تفسير سورة الفجر

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة الفجر
مكيّة وهى ثلثون اية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ اقسم الله تعالى بالفجر اى انفجار صبح كل يوم كذا روى ابو صالح عن ابن عباس وهو قول عكرمة وقال عطية هو صلوة الفجر وقال قتادة هو أول فجر المحرم ينفجر منه السنة وقال الضحاك فجر أول يوم من ذى الحجة لانه قرن به الليالى العشرة.
وَلَيالٍ عَشْرٍ تنكير للتعظيم روى عن ابن عباس انها العشر الاول من ذى الحجة وهو قول قتادة ومجاهد والضحاك والسدى والكلبي عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ما من ايام أحب الى الله ان يتعبد فيها من عشر ذى الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر رواه الترمذي وابن ماجة بسند ضعيف وقال ابو روق عن الضحاك هى العشر الاول من شهر رمضان وروى ابو ظبيان هى العشر الاخر من شهر رمضان وقد ذكرنا فضايل رمضان فى سورة البقرة وايضا فى العشر الأخير ليلة القدر وسنذكرها فى سورة ليلة القدر إنشاء الله تعالى وقال ايمان بن رباب هى العشر الاول من المحرم التي عاشرها يوم عاشوراء عن ابى هريرة قال قال رسول الله - ﷺ - أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة الليل رواه مسلم.
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قرأ حمزة والكسائي بكسر الواو والباقون بالفتح قيل الشفع الخلق قال الله تعالى وخلقناكم أزواجا والوتر الخالق الواحد روى ذلك عن ابى سعيد الخدري وهو قول عطية والعوفى وقال مجاهد ومسروق نحوه فقال الخلق كله شفع يعنى يقابل بعضها بعضا قال الله تعالى ومن كل شىء خلقنا زوجين الكفر والايمان والهدى والضلال والسعادة والشقاوة والليل والنهار والسماء والأرض والبر والبحر والشمس والقمر والجن والانس والذكر والأنثى والوتر هو الله أحد سئل أبو بكر عن الشفع والوتر قال الشفع تضاد أوصاف المخلوقين الحيوة والموت والعز والذل والعجز والقدرة والقوة والضعف والعلم والجهل والبصر والعمى والسمع وإليكم والكلام والسكوت والغنى والفقر والوتر انفراد صفات الله تعالى حيوة بلا موت وعز بلا ذل وقدرة بلا عجز
وقوة بلا ضعف وعلم بلا جهل وكلام بلا سكوت وغنا بلا فقر وقال الحسن وابن زيد الشفع والوتر الخلق كله شفع ومنه وتر وروى قتادة عن الحسن قال هو العدد منه شفع ومنه وتر قال هى الصلاة منها شفع ومنها وتر روى ملك عن ابن حصين مرفوعا رواه احمد والترمذي وعن عبد الله بن زبير الشفع النفر الاول من الحج والوتر النفر الثاني قال الله تعالى فمن تعجل فى يومين فلا اثم عليه وقال مقاتل بن حيان الشفع الأيام والليالى والوتر يوم القيمة لا ليلة لها وقال الحسن الشفع درجات الجنة الثمان والوتر درجات النار لانها سبع كانه اقسم بالجنة والنار.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ إذا سار وذهب كما قال والليل إذا أدبر وقال قتادة إذا جاء واقبل وانما قيد بذلك لما فى التعاقب من قوة الدالة على كمال القدرة ووفور النعمة المراد يسرى فيه من قولهم صلى المقام بمعنى صلى فيه وأراد بالليل كل ليلة وقال مجاهد وعكرمة هى ليلة مزدلفة قرأ ابن كثير يسرى بإثبات الياء وصلا ووقفا لانها لام الفعل فلا يحذف منه وقرأ نافع وابو عمرو بالياء وصلا وبالحذف وقفا والباقون بالحذف فى الحالين لوفاق روس الاى سئل الأخفش عن العلة فى سقوط الياء فقال الليل ما يسرى ولكن يسرى فيه فهو مصروف فلما صرف بحسبه صفة من الاعراب كقوله وما كانت أمك بغيا ولم يقل بغية لانه صرف عنه باغية.
