بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
التفسير: المناسبة قريبة بين سورة التوبة، وسورة الأنفال قبلها.. بل إن بينهما لأكثر من وجه من الوجوه الجامعة بينهما على سبيل الوفاق، أو المقابلة.
فأولا: ختمت سورة الأنفال بالكشف عن الحدود الفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين، بحيث وضح موقف كل منهما من الآخر.. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، والكافرون بعضهم أولياء بعض..
وثانيا: بدئت سورة التوبة بهذا الإعلان العام الذي كان تطبيقا للأحكام التي تضمنتها الآيات الواردة فى آخر الأنفال، من عزل المؤمنين عن الكافرين،
وثالثا: كانت سورة «الأنفال» أول ما نزل من القرآن بالمدينة، على حين كانت «التوبة» آخر سورة نزلت من سورة القرآن بالمدينة أيضا! لهذا وغيره من المناسبات الجامعة بين السورتين، كان جمعهما على هذا النسق، فجاءت الأنفال، ثم جاءت بعدها التوبة، حتى لكأنهما سورة واحدة، الأمر الذي اقتضى عدم تصدير سورة التوبة بالبسملة، كما صدرت جميع سور القرآن.. هذا ما ذهب إليه كثير من العلماء فى التعليل لعدم تصدير «التوبة» بالبسملة.. وذهب آخرون فى تعليل ذلك إلى أن سورة التوبة خطاب للكافرين والمشركين، وأنها إعلان حرب عليهم، ولا يناسب ذلك أن يصدّر الحديث إليهم باسم الله الرحمن الرحيم. وقد اعترض على هذا بأن رسول الله ﷺ بدأ كتبه إلى من دعاهم إلى الإسلام من المشركين والكافرين بالبسملة.
وردّ على هذا الاعتراض بأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان فى كتبه إلى من كتب إليهم يدعو إلى الإسلام، والسلام، وإلى الخير والرحمة، فناسب أن يصدّر ذلك باسم الله الرحمن الرحيم.. وليس كذلك ما حملت «براءة» إلى الكافرين والمشركين، من نذر التهديد والوعيد.
وقيل. إن التوبة مكملة لسورة الأنفال، فهما سورة واحدة، كلتاهما نزلت فى القتال، وتعدّان معا السابعة من الطّول (أي السبع الطوال)، والطّول سبع سور، هى البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف- ثم الأنفال والتوبة، وما بعدها المئون.. (أي ما اشتملت السورة منها على مئة آية أو نحوها.
وقوله تعالى: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
فكان نقض هذه العهود القائمة بين المسلمين والمشركين وضعا للأمر فى موضعه الصحيح، إذ هو إقرار لحقيقة واقعة، ونقض لعهود منقوضة من قبل أن يجفّ المداد الذي كتبت، ولا ينتظر المشركون لنقضها إلا الوقت المناسب، والفرصة السانحة..
وقد تولّى الله سبحانه وتعالى عن المسلمين نقض هذه العهود، وجعل سبحانه وتعالى ذلك إليه وإلى رسوله الكريم: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وذلك ليدفع عن المسلمين الحرج الذي ربما وجدوه فى صدورهم لو أمروا بنقض هذه العهود.. وفى هذه ما فيه من لطف الله وإحسانه إلى المسلمين، ورعايته لهم، وبرّه بهم.
والبراءة من الشيء، والتبرؤ منه، هو مجافاته، وقطع الصلة به، والله سبحانه وتعالى، إنما يبرأ من المشركين، لأنهم برئوا منه.. ومعنى براءته سبحانه وتعالى منهم، طردهم من رحمته، وتركهم للأهواء والضلالات المتسلطة عليهم.. أما براءة رسول الله منهم، فهى قطع العلاقة التي كانت قائمة بينه
قوله تعالى: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» هو إطلاق من الله سبحانه وتعالى للمشركين من تلك العهود التي عقدوها مع المؤمنين، وإرسال لهم فى وجوه الأرض مدة أربعة أشهر، يتنقلون فيها حيث يشاءون، دون أن يعترضهم المسلمون، أو يلقوهم بأذى، إلا إذا بدءوهم ببغى أو عدوان.. وهذا هو السرّ فى قوله تعالى: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ».: إذ لا تكون السياحة فى الأرض إلا حيث الأمن..
والمشركون فى هذه المدة التي أعطيت لهم، آمنون من كل عدوان.
وفى هذه الأشهر الأربعة فسحة للمشركين، يعدّون فيها أنفسهم للوضع الذي يتخيرونه، بعد انقضاء هذه المدة، فإما أن يدخلوا فى الإسلام، وإما أن يدخلوا مع المسلمين فى حرب وقتال.. وهى مدة كافية كلّ الكفاية لكى يقلّب فيها المشركون وجوه النظر، وليتخيّروا لأنفسهم أعدل المواقف التي ينتهى إليها تفكيرهم وتقديرهم..
وهذا وجه من وجوه الإسلام السمحة، وآية من آياته المشرقة فى العدل والإحسان، حتى فى مواقف المواجهة للعدو.. وفى ميدان الخصومة معه! وما كان لشريعة الله أن تكون على غير هذا الوجه الذي يقيم موازين العدل بين عباد الله جميعا.. مؤمنهم وكافرهم على السواء.. فالمشركون خلال
وقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» هو تحذير للمشركين، وتنبيه لهم أن يأخذوا حذرهم، وأن يقدّروا موقفهم فى الرأى الذي يرونه لأنفسهم، بعد هذه الأشهر الأربعة.. وليضعوا فى حسابهم هاتين الحقيقتين:
أولاهما: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يطلبهم، وأن يد الله لا تقصر عنهم فى أي متّجه اتجهوا إليه.. «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ»..
وثانيتهما: أنّهم إذا انتهى بهم رأيهم إلى اختيار الشرك الذي هم عليه، فإنهم قد اختاروا الخزي والهوان، لأنهم حينئذ يكونون حربا على الله..
«وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ».
قوله تعالى: «وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» الأذان: الإعلام، والإظهار للأمر بصورة كليّة كاشفة.. ويوم الحج الأكبر، هو يوم عرفة، وقيل يوم النحر، وفى كلا اليومين تتم معظم أعمال الحج.. ووصف الحجّ بأنه الحج الأكبر، تعظيما له وإلفاتا إلى تلك الظاهرة الإنسانية التي تتجلى فيه، باجتماع هذه الحشود الحاشدة، التي تجمع الناس من كل أمة وقبيل.. يأتون من كل فج عميق.. فإذا احتوتهم دائرة الحرم كانوا
وكان أبو بكر رضى الله عنه هو الذي ندبه الرسول، صلى الله عليه وسلم، أميرا على الناس يومئذ ليقيم لهم حجّهم..
وكان موسم الحج هذا العام، مجتمعا للمسلمين والمشركين، حيث يقيم المؤمنون حجّهم على الوجه الذي بيّنه الإسلام لهم، على حين يقيم المشركون حجّهم على ما كانوا عليه فى الجاهلية، وكان من عادتهم أن يطوفوا بالبيت عراة.. وقد آثر رسول الله ﷺ ألا يشهد هذا المشهد الكريه من المشركين، فأقام أبا بكر مقامه فى هذا الموسم، وكان ذلك فى السنة التاسعة من الهجرة.. فلما كانت السنة العاشرة وطهّر الله المسجد الحرام من الشرك والمشركين، حجّ النبىّ حجة الوداع.
وما كاد أبو بكر ينفصل عن المدينة، فى طريقه إلى البلد الحرام، حتى تلقى رسول الله ﷺ من ربّه هذه الآيات الأولى من سورة براءة.. فجعل إلى علىّ بن أبى طالب أن يؤدى عنه هذا الأمر، وأن يؤذّن به فى الناس يوم الحجّ الأكبر.. فركب ناقة رسول الله ﷺ «العضباء» ولحق بأبى بكر فى بعض الطريق قبل أن يدخل مكة، فقال له أبو بكر: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور..!
فأقام أبو بكر للمسلمين حجّتهم..
وأذّن علىّ فى الناس بهذا الإعلان القرآنى من سورة براءة.
والسؤال هنا:
والجواب على هذا: أن ما كان بين المسلمين والمشركين من عهود، إنما كانت معقودة باسم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، باعتباره ممثلا للمسلمين، وهو بهذا الاعتبار لم يكن عند المشركين أكثر من رئيس قبيلة، وليس لصفة النبوة حساب عندهم فى هذا الأمر، إذ لم يكونوا معترفين بنبوته، وإلّا لآمنوا به..
ومن هنا لم يكن- من وجهة نظر المشركين- من المقبول أن يتولّي نقض هذه العهود ونبذها إلى أصحابها إلا المتعاقد معهم عليها، أو من يمثله من عصبته، وذوى قرابته الأدنين، وذلك أن أهل البيت، أو القبيلة يحملون معا تبعات الالتزامات التي بينهم وبين غيرهم، وأنه إذا جنى أحدهم جناية كانت تبعتها على الجماعة كلّها..
ومن أجل هذا، فإن النبىّ ﷺ حين تلقى من ربّه الأمر بنبذ العهود إلى المشركين، قال: «لا يبلّغ عنى إلّا أنا أو رجل من بيتي».. فجعل ذلك إلى ابن عمّه علىّ بن أبى طالب.. وإن كان المسلمون جميعا- على اختلاف بيوتهم وقبائلهم- أهلا لأن يؤدوا هذه المهمة، ولكن عند من يعترف بنبوة النبىّ، ويعترف بالمسلمين كوحدة تدين بدين، وتجتمع على شريعة.. ولكن المشركين كانوا يتعاملون مع النبىّ كواحد من بنى هاشم، ولا ينظرون كثيرا إلى من استجاب له وتبعه من المسلمين.. ولهذا، فإنه حين يئست قريش من أن تمسك النبىّ عن القيام.. برسالته، عمدت إلى مقاطعة بنى هاشم، وفرض الحصار الاقتصادى والاجتماعى عليهم، فلا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يتعاملون معهم، أخذا أو إعطاء، وقد وقع بنو هاشم جميعا- مؤمنهم ومشركهم- تحت
وفى قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» - الواو فى «ورسوله» للعطف على المصدر المؤول من الجملة السابقة: «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» أي ورسوله برىء منهم.. فهو عطف جملة على جملة.. وذلك لتكون براءة الله من المشركين هى الأصل، ثم تجىء براءة رسول الله منهم تبعا لتلك البراءة، ثم تجىء براءة المؤمنين منهم تبعا لبراءة الله ورسوله.
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» دعوة مجدّدة من الله- سبحانه- إلى المشركين، أن يستجيبوا لله وللرسول، فذلك هو الذي يحقق لهم الفوز والفلاح، ثم هو تهديد لهم بالخزي فى الدنيا والعذاب فى الآخرة، إذا هم لم يتوبوا إلى الله، ويخلّصوا أنفسهم من الشرك الذي استولى عليهم..
وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» هو استثناء من الحكم العام الذي أنذر به المشركون، وهو أن العهود التي كانت بينهم وبين المسلمين لن يكون لها مفعول بعد الأربعة الأشهر التالية ليوم النحر، الذي أعلنوا فيه بنبذ العهود التي عقدوها مع المسلمين..
والمستثنون من هذا الحكم العام من المشركين، هم أولئك الذين عرف منهم المسلمون صدق نواياهم فى الوفاء بالعهود التي عقدوها معهم، حيث لم تظهر منهم بادرة تدلّ على خيانة، أو ممالأة عدوّ، أو تحريضه على المؤمنين- فهؤلاء
فهؤلاء المستثنون، يجب على المسلمين الوفاء لهم بالعهود التي عقدوها معهم، إلى الآجال المضروبة لها.. فهؤلاء لهم حساب.. ولعامة المشركين حساب آخر..
وقوله سبحانه: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو بيان لموقف المسلمين من المشركين، بعد انقضاء الأربعة الأشهر التي حرّم على المسلمين فيها قتال المشركين، وتبدأ من العاشر من ذى الحجة إلى العشرين من ربيع الآخر.. حيث أعطى المشركون فيها أمانا مطلقا، حتى تتاح لهم الفرصة لاختيار الموقف الذي يقفونه من المسلمين بعد انقضاء هذه المدة، التي وقتتها الآية بأربعة أشهر فى قوله تعالى: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ».
والأشهر الحرم هنا، هى غير الأشهر الحرم المعروفة، وهى ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب.. والتي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ».. فهذه الأشهر الحرم يحرم فيها القتال بدءا به، ولا يحرم فيها لدفع العدوان.. وهذا الحكم هو لها فى جميع الأزمان.. أما الأشهر الحرم التي ذكرت هنا فإن حرمة ما حرّم منها هو خاص بهذا العام، أي السنة التاسعة، وأول العاشرة من الهجرة..
وقوله تعالى: «وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» دعوة للمسلمين بالجد فى طلب المشركين، وأخذهم بكل قوّة، وملاحقتهم فى كل مكان، حتى لا يكون لهم مهرب.. وفى هذا إرهاص بما سيحلّ بالمشركين من بلاء واقع، لا وجه لهم من الإفلات منه.. بعد أن ينتهى الأجل المضروب لهم، وذلك من شأنه أن يلقى الرّعب فى قلوب المشركين، وأن يفتح للكثير منهم طريقا إلى الإسلام، حيث يجد العافية، والأمن والسلام..
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو تحريض للمشركين على المبادرة بالتوبة، وخلع نير الشرك من رقابهم، وذلك قبل أن يقعوا ليد المسلمين، وتصل إليهم سيوفهم، فإنهم إن وصلوا إلى تلك الحال، فلن تكون لهم نجاة، ولن تقبل منهم توبة، شأنهم فى هذا شأن الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا، وفيهم يقول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»
(٣٣- ٣٤: المائدة) وفى قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» دعوة للمسلمين إلى التسامح والرفق، وأن يقبلوا هؤلاء الذين جاءوهم مسلمين، وأن يفسحوا لهم فى قلوبهم
الآيات: (٦- ١٥) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٦ الى ١٥]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
فبعد أن قضى الله بنقض العهود التي بين المشركين والمسلمين، وإمهالهم أربعة أشهر يتدبّرون فيها أمرهم، استثنى الله سبحانه وتعالى من هؤلاء المشركين من عرف المسلمون منهم الوفاء بالعهد، فأبقى على عهودهم إلى انتهاء أجلها المضروب لها، ثم أمر الله المسلمين بأن يأخذوا المشركين حيث وجدوهم، وأن يقتلوهم حيث ظفروا بهم، وذلك مع استثناء من بقي لهم مع المسلمين عهد.
وهنا فى هذه الآيات استكمال لهذه الأحكام..
ففى قوله تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» بيان لحكم من جاء من المشركين مستجيرا بالنبيّ، طالبا الأمان منه.
ففى غير ميدان القتال، وفى حال السّلم، قد يرى بعض المشركين أن يلتقى بالنبيّ، ليعرف الدعوة الإسلامية، وليعرض على عقله وقلبه ما يدعو إليه الإسلام، وذلك حقّ له، يجب ألّا يحرم منه.. ليكون إيمانه على علم، وفى غير إكراه..
ولهذا أمر الله سبحانه النبىّ الكريم أن يستجيب لدعوة من يدعوه إلى طلب الأمان فى جواره، وذلك حتى يسمع كلام الله، أي حتى يسمع ما نزل على النبي من قرآن يقرر أصول الإسلام، وأحكام شريعته، ثم إن لهذا
فإن وجد فيما سمع ووعى من كلام الله ما يدعوه إلى الإيمان، ثم آمن..
فهو فى المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم..
وإن أصمّ الله سمعه، وأعمى بصره، وحجب بصيرته، فلم تنفذ شعاعات الهدى إلى قلبه، وآثر الضلال على الإيمان، واستحبّ العمى على الهدى، فإن له ما اختار.. لا سلطان لأحد عليه، ولا سبيل لأحد أن يناله بضرّ أو أذى، فهو الآن فى ذمة النبىّ، وذمة المؤمنين جميعا.. وعلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يضمن سلامته، وأن يكفل له الأمن والطمأنينة ما دام فى رحاب المسلمين.. ثم إن أراد النبىّ، أو رغب هو فى أن يلحق بأهله، أجيب إلى هذا، ووكل به النبىّ من المسلمين من يقوم على حراسته، وسلامته، حتى يبلغ مأمنه، أي المكان الذي يجد فيه الأمن بين أهله وعشيرته..
ألا فلتخرس ألسنة الذين يقولون إن الإسلام دين قام على السيف وإراقة الدماء!! فهذا صنيع الإسلام مع أعدائه حين لا يكون منهم حرب معه، أو عدوان عليه.. إنه سلم خالص، وإنسانيّة فى أرفع منازلها.. فلا إكراه فى الدين، ولا عدوان على من يختلفون مع المسلمين اختلافا قائما على البحث والنظر.
وليس فى الدعوات دعوة تحترم العقل، وتمنحه حقه المطلق فى النظر والاختيار- كدعوة الإسلام، التي لا تفرض سلطان الحق الذي بين يديها، على أي ذى عقل، ولو كان عقلا جهولا محمّقا! ذلك أن الإسلام ليس من همّه امتداد ظلّه على مساحات ممتدة من
«وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ»..
وفى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» إشارة داعية إلى الرفق بهؤلاء المشركين الذين جاءوا ليعرضوا الإسلام على عقولهم، فهم على جهل وجفاء، وفى ظلام جاهلية طال عليهم الأمد فيها.. وإذ كان هذا شأنهم، فإن من شأن من يتولّى الاستشفاء لهم من دائهم، أن يترفق بهم، حين يراهم يعشون عن النور، ويعمون على الهدى..
وفى قوله تعالى: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».
هو عرض للوجه العام للمشركين، بعد هذا العرض لأفراد منهم، استجابوا للرسول، واستأمنوه، ليروا ما بين يديه من الدين الذي يدعوا إليه.
وفى هذا العرض ينكشف ما عليه المشركون عامة، من غدر وخيانة، وتربّص بالمسلمين.. فهؤلاء لا عهد لهم ولا ذمة، عند المسلمين.. باستثناء أولئك الذين أمضى المسلمون عهودهم معهم إلى المدة المتفق عليها فيما بينهم وبين هؤلاء الجماعات من المشركين، وهم الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى فى قوله سبحانه:
فهؤلاء المشركون سيظل المسلمون على عهدهم معهم، ما داموا هم على الوفاء بعهدهم، فإن بدا منهم ما يستشعر منه المسلمون غدرا أو خيانة، نقضوا هذا العهد، وقطعوا تلك المدة التي تضمنها العهد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».
وفى قوله تعالى: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ» تحذير للمؤمنين من أن يأمنوا جانب المشركين أيّا كانوا، حتى هؤلاء الذين لم يظهر للمسلمين منهم غدر أو خيانة.. فذلك إن يكن وجه مقبول من وجوههم، فإن وراء هذا الوجه وجوها كثيرة منكرة، وإنه ليس بالمستبعد منهم أن يغدروا وأن يخونوا فى أية فرصة تسنح لهم.. وإنه لو أمكنتهم الفرصة فى المسلمين لم يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة..
و «الإلّ» القرابة.. كأنها مشتقة من الآل التي بمعنى الأهل والأقارب..
«والذمة» : العهد الذي يصير به كل من المتعاهدين فى ذمة الآخر، أي فى ذمامه وحوطه، بحيث لا يجىء إليه منه أذّى.
والاستفهام فى قوله تعالى: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» استبعاد من أن يبقى المشركون على عهد بينهم وبين المسلمين.. وإن كانت بينهم وبين المشركين قرابة نسب أو عهود موثقة، والمستفهم عنده هنا محذوف، لدلالة الحال عليه، وهو: كيف يحفظون لكم عهدا، وهم عداوة تمتلىء بها صدورهم بغضة وشنانا لكم، حيث لا يجدون شفاءا لما فى صدورهم من هذا الداء إلا أن
وفى قوله تعالى: «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ». هو كشف للمؤمنين عمّا فى نفوس المشركين من عداوة وبغضاء لهم، وأنهم إذا ألانوا الكلام مع المؤمنين، وأسمعوهم طيّب الكلم ومعسول القول، فإن ما فى صدورهم على خلاف هذا.. «وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ» أي خارجون عن الطبيعة السليمة للإنسان السليم. ومع هذا فإن قليلا منهم فبه بقيّة من خير، يمكن أن تكون طريقا هاديا له إلى الحق، والإيمان، إذا هو عرف كيف ينتفع بها، ولم يذهب بها، مذهب الضياع والفساد..
وقوله تعالى: «اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».
إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين رغبوا عن آيات الله، وأعرضوا عن الهدى الذي تحمله إلى من يتصل بها، ورضوا بما هم فيه من حياة لاهية هازلة..
«يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ».. لقد صدّوا عن سبيل الله، فساء عملهم، وضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وليس فى الأمر بيع ولا شراء.. ولكن لما كانت آيات الله فى معرض النظر لكل إنسان، وكان من شأن هؤلاء المشركين أن يؤمنوا بها، وأن يجعلوها بضاعتهم التي يتعاملون بها، وزادهم الذي ينزودون منه، فهم- والأمر كذلك- فى حكم من أخذوا آيات الله، وإذ لم ينتفعوا بها، ولم يأخذوا بحظهم منها، فكأنهم باعوها واشتروا بها هذه الحياة التي يحيونها، وهذا المتاع القليل
قوله تعالى: «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ»..
هو توكيد لبيان ما يحمل المشركون للمسلمين من عداوة، وما يرصدون لهم من كيد، وما يدبّرون من بغى وعدوان.. وذلك أمر يجب أن يعلمه المسلمون، وأن يستيقنوه، وأن يأخذوا حذرهم منه، وإلّا استحوذ عليهم المشركون، وفتنوهم فى دينهم، وأوقعوهم فى بلاء عظيم.
قوله تعالى: «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» فى هذا ما يكشف عن سماحة الإسلام، وإنسانيته، وأنه ليس لحساب فرد، أو جماعة، أو أمة، وإنما هو حظ متاح للناس جميعا.. وأن هذه الحرب التي تدور بين أتباعه وأعدائه، والتي يحتمل فيها هؤلاء الأتباع ما يحتملون من ابتلاء فى أموالهم وأنفسهم- هذه الحرب ليست لحساب أحد، وإنما هى من أجل هذا الدين، ولحساب هذا الدين.. ومن هنا كان مطلب المسلمين المجاهدين أولا وقبل كل شىء، هو هداية الناس، وابتغاء الخير لهم.. فإذا اهتدى الضال، وآمن المشرك، ونزع الكافر عن كفره- كان ذلك هو الجزاء الحسن الذي يسعد به المسلم، والغنيمة العظيمة التي يجد فيها العزاء لكل ما أصيب به، فى نفسه، أو ماله.
ولهذا، فإن هؤلاء المحاربين للمسلمين، والمعتدين على الإسلام، هم على تلك الصفة، والمسلمون على موقفهم العدائى معهم، ما داموا على حالهم تلك، فإذا هم تحولوا عن موقفهم هذا، ودخلوا فى دين الله- انقلبوا فى الحال أولياء
وفى قوله تعالى: «وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» دعوة للمشركين أن يتدبروا أمرهم فيما بينهم وبين هذا الدين الذي يدعون إليه، وإنهم لو نظروا بقلوب سليمة، وعقول تنشد الحق، وتطلب الهدى، لعلموا أن دعوة الإسلام لا تقوم على عصبية قبليّة، أو طائفية، أو من أجل جاه أو سلطان، وأنه لو كان هذا شأنها لما كان دخولهم الإيمان شفيعا يشفع لهم عند المسلمين، ويعفى على ما اقترفوه فى حقهم من آثام، ولما قبل منهم المسلمون إلا الاستسلام لهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، شأن الحروب التي تقع بين الناس والناس، من أجل أمور الدنيا المتنازع عليها بينهم أبدا.
قوله تعالى: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» هذا هو الوجه الآخر الذي يلقى به المؤمنون، المتمردين من المشركين، الناكثين للعهد، وهو أنه إذا لم يستقم المشركون على الوفاء بالعهد، ونكثوه، أو همّوا بنكثه، وأطلقوا ألسنتهم بقالة السوء فى الإسلام والمسلمين، أو مدّوا أيديهم إلى المسلمين بأذى- فعندئذ ينبغى على المسلمين أن يحلّوا أنفسهم من أي عقد عقدوه مع هؤلاء المشركين، وأن يضربوهم بيد باطشة قاهرة، لعلّ فى هذا ما يقطع ألسنتهم وأيديهم المتطاولة على الدين، ويقصّر من خطوهم إلى التمادي فى الشرك والضلال.
وفى العدول عن الضمير إلى الظاهر فى قوله تعالى: «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ» بدلا من أن يجىء النظم «فقاتلوهم» - فى هذا ما يكشف عن وجه هؤلاء المشركين،
قوله تعالى: «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» هو تحريض للمؤمنين على الجدّ فى قتال المشركين، وفى قتل كل المشاعر التي تدعو إلى مهادنتهم، والتراخي فى تأديبهم والانتقام منهم.. فإذا وقع فى نفس مسلم شىء من هذا المشاعر، فليذكر ما صنع هؤلاء المشركون به وبالنبيّ الكريم، وبجماعة المسلمين عامة، وما كان منهم من كيد وبغى وعدوان، على دين الله، وعلى المؤمنين بالله..
فهؤلاء المشركون، الذين نكثوا أيمانهم، ونقضوا عهودهم- لم يكونوا فى يوم ما على حال مستقيمة مع المسلمين.. وحسبهم أن كان منهم تلك المواجهة المنكرة التي واجهوا بها الرسول فى أول دعوته، وكيف آذوه وآذوا كل من استجاب له، حتى همّوا بإخراجه، وتآمروا على اغتياله، لولا أن ردّ الله كيدهم، وأخرج النبىّ سليما معافى من بينهم.
ثم هاهم أولاء قد نكثوا أيمانهم، وتحللوا من كل عقد عقدوه مع المسلمين..
فكيف يرعى المسلم لهم عهدا.. ؟ وكيف تعطفه عليهم عاطفة؟
وفى التعبير بلفظ «همّوا بإخراج الرسول» إشارة إلى واقع أمرهم مع الرسول فعلا، فهم لم يخرجوه، بل كانوا يعملون على أن يمسكوه بينهم، ويحولوا بينه وبين أن يلقى الناس، وأن تلتقى دعوته بالناس- ولكن لما كان هذا الموقف المتعنت الذي وقفوه منه- صلوات الله وسلامه عليه- سببا فى أن يخرج من بلده
فهم يمسكون بالنبيّ على مضض وتكرّه..
ومن فعلات المشركين بالمؤمنين أنهم هم الذين بدءوا بالعدوان، وجاءوا إلى بدر بجيوشهم، يمنّون أنفسهم بالقضاء عليهم، والتنكيل بهم.
فهذه كلها أمور إذا ذكرها المسلمون أثارت حفيظتهم على المشركين، وأوقدت عزائمهم لجهادهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، حتى يستجيبوا لله وللرسول..
وفى تنكير المشركين فى قوله تعالى: «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً» تحقير لهؤلاء القوم، وتعرية لهم من كل صفة، إلا تلك الصفات التي دمغهم الله سبحانه وتعالى بها، وهى ما أشار إليه قوله تعالى: «نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ. وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ..
وقوله تعالى: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
هو إغراء للمسلمين بلقاء المشركين وقتالهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله..
فبعد أن أثار الله حميّة المسلمين، وملأ قلوبهم موجدة وسخطا على الكافرين- جاء وعده سبحانه وتعالى للمسلمين بالنصر على عدوّهم، وأنه سبحانه سيعذب هؤلاء المشركين بأيدى المؤمنين، بما يصيبهم فى أنفسهم من قتل وأسر، وما يصيبهم فى أموالهم، التي تقع غنيمة لأيدى المؤمنين فى ميدان القتال، أو فى فداء الأسرى منهم.. وليس هذا فحسب، فإن الذي لهم فى العرب من مكان
وفى قوله تعالى: «وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» انتقال من الخطاب إلى الغيبة، وفى ذلك تنويه بشأن المؤمنين، ورفع لقدرهم، بالنأى بهم عن هذا الموطن الذي ينزل فيه العذاب على المشركين، ويقع عليهم الخزي والهوان..
وفى العدول عن تعريف القوم إلى تنكيرهم، تفخيم لهؤلاء القوم، وأنهم ليسوا قوما بأعيانهم، وإنما هم المؤمنين حيث كانوا، سواء من قاتل هؤلاء المشركين أو من لم يقاتل، وسواء من شهد هذه الأحداث وعاصرها أو من جاء بعدها، حيث يرى المؤمن فى حديث التاريخ عنها ما نقرّ به عينه، وينشرح به صدره، حين يحدّثه التاريخ عن هزيمة الباطل وانتصار الحق، وامتداد ظلّ الإسلام، وانكماش دولة الكفر والضلال..
وفى قوله تعالى: «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» وفى عطف هذا الفعل على الأفعال قبله فى قوله تعالى: «يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ»..
إشارة إلى أن من تقدّر له التوبة من هؤلاء المشركين ويدخل فى دين الله يجد نفسه مشاركا للمؤمنين فيما آتاهم الله من فضله، ينصرهم وإعزازهم، وشفاء ما بصدورهم.. وبهذا يتحول فى لحظة واحدة من تلك الحال التي يلبس فيها لباس الهزيمة والخزي والعار، إلى الجبهة الأخرى، فيشاركها أفراحها ومسرّاتها، ويقاسمها ما بين أيديها من نصر، وما فى قلوبها من رضى وحبور، وفى هذا تحريض قوىّ للمشركين على ان يستجيبوا لله وللرسول، وأن يدخلوا فى دين الله، ويسلموا له مع المسلمين.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» يمضى حكمه
الآيات: (١٦- ١٨) [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٦ الى ١٨]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
التفسير: قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» هو تنبيه للمؤمنين إلى أن الإيمان ليس مجرد عقيدة يعتقدها المؤمن، فى الله وكتبه ورسله، ثم يعيش بهذه المعاني مضمرة فى كيانه، كما تضمر الحبة فى باطن الأرض، لا يصيبها وابل أو طلّ، ولا يحركها شوق إلى كشف وجهها، ومصافجة أضواء الوجود.. وإنما الإيمان هو وصل هذه الحقائق بالحياة، وصوغها فى صورة سلوك وأعمال، من عبادات ومعاملات، ومن جهاد فى سبيل الله، وحماية لراية الإيمان أن تسقطها يد البغاة المعتدين، من أهل الشرك والضلال..
فللإيمان أعباؤه وتكاليفه، وفى الوفاء بهذه الأعباء وتلك التكاليف، تتحد مواقف المؤمنين، وتكون منازلهم ودرجاتهم.
ففى الإيمان شريعة، وفى الشريعة أوامر ونواه، والمؤمن مطالب بأن يمتثل الأوامر ويأتيها، ويتجنب النواهي ويحذر التلبس بها.. إن الإيمان عقيدة وعمل.. وإنه لا معتبر لعقيدة إذا لم يزكّها العمل، ويحقق المعاني المضمرة فيها.
وفى وقوله سبحانه: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» ما يكشف عن تبعات المؤمنين. أي أحسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا هكذا من غير ابتلاء واختبار، حتى يكون ذلك موضع علم واقع منكم، من جهاد فى سبيل الله وابتلاء فى أموالكم وأنفسكم.. بمعنى أنه لم يظهر منهم بعد هذا العمل، ولم يدخلوا فى تلك التجربة، ويصبروا على ما يصيبهم منها.. أما علم الله سبحانه وتعالى فهو علم شامل لكل ما وقع وما لم يقع.. فالمراد بعلم الله هنا، هو علمه الواقع على حال المؤمنين فى هذا الوقت الذي يخاطبون فيه بهذا الخطاب.
وفى قوله تعالى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ»..
إشارة إلى أن علم الله وإن كان محيطا بكل شىء، قبل أن يقع.. من المكلفين» إلا أن المكلفين لا يحاسبون على ما يقع منهم إلا بعد أن يقع.. وبهذا يحاسب
وقوله تعالى: «وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً» معطوف على قوله تعالى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ»..
والوليجة: الملجأ، والمعتمد، الذي يلجأ إليه الإنسان، ويتخذ منه جنّة ووقاية له.. والمعنى، أن المطلوب من المؤمن هو الجهاد فى سبيل الله، وموالاة الله ورسوله والمؤمنين، والاعتماد على كفاية الله ورسوله والمؤمنين له، دون أن يقوم بينه وبين المشركين ولاء، فلا يدخل معهم فى خلف، ولا يلج لهم أمرا يلتمس منه خيرا لنفسه، أو سلامة مما يتوقّع من بلاء.. فإذا لم يقع منه هذا، لم يكن أهلا لأن يدخل الجنّة التي وعدها الله المتقين من عباده..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» تحذير للمؤمنين الذين فى صدورهم شىء من هذه المشاعر، التي تقيم بينهم وبين المشركين صلة على حساب دينهم، أو على حساب الجماعة الإسلامية، وأمنها وسلامتها..
قوله تعالى: «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» هو بيان لبعض الحكمة فيما أمر الله به المسلمين فى شأن المشركين، وقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم.. كما جاء ذلك فى أول السورة.. ثم هو إيذان لما سيأتى بعد ذلك من أمر فى ألا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم الذي أنذروا فيه، ببراءة الله ورسوله منهم، وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّمَا
وهو العام التاسع من الهجرة، الذي شاء الله سبحانه لرسوله الكريم ألا يحج هذا العام الذي حج فيه المشركون، ثم حج حجّة الوداع فى العام الثاني، وقد طهر البيت من هذا الرجس.
فالمشركون بما فى قلوبهم من كفر، ليسوا أهلا لأن يدخلوا بيوت الله ويعمروها.. إذ كيف يكفرون بالله، ثم يعمرون مساجده؟
وقوله تعالى: «شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» هو حال من أحوالهم التي يدخلون بها المساجد، وهى أنهم يدخلونها وهم كافرون بالله..
وشهادتهم على أنفسهم ينطق بها حالهم وأفعالهم، وإن لم تنطق بها ألسنتهم، فهم يدخلون بيت الله، ثم يسجدون فيه لغير الله، مما يعبدون من أوثان وأصنام.. وهذا العمل منهم أبلغ شهادة عليهم بالكفر والضلال.. «أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» أي بطل كل عمل لهم، وانقلب شرّا ووبالا عليهم «وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» فتلك هى ثمرة ما كانوا يعملون.. النار، والخلود فى النار..
قوله تعالى: «إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» تلك هى حقيقة الذين يعمرون مساجد الله، وهذه هى صفاتهم التي تؤهلهم لأن يكونوا من أهلها وعمّارها.. أن يكونوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وألا يكون فى قلوبهم خوف إلا من الله، ولا رجاء إلا فيه، ولا متعلّق إلّا به.. فهؤلاء فى معرض الهداية والتوفيق، وعلى طريق الاستقامة والتقوى. بهم تعمر بيوت الله، يذكر الله فيها، ذكرا خالصا من لزيغ، مبرأ من الشرك..
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
التفسير: كان بعض مشركى مكة يقومون على خدمات فى المسجد الحرام، كالسقاية للحجيج، وإطعام الوافدين للحجّ، وتأمينهم، وعمارة المسجد، وفرشه، وغير هذا مما كانت تتقاسمه قريش بين بيوتها من أعمال البيت الحرام.
فلما جاء الإسلام، وحرّم على المشركين الاتصال بالمسجد الحرام، والقيام بأى عمل فيه، أوله- وقع فى نفس هؤلاء الذين كانوا يقومون على تلك الأعمال، أنهم بعد أن دخلوا الإسلام، لا زالوا فى حاجة إلى ما يملأ هذا الفراغ، ويذهب بذلك القلق النفسي الذي استشعروه، حين زال سلطانهم الديني على المسجد الحرام، وقاصديه..
وفى قوله تعالى: «أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».. موازنة بين تلك الأعمال التي كان يعدّها المشركون من القربات، وبين الإيمان الذي عمر قلوب المسلمين، ووصلهم بالله ربّ العالمين.
وفى الموازنة بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وبين من آمن بالله واليوم الآخر- فى هذه الموازنة ما يسأل عنه.. وهو:
لماذا جاءت الموازنة بين أعمال، هى السقاية وعمارة المسجد الحرام، وبين أشخاص هم المؤمنون بالله واليوم الآخر؟ وكيف تقوم موازنة بين أعمال وأشخاص، ؟ إن المتصور هو أن تقوم الموازنة بين أعمال وأعمال، أو بين أشخاص وأشخاص.. حتى يمكن أن يعرف الفاضل والمفضول، والطيب والخبيث، بالنظر فى المتجانسين والموازنة بينهما..
فكيف هذا؟
والجواب- والله أعلم- أن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يؤدّون تلك الأعمال، ويحسبون أنها قربات عند الله، وأنها تجعل لهم شأنا وذكرا عنده، هى أشياء لا حساب لها فى ميزان الأعمال، إذ كانت غير مستندة إلى إيمان، ولم يكن الذين يأتونها بالمؤمنين بالله..
والحديث عن هذه الأعمال، دون الحديث عن أصحابها، يشير إلى أن أصحابها لا معتبر لهم فى موازين الناس، ماداموا على غير الإيمان.. وعلى هذا التقدير جاء النظم القرآنى بأعمالهم، ولم يجىء بهم، إذ كانت الأعمال فى ظاهرها حسنة طيبة، ولكنها لا نعود بثمرة عليهم، ولا تضاف لحسابهم..
أما المؤمنون بالله، واليوم الآخر والمجاهدون فى سبيل الله، فإنهم بإيمانهم بالله وباليوم الآخر وبالجهاد فى سبيله، أصبحوا هم الصورة الكاملة للإنسان الكامل
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» إشارة إلى أن أصحاب هذه الأعمال الطيبة قد ظلموا هذه الأعمال، إذ لم يزكّوها بالإيمان، كما أنهم قد ظلموا أنفسهم، إذ لم يظهروها من الرجس والشرك.
قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» فى هذه الآيات عرض لمنازل المؤمنين فيما بينهم، بعد أن ميّز الإيمان بينهم وبين المشركين، وجعلهم جميعا فى مقام كريم عند الله، يتقبل أعمالهم الطيبة، ويتجاوز عن سيئاتهم، على حين لا يقبل من غير المؤمنين عملا، ولو كان مما يدخل فى باب الطيبات الصالحات من الأعمال.
والمؤمنون الذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله، أعظم درجة عند الله، من الذين آمنوا وجاهدوا ولم يهاجروا.. والذين آمنوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله، أعظم درجة عند الله من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا.. وهكذا يتفاوت المؤمنون فى منازلهم ودرجاتهم عند الله.
وأعلى درجة عند الله للمؤمنين، هى درجة المهاجرين الذين جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بعد أن اجتمع لهم الإيمان والهجرة- وقد وعدهم الله سبحانه وتعالى بالفوز برضوانه وجناته، ينعمون فيها بنعيم مقيم، لا ينفد ولا ينقطع أبدا.. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
التفسير: فرّق الإيمان بالله، بين المؤمنين والمشركين، وجعل ولاء المؤمن للمؤمنين عامّة، أيّا كان لونهم وجنسهم، وأيّا كانت درجة القرابة فى النسب بينهم وبينه، على حين قطع ولاءه لأهله، وأقرب المقربين إليه إذا لم يكونوا من المؤمنين بالله وبرسول الله.
وقبل فتح مكة كان المهاجرون بعضا من أهليهم المشركين فى مكة..
فمنهم من آمن وهاجر، وترك وراءه أبا، أو أمّا، أو إخوة، ما زالوا على شركهم، وما زالت علائق القرابة تشدّه إليهم، وتذكره بهم، وتبعث أشواقه وحنينه نحوهم.. ثم بعد فتح مكة، دخل النّاس فى دين الله أفواجا، وأسلم أهل مكة ومن حولهم، ولكن لم يكن كثير منهم مؤمنا بقلبه، مطمئنا إلى الدين الجديد الذي دخل فيه، بل لقد ظل بعضهم يحمل الحقد والعداوة للإسلام، الأمر الذي دعا الرسول الكريم إلى أن يتألّفهم.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا
- جاء منبّها المسلمين إلى ما قد يدخل عليهم من مشاعر القرابة نحو أهليهم الذين خلّفوهم وراءهم من المشركين.. تلك المشاعر التي قد تبلغ حدّ الجور على حقّ المسلمين على المسلم، من إخاء وموالاة.
وفى الآية الكريمة أمران، نحبّ أن نقف عندهما:
أولهما: أن النهى ورد مقصورا على الآباء والإخوان، ولم يذكر غيرهم من ذوى القربى، وخاصة الأبناء، الذين هم أقرب قرابة من كل قريب.. فلم هذا؟
وما حكمته؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن المخاطبين بهذه الآية هم المهاجرون والأنصار، الذين سبقوا إلى الإسلام، وخلّفوا وراءهم أهلا وعشيرا..
