تفسير سورة الرعد

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾. ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن السماء مرفوعة على عمد، ولكننا لا نراها، ونظير هذه الآية قوله أيضاً في أول سورة «لقمان » :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى في الأرْضِ رَوَاسي أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [ لقمان : ١٠ ].
واختلف العلماء في قوله :﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ على قولين : أحدهما أن لها عمداً ولكننا لا نراها، كما يشير إليه ظاهر الآية، وممن روى عنه هذا القول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد، كما قاله ابن كثير.
وروي عن قتادة أيضاً أن المعنى أنها مرفوعة بلا عمد أصلاً، وهو قول إياس بن معاوية، وهذا القول يدل عليه تصريحه تعالى في سورة «الحج » أنه هو الذي يمسكها أن تقع على الأرض في قوله :﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ الحج : ٦٥ ].
قال ابن كثير : فعلى هذا يكون قوله :﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ تأكيداً لنفي ذلك، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها كذلك، وهذا هو الأكمل في القدرة اه.
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن هذا القول من قبيل السالبة لا تقتضي وجود الموضوع، والمراد أن المقصود نفى اتصاف المحكوم عليه بالمحكوم به، وذلك صادق بصورتين :
الأولى : أن يكون المحكوم عليه موجوداً، ولكن المحكوم به منتف عنه، كقولك ليس الإنسان بحجر، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه.
الثانية : أن يكون المحكوم عليه غير موجود فيعلم منه انتفاء الحكم عليه بذلك الأمر الموجودي، وهذا النوع من أساليب اللغة العربية، كما أوضحناه في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب )، ومثاله في اللغة قول امرىء القيس :
على لا حب لا يهتدي بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا
أي لا منار له أصلاً حتى يهتدي به ؛ وقوله :
لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر
يعني لا أرانب فيها ولا ضباب.
وعلى هذا فقوله ﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ أي لا عمد لها حتى تروها، والعمد : جمع عمود على غير قياس، ومنه قول نابغة ذبيان :
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
والصفاح بالضم والتشديد : الحجر العريض.
قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ﴾ الآية.
المراد بالسيئة هنا : العقوبة وإنزال العذاب قبل الحسنة، أي قبل العافية، وقيل الإيمان، وقد بين تعالى في هذه الآية أن الكفار يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يعجل لهم العذاب الذي يخوفهم به إن تمادوا على الكفر، وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ [ الحج : ٤٧ ]، وكقوله :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٥٣ ]، وكقوله :﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾[ العنكبوت : ٥٣ ]، وقوله :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ [ المعارج : ٢ ]، وقوله :﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] الآية.
وقوله :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ﴾ [ الشورى : ١٨ ]، وقوله :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ ص : ١٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وسبب طلبهم لتعجيل العذاب هو العناد، وزعم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كاذب فيما يخوفهم به من بأس الله وعقابه، كما قال تعالى :﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾، وكقوله :﴿ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ]، وقوله :﴿ قَالُواْ يا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ هود : ٣٢ ]، كما تقدمت الإشارة إلى هذا.
والمثلاث : العقوبات واحدتها مثلة.
والمعنى : أنهم يطلبون تعجيل العذاب تمرداً وطغياناً، ولم يتعظوا بما أوقع الله بالأمم السالفة من المثلاث أي العقوبات كما فعل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه وغيرهم.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ذو مغفرة للناس على ظلمهم، وأنه شديد العقاب ؛ فجمع بين الوعد والوعيد ليعظم رجاء الناس في فضله، ويشتد خوفهم من عقابه وعذابه الشديد ؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في جلب النفع ودفع الضر، فاجتماع الخوف والطمع أدعى للطاعة وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٧ ]، وقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[ الأنعام : ١٦٥ ]، وقوله جلا وعلا :﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ ﴾، وقوله :﴿ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذي الطَّوْلِ ﴾ [ غافر : ٣ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ﴾.
أي إنما عليك البلاغ والإنذار، أما هداهم وتوفيقهم فهو بيد الله تعالى، كما أن حسابهم عليه جل وعلا.
وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله :﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، وقوله :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [ الرعد : ٤٠ ] ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [ ٧ ].
أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة أن المراد بالقوم الأمة، والمراد بالهادي الرسول، كما يدل له قوله تعالى :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ﴾ [ يونس : ٤٧ ] الآية. وقوله :﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾ [ النحل : ٣٦ ]. وقد أوضحنا أقوال العلماء وأدلتها في هذه الآية الكريمة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب ).
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ﴾.