هَلْ فِي ذلِكَ اى فيما ذكرت قَسَمٌ التنكير للتعظيم مقنع ويكتفى فى القسم والاستفهام للتقرير والجملة الاستفهامية معترضة لتفخيم شأن المقسم به فانه من عجائب قدرة الله تعالى وبدايع حكمته لِذِي حِجْرٍ ص اى لذى عقل سمى العقل بذلك لانه يحجر صاحبه عن القبائح وجواب القسم ان ربك لبالمرصاد وما بينهما اعتراض جيئ لتاكيد الجواب او الجواب محذوف وهو لا هلكن هؤلاء الكفار ان لم يومنوا كما أهلكنا عاد او ثمود يدل عليه ما بعده.
أَلَمْ تَرَ استفهام لانكار النفي فهو للتقرير للاثبات وللتعجب والروية هنا لمعنى اليقين والجملة الاستفهامية بعده فى محل النصب بالمفعولية كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ كانوا أطول أعمارا وأشد قوى من هؤلاء الكفار يعنى اهلكهم وسلط عليهم ريحا دمرهم فكيف هؤلاء.
إِرَمَ بدل او عطف بيان ومنع الصرف للعلمية والعجمية والتأنيث وانها اسم قبيلة من عاد كان فيهم الملك وكانوا يموت وكان فى الأصل اسما لابى قبيلة وهو ارم بن عاد بن سام بن نوح عليه السلام وقال محمد بن اسحق هو جدعاء وهو عاد بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام وعلى هذا التقرير عاد سبط ارم وقال الكلبي ارم هو الذي يجتمع اليه نسب عاد
وثمود واهل السواد واهل الجزيرة كان يقال عاد ارم وثمود ارم فاهلك الله عادا ثم ثمود وبقي اهل السواد والجزيرة فعلى هذا الأقوال ارم اسم امة قال مجاهد ثم وصف تلك الامه بقوله ذاتِ الْعِمادِ ص اى ذات العدد والطوال كذا قال ابن عباس يعنى كان طولهم مثل عماد قال مقاتل كان طولهم اثنى عشر ذراعا يعنى من ذراع النبي عليه السلام وقيل اكثر من ذلك وقيل سمى تلك الامة بذلك لانهم كانوا اهل اعمدة وخيام وماشية سيارة فى الربيع فاذا أباح العود رجعوا الى منازلهم وكان اهل جنان وزروع ومنازلهم بوادي القرى وقيل سموا ذات عماد لبناء بعضهم فشدا عمدة ورفع بنائه يقال بناء شداد بن عاد على صفة لم يخلق فى الدنيا مثله وسار اليه فى قومه فلما كان منه على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من معه صيحة من السماء فاهلكتهم جميعا وقال سعيد بن المسيب ارم ذات العماد بلدة يقال لها دمشق وقال القرطبي هى الاسكندرية فتقدير الكلام عاد اهل ارم ذات العماد اى ذات البناء الرفيع وأساطين.
الَّتِي صفة اخرى لارم سواء كانت بلدة او قبيلة لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها اى مثل ذلك الامة فى القامة والقوة او مثل تلك البلدة فى رفعة البناء والاستحكام والحسن إليها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ عطف على عاد الَّذِينَ جابُوا اى قطعوا الصَّخْرَ واحدتها صخرة وهى الحجر كانوا ينحتون بيوتا بِالْوادِ ص اى بواد القرى اثبت ياء الوادي فى الحالين البذي وكذا روى عن قنبل وفى الوصل فقط ورش وقنبل وحذف الباقون فى الحالين لموافقة روس الاى.