وهؤلاء الذين سبقوا إلى الإسلام- من المهاجرين والأنصار- لم يتخلّف وراءهم غالبا إلا آباؤهم وإخوانهم.. إذ أبى الآباء أن يتابعوا أبناءهم، أنفا وكبرا، كما أبى الإخوة أن ينقادوا للسابقين من إخوانهم، حمية وحسدا.. أما الأبناء فقلّ منهم من أسلم آباؤهم ثم لم يتابعونهم ويقفوا أثرهم.. فلما دخل هؤلاء المتخلفون فى الإسلام، دخله كثير منهم بقلب مريض، ونفس متكرهة.
وعلى هذا، فإن الصورة التي كان عليها المؤمنون يومئذ، هى: أن كثيرا منهم دخل فى الإسلام تاركا وراءه أبويه وإخوته، أو أحد أبويه وبعض إخوته، وقليل منهم من دخل فى الإسلام، ولم يدخل معه أبناؤه.. ومن أجل هذا كان النهى عن موالاة هؤلاء الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم- كان النهى متجها إلى هؤلاء الآباء والإخوة، دون الأبناء، الذين كانوا- بصفة عامة- مع آبائهم..
وثانى الأمرين: أن النهى لم يتناول المشاعر، والأحاسيس التي يجدها المسلمون نحو آبائهم وإخوانهم من المشركين، وإنما جاء واقعا على الولاء والإيثار، وتغليب مصلحتهم على مصالح المؤمنين، فهذا هو الذي نهى عنه
الأمر الذي برئت منه الشريعة الإسلامية السمحاء.
هذا، وفى الآية إشارة على أن الشبان أقرب من الشيوخ استجابة للدعوات الجديدة، والتجاوب معها، حيث كان السابقون إلى الإسلام من الشبان غالبا.
قوله تعالى: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» فى هذه الآية وضع للمسلمين فى مواجهة التجربة والاختبار لإيمانهم، واختيار ما يحبون وما يؤثرون..
فالإيمان فى جانب.. والآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والديار.. فى جانب آخر..
وعلى المؤمن أن يختار بين الإيمان بالله ورسوله والجهاد فى سبيله، وبين أهله، وماله ودياره.
والاختيار هنا يمكن أن يجرّ به الإنسان بينه وبين نفسه، حين يورد على مشاعره هذين الطرفين المتنازعين فى كيانه، وأن يستعرضهما واحدا بعد الآخر، وأن يفترض أنه إذا لم يكن من الممكن الجمع بينهما، فأيهما يؤثر أن يمسك به، ويعيش معه؟
فإذا آثر الإيمان على الولد والأهل والمال والموطن، كان على الصفة التي يتحقق بها الإيمان الذي يقبله الله منه، ويرضاه له.. وإن كان العكس، وآثر
وفى وصف الأموال، بأنها أموال مقترفة إشارة إلى أن المال غاد ورائح.. وأنه أشبه بالمنكر، إذ كان أكثر ما يجىء المال من حصيلة الصراع بين الناس والناس.
وفى قوله تعالى: «وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها» إشارة إلى ما قد يصيب السّوق التجارية من كساد، حين تقوم القطيعة بين المؤمنين والمشركين.
وفى قوله تعالى: «فتربصوا» تهديد ووعيد لأولئك الذين يؤثرون علاقاتهم الدنيوية، على الإيمان بالله ورسوله والجهاد فى سبيل الله.. والتربص:
الانتظار.. ووراء هذا الانتظار ما يسوء أولئك الذين آثروا الآجلة على العاجلة حين يرون نصر الله للمؤمنين، وما فتح الله عليهم به من مغانم فى الدنيا، ورضوان فى الآخرة، وجنّات لهم فيها نعيم مقيم.
ويلاحظ أن قوله تعالى: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ.. الآية» قد انتظم كل ما تتعلق به النفوس، وتحرص عليه.. وليس وراءه من أمور الدنيا ما يطلبه الإنسان، ويعلق به..
كما يلاحظ أيضا أن هذه الأمور قد جاءت فى النظم القرآنى مرتبة الدرجات.. الأهمّ، فالمهم، فما هو دونه.. وهذا ما يجعل المؤمن أمام تجربة ذات شعب، وأنه قد يؤثر إيمانه على بعضها دون بعض، أو يؤثرها جميعا عليه، أو يؤثر إيمانه عليها جميعا.. كما أن هذه التجربة تنتظم المسلمين جميعا، لا يكاد أحد منهم يفلت من الدخول فيها، فمن لم يكن له أب كان له ولد.. ومن لم يكن له ولد، ولا والد، كان له زوج.. ومن لم يكن له واحد من هؤلاء كان له مال،
وهكذا، فى كلمات معدودة، تتحرك مشاعر المجتمع الإسلامى، وتتقلب القلوب، ويدور الصراع فى كيان كل مسلم، ثم تنجلى المعركة بعد صراع طويل أو قصير، عن سلام وعافية، أو شكّ وتردّد.. ثم يجىء قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» تعقيبا على هذا الصّراع، ممسكا بهؤلاء الشاكّين المترددين، لينتزعوا أنفسهم مما هم فيه من شك وتردد، فإمّا إلى اليمين، وإما إلى اليسار.. ولله سبحانه وتعالى فى هؤلاء المترددين الشاكّين، الذين ظلموا أنفسهم بهذا الموقف الذي وقفوه- لله فيهم أعداء لم يرد الله أن يهديهم، وأن يمضى لهم طريقهم إلى آخره مع الإيمان.. فليحذر كلّ من هؤلاء أن يكون فيمن خذلهم الله وجعلهم من أعدائه.. «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» الذين دخلوا فى دين الله، ثم مال بهم الطريق إلى ما لا يرضى الله!
الآيات: (٢٥- ٢٧) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
التفسير: التجربة التي وضع الله سبحانه وتعالى المسلمين إزاءها فى الآية
«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» - جاء قوله سبحانه وتعالى فى هاتين الآيتين، مذكّرا المسلمين بعظمة الله وقدرته، وفضله على المؤمنين من عباده.. وفى هذا ما يخفّ به ميزان كل شىء يتعلّق به الإنسان، من أهل ومال وموطن.. وبذلك يشتدّ عزم المؤمن، ويقوى يقينه، فيجد القدرة من نفسه على أن يجلى عنها كل ما يطوف حول إيمانه بالله ورسوله والجهاد فى سبيل الله، من دواعى الوهن والضعف، حين تطلع عليه الذكريات لأهله وماله ووطنه.
فلقد أيد الله المؤمنين، وأمدّهم بنصره فى مواطن كثيرة.. فى بدر، وفى الخندق، وفى فتح مكة.. وفى حرب اليهود، فى خيبر، وفى المدينة..
ثم فى يوم حنين.. وقد كان المسلمون في عدد عديد، وعدّة ظاهرة، حتى لقد قال قائلهم: «إننا لن نغلب اليوم من قلّة» فقد كانوا فى اثنى عشر ألفا، بين راجل وفارس..
ومع هذا، فإنه ما كاد المسلمون يلتقون بهوازن فى وادي حنين قرب مكة، حتى ولّوا مدبرين، وانكشف رسول الله للعدو، ولم يثبت معه إلا عدة من ذوى قرابته، منهم علىّ بن أبى طالب، والعباس بن عبد المطلب، ونفر قليل من المؤمنين..
لقد تبدّد جيش المسلمين، وتناثرت جموعهم، وذهبت ريحهم، وما كان لقوة فى الأرض أن تجمع هذا الكيان الممزق، وأن تبعث فيه الحياة والقوة من جديد..
ولكن أمداد السّماء، ونفحات الحق، جاءت فى وقتها، فأحالت الهزيمة نصرا حاسما.. «ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» وفى هذا يرى المسلمون أن القوة لله، وأن النصر والعزّة للمؤمنين، وأن البلاء والخزي على الكافرين..
فمن أراد النصر والعزّة.. فلا مبتغى لهما، ولا سبيل إليهما، إلا بالإيمان، ومع المؤمنين.
ومن رغب عن الإيمان، وآثر عليه الأهل والمال، فلن يلق إلا الذّلة والهوان..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» استدعاء لمن خذلتهم عزائمهم، وتخلى عنهم السداده والتوفيق، فمالوا إلى جانب الضالين والمشركين.. فهؤلاء لا يزال الطريق إلى الله مفتوحا لهم، ولا زالت رحمة الله ومغفرته تنتظرهم على أول الطريق، إن هم راجعوا أنفسهم، ونزعوا عما هم فيه من تردد وارتياب! وهنا وقفة لا بد منها مع «ثمّ» وهو حرف عطف للترتيب والتراخي..
«وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ.. ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» «ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ... »
«ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ..»
والعطف يثم هنا فى هذه المواضع الثلاثة، أفاد أمرين:
أولهما: الترتيب الزمنى فى وقوع هذه الأحداث.. فقد وقع المسلمون أولا فى اضطراب وذعر، والتمسوا الخلاص مما هم فيه من بلاء، ولم يكن ذلك بالميسور لهم.. ثم كان الفرار وتولية الأدبار هما طريق النجاة.. ثم كان من الله توبة ومغفرة لمن فرّ منهم وولىّ المشركين دبره فى القتال.
وثانيهما: التغاير بين وجوه هذه الأحداث المتعاطفة، بحيث يبدو أن عنصر الزمن لا بد أن يكون عاملا هنا فى تحريك الأحداث، حتى تتغير وتبلغ الصورة التي جاءت عليها..
والذي ينظر إلى الموقعة- موقعة حنين- من الظاهر، يجد أنها حدثا واحدا، متلاحم النسج، وأن ليس هناك أي فاصل زمنى يفصل بين مجريات الأمور فى هذا الحدث.. فهى معركة واحدة، احتواها زمن واحد، لم يجاوز غدوة يوم.. ولكن الذي ينظر إلى المعركة نظرا أعمق وأرحب، يجد أنها لم تكن معركة واحدة، وإنما هى معارك متصلة، بدأت بمعركة هزم فيها المسلمون، ثم انتهت بمعركة كتب الله لهم فيها النصر..
فالمعركة الأولى، لها حسابها وتقديرها، وحكمها، وهى الهزيمة المطلقة للمسلمين.. فقد أحاط بهم العدوّ، وأوقع فى صفوفهم الفوضى والاضطراب..
الأمر الذي يسلم إلى الهزيمة التي لا مفرّ منها..
فأى مسلم هذا الذي تحدّثه نفسه بالفرار من المعركة، وهو يعلم حكم الله فيمن يفرّ ويولّى العدوّ دبره؟
ولكن الذي حدث، هو أن المسلمين فرّوا، وولّوا الأدبار..!
ومن هنا كان هذا الأمر منهم حدثا غريبا، ما كان ينبغى أن يكون فى ميدان القتال..!
وهذا هو بعض السرّ فى عطفه «بثم» على الحدث الذي قبله، وهو الضيق والكرب الذي ركب المسلمين فى أول القتال.. وفى هذا ما يشعر بأن هذا الحدث- حدث الفرار- وإن كان قد وقع فى ميدان القتال، هو حدث مستقلّ بنفسه، منقطع الصلة بما قبله، غير مترتب عليه.. وعطفه على ما قبله هو من عطف حدث على حدث، أو قصة على قصة، أو حال على حال! أما عطف قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» فهو كذلك عطف حال على حال، أو قصة على قصة.. وهذا ما يشعر بأن الحدث الأول، وهو الفرار والهزيمة، أمر قد وقع، وسوّى حسابه.. ثم بدأ أمر آخر، له حسابه الخاص به، وهو الممثل فى تلك المعركة الجديدة التي دخل فيها المسلمون القتال مع العدوّ، بنفوس جديدة ومشاعر جديدة، بل قل وبأشخاص غير الأشخاص ومقاتلين غير المقاتلين.. إذ أنزل الله سكينته عليهم، ونزع
وأمّا عطف قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ» فكان من عطف حال على حال، وقصّة على قصّة، وشأن على شأن، وأن الصّلة التي بينه وبين ما قبله ليست صلة سبب ومسبّب، أو علة ومعلول..
ذلك أن ما كان يتوقعه المسلمون بعد فرارهم وتولّيتهم الأدبار، هو وقوع غضب الله عليهم فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة.. ولكن الذي حدث كان غير هذا، فقد عاد الله سبحانه وتعالى بفضله وإحسانه عليهم، وجاءهم برحمته ومغفرته، وتقبّل توبة التائبين منهم.
وقد جاءت رحمة الله ومغفرته إلى الذين فروا وولوا الأدبار فى هذه الصورة المتراخية- وفى هذا ما يشعر بأن مغفرة الله ورحمته ما كانت لتنال هؤلاء الفارّين أبدا، وأنها إذ نالتهم فى تلك المرّة، فإنها قد لا تنالهم بعدها.. لأن الحكم المسلّط على الفارّين الذين يولّون الأدبار فى ميدان القتال هو الحكم المحكم الذي لا يردّ، وأن هذا الذي أصاب المسلمين الفارين من مغفرة ورحمة فى هذا اليوم هو استثناء من أصل، ليس من الحتم أن يقع فى كل حال تشبهه!
الآيتان: (٢٨- ٢٩) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
والعيلة: الفقر والحاجة، وأصله من العول، وهو الزّيادة فى النفقة على الأصل الذي ينفق منه.. وفى المأثور: لا عال من اقتصد».
والجزية: ما يفرض على أهل الذمة فى الإسلام، وهو قدر من المال يؤدونه فى مقابل الإبقاء على حياتهم، وقد أصبحوا ليد المسلمين بعد الغلب عليهم.
وفى قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» حكم على المشركين بفساد كيانهم الداخلى، وأنهم بشركهم بالله قد أفسدوا طبيعتهم، كما يقع ذلك فى الأمور المادية، حيث يختلط الخبيث بالطيب، فيفسده!.
والمشرك نجس كلّه، باطنا وظاهرا.. ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن نكاح المشركات، وإنكاح المشركين، كما نهى عن تناول المسلمين من طعامهم..
والمسجد الحرام، معلم من معالم الهدى، ومنارة من منارات الحق..
فهو بهذا كائن طيّب.. ظاهره وباطنه، ومورد عذب يستقى منه المؤمنون، ويروون ظمأهم الروحي من جوّه الطهور.. ومن هنا كان على المسلمين حراسته من أن يلمّ به خبث، فيفسده عليهم، ويعكر موارده..
والمشركون نجس، وإلمامهم، بالمسجد الحرام تقدير له، وإفساد لطبيعته..
ولهذا أمر الله المسلمين بأن يحولوا بين المشركين وبينه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» وهو العام التاسع من الهجرة،
وقوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ» هو تطمين لقلوب المؤمنين، وإغراء لهم بدفع المشركين عن البيت، ولو كان فى هذا ما قد يسبب لهم كسادا فى تجارتهم، وتبادل المنافع بينهم وبين المشركين فى موسم الحجّ.. فالأرزاق بيد الله، ويده سبحانه مبسوطة بالعطاء، وفضلة واسع عميم.. فليستقم المسلمون على أمر الله، وليبتغوا بذلك مرضاته، وهو سبحانه الذي يتكفّل بأرزاقهم، وبإعطائهم الجزيل من فضله..
وقوله تعالى: «إن شاء» ليس قيدا واردا على الحكم الذي حكم به فى قوله سبحانه: «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ»..
وإنما هو إشارة إلى أن مشيئة الله هى المسلطة على كل شىء، وأنها لا تتوقف فى نفاذها على أفعال العباد، إذ أن أفعال العباد كلها داخلة فى مشيئة الله، واقعة تحت سلطانها..
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» هو وصف كاشف لهذه المشيئة، وأنها مشيئة «عليم» لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.. «حكيم» فلا تقع مشيئته إلا على ما يقضى به علمه وحكمته، فتقع إذ تقع على أكمل الكمال، وأحكم الحكمة..
قوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» الجزية: هى ما يفرض على أهل الذمّة من مال يؤدونه للمسلمين، وسمّيت
ويجىء الأمر هنا بقتال الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، بعد أن انكشف للمسلمين موقفهم من أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر، وبعد أن نهاهم الله سبحانه وتعالى عن موالاة غير المؤمنين، حتى ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم.. ثم بعد أن ذكر الله سبحانه نصره لهم فى مواطن كثيرة، لم يكن بين أيديهم فيها من وسائل الغلب والنصر شىء..
وإذ يجىء الأمر بقتال الذين لا يؤمنون بالله، بعد هذا الموقف الذي أثار مشاعر المسلمين، وقوّى عزائمهم، ووثق إيمانهم- فإنه يقع موقعه من نفوسهم، ويثمر ثمرته الطيبة فيهم، إذ يقبلون على القتال، وقد خلت نفوسهم من مشاعر المودة بينهم وبين الذين لا يؤمنون بالله، ولو كانوا أقرب الناس.. فلا يلتفت المجاهد إلى أهل أو مال، ولا ينظر إلى نفسه أكثر مما ينظر إلى دينه، والانتصار له، ودفع يد العدوّ عنه..
وقد جاء الأمر بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فى صيغة العموم هكذا: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.. الآية».
وهذه الآية من سورة التوبة كما ترى، وقد نزلت بعد أن فتح النبىّ مكة، وبعد أن هزمت هوازن فى حنين، وبعد أن بسط الإسلام سلطانه على الجزيرة العربية كلّها..
والسؤال هنا هو: إلى من يتّجه الأمر إلى المسلمين بقتالهم، بعد أن دخل العرب فى الإسلام؟.
والجواب على هذا، هو ما تضمنه قوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
.. وقد أشارت الآية الكريمة إلى ثلاثة أصناف:
فالذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. هم الكافرون كفرا صراحا، وهم الملحدون.
والذين لا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله.. هم المشركون، الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا تلبّست به الضلالات، واختلطت به البدع.. وذلك إيمان المشركين من العرب.. الذين كانوا على دين إبراهيم، فأفسدوه بما أدخلوا عليه من تلقّيات أهوائهم، ووساوس شياطينهم، حتى لقد عبدوا الأصنام وقالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى».
والذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، هم اليهود النصارى، الذين أفسدوا دينهم بما حرّفوا من كتاب الله الذي فى أيديهم، وبما تأوّلوا من كلمات الله التي بقيت معهم..
فهؤلاء هم الذين أمر المسلمون بقتالهم.. بعد الإعذار إليهم، ودعوتهم إلى الإسلام، دعوة قائمة إلى العدل والإحسان، داعية إلى الإخوة الإنسانية فى ظلّ الإيمان بالله.
أما الكافرون فهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وليس معهم كتاب سماوى.
وأما المشركون، فهم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، إيمانا مشوبا بالضلال.. والمثل الواضح للشرك ما كان عليه مشركو العرب قبل الإسلام..
وأما أهل الكتاب، فإن فى كفرهم شبهة، إذ معهم كتاب موسوم بأنه من عند الله، وهو وإن حرّف، وبدّل، وتأوله المتأولون على غير وجهه، لا يزال يحتفظ بأصول صالحة، لأن تكون معتقدا سليما، لو أعيد النظر فيه، على ضوء القرآن
ولشبهة الكفر، أو شبهة الإيمان عند أهل الكتاب، فقد أخذهم الله بحكم غير حكم الكافرين والمشركين.. فهم ليسوا مؤمنين، وإن لم يكن الإيمان بعيدا منهم.
ومن هنا كان أمر الله فيهم أن يدعوا إلى الإيمان الحقّ، فإن استجابوا وآمنوا، كان لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما عليهم.. وإن أبوا كان على المسلمين قتالهم، حتى يستسلموا، ويصبحوا فى يد المسلمين، يجرى عليهم حكمهم، وتبسط عليهم يدهم.. ثم إنه ليس للمسلمين قتلهم، كما يقتل الكافرون والمشركون.. ولكن إذا سلمت لهم أنفسهم، فلن تسلم لهم أموالهم، بل عليهم أن يؤدوا منها جزية للمسلمين، وأن يؤدوها صاغرين، أي مقهورين مغلوبين.
وقد ألحقت السّنّة المجوس باليهود والنصارى فى أخذ الجزية منهم بدلا من القتل المضروب على المشركين والكافرين، وغيرهم، ممن لا كتاب لهم.
يقول الإمام الشافعي- رضى الله عنه- «إنها (الجزية) تؤخذ من أهل الكتاب، عربا كانوا أو عجما، ولا تؤخذ من أهل الأوثان مطلقا، لثبوتها فى أهل الكتاب، بالكتاب، وفى المجوس، بالخبر».
وعند أبى حنيفة أنها تؤخذ من أهل الكتاب مطلقا، ومن مشركى العجم والمجوس لا من مشركى العرب».
وهذا الذي يراه أبو حنيفة هو الأولى بأن يؤخذ به، لأنه يجرى مع الحكمة فى أخذ الجزية من أهل الكتاب، وعدم أخذها من مشركى العرب.. وذلك لأن العرب قد شهدوا دلائل النبوة كاملة، واستمعوا إلى آيات الله، وعرفوا مواقع الإعجاز منها، وأن القرآن عندهم ليس بالذي يخفى عليهم علوّ متنزّله، وأنه
فمثل هؤلاء الذين يشهدون الحقّ، ويرون آياته رأى العين، ثم لا يتبعونه، ولا يفتحون عقولهم وقلوبهم له- مثل هؤلاء، ينبغى أن تهدر آدميتهم، وأن تقام عليهم هذه الوصاية، التي تأخذهم بهذا الحكم الملزم.
أما مشركو العجم والمجوس، ممن لا كتاب معهم، فإنه لم يستبن لهم على وجه القطع من دلائل النبوة، وصدق الرسول ما استبان لمشركى العرب، فكانوا لهذا أقرب إلى أن يلحقوا بأهل الكتاب، وأن يدخلوا فى تلك التجربة التي يدخلها أهل الكتاب- من أن يلحقوا بمشركى العرب..
أما من يؤدون الجزية ممن يدخلون فى حكمها، فقد اختلف الأئمة فيهم..
فبينما يرى مالك والأوزاعى أنها تؤخذ من جميع الواقعين تحت حكمها فردا فردا، إذ يرى أو حنيفة أنها لا تؤخذ من امرأة، ولا صبّى، ولا زمن، ولا أعمى..
ورأى أبى حنيفة أقرب إلى سماحة الإسلام، وإلى مرامى أهدافه البعيدة.
فى تأليف القلوب، ودعوتها إليه بالتي هى أحسن.
وأخذ الجزية من أهل الكتاب، وأداؤهم لها على هذا الوجه الذي يؤدونها عليه فى ذلة وصغار هو فى الواقع ليس عن دافع من التعالي والكبر من المسلمين، وإنما هو إثارة لدوافع الإنسانية عند هؤلاء الذين يؤدون الجزية، ولتحريك الرغبة فيهم إلى الخلاص من هذا الوضع المشين، وذلك بمراجعة معتقدهم.. من جهة، والنظر فى وجه الدعوة التي يدعوهم الإسلام إليها.. من جهة أخرى.. وهذا إن فعلوه فإنه لا بد أن يصحح عقيدتهم، ويفتح عقولهم وقلوبهم
وهذا هو السرّ فى الإبقاء على أهل الكتاب حين يقعون ليد المسلمين، وصيانة دمهم من القتل، وقبول الدّية منهم.. فإن هذا التدبير إنما غايته هو وضع أهل الكتاب فى هذا الامتحان، وتلك التجربة.. ولقد أثمر هذا الامتحان ونجحت تلك التجربة، فإنه ما من أحد من أهل الكتاب، دخل فى هذا الامتحان وعاش تلك التجربة، وأخذ مكانه مع المسلمين على هذا الوضع، حتى وجد الفرصة سانحة، والوقت متسعا، للبحث والنظر فى معتقده، والمعتقد الذي يدعى إليه.. وكان من هذا أن دخل فى الإسلام، وآمن به عن اختيار واقتناع..
ومن بقي على دينه من أهل الكتاب- وهم قلة شاذة- فقد كانت آفة ذلك إلى تعصب أعمى، وانقياد لهوى جامح، لا يمسكه عقل، ولا يردّه رأى! فلم تكن الجزية التي فرضها الإسلام على أهل الكتاب ضربا من التحكم، ولا نزعة من نزعات القهر والتسلط، وإنما هى- كما رأينا- دعوة حكيمة من دعوات الإسلام إلى الإيمان بالله، وأسلوب من أساليبه المحكمة، فى فتح الأبصار المغلقة، إلى النور، ولفت العقول الشاردة، إلى الهدى، وإيقاظ القلوب الغافية، لاستقبال آيات الله وكلماته..
ولو كان من شأن الإسلام التسلط والقهر، والعدوان والبغي، لأخذ أهل الكتاب الذين وقعوا ليده، ونزلوا على حكمه، بما أخذ به الكافرين والمشركين، ولما قبل منهم إلّا الإيمان أو القتل، ولما استبقاهم ابتغاء إصلاحهم، وشفائهم ممّا ألمّ بهم، من زيغ فى العقيدة، وضلال فى الدين..
فالجزية التي فرضها الإسلام على أهل الكتاب، هى دواء لداء، واستطباب لعلّة، وعملية جراحيّة لاستئصال مرض قاتل.. وإنه لا بأس من أن يكون الدواء مرّا، إذا أنمر ثمرته فى شفاء الداء.
وهذا يعنى أن يحتفظ المسلمون دائما بتلك القوة التي مكّنت لهم، وإلا كان عليهم أن ينزلوا عن هذه المنزلة التي هم فيها، فإنهم إن لم ينزلوا عنها طائعين، نزلوا عنها مكرهين.. بل وربما تحولت الحال، فكانوا تحت يد من كانوا تحت يدهم! فالمراد باليد هنا، القوة والقدرة، التي يعلو بها المسلمون على غيرهم.
والقوة التي يعتمد عليها المسلمون، تقوم دعائمها أولا وقبل كل شىء، على الإيمان بالله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.. فإذا حقق المسلمون حقيقة الإيمان فى قلوبهم، مكّن الله لهم من كل أسباب العزة، والقوّة، وملأ أيديهم من خير الدنيا والآخرة جميعا، وأقامهم فى هذه الدنيا مقاما كريما، وجعل كلمتهم العليا، وكلمة الذين كفروا هى السفلى! فليس المراد بقوله تعالى: «وَهُمْ صاغِرُونَ» تحريضا للمسلمين على امتهان أهل الذمة وإذلالهم، بقدر ما هو تحريض للمسلمين على اكتساب القوة والاحتفاظ، بها حتى لا يكونوا يوما فى هذا المنزل الذليل المهين، الذي ينزله المغلوب على أمره بها، النازل على حكم غالبه.. فهذا هو واقع الحياة، وتلك هى سنة الله فى خلقه.. الغالب متحكم متسلط، والمغلوب مقهور مهين.. وإذا كان هناك من المبادئ الخلقية، أو المواضعات السياسية، ما يخفف من هذا المبدأ العامل فى الحياة، فإن سماحة الإسلام، وإنسانية شريعته، قد كان لهما فى هذا الباب ما لا يمكن أن يلحق بغباره القوانين الدولية، أو المنظمات الإنسانية.. ذلك أن دعوة الإسلام إلى التسامح، والرفق، والإخاء، دعوة مشدودة إلى ضمير الإنسان، موصوله بإيمانه بالله، بحيث لا يكمل إيمانه إلا بها.. أما ما تحمله القوانين الدولية، وما تنادى به المنظمات الإنسانية، فلا يعدو أن يكون مجرد نصائح ووصايا،
فالقوة التي يملك بها المسلمون مصائر الأمور فى الناس، قوة رحيمة، عادلة.. ومن الخير للناس جميعا، أن تنمو هذه القوة، وأن يمتد سلطانها.. فحيث كانت فهى بر ورحمة، فإذا صارت تلك القوة إلى يد غير مؤمنة بالله، آخذة بشريعته، كانت قوّة ظالمة غشوما، تطلع على الناس كما تطلع العواصف العاتية، لا تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.
هذا وكثير من الفقهاء والمفسّرين على أن قوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.. الآية» هو أمر ملزم للمسلمين بقتال غير المسلمين، قتالا عاما، فى أي حال يجد فيها المسلمون قدرة على القتال. بمعنى أنهم يكونون فى حرب دائمة مع غير المسلمين، حتى يدخلوا فى الإسلام، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.. على الوجه الذي أشرنا إليه..
وسنعرض لهذا الرأى الذي يجعل المسلمين فى حرب دائمة مع غير المسلمين عند شرح الآية (٣٦) من هذه السورة.. وذلك إلى ما أشرنا إليه فى مبحث:
«الحرب والسلام فى الإسلام» «١».
الآيات: (٣٠- ٣٣) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
فاليهود يقولون- فيما يقولون من مفتريات على الله- «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ».
وشبهتهم فى هذا، هى أن الله سبحانه وتعالى قد بعثه من بين الموتى، بعد أن أماته مئة عام.. وإلى هذا- والله أعلم- يشير الله سبحانه وتعالى بقوله:
«أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» (٢٥٩: البقرة).
وقيل إن التوراة قد ضاعت أيام الأسر البابلىّ، وأن الألواح التي كانت كتبت فيها قد حملها بختنصر معه إلى بابل، وقيل أحرقها.. فلما عاد اليهود من الأشر، كانت الكلمات التي حفظوها من التوراة قد ذهب أكثرها من صدورهم..
وقد وقعوا فى حيرة وقلق، بعد أن أعادوا بناء الهيكل، ولم يعيدوا التوراة التي فقدت.. فكان الهيكل فى نظرهم أشبه بجسد لا روح فيه..
وفيما هم فى هذا الهمّ والحيرة، طلع عليهم «عزرا» أو «عزير» وقال لهم:
وحدث بعد هذا أن عثروا على التوراة الضائعة، فقارنوا بها ما أملاه عليهم «عزرا» فإذا هى هى، لم ينخرم منها حرف، ولم تسقط منها كلمة..!
فكان عندهم «عزرا» كائنا علويا سماويا، لهذا العمل العظيم الذي جاءهم به..
فرفعوا نسبه إلى الله، وجعلوه ابنا له!! والنصارى، قالوا فى المسيح عيسى بن مريم كما قالت اليهود فى «عزير»..
قالوا: «الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ».
وشبهتهم فى هذا، هى أن المسيح قد ولد من رحم امرأة، دون أن تتصل برجل.. وجهلوا أن هذا الميلاد وإن كان عجيبا، خارجا على مألوف الحياة، وغير مطّرد مع السنن المألوفة لنا، فإنه ليس خارجا عن قدرة الله، التي لا يعجزها شىء، ولا يقيّدها قيد من عادة أو مألوف، بل هى قادرة قدرة مطلقة، بلا حدود ولا قيود: «اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ».
وفى قوله تعالى: «ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ» توكيد لما يقولونه، من نسبة الابن إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه قول لم يحكه أحد عنهم، أو ينطق به شاهد الحال عليهم، وإنما هو قول قالوه بأفواههم، لا يستطيعون دفعه، أو إنكاره، إذ كان ذلك مما نطقت به ألسنتهم، وسمعته آذانهم، فكيف السبيل إلى التنصّل منه؟ وكيف السبيل إلى جحده، وهم لا يزالون يرددونه بأفواههم؟
ويمكن أن يحمل قوله تعالى: «ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ» على معنى آخر، وهو أن قولهم هذا مجرد كلام، يلقى على عواهنه، من غير أن يحتكم فيه إلى عقل أو منطق.. إنه كلام.. لا أكثر! ليس بينه وبين الحق نسب!
والذين كفروا من قبل.. من هم؟
يمكن أن يكون هؤلاء الذين كفروا من قبل، مرادا بهم آباؤهم الأولون، الذين غيّروا فى دين الله، وتأولوا آياته وكلماته هذا التأويل الذي صار بهم إلى الكفر.. فهؤلاء الكافرون من اليهود والنصارى الذي يخاطبهم القرآن هذا الخطاب، هم متابعون لآبائهم الأولين، محاكين لهم..
ويمكن أن يكون الذين كفروا من قبل، كلّ من سبق اليهود والنصارى، من الذين كانوا يدينون بهذا المعتقد الذي يجعل لله ابنا، يعبد من دون الله، أو يعبد مع الله، مثل تلك المعتقدات التي كان يعتقدها اليونان فى توليد الآلهة، بعضهم من بعض، وكما كان يعتقد الفراعنة فى آلهتهم، وإضافة ملوكهم إلى آلهة سماوية علوية، وكما يعتقد المعتقدون فى «بوذا» وأنه مولود إلهى..
وقوله تعالى: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» هو طرد من رحمة الله ورضوانه، لهؤلاء الذين يقولون هذا القول المنكر فى الله.. فإن «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» يعنى أنهم نصبوا حربا لله، فحاربهم الله، وقاتلهم..!
وانظر ماذا يكون من أمر من يحاربه الله ويقاتله؟ أتراه ينجو من البلاء والهلاك؟ أو يجد قدرة على احتمال ما يحلّ به من بلاء ونقمة؟ هيهات.. هيهات! وفى قوله سبحانه: «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» إنكار عليهم هذا الإفك الذي هم فيه، وهذا الافتراء الذي يفترونه على الله.
وكيف يجدون له مساغا فى عقولهم؟
قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» هو اتهام جديد لأهل الكتاب، وكشف عن وجه من وجوه الضلال الذي ركبوه، وهو أنهم انقادوا لأحبارهم ورهبانهم، وجعلوا لهم الكلمة فيهم، والعقل المدبّر لهم، فكلمة الأحبار والرهبان لهم، هى الكلمة التي لا معقّب عليها عندهم، حتى لكأنها كلمات الله عند المؤمنين بالله..
وقد تأول الأحبار والبرهبان كلمات الله، وأخرجوها عن مفهومها الذي لها، إلى المفهوم الذي يرونه.. ومن هنا كان للأحبار والرهبان هذا السلطان المبسوط على أتباعهم، بحيث جعلوا إلى أيديهم أمر هؤلاء الأتباع، فيما هو من صميم العقيدة.. فيغفرون لمن شاءوا من المذنبين، ويحرمون من شاءوا من هذا الغفران.. وقد أدّى ذلك إلى أن أصبح الأحبار والرهبان آلهة يطلب رضاها، ويتقرب إليها بالقربات، حتى تنال منهم المغفرة والرضوان..
وهذا وضع شبه بالوضع الذي يقوم بين المؤمن وربّه.. ومن هنا كان قوله تعالى:
«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» مصورا لهذه الحال القائمة بين عامة اليهود والنصارى وبين أحبارهم ورهبانهم، أدقّ تصوير وأئمّة..
والأحبار: جمع حبر، وهو عالم اليهود، ورجل الدين فيهم.. والرهبان:
جمع راهب، وهو عالم المسيحيين، وصاحب الكلمة فى معتقدتهم وشريعتهم.
وأما قوله سبحانه: «وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» فهو معطوف على قوله سبحانه:
«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي واتخذوا المسيح ربّا من دون الله..
وقوله تعالى: «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»..
الضمير فى «أمروا» يعود إلى هؤلاء المخاطبين من أهل الكتاب- من يهود ونصارى- كما أنه يشمل الأرباب الذين اتخذوهم، من الأحبار والرهبان، والمسيح ابن مريم.. فهؤلاء وأولئك جميعا مطالبون بأن يعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو.. فهذا هو الإيمان الذي لا يدخل إنسان فى عداد المؤمنين إلا به، وهو الإيمان الذي أمر الله سبحانه وتعالى به رسله، وجاءت به كتبه التي أنزلها عليهم.. وقد تنزه الله تعالى عن الشرك الذي يدين به المشركون.. «سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».
وقوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» فى هذه الآية الكريمة إشارة مضيئة إلى مستقبل الإسلام، وأنه «نور الله» الذي يريد المشركون، والكافرون، والمنافقون، أن يطفئوه بأفواههم..
وإضافة الإطفاء الذي يريده هؤلاء الضالون بنور الله- إضافته إلى أفواههم، لأن أفواههم هى التي تنطق بهذا الزور والبهتان، والافتراء على الله، ونسبة الولد إليه.. كما يقول سبحانه: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ».. فهذه الأفواه التي تنطق بهذا الضلال،
ولكن الله سبحانه وتعالى بالغ أمره، ومنجز وعده الذي وعده نبيّه فى قوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (٩: الصف) وهذا ما يشير إليه قوله تعالى هنا: «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ».. فهذا وعد مؤكّد من الله سبحانه، بأن يتمّ نوره، أي دينه.. وأن يبلغ به غاية الكمال والتمام.. وذلك يكون- وهو كائن لا شك فيه- حين يصبح الإسلام دين الإنسانية كلّها، يطلع عليها طلوع الشمس، فيغمر نوره كل صقع، ويتسرب شعاعه إلى كل قلب..!
وانظر إلى قوله سبحانه. «وَيَأْبَى اللَّهُ»، وإلى قوة الحقّ سبحانه وتعالى القائمة على نصرة دين الله، والتي تأبى أن يقف فى وجه هذا الدين ما يحجب ضوءه، أو يضلّ الناس عنه.. «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» وتمام النور وكماله، هو فى أن يبسط سلطانه على الوجود الإنسانى كله.. «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» وذلك مما يسوء المشركين وأهل الضلال، وإنه لا حساب لهم، ولا لما يحلّ بهم من سوء.. فلترغم أنوفهم، ولتأكل الحسرة قلوبهم! وهذا المعنى الذي أخذناه من الآية الكريمة، من إطلاق نور الله على الإسلام، يشهد له قوله سبحانه فى سورة الصف: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
(٦- ٩: الصف) فهذه الآيات تكشف فى وضوح صريح، عن أن نور الله هو الإسلام، الذي أرسل الله به رسوله محمدا: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ».. وإن هذا الدين سيظهر على كل دين، وينسخ كل معتقد! إنه نور الله، وإنه لدين الله.. «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ».
ويلاحظ أن قوله تعالى: «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» قد جاء فى سورة التوبة.. والكافرون هم من لم يكونوا على دين أصلا، أو كانوا على دين ولكنهم لا يؤمنون بالله إيمانا صحيحا، وهو ما عليه أهل الكتاب، الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: «وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ».. والمشركون هم الذين يدينون بدين يجمع بين الإيمان بالله، والإيمان بشركاء مع الله..
والكافرون والمشركون هم فى مجموعهم لا يؤمنون بالله، ولا يدينون دين الحق، وهو الدين الذي جاء به الإسلام على تمامه وكماله..
فإذا تحقق وعد الله بإتمام دينه- وهو متحقق حتما- وذلك على كره من غير المؤمنين جميعا، كان معنى هذا أن الإسلام سيصبح يوما ما دين الإنسانية كلها.. ولو كره الكافرون والمشركون.
والشبهة الأولى: هى ما يبدو على ظاهر الحياة اليوم من انكماش ظلّ الدين عموما فى النفوس، واستيلاء الإلحاد على مواقع الإيمان عند كثير من الشعوب والأفراد..
وهذا يعنى بظاهر واقعه، أن عصر الإيمان قد ولّى، وأن الناس فى طريقهم إلى إيمان آخر غير هذا الإيمان المستند إلى ما وراء المادة.. إيمان بالطبيعة وبالحياة فى صورها المادية المختلفة وما تولده منها العلوم والفنون.. وهذا يعنى أيضا أنه لا الإسلام ولا غير الإسلام من الأديان الأخرى، سيبقى على ما هو عليه الآن، فضلا عن أن يمتد ظله، ويقوى سلطانه! ونقول: إن هذه الظاهرة، هى مقدمة طبيعية لإقامة الإنسانية على دين صحيح، يتجاوب مع العقل ومنطقه، ويدخل إلى عقول الناس كما تدخل الحقائق العلمية.
فالعقل الحديث الذي بعد عن الدّين، إنما بعد عن تلك المعتقدات التي لا تثبت لأدنى نظر ينظر به إليها، ثم يفرض عليه- مع هذا- أن يقبلها، وأن يتعامل معها، لأنه لا بد له من دين يعيش به، ويحيا معه..
فإذا وقف العقل من تلك المعتقدات، هذا الموقف، وإذا أبى أن يخضع خضوعا أعمى لسلطانها- فذلك حق مشروع له، وإلّا فما كان لهذا العقل الذي ميّز الله الإنسان به عن عالم الحيوان، وظيفة يؤديها للإنسان، أو عمل يعمله فى هدايته، وكشف معالم الطريق له، وخاصة فى أهم شأن حيوى من شئونه، وهو ما يمسّ الحياة الروحية منه.
فليس إذن هذا الموقف المنحرف الذي يقفه العقل العصرى من الدين- ليس هذا الموقف عن آفة فى هذا العقل، أو عن استغناء منه عن الدين..
ولا تحسبنّ أن هذا العقل «العصرى» الذي بعد عن الدين هذا البعد- قد اطمأنّ إلى تلك الحياة التي يحياها بلا دين..