لفظة ما في هذه الآية يحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي يعلم الذي تحمله كل أنثى وعلى هذا فالمعنى : يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة، وخداج، وحسن، وقبح، وطول وقصر، وسعادة وشقاوة إلى غير ذلك من الأحوال.
وقد دلت على هذا المعنى آيات من كتاب الله، كقوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا في الأرْحَامِ ﴾. لأن ما فيه موصولة بلا نزاع، وكقوله :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾، وقوله :﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ [ آل عمران : ٦ ] الآية.
ويحتمل أيضاً : أن تكون لفظة ما في الآية الكريمة مصدرية، أي يعلم حمل كل أنثى بالمعنى المصدري، وقد جاءت آيات تدل أيضاً على هذا المعنى، كقوله :﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ في كِتَابٍ ﴾، وقوله :﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ [ فصلت : ٤٧ ] الآية.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون لها وجهان كلاهما حق، وكلاهما يشهد له قرآن، فنذكر الجميع.
وأما احتمال كون لفظة ما في هذه الآية استفهامية، فهو بعيد فيما يظهر لي، وإن قال به بعض أهل العلم، وقد دلت السنة الصحيحة على أن علم ما في الأرحام المنصوص عليه في الآيات المذكورة مما استأثر الله به دون خلقه، وذلك هو ما ثبت في صحيح البخاري من أن المراد بمفاتح الغيب في قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] الخمس المذكورة في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ [ لقمان : ٣٤ ]، والاحتمالان المذكوران في لفظة ما من قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ ﴾ الآية، جاريان أيضاً في قوله :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ﴾[ لقمان : ٨ ]، فعلى كونها موصولة فيهما، فالمعنى يعلم الذي تنقصه وتزيده، وعلى كونها مصدرية، فالمعنى يعلم نقصها وزيادتها. واختلف العلماء في المراد بقوله :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ وهذه أقوالهم في الآية بواسطة نقل «صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور » : أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله ﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ قال :«هي المرأة ترى الدم في حملها ».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله ﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ﴾ قال :«خروج الدم » ﴿ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ قال :«استمساكه ».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ﴾ قال :«أن ترى الدم في حملها » ﴿ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ قال :«في التسعة الأشهر ».
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ قال :«ما تزداد على التسعة وما تنقص من التسعة ».
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ﴾ قال :«ما دون تسعة أشهر ﴿ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ فوق التسعة ».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ﴾ يعني «السقط » ﴿ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ يقول :«ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ومنهن من تحمل تسعة أشهر ومنهن من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى ».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه قال :«ما دون التسعة أشهر فهو غيض وما فوقها فهو زيادة ».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة رضي الله عنه قال :«ما غاض الرحم بالدم يوماً إلا زاد في الحمل يوماً حتى تكمل تسعة أشهر طاهراً ».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه في قوله :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ﴾ قال :«السقط » وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في الآية قال :«إذا رأت الدم هش الولد وإذا لم تر الدم عظم الولد » اه «من الدر المنثور في التفسير بالمأثور ».
وقيل الغيض والزيادة يرجعان إلى الولد كنقصان إصبع وغيرها وزيادة إصبع وغيرها.
وقيل الغيض : انقطاع دم الحيض وما تزداد بدم النفاس بعد الوضع.
ذكر هذين القولين القرطبي :
وقيل تغيض تشتمل على واحد وتزداد تشتمل على توأمين فأكثر.
قال مقيده عفا الله عنه : مرجع هذه الأقوال كلها إلى شيء واحد وهو أنه تعالى عالم بما تنقصه الأرحام وما تزيده لأن معنى تغيض تنقص وتزداد أي تأخذه زائداً فيشمل النقص المذكور نقص العدد ونقص العضو من الجنين ونقص جسمه إذا حاضت عليه فتقلص ونقص مدة الحمل بأن تسقطه قبل أمد حمله المعتاد، كما أن الازياد يشمل زيادة العضو وزيادة العدد وزيادة جسم الجنين إن لم تحض وهي حامل وزيادة أمد الحمل عن القدر المعتاد، والله جل وعلا يعلم ذلك كله والآية تشمله كله.
تنبيه
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن أقل أمد الحمل وأكثره وأقل أمد الحيض وأكثر مأخوذ من طريق الاجتهاد لأن الله استأثر بعلم ذلك لقوله :﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ﴾.
ولا يجوز أن يحكم في شيء من ذلك إلا بقدر ما أظهره الله لنا ووجد ظاهراً في النساء نادراً أو معتاداً وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في أقل الحمل وأكثره، وأقل الحيض، وأكثره، ونرجح ما يظهر رجحانه بالدليل.
