِيهِ ط بناء على أن الذين مبتدأ فيه معنى الشرط لا يُؤْمِنُونَ هـ وَالنَّهارِ ط الْعَلِيمُ هـ وَلا يُطْعَمُ ط مِنَ
54
الْمُشْرِكِينَ
هـ عَظِيمٍ هـ رَحِمَهُ ط الْمُبِينُ هـ إِلَّا هُوَ ط قَدِيرٌ هـ عِبادِهِ ط الْخَبِيرُ هـ شَهادَةً ط وَمَنْ بَلَغَ ط أُخْرى ط لانتهاء الاستخبار إلى الإخبار. قُلْ لا أَشْهَدُ ج لاتساق الكلام بلا عطف يشركون هـ أَبْناءَهُمُ م لئلا يوهم أن ما بعده وصف لا يُؤْمِنُونَ هـ بِآياتِهِ ط الظَّالِمُونَ هـ يزعمون هـ مُشْرِكِينَ هـ يَفْتَرُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما برهن على إثبات الصانع وتحقيق النبوّات وتقرير المعاد، وانجر الكلام إلى الأمر باعتبار أحوال الغابرين، عاد إلى إثبات هذه المطالب بطريق الإلزام وأخذ الاعتراف، وذلك أن آثار الحدوث وسمات الإمكان لائحة على صفات السماويات والأرضيات حتى بلغ في ظهوره إلى حيث لا يقدر منكر على إنكاره، فكان في السؤال تبكيت وإفحام، وفي الجواب تقرير وإلزام، أي هو لله بلا مراء وشقاق ولن يتم الملك إلا إذا كان قادرا على الإعادة كما هو قادر على الإبداء، ولن تحصل حكمة الإعادة إلا بثواب المطيعين وعقاب العاصين، ولن يحسن إيصال الثواب والعقاب إلا بعد نصب الدلائل وإرسال الرسل فلأجل ذلك قال كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي بنصب الأدلة وإزاحة العلة إيجاب الفضل والكرم. وقيل: هذه الرحمة هي أنه يمهلهم مدّة عمرهم ولا يعاجلهم بالاستئصال، أو فرض على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدّقهم وقبل شريعتهم، أو تلك الرحمة هي أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فإنه لولا هذا التهديد لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط كأنه قيل: لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله تعالى، وأنه مالك الكل فاعلموا أن الله الملك الحكيم لا يهمل أمور عبيده، ولا يجوز في حكمته التسوية بين المطيع والعاصي والعامل والساهي. ومعنى لَيَجْمَعَنَّكُمْ ليضمنكم. وقيل: فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان. وقيل: ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة. قال الأخفش: الَّذِينَ خَسِرُوا بدل من ضمير المخاطبين في لَيَجْمَعَنَّكُمْ. وقال الزجاج: إنه مبتدأ خبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وذلك لتضمنه معنى الشرط فكأنه قيل: ما للمشركين مع وضوح الدلائل الباهرة لا يؤمنون؟ فأجيب الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي في علم الله وسابق قضائه فهم لا يؤمنون في طرف الأبد، فكان امتناعهم الآن عن الإيمان مسببا عن سبق القضاء عليهم بالخسران والخذلان. وقال في الكشاف الَّذِينَ خَسِرُوا نصب أو رفع على الذم بمعنى أريد الذين، أو أنتم الذين. ثم لما بيّن أن له المكان والمكانيات ارتقى في البيان كما هو شأن الترتيب التعليمي إلى ما هو أخفى من ذلك عند الحس وهو الزمان والزمانيات فقال وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
عن ابن عباس أن كفار
55
مكة أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد إنا قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيبا من أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلا وترجع عما أنت عليه فنزل وَلَهُ ما سَكَنَ الآية.
قيل: اشتقاقه من السكون والتقدير كل ما سكن وتحرك كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] أي تقيكم الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر للقرينة. والأصوب أن يقال: اشتقاقه من السكنى كما يقال: فلان سكن ببلد كذا أي حل فيه. والمراد كل ما حل في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا، وذلك أن الدخول تحت الزمان يستلزم التغير والحدوث فلا بد له من محدث يتقدم عليه وعلى نفس الزمان وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الذي يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين فيوصل كل ممكن إلى كمال يليق به ويستعدّ له.
ثم لما كان لزاعم أن يزعم أن الذي يتعالى عن المكان وعن الزمان قد يكون ممكنا في نفسه كالمفارقات التي يثبتها الفلاسفة فلا جرم قال قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ منكر الاتخاذ غير الله وَلِيًّا ولذلك قدم المفعول لكونه أهم، ولو كان حرف الاستفهام داخلا على الفعل توجه الإنكار أوّلا إلى نفس اتخاذ الولي وأنه غير مهم فاطِرِ السَّماواتِ عطف بيان من اللَّهِ أو بدل. وقرىء بالرفع على إضمار هو، وبالنصب على المدح. وعن ابن عباس: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها. وقال ابن الأنباري: أصل الفطر الشق وقد يكون شق إصلاح كقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: ١] أي خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضمه بعض الأشياء إلى بعض. وقد يكون شق إفساد ومنه قوله تعالى هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: ٣] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١] وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. والرزق والإطعام وإن كانا متغايرين وإلا لم يحسن العطف في قوله ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: ٥٧] إلا أنهما متقاربان فحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر. وقرىء وَهُوَ يُطْعِمُ مبنيا للمفعول على أن الضمير لغير الله وقرىء وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ كلاهما للفاعل. والمعنى هو يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ [البقرة: ٢٤٥] أو الثاني بمعنى لا يستطعم. وحاصل الآية أنه يجب شغل القلب كله بالله وقطع العلائق بالكلية عما سواه لأنه الجواد المطلق الذي يهب لا لعوض ولا انتفاع. ثم بيّن أن النبي أيضا داخل في تكليف المعرفة بل هو أسبق قدما في ذلك فقال قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وقيل لي لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وفيه أن الواعظ يجب أن يتعظ أوّلا بما يقوله، فالمريض لا
56
يتصور منه العلاج. ثم ذكر أن النبي ﷺ مع جلالة قدره بصدد المؤاخذة على تقدير المخالفة فقال قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ولا يلزم من هذا جواز المعصية عنه لأن الفرض قد يتعلق بالمستحيل كقولك: إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين.
من قرأ مَنْ يُصْرَفْ مبنيا للفاعل فالضمير فيه عائد إلى الله والمفعول وهو العذاب محذوف لكونه معلوما أو مذكورا قبله. قال في الكشاف: ويجوز أن تنصب يومئذ على أنه مفعول به ل يُصْرَفْ أي من يصرف الله عنه ذلك اليوم أي هو له، ومن قرأ على بناء المفعول فهو مسند إلى ضمير العذاب، ولم يسم الفاعل وهو الله تعالى للعلم به فَقَدْ رَحِمَهُ أي الله الرحمة العظمى كقولك: إن أطعمت زيدا من جوعه فقد أحسنت إليه يعني كمال الإحسان. أو المراد فقد أدخله الجنة فإن من لم يعذب لم يكن له بد من الثواب تفضلا أو استيجابا. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن إيصال الثواب على الطاعة غير واجب وإنما هو ابتداء فضل وإحسان وإلا لم يحسن ذكر الرحمة هاهنا، ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب زيدا فإذا لم يضربه لا يقال أنه رحمه؟ وَذلِكَ أي صرف العذاب وإيصال الثواب على سبيل التفضل أو الاستيجاب الْفَوْزُ الْمُبِينُ لأنه المطلب الأعلى والمقصد الأسنى لكل مكلف. ثم أكد المعنى المذكور وهو أنه لا يجوز للعاقل أن يرغب في اتخاذ ولي غير الله بقوله وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من البليات فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من غنى أو صحة فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عمم الحكم لندرج تحته كل خير والحاصل أن اندفاع جميع المضار بقدرته، وكذا حصول جميع الخيرات لأن كل ما عداه فإنما هو تحت قهره وتسخيره وقد حصل بإيجاده وتكوينه، فإن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، ورأس المضارّ هو الكفر، وسنام الخيرات هو الإيمان، ولن يحصل نفرة الكفر وداعية الإيمان إلا بتوفيقه تعالى. وكل ما يتصور أنه قد نفع أو ضر من الجمادات أو المختارات فإن ذلك ينتهي إلى تخليق الله وجعله ذلك الشيء واسطة لذلك النفع أو الضر، فلا ضارّ ولا نافع بالحقيقة إلا هو سبحانه. ثم زاد لهذا المعنى بيانا فقال وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وهو إشارة إلى كمال القدرة وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وإنه إشارة إلى كمال العلم. فالحكمة أعم من العلم لأنها عمل وعلم، وكونه خبيرا أخص من العلم لأنه العلم ببواطن الأمور وخباياها، فإذا اجتمعت هذه المعاني حصل العلم بكماله وغايته، وقد استدل بظاهر الآية من أثبت الفوقية لله تعالى وعورض بوجوه منها: أنه لو كان فوق العالم فإن كان في الصغر بحيث لا يتميز منه جانب من جانب كالجوهر الفرد مثلا فذلك لا يقوله عاقل، وإن كان ذاهبا في الأقطار كلها كان متجزئا. والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون نورا قائما بذاته غير متناه لا متجزئا ولا متبعضا قاهرا لجميع الأنوار غالبا على جميع الأشياء، فلا غاية لجوده ولا نهاية
57
لوجوده. وأما إنه كيف يتصور نور بلا نهاية مع أنه لا ينقسم ولا يتبعض فمجرد استبعاد فلا يصلح حجة وإدراك شيء من هذا النور محتاج إلى نور وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: ٤٠] ومنها أنه لو كان غير متناه من كل الجهات لزم اختلاطه بالقاذورات.
والجواب أن هذا كلام مخيل فلا يستعمل في البرهان. ومنها أنه لو لم يكن خارج العالم خلاء ولا ملاء لم يمكن حصول ذات الله تعالى فيه، وإن كان خلاء فحصوله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء دون سائر أجزائه محتاج إلى مخصص، فيكون الواجب مفتقرا فيكون محدثا هذا خلف. والجواب أنا ذكرنا أن نور الأنوار لا يتناهى وأنه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى فيسقط هذا الاعتراض. ومنها أنه سبحانه موجود قبل الخلاء والحيز والجهة، فلا يكون بعد حصول هذه الأشياء موجودا فيها وإلا لزم التغير في ذاته. والجواب بالفرق بين المعية وبين الافتقار. ومنها أن العالم كرة فإما أن يكون الله تعالى فوق أقوام بأعيانهم وحينئذ يلزم أن يكون تحت أقدام من يقابلهم وإما أن يكون فوق الكل فيكون فلكا محيطا بسائر الأفلاك وهذا لا يقوله مسلم. والجواب الإلزامي بعد تسليم كون العالم كرة أنا نختار القسم الأول، ولا يلزم التحتية لأن التحت من جميع الجوانب هو ما يلي المركز، والفوق ما يلي السماء. أو القسم الثاني ولا يلزم من إحاطته بجميع الأشياء كونه فلكا كسائر الأفلاك، وأما التحقيق فقد مر. ومنها أن لفظ الفوق في الآية مسبوق بالقهر ويراد به القدرة والمكنة وملحوق بلفظ عباده، وأنه مشعر بالمملوكية والمقدورية. فالمناسب أن يراد بالفوق أيضا فوقية القدرة ولا يلزم التكرار لأن المراد أن القهر والقدرة عام في حق الكل. والجواب أن حمل الوسط على الطرفين أولى من العكس، بل لا نزاع في مفهوم العباد وإنما النزاع في مفهومي القاهرية والفوقية، وليس حمل أحدهما على الآخر أولى من غيره، ومنها أن الآية سيقت ردا على من اتخذ غير الله وليا وهذا إنما يحسن لو كان المراد بالفوقية القدرة لا الجهة. والجواب أن الفوقية بالوجه الذي قررناه في جواب الاعتراض الأول يفيد الاستعلاء المطلق وذلك يوجب أن يكون التعويل عليه في كل الأمور إذ لا وجود ولا ظهور لشيء من الأشياء إلا بفيضه ونوره. وقد يلوح للمتأمل في هذه الأجوبة بعد التنزيه عن التشبيه والتجسيم والحلول والاتحاد أسرار غامضة شريفة إن كان أهلا لها
«وكل ميسر لما خلق له». «١»
قال الكلبي: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة. ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا
(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٩٢ باب ٣- ٥، ٧. مسلم في كتاب القدر حديث ٦- ٨. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٠. أحمد في مسنده (١/ ٦، ٢٩، ١٣٣).
58
من يشهد لك أنك رسول كما تزعم فنزلت قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً الآية.
قال العلماء:
إنها دلت على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله. ثم بيّن أن شهادة الله حاصلة إلا أنها لم تدل على أن تلك الشهادة لإثبات أيّ المطالب فقيل: إنها لإثبات نبوة محمد ﷺ لما ذكرنا من سبب النزول. والمعنى قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة حتى يعترفوا بأن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى، فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهد لي بالنبوة بأن أظهر على وفق دعواي معجزا هو القرآن الذي عجزتم معاشر الفصحاء والبلغاء عن معارضته. وقيل:
إن حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى وذلك أن الوحدانية ليست مما يتوقف صحته على صحة السمع فلا يمتنع إثباتها بالسمع والمعنى قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ في إثبات الوحدانية والبراءة عن الأضداد والأنداد والأمثال والأشباه وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وأبلغكم أن الدين هو التوحيد والشرك مردود. واستدل الجمهور بالآية على أنه يصح إطلاق الشيء على الله تعالى وخالف جهم محتجا بقوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ١٠٢] إذ لا يمكن دعوى التخصيص فيه، فإن التخصيص إنما يجوز في صورة شاذة لا يلتفت إليها لقلة اعتبارها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيها على أن البقية جارية مجرى العدم. فلو كان الباري تعالى شيئا لكان أعظم الأشياء وأشرفها فيكون إخراجه من هذا العموم محض الكذب. وأيضا احتج بأن الشيء يطلق على المعدوم لقوله تعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: ٢٣] والشيء الذي سيفعله غدا معدوم في الحال، فالشيء لا يفيد صفة مدح فلا يطلق عليه. والجواب عن الأول أن إخراج الأكثر من العموم جائز عندنا. ولو سلم فإنه تعالى واحد من الأشياء، والمخرج بهذا الاعتبار أقل عددا من الباقي. وعن الثاني أن لفظ الشيء أعم الألفاظ، ومتى صدق الخاص كالذات، والحقيقة صدق العلم بالضرورة. قال جهم قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها فلا يصح استدلالكم. قلنا قُلْ أَيُّ شَيْءٍ سؤال ولا بد له من جواب.
وهو إما مذكور رأي قل الله أكبر الأشياء شهادة ثم ابتدئ فقيل شهيد أي وهو شهيد بيني وبينكم، أو محذوف والمعنى قل هو الله والله شهيد بيني وبينكم. وحسن الحذف لأنه إذا سأل عن أكبر الأشياء شهادة وذكر بعد ذلك أن الله شهيد علم جزما أن أكبر الأشياء شهادة هو الله أما قوله وَمَنْ بَلَغَ فمعطوف على ضمير المخاطبين والعائد إلى من محذوف أي لأنذركم يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم، وقيل: ومن بلغ أي من احتلم وبلغ أوان التكليف، وعلى هذا فلا حاجة إلى
59
إضمار العائد.
ثم استفهم مبكتا فقال أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى وصف الجمع بصفة الواحدة كما يقال: الرجال فعلت. ثم دل على إيجاب التوحيد بثلاث جمل: أولاها قُلْ لا أَشْهَدُ أي بما تذكرونه من إثبات الشركاء، وثانيتها قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وكلمة «إنما» تفيد الحصر. وثالثتها وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ومن هنا قالت العلماء: المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويضم إليهما التبري عن كل دين سوى دين الإسلام. ولما زعم مشركو مكة أنهم سألوا اليهود والنصارى عن نعت محمد صلى الله عليه وآله فقالوا: ليس عندنا ذكره كذّبهم الله تعالى بقوله الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون رسول الله بنعوته وحلاه الثابتة في الكتابين كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بالنعوت والحلي لا يخفون عليهم ولا يشتبهون بغير أبنائهم. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إما بدل أو بيان من «الذين» الأولى، ويكون المقصود وعيد المعاندين منهم والجاحدين. وإما مبتدأ والكلام جملة مستأنفة شاملة لجميع الجاحدين من أهل الكتاب ومن المشركين. والمراد بخسران النفس الهلاك الدائم الذي يحصل لهم بسبب الكفر. وقيل: ما من أحد إلا وله منزلة في الجنة إلا أن من كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورّث منزلته غيره. ثم بيّن سبب خسرانهم مستفهما على سبيل الإنكار فقال وَمَنْ أَظْلَمُ وذلك أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين: إثبات الباطل وهو الافتراء على الله، وجحد الحق وهو التكذيب بآيات الله، فمن الأول أن المشركين كانوا يقولون للأصنام إنهم شركاء الله والله أمرهم بذلك، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، واليهود والنصارى كانوا يزعمون أن التوراة والإنجيل ناطقان بعدم النسخ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة إلى غير ذلك من مفترياتهم. ومن الثاني قدحهم في القرآن وفي صحة نبوة محمد ﷺ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين وضعوا الشيء في غير موضعه الباطل مكان الحق والحق بإزاء الباطل. ثم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وناصبه محذوف أي ويوم كذا كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في الوعيد. ويحتمل أن يكون مفعول «واذكر» أو معطوفا على محذوف أي لا يفلح الظالمون في الدنيا ويوم الحشر. أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ آلهتكم التي جعلتموهم شركاء الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ هم شركاء فحذف المفعولان. والمقصود من هذا الاستفهام التقريع والتبكيت، ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حيث لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم، ويجوز أن يحال بينهم وبين آلهتهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فتزداد حسرتهم، ويحتمل أن يقال: أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم؟ والغرض من جميع الوجوه أن يتقرر
60
في نفوسهم أن الذي يظنونه مأيوس منه فيصير ذلك تنبيها لهم في الدنيا على فساد هذه الطريقة ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ من قرأ بالرفع على أنه اسم كان فالخبر إِلَّا أَنْ قالُوا والتقدير شيئا إلا أن قالوا ومن قرأ بالنصب مع تذكير يكن فبعكس ما قلنا. والتقدير شيء إلا أن قالوا، وأما مع تأنيث يكن فلوقوع الخبر مؤنثا كقولهم: من كانت أمك. أو بتأويل مقالتهم. قال الواحدي: الاختيار قراءة من قرأ بالنصب لأن «أن» إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر. وكما أن المضمر والمظهر إذا اجتمعا كقولك: إن كنت القائم. كان جعل المضمر اسما أولى من جعله خبرا فكذلك هاهنا. قال الزجاج:
تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به. ومثاله أن ترى إنسانا يحب شخصا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه فيقال له: ما كانت محبتك أي عاقبة محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته. فعلى هذا فتنتهم في شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس. ولكن لا بد من تقدير مضاف وهو العاقبة، ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا، فسمي فتنة لأنه كذب، قال القاضيان: الجبائي وأبو بكر: إن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب لأنهم يعرفون الله تعالى بالاضطرار فيكونون ملجئين إلى ترك القبيح وكيف لا وإنهم يعلمون أن ذلك لا يروج منهم حينئذ ولا يستفيدون بذلك إلا زيادة المقت والغضب من الله تعالى عليهم؟ ولا يجوز أن يقال: إنهم لما عاينوا القيامة اختلت عقولهم واضطربت فلهذا قالوا الكذب، أو أنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا لأنه لا يليق بحكمته تعالى أن يوبخهم ثم يحكى عنهم ما يجري مجرى الاعتذار عند اختلال عقولهم. ولأن تجويز نسيان أمر كان عليه الشخص مدة عمره نوع من السفسطة. وأيضا إنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على نوعين من القبيح فإن عوقبوا على ذلك صارت الآخرة دار التكليف وإن لم يعاقبوا كان إذنا من الله تعالى في ارتكاب الذنوب وكلاهما محال. فإذا الوجه في الآية أن يقال: إن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم وظنونهم أنهم موحدون فأجابوا بقولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ أي في اعتقادنا وظنوننا، وعلى هذا فيكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم كانوا غير مشركين عند أنفسهم فيجيب تأويل قوله تعالى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بأن المراد كذبهم في دار الدنيا كقولهم إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك وإن آلهتهم شفعاؤهم عند الله فلهذا قال وَضَلَّ عَنْهُمْ أي وانظر كيف غاب عنهم في الآخرة ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يفتعلون إلهيته وشفاعته.
61
والحاصل أن الآية سيقت لبيان تضاد حاليهم في الدنيا وفي الآخرة بالكذب وبالصدق ولكن حيث لا ينفعهم الصدق لأن الصدق في الآخرة إنما يعتبر إذا كان مقرونا بالصدق في الدنيا، هذا جملة كلام القاضيين. قال جمهور المفسرين: إن قول القائل المراد ما كنا مشركين في اعتقادنا، وكيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا مخالفة الظاهر وإن الكفار قد يكذبون في القيامة لقوله تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ إلى قوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة: ١٨] ولو سلم أنهم لا يكذبون تعمدا إلا أن الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه حيرة ودهشا، ألا تراهم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [المؤمنون: ١٠٧] وقد أيقنوا بالخلود؟ وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: ٧٧] وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. واختلال عقولهم حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع كمال عقلهم في سائر الأوقات.
التأويل:
ما في الكون سوى الله، لا داع ولا مجيب فلهذا يسأل ويجيب قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ وله ما سكن في ليل البشرية إلى التمتعات الحيوانية، وفي نهار الروحانية إلى المواهب الربانية، وَهُوَ السَّمِيعُ أنين من سكن إليه الْعَلِيمُ بحنين من اشتاق إليه قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ اليوم وَلِيًّا وقد اتخذني الله في الأزل حبيبا فاطِرِ سموات القلوب على محبته وفاطر أرض النفوس على عبوديته وَهُوَ يُطْعِمُ أرواح العارفين طعام المشاهدات ويسقيهم كؤوس المكاشفات وَلا يُطْعَمُ لأنه لا يحتاج إلى قبول الفيض من غيره فالأنوار عنده كالذرّات أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لأني خلصت من حبس الوجود بالكلية وحدي ولهذا يقول الأنبياء نفسي نفسي وأقول: أمتي أمتي إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي برؤية الغير عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو وقت الاستنزال عن مقام التوحيد. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ عذاب الشرك يوم قدّر الشرك لاقوام والتوحيد لاقوام وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ إن دائرة أزليته متصلة بدائرة أبديته، وكل نقطة من الدائرة تصلح للبداية والنهاية، فكل ما صدر منه فلن ينتهي إلا به وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ قهر الكفار بموت القلوب فضلوا في ظلمات الطبيعة، وقهر نفوس المؤمنين بأنوار الشريعة فخرجوا من ظلمات الطبيعة، وقهر قلوب المحبين بلذعات الأشواق إلى يوم التلاق، وقهر أرواح الصديقين بسطوات الجلال في أوقات الوصال. وَهُوَ الْحَكِيمُ فيما يقهره فلا يخلو من حكمة الْخَبِيرُ بمن يستأهل كل صنف من قهره فيقهره به فالله أكبر شهادة لأنه محيط بحقائق الأشياء ولا يحيط به شيء من الأشياء وَمَنْ بَلَغَ القرآن ووقف على حقائقه. ويقول للمشركين أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني العلماء بالقرآن يعرفون الله أو النبي. وفيه إشارة إلى أن الآباء قد تحقق عندهم أنهم مصادر الأبناء، فكذلك أهل المعرفة قد تحقق عندهم أن الله مصدر جميع الأشياء الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بإفساد الاستعداد الفطري ويوم يحشرهم جميعا يعني أهل المعرفة والنكرة أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ من الهوى والدنيا كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في القيامة لأنهم كذبوا
62
في الدنيا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٥ الى ٣٧]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧)
القراآت:
وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ بالنصب فيهما: حمزة وحفص ويعقوب وافق ابن عامر في وَنَكُونَ الباقون: بالرفع ولدار الآخرة بالإضافة: ابن عامر بتأويل الساعة الآخرة، الباقون: بتعريف الدار ورفع الآخرة على الوصفية. تَعْقِلُونَ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص وكذلك في الأعراف يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف من أكذبه إذا وجده كاذبا: علي ونافع والأعشى في اختياره. الباقون: بالتشديد من كذبه إذا نسبه إلى الكذب. أَنْ يُنَزِّلَ بالتخفيف: ابن كثير.
الوقوف:
وَقْراً ط بِها ط الْأَوَّلِينَ هـ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ج لابتداء النفي مع واو العطف وَما يَشْعُرُونَ هـ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هـ مِنْ قَبْلُ ط لَكاذِبُونَ هـ بِمَبْعُوثِينَ هـ رَبِّهِمْ ط بِالْحَقِّ ط وَرَبِّنا ط تَكْفُرُونَ هـ بِلِقاءِ اللَّهِ ط لأن «حتى» للابتداء فيها لا لأن الواو للحال عَلى ظُهُورِهِمْ ط يَزِرُونَ هـ وَلَهْوٌ ط يَتَّقُونَ هـ تَعْقِلُونَ هـ يَجْحَدُونَ هـ نَصْرُنا ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقصود لكلمات الله كذلك.
63
الْمُرْسَلِينَ هـ بِآيَةٍ ط مِنَ الْجاهِلِينَ هـ يَسْمَعُونَ هـ يُرْجَعُونَ هـ مِنْ رَبِّهِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ.
التفسير:
لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بعض أسباب ذلك فقال وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ
قال ابن عباس: حضر عند رسول الله ﷺ أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف واستمعوا إلى حديث رسول الله ﷺ فقالوا للنضر: ما تقول في محمد؟ فقال: ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحريك.
شفتيه يتكلم بشيء وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية.
وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فنزلت الآية. والأكنة جمع كنان وهو كل ما وقى شيئا وستره من الأغطية والقفل، ومنه أكننت وكننت. وأن يفقهوه مفعول لأجله أي كراهة فقههم. والوقر الثقل في الآذان. والتركيب يدور على الثقل ومنه الوقر بالكسر الحمل، والوقار الحلم. وفي الآية دلالة على أن الله تعالى هو الذي يصرف عن الإيمان ويحول بين المرء وبين قلبه. وقالت المعتزلة: لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا كأن فيها حجة الكفار، ولأنه يكون تكليفا للعاجز. ولم يتوجه ذمهم في قولهم وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة: ٨٨] فلا بد من التأويل وذلك من وجوه الأول: قال الجبائي: إن القوم كانوا يسمعون لقراءة الرسول ليتوسلوا بسماع قراءته إلى مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه، فكان الله تعالى يلقي على قلوبهم النوم والغفلة، وعلى آذانهم الثقل. وزيف بأن المراد لو كان ذلك لقيل «أن يسمعوه» بدل «أن يفقهوه». وبأن قوله وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي كل دليل وحجة لا يُؤْمِنُوا بِها لا يناسبه. الثاني: أن المكلف الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم قلبه بعلامة مخصوصة لتستدل الملائكة برؤيتها فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان مع انها في نفسها ليست بمانعة عن الإيمان. الثالث: يقال: إنه جبل على كذا إذا كان مصرا عليه وذلك على جهة التمثيل.
الرابع: لما منعهم الألطاف التي تصلح أن تفعل بالمهتدين وفوّض أمورهم إلى أنفسهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه. الخامس: أن هذا حكاية قولهم فِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥] وعورضت هذه الأدلة بالعلم والداعي، وذلك أن الله تعالى علم من الكافر أنه لا يؤمن وخلاف علمه محال، وأنه سبحانه هو الذي خلق فيهم داعية الكفر ومع وجود تلك الداعية يستحيل الإيمان فهو المعنى بالكنان. وتحقيق المسألة تقدم في أول سورة البقرة في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: ٧] والإفراد في يَسْتَمِعُ والجمع في قُلُوبِهِمْ اعتبار اللفظ من تارة ولمعناه أخرى حَتَّى إِذا جاؤُكَ هي حتى المبتدأة التي
64
يقع بعدها الجمل كقوله: حتى ماء دجلة أشكل.
والجملة هاهنا مجموع الشرط والجزاء أعني قوله إِذا جاؤُكَ يقول: ويُجادِلُونَكَ في موضع الحال. ويجوز أن تكون حتى جارّة أي حتى وقت مجيئهم ويُجادِلُونَكَ حال بحاله ويَقُولُ تفسير له. والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى حالة المجادلة. ثم فسر الجدل بأنهم يقولون إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وأصل السطر هو أن يجعل شيئا ممتدا مؤلفا في صف ومنه سطر الكتاب وسطر من نخيل وجمعه أسطار وجمع الجمع أساطير.
وقال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة كأحاديث وأحدوثة. وقال أبو زيد: لا واحد له كعباديد. قال ابن عباس: معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها. ومن فسر الأساطير بالخرافات والترهات نظر، إلى أن الأغلب هو أن لا يكون فيها فائدة معتبرة كحديث رستم وغيره فذلك معنى وليس بتفسير. ثم إن غرض القوم من هذا القول هو القدح في كون القرآن معجزا كما أن الكتب المشتملة على الأخبار والقصص ليست بمعجزة، والجواب أن هذا مقرون بالتحدي وقد عجزوا عن آخرهم دون تلك فظهر الفرق. ثم أكد طعنهم في القرآن بقوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قال محمد بن الحنفية وابن عباس في رواية والسدي والضحاك: عن القرآن وتدبره والاستماع له وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ والنأي البعد. نأيته ونأيت عنه وناء الرجل إذا بعد لغة في «نأى» وحملوه على القلب لأن المصدر لم يجيء إلا على النأي. وقيل: الضمير للرسول والمراد النهي عن اتباعه والتصديق بنبوّته، جمعوا بين قبيحين: النأي والنهي فضلوا وأضلوا. وعن عطاء ومقاتل عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله ﷺ ويتباعد عما جاء به.
روي أن قريشا اجتمعوا إلى أبي طالب يريدون سوءا بالنبي ﷺ فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر وقر بذاك منك عيونا وعرضت دينا لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا لولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وضعفت هذه الرواية بقوله إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعني بما تقدم ذكره، ولكن النهي عن أذيته حسن لا يوجب الهلاك. ويمكن أن يجاب بأن الذم توجه على الهيئة الاجتماعية الحاصلة من النهي مع النأي كقوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٤٤] ولو سلم فلم لا يجوز أن يرجع الذم إلى القسم الأخير فقط.
65
ثم بيّن أنه كيف يعود الضرر إليهم فقال وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وجواب «لو» محذوف أي لرأيت سوء منقلبهم ونحو ذلك. وجاز حذفه للعلم به ولما في الحذف من تفخيم الشأن وهو ذهاب الوهم كل مذهب كما لو قلت لغلامك: والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب. ذهب فكره إلى أنواع المكاره من الضرب والقتل وغيرهما بخلاف ما لو قلت: لأضربنك. ولمثل هذا من إرادة المبالغة قال وُقِفُوا بلفظ الماضي مع «إذا» الدال على المضي كأن هذا الأمر وقع وتحقق فكان من حقه أن يخبر عنه بلفظ الماضي أي وقفوا على أن يدخلوا النار وهم يعاينونها، أو وقفوا عليها وهي تحتهم، أو هو من قولهم:
وقفت على المسألة الفلانية وقوفا أي عرفوا حقيقتها تعريفا أو المراد أنهم في جوف النار غائصين فيها فتكون «على» بمعنى «في» وجاز لأن النار دركات بعضها فوق بعض فلا يخلو من معنى الاستعلاء يا لَيْتَنا نُرَدُّ هو داخل في حكم التمني. أما قوله وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ فمن قرأ بالنصب فيهما فبإضمار «أن» على جواب التمني والمعنى إن رددنا إلى دار التكليف لم نكذب ونكن من المؤمنين. ومن قرأ بالرفع فيهما فوجهان: أحدهما أن التمني يتم عند قوله نُرَدُّ ثم ابتدءوا وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ أي ونحن لا نكذب ونكون كأنهم ضمنوا أن لا يكذبوا ويكونوا من المؤمنين سواء حصل الرد أو لم يحصل. وشبهه سيبويه بقولهم: دعني ولا أعود بمعنى دعني وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني. وثانيهما أن يكونا معطوفين على نُرَدُّ أو حالين على معنى يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين فيدخل المجموع تحت حكم التمني. وأورد على هذا الوجه أن المتمني لا يكون كاذبا وقد قال تعالى وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وأجيب بأن هذا التمني قد تضمن معنى الوعد فجاز أن يتعلق به التكذيب كقول القائل: ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك فهذا متمن في حكم الواعد فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه كذب لأنه كأنه قال: إن رزقني الله مالا أحسنت إليك. وأما قراءة ابن عامر فمعناه إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين ثم رد الله تعالى عليهم بأنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العذاب الذي شاهدوه وعاينوه فقال بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وما الذي كانوا يخفونه في الدنيا. قال أكثر المفسرين: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] فينطق الله تعالى جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك معنى بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وقال المبرد: بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها، وذلك أن كفرهم ما كان ظاهرا لهم وإنما ظهر لهم يوم القيامة. وقال الزجاج: بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء منهم من أمر البعث والنشور بدليل قوله بعد ذلك وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وهذا قول
66
الحسن. وقيل: إنها في المنافقين كانوا يسرون الكفر فيظهر نفاقهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وقيل: هو في أهل الكتاب يظهر لهم ما كانوا يكتمونه من صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
والأولى حمل الآية على الكل لأنه يوم تبلى السرائر فلا جرم تظهر الفضائح والقبائح وتنكشف الأسرار وتنهتك الأستار اللهم كفر عنا سيآتنا في ذلك اليوم. ثم قال وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ قيل كيف يتصوّر هذا وإنهم قد عرفوا الله تعالى حينئذ بالضرورة وشاهدوا الأحوال والأهوال؟ وأجاب القاضي بأن المراد ولو ردّوا إلى حالة التكليف. وعلى هذا التقدير لا تبقى المعرفة ضرورية فلا يمتنع صدور الكفر عنهم. وضعف بأن المقصود من إيراد هذا الكلام المبالغة في غيهم وتماديهم وإصرارهم على الكفر. وإذا فرض عودهم إلى حالة التكليف زال التعجب كما هو الآن فإذن لا تنحل العقدة إلا بأن يقال: المراد توكيد جريان القضاء السابق فيهم بحيث لو شاهدوا العذاب والعقاب ثم سألوا الرجعة فردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ولم ينجع ذلك فيهم. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا في ضمن التمني أو في كل شيء ولهذا قالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «إن» نافية والضمير عائد إلى حقيقة الحياة المعلومة في الأذهان ولهذا أضيف إلى ضمير جمع المتكلم أي ما لنا حياة إلا هذه الحياة التي هي أقرب إلينا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعدها. وقيل: إن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا البعث ولقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا.
ثم لما قرر إنكارهم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ تمسك بعض المشبهة بهذا على أنه تعالى يحضر تارة ويغيب أخرى، ورد بأن استعلاء شيء على ذات الله تعالى محال بالاتفاق فوجب تأويل الآية بأنه مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه للعتاب، أو المضاف محذوف أي على جزاء ربهم أو وعده أو إخباره بثواب المؤمنين وعقاب الكافرين، أو هو من قولك: وقفته على كذا أي أطلعته عليه. ثم كان لسائل أن يقول: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فأجيب قالَ أَلَيْسَ هذا الذي عاينتموه من حديث البعث والجزاء بِالْحَقِّ الذي حدثتموه؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا وفيه دليل على أن حالهم في الإنكار سيؤل إلى الإقرار، ثم كأنه سئل ماذا قيل لهم بعد الإقرار؟ فأجيب قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم وذلك ليعلم أن الإقرار في غير دار التكليف لا ينفع، وذلك أن جوهر النفس اللطيفة القدسية بعث إلى هذا العالم الجسماني الكثيف وأعطى الآلات الجسمانية لتحصيل المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت. فإذا استعملها الإنسان بناء على اعتقاد عدم المعاد في تحصيل اللذات الفانية والسعادات المنقطعة إلى أن ينقضي أجله فقد ضاع رأس المال
67
ولا ربح وذلك قوله قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي ببلوغ الآخرة وثوابها وعقابها.
عبر عن ذلك بلقاء الله لأنه لا حكم لأحد هناك إلا لله بخلاف الدنيا فإنه قد يظن أن للإنسان تصرفا واختيارا وملكا وملكا. وحمل اللقاء على الرؤية أيضا غير بعيد عند أهل السنة.
و «حتى» غاية ل كَذَّبُوا لا ل خَسِرَ لأن خسرانهم لا غاية له أي لم يزل بهم التكذيب إلى تحسرهم وقت مجيء الساعة بل وقت موتهم، فإن أمارات السعادة والشقاوة تلوح على صفحات أحوال المكلف من وقتئذ وهذا معنى
قوله ﷺ «من مات فقد قامت قيامته»
وسمى يوم القيامة الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل: ما هو إلا ساعة الحساب، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها إلا الله تعالى ولهذا قال بَغْتَةً أي فجأة. وانتصابها على الحال أي باغتة من بغته إذا فاجأه، أو على المصدر العام أي بغتتهم الساعة بغتة أو الخاص لأن البغت نوع من المجيء قالُوا عامل «إذ» يا حَسْرَتَنا مثل يا وَيْلَتى [الفرقان: ٢٨] وقد مر مثله في سورة المائدة أي احضري فهذا وقتك عَلى ما فَرَّطْنا أصله يدل على الترك والهمزة في الإفراط لإزالة ذلك. وقولهم فرطت القوم أي سبقتهم إلى الماء، معناه تركتهم من ورائي حتى حصل لي التقدم. أما الضمير في فِيها فقال ابن عباس: أي في الدنيا وإن لم يجر لها ذكر في الآية بدلالة العقل لأن موضع التقصير هو الدنيا. وقال الحسن: أي في وقت الساعة على معنى قصرنا في شأنها والإيمان بها وإعداد الزاد وتحصيل الأهبة لها.
وقال محمد بن جرير الطبري: يعود إلى الصفقة والمبايعة بدلالة ذكر الخسران. وقيل: إلى ما فيما فرطنا أي يا حسرتنا على الأعمال والطاعات التي تركناها وقصرنا فيها. ثم بين تضاعف خسرانهم بأنهم لم يحصلوا لأنفسهم مواجب الثواب ولكن حصلوا مواجب العقاب فقال وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ هي الآثام والخطايا. وأصل الوزر الثقل ومنه الوزير لأنه يحمل ثقل صاحبه. والوزر الملجأ لأنه يدفع عنه ما أصابه فكأنه حمله. أما كيفية حملهم الأوزار فقال في الكشاف: إنه مجاز عن حصولها لهم كقوله فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي. وقال الزجاج: الثقل قد يذكر في الحال والصفة. ثقل عليّ خطاب فلان أي كرهته، فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم. وقيل: هو كقولك: شخصك نصب عيني أي ذكرك ملازم لي. وقال جمع من المفسرين: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحا فيقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: ٨٥] قالوا ركبانا وإن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحا فيقول: أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم قاله قتادة والسدي.
68
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرون وزرهم.
ثم رغب في الحياة الباقية وزهد في الحياة العاجلة فقال وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ قال ابن عباس: يريد حياة أهل الشرك والنفاق لأن حياة المؤمن تحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعبا ولهوا. وقال آخرون: هو عام في حياة المؤمن والكافر وذلك أن مدة اللهو واللعب وكل شيء يلهيك ويشغلك مما لا أصل له قليلة سريعة الانقضاء والزوال، ومدة هذه الحياة كذلك. وأيضا اللعب واللهو لا بد أن يتناهيا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ولذات الدنيا كذلك، ولهذا رفضها العلماء المحققون والحكماء المتألهون.
وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ قال ابن عباس: هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي. وقال الأصم: التمسك بعمل الآخرة خير. وقال الآخرون: نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا من حيث إنها دائمة باقية مصونة عن شوائب الآفات والمخافات، آمنة من نقص الانقضاء والانقراض لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن اتقى الكفر والمعاصي، وأما الكافر والفاسق فالدنيا بالنسبة إليهما خير كما
قال ﷺ «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» «١».
أَفَلا تَعْقِلُونَ قال الواحدي: من قرأ بتاء الخطاب فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون، ومن قرأ بالياء فمعناه أفلا يعقل الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار؟ وذلك أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوات التي يشارك فيها سائر الحيوانات، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل، فالجمل أكثر أكلا، والديك والعصفور أكثر وقاعا، والذئب والنمر والحيات أقوى غضبا وقهرا، وكل من وقف عمره على هذه المطالب لم يكن له عند العقلاء وزن ولا عند الحكماء والعلماء قدر، وكل من صرف عمره في تحصيل الكمالات الدائمات والسعادات الباقيات كان له في العيون مهابة وفي القلوب قبول، وذلك دليل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وعلو مرتبة الكمالات الروحانية. وهب أن النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة أليس المعلوم أفضل من المظنون وأن خيرات الآخرة معلومة قطعا والوصول إلى خيرات الدنيا في الغد غير معلوم ولا مظنون؟ فكم من سلطان قاهر بكرة صار تحت التراب عشية، وكم من متمول متغلب أصبح أميرا كبيرا ثم أمسى فقيرا حقيرا. وهب أنه وجد بعد هذا اليوم يوما آخر فلن يمكنه الانتفاع بكل ما جمع من الأسباب، ولو انتفع فقلما يخلص من شوائب المكاره
(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث ١. الترمذي في كتاب الزهد باب ١٦. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣. أحمد في مسنده (٢/ ١٩٧، ٣٢٢، ٣٨٩) [.....]
69
والآفات كما
روي أنه ﷺ قال «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: سرور يوم بتمامه»
وهب أن الدست له قد تم، أليس مآل كل ذلك إلى الزوال والانقراض؟ وكفى بذلك نقصا وكدرا كما قال:
كمال الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
ثم سلى رسول الله ﷺ وقال قَدْ نَعْلَمُ والمراد كثرة العلم والمبالغة كما مر في قوله قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [البقرة: ١٤٤] والهاء في إِنَّهُ ضمير الشأن وكسرت بعد العلم لمكان لام الابتداء في لَيَحْزُنُكَ وما ذلك المحزن؟ قال الحسن: هو قولهم ساحر شاعر كاهن مجنون. وقيل: تصريحهم بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه. وقيل: نسبتهم إياه إلى الكذب فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قال أبو علي وثعلب: أكذبه وكذبه بمعنى. وقيل: أكذبت الرجل ألفيته كاذبا، وكذبته إذا قلت له كذبت. وقال الكسائي: أكذبته إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب. وقال الزجاج: معنى كذبته قلت له كذبت، ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد. فمن قرأ بالتخفيف نظر إلى أن القوم كانوا يعتقدون أن محمدا ﷺ ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويج بل تخيل صحة ذلك وأنه نبي إلا أن تخيله باطل. ثم إن ظاهر الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا ﷺ ولكنهم يجحدون بآيات الله، وفي الجمع بين الأمرين وجوه: الأول أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن ونبوته ويؤكده رواية السدي أن الأخنس بن شريق وأبا جهل بن هشام التقيا فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت.