وَفِرْعَوْنَ عطف على ثمود ذِي الْأَوْتادِ ص قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرطبي اى ذى البناء المحكم وقيل المراد باوتاد الملك الشديد الثابت يقول العرب هم فى العز ثابت الأوتاد ويريدون الدائم الشديد وقال عطية ذى الجنود والجوع الكثيرة وسميت الجنود الأوتاد لكثرة المضار التي كانوا يضربونها ويرتدونها فى أسفارهم وهى رواية عطية عن ابن عباس وقال مقاتل والكلبي الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين اربعة أوتاد وشد كل يدو كل رجل الى سارية وتركه كذلك فى الهواء بين السماء والأرض حتى يموت وقال مجاهد ومقاتل بن حيان كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يمديديه ورجليه على الأرض بالأوتاد وقال السدى كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات وقال قتادة وعطاء كانت له أوتاد
255
وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يدى روى البغوي بسنده عن ابن عباس ان فرعون سمى بذي الأوتاد لانه كانت له امرأة وهى امرأة خازنه حزقيل وكان مؤمنا وكتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هى ذات يوم يمشط رأس بنت فرعون إذ سقط للشطه من يدها فقالت تعس من كفر بالله فقالت بنت فرعون وهل لك من اله غير ابى فقالت الهى واله أبيك واله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت ودخلت على أبيها وهى تبكى فقال ما يبكيك فقالت الماشطة امرأة خازنك تزعم ان إلهك والهها واله السموات والأرض واحد لا شريك له فارسل إليها فسألها عن ذلك فقالت يوعدينى سبعين شهرا ما كفرت بالله وكانت لها ابنتان فجاء ابنتها الكبرى فذبحها على فيها وقال لها اكفر بالله والا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعا فقالت لو ذبحت من على الأرض على فى ما كفرت بالله عز وجل فاتى فلما أضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة فاطلق الله لسان ابنتها فتكلمت وهى من الاربعة الذين تكلموا أطفالا فقالت يا أماه لا تجزعى فان الله قد بنى لك بيتا فى الجنة أميري فانك تفضين الى رحمة الله وكرامته فذبحت فلم تلبث ان ماتت فاسكنها الله الجنة قال وبعث فى طلب زوجها حزقيل فلما تقدروا عليه فقيل لفرعون انه قد راى فى موضع كذا فى جبل كذا فبعث رجلين فى طلبه فلما انتهيا اليه وهو يصلى وثلثة صفوف من الوحوش خلفه يصلون فلما رأى ذلك انصرفا فقال حزقيل اللهم كتمت إيماني مأية سنة ولم يظهر على أحد فايما هذين الرجلين اظهر علىّ فعجل عقوبته فى الدنيا واجعل مصيره فى الاخرة الى النار فانصرف رجلان الى فرعون فاما أحدهما فاعتبروا من واما الاخر فاخبر فرعون بالقصة على رؤس الملأ فقال وهل كان معك غيرك قال نعم فلان فدعا به فقال أحق ما يقول هذا قال لا ما رايت مما قال شيئا فاعطاه فرعون وأجزل واما الاخر فقتله ثم صلبه وكان فرعون قد تزوج امرأة من أجمل نساء بنى إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاهم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت كيف يسعنى ان اصبر على ما يأتي فرعون وانا مسلمة وهو كافر فبينما هى كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها فقالت يا فرعون أنت اشر الخلق وأخبثه عمدت الى الماشطة فقتلتها فقال فلعل بك الجنون الذي كان بها قالت ما بي جنون وان الهى والهها وإلهك واله السموات والأرض واحد لا شريك له فمزق عليها ثيابها وضربها وأرسل الى أبويها فدعاهما فقال لهما الا تريان ان الجنون الذي كان بالماشطة أصابها قالت أعوذ بالله
256
من ذلك انى اشهد ان ربى وربك رب السموات والأرض واحد لا شريك له فقال أبوها يا آسية الست من خير نساء عماليق وزوجك اله العماليق قالت أعوذ بالله من ذلك ان كان ما تقول حقا فقولا له ان يتوجنى تاجا تكون الشمس امامه والقمر خلفه والكواكب حوله فقال لهما فرعون اخرجا عنى فمدها بين اربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها بابا الى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله فقبض الله روحها وأسكنها فى الجنة انتهى وامرأة فرعون هذا
هى التي منعت فرعون عن قتل موسى عليه السلام حين التقطه آل فرعون من اليم وقد ألقيها أمها بإذن ربها حين خافت القتل على موسى وذكر القصة فى سورة القصص وقالت امرأة فرعون قرة عين لى ولك عسى ان ينفعنا وقد نفعها الله به حيث امنت.
الَّذِينَ مجرور صفة للمذكورين او منصوب على الذم او مرفوع خبر مبتداء محذوف اى هم الذين طَغَوْا اى جاوزوا فى الحد والعصيان فِي الْبِلادِ متعلق بطغوا-.
فَأَكْثَرُوا عطف على طغوا فِيهَا اى فى البلاد الْفَسادَ بالكفر والظلم.
فَصَبَّ عطف على طغوا والفاء للسببية عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ اى عذابا مختلطا بعضها ببعض فهى اضافة صفة الى موصوفها كاخلاق ثياب واصل السوط الخلط ومنه يقال السوط للحد لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض وشبه بالسوط ما حل بهم فى الدنيا من العذاب اشعارا بانه بالقياس الى ما أعد لهم فى الاخرة من العذاب كالسوط إذا قبس بالسيف وقال قتادة يعنى سوطا من العذاب صبه عليهم وقال اهل المعاني هذا على الاستعارة لان السوط عندهم غاية العذاب فالمعنى انه دفع العذاب بهم على ابلغ الوجوه دفعة واحدة كما يشير به الصب.