فنقول وبالله تعالى نستعين.
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر وسيأتي بيان أن القرآن دل على ذلك لأن قوله تعالى :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ] إن ضممت إليه قوله تعالى ﴿ وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ ﴾ بقي عن مدة الفصال من الثلاثين شهراً لمدة الحمل ستة أشهر فدل ذلك على أنها أمد للحمل يولد فيه الجنين كاملاً كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقد ولد عبد الملك بن مروان لستة أشهر وهذه الأشهر الستة بالأهلة كسائر أشهر الشريعة لقوله تعالى ﴿ يَسْألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] الآية.
قال القرطبي :«ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها حكاه ابن عطية اه ».
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى أعلم أن الشهر المعدود من أوله يعتبر على حاله من كمال أو نقصان وأن المنكسر يتمم ثلاثين، أما أكثر أمد الحمل فلم يرد في تحديده شيء من كتاب ولا سنة والعلماء مختلفون فيه وكلهم يقول بحسب ما ظهر له من أحوال النساء.
فذهب الإمام أحمد والشافعي : إلى أن أقصى أمد الحمل أربع سنين وهو إحدى الروايتين المشهورتين عن مالك والرواية المشهورة الأخرى عن مالك خمس سنين وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن أقصاه سنتان وهو رواية عن أحمد وهو مذهب الثوري وبه قالت عائشة رضي الله عنها وعن الليث ثلاث سنين وعن الزهري ست وسبع وعن محمد بن الحكم سنة لا أكثر وعن داود تسعة أشهر.
وقال ابن عبد البر هذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أمر النساء وقال القرطبي «روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال قلت لمالك بن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل فقال : سبحان الله من يقول هذا هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين وكانت تسمى حاملة الفيل ».
وروي أيضاً بينما مالك بن دينار يوماً جالس إذ جاءه رجل فقال :«يا أبا يحيى ادع لامرأتي حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد » فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال :«ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء » ثم قرأ ثم دعا ثم قال :«اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها وإن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاماً فإنك تمحو وتثبت وعندك أم الكتاب » ورفع مالك يده ورفع الناس أيديهم وجاء الرسول إلى الرجل فقال أدرك امرأتك فذهب الرجل فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت سراره.
وروي أيضاً أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين :«إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى » فشاور عمر الناس في رجمها فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه :«يا أمير المؤمنين إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل فاتركها حتى تضع » فتركها فوضعت غلاماً قد خرجت ثنيتاه فعرف الرجل الشبه فقال :«ابني ورب الكعبة » فقال عمر :«عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر ».
وقال الضحاك :«وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني ».
ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتان وقيل ثلاث سنين، ويقال إن محمد ابن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين فماتت به وهو يضطرب اضطراباً شديداً فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه، وقال حماد بن سلمة إنما سمي هرم بن حيان هرماً لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين.
وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين وقد طلعت سنه فسمي ضحاكاً.
وعن عباد بن العوام قال :«ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاماً شعره إلى منكبيه فمر به طير فقال له كش » اه كلام القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلاً أنه لا حد لأكثر أمد الحمل وهو الرواية الثالثة عن مالك كما نقله عنه القرطبي لأن كل تحديد بزمن معين لا أصل له ولا دليل عليه وتحديد زمن بلا مستند صحيح لا يخفى سقوطه والعلم عند الله تعالى.
وأما أقل الحيض وأكثره فقد اختلف فيه العلماء أيضاً فذهب مالك إلى أن أقل الحيض بالنسبة إلى العبادة كالصوم ووجوب الغسل لا حد له بل لو نزلت من المرأة قطرة دم واحدة لكانت حيضة بالنسبة إلى العبادة، أما بالنسبة إلى الاستبراء والعدة فقيل كذلك أيضاً، والمشهور أنه يرجع في قدر ذلك للنساء العارفات بالقدر الذي يدل على براءة الرحم من الحيض قال خليل بن إسحاق في مختصره الذي قال فيه مبيناً لما به الفتوى ورجع في قدر الحيض هنا هل هو يوم أو بعضه إلى قوله للنساء أي رجع في ذلك كله النساء اه.
والظاهر أنه عند مالك من قبيل تحقيق المناط والنساء أدرى بالمناط في ذلك.