وقال أبو ميسرة: إن رسول الله ﷺ مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا يا محمد إنا والله ما نكذبك إنك عندنا لصادق ولكن نكذب ما جئت به فنزلت.
وقال مقاتل: نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل كان يكذب النبي ﷺ في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فإذن هذه الآية نظير قوله تعالى في قصة موسى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل:
١٤] فانظر. الثاني في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل وما وجدوا منك كذبا وسموك الصادق الأمين فلا يقولون بعد إنك كاذب، ولكن جحدوا
70
صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمدا عرض له نوع خبل ونقصان فلأجل ذلك تخيل أنه رسول لا أنه كذب في نفسه، أو لأنهم زعموا أنه أمين في كل الأمور إلا في هذا الواحد. الثالث أنه لما ظهرت المعجزات على يده ثم إن القوم أصروا على التكذيب فقال له إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني، ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس: إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني ومثله قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:
١٠] فكأنه قيل له: إله عن حزنك لنفسك وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه. الرابع: قيل في التفسير الكبير: أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويكذبون جميع الأنبياء والرسل.
وقوله وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ من إقامة المظهر مقام المضمر تسجيلا عليهم بالظلم في جحودهم، لأن من وضع التكذيب مقام التصديق فقد ظلم. ثم صبر رسوله على أذية القوم فقال وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ وأيّ رسل مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فأنت أولى بهذه السيرة لأنك مبعوث إلى كافة الخلائق فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لمواعيده في نحو قوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] وقوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات: ١٧١] وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ قال الأخفش «من» زائدة والأصح أنها للتبعيض لقلة مجيء زيادة «من» في الإثبات، ولأن الواصل إليه بعض قصص الأنبياء لقوله مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: ٧٨] فالتقدير: ولقد جاءك بعض أنبائهم. وكان يكبر على النبي ﷺ كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزلت وَإِنْ كانَ كَبُرَ أي شق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الإيمان وصحة القرآن فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ فافعل. يعني أنك لا تستطيع ذلك والجواب محذوف وحسن للعلم به. والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان ومنه اشتقاق المنافق. والسلم واحد السلاليم التي يرتقي عليها وأصله من السلامة كأنه يسلمك إلى مصعدك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها وبكل ما اقترحوه رجاء إيمانهم، ويجوز أن يكون ابتغاء النفق أو السلم هو الآية كأنه قيل: لو استطعت ذلك لفعلت كل ذلك ليكون لك آية يؤمنون عندها، ثم قال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى قال أهل السنة: فهو دليل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر. وقالت المعتزلة: المراد مشيئة الإلجاء المنافي للتكليف.
والإلجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه فيضطرون إلى الإيمان.
مثاله: أن يحصل شخص بحضرة السلطان وهناك خدمه وحشمه فيعلم أنه لو هم بقتل ذلك
71
السلطان لقتلوه في الحال فيصير هذا العلم مانعا له من القتل. وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. أما قوله فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من الذين يرومون خلاف مأمور الله. فهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة ولكنه يفيد التغليظ وتأكيد الامتناع عن الجزع والإضراب عن الحزن والأسف على إيمان من لم يشأ الله إيمانه.
ثم بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان فقال إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة. والمراد أنه تعالى هو الذي يقدر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر على ذلك، يعني أن الذين تحرص على حصول إيمانهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون كقوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل: ٨٠] أو المعنى أن هؤلاء الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم. أما وجه تشبيه الكفرة بالموتى فلأن حياة الروح بالعلم ومعرفة الصانع كما أن حياة الجسد بالروح. ثم ذكر شبهة أخرى للطاعنين في نبوّة محمد ﷺ وهو أنه ما جاء بآية قاهرة ومعجزة باهرة فكأنهم طعنوا في كون هذا القرآن معجزا على سبيل العناد أو قياسا على سائر الكتب السماوية، أو طلبوا معجزات تقرب من حد الإلجاء كشق الجبل وفلق البحر، فإن معجزات نبينا ﷺ من تسبيح الحصا وانشقاق القمر وغير ذلك ليست بأقل منها. أو اقترحوا مزيد الآيات بطريق التعنت واللجاج كقولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢] فأجابهم الله تعالى بقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن فاعليته ليست إلا بحسب محض المشيئة عند أهل السنة، أو على وفق المصلحة عند المعتزلة، لا على موجب اقتراحات الناس ومطالباتهم. أو أنه لما ظهرت المعجزة الباهرة والدلالة الكافية من القرآن وغيره لم يبق لهم عذر ولا علة، فلو أجابهم إلى مقترحهم فلعلهم يقترحون اقتراحا ثانيا وثالثا وهلم جر أو ذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة وهذا خلاف المقصود، أو لا يعلمون أنه لو أعطاهم سؤلهم ثم لم يؤمنوا لاستوجبوا الاستئصال، أو لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل العناد لا لأجل الفائدة- وقد علم الله ذلك- لم يعطهم مطلوبهم ولو كان غرضهم طلب الحق ونيله لأعطاهم مطلوبهم على أكمل الوجوه.
التأويل:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ إنكارا واختبارا وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ من شؤم إنكارهم حجبا من غير الإنكار وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً من فساد الاستعداد الفطري. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ بعين الظاهر لا يُؤْمِنُوا بِها من عمى القلوب وإعواز نور الإيمان فيها وَهُمْ يَنْهَوْنَ الطلاب عن الحق. وَإِنْ يُهْلِكُونَ بتنفير الخلق عن الحق إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن التباعد من أهل الحق هو البعد عن الحق وهذا هو الهلاك الحقيقي. وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى
72
النَّارِ
أي أرواح الأشقياء بعد الخلاص عن حبس الطبيعة عرفوا ألم عذاب القطيعة فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى عالم الصورة وإلى الاستعداد الفطري بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ أين يظهر عليهم آثار الشقاوة التي كتبت لهم وكانوا يتكلفون سترها في عالم الصورة بلباس البشرية وَلَوْ رُدُّوا إلى عالم الصورة لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من اتباع الهوى فيفسدون استعدادهم مرة أخرى وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يدعون لأنهم خلقوا لأجل التكذيب لا لأجل التصديق، ولهذا نسوا ما شاهدوا يوم الميثاق من الألطاف والإعطاف، وقولهم «بلى» في جواب خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: ١٧٢] إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ عرفوا ربوبية ربهم ولو عرفوها في الدنيا لم يذوقوا عذاب البعد في العقبى حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً هي الساعة التي يجتذب العبد فيها عن أوصاف البشرية بجذبات المحبة فجأة وهي قيامة أخرى لأن فيها تبدل أرض البشرية غير الأرض وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: ٦٩] فينظر المحب الصادق بالنور الساطع إلى أيام ضاعت منه في طلب غير الحق فيتأسف عليها ويقول: أيها القانص ما أحسنت صيد الظبيات، فاتك السرب وما ازددت غير الحسرات وَهُمْ يَحْمِلُونَ أثقال التعلقات الزائدة على ظهور وجودهم، فإن الوجود على السالك ثقيل مانع عن السلوك فكيف ما زيد عليه؟ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ كلعب الصبيان ولهو أهل العصيان وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ هي السير من البشرية إلى الروحانية والإقبال على الله والإعراض عما سواه خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ غير الله أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الإنسان خلق لهذا الشأن لا لغيره كقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: ٤١] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ من ضيق نطاق البشرية أثر في حبيب الله مقالة الجهلة ولا مبدل لكلمات الله لمقدّراته التي قدّرها ودبرها من الأزل إلى الأبد بكلمة «كن» وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ في عالم الأرواح عند رشاش النور على الهدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين لا يعلمون الحكمة في جعل البعض في مظاهر اللطف والبعض بمظاهر القهر. والنهي في حقه ﷺ هو نهي الامتناع عن الكينونة أي خلق في الأزل ممتنعا عن الجهل بواسطة كلمة لا تكن كما أنه خلق مستعدا للكمال بكلمة «كن» قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً في كل لحظة ولمحة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ دلالة الكائنات على المكوّن والممكنات على الواجب والمصنوعات على الصانع وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف: ١٠٥].
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٨ الى ٥٠]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢)
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)
73
القراآت:
أَرَأَيْتَكُمْ وبابه بتليين الهمزة: أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف أريتكم وبابه بغير همز: عليّ. الباقون: أَرَأَيْتَكُمْ بالتحقيق فَتَحْنا بالتشديد: يزيد وابن عامر بِهِ انْظُرْ بضم الهاء روى الأصفهاني عن ورش.
الوقوف:
أَمْثالُكُمْ ط يُحْشَرُونَ هـ فِي الظُّلُماتِ ط يُضْلِلْهُ ط لابتداء شرط آخر مُسْتَقِيمٍ هـ تَدْعُونَ ج لأن جواب «إن» منتظر محذوف تقديره إن كنتم صادقين فأجيبوا مع اتحاد الكلام صادِقِينَ هـ تُشْرِكُونَ هـ يَتَضَرَّعُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ كُلِّ شَيْءٍ ط مُبْلِسُونَ هـ ظَلَمُوا ط الْعالَمِينَ هـ يَأْتِيكُمْ بِهِ ط يَصْدِفُونَ هـ الظَّالِمُونَ هـ وَمُنْذِرِينَ ج يَحْزَنُونَ هـ يَفْسُقُونَ هـ إِنِّي مَلَكٌ ج للابتداء بالنفي مع اتحاد القائل والمقول إِلَيَّ ط يتفكرون هـ.
التفسير:
لما بين أن إنزال سائر المعجزات لو كان مصلحة لهم لفعل ذلك، أكده بما يؤذن أن آثار فضله وإحسانه ولطفه وامتنانه واصلة إلى جميع الحيوانات، فلو كانت مصلحة المكلفين في إظهار تلك المعجزات القاهرة الملجئة لم يخل بذلك البتة، وفيه أيضا مزيد تقرير لأمر البعث وأنه حاصل لجميع الحيوان فضلا عن الإنسان. فإن الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير. وإنما خص من الدواب ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء أو في الماء، لأن رعاية مصالح الأدون تستلزم رعاية مصالح الأشرف، ويمكن أن
74
يقال: إن الماء أيضا من جملة الأرض لأنهما جميعا ككرة واحدة. قال علماء المعاني: إنما وصف الدابة بكونها في الأرض والطائر بأنه يطير بجناحيه ليعلم أنهما باقيان على عمومهما إذ بينهما بخواص الجنسين، ولولا ذلك لاحتمل أن يقدّر فيهما صفة نحو ترتع أو تصيد فيتخصصا، أو لأوهم أن المراد بهما غير الجنسين المتعارفين لقوله بعده إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ وقد يقول الرجل لعبده طر في حاجتي والمراد الإسراع. قال الحماسي:
طاروا إليه زرافات ووحدانا وقيل: ذكر يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ليخرج عنه الملائكة ذوو الأجنحة، فإن المراد ذكر من هو أدون حالا. وقيل: إن الوصف للتأكيد كقولهم: نعجة أنثى. وكما يقال: مشيت إليه برجلي. وإنما جمع الأمم مع أنه أفرد الدابة والطائر، لأن النكرة المستغرقة في معنى الجمع. قال الفراء: كل صنف من البهائم أمة.
وفي الحديث «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» «١».
ثم ما وجه المماثلة بين البشر والدابة والطائر؟ نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال: يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني كقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤] كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور: ٤١] وعن أبي الدرداء:
أبهمت عقول البهائم إلا عن معرفة الإله وطلب الرزق. ومعرفة الذكر والأنثى. وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين. وقيل: وجه المماثلة كونها جماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضا ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض. وضعف بأن هذا أمر معلوم مشاهد لا فائدة في الإخبار عنه. وقيل: هو أنه دبرها وخلقها وتكفل برزقها وأحصى أحوالها وما يجري عليها من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة. دليله قوله عقيبه ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ. وقيل: هو أنها تحشر يوم القيامة ويوصل إليها حقوقها
وقد جاء في الحديث «يقتص للجماء من القرناء» «٢».
ولكن قوله بعد ذلك ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يصير كالمكرر. وعن سفيان بن عيينة: ما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم. فمنهم من يقدم إقدام الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوّس كفعال الطاووس، ومنهم من يشبه الخنزير لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام عن رجيعه لعب فيه، وكذلك نجد من الآدميين من يسمع
(١) رواه أبو داود في كتاب الأضاحي باب ٢١. الترمذي في كتاب الصيد باب ١٦، ١٧. النسائي في كتاب الصيد باب ١٠. ابن ماجه في كتاب الصيد باب ٢. أحمد في مسنده (٤/ ٨٥، ٨٦)، (٥/ ٥٤).
(٢) رواه أحمد في مسنده (١/ ٧٢).
75
خمسين كلمة من الحكمة لا يحفظ واحدة وإن أخطأت مرة واحدة حفظها، ولم يجلس مجلسا إلا زاد فيه. واعلم يا أخي أنك تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذر والاحتراز.
وذهب أهل التناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة موسومة بالأخلاق الفاضلة فإنها بعد موتها تنتقل إلى أبدان الملوك، وربما قالوا إنها تصل إلى مخالطة عالم الملائكة. وإن كانت شقية جاهلة فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات، وكلما كانت أكثر شقاء فإنها تنتقل إلى بدن حيوان أخس وأكثر تعبا وعناء.
قالوا: وذلك لأن لفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية. ثم زعموا أن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولا من جنسها لقوله وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٢٤] واستشهدوا بقصة النمل وحديث الهدهد ونحو ذلك. وفي تعداد مذاهب أرباب التناسخ طول والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «من» مزيدة للاستغراق أي ما تركنا وما أغفلنا شيئا قط. وقيل: للتبعيض أي ما أهملنا فيه بعض شيء يحتاج المكلف إلى معرفته. والكتاب اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال العالم على التفصيل. وقيل: القرآن لأنه هو الذي تسبق إليه الأذهان فيما بين أهل الإيمان، وأورد عليه أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب والحساب ولا تفاصيل كثير من العلوم ولا حاصل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع. وأجيب بأن لفظ التفريط لا يستعمل إلا فيما يجب أن يفعل، والمحتاج إليه إنما هو الأصول والقوانين لا الفروع التي لا تضبط ولا تتناهى. وما من علم إلا وفي القرآن أصله ومنه شرفه وفضله كقوله كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: ٣١] للطب. وقوله وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ [الأنعام: ٦٢] للحساب. وكقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: ١٩٩] للأخلاق. وأما تفاصيل علم الفروع فذكر العلماء أن السنة والإجماع والقياس كلها مستندة إلى الكتاب كقوله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: ٧] وكقوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: ١١٥] وكقوله:
فَاعْتَبِرُوا [الحشر: ٢] وقيل: إن القرآن واف ببيان جميع الأحكام، لأن الأصل براءة الذمة عن التكاليف كلها وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل، وكل حكم لم يكن مذكورا في القرآن بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام لم يكن ذلك تكليفا أو يكون باقيا على أصل الإباحة والله تعالى أعلم. أما قوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فللعقلاء فيه قولان: الأوّل قول الأشاعرة إنه تعالى يحشر الدواب والطيور لا لأن إيصال العوض إليهن واجب بل مجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية. الثاني قول المعتزلة لن يحشر الطيور والبهائم إلا لإيصال
76
الأعواض إليها، لأن إيصال الآلام إليها من غير سبق جناية لا يحسن إلا للعوض. وفرع القاضي على ذلك فقال: كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله تعالى حشره في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض، والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلا إلا أن السمع ورد بحشر الكل فيقطع بذلك. فرع آخر: كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض له على الله تعالى، وكذا الذي أذن في قتله في كونه مؤذيا أو ألمه بمرض أو سخره للإنسان لأجل حمل الأثقال، وأما إذا ظلمها الناس فالعوض على الظالم، وكذا إذا ظلم بعضها بعضا، ولو ذبح المأكول لغير مأكله. فالعوض على الذابح ولهذا ورد النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكله والمراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل إلى تحصيل تلك المنافع إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح لرضيت به. فرع آخر: مذهب القاضي وأكثر المعتزلة أن العوض منقطع وبعد ذلك تصير ترابا وحينئذقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠] وقال أبو القاسم البلخي: يجب دوام العوض لأنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة، وإماتتها توجب الألم، وذلك الألم يوجب عوضا آخر وهلم جرا إلى ما لانهاية له. وأجيب بالمنع من أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا بالإيلام. فرع آخر: البهيمة إذا استحقت عوضا على بهيمة أخرى: فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضا على الله تعالى فإنه تعالى يوصل ذلك العوض إلى المظلوم وإلا فإنه تعالى يتكفل بذلك العوض، وهذا القدر يكفي في أحكام الأعواض بحسب المقام وهو سبحانه أعلم. ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما ينادي على عظمته ويشهد لربوبيته وينبه على رحمته الكاملة وعنايته الشاملة قال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ لا يسمعون كلام الله البتة وَبُكْمٌ لا ينطقون بالحق خابطون فِي الظُّلُماتِ ظلمة الكفر وظلمة الشكوك وظلمة الحيرة والضلالة. ثم بين أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان كلها بمشيئته وإرادته وتسخيره وتدبيره فقال مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ والجبائي أوّل الآية بأن المراد أنهم كذلك في الآخرة كقوله وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: ٩٧] وأنهم شبهوا بمن حاله كذا، أو هو محمول على الشتم والإهانة، وأما قوله مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي عن طريق الجنة ولا يشاء الإضلال إلا لمن يستحق عقوبته كما أنه لا يشاء الهدي إلا للمؤمنين. أو المراد بالإضلال منع الألطاف لأنهم ليسوا من أهلها وبالهداية منحها لأنهم من أهلها. ثم بين غاية جهالة الكفار وأنهم مع جحودهم يفزعون إلى الله في البليات فقال قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ هو منقول من رأيت بمعنى
77
أبصرت أو عرفت كأنه قيل: أبصرته وشاهدت حاله العجيبة أو أعرفتها أخبرني عنها فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة بشيء. فهذا من باب إيقاع السبب على المسبب لأن الإخبار إنما يكون بعد المشاهدة أو العرفان. أما إعرابه فالتاء ضمير الفاعل، والكاف للخطاب. فالتاء يكون بلفظ واحد في التثنية والجمع والتأنيث. وتختلف هذه المعاني على الكاف نحو: أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن. والتاء في جميع ذلك مفتوحة والكاف حرف خطاب وليست اسما وإلا لكانت إما مجرورة ولا جار، وإما مرفوعة وليست الكاف من ضمائر المرفوع ولا رافع أيضا لأن التاء فاعل ولا يكون لفعل فاعلان، وإما منصوبة وهو باطل من وجوه: أحدها أن هذا الفعل قد يتعدى إلى مفعولين نحو أرأيتك زيدا ما شأنه. فلو جعلت الكاف مفعولا لكان ثالثا
. وثانيها لو كان مفعولا لكان هو الثاني في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت: أرأيتك زيدا، وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. وثالثها لو كان منصوبا على أنه مفعول لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء نحو: أرأيتماكما وأ رأيتموكم وأ رأيتموكن. وقد ذهب الفراء إلى أنه اسم مضمر منصوب في معنى المرفوع ويجوز تصريف التاء. فأما مفعولا أرأيت في الآية فقيل: هما محذوفان تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟
ودل عليه قوله أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وقيل: لا يحتاج هاهنا إلى المفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وأما جواب الشرط فما دل عليه الاستفهام في قوله أَغَيْرَ اللَّهِ تقديره أرأيتكم الساعة دعوتم الله وحاصل الآية قل يا محمد لهؤلاء الكفار أرأيتكم إن أتاكم العذاب في الدنيا أو عند قيام الساعة، أتخصون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فيكشف ما تدعونه إلى كشفه إن شاء لأن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين. وعلى هذا يكون قوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:
٦٠] باقيا على إطلاقه لكن في الدنيا، ولو علقت المشيئة بكشف العذاب في الدنيا كان قوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ [غافر: ٦٠] أيضا مقيدا بالمشيئة وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ قال ابن عباس: تتركون الأصنام ولا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع، ويجوز أن يراد لا تذكرون الأصنام في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر الله وحده، والمقصود من الآية تبكيت الكفار كأنه قيل: إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام فلم تقدمون عبادتها؟ وفيه أن مبنى الدين على الحجة والدليل لا على محض التقليد.
ثم سلى النبي ﷺ بأن أعلمه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا وأصروا على كفرهم خلاف الأقوام المذكورين الذين يفزعون إلى الله في الشدائد، ويحتمل أن يقال: إن حكم الطائفتين واحد لأن التضرع
78
واللجأ إلى الله لطلب إزالة البلية لا على سبيل الإخلاص غير معتبر. وفي الآية محذوف تقديره: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رسلا فخالفوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وحسن الحذف لكونه مفهوما. والبأساء والضراء البؤس والضر. أو البأساء القحط والجوع، والضراء الأمراض والأوجاع والرزايا لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يتذللون ويتخشعون وأصله الانقياد وترك التمرد. ضرع الرجل ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف. احتج الجبائي بالآية على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وسلط هذه البأساء والضراء عليهم إرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا، فهو يريد الإيمان والطاعة من الكل. وأجيب بأن الترجي في حقه تعالى محال فإنهم يحملونه على الإرادة، ونحن نحمله على أنه تعالى يعاملهم معاملة المترجي. فالترجيح على أن الفسق وتزيين الشيطان وكل ما يفرضونه لا بد أن ينتهي إلى خلق الله وتكوينه. أما قوله فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا فمعناه نفي التضرع كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بلولا التحضيضية ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا العناد والقسوة والإعجاب، ثم بين أنه لما لم ينجع فيهم المواعظ والزواجر نقلهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء ففتح أبواب الخيرات عليهم وسهل موجبات المسرات لديهم كما يفعله الأب المشفق لولده، يخاشنه تارة ويلاينه أخرى. ومعنى كُلِّ شَيْءٍ أي كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أي ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ولم يزيدوا إلا بطرا وترفها أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة.
وقال ﷺ «إذا رأيت الله تعالى يعطي العاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى» «١».
قال العلماء: وإنما أخذوا في حال الراحة والرخاء ليكون أشد لتحسرهم على ما فات من السلامة والعطاء فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من كل خير. وقال الفراء: المبلس الذي انقطع رجاؤه.
ويقال للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس. وقال الزجاج: المبلس الشديد الحسرة الحزين. «وإذا» هاهنا للمفاجأة وهي ظرف مكان «وهم» مبتدأ ومُبْلِسُونَ خبره وهو العامل في «إذا» فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الدابر للشيء من خلفه كالولد للوالد. دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ودبرا إذا كان آخرهم. أبو عبيدة: دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم. الأصمعي:
الدابر الأصل قطع الله دابره أي أصله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حمد نفسه على أن لم يترك منهم أحدا واستأصلهم لأن ذلك جار مجرى النعمة على أولئك الرسل، أو على أولئك الهالكين كيلا يزيدوا كفرا وعنادا فيزدادوا عذابا وعقابا، أو حمد على ما أنعم عليهم قبل
(١) رواه أحمد في مسنده (٤/ ١٤٥).
79
ذلك وهو أن كلفهم وأزال عنهم الأعذار والعلل وبعث الأنبياء والرسل وأخذهم بالبأساء والضراء ثم نقلهم إلى الآلاء والنعماء إلا أنهم لم يزدادوا إلا انهماكا في الغي والضلال فطهر وجه الأرض من شركهم. وفيه إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك كل ظالم فإن ذلك من جملة آلاء الله سبحانه، ثم عاد إلى الدلالة على وجود الصانع الحكيم المختار وبيان وحدته جل جلاله فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ وتقرير ذلك أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب كما عدّدنا منافعها في أوائل الكتاب، ولا ريب أن القادر على تحصيل قواها فيه وصرفها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وحده، ومعنى أخذ السمع والبصر تعطيل منافعهما، ومعنى الختم على القلب إزالة العقل حتى يصير كالمجانين. قال ابن عباس: إنه الطبع أو الإماتة حتى لا يعقل الهدى والصلاح يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك الذي أخذ من السمع والبصر والقلب، فوضع الضمير موضع اسم الإشارة بناء على أن الضمير المذكور بحكم الاستعمال يلزم أن يكون لذي عقل ولو فرضا. والأحسن أن يقال: إنه ذكر أشياء متعددة فوجب أن يعود الضمير إلى جميعها مؤنثا إذ لا ترجيح، وحيث لم يكن الضمير مؤنثا علم أنه أراد المذكور مطلقا فتعين أن يشار إليه بذلك. ثم إنه أقام الضمير المذكور مقامه أو يعود إلى ما أخذ وختم عليه وصح من غير التكلف المذكور بحكم التغليب انْظُرْ يا محمدا وكل من له أهلية النظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نوردها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحيث يكون كل واحد منها يقوّي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب. ومعنى «ثم» التفاوت بين الحالين. ويَصْدِفُونَ أي يعرضون. ويقال: امرأة صدوف للتي تعرض وجهها عليك ثم تصدف أي تعرض. والصدف ميل في الحافر إلى الشق الوحشي. وصدف الدرة غشاؤها لميل فيه، قال الكعبي: لو خلق الله فيهم الإعراض والصد لم ينكر ذلك عليهم. وقالت الأشاعرة: لولا منع الله تعالى لنجع فيهم الدلائل القاطعة للأعذار. ثم عمم الدليل بقوله قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه فوجب أن لا يكون معبودا إلا هو. ثم العذاب المفروض إما أن يجيء من غير سبق أمارة تدل على ذلك وهو البغتة وأكثر ما يكون ذلك بالليل، أو مع سبق أمارة وهو الجهرة وأكثره بالنهار ولهذا قال الحسن: معناه ليلا أو نهارا. أما قوله هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي لا يهلك مع قوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فمعناه أن الهلاك بالحقيقة وهو هلاك التعذيب والسخط مختص بالظالمين الأشرار لأن الأخيار وإن عمهم العذاب إلا أنهم يستفيدون بذلك ثوابا جزيلا، فهو لهم بلاء في الظاهر وآلاء في الحقيقة خلاف الظلمة فإنهم يخسرون الدنيا والآخرة ومثله
قوله ﷺ «إن أمر المؤمن خير كله إن أصابته ضراء
80
فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له» «١».
واعلم أنه ذكر هاهنا أَرَأَيْتَكُمْ مرتين فزاد خطابا واحدا، لأن عذاب الاستئصال ما عليه من مزيد فناسب زيادة الخطاب لأجل التأكيد، وفيما بينهما قال أَرَأَيْتُمْ حيث لم يكن كذلك، وكذلك في يونس. ثم ذكر أن الأنبياء والرسل بعثوا للتبشير والإنذار فقط ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات التي اقترحوها في قوله وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وأن ذلك مفوّض إلى مشيئة الله وحكمته فقال وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالثواب على الطاعات وَمُنْذِرِينَ بالعقاب على المعاصي. فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو من أفعال القلب والعمل الصالح الذي هو من أفعال البدن فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ ومعنى المس التقاء الشيئين من غير فصل. قال في الكشاف: جعل العذاب ماسا كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام وفيه نظر، لأن المس ليس من خواص الأحياء، نعم إنه من خواص الأجسام، فلو ادعيت المبالغة من هذا الوجه لم يكن بعيدا.
قال القاضي: إنه علل عذاب الكافرين بكونهم فاسقين فيكون كل فاسق كافرا. وأقول: هذا من باب إيهام العكس ولا يلزم العكس، فإن كل كافر فاسق ولا يلزم العكس.
ثم أمر نبيه ﷺ أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة فقال قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وهي جمع خزانة للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ قال في الكشاف: محله النصب عطفا على محل قوله عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ لأنه من جملة المقول أي لا أقول لكم ذاك ولا هذا. قلت: ويحتمل أن يكون عطفا على لا أَقُولُ أي قل لا أعلم الغيب فيكون فيه دلالة على أن الغيب بالاستقلال لا يعلمه إلا الله بخلاف كون خزائن الله عنده وكونه ملكا فإن النبي ﷺ يحتمل أن يكون له هذه المقامات ولكن لا يظهرها. واختلف المفسرون في فائدة نفي هذه الأمور فقيل: المراد إظهار التواضع والخضوع لله تعالى والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام. وقيل: المقصود إبداء العجز والضعف وأنه لا يستقل بإيجاد المعجزات التي كانوا يقترحونها كقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: ٩٣] وقيل: أي لا أدّعي سوى النبوّة والرسالة ولا أدّعي الإلهية ولا الملكية وإنما زيد هاهنا لَكُمْ بخلاف سورة هود حيث قال وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [الآية: ٣١] لأنه تقدم ذكر لكم في قوله إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ [هود: ٢٥] فاكتفى بذلك. قال الجبائي: في الآية دلالة على أن الملك أفضل إذ
(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث ٦٤. أحمد في مسنده (٤/ ٣٣٢، ٣٣٣).
81
المراد لا أدّعي فوق منزلتي. قال القاضي: إن كان الغرض التواضع فالأقرب أن ذلك يدل على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على أفضلية الملائكة. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قيل: هذا النص يدل على أنه ﷺ لم يحكم من تلقاء نفسه بالاجتهاد في شيء من الأحكام، ولا يجوز لأحد من أمته أن يعمل إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣] فلا يجوز العمل بالقياس، وأكد هذا الحكم بقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وذلك أن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى، والعمل بمقتضى الوحي يقوم مقام عمل البصير. ثم قال أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ تنبيها على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين. وأجيب بأن أصل الاجتهاد والقياس إذا كان بالوحي لم يلزم الضلالة، والآية مثل للضال والمهتدي أو لمن ادعى المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية والملكية أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فلا تكونوا ضالين كالعميان، أو فتعلموا أني ما ادعيت سوى ما يليق بالبشر والله تعالى أعلم وأحكم.
التأويل:
وَما مِنْ دَابَّةٍ تدب في أرض البشرية وتتحرك من الحواس والجوارح والنفس وصفاتها إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ في السؤال عن أقوالهم وأحوالهم كقوله إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: ٣٦] ما فَرَّطْنا ما تركنا في القرآن من شيء يحتاج إليه الإنسان ظاهره وباطنه، ذاته وصفاته في السير إلى الله من الأوامر والنواهي والندب والآداب. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ هاهنا بالسير وجذبات العناية، أو هناك بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار في نار القطيعة على وجوههم لأن من شأنهم التكذيب كما قال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بدلائلنا الموصلة إلينا صُمٌّ آذان قلوبهم عن استماع الحق بُكْمٌ ألسنة أحوالهم عن إجابة دعوة الحق في ظلمات صفات البشرية والأخلاق الذميمة.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ لأن رجوعه إلى ربه مركوز في روحانيته. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ أي أرسلنا إليهم نعمة الصحة والكفاف والأمن فشغلوا بها عنا، فأرسلنا إليهم بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ندعوهم بها إلينا فلم يهتدوا فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ التي هي موجبة للإلجاء. فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وعلموا أن حقائق ألطافنا مدرجة في دقائق صور قهرنا، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في أصداف شدائد بأسنا، فاستقبلوها بصدق الالتجاء وحسن التضرع في الدعاء. فَلَمَّا نَسُوا بسبب القساوة ما ذُكِّرُوا بِهِ من معارضة البأساء والضراء فإنها تذكر أيام الرخاء وتعرّف قدر الصحة والنعماء وتؤدي إلى رؤية المنعم فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهر بالنعم الظاهرة من المال والجاه والقبول وأمثالها، ولأرباب الباطن بالنعم الباطنة من فتوحات
82
الغيب وأشباهها حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا وظنوا أنهم قد استغنوا عن صحبة الشيخ وتعليم تصرفاته فشرعوا في الطلب على وفق هواهم أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً بفقد الأحوال والاشتغال بالقال فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ متحيرون في تيه الغرور. والحمد لله على إظهار اللطف لأربابه والقهر لأصحابه ليعلم أن الكل بقدر كما قال قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بصرف استعداد عبودية المولى في عبادة الهوى. فأما من ابتلي بعذاب الله من الآفات والمخافات والأمراض ونحوها ابتلاء فتاب ورجع فهو غيرها لك على الحقيقة قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ لم يقل ليس عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ليعلم أن خزائن الله وهي العلم بحقائق الأشياء وماهياتها عنده بإراءة سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: ٥٣] وباستجابة دعائه في قوله «أرنا الأشياء كما هي» ولكنه يكلم الناس على قدر عقولهم. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي لا أقول لكم هذا مع أنه كان يخبرهم عما مضى وعما سيكون بإعلام الحق،
وقد قال ﷺ في قصة ليلة المعراج «نظرت خلفي نظرة علمت ما كان وما سيكون»
وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وإن كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبريل: تقدم فقال: لو دنوت أنملة لاحترقت إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أن أخبرهم وقل معهم. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ فلا يستوي مع الأعمى كلام البصير فكيف أخبركم عما أعمى الله بصائركم عنه وأنا به بصير. قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥١ الى ٦٠]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
83
القراآت:
بِالْغَداةِ مضموم الغين ساكن الدال مفتوح الواو وكذا في الكهف: ابن عامر. الباقون: بفتح الغين والدال وبالألف أَنَّهُ بالفتح فَأَنَّهُ بالكسر: أبو جعفر ونافع. وقرأ ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب جميعا بالفتح. الباقون: بالكسر فيهما وليستبين بياء الغيبة: زيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الباقون:
بالتاء الفوقانية سَبِيلُ بالنصب: أبو جعفر ونافع وزيد. الباقون: بالرفع يَقُصُّ ابن كثير وأبو جعفر ونافع وعاصم. الباقون يقضي الحق.
الوقوف:
يَتَّقُونَ هـ وَجْهَهُ ط الظَّالِمِينَ هـ مِنْ بَيْنِنا ط بِالشَّاكِرِينَ هـ الرَّحْمَةَ ط لمن قرأ أَنَّهُ بكسر الألف رَحِيمٌ هـ الْمُجْرِمِينَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط أَهْواءَكُمْ لا لتعيين «إذا» بما قبله أي قد ضللت «إذا» اتبعت الْمُهْتَدِينَ هـ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ط تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ط لِلَّهِ ط الْفاصِلِينَ هـ وَبَيْنَكُمْ ط بِالظَّالِمِينَ هـ إِلَّا هُوَ ط وَالْبَحْرِ ط مُبِينٍ هـ مُسَمًّى ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد المقصود. تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول ﷺ بالإنذار وهو الإعلام بموضع المخافة فقال له وَأَنْذِرْ بِهِ قال ابن عباس والزجاج: أي بالقرآن وهو المذكور هنا في قوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الأنعام: ٥٠] وقال الضحاك: أي بالله.
قيل: والأول أولى لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وفيه نظر، لأن الإنذار لا نزاع فيه أنه قول ولكن المنذر به قلما يكون قولا لقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غافر: ١٨] فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل: ١٤] ولو زعم أن المراد وأنذرهم النار والعذاب بواسطة القرآن قلنا: فقدر مثله هاهنا، والمعنى أنذرهم العذاب بقول ينبىء عن شدة سخط الله وعقوبته. أما الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا فقيل: إنهم الكافرون الذين سبق ذكرهم، فلعل ناسا من المشركين من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقا فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار فأمر أن ينذر هؤلاء دون المتمردين منهم. ثم قال هذا القائل ولا يجوز حمله على المؤمنين لأنهم يعلمون أنهم يحشرون، والعلم خلاف الخوف والظن. وضعف بأن الخوف شامل للناس كافة لعدم الجزم بالثواب وقبول الطاعة وإن كانوا مقرين بصحة الحشر والنشر فالظاهر أن الضمير يتناول الكل لأن العاقل لا بد أن يخاف
84
الحشر سواء كان جازما به أو شاكا فيه. وأيضا إنه مأمور بتبليغ الكل فلا وجه للتخصيص.
وقيل: إنهم قوم مسلمون مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يدخلون في زمرة أهل التقوى من المسلمين. وقيل: هم أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث. ومعنى إِلى رَبِّهِمْ إلى حكمه وقضائه فلا يلزم منه مكان ولا جهة. أما قوله لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ فقال الزجاج: إن الجملة في موضع الحال من ضمير يُحْشَرُوا أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم. فإن كان الضمير للكفار فظاهر، وإن كان للمؤمنين فشفاعة الملائكة والرسل إذا كانت بإذن الله تعالى فإنها تكون بالحقيقة من الله تعالى فصح أنه ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، ولا بد من هذه الحال لأن الحشر مطلقا ليس مخوفا وإنما المخوف هو الحشر على هذه الحالة لأنهم اعتقدوا أن لا ناصر ولا شفيع إلا الله وإذا لم يكن الله ناصرا وشفيعا لزم أن لا يكون ناصرا أصلا. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قال ابن عباس: لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي. قالت المعتزلة: فيه دلالة على أنه أراد من الكفار التقوى والطاعة. وأجيب بأن الترجي راجع إلى العباد. ولما أمر بإنذار عموم المكلفين ليتقوا أردفهم بذكر المتقين وأمر بتقريبهم وإكرامهم.
روي عن ابن مسعود أن الملأ من قريش مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين- فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء أتريد أن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك. فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: نعم طمعا في إيمانهم.
وروي أن عمر قال له: لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون. ثم إنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت وَلا تَطْرُدِ الآية. فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته.
قال سلمان وخباب: فينا نزلت. فكان رسول الله ﷺ يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف: ٢٨] فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه. وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات، أثنى الله عليهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي.
قال ابن عباس والحسن ومجاهد: أي يصلون صلاة الصبح والعصر. وقيل: أي يذكرون ربهم طرفي النهار، والمراد بالغداة والعشي الدوام. والغداة لغة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والعشي ما بين الزوال إلى الغروب. قال الجوهري: غدوة بالتنوين نكرة وبدونه معرفة غير مصروفة كسحر. ومحل يُرِيدُونَ وَجْهَهُ نصب على الحال أو على الاستئناف كأنه قيل: ما أرادوا بالمواظبة على الدعاء؟ فأجيب
85
بقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ولا يثبت به لله تعالى عضو كما زعمت المجسمة ولكن المراد به التعظيم، فقد يعبر به عن ذات الشيء أو حقيقته كما يقال: هذا وجه الرأي وذاك وجه الدليل. وأيضا المحبة تستلزم طلب رؤية الوجه فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا. ثم علل النهي بقوله ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قيل: الضمير عائد إلى المشركين أي لا يؤاخذوا بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك ذلك إلى أن تطرد المؤمنين، والأولى أن يعود إلى الفقراء ليناسب قوله فَتَطْرُدَهُمْ كما في قصة نوح إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشعراء: ١١٣] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم وقالوا: يا محمد إنهم قبلوا دينك ولازموك لأجل المأكول والملبوس فقال الله تعالى: إن كان الأمر على ما زعموا فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر إن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك لا يتعدى إليهم، فالجملتان لهما مؤدى واحد وهو المفهوم من قوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤] كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: ما عليك من حساب رزقهم من شيء ولا من حساب رزقك عليهم من شيء، وإنما الرازق لك ولهم هو الله سبحانه فدعهم يكونوا عندك، أما قوله فَتَطْرُدَهُمْ فهو جواب النفي في ما عَلَيْكَ وفي انتصاب فَتَكُونَ وجهان: أحدهما أنه جواب النهي، والثاني أنه عطف على فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب، لأن كونه ظالما معلوم من طردهم ومسبب عنه، فإن طرد من يستوجب التقريب والترحيب وضع للشيء في غير موضعه ومن هنا طعن بعض الناس في عصمة النبي ﷺ قالوا: كان يقول كلما دخل أولئك الفقراء عليه بعد هذه الواقعة مرحبا بمن عاتبني ربي فيهم أو لفظ هذا معناه. والجواب أنه ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما أفرد لهم مجلسا تألفا لقلوب المشركين وتكثيرا لسواد الإسلام مع علمه بأنه لا يفوت الفقراء بهذه المصالحة أمر مهم في الدنيا ولا في الدين، فغاية ذلك أنه يكون من باب تبرك الأولى والأفضل، وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الفتن العظيم فَتَنَّا ابتلينا بعض الناس ببعض، فأحد الفريقين وهم الكفار يرى الآخر مقدما عليه في المناصب الدينية فيقول أَهؤُلاءِ المسترذلون مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا كقوله: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر: ٢٥] والفريق الآخر يرى الأول مقدما عليه في الخيرات العاجلة والخصب والسعة الراحة والدعة فيقول: أهذا هو الذي فضله الله علينا. وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله فهو صواب، ولا اعتراض عليه بحكم المالكية وبحسب رعاية الأصلح. وبالجملة فصفات الكمال غير محصورة ولا تجتمع في إنسان واحد البتة بل هي موزعة على الخلائق وكلها محبوبة لذاتها. فكل إنسان يحسد
86
صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفة الكمال، فمن عرف سر القدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض لغيره وعاش عيشا طيبا في الدنيا والآخرة. قال هشام بن الحكم الافتتان الاختبار والامتحان، وفيه دليل على أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند حدوثها.
والجواب أنه يعامل المكلف معاملة المختبر وقد مر مرارا. وقالت الأشاعرة: في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال لأن تلك الفتنة التي ألقاها الله تعالى ليست إلا اعتراضهم على الله والاعتراض عليه كفر. فهو تعالى خالق للكفر. وأيضا منة الله عليهم ليست إلا بالإيمان ومتابعة الرسول، فلو كان الموجد للإيمان هو العبد كان العبد هو المان على نفسه. أجاب المعتزلة بأن معنى فتناهم ليقولوا خذلناهم حتى آل أمرهم إلى أن قالوا، فتكون اللام لام العاقبة، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع أنا ننقل الكلام إلى الخذلان فلا بد من الانتهاء إليه تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ بمن يصرف كل ما أنعم به عليه فيما أعطاه لأجله فيظهر أفعاله على حسب معلوم الله تعالى. وقال في الكشاف: أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا
قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله نبيّه ﷺ عن طردهم وكان إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام.
وقال ماهان الحنفي: أتى قوم النبي ﷺ فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما، وأظهروا الندامة والأسف فما أخاله رد عليهم بشيء. فلما ذهبوا وتولوا نزلت الآية.