وكلّا، فالإنسان متديّن بطبعه، والدين مطلب من مطالب الإنسان، على أي مستوى من مستويات الإنسانية، كان عقله، وكان علمه..!
فالإنسان البدائى، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، والفارابي، وابن سيناء، وابن رشد، هم سواء فى الحاجة إلى الدين، وإلى تصور المعتقد الديني، الذي يرضيهم، ويغذّى عاطفتهم، ويروى الجدب الروحي الذي يجده الإنسان- أي إنسان- إذا هو بات ليلة أو بعض ليلة على غير دين! والملحدون الذين تعجّ بهم الدنيا فى الغرب والشرق، هم أكثر الناس ظمأ إلى الدين، وتطلعا إليه، وبحثا عنه، ووسواسا به.
وليست هذه المذاهب التي يعيش فيها الماديون، من طبيعية، ووجودية، وغيرها، إلا سعيا وراء الدين، وإلا ملأ لهذا الفراغ الديني الذي يجدونه فى كيانهم، ولا يجدون الدين الحقّ الذي يملؤه! وهم فى هذا معذورون.. وإلا فماذا يمنع الجائع الذي لا يجد الطعام الطيب الذي يسد جوعه، إذا هو مد يده إلى الخبيث الذي تعافه النفوس من الطعام وتستقذره؟ إن هذا من ذاك سواء بسواء! والشبهة الثانية، هى: هل الدين الإسلامى دين يحمل فى كيانه من الحقائق ما يتقبله العقل «العصرى»، ويجد فيه شيئا يمسك به، ويقيمه على منطقه؟
وكيف تدّعى للإسلام هذه الدعوى، وهذه ثمراته ظاهرة فى أهله الذين
والحق أن الذي ينظر إلى الإسلام من خلال أهله، ويأخذه بحسابهم، يفرّ من الإسلام، ويصرف وجهه عنه، إن لم يكن هناك طريق آخر يصله بالإسلام، وبمبادئه اتصالا مباشرا، لا يمرّ به على طريق يطلع منه على العالم الإسلامى وأحوال المسلمين.. اليوم!.
إن الدين بأهله..
ولقد صغرت نفوسنا- نحن المسلمين- وضمرت ذاتيتنا، فصغر فيها كل معنى كريم، وضمر فيها كل مثل فاضل.
إن النفوس المريضة تتغير فيها حقائق الأشياء، كما تتغير حقائق المرئيات وصورها فى العين المريضة، وكما تنحرف مذاقات الطعوم فى الفم السقيم..
والواقع أننا قد أصبنا فى القرون الأخيرة بعلل وأوجاع، أفسدت حياتنا، وأنزلتنا منازل الهون فى دنيا الناس.. فاستعمرت أوطاننا بالدخلاء، وصار إلى غيرنا تدبير شئوننا، وتوجيه حياتنا.. وكان من خداع المستعمر ومكره بنا، وكيده لنا، أن جعل من همّه الأول، إفساد عقيدتنا، وعزلنا عن ديننا، وخلق جفوة بيننا وبينه.. إذ كان يعلم إن الدين هو الذي يقف عقبة فى سبيل إماتة مشاعر الحياة الإنسانية الكريمة فى الشعوب التي يحتلّها، وأنه ما دام للدين الإسلامى سلطان على النفوس، وتحكك بها، فإن الاستعمار لن يبلغ الغاية التي يريدها من استسلام الناس استسلاما مطلقا له، يتمكن به من تضييع معالمهم،
ومن هنا كانت حرب الاستعمار للدين الإسلامى فى نفوس أهله، وفى تصويره لنا بصورة الداء الذي أصابنا فى الصميم من حياتنا، فصار بنا إلى ما نحن فيه، من ضعف وفقر وتخلّف، وإنه لولا تمسكنا به، لما كانت تلك حالنا، ولما قامت علينا تلك الوصاية القاهرة الظالمة من الأمم التي استولت على مواطن الإسلام.. هكذا ألقى الاستعمار إلينا بهذا الضلال المسموم، فتلقّاه كثير منّا وكأنه نصيحة ناصح أمين، وتذكرة طبيب حاذق لمريض يشفق عليه، ويلتمس الدواء لعلته القاتلة!.
ولقد عمل الاستعمار جاهدا على أن يمكّن لهذا الضلال من نفوسنا، وأن يغرى به الشباب، خاصة، بما أذاع بأساليبه وصنائعه من مفتريات على الإسلام، وتهجم عليه، وازدراء لأهله، واستخفاف بمكانهم فى الحياة، وحرمانهم من كل مكان كريم فيها..
بل، وأكثر من هذا.. فلقد أرانا الاستعمار صورة عملية تعيش بيننا، وتشهد لما يحدّثنا به عن الإسلام، وعن جنايته على المسلمين..!
فالاستعمار، إذ وضع يده على أوطان الإسلام كلّها، ترك فى وسط العالم الإسلامى، بلادا غير مسلمة- كالحبشة مثلا- دون أن يمدّ إليها يدا، ليرى المسلمين من ذلك أن دينهم هو الذي جعل أوطانهم- دون سائر الأوطان- على هذه الحالة من الضعف، الذي أغرى المستعمرين بهم، ومكّن له منهم، وأقامه قيّما عليهم، حتى يرشدوا ويبلغوا مبلغ الرجال.. ولن يكون لهم ذلك إلا إذا تحللوا من هذا الدين، وتركوه وراءهم ظهريّا.
وأنه إذا كانت قد عرضت للمسلمين عوارض الضعف والوهن فى فترة من فترات تاريخهم الطويل، فليس من الإنصاف للإسلام أن يقام ميزانه على حساب تلك الفترة العارضة..
وإن على الذي ينشد الحق للحق، أن ينظر إلى الإسلام أولا وقبل كل شىء..
فى مبادئه، وأحكامه، وفى تصوره للألوهية، وللحياة الآخرة، وفى دعوته الأخلاقية لبناء الكيان الإنسانى، وصلته بالمجتمع الإنسانىّ وبالحياة.. فإن وجد نظاما وضعيا أو دينيا عرفته الحياة، قديما أو حديثا، فى سياسة الأمم والشعوب، وفى إقامة موازين العدل بين الناس، وفى تنظيم العلاقات بينهم فى الحرب والسلم- إن وجد نظاما وضيعا أو دينيا يقارب نظام الإسلام، فى اعتداله وتوازنه، وتواقفه مع متطلبات الناس وواقع الحياة، فليقل فى الإسلام ما يقول، وليرمه بالسّهم القاتل، وهو أنه ليس من عند الله، إذ لا يكون من عند الله شىء يكون فيه خلل أو اضطراب..!
ثم إن من ينشد الحقّ للحق، وينظر إلى الإسلام نظرا مباشرا، ينبغى ألّا يغفل عن تلك الفترة المشرقة من تاريخ المسلمين، يوم كان الإسلام قائد حياتهم، وراية دولتهم، ودستورهم العامل فى حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فذلك من شأنه أن يعطى الإسلام فرصته، ليقيم بين عينى الناظر إليه، مجتمعا بشريا لم تعرف الحياة مثيلا له، فى ماضيها وحاضرها.. مجتمعا ملأ يديه من طيبات الحياة فى أصفى مواردها، وأكرم منازلها، دون أن ينسى نصيبه من معطيات الروح.. فكانت قدمه على الأرض، ورأسه فى السماء! والسؤال الذي نسأله هنا.. هو:
إذا كانت بعض الأديان- بما دخل عليها من تبديل وتحريف- قد فضحها
فهل وقع الإسلام تحت هذا الحكم الذي أصدره العلم الحديث على هذه الأديان؟
وهل امتحن الإسلام ومحّصت حقائقه على ضوء العلم، وفى مخابير الحياة، ثم ظهر منه ما لا يرضاه العلم وما لا تقبله الحياة؟
إن الإسلام- وثوقا منه بما ضمّ عليه من حق وخير- ليفتح ذراعيه للعلم الحديث، ويرحّب به كل الترحيب، ويسعد السعادة كلها بلقاء العقول الناضجة المستنيرة له، بكل ما وضعه العلم بين يديها من سائل التمييز بين الحق والباطل، والنافع والضار، والسليم والسقيم..
فتلك هى فرصة الإسلام التي يظهر فيها كرم معدنه، وتتجلّى فيها عظمة حقائقه، ويسفر بها وجهه المشرق الكريم..
إن هذا العصر- عصر العلم والشك.. عصر الامتحان لكل شىء..
عصر الإلحاد وغربلة الأديان- هو عصر الإسلام، وهو اللسان المجدّد لدعوته، حيث يجلّى حقائق هذا الدين، ويكشف عن الخير الكثير المخبوء للناس فيه..
ولا يريد الإسلام، ولا نريد له أن يتلقّى الناس دعوته قضية مسلّمة، بل إن ذلك لتأباه طبيعته، التي تدعو العقل دائما، وتأنس بصحبته، وتسعد بالحديث إليه، والاستماع له..
فالذى يريده الإسلام، ونريده له، هو أن يضع العلماء والفلاسفة والمفكرون هذه العقيدة موضع الشك أو الإنكار- إن شاءوا- ثم ليعاملوها معاملة القضايا التي ينكرونها أو يتشككون فيها، وليسلطوا عليها نظراتهم باحثة فاحصة، ثم ليقلّبوها فى أيديهم ظهرا لبطن، وبطنا لظهر، وليمتحنوها بكل ما فتح به عليهم العلم، من أساليب الامتحان.. ثم ليحكموا بعد هذا على الإسلام، بما يظهر لهم على محكّ الفحص والاختبار..
إن العلم الحديث هو فرصة الإسلام، التي تتجلّى فيها معجزته، من جوانبها العلمية، والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية، فيرى العقل الحديث منها أنه أمام معجزة قاهرة متحدّية، لا يملك إلا التسليم لها، والسجود بين يديها.. تماما كما تجلّت معجزته البيانية للأمة العربية، يوم كان سلطان البيان هو الذي يحكم هذه الأمة، ويستولى على مواطن الإدراك والشعور منها.. فآمنت به، وسجدت بين يديه..
وهذا هو كتاب الإسلام، وتلك هى حجته القائمة، ودستوره المسطور فى القرآن الكريم:
إنه يقدّم نفسه لكل من يريد النظر فيه، والتعرف إليه.. غير مستند إلى تأويل أو تفسير.. فلسانه أفصح من كل لسان، وبيانه أوضح من كل بيان.
فالذين يعرفون العربية، يعرفون طريقهم إليه فى غير عناء، ويضعون أيديهم على حقائقه من غير معاناة..
والذين لا يعرفون العربية، يمكن أن تترجم لهم حقائقه، كما تترجم الدساتير القانونية، والحقائق العلمية.. ولا عليهم إن فاتهم إعجاز الكلمة، ومعجزة البيان.. فإن الحقائق التي تصل إليهم من خلال الترجمة، كافية فى الكشف عن وجوه أخرى من الإعجاز، ممثلة فى محكم أحكامه، وروعة حقائقه، وخلود مقرراته..
والإسلام- فى يسره، وسماحته، ومواءمته للفطرة الإنسانية- قريب من كل نفس، واضح لكل ذى نظر، واقع فى فهم كل ذى فهم.. تلتقى عنده عقول
ومثل هذا تماما، موقف الناس جميعا أمام القرآن الكريم، وما تحمل سوره من آيات الله البينات.. الناس كلهم بين يديه- على اختلاف حظوظهم من العلم والمعرفة- على مائدة طيبة، طعامها هنىء لكل عقل، وشرابها مرىء سائغ لكل قلب.. من طعم منها لا يجد الجوع العقلي أبدا، ومن روى منها لا يعرف الظمأ الروحي أبدا..
وتلك هى معجزة القرآن القائمة على الناس أبد الدهر، وتلك هى حجة الله على من أخلى عقله وقلبه من الدين، أو دان بغير دين الحق، دين الله، الذي ارتضاه لعباده.. كما يقول الحق جلّ وعلا: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» وكما يقول سبحانه: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
إن الأيام ستثبت صدق هذه الدعوى التي ندعيها لعالميّة الإسلام، لأننا لا نقيم هذه الدعوى على عاطفة دينية نحو الدّين الذي ندين به، وإنما نقيمها على
وإنى لأدعوك دعوة مجدّدة إلى أن تتلو قوله تعالى:
«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ثم صل هذا بقوله سبحانه:
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (٧- ٩: الصف) اتل هذه الآيات، ولا تنظر فيما حدثتك به عن بعض مفاهيمها، وأقم لنفسك فهما خاصّا، معتمدا فيه على النظر المباشر فى قسمات وجهها السماوي الوضيء، فإنك ستجد ملء مشاعرك يقينا بأنك أمام معجزة من معجزات الكتاب الكريم، تكشف لك عن مستقبل الإسلام، وتشير إلى يوم قريب فى دورة الزمن، تصبح فيه الإنسانية كلها وقد دانت بهذا الدين، ورضيت ما ارتضاه الله لها فى قوله سبحانه: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
هذا، وقد استظهر بعض العلماء المشتغلين بالدراسات الإسلامية «١» -
كما استظهر أيضا، أن الثلاثة عشر عاما الأولى التي عاشتها الدعوة الإسلامية فى دائرتها الضيقة، وفى مواجهة الكيد لها، والمكر بها، والتضييق على أتباعها، قبل الهجرة النبوية- هذه المدة تمثل الثلاثة عشر قرنا التي انسلخت بعد عصر النبوة.. والتي تحرك فيها الإسلام تحركات محدودة خلال هذه الدورة، أشبه بما كان له من تحركات فى تلك الفترة، بالهجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة قبل الهجرة النبوية.. وأن الإسلام بعد هذه القرون الثلاثة عشر، التي مضت، سينطلق من محبسه، كما انطلقت دعوته بعد الهجرة، وستكون له فتوحات فى آفاق الأرض كلها، كما كانت له فتوحاته فى الجزيرة العربية، التي دانت كلها بدين الإسلام، قبل أن يلحق النبىّ بالرفيق الأعلى، وقد تحقق له ما وعده الله سبحانه وتعالى به، فى قوله جلّ شأنه: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً..»
فالقرون العشرة المقبلة- كما استظهر هذا العالم العليم- هى انطلاقة جديدة للإسلام، أشبه بانطلاقته التي كانت له بعد الهجرة فى سنواتها العشر.. وستكون هذه القرون العشرة، كما كانت تلك السنوات العشر، تمكينا للإسلام، وتثبيتا لقواعده، وامتدادا لدولته، حتى تدين به الجزيرة الأرضية جميعها، كما دانت له الجزيرة العربية كلها من قبل.. «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
أما بعد هذه القرون العشرة، فقد تبدأ دورة جديدة، للحياة الإنسانية كلها، أو قد ينتهى عمر الإنسان على هذه الأرض.. وعلم ذلك عند علام الغيوب.
الآيات: (٣٤- ٣٥) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
التفسير: جاء فى الآية (٣١) قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..» وهو يكشف عن الدور الذي يقوم به كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى، فى إفساد المعتقد الديني لأتباعهم، وخاصة ما يتصل بتصورهم للالوهية، ونسبة الولد إلى الله، كما قال الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» (٣٠).
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»..
فى هذا فضح لأولئك الأحبار والرهبان الذين أفسدوا على النّاس معتقدهم فى الله، فإنهم إنما فعلوا ذلك ليقوم لهم فى الناس سلطان دينىّ، يقوم فى ظله سلطان دنيوى لهم على أتباعهم.
وانظر إلى تلك الدعوة- دعوة الإسلام- التي تقوم على الإيمان بالله وحده إيمانا خالصا من الشرك، مبرأ من الوساطات، التي تقوم بين الإنسان وربّه- أتجد لإنسان- مهما يكن فى الناس- أن يتسلط على إنسان فى معتقده، أو يعترض طريقه إلى الله، أو أن يضع بين يديه صكّا يأذن له فيه بلقاء الله وطلب مغفرته ورضوانه؟ ذلك ما لا يكون فى دعوة تضع الناس جميعا أمام إله متفرد بالألوهية، لا شريك له، من صاحبة أو ولد، أو حبر أو راهب.. إن الحريّة الشخصية التي هى دين الإنسان العصرى اليوم، تنقضها تماما تلك الوصاية الدينية التي يفرضها عليه رجال الدين، ويحولون بينه وبين أن ينظر فى أمور عقيدته، وأن يعرضها على عقله.. والإسلام وحده، هو الذي يمنح الإنسان هذه الحرية المطلقة فى النظر فيه، وعرض كل حقائقه على عقله.. بل إن الإسلام لا يرضى ممن يؤمن به أن يأخذه عن طريق غير طريق عقله وإدراكه، وأن يتلقّاه متابعا مقلّدا.
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ».. هو وعيد لهؤلاء الأحبار والرهبان،
وفى قصر الاكتناز على الذهب والفضة، إشارة إلى أنهما النّقدان اللذان ترجع إليهما جميع العاملات، وتوزن بهما كلّ قيم الأشياء..
وقوله تعالى: «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» هو بيان لهذا المصير المشئوم الذي سيصير إليه هذا المال الكثير يمن اكتنزوه.. وأنهم إذ خلّفوه وراءهم، فلم ينفقوه فى سبيل الله، فإنه قد تبعهم إلى آخرتهم، ليلقاهم هناك فى يوم القيامة، حيث لا بيع ولا شراء..
ولكن لا بد أن يكون لهذا المال عمل، وقد صار إلى يد أصحابه.. وليس هناك إلا النار التي يعيشون فيها، ويتعاملون معها.. وحين يتصل هذا المال- من ذهب أو فضة- بالنار، سيتحول إلى كتل من الجمر، تكوى بها أجسامهم فى المواضع التي تشوّه معالمهم، وتزيد فى آلامهم.. جباههم، وجنوبهم، وظهورهم.. فإذا أنكروا هذا الذي يكوون به دون أهل النار جميعا، قيل لهم: «هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ».
وهكذا يكون الجزاء من جنس العمل.. فقد أخذوا هذا المال ظلما وعدوانا، ثم اكتنزوه شحا وبخلا، فكان جزاؤهم أن كان هو سوط العذاب الذي يعذبون به، من حيث كان يرجى أن يكون مصدر نفع وخير لهم.
وسواء أكان عذاب الآخرة ماديا أو معنويا، فإن هذه الصور التي يعرضها القرآن من صور العذاب، لا بدّ أن تقع على الصورة التي صوّرت بها..
فإن كان العذاب ماديا جاءت تلك الصور المادية على صورتها التي صورها القرآن، وإن كانت معنوية جاءت معنوية على تلك الصورة أيضا، فالعالم
الآيات: (٣٦- ٣٧) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
التفسير: مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما هى أنهما تكشفان عن وجه من وجوه التأويلات الفاسدة، لشريعة الله، فتغير وتبدّل من صورتها التي أقامها الله عليها، وذلك أشبه بما عليه الأحبار والرهبان، من العبث بدين الله، وجعله وراء أهوائهم وما يشتهون.. فناسب أن تجتمع هاتان الصورتان فى هذا المقام.
«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ» أي فى تقديره «اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أي هكذا عدّة شهور العام فى كتاب الله، الذي أودع فيه مقررات علمه، وذلك يوم خلق السموات والأرض، وربط بينهما بهذا النظام الفلكي، فكانت دورة الأرض حول الشمس التي تتم بها الفصول الأربعة- مقدرة باثنى عشر شهرا.. لا تزيد ولا تنقص..
والأشهر الحرم، دعوة إلى السلام الذي ينبغى أن يقوم بين الناس، حتى تطيب لهم الحياة، وحتى يكون سعيهم كلّه متجها إلى العمل المثمر، الذي يعود عليهم جميعا بالخير والبركة، والنّماء لما فى أيديهم من عمل، فى غير مجال الحرب والقتال..
والأشهر الحرم كذلك، هدنة تقطع حبل القتال إذا كان واقعا بين جماعة وجماعة، وهذه الهدنة من شأنها أن تدعو المتقاتلين إلى مراجعة أنفسهم، وإلى العمل على الخلاص من هذا البلاء الذي حلّ بهم، فيطرقون باب السّلم، أو يفتحونه لمن يدعوهم إليه..
والأشهر الحرم هى: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، وقد بينها الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى خطبته فى حجة الوداع بقوله: «ألا وإن
وهذا هو السرّ فى عطف هذا الأمر: «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» على النهى السابق فى قوله سبحانه: «فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ»..
إذ أن هذا النهى يقتضى الكفّ عن القتال فى هذه الأشهر الحرم، خاصة، وفى غيرها، عامة، إذا لم يكن من المشركين عدوان على المؤمنين.. وهذا من شأنه- لو أطلق- أن يحمل المسلمين على طلب المسالمة والموادعة، وترك الاستعداد للحرب، والانخلاع عن مشاعر القتال، فى حين أن المشركين على غير هذا الموقف، لأنهم أبدا على عداوة مضمرة أو ظاهرة للمؤمنين، وأنهم إذا وجدوا فرصة للنيل منهم فلن يمسكهم عن ذلك عهد أو قرابة: «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً»..
فكان إتباع هذا النهى بذلك الأمر: «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً». كان وضعا للنهى بموضعه الصحيح، فيكون دعوة للسّلم، مع الحذر من خطر الحرب، ومع مراقبة العدوّ، والإعداد لدفع عدوانه إن حدثته نفسه بعدوان..
وقوله تعالى «كافّة» أي جميعا: وأصله من الكفّ عن الشيء..
بمعنى كفّ نفسه عن الأمر أي دفعها عنه، وكف العدوّ، أي دفعه وردّه..
هذا، وقد عدّ كثير من الفقهاء والمفسّرين قوله تعالى: «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» - عدوّا ذلك أمرا يوجب على المسلمين، قتال المشركين قتالا دائما متّصلا، على أية حال يكون عليها المشركون إزاء المسلمين، سواء أكانوا محاربين أم مسالمين.. واعتبروا هذه الآية ناسخة لكل ما جاء فى القرآن من آيات تدعو إلى مهادنة غير المسلمين ومسالمتهم، إذا هم هادنوا المسلمين وسالموهم.. وسمّوا هذه الآية آية السيف، التي نسخت قوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (١٩٤: البقرة) وقوله سبحانه: «فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (١٩٤: البقرة) وقوله سبحانه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (١٩٠: البقرة) إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو المسلمين إلى القتال حين تقوم دواعيه، وهى ردّ عدوان المعتدين، أو الذين يقفون فى وجه الدعوة الإسلامية، ويصدون الناس عنها، أو يفتنونهم فيها.. أما فى غير هذا، فلا قتال ولا عدوان.
وآية السيف هذه- كما يقول عنها القائلون- إنما هى دعوة للمؤمنين إلى جمع جماعتهم على أمر واحد فى المشركين، وهو أن يعدّوهم جميعا جبهة معادية، لا فرق بين مشرك ومشرك، فكما أن كل مشرك هو حرب على الإسلام والمؤمنين به، سواء كان ذلك بقلبه، أو لسانه، أو يده، وسواء أكان فى جماعة أو منفردا، فكذلك ينبغى أن يكون المؤمنون على تلك المشاعر، وهذه المواقف إزاء المشركين.. إن الذي ينبغى أن يكون من المؤمنين هو أن
فهذا من شأنه أن يدعو المسلمين إلى جمع كلمتهم، ووحدة صفّهم، فوق أن ذلك هو واجب المسلمين فى السّلم، فكيف وهم فى مواجهة العدوّ المتربّص بهم؟
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» هو دعوة إلى التقوى، وجعلها الميزان الذي يضبط عليه المسلمون موقفهم من المشركين.. فلا بغى ولا عدوان ولا ظلم.. لأن ذلك يخرج المسلمين عن صفة التقوى، ويقيمهم هم والمشركون على مقام واحد.. الأمر الذي من شأنه أن يفوّت عليهم أن يكون الله سبحانه معهم، يؤيدهم وينصرهم على عدوّهم.. لأنه سبحانه لا يكون إلّا مع المتقين..
وعن هذا الفهم لخاتمة هذه الآية كانت وصاة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، حين كتب إلى قائده سعد بن أبى وقاص يقول له: «أما بعد، فإنى آمرك ومن معك من الأجناد، بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ، وأقوى المكيدة فى الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصي منكم، من عدوّكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدتهم، فإذا استوينا فى المعصية، كان لهم الفضل علينا فى القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا»..
أما موقف المسلمين مع غير المسلمين، فهو سلم مع من سالمهم، حرب مع من اعتدى عليهم، وحاربهم.
وتاريخ الدعوة الإسلامية، وأسلوبها الذي قامت عليه منذ اليوم الأول على
«وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (٤٦: العنكبوت).. وقوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (١٩٨: الأعراف).
وهذه الآيات، وأمثالها من الآيات المحكمات، التي قامت على أساسها صلات المسلمين فيما بينهم وبين المجتمعات الإنسانية التي لم تدخل فى الإسلام، سواء ما كان منها فى ذمة المسلمين، أو كان فى دار الحرب، أو خارج هذه الدار.
وكيف يكون من مفاهيم الإسلام أن يكون حربا على الناس من غير أن يبدءوا أتباعه بحرب؟ ألا يكون هذا عدوانا مما نهى الله عنه، فى أكثر من آية من آيات الكتاب الكريم؟ وبأى تأويل يتأول القائلون بالحرب العامة على المجتمع الإنسانى، قوله تعالى: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ؟ (١٩٠: البقرة).
إنه لا تأويل، ولكن القول بالنسخ، وإبطال حكم هذه الآية وغيرها، هو الحجة القاطعة عند القائلين بالحرب العامة الشاملة على كل من لا يدخل فى الإسلام!! ومع هذا فإن القول بنسخ الآيات التي تعارض آية السيف، أو آيات السيف- كما يسميها أصحاب هذا الرأى- ينقضه قوله تعالى. «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ».. فإن قبول الجزية ممن تقبل منهم الجزية بعد أن ينزلوا على حكم السيف- لا يجعل منهم مسلمين، بل هم مشركون أو كافرون، ولا تزال آيات السيف مسلطة عليهم.. فهل من أجل هذه الجزية، التي يحتفظ معها غير المسلم بدينه- تنسخ عشرات الآيات الداعية إلى السلام والموادعة، لتفسح المجال للسيف وآية السيف أو آيات السيف؟
ذلك لا معقول له!
«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (٢٥٦: البقرة).
ثم أين هى التقوى التي يدعو إليها الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» إذا كان المسلمون حربا على الناس من غير أن يؤذنهم أحد بحرب؟.
قوله سبحانه: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» تكشف هذه الآية عن عبث المشركين بحرمات الله، والاستخفاف بها، والاحتيال على خداع أنفسهم بتزيين الباطل، وإلباسه لباس الحق.. وهذا إنما كان منهم لتصورهم الفاسد للألوهية، وفهمهم السقيم لجلال الله وعظمته وعلمه، والنزول به- سبحانه وتعالى- إلى مستوى آلهتهم التي يعبدونها، ويتعاملون معها بالمكر والخداع! فقد كان المشركون فى الجاهلية يحرمون هذه الأشهر الحرم، التي هى بعض البقية الباقية لهم من شريعة إبراهيم، التي كانوا يدينون بها، ثم أدخلوا عليها من
هكذا، يبدّلون فى شرع الله، ليرضوا أهواءهم، وليقيموا لهم شرعا يحلّونه عاما، ويحرمونه عاما!.
والنسيء، والنّسأ: التأخير، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يبسط له فى رزقه، وينسأ له فى أثره فليصل رحمه».
والضمير فى قوله سبحانه: «يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً» يعود إلى هذا الشهر- شهر المحرم- الذي كانوا إذا اقتضت دواعيهم للحرب أنسئوه، وإذا لم تدع للقتال داعية عندهم، تركوه على حاله..
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى «النسيء» بمعنى أنهم يعملون بالنسيء عاما، ولا يعملون به عاما، حسب ما تقتضى دواعى الحال عندهم.. وهنا يمكن أن يكون النسيء مرادا لكل شهر من الأشهر الحرم، فيقدمون ويؤخرون فيها حسب ما يشاءون..
وليس المراد بقوله تعالى: «يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً» أنهم يلتزمون ذلك عاما بعد عام.. وإنما المراد به عدم ثباتهم على وضع واحد مع هذه الأشهر، بل يتلاعبون بها حسب دواعى أحوالهم.
وقوله سبحانه: «لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» أي ليوافقوا فى عملهم هذا
«زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ» أي أنهم اطمأنوا إلى هذا الزّيف الذي صنعوه، وساغ لهم هذا الباطل الذي جاءوا به.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (٨: فاطر).
«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» أي أنه سبحانه وتعالى يخلى الكافرين وكفرهم، فلا يمنحهم هدايته، ولا يعدل بهم عن طريق الضلال الذي ركبوه، لأنهم استحبّوا العمى على الهدى، والبلاء على العافية، والكفر على الإيمان.!
الآيات: (٣٨- ٤١) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
بعد هذا، جاءت هذه الآيات تستحثّ المسلمين على الجهاد فى سبيل الله، وتنكر على المترددين والمتلبّثين ترددهم وتلبثهم فى الاستجابة لدعوة الله، والنّفر إلى الجهاد فى سبيله، فى غير تراخ أو فتور، كما يقول الله سبحانه:
«انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» الاستفهام هنا إنكارى، إذ ينكر على من آمن بالله، ولبس لباس المؤمنين به، ألّا يكون فى المجاهدين فى سبيل الله..
والنّفر إلى الحرب: السّعى إليها فى جدّ وعزم ومضاء..
وأصل المادّة من النفور، وهو الصدّ عن الشيء، ومنه قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً» (٦٠: الفرقان)
الفرار من حبّ الحياة، والتعلق بما للإنسان فيها من هوى إلى المال والأهل والولد.. ثم اللّجأ إلى الله، وإلى الجهاد فى سبيل الله!! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (٥٠: الذاريات).
فالدعوة إلى الجهاد فى سبيل الله، الذي تحمله كلمة «الفرار» هى دعوة إلى أمرين معا:
الأول: الانخلاع من سلطان الدنيا، المستولى على النفوس، وذلك لا يكون إلا بمغالبة أهواء النفس، والوقوف منها موقف العدوّ الذي يتربص للإنسان على طريق الخير، ليحول بينه وبين الوصول إليه، فيفرّ المؤمن من دواعى الحياة الدنيا، فراره من العدوّ، الذي إن تلبّث أو فتر فى الفرار منه، هلك!! والثاني: التماس السّبل التي تخلّص الإنسان من الوقوع ليد هذا العدوّ، الذي يحول بينه وبين الخير المدعوّ إليه من قبل ربّه، وهو الجهاد فى سبيل الله.. وذلك لا يكون إلا بالفرار من وجه هذا العدوّ، واتخاذ وجهة أخرى غير الوجهة القائمة على سمته.. وتلك هى وجهة الجهاد فى سبيل الله.
وفى قوله تعالى: «اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» كناية عمّا يستولى على الإنسان من مشاعر التحير والانهزام، حين يواجه امتحانا عسيرا، لم يكن مهيّأ له من قبل ولم يكن على نية صادقة، وعزيمة مجتمعة لخوض غماره..
وأصل «اثَّاقَلْتُمْ» تثاقلتم، فأدغمت التاء فى الثاء، لتقارب مخرجيهما، ثم جىء بهمزة الوصل، حتى لا يبدأ بحرف ساكن، الأمر الذي لا تستسغيه العربية..
وفى التعبير بلفظ «التثاقل» الذي يدلّ على التصنع والادعاء، مثل «تباكى» أي ادعى البكاء، وتغافل أي ادّعى الغفلة- فى هذا ما يشير إلى أن هذا التثاقل من المتثاقلين، لا يستند إلى أسباب حقيقية تقوم فى نفس المؤمن بالله، وإنما هى تعلّات تقع فى بعض النفوس التي دخل على إيمانها شىء من الضعف والوهن.. فتتلمس المعاذير، وتصطاد الذرائع التي تثقل خطوها عن اللحاق بركب المجاهدين. وفى تعدية الفعل «اثّاقلتم» بحرف الجر «إلى» بدلا من حرف الجرّ «على» أو «فى» إذ يقال تثاقل على الأرض، أو تثاقل فى الأرض- فى هذه التعدية بإلى كما جاء عليه النظم القرآنى، ما يحقق أمرين:
أولهما: إشارة إلى أن هؤلاء المتثاقلين إنما ينحدرون انحدارا إلى الأرض، ويهوون هويّا من عل إليها.. وذلك لأنهم وهم المؤمنون بالله، هم بهذا الإيمان فى مستوى عال فى هذه الحياة التي يحياها الناس.. وأنهم وهذا شأنهم، ينبغى أن تكون وجهتهم دائما إلى السماء، وأن يكون متعلّقهم بها، وآمالهم فيها..
وأن تلفّتهم إلى الأرض، وانحدارهم إليها، هو رجعة إلى الوراء، ونكوص على الأعقاب..
وثانى الأمرين: أن التثاقل إلى الأرض يفيد الاختلاط بها، والامتزاج بترابها.. وأن هذا الإنسان المؤمن الذي كان يحلّق بإيمانه فوق هذا العالم الترابي، قد أصبح بهذا التثاقل فى عداد هذه الكائنات التي تدبّ على الأرض، من هوامّ وحشرات! ومن هذه الصورة التي ترتسم للمؤمن من كلمة «اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» ما يريه المصير الذي هو صائر إليه، إن هو أمسك بنفسه مع هؤلاء المتثاقلين على
وفى قوله تعالى: «أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ» إنكار على هؤلاء الذين يفاضلون بين الحياة الدنيا والآخرة، بل ويفضّلون الحياة الدنيا على الآخرة، بعد أن رأوا بأعينهم ما انكشف لهم من قوله تعالى: «اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ..»
فذلك غبن فاحش لا يرضاه عاقل لنفسه، ولا يصبر عليه لحظة، إن هو وقع فيه.
ثم يجىء قوله تعالى: «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ» حقيقة كاشفة مقررّة، يجدها بين يديه من لم ينكشف لبصره أو لبصيرته ما حملت من كلمات الله إليه من عرض هذا الوضع السيء الذي هو فيه من تثاقل إلى الأرض، ومن إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وما على هذه الأرض على ما فى السماء! يجىء بعد هذا قوله تعالى: «إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» - يجىء حاملا مقارع من حديد، يوقظ بها هؤلاء النيام الذين لا توقظهم العبرة ولا الموعظة الحسنة..
إنهم إن لم ينتزعوا أنفسهم من هذه الأرض التي لصقوا بها، وإن لم يخفّوا إلى القتال مسرعين، أخذهم الله بعذابه، وأنزلهم منازل الهوان والنقمة، وأقام مقامهم قوما آخرين، يجاهدون فى سبيل الله، ويأخذون هذا المقام الكريم الذي كان مهيأ لهم من قبل، فتخلّوا عنهم مختارين، حين تثاقلوا عن الجهاد، واستحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة.. وإنهم بهذا قد أوقعوا الضرر بأنفسهم، وأخذوا الطريق المؤدّى بهم إلى الهلاك، ولن يضروا الله شيئا.. فإن الله- سبحانه- غنىّ عن العالمين.. وإن له- سبحانه- أولياء كثيرين، ينصرون دينه، ويجاهدون فى سبيله: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (٣٨: محمد).
فتلك هى سنّة الله فى عباده «لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ»
قوله تعالى: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
فى هذه الآية الكريمة أمور:
أولا: صلتها بالآيات التي قبلها.. حيث تبدو الصلة غير واضحة فى ظاهر الأمر بين هذه الآية، وما جاءت به الآيات قبلها من مقررات وأحكام..
والذي يمعن النظر فى الآية الكريمة يرى أنها تطبيق مؤسس على مقررات الآيات السابقة، حيث جاء فى قوله تعالى: «إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».. فقد قررت هذه الآية فيما قررت، أن الله إذا أراد نفاذ أمر فلن تقف دونه قوة فى هذا
وفى قوله تعالى:
«إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ» شاهد قائم، رآه المسلمون رأى العين.. وهو أن الله قد نصر النبىّ الكريم، وخلّصه من يد المشركين الذين كانوا له بمرصد، على كل ثنيّة، وعلى كل طريق | ولم يكن مع النبىّ الكريم قوّة ظاهرة، لم يكن إلا هو وصاحبه أبو بكر.. وكانا أعزلين من كل سلاح، إلا سلاح الإيمان الذي يملأ قلبيهما، مجرّدين من كل قوة، إلا قوة الحقّ الذي فى يديهما، محرومين من كل نصير، إلا عون الله لهما، وحراسته القائمة عليهما. |
وفى هذا إشارة مضيئة تشير إلى النبي الكريم، وتحيطه بهالة من نور ربانىّ، بحيث تشخص الأبصار كلّها إلى هذا النور العلوىّ الذي يفاض على النبىّ، ويحفّ به.. فليس هناك من تخلّى عنه الأنصار والأعوان- فى هذا الموقف بالذات- غير النبىّ، وليس هناك أيضا من أحاطت به العناية الربانية، وحفّت به أمداد العون والنصر الإلهي- فى هذا الموطن بالذات أيضا- غير النبىّ.. فكانت الإشارة إليه- فى هذا الموقف بالذات- مغنية عن كل ذكر، وكانت الإماءة إليه أبلغ من كل تصريح..
ثالثا: لم يذكر اسم الصاحب الذي صحب النبىّ فى هذه الحال، بل جاء
وفى هذا تشريف لمقام أبى بكر- رضوان الله عليه- وتمجيد لتلك الصحبة المباركة، التي جعلت منه صاحب نبىّ، ورفيق رسول، يأخذ بنصيب طيّب من رعاية الله لنبيّه، ويستظل بما استظل به النبىّ من نصر الله وتأييده.
وأبو بكر فى هذا المقام هو القوة المادية الظاهرة، من الإنسانية كلها، التي كانت تسند النبىّ، وتشدّ أزره، وتؤنس وحدته، وتقتسم الضّراء- بل قل السّرّاء- معه! فقد كان النبىّ صلى الله عليه وسلم- فى هذا الموقف- جبهة يحاربها الشرك كلّه، ويكيد لها المشركون كلّهم.. وكان أبو بكر رضوان الله عليه، هو وحده كلمة الحقّ، والإيمان، التي أراد الله سبحانه وتعالى لها هذا المقام الكريم، إلى جانب النبىّ الكريم..
وإنه بحسب أبى بكر- رضوان الله عليه- من التكريم والتشريف أن يكون اليد الأخرى المباركة التي تحمل مع النبي الكريم رسالة السماء، ودعوة الحق، إلى حيث أراد الله لها أن تطلع بنورها، وتمنح الناس ما فيها من هدى ورحمة، وأمن وسلام..
ثالثا: فى قوله تعالى: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
عاد الحديث عن النبي وحده، بضمير المفرد «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها»... كما بدأ الحديث عنه وحده: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ».
والسكينة، هى الطمأنينة التي تحلّ بالقلب، فيجد الإنسان المكروب ريح الأمن، وبرد السلامة والعافية.. وهى مأخوذة من السكون، أو السكن، بمعنى القرار.. «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها».. هى قوى من قوى الحق، أمدّه الله بها، فكانت عينا تحرسه، ويدا تردّ من يريد السّوء به..
وفى التعبير عن حلول السكينة قلب النبىّ بإنزالها عليه، إشارة إلى أنها منزلة من السماء، وأنها من قوى الحقّ التي أمدّ الله نبيّه بها، وليست من القوى التي يملكها الناس، ويستندون إليها..
«وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» أي أن الله أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم.. والمراد بالكلمة هنا، الحال والشأن والأمر.. بمعنى أن المشركين وقد فوّت الله عليهم ما أرادوا بالنبيّ من سوء، وأبطل ما دبروا من كيد، وما بيّتوا له من عدوان.. فإن ذلك يحدّث عن ضعفهم وهوانهم، أمام تلك القوة القادرة القاهرة.. وإذا كانت الكلمة تعبيرا عن إرادة المتكلم بها، وتصويرا لمشيئته التي يريد إمضاءها، فإن إنفاذ هذه الإرادة، وإمضاء تلك المشيئة، إنما يكون بحسب ما عند المتكلم من رصيد من القوى التي يحشدها وراء كلمته، ليقيم لها مكانا فى عالم الواقع المحقق.. وإنه حين تبطل الكلمة، ولا تجد لها مكانا فى الواقع المحقق، يكون ذلك دليلا قائما على ضعف صاحبها،
وفى التعبير عن كلمة الله بالعلوّ، إشارة إلى أن كلمات الله سبحانه، هى فى المكان المتمكن، الذي تستولى به على كل شىء، بحيث لا تقف لها قوة، ولا يحول دونها حائل..
وفى وضع ضمير الفصل «هى» بين المبتدأ والخبر فى قوله سبحانه:
«وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا» إشارة أخرى إلى كلمة الله، وإلى تحقيقها، وإفرادها بهذه المنزلة دون غيرها من الكلام البشرى على أي مستوى.. فهى وحدها هى العليا، المتفردة بهذا المقام المتمكن من العلوّ..