أما أكثر الحيض عند مالك فهو بالنسبة إلى الحيضة الأولى التي لم تحض قبلها نصف شهر، ثم إن تمادى عليها الدم بعد نصف الشهر فهي مستحاضة وأما المرأة التي اعتادت الحيض فأكثر مدة حيضها عنده هو زيادة ثلاثة أي
قوله تعالى :﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾. بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن السر والجهر عنده سواء، وأن الاختفاء والظهور عنده أيضاً سواء : لأنه يسمع السر كما يسمع الجهر، ويعلم الخفي كما يعلم الظاهر، وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله :﴿ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : ١٣-١٤ ] وقوله :﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [ طه : ٧ ] وقوله :﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [ هود : ٥ ] وقوله :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾ [ ق : ١٦ ] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
وأظهر القولين في المستخفي بالليل والسارب بالنهار : أن المستخفي هو المختفي المستتر عن الأعين، والسارب هو الظاهر البارز الذاهب حيث يشاء. ومنه قول الأخنس بن شهاب التغلبي :
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي ذاهب حيث يشاء ظاهر غير خاف.
وقول قيس بن الخطيم :
أنى سربت وكنت غير سروب وتقرب الأحلام غير قريب
وقيل السارب : الداخل في السرب ليتوارى فيه، والمستخفي الظاهر من خفاه يخفيه : إذا أظهره. ومنه قول امرىء القيس :
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا.
والمعنى : أنه لا يسلب قوماً نعمة أنعمها عليهم حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٥٣ ] الآية. وقوله :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٣٠ ].
وقد بين في هذه الآية أيضاً : أنه إذا أراد قوماً بسوء فلا مرد له، وبين ذلك أيضاً في مواضع أخر كقوله :﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٤٧ ] ونحوها من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ يصدق بأن يكون التغيير من بعضهم كما وقع يوم أحد بتغيير الرماة ما بأنفسهم فعم البلية الجميع، وقد سئل صلى الله عليه وسلم :«أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث » والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي يرى خلقه البرق خوفاً وطمعاً. قال قتادة : خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله. وعن الحسن : الخوف لأهل البحر، والطمع لأهل البر. وعن الضحاك : الخوف من الصواعق والطمع في الغيث.
وبين في موضع آخر : أن إراءته خلقه البرق خوفاً وطمعاً من آياته جل وعلا، الدالة على أنه المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له. وذلك في قوله :﴿ وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً ﴾ [ الروم : ٢٤ ] الآية.
﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ﴾
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يسجد له أهل السموات والأرض طوعاً وكرهاً وتسجد له ظلالهم بالغدو والآصال. وذكر أيضاً سجود الظلال، وسجود أهل السموات والأرض في قوله ﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخرُون *وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فئ السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ النحل : ٤٩ ] إلى قوله ﴿ يُؤْمَرُونَ ﴾ واختلف العلماء في المراد بسجود الظل وسجود غير المؤمنين فقال بعض العلماء سجود من في السموات والأرض من العام المخصوص فالمؤمنون والملائكة يسجدون لله سجوداً حقيقياً وهو وضع الجبهة على الأرض يفعلون ذلك طوعاً والكفار يسجدون كرهاً أعني المنافقين لأنهم كفار في الباطن ولا يسجدون لله إلا كرهاً كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَواةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ ﴾[ النساء : ١٤٢ ] الآية وقال تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٤ ] والدليل على أن سجود أهل السموات والأرض من العام المخصوص، قوله تعالى في سورة الحج :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَمَن في الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾. فقوله :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ﴾ دليل على أن بعض الناس غير داخل في السجود المذكور وهذا قول الحسن وقتادة وغيرهما وذكره الفراء وقيل الآية عامة والمراد بسجود المسلمين طوعاً انقيادهم لما يريد الله منهم طوعاً والمراد بسجود الكافرين كرهاً انقيادهم لما يريد الله منهم كرهاً لأن إرادته نافذة فيهم وهم منقادون خاضعون لصنعه فيهم ونفوذ مشيئته فيهم وأصل السجود في لغة العرب الذل والخضوع ومنه قول زيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته *** ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
ومنه قول العرب أسجد إذا طأطأ رأسه وانحنى قال حميد بن ثور :
فلما لوين على معصم *** وكف خضيب وأسوارها
فضول أزمتها أسجدت *** سجود النصارى لأحبارها
وعلى هذا القول فالسجود لغوي لا شرعي، وهذا الخلاف المذكور جار أيضاً في سجود الضلال فقيل سجودها حقيقي والله تعالى قادر على أن يخلق لها إدراكاً تدرك به وتسجد لله سجوداً حقيقياً وقيل سجودها ميلها بقدرة الله أول النهار إلى جهة المغرب وآخره إلى جهة المشرق وادعى من قال هذا أن الظل لا حقيقة له لأنه خيال فلا يمكن منه الإدراك.