قال في التفسير الكبير: الأقرب أن تحمل الآية على عمومها، فكل من آمن بآيات الله تعالى يدخل تحت هذا التشريف والإكرام ثم أيدى إشكالا وهو أن المفسرين اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من جميع آي هذه السورة إنها نزلت بسبب الأمر الفلاني؟ قلت: لا استبعاد في أن تنزل السورة دفعة وينزل الصحابة كل آية منها على واقعة تناسبها، كيف وهم أعرف بحقائق التنزيل وأعلم بدقائق التأويل لأنهم أهل مشاهدة الوحي وأرباب مزاولة الأمر والنهي؟! واعلم أن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله، وأنها لا تكاد تنحصر فيجب على المكلف أن يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار والسائح في هذه القفار ليكون دائما مترقيا في معارجها مترقبا أن تفيض عليه الأنوار من مدارجها فيستعد لبشارة سَلامٌ عَلَيْكُمْ ويستأهل لكرامة كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ إما أن يكون أمرا بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمرا بأن يبدأهم بالسلام إكراما لهم. قال الزجاج: سَلامٌ إما مصدر «سلمت سلاما وتسليما» مثل: كلمت كلاما وتكليما. ومعناه الدعاء بأن يسلم من الآفات في نفسه
87
ودينه، وإما أن يكون جمع سلامة. وقيل: السلام هو الله أي الله عليكم أي على حفظكم ولعل هذا الوجه إنما يتأتى في المعرف لا في المنكر. كَتَبَ رَبُّكُمْ من جملة المقول لهم تبشيرا بسعة رحمة الله وقبوله التوبة. ومعنى كتب على نفسه أوجب على ذاته إيجاب الكرم لا إيجابا يستحق بتركه الذم. وقالت المعتزلة: كونه عالما بقبح القبائح وباستغنائه عنها يمنعه عن الإقدام عليها ولو فعل كان ظلما، وإيجاب الرحمة ينافي القول بأنه منع الكافر من الإيمان ثم أمره حال ذلك المنع بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان، وأجيب بأنه فاعل لما يشاء ولا اعتراض عليه. أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ من قرأ بالفتح فعلى الإبدال من الرحمة، ومن قرأ بالكسر فعلى الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل: إنه من عمل مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ وهو في موضع الحال أي عمله وهو جاهل. والمراد أنه فاعل فعل الجهال لأن من عمل ما يضره في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه لا من أهل الحكمة والتدبير، أو أنه جاهل بعاقبته ومن حق الحكيم أن لا يقدم على ما لا يعرف مآل حاله. ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ بأن يندم على ما فعله وَأَصْلَحَ العمل في المستقبل فَأَنَّهُ غَفُورٌ يزيل العقاب عنه رَحِيمٌ يوصل الثواب إليه من قرأ بالكسر فعلى: أن الجملة جزاء للشرط، ومن قرأ بالفتح فعلى أن الخبر أو المبتدأ محذوف أي فغفرانه كائن أو فأمره أنه غفور. قيل: إن الآية نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما طلبوا ولم يعلم أنها مفسدة. وَكَذلِكَ أي كما فصلنا في هذه السورة دلائلنا على التوحيد والنبوة والقضاء والقدر نُفَصِّلُ الْآياتِ ونميزها لك في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وليستبين معطوف على محذوف كأنه قيل:
ليظهر الحق وليستبين، أو معلق بمحذوف أي وليستبين سبيل المجرمين فصلنا ذلك التفصيل البين. من رفع «السبيل» قرأ ليستبين بالياء أو بالتاء لأن السبيل يذكر ويؤنث، ومن نصب السبيل قرأ لِتَسْتَبِينَ بتاء الخطاب مع الرسول يقال: استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته واستبانة سبيل المجرمين تستلزم استبانة طريق المحقين، فلذلك اقتصر على أحدهما كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] ولم يذكر البرد. وإنما ذكر المجرمين دون المحقين لأن طريق الحق واحد والمجرمون أصناف يشتبه أمرهم، فمنهم من هو مطبوع على قلبه، ومنهم من يرجى فيهم قبول الإسلام، ومنهم من دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده فينبغي أن يستوضح سبيلهم ليعامل كلا منهم بما يجب، ومن جملة ذلك أنه نهى عن عبادة معبوداتهم وذلك قوله قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أي صرفت بالدلائل العقلية والسمعية أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ لأن عبادة المصنوع والمخلوق محض التقليد وعين الهوى قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أثبت الضلال
88
إذ ذاك ونفى الهدى مع أنهما متلازمان للتقرير والتأكيد، وفيه تعريض بهم أنهم كذلك. ثم نبه على ما يجب اتباعه بقوله قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي على حجة واضحة من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه وَكَذَّبْتُمْ أنتم به حيث أشركتم به غيره. يقال: أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتا عنده بدليل. وقيل: أي على حجة من جهة ربي وهي القرآن وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أي بالبينة وذكر الضمير على تأويل القرآن أو البيان. ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢] قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحرث ورؤساء قريش كانوا يقولون: يا محمد آتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ مطلق يتناول الكل. فقال الأشاعرة: لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله تعالى فيمتنع منه فعل الكفر إلا بإرادة الله، واحتجت المعتزلة بقوله يقضي الحق أي كل ما قضى به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق. ويمكن أن يقال: إن جميع أحكامه حق وصدق ولا اعتراض لأحد عليه بحكم المالكية. وانتصاب الْحَقَّ على أنه صفة مصدر أي يقضي القضاء الحق، أو مفعول به من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره. ومثله من قرأ يقصر الحق كقوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: ٢] أي يقول الحق أو يتبعه من قص أثره وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي القاضين، وإنما كتب يقض في المصاحف بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وليوافق قراءة يَقُصُّ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي وإمكاني ما تَسْتَعْجِلُونَ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ
أمر الإهلاك بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عاجلا غضبا لربي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيؤخر عقابهم إلى وقته وأنا لا أعلم ما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره. فإن قلت: أما يناقض هذا قوله فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا [الكهف: ٦] فإن استعجال الهلاك ينافي الحرص على الإيمان، لأن من حرص على إيمان أحد حرص على طول حياته طمعا في إيمانه.
قلت: لا، بل يؤكده لاشتراك كل من الحكمين في الاستعجال اللازم للبشرية في قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء: ١١] ثم بين سبحانه أعلميته بقوله على سبيل الاستعارة وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أراد أنه المتوصل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ولم يمنعه من ذلك مانع، والمفاتح جمع مفتح وهو المفتاح، أو جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن، قال الحكيم في بيانه: إن العلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول وكل ما سوى الواجب فإنه موجود بإيجاده وتكوينه بواسطة أو بوسائط، فعلمه
89
بذاته يوجب العلم بجميع آثاره على ترتيبها المعتبر- كليات كانت أو جزئيات- وعلمه بذاته لم يحصل إلا لذاته فصح أن يقال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. وفيه أنه لا ضد له ولا ند إذ لو كان في الوجود واجب آخر لكانت مفاتح الغيب حاصلة أيضا عنده فيبطل هذا الحصر، ولا يمكن أن تكون هذه المفاتح عند شيء من الممكنات لأن المحاط لا يحيط بمحيطه فلا يحيط ما دون الواجب بالواجب، فلا يكون المفتاح الأوّل للعلم بجميع المعلومات إلا عنده. ثم إن قوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قضية معقولة مجردة، والإنسان الذي يقوي على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا والقرآن إنما نزل لينتفع به جميع الناس فذكر من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية الكلية أمثالا لها ليعين الحس العقل فقال وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لأن ذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة لذلك المعقول، وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والجبال والتلال والمعادن والنبات والحيوان، وأما البحر فإحاطة الحس بأحواله أقل مع كثرة ما فيها من العجائب والغرائب أيضا. ثم أفرد من هذه المحسوسات قسما فقال وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أي لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها. ثم عدل عن التعجيب من كثرة المدركات إلى التعجيب من صغر المدرك وخفائه فقال وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وفي تخصيص الحبة والورقة تنبيه للمكلفين على أمر الحساب لأنه إذا كان بحيث لا يهمل أمر الأشياء التي ليس لها ثواب ولا عقاب فلأن لا يهمل أمر المكلفين أولى.
ثم عاد إلى ذكر القضية الكلية المجردة بعبارة أخرى فقال وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قال في الكشاف: ولا حبة ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة وداخل في حكمها كأنه قيل: وما يسقط شيء من هذه الأشياء إلا وهو يعلمه. وقوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله إِلَّا يَعْلَمُها ومعنى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ واحد. والكتاب المبين علم الله أو اللوح. قال علماء التفسير: يجوز أن يكون الله جل شأنه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات وأنه لا يغيب عنه شيء، فيكون في ذلك عبرة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في العالم فيجدونه موافقا له. أو لأنه إذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع تغيرها وإلا لزم الكذب أو الجهل فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب سببا تاما في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم. ثم لما بين كمال علمه أردفه ببيان كمال قدرته بقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي يتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز. وذلك أن الأرواح الجسمانية تغور حالة النوم من الظاهر إلى الباطن
90
فتتعطل الحواس عن بعض الأعمال، وأما عند الموت فتصير جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فلهذا كان النوم أخا الموت فصح إطلاق لفظ الوفاة على النوم من هذا الوجه وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ أي ما كسبتم من العمل بالنهار ومنه الجوارح للأعضاء وللسباع ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يردّ إليكم أرواحكم بالنهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي أعماركم المكتوبة.
وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت. ثم لما ذكر أنه يميتهم أولا ثم يوقظهم ثانيا كان ذلك جاريا مجرى الإحياء بعد الإماتة فلا جرم استدل بذلك على صحة البعث في القيامة فقال ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم ونهاركم وجميع أحوالكم وأوقاتكم. واعلم أن في هذه الآية إشكالا لأن قوله وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ كان ينبغي أن يكون بعد قوله ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ فإن البعث في النهار مقدم على الكسب فيه بل على تعلق العلم بالكسب. ويمكن أن يجاب بأن المراد ويعلم ما جرحتم في النهار الماضي بدليل قوله جَرَحْتُمْ دون «تجرحون» ثم يبعثكم في النهار الآتي. والغرض بيان إحاطة علمه وقدرته بالزمانين المحيطين بالليل. ولعل صاحب الكشاف لمكان هذا الإشكال عدل عن هذا التفسير إلى أن قال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ والخطاب للكفرة أي أنتم منسدحون الليل كالحيف. والانسداح الانبطاح أو الاستلقاء وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ما كسبتم من الآثام فيه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ من القبور فِيهِ أي في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام في النهار ومن أجله كقولك: فيم دعوتني؟ فيقول:
في أمر كذا لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وهو المرجع إلى موقف الحساب. والأصوب عندي أن يقال: الخطاب عام، وكذا الكسب في النهار فينبغي أن لا يقيد بالآثام. أما الضمير في فِيهِ فيكون جاريا مجرى اسم الإشارة إلى الكسب. والبعث هو البعث من القبور إلى آخر ما قال والله أعلم.
التأويل:
وَأَنْذِرْ بِهِ أي بهذه الحقائق والمعاني الَّذِينَ يَخافُونَ أي يرجون أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ بجذبات العناية ويتحقق لهم أن لَيْسَ لَهُمْ في الوصول إلى الله مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ من الأولياء وَلا شَفِيعٌ يعني من الأنبياء، لأن الوصول لا يمكن إلا بجذبات الحق. وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ أخبر عن الفقراء أنهم جلساؤه بالغداة والعشي كما
قال «أنا جليس من ذكرني»
فلا تطردهم عن مجالستك فإنهم يطلبوني في متابعتك لا يريدون الدنيا ولا الآخرة ولكن يريدون وجهه.
91
قال المحققون: الإرادة اهتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله. فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلا ولا نهارا، ولا يجد من دون الوصول إلى الله سبحانه سكونا ولا قرارا ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني الذي لنا معك في الحساب من المواصلة والتوحيد في الخلوة فإنهم ليسوا في شيء من ذلك ليكون عليك ثقلا وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي الذي لنا معهم في الحساب من التفرد للوصول والوصال ليس لك إلى ذلك حاجة ليثقل عليهم فَتَطْرُدَهُمْ فتكسر قلوبهم بالطرد فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ بوضع الكسر مقام الجبر فإنك بعثت لجبر قلوبهم لا لكسر قلوبهم كقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: ٨٨] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليشكر الفاضل وليصبر المفضول فيستويان في الفضل فلهذا قيل: لسليمان ولأيوب كليهما: نعم العبد. مع قدرة سليمان على أسباب الطاعة وعجز أيوب عنها. ومن فتنة الفاضل في المفضول رؤية فضله على المفضول أو تحقيره، ومنع حقه عنه في فضله، ومن فتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله وسخطه عليه في منع حقه من فضله عنه، فإن المعطي والمانع هو الله. ومنها أن لا يرى الفاضل مستحقا للفضل ليقولوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ إنه سبحانه من كمال فضله على الفقراء حملهم محمل الأكابر والملوك في الدنيا فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: كن مبتدئا بالسلام عليهم وفي الآخرة فألهم الملائكة أن يسلموا عليهم في الجنة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر: ٧٣] بل سلم بذاته عليهم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:
٥٨] وكل ذلك نتيجة سلامتهم من ظلمة الخلقة بإصابة رشاش النور في الأزل فلهذا قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي الرحمة الخاصة كما خص الخضر في قوله آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا [الكهف: ٦٥] والرحمة العامة كما
في الحديث الرباني للجنة «إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي»
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ أي من المؤمنين سُوءاً بِجَهالَةٍ أي بجهالة الجهولية التي جبل الإنسان عليها لا بجهالة الضلالة التي هي نتيجة إخطاء النور فإن هذه لا توبة لها ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي رجع إلى الله بقدم السير من بعد إفساد الاستعداد الفطري وأصلح الاستعداد بالأعمال الصالحة لقبول الفيض. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ في الأزل بإصابة النور المرشش. ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من عبادة الهوى لَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني أمر القتال والخصومات ولاسترحت من أذيتكم لأن الشيء إنما ينفعل عن ضده لا عن شبيهه وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يعني العلوم العقلية التي هي سبب فتح باب صور عالم الشهادة كالنقاش ينشيء الصور في ذهنه ثم يصوّرها في الخارج. وإنما وحد الغيب وجمع المفاتح لأن عالم الغيب عالم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة يعلم التكوين وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وهو عالم الشهادة وَالْبَحْرِ وهو عالم
92
الغيب وَبهذا العلم ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ عن شجرة الوجود إِلَّا يَعْلَمُها لأنه مكونها ومسقطها وَلا حَبَّةٍ هي حبة الروح فِي ظُلُماتِ صفات أرض النفس، أو حبة المحبة في ظلمات أرض القلب وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ الرطب المؤمن، واليابس ما سيصير موجودا وما قد صار. أو الرطب الروحانيات، واليابس الجمادات. أو الرطب المؤمن، واليابس الكافر. أو الرطب العالم، واليابس الجاهل. أو الرطب العارف، واليابس الزاهد. أو الرطب أهل المحبة، واليابس أهل السلوة. أو الرطب صاحب الشهود، واليابس صاحب الوجود. أو الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنصيبه وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ليل القضاء وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ نهار القدر أو الليل، ليل صفات البشرية والنهار نهار الشهود في عالم الوحدة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦١ الى ٧٣]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
93
القراآت:
تَوَفَّتْهُ واسْتَهْوَتْهُ ممالة: حمزة الباقون: بتاء التأنيث قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ من الإنجاء: سهل ويعقوب وعباس. الباقون: بالتشديد وَخُفْيَةً بالكسر حيث كان: أبو بكر وحماد. الباقون: بالضم أَنْجانا ممالة: حمزة وعلي وخلف أَنْجانا بدون الإمالة: عاصم. الباقون أَنْجَيْتَنا قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ بالتشديد: يزيد وحمزة وخلف وعاصم وهشام. الباقون: بالتخفيف بَعْضٍ انْظُرْ وأشباه ذلك بكسر التنوين: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن شنبوذ عن أهل مكة، وابن ذكوان يُنْسِيَنَّكَ بالتشديد: ابن عامر.
الوقوف:
حَفَظَةً ط لا يُفَرِّطُونَ هـ الْحَقِّ ط الْحاسِبِينَ هـ وَخُفْيَةً ط لاحتمال الإضمار أي يقولون لئن أنجيتنا، وتعلق «لئن» بمعنى القول في تَدْعُونَهُ أصح الشَّاكِرِينَ هـ تُشْرِكُونَ هـ بَأْسَ بَعْضٍ ط يَفْقَهُونَ هـ وَهُوَ الْحَقُّ ط بِوَكِيلٍ هـ مُسْتَقَرٌّ ط للإبتداء ب «سوف» على التهديد مع شدة اتصال المعنى يعلمون هـ غَيْرِهِ ج الظَّالِمِينَ هـ يَتَّقُونَ هـ وَلا شَفِيعٌ ط للشرط مع العطف بِما كَسَبُوا لا لانقطاع النظم مع اتصال المعنى، أو لاحتمال أن يكون الَّذِينَ صفة أُولئِكَ وقوله لَهُمْ شَرابٌ خبر الْهُدَى ائْتِنا ج هُوَ الْهُدى ط الْعالَمِينَ لا لأن التقدير وأمرنا بأن أقيموا الصلاة وَاتَّقُوهُ ط تُحْشَرُونَ هـ بِالْحَقِّ ط فَيَكُونُ ط فِي الصُّورِ ط وَالشَّهادَةِ ط الْخَبِيرُ هـ.
التفسير:
من الدلائل الدالة على كمال قدرته وحكمته قوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ والمراد منه الفوقية بالقدرة والتسخير كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أعلى وأنفذ منه، ولا ريب أن الممكنات بأسرها تحت تصرف الواجب ينقلها من حيز العدم إلى حالة الوجود وبالعكس، ويتصرف فيها كيف يشاء، علويات كن أو سفليات، ذوات أو صفات، نفوسا أو أبدانا، أخلاطا وأركانا. ومن جملة قهره إرسال الحفظة- وهي جمع حافظ- على عبيده بضبط أعمالهم من الطاعات والمعاصي والمباحات لأنهم مطلعون على أقوال بني آدم لقوله ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٨] وعلى أفعالهم بقوله يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار: ١٢] وأما صفات القلوب كالجهل والعلم فليس في الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها. وعن ابن عباس أن مع كل إنسان ملكين: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظر لعله يتوب عنها فإن لم يتوب عنها فإن لم يتب كتب عليه. قالت العلماء: من فوائد هذه الكتبة أن المكلف إذا علم أن الملائكة الموكلين عليه يكتبون أعماله
94
في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك زجرا له عن القبائح.
ومنها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة فإن وزن الأعمال غير ممكن. ومنها التعبد فعلى المكلف أن يؤمن بكل ما ورد به الشرع وإن لم يعرف وجه الحكمة في بعض ذلك. وقال بعض الحكماء: الحفظة النفوس والقوى الجسمانية التي تحفظ الأركان مع طبائعها المتضادة على امتزاجها. وقال بعض القدماء: منهم النفوس البشرية والأرواح السفلية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها، فبعضها خيرة وبعضها شريرة، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والخساسة، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب المشفق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظتها ومنامها على سبيل الرؤيا تارة، وعلى سبيل الإلهامات أخرى. فالأرواح الخيرة لها مباد من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الشريرة وتلك المبادئ في مصطلحهم تسمى بالطباع التام لأن تلك الأرواح في تلك الطبائع والأخلاق تامة كلها وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته، لأصحاب الطلسمات والعزائم في هذا الباب كلام كثير. وقيل: إن النفوس المفارقة تميل إلى ما يناسبها ويساويها في الطبيعة والماهية من النفوس المتعلقة بالأبدان فتحفظها وتعينها حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي وقته أو أماراته تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أي بإذننا وتفويضنا فالمتوفى بالحقيقة هو الله تعالى كما قال الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: ٤٢]. وهؤلاء الرسل أتباع ملك الموت في قوله يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: ١١] وهل هم الحفظة بأعيانهم أم غيرهم فيه قولان: أشهرهما الثاني لكون ملائكة الروح والريحان وهم الريحانيون غير ملائكة الكرب والأحزان وهم الكروبيون. وعن مجاهد: جعلت الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين. وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وفيه مدح لهم بالعصمة ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أي إلى حكمه وجزائه مَوْلاهُمُ الْحَقِّ صفتان والضمير في رُدُّوا إما للملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أولئك الملائكة، أو إلى البشر أي أنهم بعد موتهم يردون إلى الله تعالى والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحق. وفيه إشعار بأن الإنسان شيء آخر وراء هذا الهيكل المحسوس فإن هذا الهيكل يبقى ميتا والإنسان مردود إليه تعالى. وفي لفظ الرد إشارة إلى أن الروح كان موجودا قبل البدن وقد تعلق به زمانا ثم ردّ إلى موضعه الأصلي وهو عالم الأرواح بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] أَلا لَهُ الْحُكْمُ كقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: ٥٧] وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ حسابا قيل: إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة فلا يشغله كلام عن كلام. وقيل: يحاسب كل إنسان واحد من الملائكة بإذن الله
95
تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة:
١٧٤] وقال الحكيم: معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق، قليلة كانت أو كثيرة، حميدة أو ذميمة، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده. وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبة الأعمال. قال الجبائي- هاهنا: لو كان كلامه قديما لوجب أن يكون متكلما بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم.
وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالما بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالما بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم. ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مجازا عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة: يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة. وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء. تَدْعُونَهُ في موضع الحال تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص. والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور: أحدها الدعاء. الثاني التضرع. والثالث: الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله وَخُفْيَةً ورابعها: التزام الشكر هو المراد من قوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الظلم والشدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ الا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى.
وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا. ثم ذكر نوعا آخر من دلائل التوحيد مقرونا بنوع من التخويف فقال قُلْ هُوَ الْقادِرُ واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر، وهو الكامل القدرة عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون وخسف بقارون. وقيل: من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال.
عن رسول الله ﷺ «سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت
96
أرجلهم فأعطاني ذلك. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني» «١»
«وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف»
قالت الأشاعرة: في قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً دلالة على أن الأهواء المختلفة والآراء الفاسدة والبدع كلها من الله تعالى وفي قوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ إشارة إلى أن المعاصي وأنواع الظلم مستندة إلى الله تعالى وقالت المعتزلة: الآية لا تدل إلا على أنه تعالى قادر على القبيح والنزاع في أنه هل يفعل ذلك أم لا؟ وأجيب بأن الآية دلت على أن القدرة على هذه الأمور تختص به، وهذه الأمور واقعة فيكون هو فاعلها بالضرورة انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نقرر الدلائل الواضحات. وقد قال مثل ذلك فيما قبل فالتقدير: انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون فلا نعرض عنهم بل نكررها لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ أي بالعذاب المذكور في الآية السابقة قَوْمُكَ يعني قريشا ومن دان بدينهم وَهُوَ الْحَقُّ أي لا بد أن ينزل بهم. وقيل: أي بالقرآن وهو الحق لأنه كتاب منزل من عند الله.
وقيل: أي بتصريف الآيات لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات. قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر.
لِكُلِّ نَبَإٍ لكل خبر يخبره الله تعالى مُسْتَقَرٌّ أي استقرار أو موضع استقرار. والمراد بالنبإ المنبأ به لأن النبأ قد حصل، والمقصود أن لعذاب الله تعالى أو لاستيلاء المسلمين على الكفار بالقتل والأسر والقهر وقتا ومكانا يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه من التهديد ما فيه.
ثم بين أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مجالستهم فقال وَإِذا رَأَيْتَ أيها السامع الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللغو والعبث، ويقرب منه قول المفسرين إنه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بالقيام عنهم لقوله بعد ذلك فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى وقيل: المطلوب إظهار الإنكار وكل طريق أفاد هذا الغرض وإن كان غير القيام عن مجلسهم فإنه يجوز المصير إليه، هذا عند عدم الخوف، أما مع الخوف فهذا الفرض ساقط والتقية واجبة. نعم كل ما أوجب على الرسول ﷺ فعله وجب عليه، سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر وإلا لم يبق الاعتماد على التكاليف التي يبلغها وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ أي يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن تذكر النهي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا
(١) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث ٢٠. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٩. الموطأ في كتاب القرآن حديث ٣٥. أحمد في مسنده (٥/ ٢٤٠، ٢٤٣).
97
عليهم بالظلم. قال الليث: الذكرى اسم للتذكرة. وقال الفراء: هي الذكر. قال في الكشاف بناء على مذهبه: يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم.
قال الجبائي: إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، وهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق لا يقع، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لم يكن الكافر قادرا على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان. قال ابن عباس: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت الرخصة أن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الشرك والكبائر والفواحش مِنْ حِسابِهِمْ من ذنوبهم التي يحاسبون عليها مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى أي ولكن يذكرونهم تذكيرا، أو ولكن عليهم أن يذكروهم، أو ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفا على محل مِنْ شَيْءٍ كقول القائل: ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله مِنْ حِسابِهِمْ يأبى ذلك فإن الذكرى ليس من حساب المشركين.
ثم أكد الإعراض عنهم بقوله وَذَرِ الَّذِينَ والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم والمبالاة بهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم كقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النساء: ٦٣] وصفهم بوصفين الأوّل أنهم اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وفيه وجوه: اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزؤا، أو اتخذوا ما هو لعب ولهو يعني عبادة الأوثان وغيرها دينا لهم، أو المراد ما كانوا يحكمون به بمجرد التقليد والهوى كتحريم البحائر والسوائب، أو المراد أن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا أعيادهم لعبا ولهوا لا كالمسلمين حيث اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى. قال ابن عباس: أو هو إشارة إلى من جعل دين الإسلام وسيلة إلى المناصب والرياسات والغلبة والجلال لا لأنه حق وصدق في نفسه، ويؤكد هذا الوجه الوصف الثاني وهو قوله وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا كأنهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن أو بالدين القويم مخافة أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ قال الحسن ومجاهد: أن تسلم إلى الهلاك والعذاب وترتهن بسوء فعلها وأصله المنع فالمسلم إليه وهو العذاب يمنع المسلم ومنه الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه. وقال قتادة: تحبس في جهنم. وعن ابن عباس: تفتضح لَيْسَ لَها أي النفس مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ إن تفد كل فداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله لا يُؤْخَذْ مِنْها قال في الكشاف: فاعل يُؤْخَذْ قوله مِنْها
98
لا ضمير العدل لأن العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فبمعنى المفدى به فصح إسناده. قلت: إن فسر الأخذ بالقبول كما في قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التوبة: ١٠٤] ارتفع الفرق. أُولئِكَ المتخذون هم الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ثم بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين بقوله لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ثم رد على عبدة الأصنام بقوله قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ النافع الضار ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا أي لا يقدر على النفع والضر وَنُرَدُّ داخل في الاستفهام أي أنرجع إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله تعالى منه وهدانا للإسلام، فإن الردة عود الى الحالة الأولى التي كان الإنسان عليها من الجهل كقوله وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: ٧٨] كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ محله النصب على الحال من الضمير في نُرَدُّ أي أننكص على العقبين مشبهين من استهوته وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه أي سقوطه من الموضع العالي إلى الوهدة العميقة كقوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الحج: ٣١] وقيل: اشتقاقه من اتباع الهوى وحَيْرانَ حال أخرى لكن من الضمير في اسْتَهْوَتْهُ وكذا الجملة بعده. ومعنى الحيرة التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه منه. ومنه تحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. لَهُ أي لهذا المستهوي أَصْحابٌ رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي إن يهدوه الطريق المستوي فيكون مصدرا. وسمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له ائْتِنا أو الدعاء في معنى القول وهذا بناء على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن والغيلان تستهوي الإنسان وتستولي عليه، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إلى الحق وقد اعتسف المهمة تابعا للجن غير ملتفت إليهم. وقيل: إن لذلك الكافر أصحابا يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى. وروي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فإنه كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو الإسلام هُوَ الذي يحق أن يسمى هدى وما وراءه غي وضلال وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا قال الزجاج: لا بد من تأويل ليستقيم العطف فالتقدير: وأمرنا لنسلم ولنقيم، أو أمرنا أن أسلموا وأن أقيموا. قيل: والسر في العدول عن الظاهر أن المكلف كالغائب ما لم يسلم فإذا أسلم صار كالحاضر. وتقرير الآية أن متعلق الأمر إما أن يكون من باب الأفعال أو من باب التروك. والأول إما أن يكون من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح، ورئيس أفعال القلوب الإيمان بالله والإسلام وهو قوله لِنُسْلِمَ ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وهو قوله وَأَنْ أَقِيمُوا ثم أشار إلى جوامع التروك بقوله وَاتَّقُوهُ ثم
قال وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ليعلم أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر.
99
ثم دل على وجود الحاشر بقوله وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قائما أو ملتبسا بِالْحَقِّ بالحكم اللطيفة والغايات الصحيحة والأغراض المطابقة، وذلك أنه أودع في هذه الأجرام قوى وخواص وآثارا تتضمن مصالح الأبدان ومباهج نوع الإنسان وهكذا خلق يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ فقوله فاعل فَيَكُونُ ويَوْمَ مفعول خَلَقَ والمعنى أنه تعالى خلق العالم من الأفلاك والطبائع والعناصر والمواليد، وخلق يوم القيامة لرد الأرواح إلى الأجساد بطريق «كن فيكون» وعلى هذا يجوز أن يكون قوله الْحَقُّ مبتدأ وخبرا مستأنفا، أو قوله الْحَقُّ مبتدأ ويَوْمَ يَقُولُ ظرف دال على الخبر مثل «يوم الجمعة القتال» أي القتال واقع يوم الجمعة. والمراد أن قضاءه في ذلك اليوم حق وصدق خال عن الجور والعبث وَيَوْمَ يُنْفَخُ ظرف لقوله وَلَهُ الْمُلْكُ كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: ١٦] والمقصود أنه لا ملك في ذلك اليوم إلا له من غير دافع ولا منازع.
والصور باتفاق أكثر أهل الإسلام قرن ينفخ فيه ملك من الملائكة كما جاء في مواضع من القرآن وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ [الزمر: ٦٨] ففزع فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر: ٨] وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة. وخطأه الأئمة فقالوا: كل جمع على لفظ الواحد سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه كالصوف، أما إذا سبق الواحد الجمع فليس كذلك كغرفة وغرف ولهذا يجمع صورة الإنسان على صور بالفتح كقوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: ٦٤] ومن أسكن فقد أخطأ، ومما يدل على أن الصور هو القرن لا جمع صورة الإنسان أنه تعالى لم يضف النفخ إلى نفسه كما قال وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: ٧٢] فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: ٩١] ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: ١٤] ثم لما بين كمال قدرته بقوله وله الملك ذكر كمال علمه بقوله عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي هو العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات وَهُوَ الْحَكِيمُ المصيب في أقواله وأفعاله الْخَبِيرُ النافذ علمه في بواطن الحقائق من غير اشتباه والتباس، فإن أمر البعث لا يتم إلا بقدرة كاملة وعلم تام كيلا يشتبه المطيع والعاصي والصديق والزنديق.
التأويل:
وَهُوَ الْقاهِرُ بوصف الجلال للأولياء، قهار بوصف الجبروت للأعداء.
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من صفات قهره حتى لو أرادت نفسه الخروج عن قيد مجاهدتها قهرتها سطوات العتاب فردتها إلى بذل الجهد، وإن أراد قلبه فرجة عن مطالبات العزة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة، ولو أراد روحه استرواحا من الحرقات قهرته بوارق التجلي فردته إلى بذل المهجة حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني الفناء عن أوصاف
100
الوجود تَوَفَّتْهُ رسل صفات قهرنا وهم لا يقصرون في إفناء الأوصاف ثُمَّ رُدُّوا إلى البقاء بالله قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ بر الأجسام وبحر الأرواح فإن عالم الأرواح بالنسبة إلى عالم الألوهية ظلمانية. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً بالجسم وَخُفْيَةً بالروح وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ آفة وفتنة ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ حين يتجلى لكم نور من أنوار صفاته، فبعضكم يقول: أنا الحق وبعضكم يقول: سبحاني ما أعظم شأني عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ بسدل حجاب العزة والغيرة بينه وبينكم أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ حجابا من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً بجعل الخلق فيكم فرقا. فمن قائل هم الصديقون، ومن قائل هم الزنديقون وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتل والصلب وقطع الأطراف انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ آيات المعارف للسائرين إلى الله لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ لشرائط السير ولا يفقهون في مقام دون الفناء عن كلية الوجود بالبقاء بشهود المعبود وَكَذَّبَ بهذا المقام قَوْمُكَ المنكرون وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لا أسلك طريق هذا المقام بوكالتكم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى كما قال لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب أو دركات البعد وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في أحوال الرجال ولا حظ لهم منها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غير تلك الطامات التي هي ريح في شبح. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً لأن همهم من لبس الخرقة والتزيي بزي الطالبين إنما هو الدنيا وقبول الحق أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي كراهة أن يبطل استعدادها بالكلية بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بمقامات الرجال من الوصول والوصال قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أنطلب غير الله الذي هو النافع الضار. والنفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه، والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا إلى مقام الاثنينية التي كنا فيها بعد أن هدانا الله إلى الوحدة كالذي أضلته شياطين الجن والإنس في أرض البشرية باتباع الهوى حَيْرانَ من إغوائهم. وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ بترك الوجود كالكرة في ميدان القدرة مستسلما لصولجان القضاء وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بمحافظة الأسرار عن الأغيار والاتقاء به عن غيره ليحشر إليه لا إلى الجنة أو النار كما قال: ألا من طلبني وجدني. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي لإظهار صفاته، فجعل المخلوقات مرآة لجماله وجلاله وإذا أراد أن يرى عبدا من عباده تلك الصفات يقول له: كن رائيا فيكون، ولن يصير رائيا بمجرد سعيه لأن قوله في حق الإنسان كن رائيا هو الحق وله ملك الإراءة وملك الرؤية، ينفخ الإراءة في صور القلب وَهُوَ الْحَكِيمُ فيما اختص الإنسان بإراءة الآيات الْخَبِيرُ بمن يخصه من بين الناس بالإراءة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٨٣]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
101
القراآت:
إِنِّي أَراكَ بفتح الياء: أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر ونافع لِأَبِيهِ آزَرَ بالضم على النداء: يعقوب رَأى كَوْكَباً بإمالة الهمزة: أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش. وكذلك رَآهُ ورَآكَ وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس وهبيرة من طريق الخراز بكسر الراء والهمزة. وافق ابن ذكوان في رَأى فقط وخالفهم فيما اتصلت بالكاف والهاء في سورة النجم. وافق ابن مجاهد والنقاش بالإمالة وكسر الراء في سورة «اقرأ باسم» رَأَى الْقَمَرَ ورَأَى الشَّمْسَ ونحوهما بكسر الراء وفتح الهمزة: حمزة وخلف ونصر وعباس ويحي والخراز. وروى خلف عن يحي بكسر الراء والهمزة أَتُحاجُّونِّي بتخفيف النون: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان. الباقون: بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية وَقَدْ هَدانِ بالإمالة: علي. وقرأ سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الحالين، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل. دَرَجاتٍ بالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب.
الوقوف:
آلِهَةً ج للابتداء بأن مع اتحاد القول. مُبِينٍ هـ الْمُوقِنِينَ هـ رَأى كَوْكَباً ج لأن جواب «لما» قوله «رأى» مع اتحاد الكلام بلا عطف رَبِّي ج لأن جواب «لما» منتظر مع فاء التعقيب فيها. الْآفِلِينَ هـ هذا رَبِّي ج لذلك الضَّالِّينَ هـ هذا أَكْبَرُ ج لذلك يشركون هـ الْمُشْرِكِينَ ج لاحتمال الواو الحال أي وقد حاجه.
قَوْمُهُ ط هَدانِ ط لانتهاء الاستفهام شَيْئاً ط عِلْماً ط تَتَذَكَّرُونَ هـ سُلْطاناً ط للاستفهام بعد تمام الاستفهام بِالْأَمْنِ ج لأن جواب «إن» منتظر محذوف التقدير: إن كنتم تعلمون فأجيبوا مع اتحاد الكلام الْمُشْرِكِينَ هـ لتناهي الاستفهام وابتداء إخبار، ولو وصل اتصل بما قبله يهتدون هـ عَلى قَوْمِهِ ط مَنْ نَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ.
102
التفسير:
إنه سبحانه كثيرا ما يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم صلوات الرحمن عليه لأنه يعرف بالفضل والتقدم عند جميع الطوائف، وذلك أنه سلم قلبه للرحمن ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان. ثم إن بظاهر الآية يدل على أن اسم والد ابراهيم هو آزر، ومنهم من قال: اسمه تارح. قال الزجاج: لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح، فمن الملحدة من طعن في هذا النسب لهذا السبب. والجواب أن إجماع النسابة لا عبرة به لأن ذلك ينتهي إلى قول الواحد أو الأثنين- مثل وهب وكعب- أو غيرهما.
سلمنا أن اسمه كان «تارح» لكنه من المحتمل أن يكون أحدهما لقبا والآخر اسما أصليا، أو يكون آزر صفة مخصوصة في لغتهم كالمخطىء والمخذول. وقيل: إن آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهذا عند من يجوز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب. وقيل:
إن آزر اسم صنم يجوز أن ينبز به للزومه عبادته، فإن من بالغ في محبة واحد فقد يجعل اسم المحبوب اسما للمحب قال تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: ٧١] وقال الشاعر:
وكل له سؤل ودين ومذهب ووصلكم سؤلي وديني رضاكم
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها كأن أسماء أضحت بعض أسمائي.
أو أريد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: إن والد إبراهيم كان تارح وكان آزر عما له والعم قد يطلق عليه اسم الأب بدليل قوله نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: ١٣٣] ومعلوم أن إسماعيل كان عما ليعقوب. ومما يدل على صحة ظاهر الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا حراصا متهالكين على تكذيب الرسول ﷺ وإظهار نقصه، فلو كان النسب كذبا لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه، وحيث لم يكذبوه علمنا أن النسب صحيح، قالت المعتزلة ومن يجري مجراهم: إن أحدا من آباء الرسول ﷺ ما كان كافرا وفسروا قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: ٢١٩] بانتقاله من ساجد إلى ساجد وأكدوه بما
روي أنه ﷺ قال: «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»
وإن آزر كان عم إبراهيم وما كان والدا له لأن إبراهيم شافهه بالغلظة والجفاء في قوله: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وقد قال تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء: ٢٣] ولأنه ناداه بالاسم في قراءة من قرأ «آزر» بالضم. والنداء بالاسم دليل الاستخفاف ولهذا لم يقرأ بالضم في قوله وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي [الأعراف: ١٤٢] وأجيب بأن قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: ٢١٩] يحتمل وجوها أخرى سوف يجيء ذكرها، وبأن
قوله «لم أزل أنتقل»
محمول على أنه لم يقع في نسبه ما كان سفاحا. والتغليظ من إبراهيم إنما كان لأجل إصرار
103
أبيه على الكفر كما قال فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة: ١١٤] لا لأجل السفه والجفاء لقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: ٧٥] ثم إن إبراهيم احتج على فساد اعتقاد عبدة الأصنام بقوله منكرا على آزر وقومه أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أي معبودين. وذلك أن الأصنام لو كان لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافيا فلما لم يكن الواحد كافيا دل ذلك على عجزها وإن كثرت، واحتج بعضهم بالآية على وجوب معرفة الله تعالى، وعلى أن وجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع لأن إبراهيم حكم عليهم بالضلال من حيث النظر والاستدلال، وأجيب بأنه لعله عرف ضلالهم بحكم شرع الأنبياء المتقدمين عليه وَكَذلِكَ أي مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام والاشتغال بغير الله نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والنكتة فيه أن التخلي عن غير الله يوجب رفع الحجاب وبقدر ذلك يكون حصول التجلي والتحلي بالله وإنما لم يقل «أريناه» بلفظ الماضي لأنه أراد الحكاية كأنه قيل: كيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ في قوة الدين والذب عنه؟ فأجيب أنا كنا نريه الملكوت وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه، أو المقصود بيان ارتفاعه في معارج الكمال وازدياده في ذلك على سبيل الدوام والاستمرار فإن مخلوقاته تعالى وإن كانت متناهية في الذات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على ذاته وصفاته سبحانه غير متناهية كما قال إمام الحرمين: معلومات الله غير متناهية، ومعلوماته في تلك المعلومات أيضا غير متناهية. فإن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، فكل تلك الأحوال التقديرية معلومة لله تعالى، وكل تلك الأحوال دالة على حكمة الله تعالى وعظمة قدرته، وإذا كان الجوهر الفرد كذلك فكيف كل الملكوت! ولهذا قيل: السفر إلى الله تعالى له نهاية، فأما السفر في الله سبحانه فإنه بلا نهاية. والملكوت هو الملك والتاء للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت ومن الرهبة. قال بعضهم: إنه سبحانه أراه الملكوت بالعين. قالوا: شق له السموات حتى رأى العرش والكرسي إلى منتهى الأجرام العلوية، وشق له الأرض إلى ما تحت الثرى فرأى ما فيها من البدائع والعجائب.
عن ابن عباس أنه قال: لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأري ما فيها وما في الأرض من العجائب رأى عبدا على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك، فقال الله تعالى له: كف عن عبادي فهم بين خلال ثلاث: إما أن أجعل منهم ذرية طيبة، أو يتوبون فأغفر لهم، أو النار من ورائهم.
وقال الأكثرون: إن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة، لأن ملك السموات والأرض لا يرى وإنما يعرف بالعقل ولو أريد نفس السموات والأرض صار لفظ الملكوت ضائعا. وأيضا قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ جار مجرى الشرح والتفسير لتلك الإراءة فثبت أنه استدل بتغير الأجرام وإمكانها
104
وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم. ثم قال بالآخرة وَتِلْكَ حُجَّتُنا والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه. وأيضا الإراءة بالعين تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الآخرة. وأيضا اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين، أو ليكون من الموقنين نريه، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سببا للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: ٥٦] وأيضا الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله. أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى الصانع الحق الواجب فكأنه بهاتين المقدمتين قد طالع صفحة الملكوت بعين عقله وسمع بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: ٥٣] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا
قال ﷺ في دعائه «أرني الأشياء كما هي»
ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منها نوع تأثير وقوة، ويكون جاريا مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نورا وإشراقا وانبساطا إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قال في الكشاف: إنه معطوف على قوله وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وقوله وَكَذلِكَ نُرِي جملة وقعت اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه.