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ط جواب للقسم او مقرر بجواب محذوف والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد وكونه بالمرصاد كناية من انه تعالى يريد من العباد الطاعة والسمع لاجل الاخرة فيترصد أعمالهم ويحيط علمه بها بحيث لا يفوته شىء منها كما لا يفوت ممن يرصد فى المرصاد من يمر بها يجازيهم عليها والإنسان غافل عن ذلك لابيهم الا لدنيا ولذاتها ولذلك عطف عليه قوله.
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ اى امتحنه بالغنى واليسرى حتى يظهر انه يشكر المنعم او يكفر والظرف متعلق بيقول فَأَكْرَمَهُ فى الدنيا بالجاه وَنَعَّمَهُ بالأموال والأزواج
والأولاد وغير ذلك بيان للابتلاء فَيَقُولُ اخبر للانسان والفاء بمعنى الشرط فى افادته معلولية القول رَبِّي قرأ الكوفيون وابن عامر بسكون الياء والباقون بالفتح وكذا فى ربى أهانن أَكْرَمَنِ ط اى فضلنى بما أعطني اثبت الياء فى أكرمني وأهانني يعقوب والبزي وصلا ووقفا ونافع فى الوصل فقط وجر فيها ابو عمرو قياس قوله فى رؤس الآي يوجب حذفها فى الحالين قال ابو عمر الدالاني بذلك قرأت وبه أخذوا والباقون حذفها فى الحالين.
وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ اى امتحنه بالفقر حتى يظهر انه يصبر ويرجع الى الله تعالى او يحزع ويكفر من غير رجوع اليه تعالى فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ قرأ ابن عامر وابو جعفر قدر بالتشديد والباقون بالتخفيف فقيل اولى بمعنى قتر والثاني بمعنى أعطاه ما يكفيه وقيل معناهما واحد اى ضيق ولم يقل هاهنا اهانه وقدر عليه رزقه كما قال هناك فاكرمه ونعمه لان توسعته المال فى الدنيا تفضل يوجب الشكر وقد يكون موجبا للاكرام فى الاخرة ايضا عن ابن عباس قال قال رسول الله - ﷺ - لا حسد الأعلى اثنين رجل أتاه الله القران فهو يقوم به اناء الليل واناء النهار ورجل أتاه مالا فهو ينفق منه اناء الليل واناء النهار متفق عليه واما التقتير فلا يكون اهانة فقط فَيَقُولُ الإنسان رَبِّي أَهانَنِ ويقول ذلك لقصور نظره على الدنيا وانهماكه فيها قال الكلبي ومقاتل نزلت فى امية ابن خلف الجمحي الكافر والله تعالى اعلم.
كَلَّا اى ليس الأمر كما يقول فان الغنى والنعماء الدنيوية قد يكون استدراجا من الله إذا لم يقترن بالشكر بل مع الشكر ايضا لا تقبل عند الله للغنى الشاكر على الفقير الصابر عند مصعب بن سعد قال راى سعد ان له فضلا على من دونه فقال رسول الله ﷺ هل تنصرون وترزقون الا بضعفائكم رواه البخاري وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله - ﷺ - ان فقراء المهاجرين اسبقون الأغنياء يوم القيمة الى الجنة بأربعين خريفا رواه مسلم وعن ابى هريرة قال قال رسول الله - ﷺ - يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ونصف يوم رواه الترمذي والفقر والضعف إذا اقترن بالصبر والرضا يكون نعمة لا اهانة عن قتادة بن النعمان ان رسول الله - ﷺ - قال إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما بطل أحدكم تحمى سقيمه الماء رواه احمد والترمذي وفى الباب أحاديث كثيرة بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ بالنفقة ولا تحبون اليه مع ان الله تعالى
أكرمكم بالغنى وقيل لا تعطونه حقه عطف على يقولون يعنى بل قولهم دال على انهماكهم فى الدنيا حيث لا يكرمون اليتيم قال مقاتل كان قدامة بن مظعون يتيما فى حجر امية بن خلف فكان يدفعه عنه حقه قرأ ابو عمرو لا يكرمون ولا يحضون ويأكلون ويحبون بالياء على الغيبة والضمير راجع الى الإنسان نظرا الى معناه الجمعى من حيث كونه جنسا وما سبق من الضمائر المفردة راجع اليه نظرا الى لفظه والباقون الافعال الاربعة بالتاء الخطاب إليهم على سبيل الالتفات.