ونحن نقول : إن الله جل وعلا قادر على كل شيء فهو قادر على أن يخلق للظل إدراكاً يسجد به لله تعالى سجوداً حقيقياً والقاعدة المقررة عند علماء الأصول هي حمل نصوص الوحي على ظواهرها إلا بدليل من كتاب أو سنة ولا يخفى أن حاصل القولين :
أن أحدهما : أن السجود شرعي وعليه فهو في أهل السموات والأرض من العام المخصوص :
والثاني : أن السجود لغوي بمعنى الانقياد والذل والخضوع وعليه فهو باق على عمومه والمقرر في الأصول عند المالكية والحنابلة وجماعة من الشافعية أن النص إن دار بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية حمل على الشرعية وهو التحقيق خلافاً لأبي حنيفة في تقديم اللغوية ولمن قال يصير اللفظ مجملاً لاحتمال هذا وذاك وعقد هذه المسألة صاحب مراقي السعود بقوله :-
واللفظ محمول على الشرعي *** إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب *** بحث عن المجاز في الذي انتخب
وقيل المراد بسجود الكفار كرها سجود ظلالهم كرهاً وقيل الآية في المؤمنين فبعضهم يسجد طوعاً لخفة امتثال أوامر الشرع عليه وبعضهم يسجد كرهاً لثقل مشقة التكليف عليه مع أن إيمانه يحمله على تكلف ذلك والعلم عند الله تعالى :
وقوله تعالى :﴿ بِالْغُدُوّ ﴾ يحتمل أن يكون مصدراً أو يحتمل أن يكون جمع غداة والآصال جمع أصل بضمتين وهو جمع أصيل وهو ما بين العصر والغروب ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله *** وأقعد في أفيائه بالأصائل
قوله تعالى :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾.
أشار تعالى : في هذه الآية الكريمة إلى أنه هو المستحق لأن يعبد وحده لأنه هو الخالق ولا يستحق من الخلق أن يعبدوه إلا من خلقهم وأبرزهم من العدم إلى الوجود لأن المقصود من قوله ﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الرعد : ١٦ ] إنكار ذلك وأنه هو الخالق وحده بدليل قوله بعده ﴿ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ ﴾ أي وخالق كل شيء هو المستحق لأن يعبد وحده ويبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ الآية وقوله ﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ وقوله ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ وقوله ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات لأن المخلوق محتاج إلى خالقه فهو عبد مربوب مثلك يجب عليه أن يعبد من خلقه وحده كما يجب عليك ذلك فأنتما سواء بالنسبة إلى وجوب عبادة الخالق وحده لا شريك له :
قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا عليه صلى الله عليه وسلم الإتيان بآية ينزلها عليه ربه وبين هذا المعنى في مواضع متعددة كقوله ﴿ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأوَّلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٥ ] إلى غير ذلك من الآيات وبين تعالى في موضع آخر أن في القرآن العظيم كفاية عن جميع الآيات في قوله :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٥١ ] وبين في موضع آخر حكمة عدم إنزال آية كناقة صالح ونحوها بقوله ﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ﴾ الآية.
جواب لو في هذه الآية محذوف قال بعض العلماء تقديره لكان هذا القرآن وقال بعضهم تقديره لكفرتم بالرحمن ويدل لهذا الأخير قوله قبله. ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ﴾ [ الرعد : ٣٠ ] وقد قومنا شواهد حذف جواب لو في سورة البقرة وقد قدمنا في سورة يوسف أن الغالب في اللغة العربية أن يكون الجواب المحذوف من جنس المذكور قبل الشرط ليكون ما قبل الشرط دليلاً على الجواب المحذوف.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ الآية.
بين في هذه الآية الكريمة أن الرسل قبله صلى الله عليه وسلم من جنس البشر يتزوجون ويلدون وليسوا ملائكة وذلك أن الكفار استغربوا بعث آدمي من البشر كما قال تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ] فأخبر أنه يرسل البشر الذين يتزوجون ويأكلون كقوله ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الأسْوَاقِ ﴾ وقوله ﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾ [ الأنبياء : ٨ ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى :﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾.
الظاهر أن قوله ومن عنده علم الكتاب عطف على لفظ الجلالة وأن المراد به أهل العلم بالتوراة والإنجيل ويدل له قوله تعالى ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ﴾ [ آل عمران : ١٨ ] الآية وقوله ﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ يونس : ٩٤ ] الآية وقوله ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٤٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
Icon