يقال: جن عليه الليل وأجنه الليل. والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين. وقيل: جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي ب «على». وأما «أجنة» فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم. واعلم أن كثيرا من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه السلام به وما أظهرت حملها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه، وكان يتعهده جبريل عليه السلام وكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه. وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت:
105
أنا. فقال: من ربك؟ فقالت: أبوك. فقال لأبيه: من ربك؟ فقال: ملك البلد. فعرف إبراهيم جهلهما بربهما. فنظر من باب ذلك الغار ليرى ما يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي كان أصغر النجوم في السماء فقال: هذا ربي إلى آخر القصة. ثم منهم من قال: كان هذا بعد البلوغ وأوان التكليف، ومنهم من قال: كان هذا قبل البلوغ.
وأكثر المحققين على فساد هذا القول لوجوه منها: أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر لا يجوز على الأنبياء بالاتفاق. ومنها أن إبراهيم كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة لأن الله تعالى أخبر عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد بالرفق مرارا بقوله يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
[مريم: ٤٢] الآيات. وفي هذا الموضع دعا أباه إلى التوحيد بالكلام الخشن، والدعوة بالرفق مقدمة على الدعوة بالخشونة والغلظة. ومنها أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه ملكوت السموات والأرض بدليل فاء التعقيب في قوله فَلَمَّا جَنَّ ومنها أنه تعالى وصفه بقوله إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: ٨٤] ومدحه بقوله وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: ٥] أي من أول زمان الفطرة. ومنها قوله عقيب هذه القصة وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ولم يقل «على نفسه». ومنها أنه قال بعد القصة يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم. ومنها قوله وَحاجَّهُ قَوْمُهُ وفيه دليل على أنه إنما اشتغل بالنظر في الكواكب بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فقال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ردا عليهم وتنبيها على فساد قولهم، ويؤكده قوله كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ لأنه يدل على أنهم كانوا قد خوفوه بالأصنام كما في قصة هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ
[هود: ٥٤] ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار، وكان ينبغي أن يستدل أوّلا بغروب الشمس على عدم إلهيتها ثم يبطل إلهية القمر وسائر الكواكب بالطريق الأولى، ولما لم يكن كذلك علمنا أن المقصود إلزام القوم وإفحامهم. والابتداء بأفول الكوكب لأنه اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم، ثم امتدت المناظرة الى أن طلعت الشمس. ثم هاهنا احتمالان: الأول أن يقال إن هذا كلام إبراهيم بعد البلوغ ولكنه ذكره بلفظهم حتى يرجع إليه فيبطله، مثاله: أن يقول في مناظرة من يزعم قدم الجسم: الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده ونراه متركبا متغيرا. فقولك «الجسم قديم» إعادة لكلام الخصم لإلزام الحجة عليه، أو المراد هذا ربي في زعمكم واعتقادكم كقول الموحد للجسم: الإله جسم محدود أي في زعمه واعتقاده. قال تعالى وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: ٦٢] وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] أي عند نفسك.
وكان ﷺ يقول: يا إله الآلهة في زعمهم.
أو المراد منه
106
لاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام لدلالة الكلام، أو أضمر القول أي يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا [البقرة: ١٢٧] أي يقولان ربنا وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ [الزمر: ٣] أي يقولون: ما نعبدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا [الزمر: ٣] أو ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء، أو أنه عليه السلام قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة لم يقبلوا قوله فمال إلى الاستدراج وذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم مع أن إبراهيم كان مطمئنا بالإيمان فكان بمنزلة المكره على كلمة الكفر حيث لم يجد إلى الدعوة المأمور بها طريقا سوى ذلك. وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة تعود إلى شخص واحد لقوله تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: ١٠٦] فلأن يجوز ذكرها لتخليص جم غفير من الكفر والعقاب الأبدي أولى. قالت العلماء: إن المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر. ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم. وإن من كان في الصلاة فرأى طفلا أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذهما ومثل هذه الواقعة قوله فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٨] وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجوم على الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع إنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام. قال المتكلمون: إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية، لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يروج التلبيس ولكنه لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوّة كاذبا لأن التلبيس يروج حينئذ فكذا هاهنا قوله هذا رَبِّي لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي ذلك استدراج لهم لقبول الدليل فكان جائزا. الاحتمال الثاني: أنه ذكر ذلك قبل البلوغ فلعله خطر بباله لشدة ذكائه قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا الفكر فقال عند أفول الشمس إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ واعلم أن القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل يربيه محتملة في الجملة، لأن الإرهاص- وهو تقديم المعجز على وقت الدعوى- جائز عندنا. ولم يجوّزه القاضي إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله تعالى فتكون تلك الخوارق معجزة لذلك الرسول. قال في الكشاف: فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. وأنا أقول: الاحتجاج بالبزوغ في
107
الآية لا يصح لأنه تعالى بين أنه نظر إلى الكوكب وقت كونه طالعا لا حين بزوغه ليلزم مشاهدة التغير والانتقال، وكذا إلى القمر وإلى الشمس دليله أنه لم يقل رأى القمر يبزغ بل بازغا. ولو سلم فإن أحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص والأوساط والعوام، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان فكل ممكن محتاج والمحتاج لا يجوز أن يكون منقطع الحاجات فلا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات. وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة، فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب، فكل كوكب يغرب فإنه يزول نوره ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك فإنه لا يصلح للإلهية، أقصى ما في الباب أن يقال: إن لها تأثيرات في أحوال العالم السفلى، ولكن تلك التأثيرات لما لم تكن لها بذاتها لزم استناد الكل إلى الواجب سبحانه وهو الإله الأعظم القادر على خلق السموات والنجوم النيرات، فيجب ان يكون قادرا على خلق البشر وعلى تدبير السفليات بالطريق الأولى فلا يلزم من وضع الواسطة رفع المبدإ بحال، ويعلم من قوله لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائبا عنا فكان آفلا، وإنه لا يصح عليه المجيء والذهاب والنزول والصعود ولا الصفات المحدثة. وفيه أن معارف الأنبياء استدلالية لا ضرورية وأنه لا سبيل إلى معرفته تعالى إلا النظر والاستدلال. أما قوله فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً يقال بزغ القمر أو الشمس إذا
ابتدأ بالطلوع. وأصل البزغ الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا قاله الأزهري. وفي قوله لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إشارة إلى أن الهداية ليست إلا من الله تعالى. والمعتزلة حملوها على التمكين وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل، وزيف بأن كل ذلك كان حاصلا فالهداية التي كان يطلبها بعد ذلك لا بد أن تكون زائدة عليها فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي أراد هذا الطالع أو هذا المرئي، أو ذكر بتأويل الضياء والنور، أو باعتبار الخبر وهو رب مع رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند اللفظ الدال على الربوبية كما لم يقولوا في صفة الله علامة وإن كانت بتاء مبالغة هذا أَكْبَرُ أي أكبر الكواكب جرما ونورا، وقد برهن في الهيئة على أنها مائة وستة وستون مثلا لكرة الأرض كلها. وإنما لم يقتصر على ذكر الشمس أوّلا مع أنه يلزم منه عدم ربوبية ما دونها من القمر والكواكب، لأنه أراد الأخذ من الأدون إلى الأعلى لمزيد التقرير والتصوير يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ قيل: لا يلزم من نفي ربوبية النجوم نفي الشريك مطلقا. والجواب أن القوم لم ينازعوه إلا في الصور المذكورة، فلما أثبت أنها ليست أربابا ثبت بالاتفاق نفي الشركاء على الإطلاق. ومعنى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ وجهت عبادتي لأجله فإن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يوجه وجهه إليه، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة. وأصل الفطر الشق يقال: تفطر الشجر بالورق والورد إذا
108
أظهرهما، والحنيف المائل عن كل معبود سوى الله تعالى. قال أبو العالية: الذي يستقبل البيت في صلاته.
ثم إن قومه حاجوه متمسكين بالتقليد تارة كقولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: ٢٢] وكقولهم للرسول ﷺ «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥] ومخوّفين إياه بالأصنام أخرى فأجابهم بقوله أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ أي لما ثبت بالدليل الموجب للهداية صحة قولي فكيف ألتفت إلى حجتكم الواهية؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر إِلَّا أَنْ يَشاءَ إلا وقت مشيئة رَبِّي شيئا يخاف. فحذف المضاف أي إلا إن أذنبت فيشاء إنزال العقوبة بي، أو إلا أن يريد ابتلائي بمحنة، أو إلا أن يمكن بعض تلك الأصنام من ضري مثل أن يرجمني بكوكب، أو كان قد أودع فيها طلسم فيصيبني مكروه من جهته بإذن الله تعالى، وفائدة الاستثناء أنه لو حدث به شيء من المكاره في الأيام المستقبلة لم يحمله الحمقى والجهلة على قدرة الأصنام وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فلا يفعل إلا الخير والصلاح أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أن نفي الأنداد عن رب الأرباب لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب، وأن الصحيح لا يساوي الفاسد، والعاجز لا يساوي القادر؟ ثم أكد ذلك بقوله وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً إذ لا سلطان فينزل.
وقيل: إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للصلاة والدعاء، ولكنه لم يؤمر به. والمعنى ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم إلا من في موضع الخوف؟ ثم قال فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يعني فريقي المشركين والموحدين. ولم يقل «فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم»
اجتنابا عن تزكية نفسه. والغرض إني أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله الَّذِينَ آمَنُوا الآية، والمعنى أن الذي حصل لهم الأمن المطلق هم المستجمعون لكمال القوة النظرية وسنامه الإيمان، ولكمال القوة العلمية وهو وضع الأشياء في موضعها وإليه الإشارة بقوله وَلَمْ يَلْبِسُوا أي لم يخلطوا إيمانهم بِظُلْمٍ. قالت الأشاعرة: شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم، ولو كان ترك الظلم داخلا في الإيمان لم يكن لهذا التقييد فائدة فثبت أن الفاسق مؤمن. وقالت المعتزلة: شرط في حصول الأمن حصول الأمرين: الإيمان وعدم الظلم. فوجب أن لا يحصل إلا من للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له أبدا. وأجيب بأن الظلم هاهنا الشرك لقوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] واجتماعه مع الإقرار بالصانع ممكن وحينئذ يصح إطلاق اللبس بمعنى الخلط ويكون المراد: الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا له شريكا في
109
المعبودية، ويؤيده أن القصة وردت في نفي الأضداد والأنداد. وأيضا لا يلزم من عدم الأمن المطلق حصول القطع بالعذاب الأبدي. واعلم أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للذم والإنكار كمحاجة قوم إبراهيم، وتارة تكون موجبة للمدح وذلك إذا كان الغرض تقريرا لدين الحق والمذهب الصدق كمحاجة إبراهيم من قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى هاهنا وإليها الإشارة بقوله وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها ووفقناه لها نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من قرأ بالإضافة فظاهر لأنه رفع يتعدى إلى واحد، ومن قرأ بالتنوين فيكون كقوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: ٢٥٣] وقد تقدم في البقرة، واختلف في تلك الدرجات فقيل: أعماله في الآخرة، وقيل: تلك الحجج درجات رفيعة لأنها تقتضي ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعلى العالم الروحاني، وقيل: نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة، وفي الآخرة بالجنة والثواب. أو نرفع درجات من نشاء بالحكمة والعلم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فيرفع الدرجات بمقتضى الحكمة والعلم لا لموجب التشهي والشهوة.
التأويل:
رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقنا عند كشف الضلال المودع في آزر وقومه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعا من أفق سماء روحانيته فقال: هذا رَبِّي أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل:
هوى فؤادي ولم يعلم به بدني فالجسم في غربة والروح في وطن
فإن كذبت النفس فيما قالت للكوكب «هذا ربي» ما كذب الفؤاد ما رأى من الكوكب.
فقال هذا رَبِّي فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فلما اتسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عن الحق كآزر وقومه. فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية، وأشرقت أرض القلب بنور ربها قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ شمس الهداية تعززا وتعظما ليغرب إبراهيم عليه السلام عن شرك الأنانية.
110
تبرأ عن الأضداد والأنداد ونزعته همة الخلة عن الجهات وخلصه تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال. فقال يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وقد يدور في الخلد أن إبراهيم صلوات الله الرحمن عليه جن عليه ظلمة الشبهة فنظر أولا في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغير فلم يرها تصلح للإلهية، فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجردة، فصادفها آفلة في أفق الإمكان فلم يبق إلا الواجب الحق. ومن الناس من حمل الكوكب على الحس، والقمر على الخيال، والشمس على الوهم والعقل، ومراده أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة، ومدبر العالم قاهر لها مستول عليها وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ليسبلوا ستور شبههم على شموس عرفانه، وقد هداني إليه بالعيان بعد توالي البرهان إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً من الخذلان وهذا محال لأنه وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فهو أعلم بأهل العرفان وبأصحاب الخذلان وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ بشرك الالتفات إلى غيره من الأكوان حتى قال لجبريل: أما إليك فلا وَتِلْكَ يعني إراءة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والتبري عما سواه والخلاص عن شرك الأنانية والإيمان الحقيقي بالعيان حتى ارتقى من الأفعال إلى الصفات ثم إلى الذات آتَيْناها إِبْراهِيمَ بذاتنا من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بجذبات الألوهية عن حضيض الأنانية الله حسبي.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٤ الى ٩٠]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
القراآت:
وَالْيَسَعَ بتشديد اللام: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالتخفيف، اقْتَدِهْ بإشباع الهاء: ابن عامر الحلواني عن هشام مختلسة، وبحذف الهاء في الوصل:
سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بسكون هاء السكت على الأصل.
الوقوف:
وَيَعْقُوبَ ط كُلًّا هَدَيْنا ج لأن وَنُوحاً مفعول ما بعده، ولو وصل
111
التبس بأنه مفعول ما قبله مع اتفاق الجملتين وَهارُونَ ط الْمُحْسِنِينَ هـ لا للعطف وَإِلْياسَ ط مِنَ الصَّالِحِينَ هـ لا للعطف وَلُوطاً ط الْعالَمِينَ هـ لا للعطف.
وَإِخْوانِهِمْ ج لبيان أن قوله وَاجْتَبَيْناهُمْ يعود إلى قوله كُلًّا هَدَيْنا كقوله وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا [مريم: ٥٨] ولاحتمال الواو الحال أي وقد اجتبيناهم وذكر هديناهم بعده مُسْتَقِيمٍ هـ مِنْ عِبادِهِ ط يَعْمَلُونَ هـ وَالنُّبُوَّةَ ج بِكافِرِينَ هـ اقْتَدِهْ ط أَجْراً ط لِلْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
لما حكى حجج إبراهيم صلوات الرحمن عليه في التوحيد والذب عن الدين الحنيفي عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه بعد نعمة إيتاء الحجة ورفع الدرجة فقال وَوَهَبْنا لَهُ باللفظ الدال على العظمة كما يقوله عظماء الملوك ليدل بذلك على عظم العطية، وذلك أنه جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وعقبه. قيل: وإنما لم يذكر إسماعيل مع إسحق وإن كان هو أيضا ابنه لصلبه، لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب، وأما إسماعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذكر محمد ﷺ في هذا المقام لأنه أمر محمدا أن يحتج على العرب بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد شرفه الله بالنعم الجسام في الدين والدنيا، ومن جملة ذلك أن آتاه أولادا كانوا ملوكا وأنبياء، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض، فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحق. أما قوله وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ فالمقصود منه بيان كرامة إبراهيم بحسب الآباء أيضا مثل نوح وإدريس وشيث، وأما الضمير في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ فقد قيل: إنه يعود إلى «نوح» لأنه أقرب ولأنه تعالى ذكر في جملتهم لوطا وهو كان ابن أخي إبراهيم وما كان من ذريته، بل كان من ذرية نوح، ولأن ولد الإنسان لا يقال إنه ذريته فعلى هذا إسماعيل ما كان من ذرية إبراهيم وكان من ذرية نوح، ولأن يونس عليه السلام لم يكن من ذرية إبراهيم على قول بعضهم. وقيل: الضمير عائد إلى إبراهيم لأنه هو المقصود بالذكر في هذا المقام. واعلم أن الله تعالى ذكر أربعة من الأنبياء وهم: نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب. ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر نبيا: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا. فالمجموع ثمانية عشر. وأنه لم يراع الترتيب بينهم في الآية لا بحسب الفضل والشرف ولا بحسب الزمان والمدة، فاستدل العلماء بذلك على أن الواو لا تفيد الترتيب. وقال في التفسير الكبير: إن وجه الترتيب أنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الكرامة. فمن المراتب المعتبرة عند الجمهور الملك
112
والسلطنة وقد أعطى داود وسليمان من ذلك نصيبا عظيما، والمرتبة الثانية البلاء والمحنة وقد خص أيوب بذلك، والثالثة استجماع الحالتين وذلك في حق يوسف فإنه ابتلي أوّلا ثم أوتي الملك ثانيا. الرابعة قوّة المعجزات وكثرة البراهين والبينات وذلك حال موسى وهارون الخامسة الزهد الكامل كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا وصفهم بأنهم من الصالحين. السادسة الأنبياء الذين ليس لهم في الخلق أتباع ولا أشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط. وأما المراد بقوله كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا قيل: المراد الهداية إلى طريق الجنة بدليل قوله وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فإن جزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب. وقيل: لا يبعد أن يقال: المراد الهداية إلى الدين والمعرفة لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فجازاهم الله بالوصال والوصول كما قال وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: ٦٩] وقيل: إنها الإرشاد إلى النبوّة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك، وهذا إنما يصح عند من جوز أن تكون الرسالة جزاء على عمل. واستدل بعضهم بقوله وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وذلك أن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملائكة وكذا الأولياء. وقيل: فضلناهم على عالمي زمانهم فلا يتم الاستدلال. قال القاضي: ويمكن أن يقال: المراد وكل من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين. ثم الكلام في أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام آخر لا تعلق له بالأول. ثم قال وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ معطوف على كلًّا أي فضلنا بعض آبائهم. فالآباء هم الأصول، والذريات هم الفروع، والإخوان فروع الأصول. وفيه دليل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء بنوع من الشرف والكرامة. ثم إن قلنا المراد من الهداية الهداية إلى الثواب والجنة فقوله مِنْ آبائِهِمْ
وكلمة «من» للتبعيض يدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة، وإن فسرنا الهداية بالنبوة لم يفد ذلك إلا أنه يفيد أن لا تكون المرأة رسولا ولا نبيا وَاجْتَبَيْناهُمْ أي اصطفيناهم من جبيت الماء في الحوض وجبوته أي جمعته، ذلِكَ هُدَى اللَّهِ إشارة إلى معرفة التوحيد والتنزيه بدليل قوله وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ وفيه دليل على أن الهداية من الله تعالى وليس للعبد فيها اختيار. وفيه تهديد عظيم كقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] والغرض من ذلك زجر الأمة. أُولئِكَ يعني الأنبياء الثمانية عشر. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ولا بد بحكم العطف من تغاير الأمور الثلاثة. ووجه بأن الحكام على الخلق ثلاث طوائف: الحكام على بواطن الناس وهم العلماء، والحكام على ظواهر الخلق وهم السلاطين، والجامعون بين الأمرين وهم الأنبياء. فالأمور الثلاثة إشارة إلى هذه الأصناف الثلاثة. ومعنى إيتاء الكتاب الفهم
113
التام بما في هذا الجنس والعلم المحيط بحقائقه وأسراره. ولو قيل: المراد بالإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل كصحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى لم يشمل كل المذكورين لأنه تعالى ما أنزل على كل واحد منهم كتابا على التعيين. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بالأمور الثلاثة أو بالنبوة هؤُلاءِ يعني أهل مكة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ أي ليسوا كافرين بها ومن توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. ومن القوم؟ قيل: كل مؤمن وقيل: أهل المدينة وهم الأنصار.
وقيل: هم والمهاجرون. وقال الحسن: هم الأنبياء الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج لقوله عقيب ذلك أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وقال أبو رجاء: يعني الملائكة وضعف بأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم. وفي الآية دلالة على أنه تعالى سينصر نبيه ويظاهر دين الإسلام على كل الأديان وقد وقع ما وعد وكان إخبارا بالغيب فصح إعجاز القرآن. وفيها استدلال للأشاعرة على أنه تعالى خلق قوما للإيمان ولو كان خلق الكل للإيمان والبيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركا بين الكل لم يصح هذا التخصيص. أجاب الكعبي بأنه زاد المؤمنين من الألطاف ما لا يحصيه إلا الله، وبتقدير أن يستوي فإذا لم ينتفع به الكافر صح بحسب الظاهر أن يقال إنه لم يحصل له تلك الألطاف. ورد بأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشترك فيها بين الكافر والمؤمن، وبأن الوالد لما سوّى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوّز أن يقول أحد إن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئا فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ من حذف الهاء في الوصل فعلى الأصل، ومن أثبتها في الوصل كما في الوقف أراد موافقة المصحف فإن الهاء ثابتة في الخط فكره مخالفة الخط في الحالين. وأما قراءة ابن عامر بكسر الهاء بغير إشباع فقال أبو بكر بن مجاهد: إنها غلط. وقال أبو علي الفارسي:
ليست بغلط ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر الدال عليه الفعل. والتقدير: فبهداهم اقتد الاقتداء. وتقديم المفعول للاختصاص أي لا تقتد إلا بهم. ولا خلاف في أنه أمر لمحمد ﷺ بالاقتداء بالأنبياء المذكورين. إنما الكلام في تفسير الهدى. فمن الناس من قال: المراد الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال. وقال آخرون: المراد به الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل، وعلى هذا فيلزمنا شرع من قبلنا، وقيل: اللفظ مطلق فيحمل على الكل إلا ما خصه الدليل المفصل. وقال القاضي: هذا بعيد لأن شرائعهم مختلفة متناقضة ولا يمكن الإتيان بالأمور المتناقضة معا، ولأن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل، ودليل إثبات شرعهم كان مخصوصا بتلك الأوقات، ولأن منصبهم يلزم أن يكون أجل من منصبه وأنه باطل بالإجماع، وأجيب بأن العام يجب تخصيصه في الصورة المتناقضة فيبقى فيما عداها حجة، وبأن
114
المستدل بالدليل فصل في ذلك الحكم فلا معنى للاقتداء بالدليل إلا إذا كان فعل الأول سببا لوجوب الفعل على الثاني، وبأنه يلزم أن يكون منصبه أجل من منصبهم لأنه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيها كالشكر في داود وسليمان، والصبر في أيوب، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى، والصدق في إسماعيل، والتضرع في يونس، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون، ولهذا
قال «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي».
ولما أمره بالاقتداء بالأنبياء وكان من جملة هداهم أن لا يطلبوا الأجر أي المال والجعل في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة قيل له: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ أيها الأمة عَلَيْهِ على البلاغ أَجْراً إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد. وفيه دليل على أنه ﷺ كان مبعوثا إلى الناس كافة لا إلى قوم دون قوم.
التأويل:
ومما رفعنا به درجات إبراهيم أنا وهبنا له إسحق ويعقوب. ولعله أفرد ذكر إسماعيل لمكان محمد ﷺ وآله كيلا يقع ذكره تبعا لموهبة إبراهيم، فإن الكائنات تبيع لوجود محمد ﷺ وآله، ومن آبائهم إلى آدم ومن ذرياتهم إلى محمد وَاجْتَبَيْناهُمْ في الأزل لهذا الشأن وَهَدَيْناهُمْ إلى الأبد وَلَوْ أَشْرَكُوا بأن لاحظوا غيرنا فأثبتوا شيئا من دوننا ونسبوا شيئا من الحوادث إلى غير قدرتنا، أو لم يبدلوا أنانيتهم في هويتنا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لتلاشي عرفانهم وتلف ما سلف من إحسانهم فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ لأنهم سلكوا حتى انتهى مسير كل منهم إلى ما قدر له: آدم في السماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، وجميع الملائكة المقربين إلى سدرة المنتهى، وأنت محمد إلى مقام قاب قوسين أو أدنى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ أيها الأنبياء على الاقتداء أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ليعلموا أن الطريق إلى الله لا يسلك إلا بالاقتداء، أو لا أَسْئَلُكُمْ أيها الأمة على دعوتكم إلى الحق أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ من الله وبه وإليه وهو المستعان.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩١ الى ١٠٠]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)
115
القراآت:
يجعلونه يبدونها ويخفون بياءات الغيبة: أبو عمرو وابن كثير، الباقون: على الخطاب ولينذر بياء الغيبة: أبو بكر وحماد. الباقون: بتاء الخطاب بَيْنَكُمْ بفتح النون: أبو جعفر ونافع وعلي وحفص والمفضل. الباقون: بالرفع وَجَعَلَ اللَّيْلَ على لفظ المضي ونصب الليل عاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون وجاعل الليل على لفظ اسم الفاعل وبالإضافة وَجَنَّاتٍ بالرفع: الأعشى والبرجمي الباقون: بالنصب فَمُسْتَقَرٌّ بكسر القاف: أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب. الباقون: بالفتح ثَمَرِهِ بضمتين: حمزة وعلي وخلف وكذلك في آخر السورة ويس. الباقون: بفتحتين وَخَرَقُوا بالتشديد: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالتخفيف.
الوقوف:
مِنْ شَيْءٍ ط كَثِيراً ط لمن قرأ يجعلونه بياء الغيبة. ومن قرأ بالتاء فوقفه حائز لانتهاء الاستفهام مع اتفاق الخطاب على تقدير وقد علمتم آباؤُكُمْ ط قُلِ اللَّهُ ط لأن قوله ذَرْهُمْ معطوف على قُلْ يَلْعَبُونَ هـ وَمَنْ حَوْلَها ط يُحافِظُونَ هـ أَنْزَلَ اللَّهُ ط أَيْدِيهِمْ ج لاتساق الكلام معنى مع تقدير
116
حذف أي يقولون أخرجوا أَنْفُسَكُمُ ط لأن المراد من اليوم يوم القيامة تَسْتَكْبِرُونَ هـ ظُهُورِكُمْ ج لاتحاد القول. والوقف أوضح لابتداء النفي وانقطاع النظم شُرَكاءُ ط تَزْعُمُونَ هـ وَالنَّوى ط مِنَ الْحَيِّ ط تُؤْفَكُونَ هـ فالِقُ الْإِصْباحِ ج لمن قرأ وَجَعَلَ لانقطاع النظم واتصال المعنى على تقدير فلق وجعل، أو وقد جعل وعامل الحال معنى الفعل في فالق حُسْباناً ط الْعَلِيمِ هـ وَالْبَحْرِ ط يَعْلَمُونَ هـ وَمُسْتَوْدَعٌ ط يَفْقَهُونَ هـ ماءً ج للعدول مع اتحاد المقصود مُتَراكِباً ط ومن قرأ وَجَنَّاتٍ بالرفع فللعطف على قِنْوانٌ لفظا فيلزمه وقفه على دانِيَةٌ وإلا فليعطف ويفهم أن جَنَّاتٍ من جملة النخل، ومن خفض فوقفه على مُتَراكِباً جائز للعطف على قوله خَضِراً مع وقوع العارض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ط وَيَنْعِهِ ط يُؤْمِنُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط يَصِفُونَ هـ.
التفسير:
اعلم أن مدار القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد. فبعد ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك شرع في تقرير أمر النبوة فقال وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قال ابن عباس: أي ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أنكروا النبوة والرسالة. وقال أيضا في رواية: ما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير. وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته. وقال الأخفش:
ما عرفوه حق معرفته أي في اللطف بأوليائه أو في القهر لأعدائه، وقال الجوهري: قدر الشيء مبلغه وقدرت الشيء أقدره وأقدره قدرا من التقدير أي حرره وعرف مقداره. ثم بيّن سبب عدم عرفانه بقوله إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وإنما كان منكر البعث والرسالة غير عارف بالله تعالى، لأنه إما أن يدعي أنه تعالى ما كلف أحدا من الخلائق تكليفا أصلا وهو باطل لأنه فتح باب المنكرات والقبائح بأسرها، وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ولكن لا على ألسنة الرسل وهذا أيضا جهل. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون العقل كافيا في إيجاب الواجبات وحظر المنكرات؟ فالجواب هب أن الأمر كذلك إلا أنه لا يمتنع تأكيد التصريف العقلي بل يجب تفصيل ذلك المجمل بالتعريفات المشروحة على ألسنة الرسل، لأن أكثر العقول قاصرة عن إدراك مدارك الأحكام الشرعية كما أن نور البصر قاصر عن إدراك المبصرات إلا إذا أعين بنور من خارج كنور الشمس أو السراج.
وأيضا تفويض مصالح العباد إلى مقتضى عقولهم يؤدي إلى التنازع والتشاجر لتصادم الأهواء وتناقض الآراء فلا بد من أن يتفقوا على واحد يصدرون عن رأيه، وتعيين ذلك الواحد من الخلق ترجيح بلا مرجح وإشراف على الضلال لاحتمال الخطأ في اجتهادهم، فلعل الخير في نظرهم يكون شرا في نفس الأمر فلزم أن يكون التعيين من الله سبحانه بكونه أعرف
117
بالبواطن كقوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] وإنما يعرف ذلك المعين بظهور المعجزة على وفق دعواه تصديقا له، ومن أنكر ذلك ولم يجوّز خرق العادة فقد وصف الله تعالى بالعجز ونقصان القدرة. وقد طعن بعض الملحدة في الآية بأن هؤلاء القائلين إن كانوا كفار قريش أو البراهمة فهم ينكرون رسالة كل الأنبياء كما ينكرون رسالة محمد ﷺ فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى على أن قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ بتاء الخطاب إنما يليق باليهود وإن كانوا أهل الكتاب فهم لا يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء، بل يقرّون بنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى. وأيضا الأكثرون اتفقوا على أن السورة مكية وأنها نزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع رسول الله ﷺ وآله كانت مدنية، فكيف يمكن حمل الآية على تلك المناظرة؟
والجواب أنهم إن كانوا كفار قريش فإنهم كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات على يد موسى كالعصا وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها وكان جاريا مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى، وعلى هذا لا يبعد إيراد نبوة موسى إلزاما لهم في قولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ولما كان كفار قريش مع اليهود والنصارى متشاركين في إنكار نبوة محمد ﷺ وآله لم يبعد أن يكون الكلام الواحد خطأ بالكفار قريش أوّلا ولأهل الكتاب آخرا وأما إن كانوا أهل الكتاب- وهو المشهور عند الجمهور- فالوجه ما
روي عن ابن عباس أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلا سمينا دخل على رسول الله ﷺ وآله فقال له رسول الله ﷺ وآله: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود. فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له قومه: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني.
ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. فلعل مالك بن الصيف لما تأذى من الكلام المذكور طعن في نبوة الرسول ﷺ وإنه ما أنزل عليه من شيء البتة فأمر بأن يقول في جوابه مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى أي لما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر وهو موسى فكيف يمكنك أن تقطع بأنه ما أنزل عليّ شيئا غاية ما في الباب أن تطالبني بالمعجز. والحاصل أنهم قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله ﷺ فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بالتحريف وإبداء بعض وإخفاء بعض. وقيل: اللفظ وإن كان مطلقا بحسب اللغة إلا أنه مقيد بحسب العرف بتلك الواقعة، فكأنه قال: ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين، وهذا كما إذا أرادت المرأة أن تخرج من الدار فغضب الزوج
118
وقال: إن خرجت من الدار فأنت طالق، فإن كثيرا من الفقهاء قالوا: التعليق مقيد بتلك المرة حتى لو خرجت مرة أخرى لم تطلق. ويرد على هذا التوجيه أن قوله مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى لا يكون مبطلا لكلام الخصم. أما قوله «إن السورة مكية والمناظرات مدنية» فأجيب عنه بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة والله أعلم.
ومن الأحكام المستنبطة من الآية أن قوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يفيد أن عقول الخلق قاصرة عن كنه معرفة الله تعالى وإن كانوا مقرين بالنبوة والرسالة لإطلاق قوله في موضع آخر وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ [الزمر: ٦٧] ومنها أن النكرة في سياق النفي تعم وإلا لم يكن قوله مَنْ أَنْزَلَ مبطلا لقوله ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ومنها أن النقض يقدح في صحة الكلام وإلا لم يكن في قوله مَنْ أَنْزَلَ حجة.
ويعلم منه أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقض مبطلا ضعيف وإلا بطلت حجة الله تعالى في هذه الآية، فإن لليهود حينئذ أن تقول: معجزات موسى كانت أظهر وأبهر من معجزاتك فلا يلزم نبوتك. ومنها أن الغزالي رحمه الله تكلف وقال: حاصل الآية يرجع إلى أن موسى أنزل الله عليه شيئا، وأحد من البر ما أنزل الله عليه شيئا فينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال، وليس هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف. ثم اعلم أنه سبحانه وصف كتاب موسى بكونه نورا وهدى للناس والعطف يقتضي المغايرة. فالمراد بالنور ظهوره في نفسه، وبالهدى كونه سببا لظهور غيره كقوله في وصف القرآن وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: ٥٢] قال أبو علي الفارسي تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي ذات قراطيس أي يودعونه إياها. فإن قيل:
إذا كان جميع الكتب كذلك فلم ذكر في معرض الذم؟ قلنا: لأنهم جعلوه قراطيس مفرقة مبعضة ليتوسلوا بذلك إلى إبداء بعض وإخفاء بعض مما فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم، أو شيء من الأحكام التي لا توافق هواهم كالرجم وغيره وَعُلِّمْتُمْ أيها اليهود على لسان محمد ﷺ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وقيل: كانوا يقرؤن الآيات المشتملة على نعت محمد ﷺ وما كانوا يفقهون معانيها إلى أن بعث الله محمدا، فظهر أن المراد منها هو البشارة
119
بمقدمه، وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش كقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: ٦] قُلِ اللَّهُ أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون على أن ينكروا ذلك فإن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف المؤيد قول صاحبه بالمعجزات الباهرة لا يكون إلا من الله سبحانه. ونظيره قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: ١٩] والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها، فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالغرض حاصل. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ يقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب ويَلْعَبُونَ حال من ذَرْهُمْ أو من خَوْضِهِمْ ويحتمل أن يكون فِي خَوْضِهِمْ حالا من يَلْعَبُونَ وأن يكون صلة له أو ل ذَرْهُمْ. والمعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فقد قضيت ما عليك كقوله إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٨] قيل: إنها منسوخة بآية السيف وفيه نظر لأنه مذكور لأجل التهديد فلم يكن نزول آية القتال رافعا لشيء من مدلولات هذه الآية. ثم لما ذكر حال التوراة أعقبه بذكر القرآن فقال وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ وفائدة هذا الوصف أنه كان من الممكن أن يظن أن محمدا مخصوص من الله بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب القرآن على هذا النسق من الفصاحة، فنفى ذلك الوهم وبين أن الله هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام مُبارَكٌ كثير خيره دائم نفعه باعث على الخيرات زاجر عن المنكرات لما فيه من أصول العلوم النظرية والعملية. وقد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يفوز بعز في الدنيا وسعادة في الآخرة وقد جرب فوجد كذلك. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي موافق لما قبله من الكتب الإلهية. أما في الأصول فلأنه يمتنع وقوع التفاوت فيها بحسب الأزمنة والأمكنة، وأما في الفروع فلأنها مشتملة على التبشير بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم.
ويحصل منه أن التكاليف الموجودة فيها إنما تبقى إلى وقت ظهوره ثم تصير منسوخة وَلِتُنْذِرَ من قرأ بتاء الخطاب فظاهر، ومن قرأ على الغيبة فلأنه أسند الإنذار إلى الكتاب مجازا لأنه سبب الإنذار إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء: ٤٥] وهو معطوف على ما دل عليه سائر الأوصاف كأنه قيل: أنزلناه للبركة ولتصديق ما تقدمه من الكتب وللإنذار، قال ابن عباس: سميت مكة أم القرى لأن الأرضين دحيت من تحتها. وقال أبو بكر الأصم:
لأنها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعا، وأيضا الناس يجتمعون إليها للحج وللتجارة كما يجتمع الأولاد إلى الأم. وقيل: لأن الكعبة أول بيت وضع للناس.
وقيل: إن مكة أول بلدة في الأرض ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي أهل أم القرى ومن حولها. قيل: المراد أهل جزيرة العرب فاستدل اليهود بذلك على أنه مبعوث إلى العرب فقط. وأجيب بأن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على نفي ما عداها لا سيما وقد
120
ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى العالمين. ويحتمل أن يقال: ما حوالي مكة يتناول جميع البلاد وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بهذا الكتاب لأن أصل الدين خوف العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن. وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير قاعدة البعث والقيامة مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أن كفار مكة يبعد منهم قبول هذا الدين لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والحشر وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يعني أن الإيمان بالآخرة كما أنه يحمل المكلف على الإيمان بالنبي وبالكتاب كذلك يحمله على محافظة الصلوات.
وخص الصلاة بالذكر لأنها عماد الدين وسنام الطاعات كاد المحافظ عليها أن يأتي بأخواتها كلها ويجتنب المنكرات بأسرها.
ثم ذكر ما يدل على وعيد من ادّعى النبوّة وإنزال الكتاب عليه فرية وامتراء فقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً قال المفسرون: نزلت في الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي.
عن النبي ﷺ «رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني. فأوحى الله إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا عني فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الأسود العنسي «١» ».
أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كان مسيلمة يقول: محمد ﷺ وآله رسول الله في بني قريش، وأنا رسول الله في بني حنيفة. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو بريء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلا تحت هذا الوعيد وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال المفسرون: هو النضر بن الحرث كان يدعي معارضة القرآن وهو قوله لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٣١]
وروي أيضا أن عبد الله بن سعد أبي سرح القرشي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا تلا عليه «سميعا عليما» كتب هو «عليما حكيما» وإذا قال «عليما حكيما» كتب «غفورا رحيما» فلما نزل وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٢] أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما وصل إلى قوله أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبي ﷺ اكتبها فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد ﷺ صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال فارتد عن الإسلام ولحق بمكة. فلما دخل رسول الله ﷺ مكة فر إلى عثمان- وكان أخاه من الرضاعة- فغيبه عنده حتى اطمأن أهل
(١) رواه البخاري في كتاب المناقب باب ٢٥. كتاب المغازي باب ٧٠. مسلم في كتاب الرؤيا حديث ٢١. ابن ماجه في كتاب الرؤيا باب ١٠. أحمد في مسنده (١/ ٢٦٣)، (٢/ ٣١٩).
121
مكة، ثم أتى به رسول الله ﷺ فاستأمن له.
ثم فصل ما أجمل من الوعيد فقال وَلَوْ تَرى الآية. وجوابه محذوف أي لرأي يا إنسان أمرا عظيما إِذِ الظَّالِمُونَ يعني الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة. فاللام للعهد، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج هؤلاء فيه. وغمرات الموت شدائده وسكراته. وأصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ قيل: إنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الخطاب؟ وأجيب بوجوه منها: أن المراد ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة إذا ما دخلوا جهنم، وغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بالعذاب يكلمونهم يقولون لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ من هذا العذاب الشديد إن قدرتم. ومنها وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ عند نزول الموت بهم في الدنيا وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ لقبض أرواحهم يقولون لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام، ومنها هاتوا أرواحكم وأخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويقول: أخرج إليّ مالي عليك ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك. ومنها أنه ليس بأمر وإنما هو وعيد وتقريع كقول القائل: امض الآن لترى ما يحل بك، والتحقيق أن نفس المؤمن حال النزع تنبسط في الخروج إلى لقاء ربه، ونفس الكافر تكره ذلك ويشق عليها الخروج، وقطع التعلق لأنها تصير إلى العذاب وإليه الإشارة
في الحديث «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» «١»
فهؤلاء الكفار يكرههم الملائكة على نزع الروح وعلى فراق المألوف. وفي الآية دلالة على أن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل المحسوس، لأن المخرج يجب أن يكون مغايرا للمخرج منه الْيَوْمَ يريد وقت الإماتة أو الوقت الممتد الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ كقولك «رجل سوء» بالإضافة لأن العقاب شرطه أن يكون مضرة مقرونة بالإهانة كما أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم، والتركيب يدور على قلة المبالاة بالشيء ومنه الهون بالفتح السكينة والوقار، وهان عليه الشيء أي حقر، وأهانه استخف به، والاسم الهون بالضم والهوان والمهانة.
(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ١٤- ١٨. الترمذي في كتاب الجنائز باب ٦٧. النسائي في كتاب الجنائز باب ١٠. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٤٣. الموطأ في كتاب الجنائز حديث ٥١. أحمد في مسنده (٢/ ٣١٣، ٣٤٦).
122
والحاصل أنه جمع لهم بين الأمرين الإيلام والإهانة بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ يعني أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بمجموع الأمرين:
الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وهو عدم الإيمان بها. قال الواحدي وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي لا تصلون له
لقوله ﷺ «من سجد لله سجدة واحدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر».
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا يحتمل أن يكون معطوفا على قول الملائكة أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ثم الملائكة إما الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم، وإما الملائكة الموكلون بعذابهم، ويحتمل أن يكون القائل هو الله تعالى إن جوزنا أنه يتكلم مع الكفار فُرادى جمع ينون ولا ينوّن واحده. قيل: فرد على غير قياس. وقيل: فردان كسكارى وسكران قاله ابن قتيبة. وقيل: فريد كرديف وردا في وهم الحداة والأعوان لأنه إذا أعيا أحدهم خلفه الآخر كَما خَلَقْناكُمْ أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، أو مجيئا مثل خلقنا لكم.
