تفسير سورة الحجر

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة الحجر وهي تسع وتسعون آية.

(١٥) سورة الحجر
مكية وهي تسع وتسعون آية
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢)
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الإِشارة إلى آيات السورة والْكِتابِ هو السورة، وكذا القرآن وتنكيره للتفخيم أي آيات الجامع لكونه كتاباً كاملاً وقُرآناً يبين الرشد من الغي بياناً غريباً.
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ حين عاينوا حال المسلمين عند نزول النصر أو حلول الموت أو يوم القيامة. وقرأ نافع وعاصم رُبَما بالتخفيف، وقرئ «ربما» بالفتح والتخفيف وفيه ثمان لغات ضم الراء وفتحها مع التشديد والتخفيف وبتاء التأنيث ودونها، وما كافة تكفه عن الجر فيجوز دخوله على الفعل وحقه أن يدخل الماضي لكن لما كان المترقب في أخبار الله تعالى كالماضي في تحققه أجرى مجراه. وقيل:
ما نكرة موصوفة كقوله:
رُبَّمَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الأَمْ ر لَهُ فُرْجَةً كَحلِّ العِقَالِ
ومعنى التقليل فيه الإيذان بأنهم لو كانوا يودون الإِسلام مرة فبالحري أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودونه كل ساعة. وقيل تدهشهم أهوال القيامة فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا ذلك، والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك: حلف بالله ليفعلن.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٣]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)
ذَرْهُمْ دعهم. يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم. وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه، والغرض إقناط الرسول صلّى الله عليه وسلّم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان، وإن نصحهم بعد اشتغال بما لا طائل تحته، وفيه إلزام للحجة وتحذير عن ايثار التنعم وما يؤدي إليه طول الأمل.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤ الى ٥]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ، والمستثنى جملة واقعة صفة لقرية، والأصل أن لا تدخلها الواو كقوله: إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ولكن لما شابهت صورتها الحال أدخلت تأكيداً للصوقها بالموصوف.
مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي وما يستأخرون عنه، وتذكير ضمير أُمَّةٍ فيه للحمل على المعنى.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ الى ٧]

وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ نادوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم على التهكم، ألا ترى إلى ما نادوه له وهو قولهم. إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ونظير ذلك قول فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، والمعنى إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أن الله تعالى نزل عليك الذكر، أي القرآن.
لَوْ مَا تَأْتِينا ركب لَوْ مع مَا كما ركبت مع لا لمعنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتحضيض.
بِالْمَلائِكَةِ ليصدقوك ويعضدوك على الدعوة كقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أو للعقاب على تكذيبنا لك كما أتت الأمم المكذبة قبل. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨ الى ٩]
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
مَا يُنَزِّلُ الملائكة بالياء ونصب الْمَلائِكَةَ على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون وأبو بكر بالتاء والبناء للمفعول ورفع الملائكة. وقرئ «تنَزل» بمعنى تتنزل. إِلَّا بِالْحَقِّ إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق أي بالوجه الذي قدره واقتضته حكمته، ولا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبساً، ولا في معاجلتكم بالعقوبة فإن منكم ومن ذراريكم من سبقت كلمتنا له بالإِيمان. وقيل الحق الوحي أو العذاب. وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِذاً جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين.
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ رد لإِنكارهم واستهزائهم ولذلك أكده من وجوه وقرره بقوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من التحريف والزيادة والنقص بأن جعلناه معجزاً مبايناً لكلام البشر، بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان، أو نفي تطرق الخلل إليه في الدوام بضمان الحفظ له كما نفى أن يطعن فيه بأنه المنزل له.
وقيل الضمير في لَهُ للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ في فرقهم، جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب من شاعه إذا تبعه، وأصله الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار، والمعنى نبأنا رجالاً فيهم وجعلناهم رسلاً فيما بينهم.