ولهذا جاء بعدها الوصف المناسب لله سبحانه وتعالى، صاحب هذه الكلمة: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».. فهو العزيز الذي لا عزة لأحد مع عزّته، وهو الحكيم الذي- مع ماله من عزّة مطلقة، ومن سلطان لا ينازع- يضع الأمور مواضعها القائمة على ميزان الحكمة والعدل والإحسان..
أما هؤلاء المشركون، الذين يستشعرون العزّة والقوة من أنفسهم على غيرهم من الضعفاء، فإن عزّتهم عزة غاشمة جهولة، وقوتهم قوة عمياء حمقاء، تضرب بغير حساب، ولا تقدير! والغار الذي تشير إليه الآية الكريمة، هو غار ثور، فى أعلى جبل يقال له جبل ثور، على مسيرة ساعة من مكة، على يمين المتجه إلى المدينة.
قوله تعالى: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».
والخفاف: جمع خفيف، وهو الذي لا يعوّقه عن النّفر إلى الجهاد معوّق، مادىّ، أو نفسىّ، كالاشتغال بالحياة، وتثمير المال، ومعالجة التجارة، أو الزراعة ونحوها، أو كالحرص على الحياة، والخوف من الموت، أو الاستثقال لأعباء السّفر، ومشقّه الانتقال، والتعرض لمتاعب الطريق، وما يتعرض له المسافر من حر أو برد، أو جوع أو ظمأ..
والثقال: جمع ثقيل، وهو الذي تعرض له تلك العوارض التي تثقله، وتوهن عزمه على الجهاد، وتثقل خطوه فى السعى إليه..
والأمر بالنفر إلى الجهاد موجّه إلى الخفاف والثقال جميعا، من القادرين على حمل السلاح.. وليست هذه العوارض المادية أو المعنوية التي تعرض للمسلم بالتي تعفيه من أن يكون فى جبهة القتال مع إخوانه المجاهدين فى سبيل الله..
فهو آثم، خارج على أمر الله، إن هو لم يأخذ مكانه، ويؤدى الواجب المدعوّ إليه..
وفى قوله تعالى: «وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» توكيد لهذا الأمر بالنفرة إلى الجهاد.. لا بالنفس وحسب، بل وبالمال أيضا لمن يملك المال..
وقدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لأن المال عند من يحرص على المال، أحبّ إليه من نفسه، وهو القوة الغالبة التي تثقل الإنسان وتبطّئه عن الجهاد.
فإذا سخا بالمال، وبذله فى سبيل الله، خفّت نفسه إلى الجهاد، وانطلق من القيد الذي كان يمسك به عن أن يكون فى المجاهدين..
وفى الحديث الشريف: «من جهّز غازيا فقد غزا».
فليس لمسلم- أيّا كان حاله ووضعه فى المجتمع- أن يتخلّف عن الجهاد فى سبيل الله، فلكل إنسان مكانه فى المعركة.. إذ ليست المعركة معركة سيف وحسب، بل هى معركة، سلاح، وعتاد، ومئونة.. بل هى قبل ذلك كله معركة مشاعر وأحاسيس، بمعنى أن الأمة كلها ينبغى أن تكون فى مواجهة المعركة على شعور واحد، ينتظم جميع أفرادها، هو شعور مواجهة العدوّ، والتصدّى له، وطلب الغلب عليه.. فهذا الشعور هو الذي يجعل الأمة الإسلامية كلها جيشا واحدا يحمل السلاح، ويضرب فى وجه العدو..
ومناسبة هذا الآية لما قبلها أنها أشبه بالتطبيق العملي لما تكشف عنه الآيات السابقة من نصر الله سبحانه وتعالى لنبيّه الكريم، وأن من كان من حزب الله فلن يغلب أبدا، ولو كان وحده.. فليأخذ المسلمون مكانهم فى الجهاد فى سبيل الله، فيكونوا من حزب الله.
هذا، ويلاحظ أن هذه الدعوة المشدّدة إلى القتال، واستنفار المسلمين جميعا للجهاد فى سبيل الله، إنما كانت إرهاصا بدعوة المسلمين إلى ابتلاء جديد، بلقاء عدو جديد، فى وطن جديد.. وذلك فى غزوة تبوك التي كانت آخر غزوة غزاها النبىّ.. كما سنعرض لها فيما بعد.. إن شاء الله..
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
التفسير: العرض: المتاع، وما يحصّله الإنسان فى سعيه لطلب الرزق..
والمراد بالعرض القريب: المتاع الذي ينال من قريب، بلا كبير عناء، ولا عظيم مجهود..
والسفر القاصد: هو السفر القريب، السّهل، المستقيم على وجه واحد لقرب غايته..
والشّقة: المسافة المكانية. مثل الأمد فى المسافة الزمانية.
وقوله تعالى: «لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ» هو تعريض بأولئك الذين إذا دعوا إلى القتال، لم يخفوا له، بل تلبّثوا، وأخذوا يديرون أعينهم هنا وهناك، ليتعرفوا إلى وجوه الربح والخسارة فى الدعوة التي دعوا إليها.. فإن كان المغنم فيها دانيا، والسفر إليها قريبا، استجابوا، وخرجوا مع المجاهدين.. وإن كان المغنم عسير
ثم إنهم لا يكتفون بهذا، بل يزكّون هذه العلل، ويؤكدون تلك المعاذير بالحلف المؤكد أنهم لو استطاعوا الخروج لخرجوا.. وهذا الحلف نفسه هو دليل فاضح لكذبهم، إذ لم يطلب أحد إليهم أن يحلفوا.. ولكن هكذا الكاذب دائما.. يجد الكذب الذي يعرضه على أعين الناس، لا يقف على قدميه لضعفه وهزاله، فيعمد إلى تقويته بالحلف، ودعمه بتوكيد هذا الحلف.
وقوله تعالى: «يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» إشارة إلى أن هذا الموقف الذي يقفه أولئك المتثاقلون على الجهاد، المتعللون لذلك بالعلل الكاذبة، إنما قد جنوا على أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك، بتخلفهم عن الجهاد، وعصيانهم لأمر الله، وهم قادرون على القتال.. فإنهم إن خفى أمرهم على الناس، فلن يخفى على الله «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».
وقوله سبحانه: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» فى هذه الآية عتاب رقيق للنبى الكريم من ربّ كريم.. وهو عتاب يحمل فى أطوائه نفحات الرضا والرضوان، بحيث يبدو هذا العتاب، وكأنه جزاء حسن عن عمل حسن! فقد قدّم العفو عن الأمر الذي يطلب العفو له، وجاء العفو من أجله..
وهذا على غير المألوف.. حيث يذكر الذنب.. أولا، ثم يكون اللوم، أو العفو.. ثانيا.
ولكنّ لطف الله سبحانه بنبيّه الكريم، وتكريمه له قد جاءه بالعفو
وفى قوله تعالى: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» إشارة إلى أن أمر الكذب مفضوح، وأن الزّمن لا بد أن يكشف عن وجهه يوما ما.. فلو انتظر النبىّ بهؤلاء الذين جاءوا بأعذارهم إليه، ولم يقبل هذه الأعذار فى حينها، لانكشف له أمر ذوى الأعذار الكاذبة منهم، إمّا بما يظهر من حالهم، أو بما يكشف له أصحابه من أمرهم، أو بما ينزل عليه من قرآن يفضحهم.
وقوله تعالى: «لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» - هو بيان يفرّق به بين الصّادقين والكاذبين من ذوى الأعذار..
فالذين يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا لا يطلبون الإذن لأنفسهم بالتخلف عن القتال.. ذلك أنهم- مع الأعذار القائمة معهم- لا يجعلون من تلك الأعذار حاجزا يحجزهم عن أخذ حظّهم من الجهاد فى سبيل الله، فإذا دعا الداعي إلى الجهاد كانوا فى مقدمة المستجيبين له. حتى إذا نطقت حالهم عن أنّهم- بهذه الأعذار التي معهم، من مرض، أو صغر، أو شيخوخة، أو نحو هذا- لن يمكّنوا من الانتظام فى صفوف المجاهدين، رحمة بهم، وتخفيفا من مئونتهم على المسلمين، كان ذلك مما يحزنهم، ويبعث الحسرة والأسى فى نفوسهم. وهذا
أما الذين فى قلوبهم مرض ونفاق، فإنهم لا يعجزهم العثور على العلل والمعاذير التي يقدّمونها للنبىّ والمسلمين، لتكون مبررا لتخلفهم عن الجهاد.
فهؤلاء هم الذين يجيئون إلى النبىّ بأعذارهم الكاذبة، ويستأذنونه فى التخلف، كما يقول سبحانه «إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ».. والريب، هو الشك والارتياب، ورابه الأمر، فارتاب فيه، أي شك، ووقع فى حيرة وتردد بين الإقدام والإحجام.
الآيات: (٤٦- ٥٢) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٦ الى ٥٢]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
لأنها كانت غزوة ذات طابع خاص على ما سنرى:
فبعد أن فتح النبىّ مكة، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، نظر إلى خارج الجزيرة العربية، فرأى على حدودها من جهة الشام قبائل عربية قد أقامت علاقات بينها وبين دولة الروم، كالعلاقة التي بين التابع والمتبوع.. ذلك أنه لكى يأمن الروم تسلل العرب إليهم، أو مفاجأتهم بالغارات على قراهم وزروعهم، أقاموا بعض القبائل العربية حرّاسا على تلك الحدود، وضمّنوهم سلامة هذه الحدود من كل مغير..
وكانت دولة الروم تنظر إلى الدعوة الإسلامية نظرة سياسية إلى جانب النظرة الدينية التي كانت تنظر بها إليها، وترى فيها أنها دعوة تهدد المسيحية التي تدين بها.
وفى مجال النظرة السياسية، رأى الروم أن الأمة العربية قد أصبحت بهذه الدعوة أمة واحدة، بعد أن كانت قبائل متنازعة متقاتلة.. وهذا ما يجعل من العرب قوة يمكن أن تهدد الروم، وتفتح طريق الحدود الذي أقامت من العرب حرّاسا عليه.
وقد تنبّه الروم إلى ذلك، وأخذوا يعدّون العدّة له، وجاءت الأنباء إلى النبىّ بذلك، وأن الروم يريدون أن يستميلوا القبائل العربية المتاخمة لهم إلى
ولهذا بادر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إلى مبادأة القوم، وأخذ السبيل عليهم إلى الغاية التي أرادوها.. فدعا المسلمين إلى الجهاد، وأراهم الوجه الذي يقصده، والغاية التي يريدها، وقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- إذا أراد الغزو لم يكشف عن الجهة التي يقصدها، ولا القوم الذين يقاتلهم..
أما فى هذه الغزوة، فقد كشف للمسلمين عنها، وأعلمهم أنه يريد حرب الروم..
وذلك حتى يأخذ المجاهدون الأمر عدّته، ويعملوا له حسابه، إذ كانت الشقّة بعيدة، والعدوّ كثير العدد والعدّة.
وكانت دعوة النبىّ إلى لقاء الروم فى أعقاب سنة شديدة الجدب، تخلّف فيها المطر، فأضرّ بالناس، والزروع والأنعام، وقد حضر بين يدى الناس ما نضج من ثمار النخيل والأعناب، على قلته، وشدة الحاجة إليه.. فكان ذلك ابتلاء.. لأنهم يدعون إلى القتال بعد سنة قاسية مجدبة، وفى موجات عاتية من حرور وسموم.. على حين قد حضرهم شىء من نضيج الثمار، وفىء الظلال.. فليس بعد هذا الابتلاء ابتلاء، ولا وراء هذا الامتحان، امتحان..
وتعالت حكمة الله، الذي أراد أن يمحّص ما فى صدور المؤمنين من إيمان، وليبتلى ما فى قلوبهم من ولاء لله ولرسوله.. فإن قسوة هذا الامتحان، هى التي تكشف عن معدن الإيمان، حتى يرى المؤمنون حظوظهم منه، وذلك بعد أن تمت الرسالة، وبلغت الدعوة غايتها.
وقد كشف هذا الامتحان فعلا عن أكثر من حقيقة:
فهناك مؤمنون لا يعرفون غير السمع والطاعة لله ولرسوله.. ولا يؤثرون على ولائهم لله ولرسوله، نفسا أو مالا أو ولدا..
فهؤلاء السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.. ما إن سمعوا دعوة
«اللهم ارض عن عثمان فإنّي عنه راض».
وهؤلاء معسرون يريدون الغزو والجهاد فى سبيل الله.. ولكن ليس هناك ما يحملون عليه إلى ميدان القتال.. فجاءوا إلى رسول الله ﷺ يسألونه ما يحملون عليه، فلما أجابهم الرسول بقوله: «لا أجد ما أحملكم عليه».. «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ»..
وهؤلاء هم البكّاءون، كما سماهم المسلمون يومئذ..
ثم هناك أصحاب تعلّات كاذبة، ومعاذير واهية، جاءوا إلى رسول الله ﷺ بها ليستأذنوا فى التخلّف، فأذّن لهم النبىّ، أخذا بظاهر أمرهم ولكنّ الله سبحانه أخذهم بما أخفوا، فلم يقبل لهم عذرا.. فقال تعالى:
«وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ»..
وقد عاتب الله سبحانه وتعالى النبىّ فى قبول عذرهم والإذن لهم، فقال تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ.. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ».
وهناك منافقون.. وأشباه منافقين.. اجتمعوا على الكيد للإسلام، وتوهين عزائم المسلمين الذين خفّوا للجهاد.. ومنهم عبد الله بن أبىّ بن سلول..
كان على رأس فريق من أصحابه، فى جانب من معسكر المسلمين الذين اجتمعوا ظاهر المدينة استعدادا للسير.. فلما تحرك النبىّ بركب المسلمين تخلّف عبد الله ابن أبىّ فيمن معه من المنافقين..
ثم سار النبي صلوات الله وسلامه عليه، بما اجتمع له من المسلمين، وكانت عدتهم ثلاثين ألفا، منهم عشرة آلاف فارس، كما يقول الرواة..
وقد وقعت فى الطريق أحداث.. منها:
أن بعض الذين تخلّفوا عن الركب، قد راجعوا أنفسهم، فرجعوا إلى الله، وآثروا ما عنده، فلحقوا بركب النبىّ، وهو فى الطريق، قبل أن يبلغ تبوك..
ومن الأمثلة الرائعة للنفس المؤمنة اللّوامة، التي تلفظ الغريب الوارد عليها من وساوس الشيطان- ما كان من أبى خيثمة من بنى سالم بن عوف..
فإنه كان ممن اعتذر لرسول الله، وقبل الرسول الكريم عذره.. فتخلف مع المتخلفين.. ولكن كان معه فى هذا التخلف ضمير ينخسه، وقلب موزّع بين داعية نفسه إلى الدعة والظل، وبين داعى إيمانه إلى اللحاق برسول الله، ومشاركته مرارة السفر وقسوة الهجير..
قالوا إنه بعد أن سار النبي أياما، دخل أبو خيثمة فى يوم حار إلى حائط (أي حديقة له) فوجد امرأتين له فى عريشين لهما، قد رشّت كل واحدة منهما عريشها، وبرّدت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما.. فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله ﷺ فى الضّحّ «١» والريح والحر، وأبو خيثمة فى ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة
والمراد به هنا: التعرض للشمس فى العراء.
«كن أبا خيثمة» فقالوا يا رسول الله.. هو والله أبو خيثمة.. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك يا أبا خيثمة «٢» » ثم أخبر رسول الله ﷺ الخبر، فقال له رسول الله ﷺ خيرا، ودعا له بخير.
هذا الموقف الرائع يقابله موقف منافق متخاذل كان من رجل يظهر الإيمان، ويضمر ما الله عالم به.. ذلكم هو الجدّ بن قيس من بنى سلمة.. كان رسول الله ﷺ قد دعاه إلى التجهز للغزو، وقال له: «يا جدّ..
«هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر؟» (يعنى الروم) فقال: يا رسول الله:
«أو تأذن لى ولا تفتنّى!! فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل بأشدّ عجبا بالنّساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر!!» فأعرض عنه رسول الله، وقال «قد أذنت لك..».. وفى الجدّ بن قيس
(٢) قوله صلى الله عليه وسلم: أولى لك يا أبا خيثمة.. هو مدح لأبى خيثمة، وأن ما فعله هو الخير الذي هو أهل له، وجدير به.
وحين خرج رسول الله ﷺ بالجيش، أقام على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وخلّف رسول الله على أهله علىّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه- فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلّفه إلا استثقالا له، وتخفّفا من صحبته!! فلما بلغ عليا مقالة المنافقين فيه، أخذ سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله.. زعم المنافقون أنك إنما خلفتنى استثقالا وتخففا من صحبتى، فقال: «كذبوا، ولكنى خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع واخلفني فى أهلى وأهلك.. أفلا ترضى يا علىّ أن تكون منى بمنزلة هرون من موسى.. إلّا أنه لا نبىّ بعدي؟ فرجع علىّ بهذه الخلعة التي خلعها الله ورسوله عليه، وكبت الله المنافقين، وملأ قلوبهم حسرة..
وفى الطريق إلى تبوك مرّ رسول الله ﷺ بالحجر من ديار ثمود، فأمر أصحابه ألا يشربوا من مائها، وألا يتوضئوا منه للصلاة.. ثم سجّى- صلى الله عليه وسلم- ثوبه على وجهه، وحثّ راحلته، ثم قال:
«لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون، خوفا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم».
وكان أبو ذر- رضى الله عنه- ممن تخلف عن ركب رسول الله، إذ لم يكن قد أتمّ جهازه، وأبطأ به بعيره عن اللحاق بالركب..
وكان الناس يذكرون لرسول الله ﷺ ناسا تخلفوا فى الطريق.. فيقولون فلان تخلف.. فيقول الرسول: «دعوه.. فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه.».
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أباذرّ» فلما تأمله القوم، قالوا يا رسول الله: «هو والله أبو ذرّ» فقال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أباذر..
يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
وفى تبوك أقام النبي ﷺ بضع عشرة ليلة، انجحر فيها الروم إلى مسالحهم وقراهم.. وفتح الرسول، دومة الجندل، فتحها له خالد بن الوليد، وجاء بصاحبها مستسلما لرسول الله، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية..
وسنعرض بعض أحداث هذه الغزوة عند تفسير بعض الآيات التي نزلت فيها..
قوله تعالى: «وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ».
هذه الآية تكشف عن وجه من وجوه الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك، وقدّموا بين يدى رسول الله أعذارهم الكاذبة..
فهؤلاء الذين تخلّفوا لم يكونوا على نيّة الجهاد فى سبيل الله، وأنهم لو كانوا على تلك النية لأعدّوا للجهاد عدّته، ولأخذوا له أهبته، حتى إذا دعا الداعي إليه، كانوا وكان بين أيديهم أدوات الجهاد وعدّته.. ولكنهم لم يكونوا أبدا على نية الجهاد، بل كانوا على كره قائم فى نفوسهم له، فكره الله انبعاثهم، وانطلاقهم مع المجاهدين، ولهذا ثبّطهم عنه، وحلّ
والانبعاث: الانطلاق فى خفّة ونشاط، وفى التعبير عن كراهية الله سبحانه وتعالى لخروج هؤلاء المنافقين، للجهاد- فى التعبير عن ذلك بالانبعاث، وهو الانطلاق، إشارة إلى أن ذلك هو الذي ينبغى أن يكون من المجاهدين فى وجهتهم نحو العدوّ، وهؤلاء المنافقون لم يكن منهم مجرد الحركة، فضلا عن الانبعاث، ولو كان منهم ذلك لما رضيه الله منهم، ولا جعلهم فى المجاهدين، لفساد نياتهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ».
ففى هذه الآية ما يكشف عن الحكمة فيما كان لله من تدبير، فى تثبيط هؤلاء المتخلفين، وعزلهم عن جماعة المجاهدين.. فلو أنهم خرجوا مع المسلمين، وهم يحملون هذا الداء الخبيث المتمكن فيهم، لأفسدوا على المسلمين أمرهم، ولأدخلوا عليهم الوهن والضعف فى لقاء عدوهم: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» أي اضطرابا وفسادا، «وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ» أي لسعوا سعيا حثيثا بينكم بالفتنة.. والإيضاع: ضرب من السير السريع للإبل، وخلال الشيء:
الفجوات التي فى كيانه.
وفى قوله تعالى: «ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» إشارة إلى أن الجماعة الإسلامية التي ضم عليها ركب المجاهدين إلى تبوك، لم تكن كلها على السلامة والعافية فى إيمانها، وعزمها على الجهاد، بل كان فيها عدد غير قليل من المنافقين وأشباه المنافقين، ومن فى قلوبهم مرض.. خرجوا مع المجاهدين على كره..
وفى قوله تعالى: «وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ» إشارة إلى ما كان فى جيش المسلمين من أصحاب النفوس المريضة، والقلوب الفاسدة، حيث يعطون أسماعهم لقالة السوء، ويمنحونهم الثقة والاطمئنان، وحيث يصادف نفاقهم هوى عندهم.
وفى قوله سبحانه: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» تهديد ووعيد لمن كان على نفاق ومكر بآيات الله.. حيث لا يخفى على الله ما تكنّ صدورهم من نفاق، وما تنعقد عليه نياتهم من سوء، وإنهم بهذا قد ظلموا أنفسهم، وأوردوها موارد الهالكين.
قوله تعالى: «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ».
إشارة إلى ماضى هؤلاء المنافقين، وأنهم لم يستقيموا على طريق الإسلام أبدا.. وأنهم فى كل موقف يتعرض فيه الإسلام لامتحان، كانوا حربا خفية عليه، إلى جانب الحرب الظاهرة التي يلقاه بها أعداؤه لقاء مباشرا.. فكانوا يضربون فى جبهة المسلمين بالفتنة، وتقليب الأحداث، وإثارة الدّفين من الثارات القديمة فى الجاهلية..
وقوله سبحانه: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ».. يكشف عن وجه من وجوه المنافقين، الذين دعوا إلى الجهاد فى سبيل الله، فقال قائلهم معتذرا بهذا العذر الصبيانى الكذوب: «لا تفتنّى» بالغزو فى بلاد الروم، وبما يقع تحت نظرى من نساء الروم.. «أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا» حين خرجوا بهذه القولة الكاذبة عن أمر الله، فحق عليهم غضب الله.. وتلك هى الفتنة، وذلك هو البلاء، الذي ليس لصاحبه من نجاة.. «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ».. وهؤلاء المنافقون هم كافرون، بل أشد كفرا من الكافرين.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً».
قوله تعالى: «إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ».
وهذه حال من أحوال المنافقين مع المؤمنين.. إنهم يتربصون بالمؤمنين وهم على طريق الجهاد، فإذا عاد المسلمون بالنصر والغنيمة اغتمّوا، وحزنوا، وعلاهم الخزي والهوان.. وإن وقع بالمسلمين سوء فرحوا فرحتين: فرحة لأن المسلمين قد أصيبوا، وفرحة لأنهم هم لم يكونوا فى هذا الوجه الذي وقع للمسلمين فيه ما وقع من بلاء.. ثم يدعوهم هذا إلى أن يحمدوا لأنفسهم بعد نظرهم، وتقديرهم للأمور.. حيث سلموا وكان من شأنهم أن يعطبوا لو أنهم استجابوا لما دعوا إليه.. «وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ».. أي أخذنا حذرنا، ونظرنا إلى عواقب الأمور، ورأينا بحسن تقديرنا ألا نشارك فى هذه الحرب التي يتجه إليها
وقد ردّ الله عليهم هذا الردّ الذي أمر المسلمين أن يلقوا المشركين به..
فقال تعالى: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» أي إن الذي تنتظرونه فينا لا يخرج عن أمرين، كلاهما نعمة عندنا، ورحمة من الله ورضوان.. إما أن نظفر ونغنم، وإما أن نستشهد فى سبيل الله، وننال رضوانه، وننزل منازل الشهداء عنده..
وفى الحديث: «تكفل الله تعالى لمن جاهد فى سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد فى سبيله، وتصديق كلمته، أن يدخله الجنة.. أو يرجعه إلى سكنه الذي خرج منه، مع ما ناله من أجر وغنيمة».
أما المسلمون فإنهم ينتظرون فى المنافقين العذاب الذي لا بدّ أنه واقع بهم، إما على أيدى المسلمين فى هذه الدنيا بأن يقتلوهم، ويستولوا على أموالهم وديارهم، وإما أن يموتوا على ما هم عليه من نفاق، فيلقاهم الله بالعذاب الأليم الذي أعدّه لهم.. «وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا.. فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ».
الآيات: (٥٣- ٥٧) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٧]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
ردّ المنافقين، الذين أرادوا أن يدخلوا فى صفوف المسلمين، بما يقدمون من مال ومتاع- ولم يقبل سبحانه من أولئك المنافقين الذين فى قلوبهم مرض ما قدموا من مال أو متاع.. لأنهم لم ينفقوه فى سبيل الله وابتغاء مرضاته، وإنما أنفقوا ما أنفقوا مداراة لنفاقهم، وسترا لما فى قلوبهم من ضغينة وحقد على الإسلام، فهم بهذا المال الذي أنفقوه، يجدون وجها يعيشون به بين المسلمين، فيأخذون فرصتهم فى بث سمومهم بينهم.. وقد فضحهم الله، وردّ كيدهم، ورجمهم بالمال الذي قدموه!! وفى قوله تعالى: «قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ» تيئيس لهؤلاء المنافقين من أن يتقبل الله أعمالهم، وأن يجزيهم جزاء العاملين المحسنين.. لأنهم لا يؤمنون بالله إلا على حرف، ولا ينفقون ما ينفقون فى سبيل الله إلّا على خوف وتكره.. وحتى لو أنفقوا عن تطوع ورضى- وهذا غير واقع منهم- فلن يتقبل الله ما أنفقوا، «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» فكيف إذا كان إنفاقهم عن نفاق، لا يريدون به وجه الله؟ إنهم لن يكونوا من المقبولين أبدا.. إنهم كانوا قوما فاسقين.
وقوله سبحانه: «وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ» - هو
وإذا كان المنافقون على هذا الكفر بالله وبرسوله، فإن ما يأتون من أعمال المؤمنين فى ظل هذا النفاق المتمكن من قلوبهم، إنما يأتونه رياء، ونفاقا، حتى لا يفتضح نفاقهم، وينكشف المستور من كفرهم..
فهم إذا اقتضاهم الحال أن يصلّوا لم تكن صلاتهم ولاء لله، واستجابة لأمره، وإنما هو ثوب من أثواب النفاق يلبسونه إلى حين.. ومن هنا كانت صلاتهم باردة فاترة، لا تتصل بها نبضة قلب، أو هزّة وجدان! «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى».
وكذلك الشأن فيما ينفقون فى سبيل الله.. إنهم لا ينفقون عن إيمان بالله، وبرسوله، وبالجهاد فى سبيله.. ولكنهم ينفقون حين لا يكون بد من الإنفاق..
حتى لا ينفضح أمرهم، وينكشف نفاقهم.. «وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ».
وفى قوله تعالى: «وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ» تحريض لهؤلاء المنافقين على التخلص من هذا النفاق الذي يقف لهم بالمرصاد على طريق الوصول إلى الله بما يقدّمون من أعمال: «وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ..»
فالمفروض فى كل من يعمل عملا أن يجنى ثمرته.. وهؤلاء المنافقون يعملون أعمالا كان من شأنها أن تثمر ثمرا طيبا.. ولكن هناك آفة خطيرة تتسلط على
فإذا كان بالمنافقين حاجة إلى أعمالهم تلك، وإلى الثمرة المرجوّة منها، فعليهم أن يحاربوا هذا النفاق، الذي يمنعهم أن ينالوا ثمرا مما يعملون..
قوله سبحانه: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ».
تبين هذه الآية الكريمة أن جناية النفاق على أهله ليست واقفة عند حدّ..
فهو إذ يفسد على المنافقين كل ما يبدو أنه متصل بما يقرّب إلى الله، من عبادات وقربات، كذلك هو مفسد لكل ما هو متصل بحياتهم الدنيوية، مما يجمعون من أموال، وما يستكثرون من أولاد.. فهذه الأموال التي يجمعونها، ويشقون فى جمعها، وهؤلاء الأولاد الذين يعملون لهم، ويكدحون فى الحياة من أجلهم- إنما هى مصادر شقاء لهم، وبلاء عليهم، حيث تبدو جميعها فى ظل الكفر بالله أنها ظل زائل، سرعان ما ينفضون أيديهم منه، إذا هم فارقوا هذه الدنيا، وصاروا ترابا فى التراب.. إنهم لا يؤمنون بحياة أخرى وراء هذه الحياة، تتصل بها حياتهم، ويجدون فيها شيئا من ثمرة أعمالهم.. ومن هنا تتضاعف حسرتهم على هذا المال الذي جمعوه، وعلى هؤلاء الأولاد الذين لن يلتقوا بهم بعد الموت أبدا.. وعلى خلاف هذا شعور المؤمنين بالله واليوم الآخر.. إنهم لا يحزنون على فائت فى هذه الدنيا، لأن أنظارهم ممتدة على طريق أفسح من طريق هذه الحياة، وقلوبهم معلقة بحياة أكرم وأطيب وأخلد من تلك الحياة..
فإذا فاتهم شىء من هذه الدنيا كان لهم فيما يرجون من الله ما يغنى عن كل فائت..
ومن أجل هذا لم يكن الموت عند المؤمنين بالله واليوم الآخر، شيئا
أما الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. فإن للموت عندهم رهبة رهيبة، مسلطة عليهم مع كل نفس يتنفسونه فى هذه الدنيا.. فما الموت عندهم إلا الفناء الأبدى، والضياع فى تيه العدم، والغرق فى بحر الظلام الأبدى «.. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ»..
فهذا هو العذاب الدنيوي، الذي يعذّب به الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. وإنما يعذّبون بأيديهم، وبما يجمعون من مال، وما يستكثرون من أولاد، وأنهم كلما كثر مالهم، وكثر أولادهم، كلما اشتد عذابهم، وتضاعف بلاؤهم.. «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا».. فهم لهذا أحقّ بالرثاء، منهم بأن يكون موضع قدوة وإعجاب! وقوله تعالى: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» - هو عطف على قوله سبحانه: «لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا».. بمعنى أن هذا الذي فى أيديهم من كثرة الأموال والأولاد، إنما جعله الله ليكون مصدر عذاب وبلاء لهم فى الدنيا، ولتزهق أنفسهم وتخرج من هذه الدنيا على كره، وهم فى لجاج فى الكفر، وإغراق فى الضلال.. إذ لم يدع لهم تعلقهم بالأموال والأولاد فرصة يفكرون فيها فى الله، وفى الإيمان به، واليوم الآخر.. فكل همهم هو هذه الأموال، وأولئك الأولاد، فإذا نزل بهم الموت اشتد كربهم وأمسكوا بالحياة فى ذعر وجنون..
قوله تعالى: «وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ» من نفاق المنافقين مع أنفسهم، أنهم يحلفون للمؤمنين أنهم منهم، لأنهم
وما أكثر الأيمان التي تجرى على ألسنة المنافقين.. إنها هى الطلاء الذي يطلى به كذبهم، ويزيّف به نفاقهم، حتى يروج، عند من تغرّه ظواهر الأمور، ولا يستشف ما وراءها..
وقد ردّ الله عليهم بأنهم ليسوا من المؤمنين.. لأن المؤمنين لا يخافون أبدا، لما فى قلوبهم من إيمان بالله، وثقة بما عنده، واطمئنان لما يقضى به فيهم.. فإن أصابهم خير لم يطيروا به فرحا، وإن أصابهم بلاء لم يجزعوا له فرقا وخوفا..
الموت والحياة عندهم سواء، والغنى والفقر لديهم أشباه، والسّرّاء والضّراء عدلان.. كل من عند الله..
أما أهل الكفر والنفاق، والزيغ والضلال، فهم على خوف دائم، وهمّ مقيم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (١٩- ٢٧: المعارج) فالفرق، وهو الخوف والجزع الذي يعيش فى كيان الكافرين والمنافقين، المكذبين بيوم الدين، هو داء عافى الله المؤمنين منه.. إذ كان إيمانهم بالله سكنا لقلوبهم، وأنسا لأنفسهم، وزادا طيبا يتزودون منه لكل نازلة تنزل بهم، وكلّ حدث يقع لهم..
فانظر كيف فرق الإيمان بين الناس، فى مدركاتهم ومشاعرهم وتصوراتهم، وإن جمعتهم لحمة القرابة والنسب.. فهؤلاء غير أولئك.. فمن كان على الإيمان لا يدخل قلبه همّ أو جزع، ومن كان على غير الإيمان فهو فى همّ وكرب وجزع..
إن هذه الدنيا على سعتها، هى أضيق من سمّ الخياط، فى أعين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.. إذ لا حياة لهم بعدها، ولا رجاء لهم فيما يرجوه المؤمنون بعد الموت.. ومن هنا كانت الدنيا على ما فى أيديهم منها من مال وبنين- هى سجن مطبق عليهم، يقضون فيه أيام حياتهم المعدودة..
كأن فجاج الأرض وهى فسيحة | على الخائف المكروب كفّة حابل |
يؤتى إليه أن كل ثنية | تيمّمها ترمى إليه بقاتل |
والملجأ: ما يلجأ إليه الإنسان، ويلوذ به، ليكون مأمنه مما يخاف..
والمغارات: جمع مغارة، وهى النقرة فى الجبل، تلجأ إليه الهوام والحشرات، فرارا من الخطر الذي يتربص بها فى ضوء النهار..
والمدّخل: النفق فى الأرض..
ويجمحون: أي يفرون ركضا مسرعين..
وهذه المخابئ التي يلجأ إليها هؤلاء الفارّون من وجه الحياة، هى كل ما يمكن أن يتصور الفرار إليه، فى عالم الإنسان، أو الحيوان، أو الهوامّ..
وفى هذا ما يدل على أن المنافقين يلتمسون أي مفرّ يفرّون إليه، ويدفنون وجودهم فيه.. بل وأكثر من هذا.. إنهم فى سبيل الاحتفاظ بالحياة، وفى طلب الفرار من الموت- لا يأنفون أن يكونوا على أية صورة من صور الأحياء، من
الآيات: (٥٨- ٦٠) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
التفسير: النفاق ضروب كثيرة، والمنافقون وجوه متعددة.. وعلى طريق النفاق أنماط مختلفة من المنافقين، كل له لون، بل ألوان، يعيش بها فى الناس، ويلقاهم باللون الذي يناسب الحال الداعية إليه.. فالمنافق هو أمة وحده، بكثرة ما يلبث من وجوه، وما يتخذ من صور وأشكال.
ولهذا نجد القرآن الكريم، يقلّب هؤلاء المنافقين على وجوههم المختلفة، ويعرضهم فى ألوانهم وأزيائهم المتعددة.. فيقول جل شأنه فى أكثر من موضع..
«ومنهم» مشيرا بذلك إلى طائفة من طوائف المنافقين، وفاضحا لفعلة من فعلاتهم.. فهم أكوان وليسوا كونا واحدا، وهم أبعاض من هذا الجسد المتضخم من الفساد والعفن، الذي يضمهم، ويشتمل عليهم.
وفى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ»
فهذا واحد منهم يرى النبىّ ﷺ يقسم غنائم «هوازن» بعد غزوة حنين، ويتألف بها من يتألف من الذين دخلوا فى الإسلام بألسنتهم، ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبهم.. يرى ذلك فلا يستطيع أن يغالب نفاقه، ولا أن يمسك ما انطوت عليه نفسه من اتهام لرسول الله، فيقول- والرسول بين صحابته، وعلى رأس الجيش الظافر الغانم- يقول له: «يا رسول الله اعدل» !..
وهل يتفق قوله: يا رسول الله، ثم قوله لرسول الله: اعدل؟ وهل يكون من رسول الله غير العدل؟ ولكنه جهل الجاهلين، وضلال الضالين! وقائل هذه القولة الفاجرة الآثمة- كما يقول الرواة- هو ذو الخويصرة، واسمه حرقوص بن زهير التميمي..
ولا يجد الرسول ما يقوله لهذا السفيه، إلا تلك الكلمة الوادعة المشرقة:
«ومن يعدل إذا لم أعدل؟».. فأى عدل يبقى فى هذه الدنيا إذا لم يكن إلى يد الرسول ميزان العدل كله؟ وإذا لم يعدل الرسول فمن يعدل بعده؟.
ويهمّ بعض أصحاب رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- بتأديب هذا السفيه الأحمق الجهول..
فيقول لهم الرسول الكريم: «دعوه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم.. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة» !.
وليس ذو الخويصرة هذا- الذي يقال إنه صاحب هذه الكلمة المهلكة- ليس وحده هو الذي كان على هذا الضلال الذي أنطقه بما نطق به، وإنما كان
وإنما نظم ذو الخويصرة وأمثاله فى سلك المنافقين، مع أنّه صرّح بما كان يضمر من كفر وضلال- على حين أن النفاق إنما يكون نفاقا إذا كان صاحبه على ظاهر هو خلاف الباطن- نقول إنه عدّ فى المنافقين هو وأمثاله، لأن النفاق فى الواقع هو كفر مضمر، وكون المنافق يفضحه نفاقه بين الحين والحين، فينكشف منه بعض ما أضمره، لا يرفع ذلك عنه صفة النفاق، فإنه إذا أظهر بعضا من كفره، فإن ما أخفى من هذا الكفر أكثر وأعظم.. وفى مثل هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» (١١٨: آل عمران).. فالمنافق منافق وكافر معا.
واللمز: الغمز الخفيف، وذلك يكون بالإساءة باللسان، بالكلمة الجارحة، تجىء فى خبث ومورابة.. والمنافق لا يأتى البيوت من أبوابها، وإنما يدخل متلصصا..
وفى الذي صنعه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بغنائم هوازن ما خفى على كثير من المسلمين حكمته، فكان لذلك وسواس فى كثير من الصدور، وهمس على الشفاء، وتغامز بالعيون.. حتى لقد عرف ذلك فى الأنصار، الذين هم ما هم فى حساب الإسلام، وفى مجتمع المسلمين.. ولقد قال قائلهم حين أعطى رسول الله ﷺ ما أعطى للمؤلفة قلوبهم، كأبى سفيان، ومعاوية بن أبى سفيان، وعتيبة بن حصن الفزاري، وغيرهم- قال قائلهم: لقى والله رسول الله ﷺ قومه!!.
ولم تكن هذه القولة من بعض الأنصار شكّا فى دين الله، ولا اتهاما
هذا هو الشعور الذي كان مستوليا على الأنصار فى مجموعهم، وإن كان قد حمل عند بعضهم ممن نافقوا فى الإسلام، كعبد الله بن أبىّ بن سلول- على غير هذا المحمل، فكان اتهاما صريحا للرسول، بتعصبه لقومه، وميله إليهم، وإيثارهم على الأنصار، بعد أن دخلوا فى دين الله، وآمنوا برسول الله، وبعد أن دخل الناس فى دين الله أفواجا، ولم يعد الأنصار وحدهم هم حماة هذا الدين وأنصاره، كما يبدو ذلك فى ظاهر الحال.
ولهذا، فقد دعا رسول الله ﷺ الأنصار إليه، وجمعهم حوله، واستخلصهم من بين المسلمين جميعا.. ثم خطبهم- صلوات الله وسلامه عليه- قائلا:
«يا معشر الأنصار! ما قالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها علىّ.. حتى لقد قلتم لقى رسول الله قومه! «أوجدتم يا معشر الأنصار فى لعاعة من الدنيا «١» تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام.
«افلا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير إلى رحالهم، وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم.. ؟
اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا.!»
وهكذا قرت عيون الأنصار، وامتلأت قلوبهم سكينة وأمنا، إذ عرفوا أن رسول الله لن يخلى مكانه من بينهم، ولن يحرمهم هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، وأنهم هم أهل الرسول وأنصاره، وأن بلدهم هى بلده وموطنه! وحسبهم هذا.. ولساعة من رسول الله بينهم خير لهم من الدنيا وما فيها.
وهكذا، كان بيان الرسول صلوات الله وسلامه عليه، شفاء لما فى الصدور، وجلاء للبصائر، فسكنت الوساوس، وقرّت العيون، ولهجت الألسن بالحمد لله رب العالمين.. وهذا البيان الذي كشف به الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما خفى على الناس أمره، هو مصداق لقوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ».. فإن من رحمة الله بعباده المؤمنين إذا طاف بهم طائف من الريب- جاءهم بما يكشف الطريق لهم إليه، ويرفع عن بصائرهم ما تغشاها من شكوك وريب.
قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ».