أَوَّلَ مَرَّةٍ والمراد التوبيخ والتقريع لأنهم بذلوا جهدهم وصرفوا كدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين: أحدهما المال والجاه، والثاني أنهم عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله فيهم فقلبوا القضية وتركوا الحقيقة، وذلك أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بالجسد ليكون البدن آلة لها في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة، فإذا فارقت البدن ولم يحصل لها هذان المطلبان عظم خسرانها وطال حرمانها فاستحق التوبيخ بقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى أي منفردين عما يجب من الأعمال والعقائد. ثم إنها مع ذلك اكتسبت أشياء قد علق الرجاء بها لأنه أفنى العمر في تحصيلها وأنها ليست مما يبقى معها فلا جرم استحق التقريع بقوله وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي أعطينا وتفضلنا به عليكم وَراءَ ظُهُورِكُمْ يعني أنها كالشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان فلن يمكنه الانتفاع به وربما بقي معوج الرأس بسبب التفاته إليه وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي ليسوا معكم حتى يروا، أو ليسوا معكم بالشفاعة والنصرة كما زعمتم بدليل قوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ الآية. من قرأ بالنصب على الظرف فمعناه وقع التقطع بينكم كقوله وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة: ١٦٦] يقال: جمع بين الشيئين أي وقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره. وقيل: المراد لقد تقطع وصلكم بينكم كقولهم إذا كان غدا فأتني أي إذا كان الرجاء أو البلاء غدا فأتني فأضمر لدلالة الحال، ومن قرأ بالرفع فلأنه أسند الفعل إلى الظرف اتساعا كما تقول: قوتل خلفكم وأمامكم، أو لأن المراد بالبين الوصل وإنما حسن استعماله في معنى الوصلة مع أن أصله الافتراق والتباين لأنه يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه
123
كقولهم: بيني وبينه مشاركة وبيني وبينه رحم. والمعنى لقد تقطع وصلكم. قلت: ويحتمل أن يكون البين بمعنى الافتراق ويفيد المبالغة كقولهم: جد جده. فإذن العاقل من يكسب الزاد ليوم المعاد حتى لا يوبخ بقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ويصرف المال في وجوه التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله حتى لا يخاطب بقوله وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ بل يكون من زمرة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [المزمل:
٢٠] كيلا تطول حسرته يوم ينقطع بين النفس والجسد وصله. ثم إنه سبحانه لما فرغ من تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال قدرته لتعلم أن حاصل المباحث العقلية والنقلية إنما هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله فقال إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي بالنبات والشجر. وعن مجاهد أراد الشقين اللذين في الحنطة والنواة، والفلق هو الشق. وعن ابن عباس والضحاك: الفلق هو الخلق. ووجه بأن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انشقاق، فإخراج الشيء من العدم إلى الوجود شق لذلك العدم وفلق بحسب التخيل والتعقل. واعلم أنه إذا وقعت الحبة والنواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله في أعلاها شقا ومن أسفلها شقا، أما العالي فيخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء، وأما السافل فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة، وهاهنا عجائب منها: أن طبيعة الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء وبالعكس.
فاتصال الشجرتين على التبادل ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى إرادة الموجد المختار. ومنها أن باطن الأرض جسم صلب كثيف لا تنفذ فيه المسلة ولا السكين، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق مع غاية نعومتها تقوى على النفوذ والغوص في جرم الأرض، فحصول هذه القوّة الشديدة للجرم الضعيف ليس إلا بتقدير العزيز العليم. ومنها أنه يتولد من النواة شجرة ويحصل من الشجرة أغصان وأوراق وأزهار وأثمار، وللثمر قشر أعلى وقشر أسفل وفيه اللب، وفي اللب الدهن الذي هو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجرام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وطعومها وأشكالها مع تساوي تأثيرات النجوم والطبائع في المادة الواحدة يدل على وجود الفاعل المختار. ومنها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة، فالأترج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب، وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب. ومنها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة، فبعضها يكون لبه في الداخل وقشره في الخارج كالجوز واللوز، وبعضها يكون فاكهته المطلوبة في الخارج والخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضها يكون لنواها لب كالخوخ وقد لا يكون كالتمر، وبعض الفواكه
124
يكون كله مطلوبا كالتين. فهذه الأحوال المختلفة والأشكال المتخالفة. تتضمن حكما وفوائد لا يعلمها إلا مبدعها. ومنها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت في وسطها خطا واحدا مستقيما يشبه النخاع في بدن الإنسان ولا يزال يستدق حتى يخرج عن إدراك الحس، ثم ينفصل عن ذلك الخط خطوط دقاق أصغر من الأول، فكأنه سبحانه أوجد ذلك لتقوى به الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة. فإذا وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في إيجاد جملة تلك الشجرة أكثر، وعلمت أن عنايته بتخليق الحيوان الذي خلق النبات لأجله يكون أكمل، وكذا عنايته بحال الإنسان الذي خلق لأجله النبات والحيوان ويصير ذلك مرقاة لك إلى وجود الصانع الخبير الحكيم القدير.
ثم بين كونه فالق الحب والنوى بقوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت، لأن النامي في حكم الحيوان ولهذا قال يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الحديد: ١٧] ثم عطف على قوله فالِقُ الْحَبِّ قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قال ابن عباس: أخرج من النطفة بشرا حيا ثم يخرج من البشر الحي نطفة، أو يخرج من البيض دجاجة ومن الدجاجة بيضا، أو يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم، والكافر من المؤمن كنوح وابنه، أو المطيع من العاصي والعاصي من المطيع، أو العالم من الجاهل والجاهل من العالم، أو الكامل من الناقص والناقص من الكامل، وقد يجعل الضار نافعا وبالعكس. يحكى أن إنسانا سقى الأفيون في الشراب ليموت فلما تناوله ظن القوم أنه سيموت فرفعوه وجعلوه في بيت مظلم فلدغته حية وصارت تلك اللدغة لقوّة حرارة سم الحية سببا لدفع ضرر برد الأفيون. ونقل عن عبد القاهر الجرجاني أن قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ معطوف على قوله يُخْرِجُ وإنما حسن عطف الاسم على الفعل هاهنا، لأن لفظ الفعل يدل على اعتناء الفاعل بذلك الفعل في كل وقت بخلاف لفظ الاسم ولهذا قال هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ [فاطر: ٣] ليفيد أنه يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة إذا ثبت هذا فنقول الحي أشرف من الميت، فذكره بلفظ الفعل فيدل على أن الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من العكس ذلِكُمُ اللَّهُ المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، أم كيف تستبعدون البعث والنشور لأن الإعادة أهون من الإبداء؟ ثم عدل عن الأحوال الأرضية إلى الاستدلال بما فوقها وهي الأحوال الفلكية فقال فالِقُ الْإِصْباحِ وهو مصدر سمي به الصبح، المراد فالق ظلمة الإصباح وهو الغبش في آخر الليل وكأن الأفق كان بحرا مملوءا
125
من الظلمة. ثم إنه سبحانه شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى فيه جدولا من النور. فالمعنى فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح، وحسن الحذف للعلم به. أو المراد فالق الإصباح ببياض النهار وإسفاره ومنه قولهم «انشق عمود الفجر وانصدع الفجر» أو المراد مظهر الإصباح بواسطة فلق الظلمة، فذكر السبب وأراد المسبب، أو الفالق بمعنى الخالق كما مر وقد سلف لنا تقرير الصبح في البقرة في تفسير قوله عز من قائل إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [البقرة: ١٦٤] ثم إن كون الصبح بسبب وقوع ضوء الشمس على ضلع مخروط ظل الأرض في جانبه الشرقي لا ينافي كون الله سبحانه فالق الإصباح بالحقيقة، كما أن وجود النهار بسبب طلوع جرم الشمس عن الأفق لا ينافي ذلك، والإمام فخر الدين الرازي أراد أن يبين أن ذلك بقدرة الفاعل المختار فنفى كونه بسبب ضوء الشمس بحجج اخترعها من عنده وكلها خلاف المعقول والمنقول من علم الرياضة فلذلك أسقطناها عن درجة الاعتبار. النوع الثاني من الدلائل الفلكية الدالة على التوحيد قوله وجاعل الليل سكنا حجة من قرأ باسم الفاعل أن المعطوف عليه اسم فاعل، وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله بعد ذلك وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ منصوبان ولا بد من عامل وما ذلك إلا أن يقدر «جاعل» بمعنى «جعل». والسكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار: سكن كما سموها المؤنسة لأنها يستأنس بها، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه. ويحتمل أن يراد: وجعل الليل مسكونا فيه كما قال لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: ٦٧] فالليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم، فهما نعمتان من الله تعالى وآيتان على وحدته وقدرته. النوع الثالث قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً أي سببي حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بسيرهما ودورهما. والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب بالكسر. وقيل: إنه جمع حساب مثل «شهاب» «وشهبان».
قال في الكشاف: الشمس والقمر قرئا بالحركات الثلاث. فالنصب على إضمار فعل دل عليه جاعل الليل أو يعطفان على محل الليل لأن اسم الفاعل أريد به هاهنا الاستمرار كما تقول: الله عالم قادر. فلا تقصد زمانا دون زمان فتكون الإضافة غير حقيقية ويكون لليل محل. قلت: وهذا مناقض لما ذكره في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٣] من أنه يجوز أن يراد به زمان مستمر حتى تكون الإضافة حقيقية، ويصح وقوعه صفة للمعرفة. وأما وجه الجر فظاهر. ووجه الرفع كونهما مبتدأين محذوفي الخبر أي والشمس والقمر مجعولان أو محسوبان حسبانا وذلِكَ الجعل تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قهرهما الْعَلِيمِ الذي دبرهما.
وذلك أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيآتها المحدودة وأوضاعها المعينة لا يتم إلا بقدرة شاملة لجميع الممكنات وعلم نافذ في الكليات والجزئيات. النوع الرابع قوله
126
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ عد هاهنا من منافع النجوم كونها سببا للاهتداء إلى الطرق والمسالك فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حيث لا يرون شمسا ولا قمرا. والتقدير في ظلمات الليل بالبر والبحر فأضافها إليهما لملابستها لهما. وقيل: المراد ظلمات بر التعطيل وبحر التشبيه فإن اختصاص كل من هذه الكواكب بحال وصفة أخرى مع تشاركها في الجسمية دليل ظاهر على مختار قادر. وأيضا اتصافها بالأعضاء والأبعاض والحدود والأحياز مع أنها لا تصلح للإلهية بالاتفاق دليل على تنزيه الله سبحانه من هذه السمات ولهذا قال قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب.
ثم عدل عن الآيات الآفاقية إلى آيات الأنفس فقال وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم بطريق النشؤ والنماء مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي آدم وحوّاء مخلوقة من ضلع من أضلاعه، وكذا عيسى لأنه من مريم وإن كان يتوسط كلمة «كن» أو بالنفخ وهي من آدم فَمُسْتَقَرٌّ من قرأ بكسر القاف فالتقدير فمنكم مستقر وَمنكم مُسْتَوْدَعٌ الأول اسم فاعل والثاني اسم مفعول. ومن قرأ بفتح القاف فالتقدير: فلكم مستقر ولكم مستودع. فيكون كلاهما اسمي مكان أو مصدرا. وذلك أن استقر لازم فلا يجيء منه المفعول به بلا واسطة فينبغي تفسير مستودع أيضا بما يشاكله استحسانا. وعن ابن عباس: أن المستودع الصلب والمستقر الرحم لقوله وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: ٥] ولأن اللبث في الرحم أكثر فيكون لفظ القرار بذلك أنسب بخلاف المستودع فإنه في معرض الاسترداد ساعة فساعة، وهذا شأن المني في الأصلاب فإنه بصدد الإراقة في كل حين وأوان. وقيل: المستقر صلب الأب والمستودع الرحم، لأن النطفة قد حصلت في صلب الأب أوّلا واستقرت هناك، ثم حصلت في الرحم على سبيل الوديعة، ولأن هذا الترتيب يناسب تقديم المستقر على المستودع. وعن الحسن:
المستقر حاله بعد الموت لأن سعادته وشقاوته تبقى وتستقر على حالة واحدة والمستودع حاله قبل الموت، لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا والفاسق صالحا والوديعة على شرف الزوال والذهاب. وقال الأصم: المستقر الذي خلق من النفس الأولى وحصل في الوجود والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق. وعنه أيضا المستقر من في قرار الدنيا، والمستودع من في القبور إلى يوم البعث. وعن قتادة بالعكس. وعن أبي مسلم الأصفهاني: المستقر الذكر لأن النطفة إنما تستقر في صلبه، والمستودع الأنثى لأنها تستودع النطفة. وحاصل الكلام أن الإنسان خلق من نفس واحدة ثم إنه يتقلب في الأطوار ويتردد في الأحوال، وليس هذا بمقتضى الطبع والخاصية وإلا لتساوى الكل في الأخلاق والأمزجة فذلك إذن بتدبير
127
فاعل قدير مختار خبير. ولهذا قال قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ ميزنا بعضها عن بعض لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ لأن الفائدة تعود إليهم وإن كان الإرشاد عاما، ولأن آيات الأنفس أقرب إلى الاعتبار وأهون لدى الاستبصار ختم هذه الآية بالفقه، وخصص خاتمة الآية الأولى بالعلم ليعلم أن الغافل عن هذه لا فطنة له ولا ذكاء أصلا فضلا عن العلم. ثم عدد ما كونه نعمة أبين فيه من كونه آية فقال وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً قيل: أي من جانب السماء وقيل: أي من السحاب لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت. وقال أكثر أهل الظاهر: أي من السماء نفسها لأنه تعالى فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد. ونحن قد حكينا في أول سورة البقرة مذهب الحكماء في هذا الباب والله تعالى أعلم. قال ابن عباس: يريد بالماء هاهنا المطر، ولا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك.
والفلاسفة يحملون ذلك على الطبيعة الحالة فيها الموجبة للنزول إلى مركزها. فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بواسطة ذلك الماء وذلك يوجب الطبع والمتكلمون ينكرونه نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ قال الفراء: أي نبات كل شيء له نبات فيخصص بنبت كل صنف من أصناف النامي ويخرج ما عدا ذلك. وفي الآية التفاتان: الأول من الحكاية إلى الغيبة حيث لم يقل «نحن الذين أنزلنا» والثاني من الغيبة إلى الحكاية وأنت خبير أن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب باب من أبواب البلاغة، وصيغة الجمع لأجل التعظيم كما هو ديدن الملوك. ثم لما بين أن السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف كثيرة فصل ذلك بعض التفصيل حسب ما ذكر في قوله إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى فقال فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أي من النبات خَضِراً شيئا أخضر طريا وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. نُخْرِجُ مِنْهُ أي من ذلك الخضر حَبًّا مُتَراكِباً بعضه على بعض. قال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت والذرة، فأصل ذلك هو العود الأخضر وتكون السنبلة راكبة عليه من فوقه والحبات متراكبة وفوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كالإبر. والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة. ولما ذكر ما نبت من الحب أتبعه ذكر ما ينبت من النوى فقال وَمِنَ النَّخْلِ وهو خبر وقوله مِنْ طَلْعِها بدل منه كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قِنْوانٌ أو الخبر محذوف لدلالة أخرجنا عليه. والتقدير: ومخرجة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو كصنوان وصنو. والقنو العذق وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب، والطلع أول ما يبدو من غذق النخلة. قال ابن عباس: يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية من تحتها.
وعنه أيضا أنه أراد عذوق النخلة اللاصقة بالأرض. قال الزجاج: ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن أحد القسمين يغني عن الآخر كما قال سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] ويحتمل أن يقال: ترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأتم. وقيل: أراد بكونها دانية أنها سهلة
128
المجتنى متعرضة للقاطف كالشيء الداني القريب المتناول، وأن النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر لا تنتظر الطول وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ بالنصب عطفا على خَضِراً أي وأخرجنا به جنات من أعناب. ومن قرأ بالرفع فعلى أنها مبتدأ محذوف الخبر أي وثم جنات من أعناب، أو وجنات من أعناب مخرجة، ولا يجوز أن يكون عطفا على قنوان وإن جوّزه في الكشاف، إذ يصير المعنى وحاصلة أو مخرجة من النخل من طلعها جنات حصلت من أعناب. أما قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ بالنصب فللعطف على منصوبات قبلها أو للاختصاص لفضل هذين الصنفين. قال الفراء: أراد شجر الزيتون وشجر الرمان فحذف المضاف. واعلم أنه سبحانه قدم الزرع على الأشجار لأنه غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه، ثم قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يقوم مقام الغذاء ولا سيما للعرب. ومن فضائلها أن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوانات مشابهات كثيرة ولهذا قال ﷺ «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم» ثم ذكر العنب عقيب النخل لأنه أشرف أنواع الفواكه وأنه ينتفع به من أوّل ظهوره إلى آخر حاله. فأوّله خيوط دقيقة حامضة الطعم لذيذة وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء وللمرضى من أصحاب الصفراء، ثم يتم العنب فيؤكل كما هو ويدخر ويتخذ منه الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع كل منها لا تحصى، إلا أن الخمر حرمها الشرع لإسكارها. وأخس ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات نافعة للمعدة الضعيفة الرطبة. ويتلو العنب في المنفعة الزيتون لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل منه الزيت الذي يعظم غناؤه، وأما الرمان فحاله عجيبة جدا لأنه قشر وشحم وعجم وماء.
والثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات وأنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، وكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين فيكون دلالة القدرة والرحمة والحكمة فيه أكمل وأنواع النبات أكثر من أن يفي بشرحها المجلدات فاكتفي بذكر هذه الأنواع الخمسة تنبيها على البواقي. وأما قوله مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ففي تفسيره وجوه الأوّل أن هذه الفواكه تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذّة، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس. الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابها في الطعم والخاصية، وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنها تكون مختلفة، ومنهم من يقول: الأشجار متشابهة والثمار مختلفة. ومنهم من قال: بعض حبات العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه وذلك أنك قد تأخذ العنقود من
129
العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة فإنها بقيت على أوّل حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة، ومعنى اشتبه وتشابه واحد يقال: اشتبه الشيئان وتشابها كقولك: استويا وتساويا. وإنما قال مُشْتَبِهاً ولم يقل «مشتبهين» إما اكتفاء بوصف أحدهما، أو على تقدير والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك كقوله:
إن شمس النهار تغرب بالليل وشمس القلوب ليست تغيب.
رماني بأمر كنت ووالدي بريئا ومن أجل الطويّ رماني
انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ من قرأ بفتحتين فلأنه جمع ثمرة مثل: بقر وبقرة، وشجر وشجرة. ومن قرأ بضمتين فعلى أنه جمع ثمرة أيضا مثل: خشبة وخشب. قال تعالى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون: ٤] أو على أن ثمرة جمعت على ثمار ثم جمع ثمار على ثمر إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره وَيَنْعِهِ يقال: ينعت الثمرة ينعا وينعا بالفتح والضم إذا أدركت ونضجت. أمر بالنظر في حال ثمر كل شجرة أوّل حدوثها وفي آخر حالها فإنها قد تكون موصوفة بالخضرة والحموضة ثم تصير إلى السواد والحلاوة، وربما كانت أوّل الأمر باردة بحسب الطبيعة ثم تصير حارة الطبع وقد يخرج ضئيلا ضعيفا لا يكاد ينتفع به، ثم يؤل إلى كمال اللذة والمنفعة فحصول هذه الانتقالات والتغيرات لا بد له من سبب مستقل في التأثير سوى الطبائع والفصول والأفلاك والنجوم وما ذاك إلا السبب الأوّل ومبدع الكل، ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال القاضي: المراد لمن يطلب الإيمان بالله لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن، ويحتمل أن يقال: خص المؤمنين لأنهم المنتفعون بذلك دون غيرهم، أو المراد أن هذه الدلالة على قوّتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان وإلا فلا ينتفع به البتة ويكون من زمرة من قال في حقهم وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ قال الكلبي: عن ابن عباس نزلت في الزنادقة قالوا:
إن الله تعالى وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب. قال في التفسير الكبير: هذا مذهب المجوس فإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله يسمى بالزند والمنسوب إليه زندي، ثم عرّب فقيل زنديق، ثم جمع فقيل زنادقة، ثم إنهم قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان، وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا، ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة كقولهم إنه تعالى فكر في مملكة نفسه واستعظمها ففعل نوعا من العجب فتولد الشيطان من ذلك العجب، وكقولهم شك في قدرة
130
نفسه فتولد من شكه الشيطان. والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي والحاصل أنهم يقولون:
عسكر الله تعالى هم الملائكة، وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة تلهم الأرواح البشرية الطاعات، والشياطين فيهم أيضا كثرة عظيمة يلقون الوساوس إلى الأرواح البشرية، والله تعالى مع عسكره يحاربون إبليس مع عسكره فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن بلفظ الجمع وإن كان شريكه عندهم بالحقيقة واحدا وهو أهرمن. وانتصاب الْجِنَّ على أنه بدل أو بيان لشركاء أو على أنه مفعول أول ل جَعَلُوا وشُرَكاءَ ثانيه ويكون لِلَّهِ طرفا لغوا. وفائدة تقديم المفعول الثاني على هذا القول استعظام أن يتخذ لله شريك كائنا من كان، ملكا أو جنيا أو إنسيا، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء. وقرىء الْجِنَّ بالرفع كأنه قيل: من هم؟
فقيل: الجن. وبالجر على الإضافة التي للتبيين. وقيل: إن الآية نزلت في الكفار الذين جعلوا الملائكة بنات الله. وحسن إطلاق الجن على الملائكة لاستتارهم عن العيون. ومعنى كونها شركاء أنها مدبرة لأحوال هذا العالم ومعينة لله إعانة الولد للوالد. وعن الحسن وطائفة من المفسرين: أن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشركة فأطاعوهم كما يطاع الله. أما قوله وَخَلَقَهُمْ فإشارة إلى الدليل القاطع على إبطال الشريك. والضمير فيه إما أن يعود إلى الجن أو إلى الجاعلين فإن عاد إلى الجن فإن قلنا إن الآية نزلت في المجوس فتقريره أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس محدث ولو لم يعترفوا بذلك والبرهان العقلي قائم على أن ما سوى الحق الواحد ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محدث، فنقول حينئذ، كل محدث مخلوق وله خالق وما ذاك إلا الله سبحانه، وحينئذ يلزمهم نقض قولهم لأنه ثبت أن إله الخير قد فعل أعظم الشرور وهو خلق إبليس الذي هو مادة كل شر. وإن قلنا: إنها نزلت في كفار العرب القائلين الملائكة بنات الله، فظاهر لأنهم يسلمون أن الملائكة مخلوقون وأنهم تولدوا منه تولد الولد من الوالد. وإن عاد الضمير إلى الجاعلين فالمعنى: وعلموا أن الله خالقهم دون الجن كقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥] ولم يمنعهم علمهم أن يتّخذوا من لا يخلق شريكا للخالق. والجملة في موضع الحال أي وقد خلقهم. وقرىء وَخَلَقَهُمْ بسكون اللام أي اختلاقهم للإفك يعني جعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: ٢٨] ثم حكي عن قوم آخرين نوعا آخر من الإشراك فقال وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ وذلك قول أهل الكتابين في المسيح وعزير، وقول قريش في الملائكة، ومن هنا يعلم ضعف قول من قال وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ نزل في كفار قريش لأنه يلزم التكرار من غير فائدة ظاهرة، يقال: خرق الإفك وخلقه واخترقه واختلقه
131
بمعنى. قال الحسن: كلمة عربية كان الرجل، إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله أعلم. ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات. أما قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ فكالتنبيه على إبطال قولهم، فإن من عرف الإله حق معرفته استحال أن يثبت له ولدا لأن ذلك الولد إن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلا بنفسه قائما بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر تعلق الفرعية، وإن كان ممكن الوجود لذاته كان موجودا بإيجاد الواجب وكان عبدا له لا ولدا. وأيضا الولد إنما يحتاج إليه ليقوم مقام الوالد بعد فنائه ومن تقدس عن الفناء لم يحتج إلى الولد. وأيضا الولد جزء من أجزاء الوالد ومن لم يكن مركبا استحال أن ينفصل منه جزء يتولد منه الولد. ثم نزه نفسه عما لا يليق به فقال سُبْحانَهُ وهذا على لسان المسبحين وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ وهذا له في نفسه سواء سبحه مسبح أم لا. والمراد بالتعالي العلو بالشرف والرفعة بدليل قوله عما يصفون.
التأويل:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حين أنكروا إنزال الكتب والبعثة على أنهم لو اعترفوا بذلك أيضا لم يعرفوه حق معرفته لأن المحاط لا يحيط بالمحيط. نعم تزداد معرفته بازدياد معرفة أوصافه تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي في القراطيس، وما يجعلونه في قلوبهم بالتخلق بأخلاقه وَعُلِّمْتُمْ بتعليم محمد ﷺ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ كقوله وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: ١٥١] ومن الحكمة ما هو سره الذي يكون تعليمه بسر المتابعة سرا بسر وإضمارا بإضمار، والذي علم النبي هو الله في خلوة ما سوى الله ولهذا قال قُلِ اللَّهُ مُبارَكٌ على العوام بأن يدعوهم إلى ربهم، وعلى الخواص بأن يهديهم إلى ربهم، وعلى خواص الخواص بأن يوصلهم إلى ربهم ويخلقهم بأخلاقه، وفي كتاب المحبوب شفاء لما في القلوب مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لأنه يصدق حقائق جميع ما في الكتب وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وهي الذرة المودعة في القلب التي هي المخاطب في الميثاق وقد دحيت جميع أرض القلب من تحتها وَمَنْ حَوْلَها من الجوارح والأعضاء والسمع والبصر والفؤاد والصفات والأخلاق بأن يتنوّروا بأنواره وينتفعوا بأسراره ويتخلقوا بأخلاقه. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فيستعملون الأدوات والآلات في أمور الدنيا والآخرة لا في الدنيا الفانية وشهوات النفس وهواها يُؤْمِنُونَ بالقرآن وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ بالترقي من صفاتهم إلى التخلق بأخلاق القرآن يداومون، فإن الصلاة معراج المؤمن وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإظهار المواجد والحالات رياء ومراء من غير أن يكون له منها نصيب، أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ الإشارات ولم يلهم نفسه شيئا منها، ومن قال متشدّقا متفيهقا سأتكلم بمثل كلام الله من الحقائق والأسرار فتظهر مضرة ظلمه وافترائه عند
132
سكرات الموت، وانقطاع تعلق الروح عن البدن، وإخراج النفس عن القالب كرها لتعلقها بالشهوات واللذات وطلب الرياسات، ويكون شدة النزع والهوان بحسب التعلقات وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عن الدنيا وما يتعلق بها، أو فرادى عن تعلقات الكونين كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ في أوّل خلقة الروح قبل تعلقه بالقالب. وَتَرَكْتُمْ بالتجريد عن الدنيا وبالتفريد عن الدنيا والآخرة ما خَوَّلْناكُمْ من تعلق الكونين وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ الأعمال والأحوال التي ظننتم أنها توصلكم إلى الله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وبينها عند انتهاء سيركم كما انتهى سير جبريل عند سدرة المنتهى، وحينئذ لا يصل إلى الوحدة إلا بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] ولو لم تدركه الجذبة المسندة إلى العناية لانقطع عن السير في الله بالله ونفى السدرة وهو يقول وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ حبة الذرة التي أخذ منها الميثاق المودعة في حبة القلب عن نبات المحبة، وفالق النوى ذكر لا إله إلا الله في أرض القلب عن شجرة الإيمان، كلمة طيبة كشجرة طيبة يخرج نبات المحبة التي هي من صفات الحي القيوم من الذرة الميتة الإنسانية، ومخرج الأفعال الطبيعية التي هي من صفات الكفار الموتى من المؤمن الحق في الدارين. وأيضا يخرج نخل الإيمان الحق من نوى الحروف الميتة في كلمة لا إله إلا الله، ومخرج ميت النفاق من الكلمة الحية وهي لا إله إلا الله فالِقُ الْإِصْباحِ فالق ظلمة الجمادية بصباح العقل والحياة والرشاد، وفالق ظلمة الجهالة بصباح الفهم والإدراك، وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صحبة عالم الأفلاك، وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات. وبالجملة فالق أنوار الروح عن ظلمة ليل البشرية، وجاعل ليل البشرية سترا عن ضياء شمس الروح ليسكن فيه النفس الحيوانية والأوصاف البشرية وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً يعني تجلي شمس الروحانية وطلوع قمر القلب بالحساب لئلا يفسد أمر القلب والقالب. وأيضا تجلى شمس الربوبية وطلوع قمر الروحانية لليل البشرية بالحساب لئلا يفسد أمر الدين والدنيا على العبد بالتفريط والإفراط، فإن إفراط طلوع شموس المعارف والشهود آفة «أنا الحق وسبحاني» وفي تفريطه آفة أنا ربكم الأعلى وعبادة الهوى. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي لا يهتدى إليه إلا به الْعَلِيمِ بمن يستحق الاهتداء إليه وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ نجوم أنوار الغيوب في سموات القلوب لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ بر البشرية وبحر الروحانية إلى عالم الربوبية. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أرواحكم
من روح واحد هو روح محمد صلى الله عليه وسلم
«أول ما خلق الله روحي كما خلق أجسادكم من جسد واحد هو جسد آدم أبي البشر»
فمن الأرواح ما تعلق بالأجساد واستقر وما هو بعد
133
مستودع في عالم الأرواح. وأيضا من الأرواح ما هو مستقر فيه نور صفة الإيمان وما هو مستودع فيه جذبات الحق، ومنها ما هو مستقر في أنانيته مع علو رتبته بالبقاء وما هو مستودع أنانيته بالفناء، وما هو مستقر ببقاء الحق باق وما هو مستودع في بقاء البقاء عن الفناء قَدْ فَصَّلْنَا دلالات الوصول في الوصال لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ إشارات القلوب وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ من سماء العناية ماءً الهداية فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ من أنواع المعارف فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً طريا من المعاني والأسرار يُخْرِجُ بِهِ من الحقائق ما تركب بعضها بعضها فترتب بعضها على بعض وَمِنَ النَّخْلِ يعني أصحاب الولايات مِنْ طَلْعِها من ثمرات ولايتهم ما هو متدان للطالبين أي منهم من يكون مرئيا فينتفع بثمرات ولايته، ومنهم من يختار العزلة والانقطاع عن المريدين. وَجَنَّاتٍ يريد أرباب الزهد والتقوى والفتوّة الذين لم يبلغوا رتبة الولاية من أعناب الاجتهاد وزيتون الأصول ورمان الفروع مُشْتَبِهاً أي متفقا في الأصول والفروع وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي مختلفا فيما بين العلماء انْظُرُوا إلى ثمر الولايات كيف ينتفع به الخواص والعوام وَيَنْعِهِ أي الكامل منها. إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بأحوالهم وينتفعون بأموالهم وأحوالهم. وَجَعَلُوا لِلَّهِ إشارة إلى أنه كما يخرج بماء اللطف من أرض القلوب لأربابها أنواع الكمالات كذلك يخرج بماء القهر من أرض النفوس لأصحابها أنواع الضلالات.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠١ الى ١١٠]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
القراآت:
ولم يكن بياء الغيبة: قتيبة دَرَسْتَ بتاء التأنيث: ابن عامر وسهل ويعقوب دارست بتاء الخطاب من المدارسة: ابن كثير وابو عمرو. والباقون بتاء الخطاب دَرَسْتَ من الدرس. عَدْواً على فعول بالضم: يعقوب. الباقون عَدْواً
134
على فعل. أَنَّها إِذا جاءَتْ بالكسر: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وقتيبة ونصير وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح. لا تُؤْمِنُونَ بتاء الخطاب: ابن عامر وحمزة.
الباقون: على الغيبة.
الوقوف:
وَالْأَرْضِ ط صاحِبَةٌ ط كُلِّ شَيْءٍ ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف عَلَيْهِمْ ط رَبِّكُمْ ط لاحتمال الجملة الاستئناف والحال والعامل معنى الإشارة إِلَّا هُوَ ط لأن قوله خالِقُ بدل من الضمير المستثنى أو خبر ضمير محذوف فَاعْبُدُوهُ ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف وَكِيلٌ هـ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ج لاختلاف الجملتين مع أن الثانية من تمام المقصود يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ط لاحتمال الواو الاستئناف والحال أي يدرك الأبصار لطيفا خبيرا. الْخَبِيرُ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب فَلِنَفْسِهِ ط كذلك مع الواو. فَعَلَيْها ط بِحَفِيظٍ هـ يَعْلَمُونَ هـ مِنْ رَبِّكَ ط لاحتمال الجملة الحال والاستئناف على أنها جملة معترضة إِلَّا هُوَ ط للعطف مع العارض الْمُشْرِكِينَ هـ ما أَشْرَكُوا ط حَفِيظاً ط للابتداء بالنفي مع اتحاد المعنى بِوَكِيلٍ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط يَعْمَلُونَ هـ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ط وَما يُشْعِرُكُمْ ط لمن قرأ أَنَّها بكسر الألف. لا يُؤْمِنُونَ هـ يَعْمَهُونَ هـ.
التفسير:
لما نبه إجمالا بقوله بغير علم على الدليل الدال على إبطال قول من خرق له بنين وبنات، فصل ذلك بقوله بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. والمراد هو بديع السموات، ويجوز أن يكون بَدِيعُ مبتدأ والجملة بعده خبره. وتقرير الدليل أنكم إما أن تريدوا بكون عيسى ولدا له أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ولا أب وحينئذ يلزمكم القول بأنه والد السموات والأرض بكونه مبدعا لهما وهذا باطل بالاتفاق، وإما أن تريدوا به الولادة كما هو المألوف في الحيوانات وهذا أيضا محال لأن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة من جنسه وينفصل منه جزء يحتبس في رحمها، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة، وكل ذلك على الله محال وأشار الى هذا بقوله أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وأيضا الولد بهذا الطريق إنما يتصور في حق من لا يقدر على خلق الأشياء دفعة واحدة، أما الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فذلك في حقه مستحيل، وإلى هذا أشار بقوله خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وأيضا هذا الولد لا يكون أزليا وإلا كان واجبا لذاته غنيا عن غيره فبقي أن يكون حادثا فنقول: إنه تعالى عالم بكل المعلومات أزلا وأبدا كما قال وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإن كان قد علم أن له في تحصيل ذلك الولد كمالا أو نفعا أو لذة لتعلقت
135
إرادته بإيجاده في الأزل دفعا لذلك الاحتياج والنقصان، فيكون الولد أزليا على تقدير كونه حادثا هذا خلف، فتبين أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والأضداد والأنداد والأولاد، فلهذا صرح بالنتيجة فقال ذلِكُمُ اللَّهُ فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم الموصوف الجامع لتلك الصفات المقدسة هو الله إلى آخره. وإنما قال هاهنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وفي «المؤمن» بالعكس لأنه وقع هاهنا بعد ذكر الشركاء والبنين والبنات فكان رفع الشرك أهم، وهنالك وقع بعد ذكر خلق السموات والأرض فكان تقديم الخالقية أهم. ثم قال فَاعْبُدُوهُ وهو مسبب عن مضمون الجملة المتقدمة يعني أن من استجمعت له هذه الكمالات كان حقيقا بالعبادة وَهُوَ مع تلك الصفات عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يحفظه ويرزقه ويراقبه. قال في التفسير الكبير: إنه سبحانه أقام الدليل على وجود الخالق، ثم زيف طريق من أثبت له شريكا وهذا القدر لا يوجب التوحيد المحض لكن للعلماء في إثبات التوحيد طرق منها: أن الدليل قد دل على وجود صانع، والزائد على الواحد لم يدل دليل على ثبوته فليس عدد أولي من عدد آخر فيلزم آلهة لا نهاية لها، أو القول بعدد معين بلا ترجيح وكلاهما محال فلم يبق إلا الاكتفاء بواحد وهو المطلوب. ومنها أنا لو قدّرنا إلهين قادرين على كل المقدورات عالمين بكل المعلومات، فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلا لذلك الفعل مانعا للآخر من تحصيل مقدوره وذلك يوجب أن يكون كل واحد يعجز الآخر وهو محال، وإن كان في أحدهما عجز ونقص لم يصلح للإلهية. ومنها أنا لو فرضنا إلها ثانيا فكان إما أن يكون الثاني مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال أو لا. وعلى الأول لا بد أن يحصل الامتياز بأمر وإلا لم يحصل التعدد، فذلك المميز إن كان من صفات الكمال لم يكن جميع صفات الكمال مشتركة بينهما، وإن كان من صفات النقص فالموصوف به لا يصلح للإلهية وكذا إن لم يكن الثاني مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال فثبت التوحيد بهذه الدلائل، مع أن الدليل النقلي في التوحيد كاف والله أعلم.
قالت الأشاعرة: عموم قوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يدل على أنه خالق أفعال العباد. وقالت المعتزلة: إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح ولكنه لا يتمدح بخلق الزنا والكفر واللواط، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. وأيضا احتج كثير من المعتزلة به على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق. أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم. وأما الأوّل فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى لزم أن تكون مخلوقة له. وأجيب بأنكم تخصصون هذا العام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقا لنفسه وبحسب أفعال العباد، فنحن أيضا نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن. وأما الفرق بين قوله وَخَلَقَ
136
كُلَّ شَيْءٍ
وقوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فذلك لأن الأول يتعلق بالزمان الماضي، والثاني يتناول الأوقات كلها على سبيل الاستمرار. ثم بين أن شيئا من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلا من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى. قالوا: الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل: أدركته ببصري وما رأيته متناقضان. ثم إن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء.
وأيضا أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء، وكل ما كان عدمه مدحا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الصمد: ٣] فوجب كون الرؤية نقصا في حقه تعالى. وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:
٤٦] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم. وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضوع للوصول واللحوق ومنه قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: ٦١] أي لملحقون وقوله تعالى حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس: ٩٠] أي لحقه. وأدرك الغلام أي بلغ، وأدركت الثمرة إذا نضجت. وإذ قد ثبت ذلك فنقول:
الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة. ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية. سلمنا أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لكن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا. وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضا. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يفيد أنها لا تدركه في الدنيا وأنها تدركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها في الآخرة، أو نقول قول القائل: لا يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمدا ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس، سلمنا أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي. أو نقول: سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول: لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وإنما يحصل التمدح لو كان بحيث نصح رؤيته. ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته لغاية جلاله ونهاية جماله. والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبا
137
للمدح والعلم به ضروري، بل إذا كان النفي دليلا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل: إن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] فإنه لا يفيد المدح نظرا إلى هذا النفي، فإن الجماد أيضا لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالما بجميع المعلومات من غير تبدل ولا زوال. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادرا على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته. ثم نقول: إذا ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان: قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقا لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف. ثم إن القاضي استدل هاهنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول. فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضرا وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة- وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلا أو في حكم المقابل- فإنه يجب حصول الرؤية وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول: القرب القريب والبعد البعيد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته، وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها. وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه. وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضا لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى.
وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار؟ وثالثها أن كل ما كان مرئيا كان مقابلا أو في حكم المقابل، والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا. ورابعها أن أهل الجنة يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة. وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع.
(في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية) : منها هذه الآية كما بينا. ومنها أن موسى
138
عليه السلام طلب الرؤية فدل ذلك على جوازها. ومنها أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. ومنها قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [الكهف:
١١٠] قد اتفق الجمهور على أن النبي ﷺ وآله فسر الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية، ومنها قوله فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ [الكهف: ١١] ونحو ذلك من الآيات الدالة على اللقاء، ومنها قوله كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: ١٠٧] والاقتصار على النزل لا يجوز فالزائد على جنات الفردوس لا يكون إلا اللقاء. ومنها قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: ١٣] وسوف يأتي في سورة النجم إن شاء الله تعالى. ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: ٢٢، ٢٣] ومنها قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] فيكون المؤمنون غير محجوبين. ومنها قوله فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزخرف: ٧١] ولا شك أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله على أكمل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو العيان. ومنها قوله وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الدهر:
٢٠] فيمن قرأ بفتح الميم وكسر اللام. وأما الأخبار فكثيرة منها:
الحديث المشهور «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» «١»
والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي. ومنها أن الصحابة اختلفوا في أن النبي ﷺ وآله هل رأى الله تعالى ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب فدل ذلك على أنهم كانوا يجمعون على إمكان الرؤية. أما قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ففيه دليل على أنه سبحانه مبصر للمبصرات، راء للمرئيات، مطلع على ماهياتها، عليم بعوارضها وذاتياتها. ثم قال وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وليس المراد باللطافة ضد الكثافة وهو رقة القوام فإن ذلك من صفات الأجسام، بل المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها إلا مبدعها. أو المراد أنه لطيف في الإنعام والرحمة لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم. أو الغرض أنه يثني عليهم بالطاعة ولا يقطع موادّ إحسانه عنهم بالمعصية. أو المراد أنه يلطف عن أن يدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ولا يلطف شيء عن إدراكه، ثم عاد إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة فقال قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ أي موجباتها والبصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين. فَمَنْ أَبْصَرَ الحق وآمن فَلِنَفْسِهِ أبصر
(١) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب ١٦، ٢٦. كتاب تفسير سورة ٥٠ باب ٢. كتاب الرقاق باب ٥٢. أبو داود في كتاب السنة باب ١٩. الترمذي في كتاب الجنة باب ١٦. أحمد في مسنده (٣/ ١٦، ١٧، ٢٧).
139
وإياها نفع. وَمَنْ عَمِيَ عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر. قالت المعتزلة: فيه تصريح بأن العبد يتمكن من الأمرين: الفعل والترك. وعورض بالعلم والداعي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم. ثم حكى شبه المنكرين بقوله وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التقرير البليغ نُصَرِّفُ الْآياتِ نأتي بها متواترة حالا بعد حال وَلِيَقُولُوا عطف على محذوف أي لتلزمهم الحجة وليقولوا أو متعلق بما بعده أي وليقولوا درست نصرفها. ومعنى دَرَسْتَ قرأت وتعلمت من الدرس، ومن قرأ دارست أي قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة. وأما قراءة ابن عامر دَرَسْتَ فهي من الدروس بمعنى أن هذه الآيات قد درست وعفت أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا من جملة أساطير القرون الخالية، قالت العلماء:
التركيب يدل على التذليل والتليين لأن من درس الكتاب فقد ذلله بكثرة القراءة، ومنه قيل للثوب الخلق «دريس»، لأنه قد لان فكأنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله صرف الآيات وهو أمران: أحدهما قوله وليقولوا دارست والثاني قوله وَلِنُبَيِّنَهُ أما الثاني فلا إشكال فيه لأنه بيّن أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والعلم والضمير في لِنُبَيِّنَهُ للآيات لأنها في معنى القرآن، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به، أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل نحو: ضربته زيدا أي ضربت الضرب زيدا. وأما الأول فقد أورد عليه أن قولهم للرسول دارست كفر منهم بالقرآن والرسول، وعلى هذا فتعود مسألة الجبر والقدر، أما الأشاعرة فأجروا الكلام على ظاهره وقالوا: معناه أنا ذكرنا هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفرا على كفر، ونبينه لبعض فيزدادوا إيمانا على إيمان كقوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: ٢٦] وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم والقاضي: إن هذا الإثبات محمول على النفي والتقدير: نصرف الآيات لئلا يقولوا كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: ١٧٦] أي لئلا تضلوا. أو المراد لام العاقبة، وزيف بأن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وفتح هذا الباب يخرج الكتاب عن أن يكون حجة. وأيضا إنه مناف للمقصود لأن إنزال الآيات نجما فنجما هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن محمدا ﷺ إنما أتى بالقرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة مع أقوام آخرين، ولهذا كانوا يقولون لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة. فالجواب الذي ذكره إنما يصح لو كان التصريف علة لأن يمتنعوا من هذا القول لكنه موجب له فسقط كلامهم، وأيضا حمل اللام على لام العاقبة مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أولى.