وَلا تَحَاضُّونَ قرأ الكوفيون بالألف بعد الحاء من التفاعل بحذف أحد التاءين اى لا يحض بعضكم بعضا والباقون بغير الالف اى لا تحضون غيركم عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فضلا ان تطعموا من أموالكم.
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ اى الميراث أصله الوارث أَكْلًا لَمًّا اى ذا لم اى جمع بين الحلال والحرام كانوا يأكلون مع أبضاعهم ابضاع ضعفاء من النساء والصبيان قال ابن زيد الاكل اللم الذي يأكل شيئا يجده لا يسال عنه إحلال أم حرام وقيل يأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك.
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا اى كثيرا مع حرص وشره.
كَلَّا ردع عما يفعلون وقال مقاتل اى لا يفعلون ما أمروا به او هو بمعنى حقا تحقيقا لما يذكر بعده من الوعيد ويخبر عنه تحسرهم حين لا ينفعهم الحسرة إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا اى زلزالا بعد زلزال حتى تنكسر ما عليها من الجبال والأشجار والابنية وصارت هباء منبثا.
وَجاءَ رَبُّكَ عطف على دكت وهى من المتشابهات وقد ذكرنا ما فيها من القول السلف والخلف واصحاب القلوب فى سورة البقرة فى قوله تعالى ان يأتيهم الله فى ظلل من الغمام وَالْمَلَكُ اللام للجنس اى وجاءت الملائكة صَفًّا صَفًّا ج حال من الملك اى جاؤا يصفون صفا بعد صف اخرج ابن جرير وابن المبارك عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة امر الله سبحانه السماء الدنيا فنشققت باهلها فتكون الملائكة على حافاتها حين يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ثم الثانية ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فصفوا صفا دون صف ثم ينزل الملك الا على بجنبه اليسرى جهنم فاذا أراها اهل الأرض فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض الا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فرجعوا الى مكان الذي كانوا فيه وذلك قوله تعالى انى أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين الاية وذلك قوله تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا وجئ يومئذ بجهنم وقوله تعالى يا معشر
الجن والانس ان استطعتم ان تنفذوا من أقطار السموات والأرض الاية قوله تعالى وانشقت السماء فهى يومئذ واهية والملك على أرجائها يعنى ما تشقق منها فبينما كذلك إذ سمعوا الصوت فأقبلوا الى الحساب.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ عطف على جاء اخرج مسلم والترمذي عن ابن مسعود قال قال رسول الله - ﷺ - يوتى بجهنم يومئذ لها سبعون الف زمام مع كل زمام سبعون الف ملك يجرونها واخرج ابن وهب فى كتاب الأهوال عن زيد بن اسلم قال اتى جبرئيل الى النبي ﷺ لتكسر الطرف فساله على رضى الله عنه فقال أتاني جبرئيل فقال لى كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ بما تقاد سبعين الف زمام تقاد سبعين الف ملك فبينما هم إذا خردت انفلتت من أيديهم فلولا انهم أدركوها لاحرقت من فى الجمع فاخذوها قال القرطبي يجاء بها من المحل الذي خلقها الله فيه فيدار بأرض الحشر لا يبقى للجنة طريق الا الصراط واخرج ابو نعيم عن كعب قال إذا كان يوم القيامة فنزلت الملائكة فصاروا صفوفا فيقول الله لجبرئيل ايت بجهنم فياتى بها تقاد سبعين زماما حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مأية عام زفرت طارت بها افئدة الخلائق ثم زفرت الثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبى مرسل إلا جثى لركبته ثم تزفر الثالثة فبلغ القلوب الحناجر وتزيل العقول فيفزع كل امرؤ عمله حتى ابراهيم يقول بخلتي لا أسئلك الا نفسى ويقول موسى بمناجاتي لا أسألك الا نفسى وقال عيسى بما أكرمني لا أسألك الا نفسى ولا أسألك مريم التي ولدتني ومحمد ﷺ يقول أمتي أمتي لا أسئلك اليوم نفسى فيجيب جل جلاله ان الأولياء من أمتك لا حوف عليهم ولا هم يحزنون فو عزتى لا قرن عينيك فى أمتك فقم تقف الملائكة بين يدى الله ينتظرون ما يومرون يَوْمَئِذٍ بدل من إذا دكت اى يوم إذا دكت الأرض وجئ بجهنم والعامل يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ الكافر الذي قال ربى أكرمن ربى أهانن على سراء الدنيا وضرائها جزاء بمعنى الشرط فى الظرف اى يتذكر معاضيه بتعظ ويتوب وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ط استفهام للانكار اى ليس له منفعة الذكر فان من شرط قبول التوبة الايمان بالغيب.