هو بيان لما ينبغى أن يكون عليه المسلمون جميعا، إزاء كلّ ما يقول الرسول أو يعمل.. وهو الرضا المطلق، والتسليم المطلق، بكل ما يقضى به، فهو- صلوات الله وسلامه عليه- الأمين الذي ائتمنه الله على دين الله، والقيّم الذي أقامه الله على عباد الله، وأنه- صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن
فما أعظم هذا الفضل العظيم، وما أسمى هذا المقام الكريم.. لهذا النبي الذي يحفّه ربّه بهذا الفضل، ويرفعه إلى هذا المقام، الذي يشرف منه مع ربّه على الناس، ويعطيهم من فضل الله ما يرضيهم ويغنيهم.
وما أشقى أولئك الذين يحادّون هذا الرسول، أو يخالفون عن أمره، أو يقع فى نفوسهم ريب فى قول يقوله أو فعل يفعله..
«وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ.. إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ».
وجواب لو هنا محذوف، لدلالة الحال والمقام عليه، وهو أنه لو فعلوا ذلك لكان لهم فى هذا، الخير كله، والفلاح كله.
الزكاة والتكافل الاجتماعى
قوله سبحانه: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» هو بيان مصاحب لما وقع فى نفوس المسلمين من قسمة غنائم هوازن،
وقد اشتمل- هذا البيان فيما اشتمل عليه ممن لهم نصيب فى الصدقات- المؤلفة قلوبهم، الذين كان منهم من تألفه رسول الله ﷺ من غنائم هوازن..
وفى هذا ما يكشف عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- كان فيما فعله فى غنائم هوازن، وفى اقتطاع قدر منها لمن أراد أن يتألف قلوبهم- كان منفذا لأمر الله، ولم يكن فيما قضى به فى ذلك منقادا لهوى أو مؤثرا لقرابة أو صداقة..
وحاشاه، صلوات الله وسلامه عليه.
والآية الكريمة وإن كانت فى بيان مصارف «الصدقات» التي خصصها الفقهاء هنا «بالزكاة» حيث استبان لهم من قوله تعالى، «وَالْعامِلِينَ عَلَيْها» أن ذلك يشير إشارة صريحة إلى أن المراد بالصدقات هو الزكاة، التي لها وحدها من دون الصدقات، عاملون يعملون لتقديرها وأخذها ممن وجبت عليهم هذه الفريضة..
نقول: إن الآية الكريمة وإن كانت فى بيان مصارف الزكاة، فإن ذلك لا يمنع من أن تكون الصدقات كلها، سواء ما كان منها فريضة كالزكاة، أو تطوعا كالإنفاق فى سبيل الله، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وفى كل وجه من وجوه البر- لا يمنع ذلك من أن تكون جميعها محكومة بهذا البيان، موجهة فى هذه الوجوه التي أشارت إليها الآية الكريمة، ودلّت بها على وجوه المصارف التي يصرف إليها المحسنون إحسانهم، وما تجود به أنفسهم، وتقدمه أيديهم من برّ وصدقة.
ومحاربة هذه الآفة- فوق أنه واجب إنسانىّ تفرضه الأخوة الإنسانية، وتقتضيه لحمة النسب بين الإنسان والإنسان- هى حماية للأغنياء أنفسهم، وضمانة لأمنهم وسلامتهم هم، فى أموالهم وأنفسهم، من عادية الفقراء عليهم، والتذرع بكل وسيلة ممكنة، يجد فيها الفقراء منفذا ينفذون منه إلى ما عند الأغنياء، ليشبعوا جوعتهم، وليدفعوا عن أنفسهم خطر الموت جوعا..
فالسّرقة، والنهب، والاغتصاب، والقتل الفردى أو الجماعى.. كل هذا وكثير غيره مما يتولّد عنه- هو مما يراه الجياع المحرمون- إن كان للجائع المحروم أن يرى- حقّا مشروعا لهم، فى الدفاع عن النفس، واتقاء خطر الموت الذي يتهددهم.. إذ ليس عند الفقير المحروم المشرف على الموت جوعا- ما يحرص عليه، غير نفسه تلك، التي يكاد يفقدها، إن هو لم يعمل على إنقاذها، ولو كان ذلك ما يحمله على ركوب كل مهلكة.. فإنه هالك لا محالة، إن هو لم يعمل عملا فى وجه هذا الخطر الذي يتهدده.. وإنه لا بد له أن يعمل بدافع غريزة حبّ البقاء. ولن يكفّ عن العمل مادام فى صدره نفس يتردد..
إن الغريق الذي ابتلعه اليمّ لا يكفّ عن الضرب بكيانه كلّه فى وجه الماء، ضربات محمومة، مجنونة، يائسة، وكأنه بهذا ينتقم لنفسه من اليمّ الذي أوقعه فى شباكه! يقول الإمام الشافعي- رضى الله عنه-: «لا تشاور من ليس فى بيته دقيق، فإنه مولّه العقل». أي شارد العقل، مضطرب التفكير.
فالفقراء خطر يهدد المجتمع من أكثر من وجه..
يهددونه بالخروج على شرائعه السماوية والوضعية، وبالتحلل من كل
ويهددونه بإشاعة البطالة، وسوء استغلال الموارد المتاحة له.. حيث لا يجد الفقير القدرة على العمل، وهو تحت وطأة الجوع والحرمان.. وإذا وجد القدرة فلن يجد بين يديه الوسائل التي تمكنه من العمل.. وفى هذا خسارة يعود ضررها على المجتمع كله، وبخاصة أغنياء المجتمع، الذين يفقدون اليد العاملة القوية التي تعمل لهم، كما يفقدون اليد القادرة على تبادل المنافع معهم..
ومن هنا كان من تدبير الإسلام لمحاربة الفقر، وحماية الفقراء من قسوة هذه الآفة المهلكة- أن فرض على المسلمين الزكاة، وجعلها ركنا من أركان الدين، لمن ملك نصابا معيّنا من المال، وكان من تدبير الإسلام أيضا أن بدأ بالفقراء، وجعل داءهم هو الداء الأول، الذي يتهدد المجتمع، بالضّياع، ويؤذنه بالهلاك.. إن لم تعمل الجماعة جاهدة على محاربة هذه الآفة، ورصد كل قواها للقضاء عليها، وشفاء المجتمع منها..
ثم كان من تدبير الإسلام أيضا فى هذه السبيل، أن دعا إلى البرّ والإحسان، وحض عليه، ووعد المنفقين بالجزاء الجزل، والثواب العظيم.. «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ».
والتكافل بين المسلمين هو ملاك الشريعة الإسلامية.. إذ المسلمون فى حقيقتهم كيان واحد.. كل فرد منهم هو عضو فى الجسد الاجتماعى الكبير..
(وَالْمَساكِينِ) هم الصنف الثاني من الأصناف الثمانية التي جعل الإسلام لكل صنف منها نصيبه فى الزكاة..
وقد اختلف المفسّرون فى التفرقة بين الفقير والمسكين، فقال بعضهم إنهم صنف واحد، والعطف الواقع بينهما هو من عطف البيان.. وقال آخرون: الفقير من يجد قوت يومه، والمسكين من لا يجده، وقال غيرهم عكس هذا.. وقال الأكثرون: الفقير الذي مع فقره لا يسأل، والمسكين هو من يسأل.. إلى كثير من الآراء التي لم تفرق تفرقة واضحة محددة، بين الفقير والمسكين.
والرأى الذي نراه ونستريح إليه، هو أن المساكين، هم صنف قائم بذاته، معروف بصفة مميزة له عن الفقراء.. وهم- أي المساكين- الفقراء من أهل الذّمة الذين فرضت عليهم الجزية.. فهم- والحال كذلك- أشبه بالأرقاء، المكاتبين، الذين فرض لهم فى الزكاة نصيب.. حيث يقول تعالى: «وَفِي الرِّقابِ».
وفى يقيننا أنه ليس فى المسلمين مسكين، وإن كان فيهم الفقير.. لأن المسكين: من المسكنة والذلة والضراعة، ولا يلبس المسلم- مع الإسلام- ثوب المسكنة والذلة والضراعة أبدا، وإن عضّه الفقر، وأضرّ به الضرّ.
وقد ذكر الله تعالى فقراء المسلمين، فقال سبحانه: «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً»
ويقول سبحانه وتعالى: «وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ»..
فقد جمعت الآية بين العبد الرقيق، واليتيم الفقير، والمسكين المترب.
وفقير المسلمين- كما قلنا- لا يكون أبدا على هذا المستوي الإنسانى من الاستكانة، والذلة، والضعف.. بل هو من إيمانه بالله فى عزّة، وقوّة وإن صفرت يداه من الأصفرين «١» ! والذّميون- وهم الذين فى يد المسلمين وذمتهم- من أهل الكتاب، فيهم- كما فى كل جماعة- من هم فى حاجة إلى الصّدقة التي تسدّ مفاقرهم، وتدفع غائلة الحاجة عنهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».. فإذا جعل الإسلام نصيبا مفروضا فى الزكاة لفقراء أهل الكتاب، فذلك من البر الذي دعانا الله إليه نحوهم.. ثم هو من جهة أخرى حماية للمجتمع الإسلامى الذي يعيشون فيه، من آثار هذا الداء- داء الحاجة والعوز- الذي إن سرى فى جماعة أفسدها، وأشاع الفوضى والقلق والوهن فى كيانها.
«وَالْعامِلِينَ عَلَيْها» وهم الذين يوكل إليهم تحصيل الزكاة من أهل الزكاة..
فهم- والحال كذلك- مشتغلون يجمعها، عاملون فى تحصيلها، ومن تمّ وجب أن ينالوا نصيبا منها، يكفل لهم الحياة المناسبة لهم.. حياة تأخذ مكانا وسطا
«وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ» وهم الذين دخلوا فى الإسلام من زعماء العرب، ولم تخلص نياتهم له، ولم تطب نفوسهم به، إذ نزع الإسلام عنهم ما كان لهم من سلطان فى قومهم، وسوّى بينهم وبين عامة الناس.. فهم- والحال كذلك- فى حاجة إلى علاج نفسىّ يزيل ما بينهم وبين الدين الجديد من جفوة.. وفيما كان من تدبير الإسلام فى تألفهم إليه بالمال الذي يخصّهم به دون الناس- فى هذا ما يرضى نوازع السلطان والرياسة عندهم، وذلك من شأنه أن يقيم نظرهم على الدين الجديد، وأن يتيح لهم الفرصة لمراجعة حسابهم معه، فإذا كان ذلك استبانت لهم حقيقة الإسلام، وعرفوا أي دعوة يدعوهم النبىّ إليها، وأي خير يقدمه إليهم فى ثنايا الدعوة، التي تحمل إليهم سعادة الدنيا والآخرة جميعا..
فهذا المال الذي يتألّف به الإسلام تلك الجماعة التي أعماها حبّها للجاه والسلطان عن أن تنظر فى الدعوة الإسلامية، وأن تستمع إلى كلمة الحق التي يؤذّن بها الرسول الكريم فى الناس- هذا المال ليس رشوة يقدّمها الإسلام لتلك الجماعة المتأبية عليه، المزورّة عنه، حتى تسكت عنه، ولا تقف فى سبيله- وإنما الذي قصد إليه الإسلام من هذا، هو أن يروض جماح هذه الجماعة، ويهدىء من ثائرتها، ويطفىء من نار حنقها، وضغنها على الإسلام، حتى تستطيع أن تنظر إليه، وتعرض دعوته على العقل، بعيدا عن دخان الحقد، وضبابه.. وبهذا يكون حكم هذه الجماعة على الدين الذي يدعون إليه، حكما صحيحا، قائما على النظر، والتعقل، والتدبر..
والإسلام لا يريد من الذين يدعوهم إليه أكثر من هذا.. إنهم يريدهم
هذا، ويرى كثير من الفقهاء أن نظرة الإسلام إلى هذا الصنف من ضعاف الإيمان الذين تألفهم الإسلام بالعطاء- إنما كان ذلك فى أول الإسلام، حيث حاجة المسلمين إلى من يكثّر جمعهم، ويسند ظهرهم من الرجال.. ولكن لمّا قويت شوكة الإسلام، وكثرت أعداد المسلمين لم يكن ثمة داع يدعو إلى عملية التأليف هذه، فقد تبيّن الرشد من الغى.. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وإن الله لغنىّ عن العالمين..
وعلى هذا، فقد أسقط القائلون بهذا الرأى فريضة المؤلّفة قلوبهم، من الزكاة، بعد أن قوى الإسلام، كما أسقطوا فريضة من فى الرقاب، وهم الأرقاء المكاتبون، بعد أن انتهى الرقّ.
والذي نراه، أن تأليف القلوب، وشدها إلى الإسلام، والعمل على تعاطفها معه، أمر لازم للدعوة الإسلامية فى حال ضعف المسلمين وقوتهم على السواء.
فتأليف القلوب على الإسلام، وقتل ضغنها عليه، وشنآنها له- هو تدبير حكيم، وسياسة رشيدة، لا تستغنى عنها دعوة جاءت لهداية الناس، وخيرهم، وإسعادهم..
وهو «ثانيا» إذ يجلب للمسلمين قوّة جديدة بإضافة هؤلاء المؤلفة قلوبهم إليه، يدفع عن الإسلام والمسلمين شرّا كان يتربص به، وعداوة كانت تتحين الفرص للنيل منهم.
وإذن، فتأليف القلوب على الإسلام، وسلّ السخائم والأضغان عليه منها، أمر ينبغى أن يكون من سياسة الإسلام دائما، ومن عمل المسلمين، فى كل حال ممكنة لهم، سواء أكان ذلك بالمال أم بغيره مما يتألف الناس، ويسلك بهم مسالك الخير، ويقيمهم على طريق الهدى.. وإن دعوة الإسلام فى صميمها لتقوم على هذا الأساس المتين.. وقوله تعالى لنبيه الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» هو المفتاح الذي وضعته السماء فى يد النبىّ ليفتح به مغالق القلوب، وليتألفها به، ويستولى على مواطن الاطمئنان منها.
وبهذا المفتاح نفسه يستطيع دعاة المسلمين أن ينفذوا بدعوة الإسلام إلى الصميم من القلوب، وإنه لا بأس من أن يرفدوا ذلك بما يرون من بر وإحسان لمن يدخلون فى الإسلام، ليطعموا من ثمر الأخوة الإسلامية، وليفيئوا منها إلى ظل ظليل.
«وَفِي الرِّقابِ».
وهم الأرقاء الّذين كاتبهم مالكو رقابهم على قدر من المال، فى مقابل تخليصهم من الرّق.
فهؤلاء الأرقاء أعضاء ضعيفة، فى جسم المجتمع.. وإنه لكى لا يشيع
وسنعرض بعد شرح هذه الآية لموقف الإسلام من الرق، وسياسته فى تخليص الأرقاء.. إن شاء الله..
«وَالْغارِمِينَ» وهم المدينون، الذي رهقهم الدين، ولم تكن لهم موارد يؤدون منها الدين.. فهذه الجماعة التي ركبها الدين، هى فى معرض الضّياع، أو الانحلال، أو الفساد، إن لم تجديدا رحيمة تمسك بها، وترفع عن كاهلها هذا العبء الثقيل.. الذي هو همّ بالليل ومذلة بالنّهار.
وفى تسمية المدينين بالغارمين، إشارة إلى أن الدّين أيّا كان هو غرم واقع على صاحبه.. لأنه يحمّل المدين عبثا إلى العبء الذي كان يحمله، من ضيق ذات اليد قبل أن يستدين، فهو حين استدان، قد وضع فى يده غلّا جديدا، وأضاف على كاهله حملا فوق حمل. وأن هذا اليسر الذي وجده بعد أن استدان لم يكن إلا أمرا عارضا لا يلبث أن يزول، ويعود الحال به إلى ما كان عليه، بل وأسوأ مما كان عليه.
فالدّين غرم.. هكذا يجب أن تكون نظرة المدين إليه، فلا يقدم عليه إلا عند الاضطرار، وإن أقدم عليه فلا يستدين إلا بقدر ما يدفع الحاجة الملحّة التي تبرّر له مدّ يده للاستدانة! ومن جهة أخرى.. فإن الإسلام إذ وصف الدين بتلك الصفة، وجعله غرما على المدين لا غنما له- فإنه من جهة أخرى حبّب إلى أصحاب الغنى واليسار أن يقرضوا المعسرين من إخوانهم، حتى يحموهم من التعامل بالرّبا.. كما دعا
وقد عرضنا لذلك عند تفسير آية الدّين فى سورة البقرة «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.. الآية».
وفى نظرة الإسلام إلى «الْغارِمِينَ» وفرض نصيب لهم فى الصّدقات، سياسة حكيمة، وتدبير محكم، يريد به الإسلام أن يصحح أوضاع المجتمع الإسلامى، ويقضى على العلل التي تنجم فيه، قبل أن تعظم وتستشرى..
فالمدين الغارم- وهو أشبه بالمفلس- إذا ترك وشأنه، وتلك حاله- لم يستطع الوفاء بقضاء دينه.. وينشأ عن هذا أمور:
منها ضياع مال الدائن، الذي خفّ متطوّعا لإنقاذ المدين، والأخذ بيده فى ساعة العسرة..
والدائن إنما عمل خيرا، ومن حقّه أن ينتظر خيرا لما فعل.. فإذا جاءت عاقبة أمره مع المدين على تلك الصورة، ضاقت نفسه بفعل الخير بعد هذا، وكره أن يدخل فى تجربة جديدة كتلك التجربة..
والإسلام حريص على إشاعة المعروف بين النّاس، وتبادل الإحسان بين أفرادهم وجماعاتهم.. وموقف كهذا الموقف يقبض بد الناس عن الإحسان، ويزهدهم فيه.
ومنها: أن المدين نفسه، إذا ما وصلت به الحال إلى اليأس من قضاء دينه، صغرت نفسه بين الناس، وخفّ ميزانه فيهم.. ثم لا يلبث حتى ينعكس ذلك على نظرته هو إلى نفسه.. ثم يصبح وإذا هو إنسان ساقط المروءة، متعثر الخطا، مضطرب الحياة، ضائع الوجود.
هذا، وقد رأى بعض الفقهاء أن يقيّد الدّين هنا بحيث لا يكون قد استدين للإنفاق منه فى حرام، أو فى سرف وتبذير..
ولا نرى حكمة لهذا القيد الذي يرد على الآية فى إطلاقها، فيضيق دائرة نفعها، ويحجز خيرها المطلق، ورحمتها الواسعة عن أن تنال كل غارم مشرف على الهلاك والضياع..
إن الحكم القرآنى- هنا- يواجه حالا واقعة، ويداوى علّة قائمة، ويستنفذ غريقا مشرفا على الغرق..
وإذ كان الأمر على تلك الصفة، فإنه ليس من الحكمة، ولا من المنطق أن يقلّب الإسلام صفحات هذا الإنسان، ويستعرض تاريخه.. ثم ليحكم أهو أهل لأن يمدّ إليه يده فينقذه، أم يدعه حيث هو ليلقى مصيره المحتوم..
وكلا.. فإن المطلوب، أولا، هو إنقاذ هذا الإنسان، دون نظر إلى أي اعتبار آخر..
فإذا أنقذ، كان من الممكن أن ينصح له، وكان من المرجوّ له أيضا أن ينتصح، وأن يتقبل هذا الإحسان الذي يجىء إليه فى صورة هداية وتبصرة له، بعد أن تلقّى هذا الإحسان الذي أمسك عليه حياته، وأنقذه من وطأة الدين الذي أنقض ظهره! وأكثر من هذا، فإن الإسلام، تكفّل- من بيت المال- بقضاء دين المدينين، ممن يتوفّون، وليس فى تركتهم ما يقضى دينهم..
وإنه بحسب الإسلام أن يقدّم للإنسانية هذه اللفتة الرائعة من لفتاته فى بناء المجتمع، وحياطة بنيانه من دواعى التصدّع والتشقق.. فتلك نظرة من نظراته النافذة إلى الصميم من حياة المجتمع، لا تستطيع الشرائع الوضعية فى أعمق نظراتها أن تحوم حولها.
«وفى سبيل الله».
المراد بسبيل الله هنا، ما ينفق من مال الصدقات فى تجهيز المجاهدين فى سبيل الله، وفى إمدادهم بالعتاد والسلاح والمؤن وغيرها، مما يعين المجاهدين على الجهاد، لتأمين المجتمع، وحمايته من عدوان المعتدين..
«وابن السبيل»..
وهو المسافر، المنقطع عن أهله.. ولا زاد معه..
والمسافر الذي على تلك الصفة، هو إنسان فى معرض الضياع والهلاك، إن لم يجد اليد الرحيمة التي تمتد إليه بالبر والإحسان، فتدفع عنه عادية الجوع التي تهجم عليه، وتريد اغتياله..
وفى جعل بيت المال هو الذي يقوم بهذا الأمر، ويتولّى رعاية أبناء السبيل- فى هذا ضمان موثّق لحماية هذه الطائفة، إذ كان بيت المال بموارده الكثيرة، أقدر على كفالة هذه الجماعة، وتوفير أسباب الحماية لها.. ثم هو- من جهة أخرى- صيانة لكرامة الإنسان، من أن يمدّ يده إلى غيره من الناس، أو أن يستشعر
ومن جهة أخرى.. فإن الإسلام قد نظر نظرة أوسع من هذا، فلم يجعل إلى بيت المال وحده، القيام بهذا الواجب حيال أبناء السبيل.. فقد يكون ابن السبيل فى مكان لا تصل إليه يد «بيت المال».. وقد يكون «بيت المال» ولا مال فيه يتّسع للوفاء بحاجة المحتاجين من أبناء السبيل.
ومن أجل هذا، فقد فرض الإسلام على المسلمين جميعا، القيام بهذا الواجب إذا عرض لهم، وطلع عليهم ابن سبيل أو أبناء سبيل! روى البخاري ومسلم، عن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول الله، تبعثنا «١» فننزل بقوم فلا قروننا «٢»، فما ترى فى ذلك؟ فقال- صلى الله عليه وسلم:
«إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم ما ينبغى للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم «٣» ».
وعنه ﷺ قال: «أيّما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقّا على كل مسلم نصره، حتى يأخذ بقرى ليلته.. من زرعه أو ماله.»
وعن أبى كريمة، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه، فإن شاء اقتضاه «٤»، وإن شاء تركه!».
فإلى هذا الحدّ تبلغ عناية الشريعة الإسلامية ورعايتها للفقراء، والضعفاء،
(٢) أي فلا يقدمون لنا ما يقدم للضيف.
(٣) أي الذي ينبغى للضيوف.
(٤) اقتضاه: أي أخذه الضيف منه.
أي هذا التشريع الذي شرعه الله فى أموال الأغنياء، ثم ردّ هذه الأموال على تلك الجهات، التي بينها الله سبحانه وتعالى فى الآية الكريمة- هذا التشريع، هو فرض محكم فرضه الله على المسلمين، وأوجب عليهم أداءه، على هذا الوجه الذي شرعه.
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
أي أن هذا التشريع الذي شرعه الله سبحانه وتعالى، هو مما قضى به علمه وحكمته.. علمه الذي يحيط بكل شىء، وينفذ إلى كل شىء، ويستولى على كل شىء.. وحكمته المقدّرة لكل أمر، المحكمة لكل تدبير..
فليس بعد قضاء الله قضاء، ولا بعد تدبيره تدبير، ولا وراء حكمه حكم..
من أخذ به اهتدى وأمن، وسعد، ومن عدل عنه، ضلّ وخاب وشقى!
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
التفسير: وهذا صنف آخر من أصناف المنافقين، ووجه من وجوههم المنكرة.. صنف يتخذ من الاستهزاء بالنبيّ والسخرية منه، مادّة يطعم منها فى شراهة ونهم، ليشبع بذلك جوعا مسعورا من الحقد على الإسلام، والشنآن له، وللرسول الذي حمل رسالته.
وقد ضبط القرآن الكريم هذه الجماعة الآثمة، وهى قائمة على هذا الإثم، تلوكه فى أفواهها المنكرة، كما تلوك الكلاب قطعا من العظم الرميم..
فكان ذلك فضحا لهم على الملأ، وخزيا متنقلا معهم فى كل مكان، ينادى عليهم بالذلة والمهانة والصغار! يقولون- خرست ألسنتهم- عن النبي الكريم: هو «أذن» أي يعطى أذنه لكل قائل يلقى فيها ما يقول له! فكلمات النفاق الكاذبة التي يلقونها بين يدى النبىّ، ويحلفون عليها كذبا وزورا- هذه الكلمات يخيّل إليهم أن النبىّ الكريم- إذ يقبلها منهم، أو يسكت عليها فلا يبهتهم بها- أنه يحمل كلماتهم الكاذبة المنافقة تلك، محمل الصدق، ولهذا فهم يقولون فى النبىّ هذا القول المنكر: «هو أذن» فحين آذن النبىّ الكريم المسلمين بغزوة تبوك، وندبهم جميعا إلى الجهاد
وماذا يكون من النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- حيال هؤلاء المعتذرين عن الجهاد، غير الذي فعله معهم؟ إذ تركهم لشأنهم، وأعفاهم من مئونة الجهاد مع المجاهدين؟.
وماذا كان غناء أمثال هؤلاء المتكرهين للجهاد، إذا هم حملوا عليه حملا، وأخذوا به قسرا؟ أمثل هؤلاء يكون للمسلمين منهم قوة ينتفع بها فى هذا المجال؟.
إن الجهاد فى سبيل الله قرية من أعظم القربات إلى الله.. والقربات إنما لكى تقع موقعها من القبول عند الله سبحانه وتعالى- ينبغى أن تكون عن تطوع واختيار، وعن استعداد للتضحية والفداء، بل وعن اشتهاء للتضحية والفداء! إن هؤلاء المتكرهين للحرب، المؤثرين للسلامة والعافية فى أنفسهم، على الجهاد فى سبيل الله، والاستشهاد فى سبيل الله- هؤلاء هم أشدّ على المجاهدين بلاء من العدو الذي يلقونه فى ميدان القتال.. إن هؤلاء المنافقين هم صوت الهزيمة الذي يندسّ بين المجاهدين، وإنّهم لهم السلاح الخفىّ للعدوّ يضرب به فى جبهة المجاهدين.. ولهذا، فقد كان ما فعله النبىّ، من عزل هذه الجماعة المثبطة، عن الجيش المجاهد- كان ذلك هو الحكمة فى صميمها، ولهذا جاء قوله تعالى:
«لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ» - جاء مؤيدا لما رآه الرسول فى هؤلاء المعتذرين، حيث
ولا ينقض هذا التأييد السماوي لرأى النبىّ فى هؤلاء المعتذرين، ما جاء من عتاب للنبىّ من الله سبحانه وتعالى فى قوله جلّ شأنه: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ».
فهذا العتاب، هو- فى الواقع- مدح للنبىّ، ورضى كريم عنه، على حين أنه فضيحة لهؤلاء المعتذرين، وكشف لنفاقهم..
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على هؤلاء المنافقين بما يكبتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا.. فقال جلّ شأنه: «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ».
ففى قوله تعالى: «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» أمور:
منها: أن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، هو المأمور بتبليغ هذا الرد السماوي، بقوله تعالى: «قل».. وفى هذا تكريم للنبىّ، بوضع هذا السلاح السماوىّ فى يده، ليضرب به فى وجه هؤلاء الذين آذوه بهذا المنكر من القول الذي قالوه عنه..
ومنها: الإشارة إلى النبىّ الكريم بضمير الغيبة «هو» وظاهر النظم يقضى بأن يكون النبىّ هو المتحدّث عن نفسه.. هكذا: قل إننى أذن خير لكم» - وفى هذا إشارة إلى أن الذي يتولى الدفاع عن النبىّ، هو الله سبحانه وتعالى، وأنه إذا كان النبىّ فى غير محضر من هؤلاء الذين يقولون فيه هذا القول المنكر، فإن الله سبحانه وتعالى، هو وليّه، وهو الذي يدافع عنه، ويفضح المتآمرين عليه..
«قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ».. فكيف هذا، وهم فى معرض العقاب والتقريع؟.
والجواب على هذا- والله أعلم- أنه عليه الصلاة والسلام مبعوث بالهدى والرحمة، وأنّ أذنه التي يعيبها أولئك المنافقون بتصديق ما يلقى إليها من أخبار، هى أذن خير، ووعاء رحمة، تتلقى ما ينزل إليها من كلمات الله وآياته، فتنقله إلى الناس، وتؤدّيه لهم كما سمعته..
فأذن الرسول، هى وعاء خير خالص للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم، ذلك أن الرسول يؤذّن بكلمات ربّه التي سمعها من الرّوح الأمين- يؤذّن بها فى الناس جميعا.. فمن سمع وعقل ووعى، فقد أخذ لنفسه بحظها من هذه الخير العام وتلك الرحمة الشاملة، ومن أصمّ أذنيه، وأعرض عن آيات ربّه، فقد حرم نفسه الخير كلّه، وأوردها الضلال والهلاك..
فلو أن هؤلاء المنافقين استمعوا لكلمات الله، ولم يمكروا بها، لكان لهم من ذلك الخير كلّ الخير.. ولكنهم نافقوا، ومكروا، فمكر الله بهم، وحرمهم أن ينالوا من تلك النعمة شيئا..
وقوله سبحانه: «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» بيان لقوله تعالى: «أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» يكشف عن صفات هذا الرسول الكريم، الذي يقول فيه المنافقون هذا القول المنكر.. أي أنه عليه الصلاة والسلام، أذن خير للناس جميعا.. يسمع كلمات الله فيصدّقها ويؤمن بها، ويسمع ما يحدّثه به المؤمنون فيصدّقهم، لأن من شأن المؤمن ألّا يكذب..
ثم هو عليه الصلاة والسلام، رحمة للمؤمنين، الذي صدّقوا الرسول وآمنوا بما جاءهم به من عند الله سبحانه وتعالى..
قوله سبحانه: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هو تهديد ووعيد لأولئك المنافقين، الذين يؤذون رسول الله بتلك الكلمات المنكرة، التي يصفون بها الرسول هذا الوصف الشنيع، ويتطالون بها على مقامه الكريم، فى غير حياء من دين أو خلق.
فهؤلاء قد أعدّ الله لهم عذابا أليما، انتقاما منهم لرسول الله، وجزاء وفاقا لهذا العدوان الآثم على مقامه الكريم..
قوله تعالى: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ» هو تسفيه لموقف هؤلاء المنافقين الذي يتخذونه من المؤمنين، حين يجيئون إليهم معتذرين، عما شاع عنهم من قولهم المنكر فى رسول الله.. فهم يدفعون عن أنفسهم هذا الاتهام الذي يتهمهم به المؤمنون، بالحلف كذبا أنّهم ما قالوا شيئا يمسّ رسول الله.. وهم فى هذا كاذبون منافقون.. لأنهم لو كانوا مؤمنين حقّا لكان أول ما يعنيهم من أمرهم، هو براءة ساحتهم عند الله، وذلك بإخلاص إيمانهم، وسلامة قلوبهم، وإخلاء ضمائرهم من النفاق الذي يموج فيها.. فلو أنهم فعلوا هذا لكانوا مؤمنين حقّا، ولرضى الله عنهم ورسوله، ولما كان بهم من حاجة إلى استرضاء المؤمنين والحلف لهم، لأن المرء إذا لم يكن متّهما عند نفسه، لا يجد داعية إلى دفع اتهام هو منه برىء، كما لا يجد داعية إلى الحلف، إن هو أراد دفع هذا الاتهام..
وفى مخالفة النظم فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ»
ولو جاء النظم على ما يقتضيه ظاهر السياق، فجاء هكذا: «والله ورسوله أحقّ أن يرضوهما..» - لكان من معنى هذا، أن لله سبحانه وتعالى ما يرضيه من عباده، وأن للرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما يرضيه منهم، وأن هذا الذي يرضى الله، وذلك الذي يرضى الرسول، قد يتفقان، وقد يختلفان..
أما الذي جاء عليه النظم القرآنى، فإنه لا يدع مجالا لهذا الاحتمال، بل يجعل التوافق تأمّا مطلقا، بين ما يرضى الله، ويرضى رسول الله.. وفى هذا- فوق أنه تكريم للرسول، وتنويه بقدره، وتشريف للرسالة الكريمة التي يحملها- هو إعجاز من القرآن، فى إحكام نظمه، وصدق أدائه، ووزن كلماته وحروفه، بمعيار لا تستطيع قوة بشريّة أن تمسك به، لدقّته، وعلوّه عن مستوى الحواس والمدركات.
ومن جهة أخرى، فإنه لو عاد الضمير على الله والرسول معا، لكان فيه إخلال بمقام الألوهية، وتسوية الخالق بمخلوق من مخلوقاته، والله سبحانه وتعالى منزّه عن أن يشاركه فى جلاله بشر، ولو كان أكرم الخلق عليه!. فاقتضى هذا المقام أن يجىء الضمير مفردا، يعود إلى الله سبحانه، وكفى الرسول الكريم شرفا أن يجىء تابعا لله سبحانه فيما يرضيه.. وعلى هذا جاء قوله تعالى:
«وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» ولم يجىء النظم هكذا: «أن الله ورسوله بريئان من المشركين..»
فهذا وذاك على سواء.
وليس لمن يحارب الله ورسوله، إلّا أن يصلى عذاب الله، ويأخذ مكانه فى جهنّم خالدا فيها.. وذلك هو الخزي العظيم للمنافقين، حين يساقون إلى جهنّم، ويدعّون فيها دعّا، على حين تفتّح أبواب الجنات للمؤمنين، الذين أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا دينهم له، فلم تحمل قلوبهم نفاقا، ولم تجر على ألسنتهم كلمة منافقة.
الآيات: (٦٤- ٧٠) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٤ الى ٧٠]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
قوله تعالى: «يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ».
هو نذير للمنافقين بفضح نفاقهم على الملأ، وكشف ما بيّتوا من نفاق..
بل إن الأمر لأكثر من هذا، فقد فضح الله كثيرا من المنافقين، ونزلت آيات الله تحدّث بما كان يسرّ به بعضهم إلى بعض، بل، وبما كان لا يزال مضمرا من السوء فى صدورهم، لم يطلع عليه أحد، بعد! ومن هنا كان بلاء المنافقين، وكان الخوف الذي يطلّ عليهم من حيث لا يحتسبون.. فالله سبحانه وتعالى مطلع على ما يدور بينهم، عالم بما يجرى فى خواطرهم.. ومحال أن يفلتوا من الفضيحة..
وأمر واحد هو الذي يضمن لصاحبه الأمن والسلامة، من هذا البلاء المبين، وهو أن يتخلّص من النفاق جملة، وأن يخلّص إيمانه من كل شائبة نفاق، وعندها يجد الإنسان أن سرّه وعلانيته على سواء، وأنه لا يسوؤه بحال أبدا أن ينكشف للناس باطنه، كما انكشف لهم ظاهره! وفى قوله سبحانه: «قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ» - تهديد
ومن هنا ندرك السرّ فى هذا الصفاء الروحىّ، الذي كان عليه صحابة رسول الله، وتلك العظمة الإنسانية التي اشتملت عليها نفوسهم، والذي كان من آثاره ما شهدته الحياة- وربما لأول مرة ولآخر مرة أيضا- من مجتمع مثالىّ، يحكمه وازع الضمير، ويقوم فيه مقام السلطان القاهر، الذي يتسلط على كل نفس، ويأخذ على كل جارحة؟
وفى قصتى «ما عز» والمرأة الغامدية شاهد مبين، يحدّث بأن المجتمع الإسلامى فى عهد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان تحت مراقبة سماوية تتكشف للناس منها سرائرهم، كما تتكشف لهم صور المرئيات على المرايا العاكسة، فإن عمى الإنسان عن أن يرى نفسه فيها، رآه الناس من حوله، من قريب وبعيد! وتتلخص قصة ما عز بن مالك، فى أنه قد غالب شهوته فغلبته، فأتى
ففزع إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، يطلب النجاة عنده.. فقال:
يا رسول الله. طهرنى.. فعرف الرسول أنه جاء ليقام عليه حدّ الزّنا، وهو الرجم، إذ كان «ما عز» محصنا.
فقال الرسول الرحيم: «ويحك.. ارجع، فاستغفر الله، وتبّ إليه!» فرجع غير بعيد.. ثم جاء فقال: يا رسول الله.. طهرنى..
فقال صلوات الله وسلامه عليه: «ارجع، واستغفر الله، وتب إليه..»
فرجع، ثم عاد فقال: يا رسول الله طهّرنى.!
فقال الرسول الكريم: «ارجع واستغفر الله وتب إليه».
فرجع، فقال: يا رسول الله طهرنى..
فقال صلوات الله وسلامه عليه: ففيم أطهّرك؟
فقال: من الزّنا..
فقال صلى الله عليه وسلم. «أيه جنون؟».. فأخبر أنه ليس بمجنون..
فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فشمّه، فلم يجد ريح خمر! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ قال: نعم:
فأمر به.. فرجم! أما المرأة، فهى من «غامد» وغامد هذه بطن من بطون الأزد، والأزد قبيلة عربية معروفة..
جاءت هذه المرأة إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وقد فعلت الفاحشة، ولم
فطهرنى! فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فلما كان الغد جاءت، فقالت يا رسول الله: لم تردّنى؟ لعلك أن تردّدنى كما ردّدت ماعزا؟
«فو الله إنى لحبلى! فقال النبي الكريم: «أما الآن فاذهبى حتى تلدى» فلما ولدت أتته بالصبي فى خرقة.. ثم قالت: هذا قد ولدته! فقال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» فلما فطمته، أتت بالصبي فى يده كسرة خبز، ثم قالت: «هذا يا نبى الله قد فطمته، وقد أكل الطعام.. فدفع النبىّ إلى رجل من المسلمين..
ثم أمر بها فرجمت..
ووراء هذه القصة أكثر من آية معجزة من آيات السموّ الإنسانى، وعظمة الإنسان، حين يسكن الإيمان قلبه، ويملأ كيانه، فلا يخاف غير الله، ولا يطمئن إلا باللّجأ إليه والاستسلام له..
ونحسب أننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن ما عزا والغامدية، لم يكن منهما هذا الإصرار العنيف على فضح أمرهما، بعد أن ستر الله عليهما- إلّا خوفا من فضيحة مهلكة، يتنزل بها القرآن فى شأنهما، فتكون لعنتهما على لسان كل قارئ للقرآن إلى يوم الدين.. فهما إذ يطلبان الموت، وإذ يجدان هذه الحرارة فى الإقدام عليه، واستساغة طعمه- إنما ليهربا من تلك السياط الملتهبة التي تتساقط عليهما بنذر الفضيحة، التي يشهدها الوجود كله، على امتداد الزمن، إلى يوم النّشور! وطبيعى أن ذلك الشعور الذي تسلط على ما عز والغامدية، والذي أراهما
ولكن- مع هذا- لم يكن للنفاق ولا للمنافقين أثر فى حياة المجتمع الإسلامى، الذي تركه الرسول، بعد أن أزاح تلك العلل التي كانت مستولية عليه، وسلك به مسالك الهدى والتقوى.. فما يكاد يظهر فى المجتمع انحراف، أو يطلّ عليه وجه منحرف، حتى تنكره الحياة كلها من حوله، وحتى ليأخذ المجتمع عليه كل سبيل للإقامة على هذا الانحراف، أو الإفلات من العقاب الراصد له..
ولقد تركت هذه التجربة أثرها فى نفوس المؤمنين، الذين عاشوا فى عهد النبىّ، ثم امتدّت بهم الحياة بعد النبىّ.. إذ أحسوا بهذا الفراغ الذي خلّفه فراق النبىّ الكريم لهم، كما استشعروا تلك الوحشة، من انقطاع الوحى
لقد كان المسلمون فى عهد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- تحت مراقبة دائمة، يؤمنون معها من أن يدخل عليهم حلل، دون أن يشعروا به، ويعرفوا مكانه فيهم، فيما ينزل من آيات القرآن الكريم، مما يتلبس به الأفراد..
وأما وقد مات الرسول، وانقطع الوحى، فإنه لم يعد للمؤمن ما يعرف به حقيقة إيمانه، إلا بأن يعرض نفسه على كتاب الله، وسنة رسوله، وإنه على قدر قربه أو بعده منهما، يكون حظه من الإيمان، ومكانه من المؤمنين..
وبهذا صار إلى المؤمن أمر دينه، كما صارت إليه حراسته من كل آفة تعرض له، دون أن ينبّه إلى ذلك، أو يلفت إليه..
روى أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، كان يمضى إلى بيت حذيفة بن اليمان، ويقول له: يا حذيفة.. أنت صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فانظر ما فىّ من النفاق، فعرفنى به!! فيقول حذيفة: والله يا أمير المؤمنين ما أعلم فيك نفاقا.. فيقول: انظر وحقق النظر! فيبكى حذيفة، ويبكى عمر رضى الله عنهما، فلا يزالان يبكيان حتى يغشى عليهما..