ثم إنه لما حكى عن الكفار أنهم نسبوه في شأن القرآن إلى الافتراء وإلى أنه دارس
140
أقواما واستفاد هذه العلوم منهم ثم نظمها قرآنا وادّعى أنه نزل عليه من الله أتبعه قوله اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لئلا يصير ذلك القول سببا لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي يعتريه بسماع تلك الشبهة، ونبه بالجملة المعترضة أو الحال المؤكدة وهي قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على أنه سبحانه لما كان واحدا في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين. ثم ختم الآية بقوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وحمله بعضهم على أنها منسوخة بآية القتال. وضعف بأن المراد واترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغيظ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا مذهب الأشاعرة فيه ظاهر. وحمله المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بعد المعارضة بالعلم والداعي بأن الإيمان الاختياري هب أنه أنفع وأفضل من الإيمان القهري إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك لا يقع ولا يحصل فقد كان يجب في حكمته أن يخلق الله فيه الإيمان القهري كي يخلص من العقاب، وإن لم يجب له الثواب كما أن الأب المشفق إذا علم أن ابنه لا يحسن الغوص يقول له: اترك الغوص في البحر ولا تطلب اللآلئ فإنك لا تجدها واكتف بالرزق القليل مع السلامة، فأما أن يأمره بالغوص في البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فإن ذلك من الرحمة والشفقة بمعزل. ثم ختم الكلام بما يكمل به بصيرة الرسول ﷺ وآله، وذلك أنه بيّن له قدر ما جعل إليه فذكر أنه ما جعله حفيظا ولا وكيلا عليهم وإنما فوض إليه الإبلاغ والإنذار. ثم إنهم لما نسبوا الرسول ﷺ إلى أنه جمع القرآن بطريق المداومة وكان لا يبعد أن يغضب له المسلمون لسبب ذلك فيسبوا آلهتهم نهى الله تعالى عن ذلك فقال وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أن المسلمين إذا شتموا آلهتهم فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول. وفيه تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والمسافهة وإنه لا يليق بالعقلاء. قال ابن عباس: لما نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: ٩٨] قال المشركون: لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيبها لنهجونّ إلهك فنزلت.
وقال السدي: لما حضر أبا طالب الوفاة قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا: أنت كبيرنا
141
وسيدنا، وأن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه. فدعاه فجاء النبي ﷺ وآله فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. فقال أبو طالب:
قد أنصفك قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب:
قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها. فقال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها. فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قالت العلماء: إن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فكيف يتصور إقدامهم على شتم الله؟ وأجيب بأنه ربما كان بعضهم قائلا بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي هذا النوع من السفاهة، أو لعل مرادهم شتم الرسول ﷺ وآله فأجرى الله تعالى شتمه مجرى شتم الله كما في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠] أو لعلهم من جهالتهم اعتقدوا أن الشيطان يحمله على ادعاء الرسالة ثم إنهم سموا ذلك الشيطان بأنه إله محمد ﷺ وآله. وهاهنا سؤال وهو أن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه؟ والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم منكرا وجب الاحتراز عنه، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله سبحانه وشتم رسول وفتح باب السفاهة ويقتضي تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم. وفيه أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في هذا الباب. وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين كيلا يتشاغل بما لا يفيد في المطلوب، فإن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها، يقال: عدا فلان عدوا وعدوانا وعداء إذا ظلم ظلما يتجاوز القدر. قال الزجاج عَدْواً منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدو عدوا وقرىء عَدْواً بفتح العين والتشديد أي في حال كونهم أعداء. ومعنى بِغَيْرِ عِلْمٍ على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به وكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ قالت الأشاعرة: فيه دلالة على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية، وزيفه الكعبي بقوله تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: ٢٤] [العنكبوت: ٣٨] وبقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: ٢٥٧] فإذا المراد أنه تعالى زين لهم ما
142
لهم أن يعملوا وهم لا يفقهون، أو المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زينا في زعمهم وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا، وضعف بعد المعارضة بالعلم وخلق الداعي بأن قوله تعالى كَذلِكَ زَيَّنَّا بعد قوله فَيَسُبُّوا اللَّهَ مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى. وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفرا وجهلا والعلم بذلك ضروري، بل إنما يختاره لأنه اعتقد كونه إيمانا وعلما وحقا وصدقا، ولولا سابقة الجهل الأول لما اختار الجهل الثاني ولا تذهب الجهالات إلى غير النهاية، فلا بد أن ينتهي إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه وهو بسبب ذلك الجهل ظن الكفر إيمانا والجهل علما. قال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ والغرض حكاية شبهة أخرى لهم وهي أن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة باهرة وبينة قاهرة لآمنا بك وأكدوا هذا المعنى بالأيمان والأقسام. قال الواحدي:
إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر وكانت الحاجة إلى ذكر الحلف عند انقسام الناس وقت سماع الخبر إلى مصدق ومكذب، فمعنى الأقسام إزالة القسمة وجعل الناس كلهم مصدقين بواسطة الحلف واليمين.
عن محمد بن كعب قال: كلمت رسول الله ﷺ وآله قريش فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كانت معه عصا فضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن صالحا كانت له ناقة، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا. قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله ﷺ يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا ولكن لم أرسل بآية فلم يصدق بها إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتركهم حتى يتوب تائبهم وأنزل الله الآيات إلى قوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه. وقال الزجاج: معناه بالغوا في الأيمان. والمراد بقوله لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ ما روينا من جعل الصفا ذهبا. وقيل: هي الأشياء المذكورة في قوله وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا [الإسراء: ٩٠] الآيات. وقيل: كان النبي ﷺ وآله يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين المكذبين فالمشركون طلبوا مثلها. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات لأن المعجزات لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، أو المراد بالعندية هو العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي
143
إيمانهم أم لا كقوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: ٥٩] أو المراد أنها وإن كانت معدومة في الحال إلا أنه تعالى متى شاء أحدثها وليس لكم أن تتحكموا في طلبها كقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: ٢١] وَما يُشْعِرُكُمْ ما استفهام والجملة خبره، ثم من قرأ أَنَّها بكسر الهمزة على الابتداء- وهي القراءة الجيدة- فالتقدير وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وأما قراءة الفتح فقال سيبويه: سألت الخليل عن ذلك فقال: لا تحسن لأنها تصير عذرا للكفار، لأن معنى قول القائل: ما يدريك أنه لا يفعل هو أنه يفعل. فمعنى الآية أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذرا لهم في طلبها، لكن القراءة لما كانت متواترة فلا جرم ذكر العلماء فيه وجوها: قال الخليل: «أن» بمعنى «لعل» تقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيأ أي لعلك. ويقوي هذا الوجه قراءة أبي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وثانيها «أن» تجعل «لا» صلة كما في قوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: ٩٥] وثالثها أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله: وما يدريكم أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق به على من أنهم لا يؤمنون. وأما من قرأ لا تُؤْمِنُونَ بتاء الخطاب فالمراد وما يشعركم أيها الكفار. قال القاضي والجبائي: في الآية دلالة على أنه تعالى يجب أن يفعل كل ما في مقدوره من الألطاف إذ لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده، ثم إنه لا يفعل ذلك لم يكن لتعليل ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون وجه. وأيضا لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ولم يكن لفعل الألطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات لم يكن لإظهار تلك المعجزات أثر. وأجيب بأن تأثير المعجزات عندهم مبني على وجوب اللطف، فلو أثبت اللطف به لزم الدور، وبأن الآية التي بعد هذه وهي قوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ تدل على أن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره. ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنهم إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها عرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات. والتقليب تحريك الشيء عن وجهه،
وكان ﷺ وآله يقول «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» «١»
والمراد أنه تعالى يقلب القلوب تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس. وإنما قدم ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر عنه، والحاصل
(١) رواه الترمذي في كتاب القدر باب ٧. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب ٢. أحمد في مسنده (٤/ ١٨٢)، (٦/ ٩١).
144
أن السمع والبصر آلتان للقلب فلهذا السبب وقع الابتداء بتقليب القلب. قال الجبائي:
المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وحرها لتعذيبهم. وزيف بأن قوله وَنَذَرُهُمْ إنما يحصل في الدنيا وهذا يستلزم سوء النظم. وقال الكعبي: المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم بأنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. وضعف بأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر وهو الذي أوقع نفسه في ذلك الحرمان فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله وَنُقَلِّبُ وقال القاضي: القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل. واعترض بأن تقليب القلب نقله من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة. أما قوله كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقال الواحدي: فيه حذف والتقدير ولا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة يعني أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره. والكناية في بِهِ إما عائدة إلى القرآن، أو إلى محمد ﷺ وآله، أو إلى ما طلبوا من الآيات وقيل: الكاف للجزاء أي كما لم يؤمنوا أول مرة فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم. قال الجبائي: وَنَذَرُهُمْ أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم بمعاجلة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم، فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وأنه يوجب تأكيد الحجة عليهم. وقالت الأشاعرة: نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان والضلال والعمى.
التأويل:
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ دلالات السعادات الباقية، فمن أبصرها بنظر البصيرة فاشتغل بتحصيلها وأقبل على الله لسلوك سبيلها فذلك تحصيل لنفسه فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وَمَنْ عَمِيَ فبالعكس. وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ لا تخاطبوا أهل الضلال على مواجب نوازع النفس والطبيعة فيحملهم ذلك على ترك الإجلال وإظهار الضلال، بل خاطبوهم بلسان الحجة والتزام الحجة ونفي الشبهة. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ حسبوا أن البرهان يوجب الإيمان ولم يعلموا أنهم مقهورون تحت حكم السلطان، وما يغني وضوح الأدلة لمن لم تدركه سوابق الرحمة وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عن الآخرة إلى الدنيا وَأَبْصارَهُمْ عن شواهد المولى إلى مشاهدة النفس والهوى كأنهم لم يؤمنوا يوم الميثاق إذ قلت ألست بربكم؟ قالوا بلى.
تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ
145
بسم الله الرحمن الجزء الثامن من أجزاء القرآن الكريم
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١١ الى ١٢١]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
القراآت:
قُبُلًا بكسر القاف وفتح الباء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون:
بضمتين. مُنَزَّلٌ بالتشديد: ابن عامر وحفص والمفضل. كَلِمَةُ رَبِّكَ عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون كلمات مَنْ يَضِلُّ من الإضلال: الأصبهاني عن نصير، فصل على البناء للفاعل وحَرَّمَ على البناء للمفعول: حمزة وخلف وعاصم غير حفص والمفضل، وقرأ أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وحفص جميعا بالفتح، الباقون: على البناء للمفعول فيهما لَيُضِلُّونَ بضم الياء: عاصم وحمزة وعلي وخلف، الباقون: بالفتح.
الوقوف:
يَجْهَلُونَ هـ غُرُوراً ط يَفْتَرُونَ هـ مُفَصَّلًا ط الْمُمْتَرِينَ هـ
146
وَعَدْلًا ط لِكَلِماتِهِ ج لابتداء الضمير المنفصل مع احتمال الواو الحال أي لا تبديل لكلماته وهو يسمع ويعلم، الْعَلِيمُ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط يَخْرُصُونَ هـ عَنْ سَبِيلِهِ ج بِالْمُهْتَدِينَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ إِلَيْهِ ط بِغَيْرِ عِلْمٍ ط بِالْمُعْتَدِينَ هـ وَباطِنَهُ ط يَقْتَرِفُونَ هـ لَفِسْقٌ ط لِيُجادِلُوكُمْ ج لَمُشْرِكُونَ هـ.
التفسير:
هذا شروع في تفصيل ما أجمله قوله أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:
١٠٩] وكان المستهزءون بالقرآن خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة، أتوا الرسول صلى الله عليه وآله في رهط من أهل مكة فقالوا: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا على ما تدعيه، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان وإن أوتوا هذه المقترحات. قال أبو زيد: يقال لقيت فلانا قبلا وقبلا ومقابلة كلها بمعنى واحد وهو المواجهة رواه الواحدي، وقال أبو عبيدة والفراء والزجاج: قبلا بكسر القاف معناه معاينة.
روي عن أبي ذر قال: قلت للنبي صلى الله عليه وآله: أكان آدم نبيا؟ قال: نعم، كان نبيا كلمه الله تعالى قبلا،
وأما قبلا بضمتين فقيل: إنه جمع قبيل ومعناه الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى مثل الروم والزنج والعرب ولهذا قال الأخفش في تفسيره أي قبيلا قبيلا. أو معناه الكفيل والعريف من قبل به يقبل قبالة، والمعنى لو حشرنا عليهم كل شيء فكفلوا بصحة ما يقول ما آمنوا، وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق، ومنها حي ومنها ميت، فإذا حشرها الله تعالى على اختلاف طبائعها مجتمعة في موقف واحد ثم أنطقها وأطبقوا على قبول هذه الكفالة كان ذلك من أعظم المعجزات، أما قوله تعالى: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إيمانهم، فقد قالت الأشاعرة: فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم، وقالت المعتزلة: لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم به لم يجب، ولو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر في كفره مطيعا لله لأنه لا معنى للطاعة إلا فعل المراد، ولو جاز من الله تعالى أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به، ولجاز أن يأمرنا بأن نريد الكفر. فالمراد من الآية أنه شاء من الكل الإيمان الاختياري وما شاء الإيمان القهري. والمعنى: ما كانوا ليؤمنوا إيمانا اختياريا إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار فحينئذ يؤمنون، وزيف بأن الاختيار لا بد معه من حصول داعية يترجح بها أحد طرفي الممكن، ولا تحصل تلك الداعية إلا بتخليق الله تعالى فكأنه لا اختيار. قال الجبائي: قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يدل على حدوث المشيئة إذ لو كانت قديمة وهي الشرط لزم من حصولها حصول المشروط. وأجيب بأنها قديمة إلا أن
147
تعلقها بأحداث المحدث في الحال إضافة حادثة. ثم ختم الآية بقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قالت الأشاعرة: أي لا يعلمون أن الكل بقضاء الله وبقدره. وقالت المعتزلة:
إنهم لا يدرون أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآية التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم الاختياري بمجيء الآيات المقترحات.
ثم قال: وَكَذلِكَ قيل: إنه منسوق على قوله: كَذلِكَ زَيَّنَّا [الأنعام: ١٠٨] أي وكما زينا لكل أمة عملهم جَعَلْنا وقيل: إن المشار إليه محذوف أي وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر. قالت الأشاعرة:
لا شك أن تلك العداوة معصية وكفر، وأن جعلها شرفا لآية تدل على أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله. قال الجبائي: المراد بهذا الجعل أنه حكم وبين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره، وإذا أخبر عن عدالته قيل عدله. وقال الكعبي: إنه أمر الأنبياء بعداوتهم وأعلمهم بكونهم أعداء لهم فاقتضى ذلك أنهم صاروا أعداء للأنبياء. لأن العداوة تكون من الجانبين. أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمدا إلى العالمين وخصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سببا للحسد والعداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له. وزيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي من الله تعالى، وبأن العداوة والمحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة والتكلف فلا يقدر عليها إلا الله تعالى. وانتصاب ال شَياطِينَ كما مر في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام:
١٠٠] قال الزجاج وابن الأنباري: عَدْواً في معنى الجمع، ولقائل أن يقول: لا حاجة إلى هذا التكلف لصحة قولنا: وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوّا واحدا. إذ ليس يجب أن يحصل لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد. عن ابن عباس: كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. وقال مجاهد وقتادة والحسن: إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين، وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه.
روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأبي ذر: هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال:
نعم، هم شر من شياطين الجن.
وقيل: إن الجميع من ولد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس، والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن. وزيف بأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين. وعن
148
مالك بن دينار أن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. ومعنى الإيحاء الإيماء أو القول السريع أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، وكذلك بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض، وكأنه لا يتصوّر وسوسة الإنس إلى الجن إلا على تقدير القول بالتسخير. وزُخْرُفَ الْقَوْلِ ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي، والتحقيق فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور خيرية أو نفعا لم يرغب فيه. ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقا للواقع فهو الحق والصدق والإلهام وكان صادرا من الملك وإلا كان مزخرفا أي يكون باطنه فاسدا وظاهره مزينا، قال الواحدي: غُرُوراً نصب على المصدر لأن إيحاء الزخرف من القول في معنى الغرور. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ استدلال الأشاعرة به ظاهر والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ منصوب على أنه مفعول معه أو مفعول به أي وافتراءهم أو ما يفترونه. قال ابن عباس: يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به، وفيه تحذير من الكفر وترغيب في الإيمان وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتنبيه له على ما أعد للكفرة من العقاب وله من الثواب بسبب صبره على سفاهتهم وتلطفه بهم. الصغو في اللغة الميل. يقال في المستمع إنه مصغ إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت. وأصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في بعض. ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى. قال الجوهري: صغا يصغو ويصغي صغوا أي مال، وكذلك صغى بالكسر يصغي بالفتح صغى وصغيا، واللام في وَلِتَصْغى لا بد لها من متعلق فقالت الأشاعرة: التقدير وإنما جعلنا مثل ذلك الشخص عدوّا للنبي لتميل إِلَيْهِ أو إلى قوله المزخرف أَفْئِدَةُ الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة النبي وَلِيَرْضَوْهُ وليختاروه على أنفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا وليكتسبوا من الآثام ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ وقال الجبائي: إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء: ١٤]. وزيف بأن حمل لام كي على لام الأمر تحريف. وقال الكعبي: هي لام العاقبة تقديره: ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار جعلنا لكل نبي عدوا. وعن أبي مسلم أنها معطوفة على موضع غُرُوراً والتقدير: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغتروا بذلك ولتميل قلوب الكفار إلى المذاهب الباطلة. وأورد عليه أن ميل القلوب إلى الآراء الفاسدة هو عين الاغترار فيلزم عطف الشيء على نفسه. وهاهنا بحث وهو أن الأشاعرة قالوا: البنية ليست شرطا للحياة، فالحي هو الجزء الذي قامت الحياة به، والعالم هو الجزء الذي قام العلم به. وقالت المعتزلة: الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء. حجة الأشاعرة أنه جعل الموصوف
149
بالميل والرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي، وبمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن. ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل والزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه، وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين: الأول: أن الله تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته وأشار إلى هذا الوجه بقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكما فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز. الوجه الثاني: اشتمال التوراة والإنجيل على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله حقا، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله وأشار إليه بقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ثم قال: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ والخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي
أن يمتري فيه أحد. وقيل: الخطاب للرسول في الظاهر والمراد به الأمة. وقيل: الخطاب للرسول في الحقيقة والمراد التهييج والإلهاب كقوله:
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ١٤] والمراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، ولا يريبك جحود أكثرهم. قال الواحدي: الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة. وقال بعض أهل التأويل: الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم والحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق.
ثم لما بين أن القرآن معجز قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي القرآن. وقوله: صِدْقاً وَعَدْلًا مصدران منتصبان على الحال من الكلمة، ومعنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علما وعملا، أو المراد بالتمام أنها أزلية ولا يحدث بعد ذلك شيء. واعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان: الخبر والتكليف فالخبر كل ما أخبر الله تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته وحصول صفاته أعني كونه تعالى قادرا سميعا بصيرا ويدخل فيه الخبر عن صفات التقديس والتنزيه كقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: ٣] لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله تعالى وكيفية تدبيره لملكوته في السموات والأرض وفي عالم الأرواح والأجسام، ويدخل فيه الخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب، ويدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء الله تعالى والخبر عن النبوات وأقسام المعجزات، والخبر عن أحوال النشر والقيامة وصفات أهل الجنة والنار، والخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن المغيبات. وأما التكليف فيدخل فيه
150
كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبيده سواء كان ملكا أو بشرا أو شيطانا، وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء المتقدمين أو في مراسيم الملائكة المقربين الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى. فإذن المراد وتمت كلمات ربك صدقا إن كان من باب الخبر وعدلا إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط حسن. وقيل: إن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد أن يكون واقعا، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون بصفة الظلم. ثم قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبه في كون القرآن دالا على صدق محمد إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلالة البتة لجلاء الدلالة ووضوحها. أو المراد أن كلماته تبقى موصوفة بصفتها مصونة عن التحريف والتغيير كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] أو الغرض أنها بريئة عن التناقض كما قال: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢] أو المعنى أن أحكام الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل لأنها أزلية والأزلي لا يزول، وهذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر إذ يلزم منه أن لا ينقلب السعيد شقيا وبالضد. ثم لما أجاب عن شبه الكفار بيّن أن عند ظهور الحجة وتبين المحجة لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهال فقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ والمضل لا بد أن يكون ضالا ويعني بهم الذين ينازعون النبي في الدين غير قاطعين بصحة مذاهبهم كالزنادقة وعبدة الكواكب والأصنام، وكالذين يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فيحكمون على الحق بأنه باطل وعلى الباطل بأنه حق. ثم قال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يقدرون على أنهم على شيء أو يكذبون في أن الله أحل كذا وحرم كذا. وأصل الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وليس لنفاة القياس تمسك بالآية من قبل توجه الذم على متبع الظن، لأن المذموم من اتباع الظن هو الذي لا يستند إلى أمارة كظن الكفار المستند إلى تقليد أسلافهم فقط، أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة فلم يتم أنه كذلك. ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ والمراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو والباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأن الله تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل أحد بما يليق بعمله، أو المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم، ومطلع على تحيرهم في أودية الجهالة وتيه الضلال، قال النحويون: إن أفعل التفضيل لا يعمل في مظهر، ففي الكلام محذوف أي يعلم من يضل عن سبيله، فإن لم يقدر محذوف قوي
بالباء كما في القلم
151
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم: ٧] وهذا هو الأصل، وإنما خص هذه السورة بالحذف موافقة لقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام:
١٢٤] وعدل إلى لفظ المستقبل تنبيها على قطع الإضافة لأن أكثر ما يستعمل «أفعل من» يستعمل مع الماضي نحو «أعلم من دب ودرج» و «أحسن من قام وقعد» و «أفضل من حج واعتمر». فلو لم يعدل إلى لفظ المستقبل التبس بالإضافة تعالى الله عن ذلك. وجوّز بعضهم أن يكون «من» للاستفهام كقوله: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الكهف: ١٢] ثم قال: فَكُلُوا والفاء مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم. فقال الله سبحانه للمسلمين: إن كنتم محققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله. فإن قيل: إن القوم كانوا يبيحون ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه. وإنما النزاع في أكل الميتة فإنهم كانوا يبيحونها والمسلمون يحرمونها، فما الحكمة في إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه؟
فالجواب لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فرد الله تعالى عليهم في الأمرين بقوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وبقوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: ١٤٥] أو نقول: المراد اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه، وعلى هذا فيكون المراد تحريم الميتة فقط والله أعلم. أما قوله: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ فأكثر المفسرين قالوا: المراد به ما فصل في أول المائدة من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: ٣] إلى آخر الآية، واعترض عليه بأن سورة الأنعام مكية والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة، والآية تقتضي أن يكون المفصل مقدما على هذا المجمل بل الأولى أن يقال:
المراد قوله تعالى بعد هذه الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: ١٤٥] إلى آخرها. فإن هذا القدر من التأخر غير ضائر. وقوله: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدّة المجاعة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ المبالغة في قراءة ضم الياء أكثر لأن كل مضل فإنه يكون ضالا، وقد يكون الضال غير مضل، قيل: إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسماعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة.
وقوله: بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة، وقال الزجاج: المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرون في إحلالها، أو يحتجون عليها بقولهم إذ حل ما تذبحونه أنتم فلأن يحل ما يذبحه الله تعالى أولى، وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوّة محمد صلى الله عليه وآله. وفي الآية دلالة على أن النزاع في الدين بمجرد التقليد حرام إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ فيجازيهم عليها
152
وفيه من التهديد ما فيه.
ثم ذكر آية جامعة فقال: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ فقيل: ظاهره الزنا في الحوانيت وباطنه الصديقة في السر. قال الضحاك: كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالا ما كان سرا.
والأصح أن النهي عام إذ لا دليل على تخصيصه. ثم قيل: المراد ما أعلنتم وما أسررتم.
وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقال ابن الأنباري: يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول: ما أخذت من هذا المال قليلا ولا كثيرا أي ما أخذته بوجه من الوجوه. وقريب منه قول من قال: المراد النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج عن كونه إنما بسبب إخفائه وكتمانه. وقيل: المراد النهي عن الإقدام على الإثم. ثم قال: وَباطِنَهُ ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس. وقيل: ظاهر الإثم أفعال الجوارح، وباطنه أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة الشر للمسلمين، ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني والندم على أفعال الخيرات، ومنه يعلم أن ما يوجد في القلب قد يؤاخذ به وإن لم يقترن به عمل إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي يكتسبون من الآثام ومنه الاعتراف يمحو الاقتراف كما يقال: التوبة تمحو الحوبة. وظاهر النص يدل على أنه يعاقب المذنب البتة إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب. وأهل السنة على أنه إذا لم يتب احتمل العفو وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ نقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من طعام أو شراب فهو حرام تمسكا بعموم الآية. وأجمع سائر الفقهاء على تخصيص هذا العموم بالذبح، ثم اختلفوا فمالك: كل ذبح لم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام، ترك الذكر عمدا أو نسيانا وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين. أبو حنيفة: إن ترك عمدا حرام وإن ترك نسيانا حل. الشافعي: متروك التسمية عمدا وسهوا حلال إذا كان الذابح مسلما لقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ والضمير عائد إلى الأكل الذي دل عليه الفعل أو إلى الموصول على أنه في نفسه فسق مثل «رجل عدل» أو على تقدير حذف المضاف أي وإن أكله لفسق. وقد أجمع المسلمون على أنه لا يفسق بأكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية ولقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وهذه المناظرة كانت في مسألة الميتة
وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة من قتلها إذا ماتت؟ قال: الله قتلها، قالوا:
فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله الآية،
فالمراد من الشياطين هاهنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليخاصموا محمدا وأصحابه في أكل الميتة. وقال عكرمة: وإن الشياطين- يعني مردة المجوس- ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش. وذلك أنه لما نزل تحريم الميتة
153
سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا وأصحابه يزعمون أن ما يذبحونه حلال وأن ما يذبحه الله حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين شيء فنزلت الآية. ثم قال: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يعني في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى أو حرم شيئا مما أحل الله فهو مشرك لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى. ثم قال الشافعي: الفسق في آية أخرى وهي، قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: ١٤٥] إلى قوله: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ مفسر بما أهل به لغير الله فعلمنا أن الفسق في هذه الآية أيضا مفسر به نزلنا عن هذا المقام وهو التمسك بالمخصصات، فلم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله هاهنا لما
روي أنه صلى الله عليه وآله قال: «ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل»
فيحمل هذا الذكر على ذكر القلب. أو نقول: هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن معنا ما يدل على الحل، وإذا تعارض الحل والحرمة فالحل راجح لأن الأصل في الأشياء الإباحة وللعمومات الدالة على الحل كقوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: ٢٩] كُلُوا وَاشْرَبُوا [الطور: ١٩] ولأنه مستطاب وقد قال: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: ٤]، ولأن الطبع يميل إليه وقد نهى عن إضاعة المال، هذا تقرير مذهب الشافعي ومع ذلك فالأولى بالمسلم أن يحترز عنه لقوة ظاهر النص. قال الكعبي: في الآية دلالة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات لأنه تعالى سمى مخالفته شركا. وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يراد بالشرك هاهنا اعتقاد أن لله شريكا في الحكم.
التأويل:
وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى أي: قلوبهم الميتة وَحَشَرْنا أي أريناهم جميع الآيات المودعة في المكونات إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن المشيئة تغير السجية والعناية الأزلية كفاية الأبدية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أن الهدى ليس بالمنى وأنه بمشيئة المولى، ثم أخبر أن البلايا للسائرين إلى الله هي المطايا فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ هي النفس الأمارة التي هي أعدى الأعداء. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هديناهم بنور الكتاب إلى حضرة الجلال فَلا تَكُونَنَّ نهى التكوين في الأزل وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ كلامه وقضاؤه في الأزل صِدْقاً فيما قال وَعَدْلًا فيما حكم بالوجود والعدم والسعادة والشقاوة والرد والقبول والخير والشر والحسن والقبح والإيمان والكفر، وأحسن شيء خلقه هو الإنسان لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: ٤] وكذلك شر شيء هو الإنسان عند فساد استعداده ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: ٥] ولأهل الكمال نرق في كمال الحسن إلى الأبد، ولأهل النقصان تسفل في القبح إلى الأبد أيضا إظهارا للقدرة الكاملة غير المتناهية وَهُوَ السَّمِيعُ لحاجة كل ذي حاجة الْعَلِيمُ بما يستأهله كل موجود وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ
154
فِي الْأَرْضِ
وهم أهل الأهواء وأقلهم أهل الحق وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ في دعوى طلب الحق. فإن سبيل الحق لا يسلك بالهوى وإنما يسلك بالصدق والهدى. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فمن أمارات الإيمان أن يأكلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع ويذيبوه بذكر الله كما
قال صلى الله عليه وآله «أذيبوا طعامكم بذكر الله»
فالأكل على الغفلة والنسيان والاستعانة به على العصيان يورث موت الجنان والحرمان من الجنان. وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ يا أهل الله ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وهو الدنيا وما فيها والآخرة ونعيمها إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ من ضروريات البشر في الدارين بأمر المولى لا بالطبع والهوى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ الذين جاوزوا المولى وركنوا إلى الدنيا والعقبى وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ يعني الأعمال الطبيعية وَباطِنَهُ يعني الأخلاق، الذميمة الردية سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ لأن الأخلاق الظلمانية توجب صدأ مرآة القلب وتزيدها رينا إلى أن يصير حجابا بين العبد وبين الله تعالى: ولا تأكلوا طعاما إلا بأمر الله وعلى ذكر الله وفي طلب الله ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته، وَإِنَّهُ يعني ظلام الطعام يؤدي إلى الفسق الذي هو الخروج من النور الروحاني إلى الكلمة النّفسانية. وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ فإن للشيطان مجالا في الوسوسة إذا كانت النفوس في المجادلة مع القلوب لتدعوها إلى متابعة الهوى الله حسبي.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٢ الى ١٣٠]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
155
القراآت:
مَيْتاً بالتشديد: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب رِسالَتَهُ بالنصب والتوحيد: ابن كثير وحفص والمفضل. الباقون: رِسالاتِهِ على الجمع وبالكسر في موضع النصب ضَيِّقاً وبابه بالتخفيف: ابن كثير حَرَجاً بكسر الراء: أبو جعفر ونافع وسهل وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح يَصَّعَّدُ من الصعود: ابن كثير يصاعد من التصاعد بإدغام التاء في الصاد: أبو بكر وحماد. الباقون: يَصَّعَّدُ بالإدغام من التصعد.
يَحْشُرُهُمْ بياء الغيبة: حفص. الآخرون بالنون.
الوقوف:
بِخارِجٍ مِنْها ط يَعْمَلُونَ هـ فِيها ط وَما يَشْعُرُونَ هـ رُسُلُ اللَّهِ ط رِسالاتِهِ ط يَمْكُرُونَ هـ لِلْإِسْلامِ ج لابتداء شرط آخر مع العطف. فِي السَّماءِ ج لا يُؤْمِنُونَ هـ مُسْتَقِيماً ط يَذَّكَّرُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ جَمِيعاً ج للحذف أي يحشرهم ويقول لهم مع اتحاد المقصود مِنَ الْإِنْسِ الأول ج لتبدل القائل مع اتفاق الجملتين أَجَّلْتَ لَنا ط قال النار يغلظ الصوت على النار إشارة إلى أن النار مبتدأ بعد القول وليست فاعله شاءَ اللَّهُ ط عَلِيمٌ هـ يَكْسِبُونَ هـ وْمِكُمْ هذا
طافِرِينَ
هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد أن ذكر أن المشركين يجادلون المؤمنين ضرب مثلا للفريقين فبيّن أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فجعله الله حيا وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيرا على الدوام، وهل هما خاصان أو عامان فيه قولان: الأول
قال ابن عباس: يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وآله بفرث وحمزة لم يؤمن بعد، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأنزلت الآية. وعن مقاتل: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأبي جهل وذلك أنه قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه. والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت،
وعن عكرمة أنها نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل، وعن الضحاك هي في عمر بن الخطاب وأبي جهل. والقول الثاني أنها عامة في كل مؤمن
156
وكافر لحصول المعنى في الكل. وإنما جعل الكفر موتا لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون. وأيضا الميت لا يهتدي إلى شيء وكذلك الجاهل، والهدى علم وبصيرة وهما يوجبان الفوز بالمطالب كالحياة والنور، قال بعض العلماء: قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً إشارة إلى أول مراتب النفس الإنسانية وهي الاستعداد المحض المسماة بالعقل الهيولاني عند الحكيم. وقوله: فَأَحْيَيْناهُ إشارة إلى ثانية مراتبها المسماة بالعقل بالملكة وهي أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية. وقوله وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً إشارة إلى ثالثة المراتب وهي التي قد حصلت لها المعقولات المكتسبة ولكنها لا تكون حاضرة بالفعل بل تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها قدر عليه ولهذا يسمى عقلا بالفعل أي الفعل القريب، وقوله: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ إشارة إلى رابعة المراتب وهي النهاية المسماة بالعقل المستفاد، وقد حصلت المعارف القدسية والجلايا الروحانية للنفس حاضرة بالفعل وصار جوهر الروح مشرقا بتلك المعارف مستضيئا بها.
ويمكن أن يقال: الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح، والنور عبارة عن اتصال نور الوحي والتنزيل فإنه لا بد في الإبصار من أمرين: سلامة الحاسة والنور الخارجي من الشمس والسراج، فكذلك البصيرة لا بد لها في الإدراك من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي فلهذا قال جمع من المفسرين: المراد بهذا النور القرآن، ومنهم من قال: نور الدين أو نور الحكمة. والأقوال متقاربة، وأما مثل الكافر فهو كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها وفيه أن ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت كالصفة اللازمة له لا تكاد تزول عنه فيبقى متحيرا خائفا فزعا نعوذ بالله من هذه الحالة. ومعنى المثل هاهنا الصفة الغريبة أي كمن صفته هذه والمراد كمن هو في الظلمات. ثم قال: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ والمزين هو الله بالتحقيق عند الأشاعرة. والشيطان بالحقيقة أو الله مجازا عند المعتزلة، والإضافة إلى الله بالحقيقة أو المجاز أولى بدليل قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا، أو وكما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ وهي جمع الأكبر ومُجْرِمِيها مضاف إليه والظرف مفعول ثان قدم ليعود الضمير إلى القرية. وقيل: التقدير جعلنا مجرميها أكابر. قال الزجاج: إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم، ولأن كثرة المال وقوّة الجاه تحمل الناس على المبالغة في حفظهما وذلك لا يتم إلا باستعمال بعض الأخلاق الذميمة من المكر والغدر والكذب والغيبة والنميمة والشح والأيمان الكاذبة وكفى بهذه الأمور دليلا على خساسة المال والجاه. واللام في لِيَمْكُرُوا على أصله عند الأشاعرة، واستدلوا به على أن الشر بإرادة الله تعالى. وحمله
157
المعتزلة على لام العاقبة مجازا كما حملوا الجعل في قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا على التخلية والخذلان. ثم قال في معرض التهديد وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن وباله يعود عليهم وَما يَشْعُرُونَ وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتقديم موعد بالنصرة، ثم إنه سبحانه حكى قول أبي جهل وأضرابه «زاحمنا بني عبد مناف في الشرف إلى آخره» وقول الوليد بن المغيرة «لو كانت النبوّة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا» فقال: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ أي معجزة قاهرة أو وحي. قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قال الضحاك: أراد كل واحد منهم ذلك كما في الآية الأخرى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: ٥٢] ويشبه أن يكون هذا الكلام الخبيث هو المراد بالمكر المذكور في الآية المتقدمة، وللمفسرين في مقترحهم قولان:
أحدهما- وهو الأشهر- أنهم أرادوا أن تحصل لهم النبوّة والرسالة كما حصلت للنبي ﷺ وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين. وثانيهما عن ابن عباس والحسن أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وآله قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: ٩٠] إلى قوله: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء: ٩٣] من الله تعالى إلى أبي جهل وفلان وفلان فالقوم ما طلبوا النبوّة وإنما طلبوا آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين تدل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. فقوله سبحانه في جوابهم على سبيل الاستئناف اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ على القول الأول ظاهر، وأما على القول الثاني فوجهه أن القوم إذا اقترحوا تلك الآيات فلو أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة. قال بعض العقلاء: الأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوّة والرسالة لبعضها دون بعض تشريف من الله تعالى وإحسان وتفضل. وقال آخرون: بل النفوس مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة، وبعضها خبيثة كدرة محبة للجسمانيات، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة. ومراتب الرسل مختلفة فمنهم ذو معجزة واحدة وذو معجزتين أو أكثر، ومنهم من له تبع قليل ومنهم من آمن به جم غفير، ومنهم من كان الرفق غالبا عليه ومنهم من كان مدار أمره على التغليظ والتشديد. وفي الآية تعريض بأن حصول النبوّة والرسالة لا بد فيه من قلب سليم، والمقترحون فيهم من المكر والحسد ما فيهم فكيف يعقل حصول الرسالة لهم وإنما يحصل لهم ما يناسب أخلاقهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ذل وهوان عِنْدَ اللَّهِ أي في الآخرة أو في الدنيا
158
بحكم الله وإيجابه من الأسر والقتل. أو المراد من عند الله فحذف «من». أو قوله: عِنْدَ اللَّهِ مستأنف أي معدّ لهم ذلك، واعلم أن كمال العقاب لا بد فيه من أمرين: الضرر، والإهانة. ثم إن القوم لما تردوا عن طاعة محمد صلى الله عليه وآله طلبا للعز والكرامة فالله تعالى بيّن أنه يقابلهم بضد مقصودهم، فأول ما يوصل إليهم الذل والهوان وبعده عذاب شديد جميع ذلك بسبب مكرهم ونكرهم فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يقال: شرح فلان أمره، إذا أظهره وأوضحه ومنه شرح المسألة إذا بينها. وقال الليث: شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول ذلك الأثر. ولا شك أن توسيع الصدر غير ممكن على سبيل الحقيقة ولكن هاهنا معنى وهو أنه إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إليه وقوي طلبه ورغبته في حصوله وظهر في القلب استعداد شديد لتحصيله فسميت هذه الحالة سعة الصدر، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن يكون ذلك العمل مشتملا على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وحصل في النفس نبوّة عن قبوله فيقال لهذه الحال ضيق الصدر، لأن المكان إذا كان ضيقا لم يتمكن الداخل من الدخول فيه، وإذا كان واسعا قدر على الدخول فيه. وأكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحق والإسلام وقد ورد في الكفر أيضا قال تعالى: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل: ١٠٦].
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله ﷺ فقيل له: كيف يشرح الله صدره؟ فقال صلى الله عليه وآله: يقذف الله تعالى فيه نورا حتى ينفسخ وينشرح، فقيل له: وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله»
وهذا البيان مناسب لما ذكرنا فإن الإنابة إلى دار الخلود لا بد أن تترتب على اعتقاد أن عمل الآخرة زائد النفع والخير، والتجافي عن دار الغرور إنما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضر والضير، والاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. أما قوله: حَرَجاً فمن قرأ بكسر الراء فعلى النعت، ومن قرأ بالفتح فعلى الوصف بالمصدر للمبالغة. قال الزجاج: الحرج في اللغة أضيق الضيق. وقيل: الحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية. حكى الواحدي بإسناده عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال: هل هاهنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم. قال: ما الحرجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الأشجار المشتبك الذي لا طريق فيه. فقال: كذلك قلب الكافر.
ومعنى: يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كأنما يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف
159
الصعود إلى السماء. وقيل: المراد أن قلبه يتباعد عن الإسلام وقبوله تباعد ما بين الأرض والسماء. كَذلِكَ يَجْعَلُ أي كما جعل ضيق الصدر في قلوبهم كذلك يجعل الرجس عليهم. وقال الزجاج: أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس. عن ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم. وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وعن عطاء: الرجس هو العذاب. وقال الزجاج: هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن الهداية والضلال من الله تعالى بيانه أن العبد قادر على الإيمان وعلى الكفر وقدرته بالنسبة إلى الأمرين سواء ولا يترجح إلا لداعية، ولا معنى للداعية إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة زائدة، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل، ولا بد أن تنتهي تلك الداعية إلى تخليق الله وتكوينه دفعا للتسلسل فإذا خلق الله تعالى في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة- وهو المراد بشرح الصدر- مال القلب إليه، وإذا خلق في قلبه اعتقاد أن الإيمان بمحمد سبب للمفسدة الدينية والدنيوية نبا طبعه عنه وبقي على الكفر. فحاصل الآية أن من أراد الله منه الإيمان قوى دواعيه إليه، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان. وقالت المعتزلة: إنه لا دلالة في الآية على قولكم لأنه ليس فيها أكثر من أنه إذا أراد أن يهدي إنسانا أو يضله فعل به كيت وكيت، وليس فيها أنه أراد ذلك أو لم يرده نظيره قوله: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء: ١٧] فبيّن أنه كيف يفعل اللهو لو أراده، ثمّ إنه لم يرد ذلك بالاتفاق وأيضا لم قلتم إنه أراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان بل المراد من يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه، وتفسير الشرح هو أنه يفعل به ألطافا تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه. ومن يرد أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج لا في كل الأوقات بل في بعضها كيلا يمكن دفعه وخصوصا عند ظهور نصرة المؤمنين وبدوّ الذل والصغار في الكافرين. وأيضا لم لا يجوز أن يقال: المعنى فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لما رأى من فوائد الإيمان ونتائجه من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فتزداد رغبته فيه، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره للحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنّة والدخول في النار؟ وقال في الكشاف: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يمنعه ألطافه حتى
160
يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان. وأجيب عن قولهم «ليس في الآية أنه أراد ذلك أو لم يرده» بأن قوله في آخر الآية: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ تصريح بأنه فعل به ذلك الإضلال لأن الكاف للتشبيه والتقدير: كما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره كذلك يجعل. وفيه أيضا دلالة على أن المراد من قوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ هو أنه يضله عن الدين، وتفسير الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر بعيد لأن أكثر من يعتريه الحزن في الدنيا هو المؤمن ولهذا
قال صلى الله عليه وعلى آله: «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل» «١»
ولو خص ذلك بالآخرة كان من إيضاح الواضحات. فمن المعلوم لكل أحد أن من يضله الله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت. والجواب على قول صاحب الكشاف مما مر من أن فعل الإيمان يتوقف على أن تحصل في القلب داعية جازمة إلى الإيمان، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذا القول في جانب الكفر، فإن سمى الداعيتين أحد باللطف والخذلان فلا مشاحة في الأسامي. قال القاضي في تفسيره: روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: تذاكرنا أمر القدرية عند ابن عمر فقال: لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا فإذا كان يوم القيامة نادى مناد وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية. قال: ولا يخفى أنهم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله قضاء وقدرا وخلقا لأنهم يقولون الذنب لله فأي ذنب لنا حتى تعاقبنا أنت الذي خلقته فينا وأردته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له ولا يسرت لنا غيره، فهؤلاء لا بد أن يكونوا خصماء الله. أما الذين قالوا إن الله تعالى مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة، فهؤلاء منقادون لله تعالى لا خصماؤه. هذا كلام القاضي وتعجب منه الأشاعرة فقالوا: كيف يكون خصم الله من يقول ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على ربه اعتراض ولا مناظرة وكل ما يصل منه إلى عباده حتى الملائكة والأنبياء فهو تفضل منه وإحسان، لكن الخصم من يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولا عن الربوبية وكنت من السفهاء وأن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات، فإن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة سنين غير محصورة، ثم إنه لو ترك ذلك لحظة واحدة قال العبد له إنك معزول عن الإلهية. يحكى أن
(١) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ٧. البخاري في كتاب المرضى باب ٣. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٢٣. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦٧. أحمد في مسنده (١/ ١٧٢، ١٧٤)، (٦/ ٣٦٩).