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما يفعل هؤلاء، وهو تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام وما للحال لا يدخل إلا مضارعاً بمعنى الحال، أو ماضياً قريباً منه وهذا على حكاية الحال الماضية.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٢ الى ١٣]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ ندخله. فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط، والرمح في المطعون والضمير للاستهزاء. وفيه دليل على أن الله يوجد الباطل في قلوبهم. وقيل ل الذِّكْرَ فإن الضمير الآخر في قوله:
لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ له وهو حال من هذا الضمير، والمعنى مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذباً غير مؤمن به، أو بيان للجملة المتضمنة له، وهذا الاحتجاج ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب
الضمائر توافقها في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالاً من الضمير لجواز أن تكون حالاً من المجرمين، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول بل يقويه. وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم، أو بإهلاك من كذب الرسل منهم فيكون وعيدا لأهل مكة.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المقترحين. بَاباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يصعدون إليها ويرون عجائبها طول نهارهم مستوضحين لما يرون، أو تصعد الملائكة وهم يشاهدونهم.
لَقالُوا من غلوهم في العناد وتشكيكهم في الحق. إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا سدت عن الأبصار بالسحر من السكر، ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف، أو حيرت من السكر ويدل عليه قراءة من قرأ «سكرت». بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ قد سحرنا محمد بذلك كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات، وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثني عشر مختلفة الهيئات والخواص على ما دل عليه الرصد والتجربة مع بساطة السماء. وَزَيَّنَّاها بالأشكال والهيئات البهية. لِلنَّاظِرِينَ المعتبرين المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها.
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس إلى أهلها ويتصرف في أمرها ويطلع على أحوالها.
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ بدل من كل شيطان واستراق السمع اختلاسه سراً، شبه به خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلّى الله عليه وسلّم منعوا من كلها بالشهب. ولا يقدح فيه تكونها قبل المولد لجواز أن يكون لها أسباب أخر. وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن من استرق السمع. فَأَتْبَعَهُ فتبعه ولحقه.
شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين، والشهاب شعلة نار ساطعة، وقد يطلق للكوكب والسنان لما فيهما من البريق.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها. وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالاً ثوابت. وَأَنْبَتْنا فِيها في الأرض أو فيها وفي الجبال. مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته، أو مستحسن، مناسب من قولهم كلام موزون، أو ما يوزن ويقدر أو له وزن في أبواب النعمة والمنفعة.
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها من المطاعم والملابس. وقرئ «معائش» بالهمزة على التشبيه بشمائل: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على مَعايِشَ أو على محل لَكُمْ، ويريد به العيال والخدم
والمماليك وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظناً كاذباً، فإن الله يرزقهم وإياهم، وفذلكة الآية الاستدلال يجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع محدثة فيا أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز أن لا تكون كذلك على كمال قدرته وتناهي حكمته، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه، ثم بالغ في ذلك وقال:
[سورة الحجر (١٥) : آية ٢١]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. وَما نُنَزِّلُهُ من بقاع القدرة. إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ حده الحكمة وتعلقت به المشيئة، فإن تخصيص بعضها بالإِيجاد في بعض الأوقات مشتملاً على بعض الصفات والحالات لا بد له من مخصص حكيم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣)
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ حوامل، شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم، أو ملقحات للشجر ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله:
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تطيح الطوائح وقرئ «وأرسلنا الريح» على تأويل الجنس. فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ فجعلناه لكم سقيا.
وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ قادرين متمكنين من إخراجه، نفى عنهم ما أثبته لنفسه، أو حافظين في الغدران والعيون والآبار، وذلك أيضاً يدل على المدبر الحكيم كما تدل حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور فوقوفه دون حد لا بد له من سبب مخصص.
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها. وَنُمِيتُ بإزالتها وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات وتكرير الضمير للدلالة على الحصر. وَنَحْنُ الْوارِثُونَ الباقون إذا مات الخلائق كلها.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ من استقدم ولادة وموتاً ومن استأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد، أو من تقدم في الإِسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، أو تأخر لا يخفى علينا شيء من أحوالكم، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه. وقيل رغب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت. وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها وتأخر بعض ليبصرها فنزلت.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ لا محالة للجزاء، وتوسيط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غير، وتصدير الجملة ب إِنَّ لتحقيق الوعد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرح به بقوله: إِنَّهُ حَكِيمٌ باهر الحكمة متقن في أفعاله.