ومن هنا ندرك السرّ فيما كان من التفات الدعوة الإسلامية إلى هذا المرض الخبيث- مرض النفاق- ورصد تحركاته فى المجتمع الإسلامى، وفضح أهله. وكشف وجوههم للملأ، حتى يأخذ المؤمنون حذرهم منهم، وحتى لا تصيبهم عدواه، الأمر الذي إن فشا فى الناس، أفسد عليهم حياتهم، وأراهم
«إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» أي لم نكن جادّين فيما كنا فيه، وإنما هو لعب وعبث، ومفاكهة! وهكذا المنافق.. لا يجد ما يستر به نفاقه إلا الكذب.. فهو كدب يستر كذبا، ونفاق يدارى نفاقا..
وقد أمر الله سبحانه نبيه الكريم أن يردّ عليهم زعمهم هذا، وأن يسفّه باطلهم الذي هم فيه، وأن يفضح عذرهم المفضوح الذي اعتذروا به.. «قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟».. أفهذا مقام يخوض فيه الخائضون ويلعب اللاعبون؟ إنه لعذر أقبح من ذنب! قيل إن جماعة من المنافقين الذين كانوا فى غزوة تبوك مع المسلمين، وقد كانوا يذيعون فى الناس أحاديث يسخرون فيها من النبىّ وأصحابه، ويقولون فيما يقولون: إن محمدا وأصحابه لن يثبتوا للروم، وما هم إلا غنيمة باردة ليد الروم إذا التقوا بهم.. وقد كشفهم الله سبحانه وتعالى للنبىّ، وأراه وجوههم،
وفى قوله سبحانه: «إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ»..
فالذين يتوبون إلى الله، ويرجعون إليه من قريب من هؤلاء المنافقين، سليقون من الله سبحانه، عفوا، ومغفرة.. والذين يصرّون على هذا النفاق الذي هم فيه، سيلقون من الله ما أعد للكافرين والمنافقين من عذاب ونكال.. «بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ».. أي بسبب ما كانوا عليه من ضلال، ومحادّة لله ورسوله، الأمر الذي اقترفوا به ما اقترفوا من جرائم وآثام.
قوله تعالى: «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ» هكذا هم المنافقون، وذلك هو مجتمعهم، لا ينضح بغير الإثم والمنكر، ولا يلد إلا البغي والفجور.. «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» أي على طبيعة سواء يجمعهم النفاق، ويؤلف بينهم، من رجال ونساء، حتى لكأنهم أفراد أسرة واحدة، تجمعها لحمة النسب والقرابة، وتؤلف بينها مشاعر الحب والولاء.. وذلك أن المنافق لا يجد المرعى الخصيب الذي يغذّى فيه نفاقه، ويحقق به وجوده، ويرضى فيه مشاعره- إلا فى بيئة منافقة، تتجاوب معه، وتروّج لهذه البضاعة التي يتعامل بها..
ذلك أن بضاعة المنافقين، بضاعة خبيثة، وطعام فاسد عفن، لا تقبله إلا
«يأمرون بالمنكر» ! فلا يكفيهم أنهم يطعمون من هذا الطعام الخبيث، ولا يرضيهم أن يعرضوه على الناس- بل يأمرونهم به، ويحرضونهم عليه، ويزينون لهم تعاطيه..
إنهم لا يهنؤهم هذا الطعام الخبيث العفن، حتى يستكثروا له من الأيدى التي تشاركهم فيه، ومن الأفواه التي تمضغه معهم..
«وينهون عن المعروف» ! فمن دعا إلى منكر وأمر به، وحرض عليه، فهو ناه- ضمنا- عن معروف، صادّ عن خير.. ولكن القوم، لا يقفون عند هذا، بل إنهم حين يدعون إلى المنكر، يقومون بدعوة أخرى، هى تبغيض الحلال إلى الناس، وتزهيدهم فى الخير، وذلك إذا تأبّوا عليهم، ولم يستجيبوا لدعوتهم إلى المنكر..
وحسبهم فى هذا أن يصرفوا وجوه المؤمنين عن الإيمان، ويكفّوا أيديهم عن التعامل بالخير، فذلك إن تمّ لهم كان كسبا للمعركة التي يخوضونها مع المؤمنين، وهو عزل أكبر عدد يمكن عزله منهم عن المعركة، بحيث لا يكونون مع المؤمنين ولا على المنافقين!
إنهم أسخياء كرام، يبذلون- فى تبذير شديد- كلّ منكر، ويجودون بلا حساب، بكل مفسدة وكل ضلال.. أما فى مجال الخير والإحسان، فهم بخلاء أشحّاء، لا تندّ أيديهم بذرة خير، ولا تسخو أنفسهم بعارفة من إحسان! «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» إنهم لا يذكرون الله أبدا، إذ لو ذكروه، لما كان لهم فى عباد الله هذا البلاء الذي يرمونهم به، فى غير حرج أو تأنّم..
إنّهم نسوا الله، فنسيهم الله، وتركهم وما هم فيه من ضلال.. فلو أنهم ذكروا الله لوجدوا فى قلوبهم خشية له، ولكان لهم فى خشيتهم لله ما يمسك بهم عن هذا الضلال الذي يهلكون به أنفسهم، ويهلكون به كثيرا من الناس معهم..
ونسيان الله لهم، هو تركهم لأنفسهم، وحرمانهم من توفيق الله.
«إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ».. أي هم الذين فسقوا عن أمر ربّهم، وخرجوا عن الطريق المستقيم، وركبوا طرق الضلال والهلاك.
قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» هذا هو الجزاء الذي أعدّه الله لأهل النفاق والكفر.. نار جهنم خالدين فيها، لا يتحولون عنها أبدا.. هى حسبهم، أي هى كلّ ما لهم عند الله..
قوله تعالى: «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» هو عرض لصورة أخرى من صور الضالّين والمفسدين، تطلع على هؤلاء المنافقين من ثنايا الزمن الغابر، وترتفع لأبصارهم، ممن كان قبلهم من الأمم السالفة..
إنّهم لن يخلدوا فى هذه الدنيا، كما لم يخلّد من كان قبلهم من الماضين، ممن كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا، وأشدّ قوة، وأمكن سلطانا..
فليست هذه الدنيا دار بقاء وخلود، وليس ما فيها من متاع، إلا ظل زائل، وعرض ذاهب.. ثم يجىء من بعد هذا الحساب، والقضاء والجزاء..
لقد استمتع هؤلاء الذين ذهبوا، بما كان بين أيديهم من مال وبنين، وبما كان لهم من جاه وسلطان.. ثم ذهبوا وذهب كل ما كان لهم، وما كان معهم.. استمتع كلّ «بخلاقه» أي بنصيبه المقسوم له، وبحظه المتاح له، إن كثيرا، وإن قليلا.. ثم انتهى كلّ إلى نهايته، وصار كلّ إلى ما قدّم من خير أو شر.. وقد كانوا أكثر من هؤلاء المنافقين مالا، وأقوى قوة، وأعزّ نفرا..
وهؤلاء المنافقون.. الذين يكيدون للنبىّ، ويحادّون الله ورسوله..
إنّهم ليسوا بدعا فى النّاس، ولن يخرجوا على سنة الله التي خلت فى عباده.. فلن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا.. وإنهم ليأخذون حظّهم المقدور لهم مما فى أيديهم من مال وولد، ثم يلحقون بمن سبقهم إلى
فلقد حبطت أعمالهم كلّها، فلم يسلم لهم منها شىء، حتى تلك الأعمال التي كان يمكن أن تحسب لهم فى جانب الإحسان.. لأنّهم إذ فعلوها لم يريدوا بها وجه الله، ولم يطلبوا بها ما عند الله.. لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يتعاملون مع الله..
«حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» فلم يحمدوا بها.. وحبطت فى «الآخرة» فلم تدفع عنهم عذاب الله الذي أعده لهم، وأنزله بهم.. «وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ».. إذ لا خسران بعد هذا الخسران، ولا ضياع بعد هذا الضياع.
قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» وإذا تصفحّ هؤلاء المنافقون تاريخ القرون الماضية، فلم ينكشف لهم منها- لماهم فيه من غفلة وعمّى- ما أخذ الله به الظالمين من نكال وبلاء- فها هى ذى المثلات، يضعها الله بين أيديهم، ويكشف لهم ما خفى منها..
قوم نوح.. وعاد.. وثمود.. وقوم إبراهيم.. وأصحاب مدين..
والمؤتفكات..
هؤلاء جميعا، قد جاءتهم رسل الله، تحمل إليهم الهدى والخير.. فمكروا بآيات الله، وكذّبوا رسل الله..
فماذا كانت عاقبة أمرهم؟
لقد أخذهم الله بذنوبهم، وأوقع بهم نقمته، وصبّ عليهم عذابه، ألوانا
قوم نوح.. أغرقهم الله بالطوفان..
وعاد، قوم هود.. أهلكهم الله «بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ! وثمود.. قوم صالح.. أخذتهم الصيحة.. فأصبحوا فى ديارهم جاثمين..
وقوم إبراهيم.. ألقوه فى النار، فجعلها الله بردا وسلاما عليه، وجعل فى ذريته الكتاب والحكم والنبوّة..
وأصحاب مدين.. قوم شعيب.. أخذهم الله بالصيحة، كما أخذ قوم صالح..
فأصبحوا فى ديارهم جاثمين.. «أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ» (٩٤: هود) والمؤتفكات.. أي المنقلبات على أهلها، وهى الدّور التي كان يسكنها قوم لوط.
إذ أمطرهم الله بحجارة من سجيل منضود، فطحنتهم طحنا، وقلبت عليهم قريتهم، فأصبح عاليها سافلها.. ومنه الإفك، وهو الحديث المفترى، الذي تقلب فيه وجوه الأمور، وتغير معالمها..
هؤلاء جميعا.. كذبوا رسل الله، فأخذهم الله بذنوبهم، وجزاهم جزاء الظالمين.. َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ»
بهذا العذاب الذي أنزله بهم، «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».. فلقد ظلموا أنفسهم، بأن صرفوها عن الخير الذي جاءهم على يد رسل الله.. فماذا بعد الحقّ إلا الضلال؟ وماذا بعد الضلال إلا البلاء والعذاب؟.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
التفسير: مما يضاعف حسرة المنافقين، ويزيد فى بلائهم، أن يطلع عليهم المؤمنون فى هذا الموكب العظيم، الذي يحفّه الجلال والإكرام، ويتغشّاه النعيم والرضوان، بعد أن انكشف للمنافقين سوء أمرهم، وعاقبة سعيهم، وما أخذهم الله به من نكال وبلاء..
وفى هذا الموكب الذي ينتظم المؤمنين، يرى الرائي لهم أن بعضهم أولياء بعض، تجمعهم الأخوّة، وتؤلف بينهم المودّة، يلتقون على الإيمان بالله، والولاء له، والاستجابة لرسوله، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر..
«وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..».. فتلك هى سبيل المؤمنين، وذلك هو حبل الله الذي يعتصمون به، ويشدّون أيديهم عليه.. «أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ» لأنهم لجثوا إليه والتمسوا مرضاته، وأخلصوا القول والعمل له.. «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يضام من لجأ إليه، واعتصم به..
«حكيم» فى قضائه بين عباده، وحكمه فيهم، فيجزى المحسنين بإحسانهم،
كل ذلك عن قدرة متمكنة، وعزة غالبة، وحكمة بالغة.. سبحانه، عزّ فحكم، لا معقب لحكمه، ولا منازع لسلطانه..
هذا، وليس دخول حرف الاستقبال فى قوله تعالى: «سيرحمهم»..
بالذي يجعل وعد الله غير محقق فى الحال كما هو محقق فى الاستقبال، بل هو وعد منجز فى جميع الأحوال، والأزمان.. فالمؤمن محفوف برحمة الله دائما، ولولا هذه الرحمة لما كان من المؤمنين، الذين دعاهم الله إلى الإيمان، وهداهم إليه، وأمسك بهم على طريقه.
وفى قوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ما يشير إلى ما فى المؤمنين من معانى الإنسانية، التي تعطى المؤمن وجودا مشخّصا، وذاتية مستقلة.. ثم هو- مع هذا الوجود الذاتي المستقلّ- يحكمه عقل رشيد، ويوجهه قلب سليم، فيلتقى مع أصحاب العقول الرشيدة، ويتجاوب مع أولى القلوب السليمة، على جبهة الحق، وتحت راية الخير، فإذا هو قوة عاملة فى هذا الميدان، يعمل للحق مع العاملين، وينتصر للخير مع أهل الخير.. يبادلهم ولاء بولاء، وحبّا بحبّ، وإخاء بإخاء! وليس كذلك المنافقون والمنافقات.. «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ».. إنهم كتلة متضخّمة من الخبث.. أشبه بالديدان التي تتخلّق من الرّمم، ليس بينها تجاوب فى المشاعر، أو تلاق فى التفكير، وإنما هى كائنات تسبح فوق هذه الرمم، وتغتذى منها! قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
وقوله سبحانه: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ».. هو نعيم فوق هذا النعيم الذي يناله أصحاب الجنة.. بما يفيض الله سبحانه وتعالى عليهم من رضوانه، وما يضفيه عليهم من رضاه.. فكل نعيم- وإن عظم- هو قليل إلى رضوان الله، الذي يناله من رضى الله عنهم، ثم إن كل نعيم هو تبع لهذا الرضا، ونسمة من أنسامه الطيبة المباركة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «ورضوان من الله أكبر» مستأنفا، غير معطوف على ما قبله، حتى لكأنه إضراب عما سبقه، بمعنى «بل».. وعلى هذا يكون التقدير: «بل.. ورضوان من الله أكبر»..
وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» الإشارة هنا إلى رضوان الله، الذي هو الفوز كل الفوز، والنعيم كل النعيم.
الآيتان: (٧٣- ٧٤) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
والكفار والمنافقون، هم على سواء فى كفرهم بالله، ومحاربتهم لدين الله، وكيدهم لرسول الله.. وإن على النبىّ أن يجاهد هؤلاء وأولئك جميعا، وأن يلقاهم بكل قوة وبأس.. فالمنافقون، كافرون، وأكثر من كافرين.. لأنهم يسترون كفرهم بالنفاق، ويدارونه بإظهار الإسلام.. فهم بهذا عدوّ خفىّ، يأمن المسلمون جانبه، ولا يأخذون حذرهم منه، فيطّلع منهم على ما لا يطّلع عليه العدوّ الظاهر، من مواطن الضعف منهم، وانتهاز الفرصة فيهم..
فإذا جاهد النبىّ الكفار، فليجاهد المنافقين كذلك، وليشتدّ فى جهادهم، وليغلظ عليهم، فلا يرخى يده عنهم إذا أمكنته الفرصة فيهم..
وقوله: «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» هو بيان للحكم الواقع تحته الكافرون والمنافقون، وهو أن جهنم مأواهم الذي يؤوون إليه، والمصير الذي يصيرون له.. وأنهم إذا أفلتوا فى هذه الدنيا من القتل أو الأسر، فلن يفلتوا فى الآخرة من عذاب جهنم، وبئس المصير..
قوله تعالى: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» هذا عرض لحال من أحوال المنافقين، وكشف لوجه من وجوههم المنكرة..
وهو أن من دأبهم أن يحلفوا كذبا وزورا أنهم ما قالوا هذا القول المنكر، الذي كان سرا بينهم، ففضحهم الله به، وأطلع النبىّ والمسلمين عليه..
وقد كذّبهم الله، وردّ أيمانهم الكاذبة بقوله سبحانه: «وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ».
والمراد بكلمة الكفر، هو الكلام الذي تحدثوا به فيما بينهم، وتناولوا فيه النبىّ بالهزء والسخرية، وقالوا حين سئلوا: «إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ»..
وذلك منهم هو الكفر الصّراح.. فلو كان فى قلوبهم شىء من الإيمان، لما حدّثتهم أنفسهم بهذا السوء، ولما طاوعتهم ألسنتهم على النطق بهذا المنكر من القول..
وفى التعبير عن كلمات السوء بكلمة الكفر، إشارة إلى أن حصيلة هذا الكلام الكثير الذي دار على ألسنتهم، هو كلمة واحدة، هى الكفر، الذي دمغوا به ظاهرا، بعد أن كان يعيش فى كيانهم متخفيا، مستبطنا..
وقوله تعالى: «وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ».. هو تأكيد لكفرهم الذي استعلن بكلماتهم المنافقة التي فضحهم الله بها.. وفيه إشارة إلى أنهم لم يكونوا مؤمنين أبدا، وأن الإيمان لم يدخل قلوبهم، وإنما جرت كلمة الإسلام على ألسنتهم، فحسبوا بهذا من المسلمين لا المؤمنين..
فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا.. وإلى هذا يشير قوله تعالى:
«قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا.. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (١٤: الحجرات).
وقوله تعالى: «وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» هو فضح لخفيّة من خفايا المنافقين، وكشف لمكيدة من مكايدهم، وأنّهم قد بيتوا عدوانا، ودبروا كيدا، ولكنّ الله- سبحانه- أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم.. فقد أرادوا بالنبيّ- صلى الله عليه وسلم- شرا، وائتمروا فيما بينهم على أن يرصدوا له، وهم معه على طريق العودة من تبوك، فأطّلع الله سبحانه النبىّ عليهم، وأراه ما دبروا له.. فدعاهم النبىّ إليه، وكشف لهم عن تدبيرهم السيء.. فلم يجدوا غير الحلف كذبا وبهتانا، بأنّهم ما قالوا شيئا، ولا بيّتوا شرّا..
وقوله سبحانه: «وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ»..
هو تسفيه لهم، واستنكار لهذا المنكر الذي هم فيه.. وأنهم لم يتخذوا هذا الموقف المنحرف اللئيم من الله ورسوله، إلّا لما أفاء الله ورسوله به عليهم من فضله.. وهكذا أصحاب الطباع السيئة، والنفوس المريضة، تنقلب حقائق الأشياء عندهم، فإذا النور ظلام، والحق باطل، والنعمة نقمة..
والله سبحانه وتعالى يقول فى مثل هؤلاء الحمقى والسفهاء من الناس:
وانظر كيف جاء النظم القرآنى بقوله تعالى «وَما نَقَمُوا» ليكشف بذلك عما بلغه القوم من سفه وضلال، حتى إنهم ليجدون فى النعم التي بفضل الله سبحانه وتعالى عليهم بها، ما يحرك فى نفوسهم داعية الانتقام ممن أنعم عليهم، حتى لكأن هذه النعم شرّا قد سيق إليهم، وبلاء وقع بهم.. وهذا هو فى الواقع ما لنعم الله عندهم.. إنها لا تلبث حتى تتحول فى أيديهم إلى أسلحة مهلكة..
قوله تعالى: «فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ»..
هو تنبيه لهؤلاء الضالّين، وإشارة مضيئة تطلع فى ليلهم المطبق عليهم، رجاء أن يتوبوا إلى الله، ويستقيموا على طريق الحقّ، فإن فعلوا رشدوا وأمنوا، وإن أبوا، ضلوا وهلكوا، وأخذهم الله بالعذاب الأليم فى الدنيا، بما يصيبهم على يد المؤمنين من خزى وبلاء، وبعذاب السعير فى الآخرة، حيث لا ولىّ لهم، ولا نصير، يردّ عنهم بأس الله الواقع بهم.
الآيات: (٧٥- ٨٠) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٨٠]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
إن هذا الصنف من المنافقين، يلقى الله فى حال العسر والضيق، مستكينا مستسلما، ويبسط إليه يده، ضارعا طامعا، يتمنى على الله أن يبسط له فى الرزق، وأن يملأ يديه من المال، وأنه إذا استجاب الله له فيما طلب، بسط يده بالعطاء والإنفاق فى وجوه الخير، وشغل قلبه ولسانه بالحمد والشكران لله ربّ العالمين..
هذا موقف من مواقف المنافقين مع الله.. حين يمسّهم الضرّ، وينزل بهم العوز، ويصيبهم الفقر..
فماذا يكون منهم إذا كشف الله ما بهم من ضرّ، وصرف عنهم العوز والفقر، ووسع لهم فى الرزق، وأفاء عليهم من فضله؟.
«وتولّوا وهم معرضون» أي نكصوا على أعقابهم، وأعرضوا عن الحق الذي لزمهم.
«فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ» أي تبعهم النفاق، وركب معهم الطريق الذي ركبوه، مبعدين عن الله، مطرودين من رحمته «إلى يوم يلقونه» أي سيصحبهم هذا النفاق إلى يوم القيامة، حيث يطلع عليهم هذا النفاق بوجهه الكريه، ليقف معهم بين يدى الله، وليكون شاهد إدانتهم، ورفيق طريقهم إلى عذاب السعير «بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ» أي هذا النفاق الذي لبسهم، واشتمل عليهم، وأصبح بعضا منهم، هو الثمرة الخبيثة التي أثمرها إخلافهم وعدهم لله، وقولهم بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم، وهم يحسبون أن الله- سبحانه- محدود القدرة، محدود العلم، وأنه إذا لم يشهد شهود عيان هذا العهد الذي عاهدوه عليه، لم تقم عليهم حجة، وكان لهم أن يمكروا به، وينكروا العهد الذي أعطوه من أنفسهم له؟.
وهذا عدوان على الله، أوقعهم فيه سوء فهمهم وتقديرهم لجلال الله، وعظمته، وقدرته وعلمه.. ولهذا أنكر الله عليهم سوء ظنهم به، وخطأ تصورهم لكمال صفاته، فقال سبحانه: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ».. ولو أنهم علموا هذا واستيقنوه، لما كان منهم هذا الظنّ السيّء، الذي زيّن لهم التحلّل ممّا عاهدوا الله عليه، فيما حكاه القرآن عنهم من قولهم: «لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ»..
ما ناجى به غيره من حديث، وأفضى به إليه فى سر.. وأصل النجوى، والنجوة: المكان المرتفع الظاهر للعيان.
ويذكر المفسّرون فى سبب نزول هذه الآيات، أن أحد أصحاب رسول الله، واسمه ثعلبة بن حاطب، كان من فقراء المسلمين، وممن يلزمون الجماعة والجمعة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حدثته نفسه أنه لو كان من الموسرين لأرضى الله ورسوله بما ينفق فى سبيل الله، ولما فاته هذا الفضل الذي سبقه إليه أولئك الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله.. فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقنى مالا!. فقال له رسول الله ﷺ «يا ثعلبة.. قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه. أمالك فى رسول الله أسوة؟» ثم عاد إلى النبي يسأله أن يدعو الله له أن يرزقه مالا، وأن لو استجاب الله له ورزقه المال الذي يطلب، لأعطى كل ذى حق حقه من هذا المال.. فقال الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-: «اللهم ارزق ثعلبة مالا..»
قالوا: وقد رزق ثعلبة مالا كثيرا.. وكان ماله من الغنم، فتكاثر ونما حتى ضاقت به المدينة، فخرج إلى البادية، وشغله ذلك عن حضور الجماعة والجمعة فى مسجد رسول الله، وتفقّده رسول الله ﷺ فلم يجده فى أصحاب الجماعة والجمعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا ويح ثعلبة!» ثم بعث رسول الله ﷺ عمّال الصدقة ليأخذوها من أهلها، فلما جاء عامل الصدقة إلى ثعلبة، وعرف القدر المطلوب منه للصدقة استكثره، وأنكره وقال: ما هذه الصدقة، بل هى الجزية أو ردّ العامل، قائلا له: أنظرنى لأرى!! وحين لمغ رسول الله ﷺ ما كان من ثعلبة، قال:
قيل، وجاء ثعلبة بعد ذلك إلى رسول الله ﷺ بالصدقة، فقال له رسول الله: «إن الله منعنى أن أقبل منك» فجعل يحثوا التراب على رأسه، فقال رسول الله: «هذا عملك! قد أمرتك فلم تطعنى».. ثم لما توفّى رسول الله، جاء بالصدقة إلى بكر، فلم يقبلها منه، ثم جاء بها إلى عمر فى خلافته فردّها.. ثم هلك فى خلافة عثمان!.
وليس ثعلبة وحده- إن صح ما روى فيه- هو الواقع تحت حكم هذه الآيات، بل هو حكم واقع على كل من نكث مع الله عهدا.. وما أكثر الناكثين عهود الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» (٢١- ٢٣: يونس) قوله تعالى: «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» اللّمز: القرص، والغمز، بالكلمة الجارحة، يرمى بها فى موارية..
تلويحا لا تصريحا.
وأصل المطّوع- لغة- المتطوع.. قلبت التاء طاء وأدغمت فى الطاء.
والجهد: هو غاية ما فى وسع الإنسان، وطاقته، واحتماله..
والآية هنا، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وعن سلاح من أسلحتهم الخفية، التي يضربون بها فى كيان المجتمع الإسلامى..
فهذه الجماعة من المنافقين، لم يكفها أنها كفّت يدها عن الجهاد فى سبيل الله، وغلّتها عن الإنفاق فى وجوه الخير، بل جعلت تترصّد المنفقين فى سبيل الله، وتتخذ منهم مادة للهزء والسخرية، سواء المكثرون منهم والمقلّون..
فالذين بسط الله لهم فى الرزق من المؤمنين، فبسطوا أيديهم بالبذل فى سبيل الله، وجاءوا بالكثير من أموالهم إلى رسول الله، يضعها حيث يشاء- هؤلاء هم عند الجماعة المنافقة مراءون، لا يطلبون بما أنفقوا إلا أن يظهروا فى الناس، وإلا أن يكونوا حديث المتحدّثين! وأمّا الذين قصرت أيديهم عن العطاء الكثير من المؤمنين، فأعطوا ما وسعهم الجهد، وجاءوا بما ملكت أيديهم- فإنهم لم يسلموا من تلك الألسنة المنافقة، إذ جعلوا منهم مادّة سخرية واستهزاء وتندر، فيقولون فيما قالوا:
ماذا تغنى الحفنة من التمر التي جاء بها فلان؟ وما جدوى هذه الكسرات من الخبز التي قدمها فلان؟ وما هذا الثوب الخلق الذي بذله فلان؟.. إن هؤلاء لم يفعلوا ما فعلوا من هذا العبث إلا ليذكروا مع المتصدّقين، وإلا ليذكّروا بأنفسهم إذا وقعت للمسلمين غنيمة، وأصابهم خير!.
وهكذا، يكيد المنافقون للإسلام، ويحاولون جاهدين أن يفسدوا كل صالحة فيه.
قوله تعالى: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» هو تيئيس لهؤلاء المنافقين من رحمة لله، وقطع لطريق النجاة من العذاب الذي أعدّه الله لهم..
إنّه لن ينقدهم من الله منقذ، ولن يشفع لهم شفيع.. حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو من هو عند الله- لن تقبل شفاعته فيهم، ولن يستجاب استغفاره لهم، ولو حرص النبىّ على هذا الاستغفار وبالغ فيه. وذلك لأنّهم كفروا بالله ورسوله، وحادوا الله ورسوله، ومن كان هذا موقفه مع الله ومع رسول الله، فلن يقبل الله فيه شفاعة، ولن يصرف عنه العذاب الذي رصده له..
وليس حصر الاستغفار بسبعين مرة، مرادا به أن النبي ﷺ لو جاوز هذا العدد، وخرج به عن قيد الشرط- جاز أن يغفر الله لهم..
وكلّا، فإن المراد بهذا العدد هو الدلالة على أن استغفار النبىّ لهم، لن يقبل من الله فيهم على أية حال، كثر العدد أو قلّ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
سواء استغفر لهم النبي أو لم يستغفر لهم.. قلّ استغفاره لهم أو كثر! والخبر الذي يروى من أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال حين نزلت هذه الآية: «والله لأزيدنّ عن السبعين» هو خبر آحاد، لا يعوّل عليه هنا عند معارضته لصريح المفهوم من الآية الكريمة.. لأن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يعلم ما فى هذه الآية من القطع بأن الله سبحانه لن يغفر لهم، ولن يقبل شفاعة شافع فيهم. فلا يعقل- مع هذا- أن يقول النبي هذا القول، بعد أن تلقّى هذه الآية. وكذلك الشأن فى الخبر الذي يروى عن النبي ﷺ أنه قال: «لو علمت أنه لو زدت على السبعين مرّة غفر الله لهم لفعلت»..
فإنه خبر لا يصحّ عن رسول الله.. لأنه فيه ما يشبه التحدّى لحكم الله!!.
الآيات: (٨١- ٨٥) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٨١ الى ٨٥]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
وفى قوله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» تنديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله فى تلك الغزوة، وأن هذه الفرحة التي شاعت فى نفوسهم حين بدا لهم أنهم أفلتوا من هذا البلاء الذي ابتلى به المؤمنون فى هذه الغزوة.. من قلّة الزاد، وبعد الشّقة، ووقدة الحرّ- هذه الفرحة لن يهنئوا طويلا بها، بل ستعقبها حسرة وندامة، وعذاب شديد.
والمخلّفون: جمع مخلّف، وهو الذي بقي خلف القوم، وترك وراءهم..
وكأنه بهذا هو المتروك لا التّارك، والمخلّف لا المخلّف.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء الذي تخلّفوا هم مخلّفون! قد تركهم المجاهدون، وسبقوهم إلى حظهم من الخير الذي أراده الله لهم..
والمقعد: مصدر ميمى للفعل «قعد» أي فرح المخلفون بقعودهم.
و «خلاف رسول الله» : الخلاف ظرف بمعنى خلف، ووراء.. ويجوز أن يكون مفعولا له، بمعنى: لأجل خلافهم لرسول الله.
وقوله سبحانه: «وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معطوف على قوله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى فرحوا بقعودهم بعد رسول الله، وكرهوا، أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله..
وقوله تعالى: «وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» معطوف على ما قبله، من فعلات هؤلاء المخلّفين.. بمعنى أنهم فرحوا بتخلفهم، وكرهوا أن يجاهدوا، وقالوا لا تنفروا فى الحرّ..
وقد يكون هذا القول منهم على إطلاقه، يقولونه لكل من يلقاهم من المؤمنين، ليفتّروا به الهمم، ويكسروا العزائم، حتى لا يجتمع على دعوة النبىّ للجهاد، الجيش الذي يخرج به فى هذه الغزوة.. وبهذا لا ينكشف أمر المنافقين الذين عقدوا العزم على التخلّف عن الغزو، حيث لا يخفّ أحد للجهاد، إذا صحّ ما قدّروه، وعملوا له، من إشاعة الدعوة فى الناس، بألّا ينفروا فى الحرّ.
وقوله سبحانه: «قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» هو ردّ مفحم على هذه القولة التي تنادى بها المنافقون بقولهم: «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ».. فإن تركهم النفير فى الحرّ يوقعهم فى حرّ أشد هولا من هذا الحرّ، الذي يعتبر بردا وسلاما إذا قيس بحر جهنم.. فلو أنهم عقلوا هذا، وفقهوه، لما اشتروا عذاب الآخرة بلفحات الهجير هذه، التي يخشون لقاءها فى طريقهم إلى الجهاد..
ولكنهم قوم لا يفقهون..
وقوله تعالى: «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو وعيد لهؤلاء المنافقين، الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وقالوا لا تنفروا فى الحرّ.. إنهم لن يهنؤهم هذا الفرح، ولن يطول مقامهم فى ظل هذه العافية التي هم فيها.. فما هى إلا أيامهم الباقية لهم فى هذه الدنيا، ثم إذا هم فى العذاب الأليم الدائم، لا يفترّ عنهم وهم فيه مبلسون..
وقوله تعالى: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ».
وفيهم يقول الله تعالى: «لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (٤٢: التوبة).. وليست هذه سبيل المؤمنين المجاهدين، وإنما سبيلهم قائمة على نيّة منعقدة أبدا على الجهاد والاستشهاد فى سبيل الله، ومن كانت تلك سبيله، وهذه غايته، فإنه لا ينظر إلى نفسه، ولا يعمل حسابا لمغنم أو مغرم، وإنما حسابه كلّه مضاف إلى الانتصار لدين الله، والإعزاز لكلمة الله.
ولهذا ردّ الله سبحانه هؤلاء المنافقين، ومحا اسمهم من ديوان المجاهدين، وأمر نبيّه الكريم أن يبعدهم عنه، وأن يعزلهم عن مجتمع المسلمين المجاهدين،
وفى قوله تعالى: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» - ما يكشف عن شناعة جرم هؤلاء المنافقين، وفظاعة الجناية التي جنوها على أنفسهم.. ولهذا، فإن الصلة التي بينهم وبين المؤمنين قد انقطعت انقطاعا تاما فى الحياة، وفيما بعد الحياة، حتى لو مات ميّتهم لم يلتفت المسلمون إليه، ولم تعطفهم عليه عاطفة رحم أو رحمة.. وقد نهى الله النبىّ ﷺ أن يصلى على أحد من موتاهم أو يقوم على قبره، داعيا له مستغفرا.. وهو نهى للمسلمين جميعا، فى جميع الأحوال والأزمان أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى.. أحياء أو أمواتا. «إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» أي إنهم كانوا على كفر بالله وبرسوله، وقد ماتوا على هذا الكفر.. فلا ينالهم الله برحمته، ولا يرحمهم الراحمون..
وقوله سبحانه: «وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» - هو تحقير لهؤلاء المنافقين، واستخفاف بما كان لهم فى الدنيا من مال وأولاد.. فإن كثرة هذه الأموال، وهؤلاء
وقوله تعالى: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» هو من البلاء المسلط عليهم من أموالهم وأولادهم، إذا كانت هذه الأموال والأولاد من الأسباب التي مدّها الله لهم، لتحجبهم عن الإيمان، وتقيمهم على طريق الكفر، فيعيشون به، ويموتون عليه. إذ كان شغلهم بأموالهم وأولادهم مما أعمى بصيرتهم عن النظر إلى ما وراء الأموال والأولاد..
وفى قوله سبحانه، فى هذه الآية: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» وقوله فى الآية التي قبلها: «وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» - إشارة إلى أن الكفر والفسق من واد واحد، وأن الكافر فاسق، والفاسق كافر.. إذ الفسق هو الخروج عن طريق الحقّ، والمشاقّة لله ولرسوله وللمؤمنين، وذلك هو الكفر كله.
الآيات: (٨٦- ٨٩) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
أولو الطول: الطول: من طال الشيء بطوله، أي قدر عليه وتمكن منه.. وأولوا الطول: هم أصحاب القدرة التي تمكن لهم من بلوغ ما لا يستطيع غيرهم بلوغه، يجاههم، وسلطانهم، وأموالهم..
والآية الكريمة، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وتفضح طائفة أخرى من طوائفهم، وهم أصحاب الرياسة، والسيادة، والقدرة فيهم..
هؤلاء المنافقون «إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ» أي إذا أنزل قرآن يحمل إلى المؤمنين أمرا من الله سبحانه وتعالى، يذكرهم بالإيمان بالله، ويدعوهم إلى الجهاد مع رسول الله.. «اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» أي بادر أصحاب الطول هؤلاء، إلى التحلل من هذا الأمر، بالاعتذار إلى رسول الله، واستئذانه فى أن يعفيهم من إجابة هذه الدعوة، والجهاد فى سبيل الله..
وفى قولهم «ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» ما يكشف عن استخفافهم بأمر الله، واسترواحهم للتحلل منه، حتى ليهنؤهم المقام، وتطيب لهم الحياة، فيقعدون مع القاعدين، ويسمرون مع السامرين.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: «رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ»
ثوب الصّغار والامتهان.
وفى قوله سبحانه: «وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» إشارة إلى أنهم وقد لبسوا ثياب المهانة والخزي بهذا الموقف الذي وقفوه- لا يدركون ما وقع عليهم من ذلة وهوان، إذ كانت أعينهم فى عمى، وقلوبهم فى غفلة، وعقولهم فى ضلال.
وقوله تعالى: «لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» هو عرض للوجه الآخر المشرق الوضيء من وجهى هذا الموقف.. من أمر الله بالإيمان، ودعوته إلى الجهاد..
فإذا كان المنافقون، وأصحاب الطول فيهم، قد نكصوا على أعقابهم، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فإن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- والذين آمنوا معه، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله.. فما أن دعاهم الله ورسوله إلى الجهاد حتى طاروا إليه سراعا، ونفروا خفافا وثقالا.
وإذا كان المخلّفون قد ألبسهم لله بتخلفهم ثوب الخزي ولذلة، فإن رسول الله والمجاهدين معه، قد تلقاهم الله حفيّا بهم، موسعا لهم فى رحاب فضله ورضوانه، فملأ أيديهم من المغانم، وكتب لهم النصر على عدوهم، ومكن لهم فى الأرض،
ذلك هو الفوز العظيم..
وفى قوله تعالى: «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ».. العطف هنا بالواو، إشارة إلى ما للرسول والمؤمنين المجاهدين معه، عند الله، من أوصاف كريمة، غير تلك الأوصاف التي وصفها الله بهم، وأن ما وصفوا به هنا ليس إلا من قبيل التنويه والإشارة إلى تلك الأوصاف التي لا تحصر، وإن كان ذكر قليلها يغنى عن كثيرها، لأنها كلها من باب واحد، هو باب الخير والإحسان.. ويكون من مفهوم الآية الكريمة.. لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.. أولئك رضى الله عنهم، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
وفى تكرار الإشارة إلى الرسول والمؤمنين المجاهدين فى قوله تعالى:
«وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» تأكيد للتنويه بهم، وتقرير لدرجتهم العالية، ومنزلتهم الكريمة التي أنزلهم الله إياها.. كما أن فى ذلك إشارة إلى أن مقامهم هذا الرفيع الذي هم فيه، لا تبلغه الإشارة التي يقصر عنها النظر، وأنه لكى يمكن أن يرتفع النظر إلى هذا المستوي، ينبغى أن يكون ذلك على مراحل يقطعها صعدا فى الوصول إليهم.
«أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ».. فانظر إليهم.. إنهم هنا! لا.. إنهم هناك.. ولا.. إنهم فوق هذا.. «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» فارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير!
الآيات: (٩٠- ٩٢) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)
والفعل «جاء» فى امتداد مقطعه هكذا «جاء» وفى تذبذب أنغامه بين همس «الواو» وجهر الجيم، وخطف الهمزة- برسم صورة مكتملة الألوان والظلال للمنافقين، وهم فى طريقهم إلى النبىّ، متحاملين متثاقلين، تدور أعينهم هنا وهناك، حذرا من أن تفضحهم أعذارهم التي بين أيديهم، يسوقونها إلى النبىّ، ويدفعون بها فى خوف وخطف واضطراب..
ثم هم فى موكبهم الطويل إلى رسول الله أنماط مختلفة..
منهم.. السفيه الوقح، الذي لا يعرف الحياء وجهه.. فيجىء خفيفا مسرعا، يبادر القوم قبل أن يسبقوه، فيأخذوا عليه الطريق إلى ما يعتذر به، إذ كانوا قد استنفذوا الأعذار بين يدى رسول الله..
ومنهم من لا يعرف له عذرا.. ولكنه لا بدّ أن يعتذر، لأنه لا يريد أن يكون فى المجاهدين.. فيمشى إلى النبيّ متثاقلا متحاملا.. حتى تنكشف له وجوه الأعذار التي يعتذر بها المعتذرون، لعله يقع على واحد منها!! ومنهم من يقطع الطريق إلى النبىّ ولا يبلغه، بل يقف بعيدا يتسمّع الأنباء عن المعتذرين وما يعتذرون به وما يقوله النبىّ لهم! ومنهم.. ومنهم..
«وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ»..
والمعذّرون هم أصحاب الأعذار ومختلقوها.. فخلق الأعذار واصطناعها هو عملهم، والصفة الغالبة عليهم.. كما يقال: المهندسون، والمعلمون.. فهم صناع الأعذار، لا صنعة لهم غير هذا..
والأعراب: جمع أعرابى، وهم سكان البادية.
وانظر فى وجه النظم القرآنى، يشهدك على هؤلاء الأعراب، وقد جاءوا من شتى الجهات، بعد أن سمعوا دعوة الرسول إليهم بقوله. «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - جاءوا لا لينتظموا فى صفوف المجاهدين، ولا ليقاتلوا فى سبيل الله، وإنما جاءوا ليعتذروا عن الجهاد، وليقدموا من المعاذير ما فى جهدهم، كما يقدم المجاهدون فى سبيل الله أموالهم وأنفسهم!! فما أتعس هذا المجيء، وما أشأم ذلك السعى! قوله تعالى: «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» هو الوصف الذي وصف به أولئك المعذّرون، والسّمة التي وسموا بها.. فهم الذين قعدوا متخلفين عن الجهاد، وهم الذين افتروا الكذب على الله ورسوله، بهذه الأعذار التي اختلقوها وجاءوا إلى النبىّ بها..