161
الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله، عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن أبا علي عقد مجلس التذكير وحضر عنده جم غفير، فذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس مختفيا عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز: إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ. قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد في غاية الزهد، وآخر في غاية الفسق، والثالث كان صبيا لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم. فقال الجبائي: أما الزاهد ففي درجات الجنة، وأما الكافر ففي دركات النار، وأما الصبي فمن أهل السلامة. فقال: قولي له إن الصبي لو أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد فهل يمكن منه؟ قال الجبائي: لا لأن الله تعالى يقول له إنما أخوك وصل إلى تلك الدرجات لأنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذلك. فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الصبي يقول: يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل بلوغي، ولو أبلغتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد، فقال الجبائي: يقول الله تعالى له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار فراعيت مصلحتك. فقال لها أبو الحسن: قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار وقال: يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين، لم راعيت حال الأخ الصغير وما راعيت حالي ومصلحتي؟
قال الراوي: فانقطع الجبائي فنظر فرأى أبا الحسن فعلم أن المسألة منه لا من العجوز. ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار وأكثر مجيبا عن الجبائي قائلا: نحن لا نرضى بهذا الجواب وإنما نقول: الجواب مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها، وهي أنه هل يجب على الله تعالى أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون: إنه غير واجب ولكنه تفضل وإحسان. وقال البغداديون: إنه واجب وعلى الأول لله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلا على أحد بشيء أن أتفضل على غيره بمثله، وعلى قول البغداديين فلله أن يقول: إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف في حقه لم يستلزم مفسدة الغير فلا جرم فعلته، أما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك فكان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا ما فعلته وظهر الفرق. وأورد على القسم الأول أنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح منه عقلا لأنه ليس فعلا شاقا عليه ولا ينقص بذلك شيء من ملكه، والصبي محتاج إلى الإحسان إليه ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد كمن منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجواد لعامة الناس. فإن كان حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولا فليكن هاهنا
162
أيضا مقبولا وإلا فلا يقبل في شيء من الصور وتبطل كلية مذهبكم. وأورد على الشق الثاني أن قولنا: «تكليفه يتضمن مفسدة» ليس معناه أن ذات التكليف تتضمن المفسدة وإلا لم ينفك تكليف عن المفسدة وأنه باطل بالاتفاق، فمعناه إذا أنه تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنسانا آخر يختار من قبل نفسه فعلا قبيحا، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تعالى تكليفه وجب أن يقبح تكليف كل من علم الله من حاله أنه يكفر وإلا لزم محض التحكم. هذا تمام مناظرة الفريقين، ولعلك قد عرفت التحقيق هنا فيما سلف فتذكر.
ثم قال: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ في المشار إليه وجوه منها: أنه المذكور في الآية المتقدمة. أما على مذهب الأشاعرة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فيكون الفعل من الله، ويلزم استناد الكل إلى قضائه وقدره. وأما على مذهب المعتزلة فالمراد هذا الذي قررنا طريقته التي اقتضتها الحكمة وعادته الجارية في عباده من التوفيق والخذلان. ومعنى مُسْتَقِيماً عادلا مطردا. وانتصابه على الحال المؤكدة والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. أو هو محذوف أي أحقه. وعن ابن عباس: يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك. وقال ابن مسعود: يعني القرآن. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ ذكرناها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر. قال في التفسير الكبير: قد بيّن الله تعالى صحة القول بالقضاء والقدر في آيات من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة. وختم الآية بقوله: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح عن الآخر إلا لمرجح فكأنه يقول للمعتزلي: تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك فإن حصول الفعل عن القادر لو لم يتوقف على الداعي مع تساوي طرفيه وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذ يلزم نفي الصانع وإبطال القول والفعل والفاعل والتأثير والمؤثر. ثم لما بيّن عظمة نعمته في الصراط المستقيم بيّن ما أعد وهيىء للمتذكرين فقال: لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي دار الله يعني الجنة، والإضافة للتشريف والتعظيم كما قيل:
الكعبة بيت الله: أو دار السلامة من كل آفة وكرب والسلام والسلامة مثل: الضلال والضلالة والرضاع والرضاعة كلاهما مصدر. وقيل: السلام جمع السلامة لأن أنواع السلامة حاصلة في الجنة. ومعنى عِنْدَ رَبِّهِمْ أنها معدة عنده وفي ضمانه كما يقال لفلان عندي حق لا ينسى وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من حصولها وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي قريب منهم بالرحمة والرضوان أو مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم، وذلك أن القوم قد عرفوا أن المدبر والمقدر ليس إلا هو جل جلاله، وأن النافع والضار ليس إلا هو
163
سبحانه، فانقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه، وما كان توكلهم إلا عليه، ولم يكن أنسهم إلا به، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال سبحانه: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ على أنه متكفل لجميع مصالحهم دينا ودنيا. ثم قال: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون لئلا يقطعوا العمل ولا يتكلوا، وذلك أن بين النفس والبدن تعلقا شديدا وكما أن الهيآت النفسانية قد تؤثر في البدن كحمرة الخجل وصفرة الوجل فالهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس، فإذا واظب الإنسان على أعمال الخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس فلا بد للسالك من العمل بعد كمال العلم والمعرفة. ثم لما بين حال من تمسك بالصراط المستقيم أردفها بذكر من تعلق بضده فقال:
ويوم نحشرهم والمراد واذكر يوم كذا، أو يوم نحشرهم قلنا، أو متعلقة محذوف والتقدير: ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته، والضمير إما أن يعود إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أو يعود إلى جميع المكلفين الذين علموا أن الله تعالى يبعثهم من الثقلين وغيرهم، ويكون القائل على تقدير حذف القول هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم. وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا للتبكيت وإنهم وإن تمردوا في الدنيا انتهى حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف. وقال الزجاج: التقدير فيقال لهم: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار لقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة: ١٧٤] قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ لا بد فيه من إضمار لأن الجن أي الشياطين لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس، فالمراد قد استكثرتم من إضلال الإنس واستتباعهم فحشر معكم منهم الجم الغفير كما يقال استكثر الأمير من الجنود. أما قوله: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فالأقرب عند بعضهم أن فيه حذفا فكما قال للجن تبكيتا ناسب أن يقول للإنس أيضا مثل ذلك توبيخا لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول. ولما بكت الله كلا الفريقين حكى جواب الإنس وهو قوله: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وفيه قولان: الأول أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا ففي الاستمتاع وجهان: أحدهما أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض منفردا وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. فيبيت آمنا في نفسه. فهذا استمتاع الإنس بالجن، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيما منهم للجن وذلك الجني يقول: قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه. وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج ويعضده قوله سبحانه: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: ٦]
164
وثاني الوجهين أن الإنس كانوا ينقادون للجن ويطيعون حكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع فانتفعوا بالإنس انتفاع الرئيس بالخادم، وأما انتفاع الإنس بالجن فهو أن دلوهم على الشهوات واللذات إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي أيقنوا أنه يسوء عاقبتهم وهذا اختيار الزجاج. والقول الثاني أن البعضين كليهما من الإنس لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي ذلك الاستمتاع كان حاصلا إلى وقت محدود ثم جاءت الحسرة والندامة من حيث لا ينفع. وما ذلك الأجل؟ قيل: هو وقت الموت وعلى هذا فكل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا بأنهم بلغوا أجلهم وفيهم المقتول وغير المقتول. وقيل: هو وقت التخلية والتمكين وقيل: وقت المحاسبة في القيامة قالَ الله تعالى في جوابهم النَّارُ مَثْواكُمْ مقامكم ومقرّكم من ثوى بالمكان يثوي ثويا إذا أقام به. قال أبو علي الفارسي: المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فالمعنى النار أهل أن يقيموا فيها خالدين. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل: المراد منه أوقات المحاسبة ووقت كونهم في المحشر كأنه قيل: خالدين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم. وقال ابن عباس: استثنى الله قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله. وعلى هذا يلزم أن يكون «ما» بمعنى «من» وفيه خلل آخر وهو أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة الذي يحشرون فيه، وقيل: المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير.
روي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد الشديد إلى حر الجحيم.
وقال في الكشاف: أو يكون هذا من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله، إن نفست عنك إلا إذا شئت، فيكون قوله: «إلا إذا شئت» من أشد الوعيد مع تهكم لأنه إطماع محض ويأس كلي. وقال أبو مسلم: هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم كأنهم قالوا: وبلغنا أجلنا الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى يعني الآجال الاخترامية إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة. عَلِيمٌ بما يستأهله كل طائفة فكأنه تعالى يقول:
إنما حكمت لهؤلاء بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك. ثم لما حكى عن الجن أن بعضهم يتولى بعضا بين أن ذلك إنما حصل بتقديره وقضائه فقال: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً وذلك أن القدرة صالحة للعداوة والصداقة فترجيح أحد الجانبين لا يكون إلا بداعية خلقها الله قطعا للتسلسل، وأيضا لما بين أنه سبحانه ولي أهل الجنة بقوله: هُوَ
165
وَلِيُّهُمْ
ذكر أن أولياء أهل النار من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وأشار إليه بقوله:
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كون ذلك البعض مكتسبا للظلم وهذه مناسبة في غاية اللطف لأن الجنسية علة الضم فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. وفي الآية دلالة على أن الرعية متى كانوا ظلمة فإن الله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم، فإن أرادوا الخلاص منه فليتركوا الظلم
وعن مالك بن دينار قال: جاء في بعض الكتب السماوية «أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة، لا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم».
ثم بيّن أن كفار الثقلين لا يكون لهم إلى الجحود يوم القيامة سبيل وأنهم لا يعذبون إلا بالحجة فقال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
قال أهل اللغة: المعشر كل جماعة مختلطة يجمعهم أمير واحد لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
استفهام على سبيل التقدير فلا جرم استدل الضحاك بالآية وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٢٤] على أن من الجن رسلا كالإنس، ولأن استئناس الجنس بالجنس أكمل ولهذا قال سبحانه: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: ٩] والأكثرون على أنه ما كان من الجن رسول البتة إنما كانت الرسل من بني آدم وزعموا أن ذلك مجمع عليه. ورد بأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف؟ واستدل بعضهم على المطلوب بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آل عمران: ٣٣] والمراد بالاصطفاء هاهنا النبوّة بالإجماع. وأجيب عن قول الضحاك بأن الآية تقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضا من أبعاض هذا المجموع فكان هذا القدر كافيا في حمل اللفظ على ظاهره فلا يلزم إثبات رسول من الجن. وأيضا لا يبعد أن يقال: إن الرسل كانوا من الإنس، ثم كان من الجن نفر يستمعون من رسول الإنس وينذرون قومهم بذلك قال: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: ٢٩] الآية. وقد يسمى رسول الرسول رسولا كما أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: ١٤] ثم إنه سبحانه يكون قد بكت كفار الثقلين بهذه الآية لأنه أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إليهم فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل المقصود. وقال الواحدي: أراد رسل من أحدكم وهو الإنس كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ [الرحمن: ٢٢] أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب. وعن الكلبي كانت الرسل قبل أن يبعث محمد يبعثون إلى الإنس ورسول الله صلى الله عليه وآله بعث إلى الجن والإنس. أما قوله: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتأويل وبالتلاوة يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يخوفونكم
166
عذاب هذا اليوم فلم يجدوا بدا من الاعتراف فلذلك الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
والسبب في أنهم أقروا في هذه الآية وجحدوا في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] هو أنهم مختلفو الأحوال في يوم القيامة مضطربون فتارة يقرّون وأخرى يجحدون. ومنهم من حمل هذه الشهادة على شهادة الجوارح عليهم. ثم أخبر الله تعالى عن حالهم في الدنيا بقوله: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
وعن حالهم في الآخرة بقوله: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
والمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجر أمثالهم في الدنيا عن الكفر والمعصية. وقد يستدل بالآية على أن لا وجوب قبل ورود الشرع وإلا لم يكن لهذا التوبيخ والتبكيت فائدة.
التأويل:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً في حالة العدم فَأَحْيَيْناهُ بالحياة الحقيقية أي بالحي الذي لا يموت وَجَعَلْنا لَهُ نور الوجود الحقيقي الذي يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ وبه يسمع وبه يبصر كَمَنْ هو محبوس فِي الظُّلُماتِ الطبيعة وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أي كل قالب أَكابِرَ مُجْرِمِيها من النفس والهوى والشيطان لِيَمْكُرُوا فِيها بمخالفات الشرع وموافقات الطبع. ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ من القلب والسر والروح. يَشْرَحْ صَدْرَهُ أي ينظر إلى قلبه بنظر العناية فينوّره بنور جماله وهو نور الإيمان، فيشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام. وهذا النور يقبل الزيادة والاشتداد إلى أن يصير الإيمان إيقانا والإيقان عيانا والعيان عينا. ضَيِّقاً لتزاحم ظلمات صفات البشرية حَرَجاً لتعلقاته بالدنيا وشهواتها كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ لأنه سفلي بالطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر. وَهذا الذي بينا من الهداية والضلالة صِراطُ رَبِّكَ باللطف والقهر فبجذبات اللطف يهدي السعيد وبسطوات القهر يضل الشقي. لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج عن ظلمات الاثنينية. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ في موقف القالب البشري بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة يا مَعْشَرَ الْجِنِّ أي الصفات الشيطانية قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي غلبتم على الصفات الإنسانية وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني النفس الأمارة رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ واستمتاع النفس الأمارة بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره على تحصيل شهواتها ولذاتها العاجلة وحظوظها، واستمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائهم كما استعان بحواء على إغواء آدم. وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا
يعني أن مدة الاستمتاع وما جرى بيننا إنما كان بمقتضى قضائك وقدرك فأجابهم بأن الثوى في النار أيضا بقضاء الله إلا أن يشاء الله فيتوب عليهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في تقدير الاستمتاع عَلِيمٌ بأهل الجنة
167
وبأهل النار، وَكَذلِكَ أي كما جعلنا مردة الجن والإنس بعضهم أولياء بعض فكذلك نجعل بعض الظالمين أولياء بعض بما كانوا يكسبون من إفساد الاستعداد الفطري لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يعني الإلهامات الربانية. وشهدوا على أنفسهم أقروا عند الحرمان عن السعادة العظمى أنهم بذواتهم كانوا صدأ مرآة قلوبهم وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم: ٣٩، ٤٠] وما التوفيق إلا منه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣١ الى ١٤٠]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
القراآت:
عما تعملون بتاء الخطاب: ابن عامر مكاناتكم بالجمع حيث كان:
أبو بكر وحماد. الباقون مَكانَتِكُمْ على التوحيد. من يكون بالياء التحتانية: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بتاء التأنيث. بِزَعْمِهِمْ بضم الزاي علي وكذلك ما بعده الباقون:
بالفتح زَيَّنَ على البناء للمفعول قَتْلَ بالرفع أَوْلادِهِمْ بالنصب شركائهم بالجر:
ابن عامر. الآخرون زَيَّنَ على البناء للفاعل قَتْلَ بالنصب أَوْلادِهِمْ بالجر
168
شُرَكاؤُهُمْ بالرفع وإن تكن بتاء التأنيث: ابن عامر ويزيد وأبو بكر وحماد مَيْتَةً بالرفع: ابن كثير وابن عامر ويزيد، وقرأ مَيْتَةً بالتشديد ابن كثير وابن عامر. الباقون:
بالتخفيف.
الوقوف:
غافِلُونَ هـ مِمَّا عَمِلُوا ط يَعْمَلُونَ هـ ذُو الرَّحْمَةِ ط آخَرِينَ هـ لَآتٍ لا لأن الواو بعده للحال بِمُعْجِزِينَ هـ عامِلٌ ج لابتداء التقرير مع فاء التعقب تَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول سواء كان من استفهامية أو موصولة عاقِبَةُ الدَّارِ ط الظَّالِمُونَ هـ لِشُرَكائِنا ج للشرط مع الفاء إِلَى اللَّهِ ج للفصل بين المتضادين معنى مع الاتفاق حكما شُرَكائِهِمْ ط يَحْكُمُونَ هـ دِينَهُمْ ط يَفْتَرُونَ هـ افْتِراءً عَلَيْهِ ط يَفْتَرُونَ هـ أَزْواجِنا ج للشرط مع العطف. شُرَكاءُ ط وَصْفَهُمْ ط عَلِيمٌ هـ عَلَى اللَّهِ ط مُهْتَدِينَ هـ.
التفسير:
ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره أَنْ لَمْ يَكُنْ وهو للتعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك، أو ذلك الذي ذكر لانتفاء كون ربك مهلك القرى و «أن» هي الناصبة للأفعال أو مخففة من الثقيلة، وعلى هذا يكون ضمير الشأن محذوفا أي أن الحديث كذا، ويجوز أن يكون، أَنْ لَمْ يَكُنْ بدلا من ذلِكَ كقوله: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [الحجر: ٦٦] ومعنى قوله: بِظُلْمٍ أي بسبب ظلم أقدموا عليه وهذا أليق بأصول الأشاعرة. أو المراد ظالما لكم فيكون من فعل الله وهذا أنسب بأصول المعتزلة. ومعناه أنه تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل ولم ينبهوا برسول ولا كتاب كان ظالما. وعلى هذا التفسير يمكن للأشاعرة أن يقولوا إنه لو فعل ذلك لم يكن ظلما ولكنه يكون في صورة الظلم فأطلق الظلم على نفسه مجازا وإلا فهو تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله. وأما قوله: وَأَهْلُها غافِلُونَ فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به وإنما معناه أنه لا يبين لهم كيفية الحال وأن لا يزيل عذرهم وعلتهم. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة لأنها تدل على أنه تعالى ما يعذب أحدا على أمر من الأمور قبل بعثة الرسل لكن بعدها. والمعتزلة قالوا: إنها تدل من وجه آخر على تقرير الوجوب قبل الشرع لأن قوله: بِظُلْمٍ إن كان عائدا إلى العبد دل على أنه يمكن أن يصدر منه الظلم والقبيح قبل البعثة، وإن كان عائدا إلى الله تعالى فقد تم الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه. ثم لما شرح أحوال أهل الثواب والعقاب ذكر
169
كلاما كليا فقال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ أي ولكل عامل في عمله درجات، وعلى حسب تلك الدرجات يكون الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ومعنى مِمَّا عَمِلُوا أي من جزاء أعمالهم. وقيل: إن أول الآية مختصة بأهل الطاعات لأن لفظ الدرجة يليق بهم ولأهل المعصية تكون الدركات وإليه الإشارة بقوله وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قالت الأشاعرة:
في الآية دليل على مسألة الجبر والقدر فإنه تعالى حكم لكل واحد بدرجة معينة في وقت معين وبحسب فعل معين، وأثبت تلك الدرجة في اللوح المحفوظ وأشهد عليها الملائكة وخلاف علمه وإثباته وإشهاده محال. ثم بين أنه ليس يحتاج إلى طاعة المطيعين ولا يدخل عليه نقص بمعصية العاصين فقال: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ أما أنه غني في ذاته وصفاته وأفعاله وفي أحكامه عن كل ما سواه فلوجوب وجوده، وأن ما سواه ممكن لذاته مفتقر في الوجود وفي الأمور التابعة للوجود إليه فلا غنيّ إلا هو، وأما أنه ذو الرحمة فلأن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات من الروحانيات ومن الجسمانيات فهو من الحق وبإيجاده وتخليقه، والاستقراء دل على أن الخير غالب كالصحة والشبع والسمع والبصر وما ذلك إلا لرحمته الكاملة ورأفته الشاملة. والذي يتصوّر من رحمة الوالدين وغيرهما فإنما ذلك بإيجاد داعية ذلك فيهم ومع ذلك فتمكن الشخص من الانتفاع بها ليس إلا منه تعالى. ومن هذا يعلم تنزهه تعالى عن الظلم والسفه والكذب والعبث. ومن رحمته تكليف الخلائق ليعرضهم للمنافع الباقيات الدائمات. ثم لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة كان لظانّ أن يظن أن للرحمة معدنا مخصوصا وموضعا معينا فبين تعالى بقوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوما آخرين ويضع رحمته فيهم، وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم. ومعنى الإذهاب الإهلاك وأن لا يبلغهم مبلغ التكليف وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ أي:
من بعد ذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون، إلا على طريق البدل من فائت، وقوله:
ما يَشاءُ أي خلق ثالث ورابع. ثم اختلفوا فقال بعضهم: خلقا آخرين من أمثال الجن والإنس لكن أطوع، وقال أبو مسلم: يعني خلقا ثالثا مخالفا للثقلين ليكون أقوى في دلالة القدرة. ثم بيّن سبب قدرته على ذلك فقال كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ لأن من قدر على تصوير النطفة المتشابهة الأجزاء بهذه الصور المخصومة قدر على تصويرها بصور أخرى مخالفة لها. وقال في الكشاف: المعنى كما أنشأكم من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام، ثم ذكر حال المعاد فقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ قال الحسن: أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة، ويحتمل أن يقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ إشارة إلى لطفه أي ما يتعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة.
170
وقوله: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي خارجين عن قدرتتا وحكمنا إشارة إلى قهره، يقال:
أعجزه الشيء أي فاته. فالجزم في جانب الوعد والتعريض في جانب الوعيد دليل على أن جانب الرحمة والإحسان أغلب. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله بتهديد منكري البعث فقال:
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ قال الواحدي: قراءة الإفراد أوجه لأن المصدر لا يجمع في أغلب الأحوال، وقال في الكشاف: المكانة تكون مصدرا. يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكين. وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة، فمعنى الآية اعملوا على نمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل: على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه إِنِّي عامِلٌ على مكانتي التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، والغرض تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أينا تكون له العاقبة المحمودة، والفاء لتعقيب الجزاء ألا يعادي أي قل اعملوا فستجزون وهكذا في سورة الزمر بخلاف سورة هود حيث لم يقل هناك «قل» فصار استئنافا ومحل «من» نصب إن كان بمعنى «الذي» أو رفع والجملة مفعول تعلمون إن كان بمعنى أيّ وعاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهي مصدر كالعافية. وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف وأدب ووثوق بأن المنذر محق ولهذا قيل له فإن الكافر تكون العاقبة عليه لا له.
ثم حكى أنواعا من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيها على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيرا للعقلاء عن الالتفات إلى أقوال أمثالهم فقال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ قال الزجاج: وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا بدليل قوله: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا وجعل الأوثان شركاء لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونها عليها. ثم قال: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ وفي تفسيره وجوه: قال ابن عباس: كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم نصيبا وللأوثان نصيبا، فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه البتة. ثم إن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غنيّ عن هذا، وإن سقط شيء مما جعلوا للأوثان في نصيب الله تعالى أخذوه وردّوه إلى نصيب الصنم وقالوا: إنه فقير. وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها. وعن الحسن والسدي: كان إذا هلك لأوثانهم شيء أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله تعالى. وقال مجاهد: إنه إذا انفجر من سقى ما جعلوه للشيطان في نصيب الله عز وجل
171
سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه، وقال قتادة: إذا أصابهم شدة استعانوا بالله وإذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى شركائهم. وقال مقاتل: إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة. وقالوا: لو شاء زكى نصيب نفسه. وأما إن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بدّ لآلهتنا من نفقة وأخذوا نصيب الإله تعالى فأعطوه السدنة.
فمعنى فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أنه لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين، ومعنى الوصول إلى شركائهم أنهم ينفقونه عليها بذبح نسائك عندها والأجراء على سدنتها ونحو ذلك. وقوله: مِمَّا ذَرَأَ فيه أن الله تعالى كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه أي خلقه. ثم إنه سبحانه ذم فعلهم فقال:
ساءَ ما يَحْكُمُونَ وذكر العلماء فيه وجوها: الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانبه وهو سفه. الثاني جعلوا بعض الحرث لله وبعضه لغيره مع أنه تعالى هو الخالق للجميع. الثالث أن ذلك حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وأشار إليه بقوله بِزَعْمِهِمْ الرابع لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز نصيب لكل حجر ومدر. الخامس لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها على الانتفاع بذلك النصيب، فإفراز النصيب لها عبث. النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة قوله: وَكَذلِكَ زَيَّنَ كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفا من الفقر أو من التزويج، وكان الرجل يحلف بالله إن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب على ابنه عبد الله، والشركاء على الوجه الأول الشياطين الذين أطاعوهم في معصية الله تعالى، وعلى الثاني هم السدنة والخدام، والأول قول مجاهد، والثاني للكلبي. وتقدير الكلام ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين زين لهم شركاؤهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد أو بالنحر. ثم إن وجه القراءة الأكثري ظاهر وليس فيها إلا تقديم المفعول وذلك لشدة الاعتناء به، وأما قراءة ابن عامر فخطأها الزمخشري من جهة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف فإن ذلك قد جوز بالظرف كقوله:
لله در اليوم من لامها وضعف بغير الظرف كقوله:
فزججتها بمزجة... زج القلوص أبي مزاده
وحملوه على ضرورة الشعر مع الاستكراه، والحق عندي في هذا المقام أن القرآن
172
حجة على غيره وليس غيره حجة عليه، والقراآت السبع كلها متواترة فكيف يمكن تخطئة بعضها؟ فإذا ورد في القرآن المعجز مثل هذا التركيب لزم القول بصحته وفصاحته وأن لا يلتفت إلى أنه هل ورد له نظير في أشعار العرب وتراكيبهم أم لا، وإن ورد فكثير أم لا؟
ومع ذلك فقد وجهه بعض الفضلاء بأن المضاف إليه من الأول محذوف على نحو قوله:
بين ذراعي وجبهة الأسد والمضاف مضمر مع الثاني كقراءة من قرأ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال: ٦٧] بالجر على تقدير عرض الآخرة، فتقدير الآية: قتل شركائهم أولادهم قتل شركائهم. ومعنى لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم بالإغواء. قال ابن عباس: ليردوهم في النار. واللام محمول على العاقبة إن كان التزيين من السدنة، وعلى حقيقة التعليل إن كان من الشيطان وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ليخلطوه عليهم ويشبهوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه، وقيل: وليوقعوهم في دين ملتبس وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ لما فعل المشركون ما زين لهم، أو لما فعل الشياطين والسدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ما ذكر إن جعل الضمير جاريا مجرى اسم الإشارة. والمعتزلة حملوا هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر. ثم قال: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ على قانون قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وفيه مع التهديد التسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر والشرك.
قيل: إنما قال في هذه الآية وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ ليكون مناسبا لقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ وقال فيما قبل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ [الأنعام: ١١٢] لأنه وقع عقيب آيات فيها ذكر الرب كقوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الأنعام: ١٠٤] الآيات. النوع الثالث من أحكامهم الباطلة أنهم قسموا أنعامهم أقساما فأوّلها أن قالوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ وحجر «فعل» بمعنى «مفعول» كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات، وأصل الحجر المنع وسمي العقل الحجر لمنعه من القبائح، وفلان في حجر القاضي أي في منعه. كانوا إذا عينوا شيئا من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا: لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء وَثانيها أن قالوا: هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد سبق في المائدة. وَثالثها: أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل: هي أنعام لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها وإنما فعلوا ذلك كله من غير حكم من الله وشرع منه بل افْتِراءً عَلَيْهِ وانتصابه
173
على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء. ثم قال:
سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ والمقصود منه الوعيد، وَالنوع الرابع من قضاياهم الفاسدة أن قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون أجنة البحائر والسوائب خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا هذا إن ولد حيا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ أي اشترك فيه الذكور والإناث، من قرأ بنصب ميتة فتقديره وإن يكن ما في بطونها ميتة، ومن قرأ بالرفع فعلى أن «كان تامة»، أو لأن التقدير: وإن يكن لهم أو هناك ميتة. وإنما جاز تذكير الفعل وتأنيثه لأن تأنيث الميتة غير حقيقي، أو لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل: ميت ولهذا جاز عود الضمير إليه مذكرا في قوله: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ وتذكير الضمير في قوله:
فَهُمْ للتغليب سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي جزاء وصفهم على الله الكذب في التحليل والتحريم إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ليكون الزجر واقعا على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق. فإن قيل: كيف أنث خالِصَةٌ وذكر محرما؟ قلنا: الأول حمل على المعنى لأن ما في بطون الأنعام في معنى الأجنة، والثاني حمل على اللفظ، وفي الأول وجهان آخران: أن تكون التاء للمبالغة مثل راوية الشعر وأن يكون مصدرا كالعاقبة والعاقبة أي ذو خالصة. ثم إنه سبحانه جمع قبائح أحكامهم وأفعالهم وحكم عليهم بالخسران والسفاهة وعدم العلم والضلال وعدم الاهتداء فقال قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية. وذلك أن الولد نعمة عظيمة من الله تبقي ذكره ونسله فالسعي في إبطال مثل هذه النعمة لضرر مظنون هو الفقر أو نحوه، أو لفائدة موهومة هي القربة إلى الأصنام دليل خفة العقل وعدم العلم وأنه موجب لخسران الدارين. وكذا تحريم ما أحل الله من الطيبات بالهوى والتقليد بل لمحض الافتراء على الله وإن ذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، ولهذا سجل عليهم آخرا بالضلال ثم بعدم الاهتداء ليحصل كلا الأمرين لهم بالمطابقة كما حصل بالتضمن والله أعلم.
التأويل:
مُهْلِكَ الْقُرى أي قرى أشخاص الإنسان بِظُلْمٍ وهو صرف الاستعداد الفطري في استيفاء اللذات الفانية وَأَهْلُها غافِلُونَ لم يبلغوا مبلغ التكليف بعد. وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن كل مخلوق عامة وعن الإنسان خاصة ذُو الرَّحْمَةِ خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم. واعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على ما جبلتم عليه إِنِّي عامِلٌ على ما جبلت عليه قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ من الشياطين والنفس والهوى والدنيا سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ لأنهم ذهبوا مذهب الطبع لا مذهب الشرع، والعمل بالطبع وإن كان فيه نوع مجاهدة النفس لا يكون له نور إذا لم يكن لامتثال الشرع قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا
174
أَوْلادَهُمْ
لأن ذلك نتيجة انتزاع الرحمة عن قلوبهم وحرموا ما رزقهم الله صورة وهو ظاهر، ومعنى وهو استعداد حصول مراتب أهل القرب وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لأن خشية الفقر حملتهم على قتل الأولاد. وقال أهل التحقيق: من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٠]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
القراآت:
حَصادِهِ بفتح الحاء: أبو عمرو وعاصم وابن عامر وسهل ويعقوب، الباقون: بالكسر وكلاهما مصدر مِنَ الضَّأْنِ بغير همزة: أبو عمرو غير شجاع وأوقية
175
والأعشى والأصبهاني عن ورش ويزيد وحمزة في الوقف. وَمِنَ الْمَعْزِ ساكن العين:
عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وأبو جعفر وابن فليح وزمعة والخزاعي عن البزي والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل عنه، الباقون: بفتحها إلا أن تكون بتاء التأنيث: ابن كثير وابن عامر ويزيد وحمزة وعباس من طريق ابن رومي عنه. مَيْتَةً بالتخفيف والرفع: ابن عامر وزاد يزيد التشديد. الباقون: بالياء وبالنصب. الْحَوايا ممالة: علي وحمزة وخلف. فَقُلْ رَبُّكُمْ وبابه مظهرا: الحلواني عن قالون والبرجمي.
الوقوف
. مُتَشابِهٍ ط. وَلا تُسْرِفُوا ط الْمُسْرِفِينَ هـ لا لأن قوله: حَمُولَةً منصوب ب أَنْشَأَ وَفَرْشاً ط الشيطان ط مُبِينٌ هـ لا لأن ثَمانِيَةَ منصوب ب أَنْشَأَ جَنَّاتٍ أَزْواجٍ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ط أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ط لانتهاء الاستفهام صادِقِينَ هـ لا لأن اثْنَيْنِ منصوب ب أَنْشَأَ أيضا وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ط أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ط لأن «أم» في قوله: أَمْ كُنْتُمْ بمعنى ألف استفهام توبيخ.
بِهذا ج للاستفهام مع الفاء ولانقطاع النظم مع اتحاد المعنى عِلْمٍ ط الظَّالِمِينَ هـ.
لِغَيْرِ اللَّهِ ج رَحِيمٌ هـ ظُفُرٍ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى. بِعَظْمٍ ط بِبَغْيِهِمْ ز للابتداء بأن وإثبات وصف الصدق مطلقا. وللوصل وجه لأن المعنى وإنا لصادقون فيما أخبرنا عن التحريم ببغيهم. واسِعَةٍ ط لاختلاف الجملتين الْمُجْرِمِينَ هـ مِنْ شَيْءٍ ط بَأْسَنا ط لَنا ط تَخْرُصُونَ هـ الْبالِغَةُ ج للشرط مع الفاء أَجْمَعِينَ هـ حَرَّمَ هذا ج لذلك مَعَهُمْ ج لتناهي جزاء الشرط مع العطف يَعْدِلُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه جعل مدار هذا الكتاب الكريم على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وإنه بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة منكري البعث والقيامة، ثم أتبعه حكاية أقوالهم الركيكة تنبيها على ضعف عقولهم، فلما تمم هذه المقاصد عاد إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على إثبات ذاته ووجوب توحيده فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ الآية نشأ الشيء ينشأ نشأ إذا ظهر وارتفع، وأنشأه الله ينشئه إنشاء أظهره ورفعه جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يقال: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القبضان. وقيل: كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب تعرش وبعضها يبقى على
176
وجه الأرض منبسطا كالقرع والبطيخ. وقيل: المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عروش يحمل عليها فتمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه، وغير معروشات هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش. وقيل: المعروشات ما في البساتين والعمارات مما غرسه الناس واهتموا به فعرشوه، وغير معروشات ما أنبته الله وحشيا في البراري والجبال فيبقى غير معروش. وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ فسر ابن عباس الزرع بجميع الحبوب التي تقتات مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ والأكل كل ما يؤكل والمراد هاهنا ثمر النخل والزرع فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما كقوله: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: ١١] أي إليهما. والمراد أن لكل شيء منهما طعما غير طعم الآخر ومُخْتَلِفاً حال مقدّرة أي أنشأه مقدّرا اختلاف أكله لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في القدر واللون والطعم. ثم قال كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وقد قال في الآية المتقدمة أعني نظير هذه الآية وذلك قوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ الآية إلى قوله انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ [الأنعام: ٩٩] تنبيها على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم متقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الأول سعادة روحانية أبدية، والحاصل من الانتفاع سعادة جسمانية زائلة. وفائدة هذا الأمر الإباحة، وقدم إباحة الأكل على إخراج الحق كيلا يظن أنه يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المتشاركين فيه. وفي الآية إشارة إلى أن خلق هذه النعم إما للأكل وإما للتصدق، والأول لكونه حق النفس مقدم على الثاني لأنه حق الغير. وفيه أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله: كُلُوا خطاب عام يتناول الكل، ويمكن أن يستدل به على أن الأصل عدم وجوب الصوم وأن من ادعى إيجابه فهو المحتاج إلى الدليل، وأن المجنون إذا أفاق في أثناء النهار لا يلزمه قضاء ما مضى، وأن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام. قال علماء الأصول: من المعلوم من لغة العرب أن صيغة الأمر تفيد ترجيح جانب الفعل فحملها على الإباحة أو الوجوب لا يصار إليه إلا بدليل منفصل، وفائدة قوله: إِذا أَثْمَرَ وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه هي أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت اطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع، أما قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فعن ابن عباس في رواية عطاء وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك، أن الآية مدنية والحق هو الزكاة المفروضة وعلى هذا فكيف يؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل. والجواب أن المراد فاعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد واهتموا به حتى لا تؤخروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء، وقال مجاهد: الآية مكية وإن هذا حق في المال سوى الزكاة وكان يقول: إذا حصدت فحضرك
177
المساكين فاطرح لهم منه، وكذا إذا دسته وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته وزيف
بقوله صلى الله عليه وآله: «ليس في المال حق سوى الزكاة» «١»
وبأن قوله: وَآتُوا حَقَّهُ إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوما قبل ورود هذه الآية والإلزام الإجمال. وعن سعيد بن جبير أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرض العشر أو نصف العشر فيما سقي بالسواقي نسخ، والقول الأول أصح. ثم إن أبا حنيفة احتج بالآية على وجوب الزكاة في الثمار لأنه قال:
وَآتُوا حَقَّهُ بعد ذكر الأنواع الخمسة وهي العنب والنخل والزرع والزيتون والرمان.
واعترض عليه بأن لفظ الحصاد مخصوص بالزرع. وأجيب بأن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل. واحتج هو أيضا بها على أن العشر واجب في القليل والكثير للإطلاق، والجواب أن بيانه
في الحديث «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» «٢».
ثم قال تعالى: وَلا تُسْرِفُوا ولأهل اللغة فيه تفسيران: فعن ابن الأعرابي: السرف تجاوز ما حد لك. فعلى هذا إذا أعطى الكل ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف كما
جاء في الخبر «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» «٣»
وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فخذها فقسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئا فنزلت الآية وَلا تُسْرِفُوا
أي لا تعطوا كله وإذا منع الصدقة فقد أسرف وبه فسر الآية سعيد بن المسيب، فإن مجاوزة الحد تكون إلى طرف الإفراط وإلى طرف التفريط. وقال عمر: سرف المال ما ذهب منه في غير منفعة. وعلى هذا فقد قال مقاتل: معناه لا تشركوا الأصنام في الأنعام والحرث. وقال الزهري: ولا تنفقوا في معصية الله تعالى. وعن مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما في معصية الله كان مسرفا، وهذا المعنى أراد حاتم الطائي حين قيل له لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير. ثم ختم الآية بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ والمقصود منه الزجر فإن كل مكلف لا يحبه الله فإنه من أهل النار لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادة إيصال الثواب إليه. قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً معطوف على جنات أي وأنشأ من الأنعام هذين الجنسين. فالحمولة ما يحمل الأثقال
(١) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٣.
(٢) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٦. البخاري في كتاب الزكاة باب ٣٢، ٤٢. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٧. الموطأ في كتاب الزكاة حديث ١، ٢. أحمد مسنده (٢/ ٩٢).
(٣) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ١٨. الترمذي في كتاب الزكاة باب ٣٨. النسائي في كتاب الزكاة باب ٥١٨- ٥٣. الدارمي في كتاب الزكاة باب ٢١، ٢٢. أحمد في مسنده (٢/ ٤، ١٥٢).
(٣/ ٣٣٠، ٣٤٦).
178
«فعولة» بمعنى «فاعلة» والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش مصدر بمعنى «مفعول». وقيل: الحمولة الكبار التي تصلح للحمل، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها مثل الفرش المفروش عليها. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالت المعتزلة: أي مما أحلها لكم وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ لا تسلكوا طريقه الذي يدعوكم إليه في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بين العداوة. وفي انتصاب ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وجهان: قال الفراء: هو بدل من قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً. وجوز غيره أن يكون مفعول كُلُوا والعرب تسمي الواحد فردا إذا كان وحده فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجا وهما زوجان، قال عز من قائل: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النجم:
٤٥] وقال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ثم فسرها بقوله: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ أي زوجين اثنين وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وفي الآية الثانية: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قال الجوهري: الضائن خلاف الماعز والجمع يعني اسم الجمع الضأن والمعز مثل راكب وركب وسافر وسفر.
وضأن أيضا مثل حارس وحرس. وقال في الكشاف: إنه قرىء بفتح العين. والضأن ذوات الصوف من الغنم والمعز ذوات الشعر منها قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ نصب بقوله:
حَرَّمَ والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله. ويريد بالذكرين الذكر من الضأن وهو الكبش، والذكر من المعز وهو التيس، وبالأنثيين الأنثى من الضأن وهي النعجة، والأنثى من المعز وهي العنز، وذلك على طريق الجنسية والمشاكلة. ومعنى الاستفهام إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما يشتمل عليه أرحام الأنثيين أي مما يحمل إناث الجنسين، وكذلك الذكر من جنسي الإبل والبقر يعني الجمل والثور والأنثيان منهما الناقة والبقرة وما يحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكورا أو إناثا، أو من خلط تارة وكانوا يقولون: قد حرمها الله فقيل لهم: إنكم لا تقرون بنبوّة نبي ولا شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم؟ وأكد ذلك بقوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الله حرمه.
واعلم أنه سبحانه منّ على عباده بإنشاء الأزواج الثمانية من الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم إلا أنه فصل بين بعض المعدود وبعضه بالاحتجاج على من حرمها وليس ذلك بأجنبي وإنما هي جملة معترضة جيء بها تأكيدا وتشديدا للتحليل، فالاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد، أما قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ ف «أم» منقطعة أي بل أكنتم شهداء ومعناه الإنكار
179
وفحواه أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل وتقولون إن الله حرم هذا فلم يبق إلا المشاهدة فتهكم بهم بذلك وسجل عليهم وعلى أمثالهم بالظلم بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرم. قال المفسرون: يريد عمرو بن لحي بن قمعة الذي غيّر شريعة إسماعيل عليه السلام وبحّر البحائر وسيّب السوائب.