يَقُولُ ذلك الإنسان تحسرا جملة مستانفة كانه فى جواب فما يصنع حين يتذكر يا لَيْتَنِي يعنى يقول يا ليتنى
قَدَّمْتُ فى الدنيا أعمالا صالحا لِحَياتِي ج التي لا ينطلق إليها الموت او اللام بمعنى الوقت والمعنى يا ليتنى قدمت الأعمال الصالحة وقت حياتى فى الدنيا.
فَيَوْمَئِذٍ عطف على يومئذ السابق والظرف متعلق بما بعده لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ منصوب بنزع الخافض اى كعذابه وكذا وثاقه أحد أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ قرأ الكسائي ويعقوب لا يعذب ولا يوثق بفتح العين على البناء للمفعول اى لا يعذب أحد من الناس يعنى عصاة المؤمنين كعذاب ذلك الإنسان اى الكافر ان كان المراد بالأمم الجنس او المعنى لا يعذب أحد كعذاب ذلك الإنسان المعهود وهو امية بن خلف ولا يوثق أحد فى السلاسل والاغلال كوثاقه والباقون بكسر العين فيهما على البناء للفاعل وحينئذ الضمير المجرور فى عذابه ووثاقه اما راجع الى الله سبحانه والاضافة الى الفاعل اى لا يتولى عذاب الله ووثاقه يوم القيمة أحد سواه والأمر يومئذ كله لله اى والإنسان الكافر والاضافة اى المفعول اى لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه أحدا وعلى هذا التأويلات يومئذ متعلق بلا يعذب ولا يوثق على سبيل التنازع والمعنى لا يعذب أحد أحدا من الأزل الى الابد كعذاب الله يومئذ ولا يوثق أحد أحدا من الأزل الى الابد كوثاق الله يومئذ فيومئذ وحينئذ متعلق بالمصدر اى عذابه وثاقه.
يا أَيَّتُهَا بتقدير يقال جملة مستانفة كانه فى جواب السائل انما ذكر شان الكفر فما شان المؤمن فقال وتقديره يقال للمومنين يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ فى ذكر الله تعالى وطاعته كما تطمئن السمكة فى الماء وذلك الاطمينان لا يتصور الا بعد زوال صفاتها الرذائل الموجبة لكونه امارة بالسوء وزوال تلك الصفات لا يمكن الا بتجليات صفات الله الحميدة الحسناء وفنائها فيها وبقائها فتصير حينئذ مومنة ايمانا حقيقيا كما ان الكلب لا يمكن طهارته الا بوقوعه فى الملح وفنائه فيها وبقائه بصفات الملح حتى يصير حلالا طيبا.