وفى هذا الخبر تهديد ووعيد لهم.. إذ ليس مرادا به الإخبار عنهم، وأنهم قعدوا، وإنما هو خبر يكشف عن جريمة غليظة، ويحدّث عن منكر عظيم..
وفى قوله تعالى: «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» حكم عليهم بالإدانة، وبأن هذه الأعذار التي اعتذروا بها إنما هى محض كذب وافتراء.. إذ هم الذين كذبوا الله ورسوله.. وقد عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر، ليعرضوا هذا العرض الكاشف عن كذبهم، ويسمعوا حكم الله عليهم..
وحرف الجرّ فى قوله تعالى: «سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» للبيان، لا للتبعيض.
فكل هؤلاء المعذّبين من الكافرين فليس فيهم كافر وغير كافر، بل كلهم كافرون.
أما أصحاب الأعذار الحقيقة فقد أغناهم الله سبحانه وتعالى عن أن يقفوا هذا الموقف، فعذرهم لله قبل أن يعتدروا، ورفع عنهم الحرج، فى قوله تعالى:
«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» فهؤلاء أصحاب أعذار ظاهرة، ينطق بها لسان الحال، قبل أن ينطق بها لسان المقال.. فالشريعة الإسلامية قائمة على اليسر، ورفع الحرج عن المؤمنين، فلا إعنات فيها، ولا مشقّة أو عسر فى تكاليفها.. «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.»
فالضعفاء.. من شيوخ، وأطفال، ونساء، وعبيد وإماء، والمرضى وأصحاب العاهات المانعة من السفر والقتال- هؤلاء جميعا ومن فى حكمهم لا حرج عليهم فى أن يتخلفوا عن ركب المجاهدين، «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» أي إذا كانت
وبهذا يكون المؤمنون جميعا فى ميدان المعركة. سواء منهم من شهدها وحارب فيها، أو من تخلّف، بما معه من عذر، ونصح لله ورسوله، فى سلوكه الطيب، مع من يخلّفهم المحاربون وراءهم من أهل وولد، وفى مشاعره المتجهة إلى المجاهدين فى ميدان القتال، والدعاء لهم بالنصر وتمنّيه لهم..
وقوله تعالى: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» إشارة إلى أن هذا الذي يبدله المتخلفون من ذوى الأعذار، من نصح لله ورسوله، وراء جبهة القتال، هو غاية ما فى مستطاع هؤلاء المتخلفين، وهو ميدانهم الذي يكون لهم فيه عمل وإحسان.. «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها». فإذا أعطى المؤمن- فى باب الإحسان- ما وسعته نفسه، فهو فى المحسنين..
وقوله سبحانه: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة أيضا إلى أن الذي يوجّه نفسه للإحسان، ويعمل له، هو محسن، وإن قصّر فيما عمل، ولم يبلغ غاية الإحسان.. فرحمة الله واسعة، ومغفرته شاملة، يتقبل من المحسنين أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» (١٦: الأحقاف).
وقوله تعالى: «وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا
- هو معطوف على قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى..» أي ليس حرج على هؤلاء الذين أتوك لتحملهم، أي تهيىء لهم مركبا ينقلهم إلى ميدان الجهاد.. والخطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، وقد جاءه جماعة من فقراء المسلمين، صحّت نيتهم على الغزو والجهاد، ولكنهم عجزوا عن أن يجدوا مركبا يركبونه، فجاءوا إلى النبىّ ﷺ يسألونه أن يحملهم معه فى جيش المجاهدين، ولم يكن بين يدى النبىّ، ولا فى جيش المسلمين ما يحملهم عليه، فقال لهم- صلوات الله وسلامه عليه: «لا أجد ما أحملكم عليه».. فامتلأت نفوسهم أسى وحسرة، وفاضت دموعهم ألما وحزنا، أن فاتهم حظهم من الجهاد، وإن لم يكن فى أيديهم ما ينفقونه فى سبيل الله، وفى إعداد المركب الذي يحملهم مع المجاهدين: «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ».. وهؤلاء هم الذين عرفوا فى المسلمين بالبكائين.
وإذا كان بكاء الرجال مذموما فى كل موطن، إلّا أنه هنا فى هذا المقام- مقام التعامل مع الله- محمود غاية الحمد، بل ومطلوب من المؤمن أن يكون هنا حاضر الدمعة غزيرها.. وفى الحديث: «إن لم تبكوا فتباكوا»..
فالدمعة هنا دمعة عزيزة على الله، لا تقع على الأرض، كما تقع دموع الباكين، فتضيع بددا.. وإنما تتلقاها ملائكة الرحمن، فإذا هى نهر جار من نور، يغمر فيه صاحبها، فإذا هو خلق من نور، أصفى من الجوهر، وأضوأ من شمس الضحى، يقول الرسول الكريم: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس فى سبيل الله..».
تم الجزء العاشر، ويليه الجزء الحادي عشر.. إن شاء الله المؤلف
[الجزء السادس]
[تتمة سورة التوبة]الآيات: (٩٣- ٩٩) [سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٣ الى ٩٩]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
التفسير: فى الآية السابقة على هذه الآيات، رفع الله الحرج عن الضعفاء والمرضى، وعن الذين لا يجدون ما ينفقون، إذا هم لم يكونوا فى موكب المجاهدين الذين يلقون العدوّ فى ميدان القتال، إذ كانوا ومعهم أعذارهم التي تحول
«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ... ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ».. (الآية ٩١).
وفى هذه الآية: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ» اتهام ومؤاخذة لمن تخلّفوا عن الجهاد، ولا عذر لهم.. لأنهم قادرون- بأشخاصهم على أداء هذا الواجب المفروض عليهم، فهم ليسوا ضعفاء، أو مرضى، وهم قادرون بأموالهم على أن يجدوا الزاد الذي يتزودون به للسفر.. من طعام، وحمولة، وسلاح..!
وعلّة واحدة لا غير، هى التي قعدت بهم عن أن يكونوا فى المجاهدين، هى أنهم «رضوا بأن يكونوا مع الخوالف».. إنه لا شىء يقعدهم عن هذا الأمر إلا إيثارهم العافية والسلامة لأنفسهم، وإلّا ضنّهم بالمال وبالجهد عن البذل فى سبيل الله.. وذلك خذلان منهم لله، فكان أن خذلهم الله، «وطبع الله على قلوبهم» فلم يروا بها سوء ما هم عليه.. «فهم لا يعلمون» ما وقع عليهم من غبن فى هذا الموقف الذي وقفوه من أمر الله، والجهاد فى سبيل الله..
وفى مخالفة النظم لمقتضى السياق، فى قوله تعالى: «إنما السبيل» إذ كان من مقتضى السياق أن يكون: «إنما الحرج» - فى هذا ما يشير إلى ما بين الحالين من اختلاف..
فالضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون- هؤلاء ومن على شاكلتهم، واقعون تحت عفو الله، غير مطالبين بما هو مطلوب من أهل القوة والصحة والغنى.. فلا حرج عليهم، ولا جناح، إذا هم كانوا من المتخلفين..
أما هؤلاء الأغنياء الذين تخلّفوا عن قدرة، فهم فى مقام المؤاخذة، وفى معرض الجزاء والعقاب، ومن هنا كان السبيل مفتوحا، والطريق مكشوفا
ويشهد لهذا المعنى، قوله تعالى: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» (٤٢: الشورى).. فهؤلاء الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق، قد عرّضوا أنفسهم للنقمة والبلاء، وإنّه لا عاصم لهم يدفع عنهم هذا البلاء الذي سيحل بهم.. وقوله سبحانه: «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» (٩٠: النساء) أي أن هؤلاء الكافرين الذين اعتزلوا القتال الذي بين المسلمين وبين الكافرين، وفاءوا إلى السّلم، ولم يبسطوا أيديهم أو ألسنتهم بأذى للمسلمين- فليس للمسلمين سبيل إلى قتالهم..
فانظر فى وجه هذا الكلام المشرق، تجد أنه كلام- وإن أخذ من أفواه الناس- قد نظمته بد القدرة، وجاءت به على هذا الإعجاز المبين.. فسبحان سبحان من هذا كلامه.
وقوله تعالى: «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ.. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
هو إخبار للنبىّ والمؤمنين، وإنذار للمنافقين وذوى الأعذار الكاذبة، إخبار بما سيكون من هؤلاء المنافقين والمعذّرين حين يلقون النبىّ والمؤمنين بعد عودتهم من غزوة تبوك- بما لفّقوا من أعذار، وما نسجوا من أكاذيب، يبرّرون بها تخلفهم عن الجهاد مع المجاهدين.
- وقوله تعالى: «وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» أي سيرى الله ورسوله ما يكون منكم بعد هذا من مواقف حيال الإسلام والمسلمين، من بغى وعدوان، ومخادعة ونفاق، أو مسالمة وسلام..
ومعنى الرؤية هنا، العلم القائم على واقع الحال..
وهذا ما جعل الرؤية معلقة على المستقبل: «وسيرى الله عملكم ورسوله» أي فى حال تلبّسهم بما يعملون. أما رؤية الله سبحانه فهى مطلقة تشمل الزمان والمكان جميعا..
- وقوله سبحانه: «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» تهديد لهؤلاء المعذّرين، بوضعهم تحت المراقبة التي لا تغفل، والتي تعلم سرّهم وجهرهم، وتأخذهم جميعا بما عملوا، فلا يفلت منهم أحد.
قوله تعالى: «سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ».
يكشف عمّا فى وجوه المنافقين من صفاقة، وأنهم لا يكترثون كثيرا بما يحببهم به النبىّ والمؤمنون من ردّ وردع، ومن تكذيب وبهت..
ومن تكن برسول الله نصرته | إن تلقه الأسد فى آجامها تجم |
وهكذا، كل من استقام على طريق الحق، يجد من نفسه القوة التي تنأى به عن سفساف الأمور، وترفعه عن الدنايا، فلا يأتى ما يخلّ بالمروءة، أو يشين الشرف..!
وليس هذا فى الإنسان وحده، بل إنه فى عالم الحيوان.. فالحيوان الضعيف، يقوّى ضعفه بالاحتيال والمخادعة.. على حين أن الحيوان القوى يأخذ فى حياته خطّا مستقيما واضحا.. وشتان بين الثعلب، والأسد.. فذاك من ضعفه مخادع مخاتل، وهذا من قوته ظاهر واضح. ذاك يأكل الجيف ولا يعافها، وهذا يعفّ عن أن يلوّث فمه بالميتة وإن هلك جوعا..!
وأكثر من هذا، فإن عالم النبات يجرى على هذا الأسلوب من الحياة..
الشجرة القوية، الطيبة، لا تأوى إليها الهوام، ولا تندس فيها الحشرات.. على حين
وأكثر من هذا أيضا.. عالم الجماد تجد فيه هذه الظاهرة واضحة على أتمّها.. فالأرض الصلبة لا تشوّه وجهها الأخاديد والحفر..! والمرتفع من الأرض لا يكون مستودعا للمياه الراكدة، والمستنقعات.. وقمة الجبل لا تكون محطّا لخسيس الطير أبدا..
القوّة أبدا.. هى موطن السلامة والعافية، وهى مستودع الخير والحسن..
فإذا كانت القوة قوة منبعثة من إيمان يعمر القلب، ويغذّى الوجدان، كانت قوة كلّها خير، ورحمة، وإحسان.
والإيمان هو الزاد الذي يغذّى القوة الروحية فى الإنسان، ذلك الزاد الذي تتجمع عناصره من الأعمال الصالحة التي نمت فى ظل الإيمان، والتي تجمعها التقوى التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» فهؤلاء المنافقون الذين ردّهم النبىّ والمؤمنون، وفضحوا ما جاءوا إليهم به من أعذار- هاهم أولاء يجيئون إلى النبىّ والمؤمنين بوجه آخر من وجوه نفاقهم، يجيئون بأعذارهم تلك التي كذّبها الله، وفضحها النبىّ والمؤمنون، فيزكّونها بالحلف كما يذكّى الذابح البهيمة بالذبح، بعد أن تموت وتتعفّن!! وماذا يريدون بهذا الحلف الكاذب؟
يريدون أن يقبل النبىّ والمؤمنون أعذارهم، وأن يصدقوا منهم هذا الكذب المفضوح، وبهذا يتحقق لهم أمران:
الأمر الأول: عدم فقدان الثقة فى أنفسهم، وفى تلك البضاعة التي يتعاملون بها، لأنه لا وجود لهم إذا أفلت من بين أيديهم هذا الزاد الذي يعيشون فيه، وبارت تلك البضاعة التي هى رأس مالهم فى الحياة..
وقد دعا الله النبىّ والمؤمنين أن يعرضوا عنهم، ولكن لا إعراض المصدّق أو المتسامح، بل إعراض المشمئز المتقزّز النافر من شىء كريه، تؤذيه رائحته: «إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ».. فإنهم لو سلموا من أذى النبىّ والمسلمين، فلن يسلموا من عقاب الله، ومن عذاب السعير المعدّ لهم..
قوله تعالى: «يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ».
هو بيان لحلف يحلف به المنافقون، يريدون به أكثر مما يريده الذين حلفوا منهم، وكانوا يريدون به أن يعرض عنهم النبي والمؤمنون، فلا ينالوهم بأذى..
أما هؤلاء، فإنهم يبغون بحلفهم أن يرضى النبىّ والمؤمنون عنهم، وأن يخلطوهم بهم..!
وقد أيأس الله المنافقين من أن ينالوا بحلفهم هذا الرضا الذي طلبوه، وأنه حتى لو رضى النبي والمؤمنون عنهم- وهذا ما لا يكون أبدا- فلن يرضى الله عنهم: «فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ»
..
قوله تعالى: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
تشير الآية الكريمة هنا إلى ما للبيئة من أثر فى طبيعة الإنسان، وفى رسم معالم شخصيته، وتحديد مواقفه من الحياة.
ومن هنا كانت الطبيعة الحادّة فى نفس البدوىّ، ذاهبة به مذهب الغلوّ والتطرف..
فالمنافقون من أهل البادية على نفاق أشد وأسوأ من نفاق سكان الحضر..
وكذلك كفرهم.. هو كفر غليظ كثيف مغلق، لا تطلع عليه ضوءة من الحق أبدا، وإنهم لبعدهم عن مواقع الهدى من رسول الله، ومن المؤمنين، قد فاتهم خير كثير، إذ لم يعلموا ما بين يدى الله من دين الله، ومن شريعة الله.. ومن علم منهم شيئا من هذا، لم يعلمه علم تحقق ويقين..
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» دعوة لهؤلاء الأعراب أن ينزعوا لباس البداوة، وأن يخرجوا من حياتهم تلك، إلى حياة الحضر، وأن يقتربوا من مواطن العلم والمعرفة، حيث يلقون رسول الله، ويأخذون عنه، ويخالطون المؤمنين، ويحذون حذوهم.. فالله سبحانه «عليم حكيم» ولا يعرف الطريق إلى الله، ويحسن التعامل معه، إلا أهل العلم والحكمة..
فالإسلام إذ يشنع على البداوة، وإذ يصم أهلها بالنفاق الكريه، والكفر الغليظ، والجهل الفاضح- الإسلام بهذا يدعو إلى العمران، ويحرض على المدنية، ويبغض إلى الناس العزلة والوحشة وقبول الحياة، كما هى، من غير معالجة لأشيائها، ووضع بصمة الإنسان العالم الحكيم عليها..
قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ
الأعراب الذين دخلوا فى الإسلام على غير علم أو نظر، لم يكن لهذا الدين أثر فى نفوسهم، ولا لشريعته حساب فى ضمائرهم.. إنهم مسلمون، وليسوا مؤمنين، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ».. (١٤: الحجرات) هؤلاء الأعراب إذا دعوا إلى الإنفاق فى سبيل الله، بحكم أنهم مسلمون، تجب عليهم الزكاة، كما يجب عليهم الجهاد بالمال والنفس فى سبيل الله- إذا دعوا إلى الإنفاق لم ينفقوا إلا تحت هذا الحكم الملزم لهم، لا عن طواعية واختيار، ولهذا يعدّون ما ينفقون فى هذا الوجه مغرما، لأنهم أنفقوه فى غير ما يشتهون، فهم لهذا ينظرون إلى الوجه الذي أنفقوه فيه نظر حقد وكراهية، ويتربصون بالمسلمين وبالمجاهدين الدوائر، أي يتمنون لهم الهزيمة والضياع، حتى لا يكون للإسلام يد عليهم تأخذ من أموالهم ما تأخذ من صدقات..
والدوائر جمع دائرة، وهى خط أشبه بالحلقة، يدور حول نقطة ارتكاز فى وسطه.. وقد استعيرت للشر يقع بالإنسان أو الجماعة، فى مجال الصراع مع قوة أخرى معادية، فيقال دارت عليهم الدائرة، أي هزموا، وذلك يعنى أنهم قد أطبق عليهم العدوّ وأحكم عليهم إغلاق طريق الإفلات أو الفرار، فكانوا وكأنّ العدوّ دائرة عليهم.
وقد ردّ الله على المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدائرة بقوله:
«عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ».. فقضى الله عليهم هذا القضاء، وتوعدهم به، وهو أن الدائرة التي ينتظرونها فى المسلمين، لن تقع فى المسلمين، الذين سيكتب الله
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» تهديد لهؤلاء المنافقين بمراقبة الله سبحانه وتعالى لهم، واطّلاعه على ما يسرّون وما يعلنون، وأنه سبحانه مؤاخذهم بما كانوا يكسبون..
قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ.. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
ليس الأعراب جميعا على حال سواء، فإذا كانت الصحراء تنبت الشوك والحسك، وتؤوي الوحوش والحيّات، فإنها تخرج العرار «١» والريحان، وتتحلّى بالظّباء والنّعام..
وإذا كان فى أعراب البادية، الجفاة، وأهل الوحشة والجهالة، فإن فيهم ذوى النفوس الرقيقة، والقلوب المتفتحة، والوجدانات الشفيفة.. التي تذوب رقة وعذوبة.. إن هؤلاء أشبه بالأنسام العليلة الرطبة، التي تهمس بها أنفاس الصحراء بين الحين والحين فى آذان الأصائل والأشجار، فتبعث الرّوح والعافية فى كيان الأحياء، التي كادت تهلك من لفحات الهجير، ووقدات السّموم!..
ففى أعراب البادية الشعراء، والحكماء، وأصحاب الفراسة والألمعية التي تلمح بذكائها الفطري ما لا تلمحه العين المبصرة وراء المجهر، وتكشف بصدق حدسها وظنّها من خفايا النفوس، ما لا يكشفه عالم النفس بأدوات علمه، ومقاييس فنّه.
والذين دخلوا الإسلام من هؤلاء الأعراب، من ذوى النظر، والحكمة، قد عرفوا هذا الدّين معرفة كاشفة، فازدادت به بصائرهم استضاءة وتألفا،
وفى قوله تعالى: «وَصَلَواتِ الرَّسُولِ» بالعطف على قوله سبحانه:
«قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» إشارة إلى أن صلوات الرسول، أي دعاءه لمن يقدّم له الصدقات، هى مما يتقرب به المتقربون إلى الله.. فهى صدقات إلى صدقاتهم، يضيفها الرسول إليهم لتزيد فى قربهم إلى الله..
فلقد، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يصلّى على المتصدق، أي يدعو له، بالخير، والبركة، وذلك امتثالا لقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ»..
وقوله تعالى: «أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ» هو توكيد للمفهوم الضمنى الذي أفاده عطف صلوات الرسول على قوله تعالى: «قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ».. فهذه الصلوات والدعوات من الرسول هى قربة لهم عند الله، بمعنى أن دعاء الرسول للمؤمن، يعنى رضا الرسول عنه، وهذا الرضا هو فى ذاته قربة عند الله للمؤمن، ينال به رضا الله ومغفرته، سواء أكان دعاء الرسول ورضاه عن نفقة أنفقها المؤمن، أو عن كلمة طيبة قالها، أو مسعى حميد سعى به بين المسلمين، أو موقف كريم وقفه، أو مشهد حسن شهده.. وقد دعا الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لعثمان رضى الله عنه، حين أنفق ما أنفق فى تجهيز جيش العسرة فقال: «اللهم ارض عن عثمان فإنى أصبحت عنه راضيا» ! فكان عثمان بذلك أحد العشرة المبشرين بالجنّة.
الآيات: (١٠٠- ١٠٦) [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٦]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
التفسير: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنها تعرض صورة مشرقة للمؤمنين، الذين يتجلّى عليهم الله سبحانه وتعالى برضوانه، وينزلهم منازل فضله وإحسانه، وذلك بعد أن عرض فى الآية السابقة عليها صورة مضيئة، انبثقت من بين ظلام البداوة، وطلعت من مهابّ سمومها وهجيرها..
فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- هم الإنسانية الكريمة الوضيئة، يتمثل فيهم كل ما يمكن أن تعطيه الإنسانية من ثمر طيّب مبارك.. فهم من الإنسانية بمنزلة هذه القلّة من أعراب البادية، الذين خلصوا من كدر البادية، وسلموا من أدرانها وأوضارها..
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.. هم الذين سبقوا إلى الإسلام، فكانوا الكوكبة الأولى التي تقدمت ركبه الميمون، وكانوا الكواكب الدّريّة التي بين يد فجره الوليد.. أولئك هم الذين حملوا أعباء الدعوة الإسلامية، واحتملوا- فى صبر ورضا- مواجهة العاصفة التي هبّت عليهم عانية مزمجرة، تحمل فى كيانها جهالة الجاهلية، وحماقاتها، وسفاهاتها، وعتوّها وضلالها.. فكان لهم عند الله هذا المكان الكريم، وتلك المنزلة التي اختصهم بها، وأفردهم فيها..
فمن أراد أن يلحق بهم ويضاف إليهم، فسبيله إلى ذلك أن يقفو أثرهم، ويتبع سبيلهم، ويحسن كما أحسنوا، ويبلى كما أبلوا.. فذلك هو الثمن لمن يطلب رضا الله، ويطمع فى أن يكون مع أحبابه وأصفيائه.. فيكون بهذا مضافا إليهم مع الذين اتبعوهم بإحسان.
وفى قوله تعالى: «بِإِحْسانٍ» هو قيد مؤكّد، يكشف عن الإحسان الذي يكون من متابعة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتأسّى بهم..
وقوله تعالى: «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» هو عرض كاشف لمنزلة هؤلاء الصفوة من عباد الله، وأنّ الله رضى عنهم، بما كان منهم من إحسان، وأنّهم رضوا، بما أرضاهم الله به، ونعموا فيه..
وفى قوله تعالى: «وَرَضُوا عَنْهُ» رضوان فوق رضوان من عند الله، يحفّهم به، ويزيدهم نعيما إلى نعيم.. إذ جعل الله سبحانه وتعالى رضاهم عنه بما أعطاهم معادلا لرضاه عنهم، حتى لكأنه سبحانه وتعالى، يتبادل الرضا معهم، فيرضى عنهم، ويرضون عنه.. فسبحانه، ما أعظم لطفه، وما أوسع فضله، وما أكرم عطاءه، وأسبغ إحسانه! قرئ: «والأنصار» بالرفع. على الاستئناف..
وفى هذه القراءة يكون قوله تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ» مقصورا على المهاجرين وحدهم.. وهذه القراءة ينقضها التفسير العملىّ للآية الكريمة التي احتج بها أبو بكر رضى الله عنه على الأنصار، وجعلها مستنده فى تقديم المهاجرين على الأنصار، فقال فى خطبة «يوم السقيفة» مخاطبا الأنصار: «أسلمنا قبلكم، وقدّمنا فى الكتاب عليكم، فقال تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء..
وهذا يعنى أن الأنصار شركاء للمهاجرين فى هذا الفضل، الذي تطلب الخلافة به، وأن المهاجرين إذا كانوا أولا، فالأنصار ثانيا، كما جاء ذكرهم فى
وإذا كانت واو العطف النحوية لا تفيد ترتيبا، ولا تعقيبا، فإن واو العطف القرآنية، تفيد ترتيبا وتعقيبا.. هكذا دائما. فى كل مقام وقع فيه العطف بين متعاطفين أو أكثر..
وأما قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ».. فهو معطوف كذلك على ما قبله عطف نسق، بمعنى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوا السابقين من المهاجرين والأنصار، هم جميعا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه، وأعدّ لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.. وإن كان ثمة تفاضل فهو فى الدرجة، وليس فى الرتبة.
والأنصار أعنى السابقين الأولين منهم، وهم الذين بايعوا النبىّ بيعتى العقبة.
الأولى والثانية قبل الهجرة، والذين استجابوا له، وأقاموا المجتمع الإسلامى الأول بالمدينة، وكانوا حصن الإسلام والمسلمين- هؤلاء جديرون بأن يشاركوا المهاجرين الأولين منزلتهم، وأن يزاحموهم بالمناكب عليها، وإن كان فضل الله أوسع وأرحب من أن يقع فى رحابه زحام أو صدام..
وكذلك الذين جاءوا من بعد المهاجرين الأولين والأنصار، وسلكوا طريقهم، وساروا سيرتهم، هم جديرون بأن يلحقوا بهذا الركب الميمون، وأن يكونوا منه غير بعيد..
فإذا كانت مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار آيات النبوّة، ونفحات النبىّ، فسبقوا إلى الإيمان، ودانوا له، وأعطوه ولاءهم كاملا، حتى اشتمل عليهم ظاهرا وباطنا، وكان حريّابهم أن يبلغوا من الصفاء والشفافية واليقين ما بلغوا، مما تتقطع دونه الأعناق- إذا كان ذلك كذلك، فإن الذين
يقول ابن مسعود رضى الله عنه: «إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه..
والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم تلا قوله تعالى:
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» هذا وقد جاء ذكر هؤلاء الصفوة من المؤمنين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- جاء ذكرهم على هذا الترتيب فى قوله تعالى: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (٨- ١٠: الحشر).
وهكذا الإسلام، طريقه مفتوح دائما لأصحاب النفوس الطيبة، والقلوب السليمة، والعزائم الصادقة، يرتادون فيه منازل الرضوان، وينزلون منها حيث
ففى الأعراب الذين حول المدينة منافقون، وفى المدينة ذاتها منافقون..
وهؤلاء وأولئك جميعا قد مردوا على النفاق، أي شبوا عليه، ورضعوا أخلاقه وهم شباب مرد، فمرنوا عليه، وخف عليهم محمله، إذ شب معهم وصار بعضا منهم، أشبه بالجارحة من جوارحهم..
وفى قوله تعالى «لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» تهديد ووعيد لأولئك المنافقين الذين برعوا فى النفاق، وصاروا أساتذة فيه، حتى لا يكاد يطلع عليهم أحد، وهم يتعاملون به، ويتعاطون كئوسه مترعة! ولكن الله يعلمهم، وهو- سبحانه- الذي يتولى حسابهم ويأخذهم بذنوبهم، بل ويفضحهم فى هذه الدنيا، بما ينزل من آيات فيهم..
وقوله تعالى: «سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ»..
اختلف المفسرون فى عذاب المنافقين مرتين.. ولم نجد عندهم ما نرضاه ونستريح إليه..
أما العذاب العظيم الذي يردّون إليه بعد هذين العذابين، فهو عذاب الآخرة، «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (٥٥: العنكبوت) قوله تعالى: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
هو إشارة إلى صنف آخر من الذين نافقوا فى غزوة تبوك، فتخلفوا عنها بأعذار ملفّقة، وتعللوا بتعللات كاذبة، وقد وقع فى أنفسهم النّدم على ما كان منهم، وجاءوا إلى النبىّ معترفين بذنوبهم، ومنهم الثلاثة الذين خلّفوا، والذين ذكرهم الله بعد ذلك فى قوله سبحانه: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا».
فهؤلاء المخلّفون، قد خلطوا عملا صالحا كان منهم قبل هذا التخلف، بآخر سيّىء، هو هذا التخلف عن رسول الله وعن المؤمنين فى غزوة تبوك..
- وفى قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» دعوة لهم إلى المبادرة بالتوبة، والانخلاع مما تلبّسوا به من خلاف لله ولرسوله.
فإنهم إن أخلصوا نيّاتهم، وأخلوا قلوبهم من وساوس النفاق، ورجعوا إلى الله تائبين- كانوا بمعرض الصفح والمغفرة، فإنهم يطلبون الصفح والمغفرة من رب غفور رحيم.
- وفى قوله سبحانه: «مِنْ أَمْوالِهِمْ» إشارة إلى أن المطلوب بذله فى وجوه الإحسان من المال، هو بعضه لا كلّه، وفى ذلك رحمة بالناس.
- وفى قوله تعالى: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» - أكثر من إشارة:
فأولا: أن فى صلاة النبىّ على المتصدّق، ودعائه له، مجازاة عاجلة بالإحسان، يجد المتصدّق أثرها فى نفسه، وبردها على قلبه، فيشيع فى كيانه الرضا، وتملأ قلبه السكينة.
وهذا أدب ينبغى أن يتأدب المسلمون به، فيلقون إحسان المحسن بالحمد والشكران، فإن ذلك أقلّ ما يجزى به، والله سبحانه وتعالى يقول: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ».. وبهذا تتفتح النفوس للخير، وتسخو الأيدى بالإحسان..
وثانيا: أن الإحسان فى ذاته جدير بأن يحمد للمحسن فى كلّ إنسان، سواء أصابه شىء من هذا الإحسان أم لم يصبه، فهو عمل طيب، وصنيع مبرور، وكما ينبغى على المؤمن أن ينكر المنكر لذاته، كذلك يجب عليه أن يحمد المعروف لذاته.. وبهذا يشيع فى الناس الخير، وتتكاثر أعداد المتعاملين به.
وهو- صلوات الله وسلامه عليه- قائم على رسالة الخير والبرّ.
هذا، وقد قيل فى سبب نزول هذه الآية: إن الثلاثة الذين خلّفوا، حين اعترفوا بذنوبهم، ونزل فى قبول توبتهم قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا»، جاءوا إلى النبي ﷺ بأموالهم، فقالوا: هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك، فخذها وتصدّق بها عنا، فقال النبىّ: «ما أمرت» فنزلت الآية: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً».
وهذا سبب غير واضح، وغير مناسب لهذا الموقف، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد كرّم هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا، وقبل توبتهم، وأنزل فى ذلك قرآنا، فكيف لا يقبل الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما يقدّمون من صدقات؟ أليسوا مؤمنين؟ أليسوا ممن تجب عليهم الزكاة؟ أليسوا ممن يطلب إليهم الإحسان ويقبل منهم. ؟
والذي نستريح إليه، هو أن الآية أمر مطلق ببذل الصدقات، وأن مناسبة ذلك هو ما عرض من آثام المنافقين وجرائمهم، فناسب ذلك أن يجىء الأمر بالدعوة إلى الزكاة، التي من شأنها تطهير الآثمين.. وفى توجيه الأمر للنبى صلوات الله وسلامه عليه بقبولها، تحريض للمسلمين على أدائها، وإشارة دالّة على اليد الكريمة التي تتناولها منهم، والجزاء الحسن الذي تجزيهم به..
وليس هذا فحسب، بل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتقبل منهم صدقاتهم، كما تشير إلى ذلك الآية التالية..
والاستفهام هنا تقريرى، وضمير الفصل هو توكيد لاختصاص الله سبحانه وتعالى وحده بقبول التوبة، ومنح العفو والغفران.. وليس ذلك لغير الله..
- وفى قوله تعالى «يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» ما يسأل عنه، وهو:
لم عدّى الفعل «يقبل» بحرف الجرّ «عن» مع أن الاستعمال اللغوي لهذا الفعل لم يجىء متعديا إلّا بحرف الجرّ «من».. كما جاء ذلك فى الاستعمال القرآنى لهذا الفعل فى قوله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» وفى قوله سبحانه: «إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».. فلم عدّى الفعل هنا بحرف الجر «عن» ؟
الجواب- والله أعلم- أن التوبة التي يقبلها الله من عباده تضع عنهم ما حمّلوا به من أوزار، وما أثقل كاهلهم من ذنوب، فكان فى قبول التوبة منهم رفع لهذه الآثام عنهم، ولهذا ضمن الفعل «يقبل» معنى الفعل يضع، أو يسقط.. ونحو هذا، كما نظر إلى التوبة على أنها شىء محمّل بالذنوب والآثام لأن التوبة لا تكون إلا عن ذنب وقع، أو إثم اقترف.. فكان قوله تعالى:
قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
هو دعوة عامة للمبادرة إلى العمل فى مجال الخير والإحسان.. وفى العمل فى هذا المجال يعرف العاملون بأعمالهم.. فما كان فى السرّ أو الجهر يعلمه الله، وما كان فى الجهر يعلمه الرسول ويعلمه المؤمنون، وعلى حسب هذه الأعمال يجزى الله، ويضع المحسنين، والمقصرين، والمسيئين، كل منهم فى منزلة، ويجزيه الجزاء الذي هو أهل له.. وعلى ما يظهر من هذه الأعمال الرسول وللمؤمنين، يكون قرب العاملين أو بعدهم من رسول الله ومن المؤمنين، ويكون حسابهم معهم، من موالاة أو معاداة..
هذا فى الدنيا، فإذا كانت الآخرة كشف الغطاء عن أعمال العاملين، خيرها وشرها، وجوزوا عليها بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا.
الإرجاء: التأخير والانتظار،.. يقال: أرجأت الأمر وأرجيته، أي أخرته.. ومرجون لأمر الله، أي مؤخرون ومنظرون لما يقضى به الله فيهم.
قيل نزلت هذه الآية فى الثلاثة الذين خلفوا، وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وهم من الأنصار، وكانوا قد تخلفوا فى غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر، ولم يكن هذا التخلف عن نفاق. ولكن عن توان وفتور، وتردد.. فلما رجع النبي ﷺ من تبوك تلقاه المنافقون بأعذارهم، فقبلها منهم، وتركهم لحسابهم مع الله.. وأما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا الرسول فيما قالوا إذ قالوا: «والله يا رسول الله مالنا من عذر نعتذر به» وكانوا حين تخلّفوا عن رسول الله قد استشعروا الندم. فأوثقوا أنفسهم بسوارى «١» المسجد، وأقسموا ألا يطلقوا أنفسهم منها، حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقهم، فلما رجع الرسول، وأخبر خبرهم، قال: «وأنا أقسم لا أكون أول من حلّهم إلّا أن أومر فيهم بأمر». فلما نزل قوله تعالى:
«وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» عمد رسول الله ﷺ فحلّهم.. ونهى رسول الله المسلمين عن مكالمتهم، وأمر نساءهم باعتزالهم.. حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأقاموا على ذلك خمسين ليلة، ثم نزل قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» فكان ذلك إيذانا بقبول توبتهم.
هذا مما أجمع عليه المفسّرون..
غير أن لنا فى الآية رأيا آخر، وهو أنها تكشف عن جانب من رحمة
ونقول: إن الله سبحانه وتعالى بإحسانه إلى المسيئين، وتجاوزه عن سيئاتهم لا يجور على عمل المحسنين، ولا ينقص من إحسانهم شيئا، بل إنه سبحانه يوفّيهم أجرهم غير منقوص، كما يقول سبحانه: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».
أما التسوية بين المحسنين والمسيئين: فليست واقعة على إطلاقها.. وذلك:
أولا: أن المحسن مجزىّ بإحسانه، بلا شك، كما يقول سبحانه:
«وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».. أما المسيء فهو فى منزلة بين منزلتين: إما أن يأخذه الله بذنبه، وهذا هو الوجه الذي يطلّ عليه من سوء عمله، وإما أن يتجاوز الله عنه، ويعود بفضله عليه، وهذا هو الوجه الذي يطلع عليه من رحمة ربّه! وثانيا: أنه ليس إحسان المحسن وحده هو الذي يدخله الجنة، وإنما قبل ذلك كلّه، هو شموله برحمة الله، كما فى الحديث الشريف: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته».. رحمة الله التي وسعت كلّ شىء.. تنال البر والفاجر.
وأما قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» وقوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».. فهو الميزان الذي يوزن به عمل كل عامل، وسعى كل ساع.. ومع هذا، فإن الله يضاعف للمحسنين إحسانهم، وأنه سبحانه إذ يرى المحسن عمله لا يقف به عند هذا العمل، بل يفضل عليه بأضعاف ما عمل..
وكذلك المسيء، إذا كان لا يقدم على الله إلا بما سعى، وما حصّل من سيئات، فإنه ليس من حرج على فضل الله أن يتجاوز عنه.. ليرى آثار رحمة الله فيه.. وذلك رهن بمشيئة الله وتقديره.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».. يقضى بعلم، ويحكم بحكمة.. والله سبحانه وتعالى يقول على لسان المسيح عليه السلام:
«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ..».
الآيات: (١٠٧- ١١٠) [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
الترقب والتربص، والانتظار.. وشفا جرف: أي حافة الجرف وشفيره..
والجرف: رأس الهاوية المطلّ على منحدرها.. والهارى: المنهار..
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».
قرأ أهل المدينة «الَّذِينَ اتَّخَذُوا» بغير واو العطف، وذلك على الاستئناف وابتداء عرض وجه آخر من وجوه المنافقين..
وقرىء بالعطف، وهو القراءة المشهورة وعليها تنتظم وجوه المنافقين فى سلك واحد، على تقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا..
- وقوله تعالى: «ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ».. المنصوبات المتعاطفة هنا هى مفعول لأجله، تكشف عن السبب الذي لأجله بنى هذا المسجد، وهو للمضارة، لا للنفع، وللكفر لا للإيمان، ولإيواء من حارب الله ورسوله، لا لدعوة من آمن بالله ورسوله..
قيل إن هذا المسجد بناه جماعة من المنافقين، من بنى غنم بن عوف، حسدا لبنى عمهم عمرو بن عوف، الذين كانوا قد بنوا مسجد قباء، ودعوا رسول الله ﷺ أن يصلّى فيه، فأجابهم، وصلى المسلمون معه..
فكان أول مسجد بنى فى الإسلام..
وقد فضح الله فى هذه الآية نفاق هؤلاء المنافقين، وكشف عن تدبيرهم السيّء.. فإنهم ما بنوا هذا المسجد ليكون بيتا من بيوت الله، وإنما بنوه مضارّة بمسجد قباء، حتى لا يعمر بالمصلين، وليكون مأوى يأوى إليه المنافقون، ويدارون نفاقهم بالاجتماع فيه، والاستظلال بظلّه، ثم ليفرقوا بين المؤمنين، حيث لا تجتمع جماعتهم فى مكان واحد، بل يتوزعهم المسجدان المتجاوران، فيقلّ بذلك جمعهم، وتصغر فى الأعين جماعتهم، الأمر الذي يخالف ما يدعو إليه الإسلام من جمع المسلمين فى صلاة الجماعة والجمعة والعيدين، لتتوحد مشاعرهم، وتمتلىء العيون مهابة وإجلالا لهم.. ثم إنهم بنوا هذا المسجد ليكون راية منصوبة لأهل النفاق والضلال، حيث لا يخطئهم أن يجدوا فيه- فى أي وقت- من هم على شاكلتهم فى نفاقهم وضلالهم..
- قوله تعالى: «وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».. المنافقون هكذا دائما يتخذون أيمانهم جنّة يحتمون بها من نظرات الاتهام التي يرمون بها، أو يقدّرون أنهم يرمون بها من كل عين تنظر إليهم.. وهؤلاء الذين فضحهم الله وأخزاهم بما كشف من سوء تدبيرهم، يحلفون للرسول وللمؤمنين أنهم لا يريدون بهذا المسجد لذى بنوه إلا ما يراد من بناء المساجد وعبادة الله فيها.. وقد كذبهم الله سبحانه بقوله: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».. وصدق الله العظيم، وكذب المنافقون، ولعنوا..
قوله تعالى: «لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ».
هذا نهى للنبىّ الكريم أن يلمّ بهذا المسجد، أو أن يتلبّث عنده، فإنه وإن أخذ سمت المساجد، وسمّى اسمها، فلن يشفع له ذلك فى أن يكون على طهر المساجد وقدسيتها، لما وسمه به المنافقون من دنس ورجس.. فكما يظهر المنافقون فى سمت الآدميين، ويأخذون مظاهر الناس.. ثم لم يكن لهم من الإنسانية نصيب إلا هذا السّمت الظاهر، أما حقيقتهم فإنهم دنس ورجس- كذلك كان شأن البنيّة التي بنوها، وأطلقوا عليها اسم المسجد.. إنها لا تمثل من المسجد إلا وجهه الظاهر، أما باطنها فكفر ونفاق وضلال! - وفى قوله تعالى: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» تنويه بمسجد قباء، وتكريم له، ورفع لقدره، وقدر الذين بنوه، والذين يلقون الله فيه- بقدر ما هو إزراء بأصحاب مسجد الضرار، وتشنيع عليهم، وعلى هذا البناء الذي رفعوه فهدمه الله عليهم..