والأقرب أن اللفظ عام فيتناول كل مفتر وإذا استحق هذا الوعيد على افتراء الكذب في تحريم مباح فكيف إذا كذب على الله تعالى في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والملائكة وفي النبوّات وفي المعاد؟! قال القاضي: في الآية دلالة على أن الإضلال عن الدين مذموم فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى. وأجيب بأنه ليس كل ما كان مذموما منا كان مذموما من الله تعالى فإن تمكين العبيد من أسباب الفجور وتسليط الشهوة عليهم مذموم منّا دونه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال القاضي: لا يهديهم إلى ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدى بها. وقالت الأشاعرة: معناه أنه لا ينقل المشركين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم لما بيّن فساد طريقة الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطاعم أتبعه البيان الصحيح في الباب فقال: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً أي طعاما محرما عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك المأكول أو الموجود أو الطعام مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً مصبوبا سائلا. قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما خرج من الأوداج عند الذبح فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، وما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل. وسئل أبو مجلز عما يتلطّخ باللحم من الدم وعن القدر التي ترى فيها حمرة الدم فقال: لا بأس به إنما النهي عن الدم المسفوح. وباقي الآية ظاهر مما سلف في أمثالها، وانتصاب فِسْقاً على أنه معطوف على المنصوبات قبله، وأُهِلَّ صفة له منصوبة المحل سمي ما أهل به لغير الله فسقا لتوغله في باب الفسق كما يقال: فلان كرم وجود. وجوز أن يكون فِسْقاً مفعولا له من أُهِلَّ وعلى هذا فقد عطف أُهِلَّ على يَكُونَ والضمير في بِهِ يعود إلى ما يرجع إليه المستكن في يَكُونَ قالت العلماء: إن هذه السورة مكية وقد بيّن في الآية أنه لم يجد فيما أوحي إليه قرآنا أو غيره محرما سوى هذه الأربعة، وقد أكد هذا بما في النحل وفي البقرة مصدرة بكلمة «إنما» الدالة على الحصر فصارت المدنية مطابقة للمكية، والذي جاء في المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إلى قوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ [الآية: ٣] من أقسام الميتة ولكنه خص بالذكر لأنهم كانوا يحكمون على تلك الأشياء بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم. وعلى هذا الحصر بقي الكلام في الخمر وفي سائر النجاسات
180
والمستقذرات فنقول: إنه سبحانه قد وصف الخمر بأنه رجس وهاهنا علل تحريم لحم الخنزير بكونه رجسا فعلمنا أن النجاسة علة لتحريم الأكل وكل نجس فإنه يحرم أكله، هذا بعد إجماع الأمة على تحريم الخبائث والنجاسات. وإن جوزنا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد كما
روي أنه صلى الله عليه وآله نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور.
فلا إشكال. وقيل: المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرم غير هذه الأربعة وزيف بأن تحريم شيء خامس نسخ والأصل عدمه. ثم بين سبحانه أنه حرم على اليهود أشياء أخر سوى هذه الأربعة فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا وذلك نوعان: الأول أنه حرم عليهم كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وفيه لغات: ضم الفاء والعين وهي الفصحى، وكسرهما وهي قراءة ابن السماك، والضم مع السكون والكسر مع السكون وهي قراءة الحسن، واختلف في ذي الظفر فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه الإبل فقط، وعنه في رواية أخرى وهو قول مجاهد أنه الإبل والنعام، وقيل: كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب، وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة، وزيف بأن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا وبأن البقر والغنم مباحان لهم كما يجيء مع أن لهما حافرا فإذن يجب حمل الظفر على المخلب والبراثن من الجوارح والسباع بل على كل ما له إصبع من دابة وطائر. وكان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلما ظلموا عمم التحريم. فعموم التحريم خاص بهم ولهذا قدم الجار في قوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا فيستدل بذلك على حل بعض هذه الحيوانات على المسلمين وهو ما سوى ذات المخلب والناب فيكون الخبر مبينا للآية لا مخالفا كما ظن صاحب التفسير الكبير. النوع الثاني قوله وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما قال في الكشاف: هو كقولك: «من زيد أخذت ماله» تريد بالإضافة يعني إضافة الأخذ إلى زيد بواسطة من زيادة الربط. والمعنى أنه حرم عليهم من كل ذي ظفر كله ومن البقر والغنم بعضهما وذلك شحومهما فقط، هذا أيضا ليس على الإطلاق لقوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما قال ابن عباس: إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه. وقال قتادة: إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها. وقيل: إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحفة وهي الشحمة التي على الظهر الملتزقة بالجلد فيما بين الكتفين إلى الوركين. وهي بالحقيقة لحم سمين لأنه يحمر عند الهزال ولهذا لو حلف لا يأكل الشحم فأكل من ذلك اللحم السمين لم يحنث على الأصح. والاستثناء الثاني قوله: أَوِ الْحَوايا قال الجوهري:
الحوايا الأمعاء واحدها حوية وفي معناها حاوية البطن وحاوياء البطن. وقال الواحدي: هي المباعر والمصارين والفحوى، أو ما اشتمل على الأمعاء يعني أن الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة، والاستثناء الثالث: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قال جمهور المفسرين:
181
يعني شحم الألية. وقال ابن جريج: كل شحم في القوائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنين فإنه مخلوط بعظم فهو حلال لهم. والحاصل أن الشحم الذي حرم الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية. وقيل: إن الحوايا غير معطوف على المستثنى وإنما هو معطوف على المستثنى منه والتقدير: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم. ودخوله كلمة «أو» كدخولها في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الدهر: ٢٤] والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا واعص هذا فكذا هاهنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا ذلِكَ الجزاء وهو تحريم الطيبات جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ بسبب قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل وغير ذلك من قبائح أفعالهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ في هذه الأخبار أو فيما يوعد به العصاة. قال القاضي: نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان. وأجيب بأن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد الثواب ويمكن أن يكون بشؤم الجرم المتقدم فَإِنْ كَذَّبُوكَ في ادعاء النبوّة والرسالة أو في تبليغ الأحكام، وعلى أصول المعتزلة فإن كذبوك في إنجاز إيعاد العصاة وزعموا أن الله واسع الرحمة وأنه يخلف الوعيد جودا وكرما. فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ فلذلك لا يعجل بالعقوبة وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ إذا جاء وقت عذابه عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يعني المكذبين. وعلى أصولهم رحمته واسعة لأهل طاعته ولا يرد بأسه مع ذلك عن الذين ارتكبوا الكبائر فماتوا قبل التوبة.
ثم حكى أعذار الكفار الواهية فقال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير أن أكد بالمنفصل لمكان الفصل بعد حرف العطف بلا الزائدة لتأكيد النفي. أخبر الله تعالى بما سوف يقولونه ولما قالوه. قال في سورة النحل: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل: ٣٥] وإنما قال في سورة النحل بزيادة «نحن» و «من دونه» مرتين لأن الإشراك مستنكر مطلقا. فلفظ الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته، وعلى تحليل أشياء وتحريم أشياء من دون الله فلم يحتج إلى لفظ من دونه، وأما العبادة فإنها غير مستنكرة على الإطلاق وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله سبحانه، ولا تدل على تحريم شيء فلم يكن بد من تقييده بقوله: من دونه ولما حذف من الآية لفظة من دونه مرتين حذف معه نَحْنُ لتطرد الآية في حكم التخفيف. أما تفسير الآية فزعمت المعتزلة أنها تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه: الأول أن الذي حكى عن الكفار في معرض الذم والتقبيح وذلك قولهم: «لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك» هو صريح قول المجبرة
182
فيكون هذا المذهب مذموما. الثاني قوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فلم يذكر المكذب به تنبيها على أنهم جاؤا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وعلا ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئته القبائح وإرادتها، والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله ورسله وكتبه ونبذ أدلة السمع والعقل وراء ظهره. والحاصل أن هذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين منهم والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم لأنهم يقولون الكل بمشيئة الله تعالى. الثالث قوله: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في هذا المذهب. الرابع قوله: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا وإنه استفهام على سبيل الإنكار أي لا علم لهؤلاء القائلين ولا حجة.
الخامس: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ السادس: وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ السابع: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ لأنه أزال الأعذار بالتمكين والإقدار فلم يبق لكم على الله حجة وإنما الحجة البالغة له عليكم وذلك أنكم تقولون: لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله لزم أن يكون الإله عاجزا مغلوبا. وهذا الكلام غير لازم لأن الله قادر على أن يحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء إلا أن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف وهذا هو المراد من قوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وبوجه آخر إن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلله الحجة الكاملة عليكم فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضا بمشيئته فتوالوا جميع أهل الأديان ولا تعادوهم. أجابت الأشاعرة بأنا قد بينا بالدلائل القاطعة من أول القرآن إلى هاهنا صحة مذهبنا فوجب تأويل هذه الآية دفعا للتناقض فنقول: إن القوم كانوا يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال دعوة الأنبياء، وفي أن التكليف عبث فبين الله تعالى أن ذلك من تكاذيبهم وأكاذيبهم، وأن التشبث بهذا العذر لا يفيدهم لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه، شاء الكفر من الكافر ومع ذلك بعث الأنبياء وأمر بالإيمان، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب القدر فجرى بما يكون إلى قيام الساعة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله «المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة» «١»
ثم إن ظاهر آخر الآية معناه وهو قوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وحمل المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر تعسف والله أعلم. ثم لما أبطل جميع حجج الكفار بين أنه ليس
(١) رواه ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٠. [.....]
183
لهم على قولهم شهود فقال: قُلْ هَلُمَّ ومعناه إذا كان لازما أقبل وإذا كان متعديا أحضر.
قال الخليل: أصله «هالم» من قولهم لمّ الله شعثه أي جمعه كأنه قال: لمّ نفسك إلينا أي أقرب والهاء للتنبيه واستعطاف المأمور، ثم حذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا يستوي فيه الواحد والجمع والتذكير والتأنيث في لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يصرفونها «هلما هلموا هلمي هلممن» والأول أفصح وقد يوصل بإلى كقوله تعالى:
وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا [الأحزاب: ١٨] وقال الفراء: أصلها «هل أم» أرادوا بهل حرف الاستفهام ومعنى أم اقصد. وقيل: إن أصل استعماله أن قالوا هل لك في الطعام أم أي اقصد. ثم شاع في الكل. أمر الله تعالى نبيه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه. وإنما لم يقل شهداء يشهدون لأنه ليس الغرض إحضار أناس يشهدون بالتحريم وإنما المراد إحضار شهدائهم الموسومين بالشهادة لهم المعروفين بنصرة مذهبهم ولهذا قال: فَإِنْ شَهِدُوا أي فإن وقعت شهادتهم فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي لا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأن شهادتهم محض الهوى والتعصب ولأجل ذلك قال أيضا: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالتكذيب وليرتب عليه باقي الآية فيعلم أن المتصف بهذه الصفات لا تكون شهادتهم عند العقلاء مقبولة.
التأويل:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ في القلوب مَعْرُوشاتٍ من شجرة الإسلام والإيمان والإحسان وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ هي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء والحياء والوفاء والمودة والفتوة والشفقة والعفة والعلم والحلم والعقل والشجاعة والقناعة ونخل الإيمان وزرع الأعمال الصالحة وزيتون الأخلاق الحميدة ورمان الإخلاص بالشواهد والأحوال مُتَشابِهاً أعمالها وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أحوالها كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ انتفعوا من ثمار الإيمان والأعمال والإخلاص بالشواهد والأحوال لا بالدعاوى والقيل والقال.
وَآتُوا حَقَّهُ وحقه دعوة الخلق وتربيتهم بالحكمة والموعظة الحسنة ويَوْمَ حَصادِهِ أوان بلوغ السالك مبلغ الرجال البالغين عند إدراك ثمرة الكمال للواصلين دون السالك الذي يتردد بعد بين المنازل والمراحل. وَلا تُسْرِفُوا بالشروع في الكلام في غير وقته والحرص على الدعوة قبل أوانها. وَمِنَ الْأَنْعامِ أي ومن الصفات الحيوانية التي هي مركوزة في الإنسان ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع، ومنها ما هو مستعد للأكل والشرب لصلاح القالب وقيام البشرية. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان، ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان، ورزق السر هو شهود العرفان
184
يلحظ العيان، فانتفعوا من هذه الأرزاق بقدر ما ينبغي. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يخرجكم بالتفريط والإفراط إلى ضد المقصود. ثم إن الصفات الحيوانية ثمان بعضها ذكور وبعضها إناث يتولد منها صفات أخر كلها محمودة إذا استعملت في محالها، وبمقدار ما ينبغي مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ والضأن والمعز من جنس الفرشية كما أن الإبل والبقر من جنس الحمولية. والذكر من الضأن والمعز هما صفة شهوة البطن والفرج والأنثى منهما صفة حسن الخلق عند الاستمتاع بها وصفة التسليم عند تحمل الأذى، والذكر من الإبل والبقر صفتا الظلومية والجهولية، وأنثاهما الحمولية والاستسلام للاستعمال. فبهذه الصفات الإنسانية صار الإنسان حامل أعباء الأمانة التي أبت المكونات عن حملها وهن أيضا حملة عرش القلب فافهم. وقد أحل الله تعالى استعمالها واستعمال المتولد منها على قانون الشريعة والطريقة، ومن زعم أنه يجب تركها وفصلها بالكلية فقد افترى لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا الكلام في نفسه حق وصدق إلا أنهم لما ذكروه في معرض الإلزام دفعا للأذية والآلام كذبوا فيما قالوا والله سبحانه أعلم بالصواب.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥١ الى ١٦٥]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
185
القراآت:
تَذَكَّرُونَ
بتخفيف الذال حيث كان: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد فحذفوا إحدى التاءين. الباقون: بالتشديد لأجل إدغام تاء التفعل في الذال وَأَنَّ هذا بسكون النون: ابن عامر ويعقوب وَأَنَّ هذا بكسر الهمزة وتشديد النون: حمزة وعلي وخلف، الباقون: وَأَنَّ بالفتح والتشديد صِراطِي بفتح الياء: ابن عامر والأعشى والبرجمي فَتَفَرَّقَ بتشديد التاء: البزي وابن فليح أن يأتيهم بالياء التحتانية وكذلك في النحل: علي وحمزة وخلف. الباقون: بالتاء الفوقانية. فارقوا وكذلك في الروم: حمزة وعلي الباقون فَرَّقُوا بالتشديد عَشْرُ بالتنوين أَمْثالِها بالرفع: يعقوب. الباقون بالإضافة رَبِّي إِلى بفتح ياء المتكلم: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع، قِيَماً بكسر القاف وفتح الياء: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل. الباقون: بالعكس مع تشديد الباء. مَحْيايَ بالسكون مَماتِي بالفتح: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالعكس.
وَأَنَا أَوَّلُ بالمد: نافع وأبو جعفر.
الوقوف:
شَيْئاً ط للحذف أي وأحسنوا بالوالدين إِحْساناً ج لابتداء النهي مع احتمال العطف أي وأن لا تقتلوا، مِنْ إِمْلاقٍ ط. وَإِيَّاهُمْ ج للعطف مع العارض.
وَما بَطَنَ ط للفصل بين الحكمين المعظمين مع اتفاق الجملتين بِالْحَقِّ ط لانتهاء بيان الأحكام إلى توكيد الإيصاء للأحكام تَعْقِلُونَ هـ أَشُدَّهُ
ج للفصل بين الحكمين بِالْقِسْطِ
ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف ذا قُرْبى
ج لتناهي جواب «إذا» وتقدّم مفعول أَوْفُوا
تَذَكَّرُونَ
هـ لمن قرأ وَأَنَّ هذا بالكسر. فَاتَّبِعُوهُ ج للفصل بين النقيضين معنى مع الاتفاق نظما. عَنْ سَبِيلِهِ ط تَتَّقُونَ هـ يُؤْمِنُونَ هـ تُرْحَمُونَ هـ لا لأن التقدير فاتبعوه لئلا تقولوا مِنْ قَبْلِنا ص. لَغافِلِينَ هـ لا للعطف أَهْدى مِنْهُمْ
186
ج للفاء مع أن «قد» لتوكيد الابتداء. وَرَحْمَةٌ ج للاستفهام مع الفاء وَصَدَفَ عَنْها ط يَصْدِفُونَ هـ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ط خَيْراً ط مُنْتَظِرُونَ هـ فِي شَيْءٍ ط يَفْعَلُونَ هـ أَمْثالِها ج لابتداء شرط آخر مع العطف لا يُظْلَمُونَ هـ مُسْتَقِيمٍ ج لاحتمال أن دِيناً نصب على البدل من محل إِلى صِراطٍ أو على الإغراء أي الزموا.
حَنِيفاً ج لابتداء النفي مع اتحاد المعنى الْمُشْرِكِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ لا. لا شَرِيكَ لَهُ ج الْمُسْلِمِينَ هـ كُلِّ شَيْءٍ ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار إِلَّا عَلَيْها ج لتفصيل الأمرين على التهويل مع اتفاق الجملتين أُخْرى ج لأنّ «ثم» لترتيب الإخبار مع اتحاد المقصود تَخْتَلِفُونَ هـ آتاكُمْ ط الْعِقابِ ز للتفصيل بين تحذير وتبشير والوصل للعطف أوضح رَحِيمٌ هـ.
التفسير:
لما بين فساد ما يقوله الكفار في باب التحليل والتحريم أتبعه البيان الشافي في الباب فقال: قُلْ تَعالَوْا وهو من الخاص الذي صار عاما لأن أصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه. و «ما» في قوله: ما حَرَّمَ إما منصوب بفعل التلاوة أي أتل الذي حرمه ربكم فالعائد محذوف. وقوله: عَلَيْكُمْ يكون متعلقا ب أَتْلُ أو ب حَرَّمَ وإما منصوب ب حَرَّمَ على أن «ما» استفهامية فلا راجع. والمعنى أقل أي شيء حرم لأن التلاوة نوع من القول وتقديم المفعول للتخصيص. فإن قيل: قوله أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً كالتفصيل لما أجمله في قوله: ما حَرَّمَ فيلزم أن يكون ترك الشرك والإحسان إلى الوالدين محرما. فالجواب أن المراد من التحريم البيان المضبوط، أو الكلام تم عند قوله: ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثم ابتدأ فقال: عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا أو «أن» مفسرة أي ذلك التحريم هو قوله: أَلَّا تُشْرِكُوا وهذا في النواهي واضح، وأما الأوامر فيعلم بالقرينة أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله. ولا يجوز أن يجعل «أن» ناصبة وإلا لزم عطف الطلب أعني الأمر على الخبر. واعلم أنه سبحانه بيّن فرق المشركين في هذه السورة أحسن بيان، وذلك أن منهم من يجعل الأصنام شركاء لله تعالى فأشار إليهم بقوله:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الأنعام: ٧٤] ومنهم عبدة الكواكب الذين أبطل قولهم بقوله: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: ٧٦] ومنهم القائلون بيزدان وأهرمن ومنهم الذين يقولون الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وزيف معتقدهم بقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: ١٠٠] ثم عمم النهي بقوله: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ثم حث على إحسان الوالدين وكفى به خصلة شريفة أن جعله
187
تاليا لتوحيده. ثم أوجب رعاية حقوق الأولاد بعد رعاية حقوق الوالدين. ومعنى مِنْ إِمْلاقٍ أي من خوف الفقر كما صرح بذلك في الآية الأخرى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: ٣١] كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الإملاق وهو السبب الغالب فلذلك أزيل ذلك الوهم بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فكما يجب على الوالد الاتكال في رزق نفسه على الله فكذا القول في حال الولد، قال شمر: أملق لازم ومتعد. أملق الرجل إذا افتقر، وأملق الدهر ما عنده إذا أفسده. وإنما قال هاهنا: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وقال في سبحان بالعكس لأن التقدير في الآية من إملاق بكم نحن نرزقكم وإياهم، وهناك زيدت الخشية التي تتعلق بالمستقبل فالتقدير خشية إملاق يقع بهم نحن نرزقهم وإياكم، ثم نهى عن قربان الفواحش كلها. ومعنى ما ظهر منها وما بطن كما مر في قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ [الأنعام: ١٢٠] وفيه أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله تعالى وامتثال أمره ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس. ثم أفرز من جملة الفواحش قتل النفس المحرمة تنبيها على فظاعتها ولما نيط بها من الاستثناء وهو قوله إِلَّا بِالْحَقِّ وذلك أن قتل النفس المحرمة قد يكون حقا لجرم صدر عنها كما جاء في الحديث «لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق» «١» وينخرط في سلكه جزاء قاطع الطريق. والحاصل أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا لأمر منفصل. ثم لما بيّن النواهي الخمسة أتبعه الكلام الذي يقرب إلى القلوب القبول فقال:
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ لما في لفظ التوصية من الرأفة والاستعطاف. ومعنى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا. ثم ذكر أربعة أنواع أخر من التكاليف وذلك قوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي
أي بالخصلة أو الطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ
وهي السعي في تثميره وإنمائه ورعاية وجوه الغبطة لأجله كما مر في أول سورة النساء حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
أي احفظوا ماله إلى هذه الغاية أي أوان الاحتلام ولكن بشرط أن يؤنس منه الرشد. قال الفراء: واحد الأشد شدته في القياس ولم يسمع. وقال أبو الهيثم:
الواحد شدّة كأنعم في نعمة، والشدّة القوّة ومنه قولهم: «بلغ الغلام شدّته». وقيل: إنه واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظير لهما وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل
(١) رواه الترمذي في كتاب الديات باب ١٠. أبو داود في كتاب الحدود باب ١. النسائي في كتاب القسامة باب ٦، ١٤. الدارمي في كتاب السير باب ١١.
188
والسوية. وإيفاء الكيل إتمامه خلاف البخس. وقوله: وَالْمِيزانَ
أي الوزن بالميزان. فإن قيل: إيفاء الكيل والوزن هو عين القسط فما فائدة التكرار؟ قلنا: أمر الله المعطى بإيفاء إيتاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة. ثم قال:
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
ليعلم أن الواجب هو القدر الممكن من العدالة والسوية لا التحقيق المؤدي إلى الحرج والعسر. فزعمت المعتزلة هاهنا أن هذا القدر من التضييق حيث لم يجوزه الله تعالى فكيف يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه أو يخلق القدرة الموجبة للكفر والداعية المقتضية له ثم ينهاه عنه وعورض بالعلم والداعي كما تقدّم مرارا وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ
المقول له أو عليه ذا قُرْبى
حمله المفسرون على أداء الشهادة وعلى الأمر والنهي والأولى أن يحمل على الأقوال كلها ويدخل فيه قول الرجل في الدعاء إلى الدين. وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل مخلصا عن الحشو ومبرأ عن النقص ومجردا عن العصبية والجدال على مقتضى الهوى والتشهي، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذا الحكاية والرواية والرسالة. وحكم الحاكم بحيث يستوي فيه بين القريب والبعيد ولا ينظر إلا إلى رضا الله، وختم الأوامر بقوله: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
كما قال:
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: ١] ويندرج في هذه الخاتمة بالحقيقة جميع الأنواع المذكورة وَأَنَّ هذا صِراطِي من قرأ بالفتح والتخفيف فبإعماله في ضمير الشأن والتقدير: تعالوا أتل ما حرم وأتل أنه هذا صراطي، وكذا فيمن قرأ بالتشديد وبالفتح إلا أن ضمير الشأن لا يقدر.
وإن شئت جعلتها خفضا متعلقا بما قبله أي ذلكم وصاكم به وبأن هذا، أو بما بعده والتقدير وبأن هذا صراطي مستقيما فَاتَّبِعُوهُ ومن كسر فلأن التلاوة في معنى القول أو على الاستئناف والمعنى اتبعوا صراطي أنه مستقيم وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ الباء للتعدية أي فيفرقكم ذلك الأتباع عَنْ سَبِيلِهِ المستقيم وهو دين الإسلام.
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه خط خطا ثم قال: هذا سبيل الرشد. ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا هذه الآية.
فهذه الآية بالحقيقة إجمال لما في الآيتين المتقدمتين ولهذا ختمها بالتقوى التي هي ملاك العمل وخير الزاد وختم الأولى بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لأنها أمور ظاهرة جلية يكفي في تعقلها أدنى مسكة وعقل، وختم الثانية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
لأن المذكور فيها أمور خفية تحتاج إلى التدبر والتذكر حتى يقف فيها على موضع الاعتدال. أو نقول: الأمور الخمسة المذكورة في الآية الأولى كلها عظام جسام وكانت الوصية بها من أبلغ الوصايا فختم الآية
189
بما في الإنسان من أشرف السجايا وهو العقل الذي امتاز به الإنسان عن سائر الحيوان، وأما المذكورة في الثانية فأشياء يقبح تعاطيها وارتكابها وكانت الوصية بها تجري مجرى الزجر والوعظ فختمها بقوله: تَذَكَّرُونَ
أي تتعظون بمواعظ الله تعالى.
قوله: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ معطوف على وَصَّاكُمْ فسئل كيف صح عطفه عليه بثم والإيتاء قبل الوصية بدهر طويل؟ وأجيب بأن التكاليف التسعة المذكورة تكاليف لا تختلف بحسب اختلاف الشرائع كما روي عن ابن عباس أن هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وقيل: إنهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار، وعن كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة. وأما الشرائع التي كانت التوراة مختصة بها فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. وقيل: إن في الآية حذفا تقديره: ثم قل يا محمد صلى الله عليه وآله إنا آتينا. والمعنى اتل ما أوحي إليك ثم اتل عليهم خبر ما آتينا موسى. وقيل: هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام: ٨٤] وقوله: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مفعول له أي لتتم نعمتنا على الذي أحسن أي على من كان محسنا صالحا، أو المراد إتماما للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وكل ما أمر به، أو تماما على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه. وقرىء أَحْسَنَ بالرفع أي على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فيدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا صلى الله عليه وآله وصحة دينه وشرعه وَهُدىً دلالة وَرَحْمَةً لكي يؤمنوا بلقاء ما وعدهم ربهم به من ثواب وعقاب وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ لا شك أنه القرآن مُبارَكٌ كثير الخير والنفع أو ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لكي ترحموا لأن الغرض من التقوى رحمة الله تعالى، أو اتقوا لترحموا جزاء على التقوى، أو اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة. قال الفراء قوله: أَنْ تَقُولُوا مفعول وَاتَّقُوا وقال الكسائي: التقدير: إنا أنزلناه لئلا تقولوا. وقال البصريون: إنا أنزلناه كراهة أن تقولوا والخطاب لأهل مكة إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ أي التوراة والإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اليهود والنصارى وَإِنْ كُنَّا هي المخففة من الثقيلة واللام في لَغافِلِينَ هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل وإنه كنا ومعنى الدراسة القراءة. وإنما قالوا: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهانهم وكثرة حفظهم لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأمثالها مع كونهم أميين
190
قطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم. ثم قال: فَقَدْ جاءَكُمْ أي إن صدقتم أن عدم إنزال الكتاب يصلح للعذر وأنه لو أنزل عليكم الكتاب لكنتم أهدى منهم فقد جاءكم بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فيما يعلم سمعا وَهُدىً فيما يعلم سمعا وعقلا وَرَحْمَةٌ من الله في إصلاح المعاش والمعاد فَمَنْ أَظْلَمُ بعد هذه المعجزات والبينات مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها أي منع غيره منها لأن الأول ضلال والثاني إضلال، ثم ختم الآية بأشد الوعيد وأبلغ التهديد ثم ذكر أنهم بعد نصب الأدلة وإزاحة العذر لا يؤمنون البتة، وشرح أحوالا توجب المبادرة إلى الإيمان والتوبة فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون ومعنى الاستفهام النفي وتقدير الآية إنهم لا يؤمنون بك إلا عند مجيء أحد هذه الأمور: مجيء الملائكة، أو مجيء الرب ويعني به عذابه وبأسه كما سلف في البقرة، أو مجيء المعجزات القاهرة. قال في الكشاف:
الملائكة ملائكة الموت أو ملائكة العذاب ومجيء الرب مجيء كل آية، ثم قال: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة.
عن البراء بن عازب قال: كنا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف النبي صلى الله عليه وآله فقال: «أتتذاكرون الساعة؟ إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان ودابة الأرض وخسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونارا تخرج من عدن» «١»
والمراد أنه إذا بدت أشراط الساعة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، ولا نفسا ما كسبت في إيمانها خيرا. ثم أوعدهم بقوله قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: إن الذين فارقوا دينهم أو فرقوا ومعنى القراءتين في الحقيقة واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وكفر ببعض فقد فارقه أي تركه. قال ابن عباس: يريد أن المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله، وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فصاروا شيعا أي فرقا وإخوانا في الضلالة. والشيعة كل فرقة تشيع إماما لها. وقال مجاهد وقتادة: هم اليهود والنصارى تفرقوا فرقا وكفر بعضهم بعضا وأخذوا بعضا وتركوا بعضا كقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: ٨٥] وعن مجاهد أيضا أنهم من هذه الأمة وهم أهل البدع والشبهات
وفي الحديث «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة- كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية- وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة- كلها في الهاوية إلا واحدة. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في الهاوية
(١) رواه أبو داود في كتاب الملاحم باب ١٢. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٢٨.
191
إلا واحدة» «١»
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم والعقاب اللازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم لا يتعداهم إليك. وقال السدي: معناه لم تؤمر بقتالهم فلما أمر بقتالهم نسخ. ويحتمل أن يقال: إن النهي عن القتال في وقت لا ينافي الأمر في وقت آخر فلا نسخ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ بالاستئصال والإهلاك ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وفيه من الوعيد ما فيه. وفي الآية حث على أن كلمة المسلمين يجب أن تكون واحدة ليستأهلوا الثواب الجزيل كما قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ هي لا إله إلا الله والسيئة الشرك. والأولى حملها على العموم فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أقام صفة الجنس المميز مقام الموصوف تقديره: عشر حسنات أمثالها كقراءة من قرأ عَشْرُ أَمْثالِها بالرفع والتنوين، قيل: هذا أقل الموعود وقد وعد سبعمائة وبغير حساب. وقيل: ليس المراد التحديد بل أراد الأضعاف مطلقا كقول القائل: لئن أسديت إليّ معروفا لأكافئنك بعشرة أمثاله. وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشرا.
روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وآله قال عن الله تعالى: «الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره» وقال صلى الله عليه وآله يقول الله تعالى: «إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فسيئة» «٢»
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من ثواب طاعاتهم ولا يزاد على عقاب سيآتهم. أسئلة: ما الحكمة في الأضعاف؟ جوابه كان للأمم أعمار طويلة وطاعات كثيرة فوضع الله لهذه الأمة ليلة القدر حيرا من ألف شهر وأضعاف الأعمال مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة: ٢٦١] إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: ١٠] وأيضا لو أن الخصماء يتعلقون بهم يوم القيامة فيذهبون بأعمالهم إلى أن تبقى الأضعاف فيقول الله أضعافهم ليست من فعلهم هي من رحمتي فلا أقتص منهم أبدا. آخر: كيف يوجب الكفر عقاب الأبد؟ جوابه أن الكافر كان على عزم الكفر لو عاش أبدا فاستحق العقاب الأبدي بناء على ذلك الاعتقاد بخلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع فلا جرم تكون عقوبته منقطعة، وأيضا الذي جهله الكافر وهو ذات القديم سبحانه وصفاته شيء لا نهاية له فيكون جهله لا يتناهى فكذا عقابه.
(١) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب ١. الترمذي في كتاب الإيمان باب ١٨. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٧. أحمد في مسنده (٢/ ٣٣٢) (٣/ ١٢٠، ١٤٥).
(٢) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٠٣، ٢٠٤. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٦ باب ١٠. أحمد في مسنده (١/ ٢٢٧، ٢٤٢).
192
آخر: إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلا عن صيام ستين يوما وهو في كفارة الظهار وتارة بدلا عن صيام أيام قلائل. آخر: أحدث في رأس إنسان موضحتين فوجب أرشان فإن عاد ورفع الحاجر بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فههنا ازدادت الجناية وقل العقاب.
آخر: قد يجتمع بسبب أطراف تبان ولطائف تزال ديات متعددة إذا حصل الاندمال، وقد ترتقي إلى نيف وعشرين. الأذنان أو إبطال حسهما، العينان أو البصر، الأجفان، المارن، الشفتان، اللسان أو النطق، الأسنان، اللحيان، اليدان، الذكر والأنثيان، الحلمتان، الشفران، الإليتان، الرجلان، العقل، السمع، الشم، الصوت، الذوق، الإمناء أو الإحبال، إبطال لذة الجماع، إبطال لذة الطعام، الإفضاء، البطش، المشي. وقد تضاف إليها موجبات الجوائف والمواضح وسائر الشجات. فإن عاد الجاني قبل الاندمال وحز الرقبة أوقده بنصفين لم يجب إلّا دية النفس، وكل ذلك يدل على أن رعاية المماثلة غير معتبرة في الشرع. والجواب عن الأسئلة الثلاثة أن هذه الأمور من تعبدات الشرع المطهر وتحكماته فلا سبيل بعقولنا إليها. ويمكن أن يجاب عن الثالث بأن بدل الأطراف لما لم يستقر بالاندمال دخل في دية النفس لعسر ضبط ذلك والجزاء الحقيقي موكول إلى يوم الجزاء والله أعلم. قال أهل السنة: كل الثواب تفضل من الله تعالى فلا إشكال. وقالت المعتزلة: إن بين الثواب والتفضل فرقا لأن الثواب هو المنفعة المستحقة والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة. ثم اختلفوا فقال الجبائي: العشرة تفضل والثواب غيرها إذ لو كان الواحد ثوابا والتسعة تفضلا لزم أن يكون الثواب دون التفضل فلا يكون للتكليف فائدة. وقال آخرون:
لا يبعد أن يكون الواحد ثوابا إلا أنه يكون أعلى شأنا من التسعة الباقية. ثم لما علم رسوله صلى الله عليه وآله أنواع الدلائل والرد على أصناف المشركين وبالغ في تقرير إثبات القضاء والقدر وردّ على أهل الجاهلية أباطيلهم أمره بأن يقول: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي ليعلم أن الهداية لا تحصل إلا بالله عز وجل. وقيما «فيعل» من قام كسيد من ساد. ومن قرأ قيما فعلى أنه مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر وصف به للمبالغة ومِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان وحَنِيفاً حال من إبراهيم أو من الملة، والمعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم حال كونه أو كونها موصوفا بالحنيفية. ثم قال في صفة إبراهيم: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ردا على من زعم عليه شيئا من ذلك.
ثم كما عرفه الدين القويم والطريق المستقيم علمه كيف يصنع به ويؤديه فقال: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي أي عبادتي وتقربي إليه كما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال:
النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة. وقيل: للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من
193
دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث. وقيل: المراد بالنسك هاهنا الذبائح جمع بين الصلاة والذبح كما في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: ٢] وقيل: صلاتي وحجي أخذا من مناسك الحج. وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي حياتي وموتي مصدران ميميان.
وقال في الكشاف: المراد وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح. وفيه أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل لا بد أن يكون جميع حركات المرء وسكناته لله رب العالمين وَبِذلِكَ من الإخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته. وقال في التفسير الكبير: إنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه، وحكمه وذلك أن المحيا والممات بخلق الله فكذا الصلاة والنسك وبذلك من التوحيد أمرت، ثم لما أمر نبيه بالتوحيد المحض أمره أن يذكر ما يجري مجرى الدليل عليه فقال: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وتقريره أن طوائف المشركين من عبدة الأصنام والكواكب ومن اليهود والنصارى والثنوية كلهم معترفون بأن الله تعالى خالق الكل فكأنه سبحانه قال: قل يا محمد منكرا أغير الله أطلب ربا مع أن هؤلاء الذين اتخذوا من دونه آلهة مقرون بأنه خالق تلك الأشياء ولا يدخل في العقل جعل المربوب والعبد شريكا للرب والمولى. وبوجه آخر الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، وقد ثبت أن الواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته فهو إذن رب كل شيء، وصريح العقل شاهد بأن المربوب لا يكون شريكا للرب فلا يختص إذن بالربوبية غيره. ثم لما بين الدليل القاطع على التوحيد ذكر أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب فقال وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ومعناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى وهذا كالرد لقولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: ١٢] ثم بين أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم هناك إلا الله تعالى فقال: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ثم ختم السورة ببيان حال المبدإ والوسط والمعاد على سبيل الإجمال فقال وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ قيل: الخطاب لبني آدم لأنه جعلهم بحيث يخلف بعضهم بعضا. وقيل:
لأمة محمد صلى الله عليه وآله لأنه خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم، وقيل: لخواص الأمة الذين هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها بالحق كقوله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ [ص: ٢٦] وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف والعقل والجاه والمال والرزق لا للعجز والبخل ولكن لأجل شبه
194
الابتلاء والامتحان، ولظهور الموفر من المقصر وتميز المطيع من العاصي حسب ما تقتضيه الحكمة والعدالة والتدبير والتقدير. ثم وصف نفسه بالقدرة الكاملة على إيصال العقاب وإيفاء الثواب فقال إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فأدخل اللام في قرينة الترغيب وأسقطها عن قرينة الترهيب ترجيحا لجانب الرحمة والغفران فإن اللطف والرحمة تفيض عنه بالذات والقهر والتعذيب يصدر عنه بالعرض لأن ذلك من ضروريات الملك ولهذا
قال «سبقت رحمتي غضبي»
وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت قريب.
وإنما لم يسقط اللام عن قرينة العقاب في سورة الأعراف في قصة أصحاب السبت لأن ذلك قد ورد عقيب ذكر المسخ فناسب التأكيد باللام، وإنما أخر قرينة الرحمة في الموضعين ليقع ختم الكلام على المغفرة والرحمة فيكون أدل على كمال رأفته ووفور إحسانه.
التأويل:
مِنْ إِمْلاقٍ فيه ترك التوكل على الله وعدم الثقة بالله وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
أوفوا بكيل العمر وميزان الشرع حقوق الربوبية واستوفوا بكيل الاجتهاد وميزان الاقتصاد حظوظ العبودية من الألوهية. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
بأن لا تعبدوا ولا تحبوا ولا تروا إلا إياه وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً إشارة إلى أن الصراط المستقيم الحقيقي إلى الله تعالى هو صراط محمد ﷺ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي على من أحسن من أمتك إسلامه. وفيه أن الكتب المنزلة كلها وشرائع الأنبياء كانت تتمة للدين الحنيفي الذي هو الإسلام، ولهذا أمر بأن يقتدى بالأنبياء ليجمع بين هداه وهداهم. ويحتمل أن يراد بالذي أحسن النبي صلى الله عليه وآله والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ وبركته أنه أنزل على قلبه فكان خلقه القرآن فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ ما يبين لكم طريق السير إلى الله ومهدي ما يهديكم إلى الله أتم وأكمل مما جاء في الكتابين وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٥٩] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ عيانا وتسوقيهم إلى الله قهرا والجاء أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ إليهم إذ لم يأتوا إليه في متابعتك قُلِ انْتَظِرُوا للمستحيلات إِنَّا مُنْتَظِرُونَ للميعاد في المعاد إن الذين فارقوا الدين الحقيقي الذي فيه كمالية الإنسان وَكانُوا شِيَعاً فرقا مختلفة من المبتدعة والزنادقة والمتزيدة رياء وسمعة وعلماء السوء وملحدة المتفلسفة لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ لأنك على الحق وهم على الباطل وبينهما تضاد إنما أمرهم إلى الله في بدء الخلقة وقسم الاستعداد كما شاء ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ يوم الجزاء بما يستحقه كل منهم مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قبل ذلك حتى يقدر على الإتيان بتلك الحسنة وهي حسنة الإيجاد من العدم، وحسنة الاستعداد حيث خلقه في أحسن تقويم، وحسنة التربية وحسنة الرزق وحسنة بعثة الرسل وحسنة إنزال الكتب، وحسنة تبيين الحسنات من السيئات، وحسنة التوفيق للحسنة
195
وحسنة الإخلاص في الإحسان، وحسنة قبول الحسنات وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها لأن السيئة بذر يزرع في أرض النفس والنفس خبيثة لأنها أمارة بالسوء، والحسنة بذر يزرع في أرض القلب والقلب طيب وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: ٥٨] والتحقيق أنه كما للأعداد ثلاث مراتب الآحاد والعشرات والمئات وبعد ذلك تكون الألوف إلى حيث لا يتناهى، فكذلك للإنسان أربع مراتب: النفس والقلب والروح والسر. فالعمل الواحد في مرتبة النفس أي إذا صدر عنها يكون واحدا، وفي مرتبة القلب يكون بعشر أمثالها، وفي مرتبة الروح يكون بمائة، وفي مرتبة السر يكون بألف إلى أضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية إلى ما لا يتناهى، وهذا سر ما جاء في القرآن والحديث من تفاوت جزاء الحسنات والله تعالى أعلم ورسوله.
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي من أسفل سافلين القالب بجذبة العناية الأزلية وَنُسُكِي أي سيري على منهاج «الصلاة معراج المؤمن» وَمَحْيايَ أي حياة قلبي وروحي وَمَماتِي أي موت نفسي لطلب رَبِّ الْعالَمِينَ والوصول إليه وَأَنَا أَوَّلُ المستسلمين عند الإيجاد لأمر «كن» كما قال: «أول ما خلق الله نوري». قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ كيف أطلب غير الله وهو حبيبي والمحب لا يطلب إلا الحبيب وإذا هو رب كل شيء فيكون ما له لي، وإن طلبت غيره دونه يكون ذلك الغير علي لا لي كما قال وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها لأن النفس أمارة بالسوء والسوء عليها لا لها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فإن كان القلب سليما من كدورات صفات النفس باقيا على ما جبل عليه من حب الله تعالى وطلبه لا يؤاخذ بمعاملة النفس ولا يتألم بعذابها وإنما تكون النفس فقط مأخوذة بوزرها معاقبة بما هي أهله، وإن كان القلب منقلب الحال وأزاغه الله تعالى بإصبع القهر إلى محاذاة النفس فتصدأ مرآة القلب بصفات النفس وأخلاقها فيتبع النفس وهواها فيزول عنه الصفاء والطهارة والسلامة والذكر والفكر والتوحيد والإيمان والتوكل والصدق والإخلاص ورعاية وظائف العبودية فيكون مأخوذا بوزره لا بوزر غيره وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ كل واحد من بني آدم وقته خليفة ربه في الأرض. وسر الخلافة أن صوره على صفات نفسه حيا قيوما سميعا بصيرا عالما قادرا مريدا متكلما وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في استعداد الخلافة لِيَبْلُوَكُمْ ليظهر من المتخلق بأخلاقه منكم القائم به وبأوامره في العباد والبلاد، ومن الذي رجع القهقرى إلى صفات البهائم وأبطل الاستعداد للخلافة بالختم والطبع والحبس في سجين الطبيعة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن وفقه لمرضاته ورفع درجاته الله حسبي.
196
Icon