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ اى الى ذات البحت بلا حجب الأسماء والصفات راضِيَةً بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وبما قدر الله لها حال من فاعل ارجعي قال رسول الله ﷺ ذاق طعم الايمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا متفق عليه وذاق طعم الايمان المراد به
261
هو الايمان الحقيقي مَرْضِيَّةً ج فان رضا العبد بالله موجب لرضاء الله سبحانه عنه بل رضاء العبد اثر لرضائه تعالى ودليل عليه قال الحسن إذا أراد الله قبضها اطمأنت ورضيت عن الله ورضى الله عنها عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله ﷺ من أحب لقاء الله أحب الله لقائه ومن كره لقاء الله كره الله لقائه فقالت عائشة او بعض أزواجه انا نكره الموت فقال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته فليس شىء أحب اليه مما امامه فاحب لقاء الله فاحب الله لقاءه واما الكافر إذا حضره الموت يبشر بعذاب الله وعقوبته فليس شىء اكره اليه مما امامه فكره لقاء الله وكره الله لقائه متفق عليه وفى رواية عائشة والموت قبل لقاء الله وعن ابى هريرة قال قال رسول الله - ﷺ - إذا حضر المؤمن الموت أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجى راضية مرضية عنك الى روح الله وريحانه ورب غير غضبان فيخرج كاطيب ريح المسك حتى انه ليناوله بعضه بعضا حتى يأتوا به أبواب السماء فيقولون ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض فياتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائب يقدم عليه فيسئلوا ماذا فعل فلان فيقول دعوه فانه كان فى غم الدنيا فيقول قد مات اما أتاكم فيقولون قد ذهب به الى امه الهاوية وان الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون اخرجى ساخطة مسخوطا إليك اى عذاب الله عز وجل فتخرج كانتن ريح جيفة حتى يأتون به الى باب الأرض فيقولون ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار رواه احمد والنسائي وفى رواية ابن ماجة نحوه وفيه ثم يعرج بها اى بالمؤمنة الى السماء فيفتح لها فيقال مرحبا بالنفس الطيبة كانت فى الجسد الطيب الحديث وقال فى النفس الكافر ثم يعرج بها الى السماء فيقال لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت فى الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فانها لا يفتح لك أبواب السماء ثم ترسل من السماء ثم يصير الى القبور وفى الباب أحاديث كثيرة واختلفوا فى وقت هذا المقالة فقال قوم يقال لها ذلك عند الموت كما دلت عليه الأحاديث وقال ابو صالح فى قوله ارجعي الى ربك راضية مرضية قال هذا عند خروجها من الدنيا فاذا كان يوم القيمة قيل فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى وقال آخرون انها يقال لها ذلك عند البعث ارجعي
262
الى ربك وادخلى فى أجساد عبادى يعنى جسدك فيامر الله تعالى الأرواح ان ترجعى الى الأجساد وهذا قول عكرمة وعطاء والضحاك ورواية العوفى عن ابن عباس وقال الحسن معناه ارجعي الى ثواب ربك وكرامة راضية من الله تعالى بما أعد الله مرضية رضى عنها ربها فادخلى فى عبادى اى مع عبادى جنتى قلت سياق الاية يؤيد هذا القول يعنى انها يقال عند البعث لان الله ذكر حال الكفار عند البعث بقوله فيومئذ لا يعذب عذابه إلخ فكذلك ذكر ما يقال للمؤمنين يومئذ والأحاديث المذكورة يؤيد القول الاول والجمع بينهما انه يقال فى الوقتين جميعا عند الموت وعند البعث بل التحقيق ان استحقاق هذا الخطاب يحصل للنفس فى الدنيا حصول الاطمينان فيقال لها ارجعي الى ربك اى مدارج قربه وتجلياته الذاتية راضية مرضية.
فَادْخُلِي فِي عِبادِي اى فى جملة عبادى الصالحين الذين سال سليمان عليه السلام الدخول فيهم فقال وأدخلني برحمتك فى عبادك الصالحين وسال يوسف عليه السلام اللحوق بهم حيث قال توفنى مسلما والحقنى بالصالحين وقال الله تعالى فيهم لابليس ان عبادى ليس لك عليهم سلطان والفاء فى فادخلى للسببية فان اطمينان النفس وكونها راضية مرضية سبب لخلوص العبودية لله سبحانه وذلك رقبة عن رقبة الالهية الباطلة الهوائية ووساوس الخناسية قال الله تعالى أفمن اتخذ الهه هواه وقال رسول الله - ﷺ - نفس عبد الدينار والدراهم والقطيفة والخميسة الحديث.
وَادْخُلِي جَنَّتِي ع اضافة الجنة الى الله سبحانه يقتضى خصوصا تلك الجنة من بين الجنات كما لا يخفى قال البغوي قال سعيد بن جبير مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته فجاء طاير لم ير على خلقه فدخل نعشه ثم لم نر خارجا منه فلما دفن تليت هذه الاية على شعير القبر لم يدر من تلاها يايّتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى واخرج ابن ابى حاتم عن بريدة فى قوله تعالى يايتها النفس المطمئنة إلخ قالت نزلت فى حمزة رضى الله عنه واخرج من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال من اشترى هذه الامة يستعذب بها غفر الله له فاشتر بها عثمان يايتها النفس المطمئنة الاية (فائده) قال بعض الصوفية تاويل هذه الاية يايتها النفس المطمئنة الى الدنيا ارجعي الى ربك بترك الدنيا والسلوك اليه فى الطريق الصوفية- والله تعالى اعلم.
Icon