والمراد بالرجال الذين يحبّون أن يتطهروا، هم الذين يلقون الله فى الصلاة فى هذا المسجد.. فهى صلاة مقبولة، فى مكان طاهر تؤدى فيه عبادة خالصة لله، من شأنها أن تطهّر أهلها، الذين يداومون عليها، ويقيمونها بقلوب مؤمنة، خالية من الرياء والنفاق..
قرىء أفمن أسس بنيانه «ببناء الفعل للمجهول»، كما قرئ «أُسِّسَ» فى الموضعين، جمع أسّ، بمعنى الأصل والأساس..
والآية تعرض المسجدين، مسجد قباء، ومسجد الضرار، فى وضع يواجه فيه أحدهما الآخر.. فيكشف ذلك عن مدى ما بينهما من تفاوت.. هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج.. هذا طيب، أطيب الطيب، وهذا خبيث، أخبث الخبث..
والضدّ إذا قرن بضدّه، زاد كل منهما فى الصفة الغالبة عليه زيادة لا ترى إلا حيث يتقابل مع ضده.. فيزداد الحسن حسنا وروعة، ويزداد القبيح شناعة وقبحا.. وبضدها تتميز الأشياء- كما يقولون! - وفى قوله تعالى: «فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ» تصوير للعاقبة التي ينتهى إليها هذا المسجد- مسجد الضرار- بأهله الذين بنوه، وأنه إذ بنوه على ضلال ونفاق وزيف، فهو بناء على خواء.. على شفا جرف هار، وأنه إذ ينهار فسينهار بهم فى نار جهنم، فهم بهذا قد ظلموا أنفسهم: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
وقوله تعالى: «لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
نفى القرآن فى هذه الآية عن مسجد الضرار، كلّ ما تتسم به المساجد، حتى اسمه، فلم يعد مسجدا بعد أن فضحه الإسلام، وفضح أهله، وكشف عن
وسيظل هذا البناء ريبة فى قلوب الذين بنوه، أي مبعث شك، وارتياب ونفاق، قد علق ذلك كله بقلوبهم، وتمكن منها، لا يستطيعون فكاكا منه، إلا بعد أن تتقطع قلوبهم.. وهذا لا يكون إلا إذا ماتوا، وماتت الريبة معهم!..
- وفى قوله تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ» إشارة إلى أن الريبة قد استقرت فى قلوبهم، فاحتوتها هذه القلوب، وصارت ظرفا حاويا لها.
الآيتان: (١١١- ١١٢) [سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
التفسير: ليس الإيمان مجرد نطق باللسان، وتصديق بالقلب، وإنما هو- مع هذا- عمل بالجوارح، وابتلاء فى الأموال والأنفس.. فمن صدّق قلبه ما نطق به، ومن صدق عمله ما صدّق به قلبه، فذلك هو المؤمن، الذي يقبله الله فى المؤمنين..
ولكن شاء فضل الله أن يجعل لعباده ملكية هذه الأنفس، وتلك الأموال، وأن يشتريها منهم، وأن يعوضهم عليها! وقدّمت الأنفس على الأموال هنا على خلاف المواضع كلها التي جاء فيها ذكر الأموال والأنفس مجتمعين فى القرآن.. ففى جميع المواضع ما عدا هذا الموضع قدمت الأموال على الأنفس! فما سرّ هذا؟ أو قل ما أسرار هذا؟
ونقول- والله أعلم- إن بعض السر فى هذا هو أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يطلب الأنفس والأموال فى هذا المقام، على حين أنه فى جميع المواضع التي ذكرت فيها الأنفس والأموال فى القرآن الكريم- كانت مبذولة من المسلمين، أو مطلوبا منهم بذلها..! ولاختلاف المقام اختلف النظم.. ففى شراء الله سبحانه وتعالى ما يشترى من المؤمنين يقدم الأنفس على الأموال لأنها عند الله أكرم وأعز من المال، على حين أن المال عند الناس أعز من الأنفس، إذ يتقاتلون من أجله، مخاطرين بأنفسهم ويقتلون أنفسهم فى سبيله! وفى اختلاف النظم هنا إلفات للناس إلى ما ذهلوا عنه من أمر أنفسهم، إذ استرخصوها إلى جانب المال، على حين أنها شىء كريم عزيز عند الله.
- وفى قوله تعالى: «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» إشارة إلى أن من شأن المؤمن أن يكون له يد ظاهرة على عدوه، وبلاء مؤثّر فيه، وأنه
- وقوله تعالى: «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ.. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» ؟ هو توكيد لما وعد الله المؤمنين الذين باعوه أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة، فهذا الوعد حق لا مرية فيه- كما جاء به القرآن والتوراة والإنجيل.
فذلك هو وعد الله للمؤمنين المجاهدين، فيما جاءت به الكتب السماوية المنزلة من رب العالمين.. «وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» ؟ وهل يخلف الله وعده، أو ينقض عهده؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
هذا وليس بيع الأنفس والأموال لله مرادا به بذلهما فى القتال فى سبيل الله ثم الوقوف بهما عند تلك الغاية وحدها.. فإذا لم يكن بين يدى المؤمن قتال ومجاهدة للعدو، فهناك ميدان فسيح للجهاد فى سبيل الله فى غير ميدان القتال، فمجاهدة النفس والوقوف بها عند حدود الله، هو جهاد مبرور فى سبيل الله..
والعبادات بأنواعها، وأداؤها على وجهها جهاد فى سبيل الله، والسعى فى تحصيل الرزق من وجوهه المشروعة، جهاد فى سبيل الله.. والبر بالفقراء، والإحسان إلى اليتامى.. هو جهاد فى سبيل الله.
وإذا كانت الآية الكريمة قد خصّت القتال فى سبيل الله بالذكر هنا، فليس ذلك إلا تنويها يفضل الجهاد فى ميدان القتال، إذ يمثل الصورة الكاملة التي يبذل فيها المرء كل ما يملك، ويقدم لله فيها كل ما معه من نفس ومال..
على خلاف أبواب الجهاد كلها، فإنه يبذل بعضا من كلّ، ويقدم لله بعضا ويستبقى بعضا.
هو مباركة من الله سبحانه وتعالى لأولئك المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم له- مباركة بهذه الصفقة التي عقدوها مع الله، وتبشير لهم بالربح العظيم، والمغنم الجزيل الذي وراءها.. إنها الجنة التي وعدهم الله بها وإنها الرضوان من رب العالمين.. وذلك هو الفوز العظيم..
قوله تعالى: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ».
تلك هى صفات المؤمنين الذين يؤهلهم إيمانهم لأن يبايعوا الله، وأن يعقدوا معه هذه الصفقة الرابحة، وأن يظفروا بهذا المغنم العظيم..
فقوله تعالى: «التَّائِبُونَ» صفة للمؤمنين فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» والتقدير «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» الذين هم التائبون العابدون...
الآية».
والتائبون: هم الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، وتابوا إلى الله من قريب.. والعابدون: هم الذين يقرّون بالعبودية لله، ويعبدونه مخلصين العبادة له وحده.. والحامدون: هم الذين يحمدون الله على الضراء حمد هم إياه على السّرّاء.. يقولون كلّ من عند ربنا، وكل ما هو من عنده فهو- سبحانه- المحمود، الذي يستأهل وحده الحمد، ويستوجب الرضا فى
والراكعون الساجدون: هم الذين يقيمون الصلاة، ويؤدون ما افترض الله عليهم منها..
والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: هم الذين يدعون إلى الخير، وينهون عن الشر.. وقد جاء العطف بينهما لأنهما وجهان لأمر واحد، فمن أمر بمعروف فهو ناه عن منكر، ومن نهى عن منكر فهو آمر بمعروف.
والحافظون لحدود الله: أي القائمون على ما أمر الله به، والمجتنبون ما نهى الله عنه..
فتلك هى صفات المؤمن فى أعلى منازله، وأشرف مراتبه، وأكمل أحواله.
وكل صفة من هذه الصفات لا تتحقق فى المؤمن على كما لها إلا إذا وفّاها حقّها، وأداها على الوجه المطلوب أداؤه عليها، وعندئذ يحقّ له أن يوصف بها، ويدخل فى أهلها.
وفى الجمع بين هذه الصفات، دون أن يقوم بينها حرف عطف.. ما يشير إلى أنها جميعا بمنزلة صفة واحدة.. وأنه لا تتحقق أية صفة منها إلا إذا تحققت جميعا.. أو بمعنى آخر أن تحقيق أية صفة منها داعية لتحقيق الصفات كلها..
فالتائب، إذا صحّت توبته، وحقق مضمونها، كان عابدا، حامدا، سائحا، راكعا، ساجدا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، حافظا لحدود الله.
والعابد، إذا عبد الله كما ينبغى أن يعبد، كان تائبا، حامدا، سائحا،
وهكذا فى كل صفة من تلك الصفات، إذا تحلّى المؤمن بواحدة منها، كانت الصفات الأخرى من حليته!.
وواضح أن هذه الصفات إنما تعطى ثمرتها فى ظل الإيمان بالله، فإذا لم يكن الإيمان قائما عليها، فلا ثمرة لأىّ منها.. ولهذا جاءت هذه الصفات خاصة بالمؤمنين، مقصورة عليهم.
قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» أي وبشّر أصحاب هذه الصفات، الذين هم المؤمنون بالله، الذين حققوا صفة الإيمان، واستحقوا أن يجزوا جزاء المؤمنين الذين باعوا الله أنفسهم وأموالهم، فى مقابل ما وعدهم الله به، بأن لهم الجنة، وهنأهم بهذا البيع الربيح بقوله: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
فالذين يتصفون بتلك الصفات، هم من الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم، ولهم ما للمجاهدين الذين يقاتلون فى سبيل الله، وما وعدهم الله من رضوان وجنة وفوز عظيم.. ذلك أن المؤمن الذي يحقق تلك الصفات فى نفسه إنما حققها لأنه رصد نفسه وماله فى سبيل الله، وفى ابتغاء مرضاته.
الآيات: (١١٣- ١١٦) [سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٦]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
وقوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ».
هو استبعاد أن يكون من النبي والمؤمنين استغفار وترحّم للمشركين، ولو كانوا من أهليهم وذوى قرابتهم، إذا تبيّن لهم أنهم من أهل الكفر والضلال..
فالمشركون أعداء لله، حرب على الله، والمؤمنون أولياء لله.. ولن تجتمع الولاية لله.. والولاية لأعداء الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» (٢٢: المجادلة) والاستغفار للمشركين والترحم عليهم- ولو كانوا أمواتا- يتدسس منه على شعور المؤمن شىء من الرضا عن حالهم التي كانوا عليها من الشرك والضلال، لأن الاستغفار لهم إنما ينبعث عن عاطفة الرحمة بهم والإشفاق عليهم، فى ذوات أنفسهم، وما تلبست به تلك الذوات من كفر وضلال.. وهذا من شأنه أن يدخل؟؟؟ على مشاعر المؤمن فى إيمانه، ويبعده عن الاحتفاظ به نقيّا خالصا من كل شائبة..
- وفى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» بيان إلى أن النهى عن الاستغفار للمشركين إنما هو من بعد أن يتحقق أنهم ماتوا على الشرك، وأنهم أصبحوا فى أصحاب النار.. وهؤلاء هم الذين بلغتهم الدعوة الإسلامية من مشركى العرب، ثم لم يستجيبوا لها، ومالوا على شركهم الذين كانوا عليه!.
قوله تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ».
هو إجابة عن سؤال وقع، أو هو متوقّع أن يقع، بعد الاستماع إلى قوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» والسؤال الذي يقع بعد الاستماع إلى هذه الآية: وكيف استغفر إبراهيم لأبيه، وقد كان أبوه من المشركين؟
وفى القرآن الكريم يقول الله تعالى على لسان إبراهيم: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٣- ٨٦: الشعراء)
والجواب، قد جاءت به هذه الآية: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ»..
فإبراهيم لم يستغفر لأبيه إلا وهو يطمع فى أن يهديه الله إلى الإيمان..
يشير إلى هذا، ذلك الحوار الذي سجله القرآن الكريم بين إبراهيم وأبيه..
يقول الله تعالى:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» (٤١- ٤٧: مريم) فإبراهيم لم يستغفر لأبيه إلا وهو يطمع فى أن يستجيب له، وأن يسلك معه الطريق إلى مواقع الهدى والإيمان..
- «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ».. وهذا البيان إنما انكشف لإبراهيم بعد أن مات أبوه، وهو على ما هو عليه من شرك..
وهنا انقطع رجاء إبراهيم فى هداية أبيه.. فأمسك لسانه وقلبه عن الولاء له.
فإبراهيم هنا هو القدوة والأسوة فى أعلى مستوياتها، للولاء لله، والإخلاص لدين الله.. فلا حساب عنده لعاطفة قرابة تدخل شيئا من الضيم على ولائه لربّه، وإخلاصه لدينه..
قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
فى هذا ما يكشف عن لطف الله ورحمته بعباده، وأنه- سبحانه- لا يأخذهم بالعقاب، ولا ينزلهم منازل الضّالين، إلا بعد أن يبيّن لهم الطريق الذي يسيرون عليه، وما يأخذون أو يدعون من الأمور..
أما ما يقع من العباد مما لم يكن قد جاءهم أمر الله فيه، فهو معفوّ عنه عند الله، ولو كان مما نهى الله عنه بعد أن وقع منهم..
والآية تدفع عن صدور المسلمين ما وقع فيها من حسرة وندم على ما وقع منهم من استغفار لمن مات من أهليهم وأصدقائهم على الشرك، قبل أن يجىء النهى عن الاستغفار لهم.. فلا شىء عليهم فى هذا، لأنهم لم يفعلوا أمرا كان واقعا تحت الحظر، ولم يأتوا منكرا نهاهم الله عنه..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن العلم هو الأساس الذي ينبغى أن تقوم عليه تصرفات العباد، وأن تنضبط عليه أعمالهم، وأن كل عمل لا يستند إلى علم ومعرفة هو لغو لا حساب له، ولا اعتداد به..
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ».
وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها. إذ قد دعت الآيات السابقة إلى قطع علائق المودة والموالاة بين المؤمنين وبين من لهم بهم صلة من المشركين.. وهذه الآية تشدّ المؤمنين بالله إليه، وتقيم وجوههم له، دون التفات إلى غيره، إذ أن له وجده- سبحانه- ملك السموات والأرض، وإليه أمر الحياة والموت..
لا يملك أحد معه شيئا من نفع أو ضر، ومن موت أو حياة.. فمن جعل ولاءه لغير الله فقد ضلّ وخسر، وليس له من دون الله ناصر ينصره، أو ولىّ يعينه ويشدّ أزره.
الآيات: (١١٧- ١١٩) [سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٧ الى ١١٩]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
اللام فى «لَقَدْ» هى اللام الواقعة، فى جواب قسم مقدر.. وهذا القسم لتوكيد التوبة، ووقوعها وقوعا تاما كاملا، لم يبق معها ذنب، أو معصية..
فهى توبة يخرج بعدها من وقعت عليه معافى من كل سوء، مبرأ من كل مأخذ..
والزيغ: الانحراف عن طريق الحق، والميل إلى الباطل..
وذكر النبىّ هنا فى التوبة- وهو صلوات الله وسلامه عليه لم يقع منه- وحاشاه- شىء، فى هذا تكريم للمهاجرين والأنصار وتشريف لهم، بنظمهم مع هذا الكوكب الدرّىّ الوضيء.. فى ساحة رضوان الله ومغفرته.. وقد قرأ الرّضا علىّ بن موسى: «لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار..
الذين اتبعوه فى ساعة العسرة..»
ويجوز أن يكون المعنى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ» أي لقد غفر له كل هنة تمسّ مقام النبوّة، ليظلّ النبىّ هكذا فى مقامه العظيم من ربّه.. وقد أمر الله سبحانه النبىّ بالاستغفار من ذنوبه بقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ»..
وغفر للنبى الكريم ما تقدم من ذنبه وما تأخر فى قوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ».
فليست ذنوب النبىّ- صلى الله عليه وسلم- ذنوبا بالمعنى الذي يفهم من كلمة ذنب بالنسبة لغير النبىّ من الناس.. وقد قيل: «سيئات المقربين حسنات الأبرار».. فكيف بالنبيّ الكريم؟
وقد عدّ الله سبحانه وتعالى إذن النبىّ المنافقين الذين جاءوه معتذرين-
روى عن الحسن البصري: «أن العشرة من المسلمين فى تلك الغزوة كانوا يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم، يركب الرجل ساعة، ثم ينزل فيركب غيره.. وكان الشعير المسوّس والنمر المدوّد، والإهالة السّنخة (أي الزيت المتغير طعمه وريحه) طعامهم.. وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من النميرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ النمرة فلاكها (أي أدارها فى فمه) حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه، فيمصّها، ثم يشرب عليها جرعة ماء، حتى تأنى على آخرهم، فلا يبقى من النمرة إلا النّواة!!.»
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» ما يكشف عن فضل الله على النبىّ ومن تبعه من المهاجرين والأنصار.. وأنه سبحانه، لرأفته بهم، ورحمته لهم، قد أخذ بيد من كاد يسقط منهم، وينزل عن هذا المنزل الكريم الذي أحلّ الله فيه المهاجرين والأنصار، واختصّهم به، فهم أبدا فى ظلال رأفته ورحمته.. وحسبهم بهذا سلاما وأمنا، وحسبهم به شرفا وفضلا.
قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» عطفت هذه الآية على ما قبلها، فشملت بهذا توبة الله التي تابها على النبىّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة- شملت هذه التوبة الثلاثة الذين خلّفوا، وقد أشرنا إلى قصتهم من قبل.
وفى عطف الثلاثة الذين خلّفوا على النبىّ والمهاجرين والأنصار تكريم لهم، وتنويه بتوبتهم، وأنها توبة مقبولة، محيت بها كل الآثار التي علقت بهم من تخلّفهم عن النبىّ.. وبهذا حقّ لهم أن يكونوا فيمن تاب الله عليهم:
النبىّ والمهاجرين والأنصار.. وهم درجات عند الله..
وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» إشارة إلى ما وقع فى نفوس هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا من ندم وحسرة.
لقد ضاقت عليهم الأرض على سعتها، بل وضاقت عليهم أنفسهم، فلم تحتملهم، ولم تجد القرار والسّكن إليهم، وهذا يعنى ثقل عما كانوا يعانونه من ندم وألم، ولهذا كانت توبتهم نصوحا صادقة، لا تنتكس بهم على أعقابهم أبدا..
وقد حذف جواب الشرط هنا، إذ دلّ عليه قوله تعالى: «وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ».. أي أنهم حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه- لجئوا إلى الله، وفرّوا إليه تائبين مستغفرين..
ولو كان ظنهم غير واقع موقع اليقين، لما كان منهم هذا الندم القاتل، وتلك الحسرة المميتة! - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا».. نلحظ من العطف بالحرف «ثُمَّ» الذي يفيد التراخي.. أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يمتحنهم بهذا البلاء الذي هم فيه، وأن يدعهم مع هذا الهمّ الذي ركبهم، حتى يكون فى هذا تصفية لنفوسهم وتمكين لتوبتهم- فلم ينزل القرآن بالعفو عنهم وقبول توبتهم إلا بعد مدة قيل إنها بلغت خمسين يوما.. فهذه الخمسون يوما التي قضاها الثلاثة الذين خلّفوا كانت أشبه ببوتقة صهرت فيها نفوسهم، وصفّيت مما كان قد علق بها من خبث ووضر!.
ولو جاءت التوبة عليهم قبل أن يدخلوا فى هذه التجربة ويعيشوا فيها تلك الأيام والليالى، لما وجدوا أنفسهم على تلك الحال التي استقبلوها بها بعد هذا الزمن المتراخى، وبعد تلك التجربة القاسية، التي كشفت عن هذا المعدن الكريم لتلك النفوس الكريمة، ولولا ذلك لحطمتها المحنة وأكلتها نار التجربة.
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» إشارة إلى أن التوبة النصوح لا تكون إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى إليها.. وأنه إن لم يوفقهم الله سبحانه إلى هذا الموقف، ويربط على قلوبهم فيه، لم يكن منهم هذا الصبر على البلاء، ولا احتمال هذا المكروه الذي وقعوا فيه.. وهذا هو معنى «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» أي قبلهم الله وتاب عليهم، فكانوا من التائبين.
والتوبة: أصلها من التّوب، والرجوع، يقال تاب إلى الله يتوب: أي رجع عن معصيته إليه.
فأجرى لهم فى القرآن الكريم ذكرا، وجعل لهم فى العالمين قدرا..
وذلك كله بسبب أنهم أقاموا أنفسهم على كلمة الصدق، فلم يكذبوا على رسول الله، ولم يجيئوا إليه بأعذار ملفقة، بل جاءوا إليه يقولون قولة الحق على أنفسهم!.
فقالوا: يا رسول الله.. إننا لا عذر لنا فى تخلفنا عن الجهاد معك، فخذ لله ولك من أنفسنا وأموالنا ما تشاء! فكانت ثمرة صدقهم، هو هذا الذي انتهى إليه أمرهم..
فالدعوة إلى الصدق هنا وإلى التمسك به، دعوة تجد بين يديها المثل الواقع للخير العظيم الذي يناله الصادقون بصدقهم.. وإن احتمل الصادقون فى سبيل كلمة الحق شيئا من الأذى والضرّ، فى أول الأمر، فإن العاقبة دائما لهم، وهى عاقبة طيبة، مسعدة.. تهيىء لصاحبها الفوز والفلاح فى الدنيا والآخرة..
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
التفسير: قوله تعالى: «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ..»
هو إنكار من الله سبحانه وتعالى على من يتخلّفون عن رسول الله، وهو فى طريقه إلى الجهاد ولقاء العدوّ- ينكر الله عليهم تخلّفهم هذا، وقعودهم عن اللحاق برسوله، والانتظام فى ركب المجاهدين.. وفى الإنكار أمر ملزم لهم أن يكونوا مع رسول الله حيث يكون، ومن لم يستجب لهذا الأمر فهو على خلاف لله ورسوله، ومشاقة لله ورسوله، يلقى جزاء المخالفين، وينزل منازل الظالمين، ويصلى فى الآخرة ما يصلاه الكفار والمنافقون من عذاب السعير..
وقد خصّ أهل المدينة ومن حولهم بالذّكر هنا لأنهم مع رسول الله، وبين يديه، وبمحضر ومشهد منه، فكيف يسوغ لهم أن يروا النبي قائما على أمر يعالج منه حملا ثقيلا، ثم يقفون موقف المتفرج، لا يشاركونه فيما يعمل، ولا يحملون عنه بعض ما يحمل؟ إن ذلك وإن لم يقض به الدين قضت به المروءة وأوجبته حقوق الجار على الجار! فكيف وهو أمر أمرهم الله به، ووعدهم الجزاء العظيم عليه، وتوعدهم بالعقاب الأليم على النكوص عنه؟
والله سبحانه وتعالى يقول: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».
- وفى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً، يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».
الإشارة هنا بقوله تعالى «ذلك» مشار بها إلى ما تقدم فى صدر الآية من الإنكار على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، وأن يؤثروا أنفسهم على نفسه، ويضنّوا بها على معاناة الجهاد، وحمل أعباء القتال، فهذا الإنكار عليهم إنما هو بسبب أنهم سيغبنون أنفسهم، ويحرمونها ما أعدّ الله المجاهدين من أجر عظيم، لكل عمل يعملونه فى سبيل الله، ولكل ضرّ أو أذى يصيبهم وهم على طريق الجهاد.. فلا يصيبهم ظمأ، ولا يمسّهم تعب، ولا تنالهم مخمصة (أي جوع).. إلا كتبه الله لهم وأجزل لهم المثوبة عليه.. كذلك لا ينالون من عدوّ نيلا، ولا يصيبونه بوهن أو ضعف، إلا كتب لهم به عمل صالح، وعدّ لهم قربة عند الله، يدخلون بها مداخل المحسنين.. و «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».
قوله تعالى: «وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».
هو عطف على ما سبق من الأعمال الصالحة التي تكتب للمجاهدين، وتسجّل فى سجلّ أعمالهم.. فأية نفقة- ولو كانت صغيرة- تكتب لهم،
وفى قوله تعالى: «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ما يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى ينزل المجاهد منازل رضوانه، ويستضيفه فى ساحة كرمه، منذ أن يبدأ فى التهيؤ للجهاد إلى أن يعود إلى منزله الذي خرج منه، أو يستشهد فى سبيل الله.. وأن كل خطوة من خطواته وهو على طريق الجهاد، وكل حركة، أو لفتة، أو إشارة منه، هى مما يعدّ عند الله فى باب الإحسان، وذلك للمجاهد خاصة من دون الناس جميعا، حتى إذا آب المجاهد من جهاده كان سجل أعماله كلّه حسنات.. «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أما السيئات، فلا سيئات، إذ قد تجاوز الله عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» (١٦: الأحقاف).
قوله تعالى: «وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن الآيتين السابقتين قد جاء فيهما إنكار على المتخلفين عن رسول الله، وأمر ملزم لهم بالجهاد معه، كما جاء فيهما عرض كاشف لما اختصّ الله سبحانه وتعالى به المجاهدين من أجر كريم، وثواب عظيم، لا يناله غيرهم، ولا يبلغه سواهم- وقد كان ذلك داعيا إلى تحريك أشواق المسلمين إلى بلوغ هذه الغابة، واللحاق بأهلها، وذلك لا يكون
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» أي جميعا.
فذلك أمر- كما عرفنا- يدخل الخلل على نظام الحياة فى المجتمع، وعلى المجاهدين أنفسهم، إذا لم يكن من ورائهم من يعمل فيما يهيىء لهم حاجاتهم، من مؤن، وسلاح، وعتاد.
ولكن كيف السبيل إلى صرف بعض المسلمين عن وجهتهم إلى القتال، وكلهم يؤثر أن يكون فى هذا الميدان، ابتغاء مرضاة الله؟
لقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن فتح لهم جبهة جديدة من جهات الجهاد.. إذ يقول الله تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»..
فهناك نفر كالنفر إلى الجهاد، وهو النّفر إلى التفقه فى الدّين، والتعرف على أحكام الشريعة.. ففى النفر إلى الجهاد يقول الله تعالى. «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا» وفى النفر إلى العلم يقول لله تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ».
فطلب العلم فريضة على كل مسلم كفريضة الجهاد، سواء بسواء.. فإذا كان الجهاد بالسيف فكذلك يكون الجهاد فى ميدان العلم، والتفقه فى الدين. إنه يدفع عن القلوب غشاوات الجهل والضلال، ويمكنّ لدعوة لإسلام أن تأخذ مكانها من العقول والقلوب، فتمكن لها فى أهلها، وتقيمهم منها على مودة وإخاء، فيزكو نيتها الطيب فيهم، وتؤتى مبادئها أكلها المبارك لأيديهم.
وليس معنى النّفر هنا شدّ الرحال، وقطع الفيافي والقفار، بل إن معناه شدّ العزائم، وتوقّد الهمم، واستجماع النفوس، وإخلاص النيّات، والتجرد لتلقّى العلم، والصبر على معاناة الدرس والنظر..
ذلك أن تحصيل العلم، وقطف ثمراته، ليس بالأمر الهيّن، الذي يقع لأى يد تمتد إليه، ويستجيب لأى عين تطمح إليه، وتطمع فيه- وإنما هو كالجهاد فى ميدان القتال، حيث لا يكتب النصر للمجاهدين إلا بركوب الأخطار، وملاقاة الأهوال، ومصادمة الموت..
ومن هنا تعادلت كفّة العلماء مع كفة المجاهدين.. كما ورد فى الحديث:
«يوزن مداد العلماء بدم الشهداء»..!
وليس النفر محدودا بالنّفر إلى الجهاد فى سبيل الله، ولا بالنفر لطلب العلم، وإنما هو أيضا ينسحب إلى كل ميدان من ميادين العمل والكفاح..
فحيثما كانت مشقة ومعاناة يحملها لإنسان فى صبر وعزم، فى مجال العمل الصالح النافع له ولغيره، فهو نفر إلى الجهاد، وصاحبه فى حساب المجاهدين! وعلى هذا نفهم الآية الكريمة على أنها دعوة للمجتمع الإسلامى أن يملأ كل ميادين العمل فى الحياة، وأن يأخذ كلّ مسلم المكان المناسب له، وأن يعمل فى الميدان الذي يمكن أن يعطى فيه أفضل ما تجود به ملكاته وقدراته، العقلية، أو الجسدية.. وشرط واحد هو الذي ينبغى أن يكون عليه العامل ليكون مجاهدا، هو أن يخلص لعمله، وأن يعطيه كل جهده، وأن يبذل له
ونلمح هذا المعنى الذي ألمعنا إليه هنا فى قوله تعالى: «لِيَتَفَقَّهُوا».. فالتفقّه ليس مجرّد العلم السطحى، بل هو العلم المتفحص المتمكن، الذي ينفذ إلى أعماق الأشياء، ويقع على الصميم منها..
فهذا هو العلم، أو الفقه، الذي يرفع صاحبه إلى مقام المجاهدين..
وكذلك العمل، إن لم يبلغ به العامل درجة تبلغ حدّ الكمال، للقدرة المتاحة له، وللوسائل التي بين يديه، لم يكن ليتوازن أبدا مع درجة الجهاد فى سبيل الله، ولا مع منزلة التفقه فى دين الله، ولم يكن للعامل أن ينتظم فى سلك المجاهدين، والمتفقهين.. إن العامل الذي يستأهل أن يكون مجاهدا فى سبيل الله حقّا، هو من فقه فى عمله، وعرف أسرار صنعته.. وبغير هذا لن يجىء منه الإحسان فى عمله، والإتقان لصنعته.. والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: «إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».. وقد أشرنا إلى ما للعلم من أثر فى الإيمان بالله، عند تفسير قوله تعالى «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (لآية: ٩٧) من هذه السورة.
الآيات: (١٢٣- ١٢٧) [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
لهذا جاءت تلك الآية داعية إلى قتال الكفار الذين يحيطون بالمسلمين، ويكونون أجساما غريبة فى هذا الجسد الكبير..
وتنقية هذا الجسد الإسلامى من الأجسام الغريبة التي تعيش فيه، وحمايته من الآفات الخبيثة التي تقف على حدوده- أمر ضرورى لسلامة هذا الجسد، ووقايته من عوارض التصدّع والتشقق.
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» - لفت لأنظار المسلمين إلى حماية أنفسهم من خطر العدوّ المساكن لهم، أو الملاصق لمجنمعهم، وذلك لا يكون إلا بأن يدخل هذا العدو فى الإسلام، وبصبح بعضا منه، أو أن يقاتله المسلمون حتى يقتلعوا شوكته، أو يوهنوا قوته، فلا يكون يوما من الأيام
- وفى قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».. تنبيه إلى ما ينبغى أن يكون عليه المسلمون فيما بينهم وبين الكافرين، فلا بغى ولا عدوان، ولا مجاوزة للحدّ المطلوب لحماية الدعوة الإسلامية، ودفع كيد الكائدين لها..
فإذا تحقق ذلك، فليس وراءه شىء يطلبه المسلمون لذات أنفسهم، أو لانتقام شخصى. بل يجب أن تكون تقوى الله هى الدستور الذي يأخذ به المسلمون أنفسهم فى حربهم لعدوهم.. فلا يعرضوا لامرأة، ولا لطفل، ولا لشيخ، بأذى ولا يتبعوا هاربا، ولا يقضوا على جريح، ولا يمثّلوا بقتيل، ولا يقطعوا شجرا ولا زرعا، ولا يحرقوا دورا، ولا يقتلوا حيوانا.. فليس فى هذا كله عدوّ لهم، وإنما عدوهم هو الذي حمل السلاح، وقاتلهم به، فإذا ألقى السلاح، أو عجز عن حمله والقتال به، فشأنه شأن الصبيان والنساء، لا سبيل إلى العدوان عليه.
وقوله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً.. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ».
فى هذا إشارة إلى تلك الأجسام الغريبة الفاسدة التي تعيش فى كيان المجتمع الإسلامى، وأنه إذا كان للمسلمين عدو ظاهر يعرفون وجهه، ويأخذون حذرهم منه، ويعملون على قهره وخضد شوكته.. فإن ذلك ينبغى ألا يشغلهم عن عدوّ خفىّ يندسّ فيهم، بل إن عليهم أن ينتبهوا إلى هذا العدوّ، وأن يرصدوا تحركاته، وأن يضربوه الضربة القاضية، كلمّا أطلّ برأسه من جحره.
وقوله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً» هو علامة مميزة من علامات النفاق، وعرض ظاهر من أعراضه..
فالشّك فى آيات الله، والتشكيك فيما تحمل من هدى، ومن خير، ومن نور- هو كفر يستره نفاق، وهو نفاق يصرّح عن كفر! فإذا قال قائل هذه الكلمة الضالّة: «أيّكم زادته هذه إيمانا» - إذا قالها فيما بينه وبين نفسه، فإلى الله حسابه، وعليه عقابه، أما إذا قالها فبلغت أسماع المسلمين، فذلك كيد يكيد به للإسلام، وحرب خفيّة بالكلمة المضلّلة يطعن بها فى صدورهم.. فهو بهذا محارب يلقاه المسلمون بما يلقون به المحاربين من أعدائهم.
وفى قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» ردّ مفحم للمنافقين، وتكذيب فاضح لنفاقهم، وكفرهم بآيات الله، وضلال أبصارهم وبصائرهم عن الهدى والنور الذي تحمله آيات الله بين يديها.. فالذين آمنوا، تزيدهم آيات الله إيمانا مع إيمانهم، بما يطالعون فيها من وجوه جديدة تتجلّى فيها آيات الله، وتشعّ منها ألوان مضيئة كاشفة عن عظمة الخالق، وجلاله، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ورحمته.. فكل آية جديدة يلقاها المسلمون، وكل سورة جديدة تطلع عليهم من عند الله، هى خير جديد يضاف إلى ما بين أيديهم من خير، وهو نور جديد يمدّ به ما عندهم من نور.. ولهذا فهم يستبشرون بكل آية تنزل عليهم، لأنها تزودهم بزاد جديد من الإيمان والتقوى، وتسير بهم خطوات واسعة إلى الله، تدنيهم من رحمته، وتقربهم من رضوانه..
بيان لما يحصّله المنافقون والذين فى قلوبهم مرض، من آيات الله التي تنزل من السماء هدى ورحمة للعالمين، فهى إنما تزيدهم عمى إلى عمى، وضلالا إلى ضلال، وفسادا إلى فساد.. إنهم أشبه بالهوامّ والحشرات التي يجرفها الغيث الهاطل، ويغرقها السيل المندفع، على حين يحيا به كل كائن حىّ، ويهشّ له ويهنأ به كل ذى حياة.. وإنهم لأشبه بالخفافيش يأخذ ضوء الشمس على أبصارها، فتكتحل منه بالعمى، على حين تكتحل الأشياء كلها بهذه الآية المبصرة من آيات الله بالهدى والنور! قوله تعالى: «أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ» هو تقريع وتوبيخ لهؤلاء المنافقين الذين يقفون مواقف الخزي والفضيحة بين يدى آيات الله، مرة أو مرتين كل عام، حيث يفضح القرآن منهم فى كلّ مرة، مخزية من مخزياتهم، ويكشف المسلمون موقفا لئيما من مواقفهم.. ثم لا يأخذون من هذا عبرة أو عظة، ولا يجدون فيما فضح الله من أسرارهم، وما أخرج مما فى صدورهم- آية على علم الله، وعلى وجود الله، فيؤمنوا به، ويتوبوا إليه.. بل إنهم على ما هم عليه، من كفر وضلال: «لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ».
وقوله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ».
وهذه حال أخرى من أحوال المنافقين مع آيات الله، حين يستمعون إليها مع من يستمع إلى آيات الله من المؤمنين..
إنهم يلقونها بالشكّ والارتياب، حتى لتكاد تفضحهم ألسنتهم بما يدور
فإذا وجدوا فرصة مواتية للهرب انسلّوا، وفروا مسرعين: «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ»..
وفى قوله تعالى: «صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» حكم عليهم من الله سبحانه وتعالى بأنه قد صرف قلوبهم عن الحقّ، وختم عليها أن ترى الهدى، وأن تطمئن إليه، لأنهم قوم لا يفقهون شيئا، ولا يفرقون بين نور وظلام، وهدى وضلال..
«إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا..»
الآيتان: (١٢٨- ١٢٩) [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
التفسير: بهاتين لآيتين تختم سورة التوبة- وهو ختام يلخص فى إيجاز وإعجاز مضمونها كلّه..
فقد كانت هذه السورة معركة متصلة، بين الإسلام، وبين النفاق، والشرك، والكفر.. وذلك فى محيط المجتمع العربىّ، بدوه وحضره. إذ كان هو ميدان الرسالة الإسلامية الأولى، ومنطلق رحلتها فى المجتمع الإنسانى كله، حيث كانت الأمة العربية، هى الأمة التي أرادها الله لحمل هذه الرسالة، وجعل منها الوجه الذي تظهر فيه أمارات هذا الدّين، وتتجلّى آثاره، ووكل إليها دعوة
وفى قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» - إلفات للعرب إلى هذه النعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليهم، وهو أنه- سبحانه- قد تخير رسوله إليهم منهم، وجعل مطلع الخير الذي يحمله، فيهم أولا.. وهذا من شأنه أن يجعل منهم القوة التي تظاهر هذا الرسول، وتقف إلى جواره، وتستظل برايته لا أن يكونوا حربا عليه، وعداوة متربصة به.. إنه منهم، وليس غريبا عليهم.. إنه يعرفهم وهم يعرفونه، ويعرفون مولده فيهم، ونسبه القريب منهم..
فكيف يلقونه بالعداوة؟ ثم كيف يحاربونه ويكيدون له، وهو الذي يحمل إليهم الخير الخالص، ويسوق إليهم الهدى والنور؟ إنهم بهذا يظلمون أنفسهم، إذ يحرمونها هذه النعمة، التي ساقها الله إليهم، على تلك اليد الكريمة التي تحيرها الله منهم، وإنهم ليخرجون على سنن العروبة وأخلاق العرب، فى الانتصار لمن كان منهم، والتعصب له، والاستجابة لدعوة الداعي حين يدعوهم.. حتى لقد كان شعارهم، بل دينهم الذي يدينون به: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، وحتى ليقول شاعرهم عنهم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم | فى النائبات على ما قال برهانا |
وفى قوله تعالى: «عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ.. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» إلفات للعرب أيضا إلى ما يحمل الرسول الكريم من مشاعر الحب لقومه، والحدب عليهم، بما لم يعرف إلا فى الآباء للأبناء، وحدبهم عليهم، حتى لقد حمل ذلك الحبّ وهذا الحدب النبىّ الكريم، على أن يبيت مؤرّقا مسهدا موجعا، لخلاف قومه
ومعنى قوله تعالى: «عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ» أي شاقّ عليه، ومؤلم له إعناتكم له، وخلافكم عليه..
ومنه قوله تعالى: «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» أي غلبنى وقهرنى.. فالعزة- فى أصلها- الشدة والصلابة، وفى المثل: «من عزّ بزّ» أي من غلب وقهر كان له أن يبزّ الناس، ويستولى على ما فى أيديهم..
فالنبى ﷺ قد اشتد عليه وآلمه، إعنات قومه له، وخلافهم عليه.. والإعنات والعنت: البلاء، والمشقة، التي تضيق بها النفس، ولا تحتملها.. ومنه قوله تعالى: «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» (٢٥: النساء).
وفى قوله تعالى: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى أن عطف النبي ورحمته بالناس وحدبه عليهم، ليس لقومه وحدهم، وإنما هو نفس رحيمة كريمة تتّسع للناس للمؤمنين جميعا، من كل جنس، ومن كل لون.. فهو رءوف رحيم بكل مؤمن، حريص على هداية كل نفس واستنقاذها من الضلال، والضياع! وفى وصف النبي الكريم بهاتين الصفتين الكريمتين من صفات الله سبحانه:
قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» - هو عزاء للنبى الكريم فيما لقى ويلقى من قومه، من كيد، وما يكابد من شقاقهم وخلافهم. وهو فيصل الأمر فيما بينه وبينهم..
إنه يدعوهم إلى الله، ويبسط إليهم يده بالخير.. وهذا هو المطلوب منه «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» فإن أجابوا، فقد أخذوا بحظهم من هذا الخير المسوق إليهم، وإن تولوا وأبوا، فالله غنى عنهم، ورسوله لائذ بجناب لا يضام، ومستند إلى حمى لا ينال.. إنه جناب الله، وحمى الله.. وذلك حسبه، وكفايته..
«حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».