عَلِيمٌ وسع علمه كل شيء.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ من طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر. وقيل هو من صلصل إذا أنتن تضعيف صل. مِنْ حَمَإٍ طين تغير وأسود من طول مجاورة الماء، وهو صفة صلصال أي كائن مِنْ حَمَإٍ. مَسْنُونٍ مصور من سنه الوجه، أو منصوب لييبس ويتصور كالجواهر المذابة تصب في القوالب، من السن وهو الصب كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غير ذلك طوراً بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه، أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فإن ما يسيل بينهما يكون منتناً ويسمى السنين.
وَالْجَانَّ أبا الجن. وقيل ابليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإِنسان، لأن تشعب الجنس لما كان من شخص واحد خلق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقاً منها وانتصابه بفعل يفسره.
خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ من قبل خلق الإنسان. مِنْ نارِ السَّمُومِ من نار الحر الشديد النافذ في المسام، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجردة، فضلاً عن الأجساد المؤلفة التي الغالب فيها الجزء الناري، فإنها أقبل لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي، وقوله: مِنْ نارِ باعتبار الغالب كقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ومساق الآية كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول المواد للجمع والإحياء.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ واذكر وقت قوله: لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدلت خلقته وهيأته لنفخ الروح فيه. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي، وأصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب وتفيض عليه الحيوانية فيسري حاملاً لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلقه بالبدن نفخاً وإضافة الروح إلى نفسه لما مر في «النساء». فَقَعُوا لَهُ فاسقطوا له. ساجِدِينَ أمر من وقع يقع.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١)
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص، وقيل أكد بالكل للإِحاطة وبأجمعين للدلالة على أنهم سجدوا مجتمعين دفعة، وفيه نظر إذ لو كان الأمر كذلك كان الثاني حالاً لا تأكيداً.
إِلَّا إِبْلِيسَ إن جعل منقطعاً اتصل به قوله: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ أي ولكن ابليس أبى وإن جعل متصلاً كان استئنافاً على أنه جواب سائل قال هلا سجد.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣)
قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ أي غرض لك في أن لا تكون. مَعَ السَّاجِدِينَ لآدم.
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد. لِبَشَرٍ جسماني كثيف وأنا ملك روحاني. خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وهو أخس العناصر وخلقتني من نار وهي أشرفها، استنقص آدم عليه السلام باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة «الأعراف».

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]

قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها من السماء أو الجنة أو زمر الملائكة. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود من الخير والكرامة، فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان يرجم بالشهب، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته.
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ هذا الطرد والإِبعاد. إِلى يَوْمِ الدِّينِ فإنه منتهى أمد اللعن، فإنه يناسب أيام التكليف ومنه زمان الجزاء وما في قوله: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ بمعنى آخر ينسى عنده هذه. وقيل إنما حد اللعن به لأنه أبعد غاية يضر بها الناس، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن معه فيصير كالزائل.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي فأخرني، والفاء متعلقة بمحذوف دل عليه فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أراد أن يجد فسحة في الإِغواء أو نجاة من الموت، إذ لا موت بعد وقت البعث فأجابه إلى الأول دون الثاني.
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المسمى فيه أجلك عند الله، أو انقراض الناس كلهم وهو النفخة الأولى عند الجمهور، ويجوز أن يكون المراد بالأيام الثلاثة يوم القيامة، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات فعبر عنه أولاً بيوم الجزاء لما عرفته وثانياً بيوم البعث، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف واليأس عن التضليل، وثالثاً بالمعلوم لوقوعه في الكلامين، ولا يلزم من ذلك أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلائق في تضاعيفه، وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لم تدل على منصب إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي الباء للقسم وما مصدرية وجوابه. لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور كقوله: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وفي انعقاد القسم بأفعال الله تعالى خلاف. وقيل للسببية والمعتزلة أوّلوا الاغواء بالنسبة إلى الغي، أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدم عليه السلام، أو بالإِضلال عن طريق الجنة واعتذروا عن إمهال الله له، وهو سبب لزيادة غيه وتسليط له على إغواء بني آدم بأن الله تعالى علم منه وممن تبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أمهل أو لم يمهل، وأن في إمهاله تعريضاً لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب، وضعف ذلك لا يخفى على ذوي الألباب. وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ولأحملنهم أجمعين على الغواية.
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب فلا يعمل فيهم كيدي.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالكسر في كل القرآن أي الذين أخلصوا نفوسهم لله تعالى.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢)
قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ حقٌ علي أن أراعيه. مُسْتَقِيمٌ لا انحراف عنه، والإِشارة إلى ما تضمنه
الاستثناء وهو تخليص المخلصين من إغوائه، أو الإِخلاص على معنى أنه طريق عَلَيَّ يؤدي إِلى الوصول إليَّ من غير اعوجاج وضلال. وقرئ عَلَيَّ من علو الشرف.
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ تصديق لإِبليس فيما استثناه وتغيير الوضع لتعظيم الْمُخْلَصِينَ، ولأن المقصود بيان عصمتهم وانقطاع مخالب الشيطان عنهم، أو تكذيب له فيما أوهم أن له سلطاناً على من ليس بمخلص من عباده، فإن منتهى تزيينه التحريض والتدليس كما قال: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً، وعلى الأول يدفع قول من شرط أن يكون المستثني أقل من الباقي لإِفضائه إلى تناقض الاستثناءين.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ لموعد الغاوين أو المتبعين. أَجْمَعِينَ تأكيد للضمير أو حال والعامل فيها الموعد إن جعلته مصدراً على تقدير مضاف، ومعنى الإضافة إن جعلته اسم مكان فإنه لا يعمل.
لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون منها لكثرتهم، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة وهي: جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، ولعل تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات ومتابعة القوة الشهوية والغضبية، أو لأن أهلها سبع فرق. لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الأتباع. جُزْءٌ مَقْسُومٌ أفرز له، فأعلاها للموحدين العصاة، والثاني لليهود والثالث للنصارى والرابع للصابئين والخامس للمجوس والسادس للمشركين والسابع للمنافقين، وقرأ أبو بكر «جُزْء» بالتثقيل.
وقرئ «جز» على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الزاي، ثم الوقف عليه بالتشديد ثم إجراء الوصل مجرى الوقف، ومنهم حال منه أو من المستكن في الظرف لا في مَقْسُومٌ لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ من أتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفرة. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ لكل واحد جنة وعين أو لكل عدة منهما كقوله: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ثم قوله: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ وقوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ الآية، وقرأ نافع وحفص وأبو عمرو وهشام وَعُيُونٍ والعيون بضم العين حيث وقع والباقون بكسر العين. ادْخُلُوها على إرادة القول، وقرئ بقطع الهمزة وكسر الخاء على أنه ماض فلا يكسر التنوين. بِسَلامٍ سالمين أو مسلما عليكم. آمِنِينَ من الآفة والزوال.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
وَنَزَعْنا في الدنيا بما ألف بين قلوبهم، أو في الجنة بتطييب نفوسهم. ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ من حقد كان في الدنيا
وعن علي رضي الله تعالى عنه: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، أو من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب.
إِخْواناً حال من الضمير في جنات، أو فاعل ادخلوها أو الضمير في آمنين أو الضمير المضاف إليه، والعامل فيها معنى الإِضافة وكذا قوله: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ويجوز أن يكونا صفتين لإِخواناً أو حال من ضميره لأنه بمعنى متصافين، وأن يكون متقابلين حالاً من المستقر في على سرر.
لاَ يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ استئناف أو حال بعد حال، أو حال من الضمير في متقابلين. وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فإن تمام النعمة بالخلود.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١)
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد وتقرير له، وفي ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده وفي عطف وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ على نَبِّئْ عِبادِي تحقيق لهما بما يعتبرون به.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً أي نسلم عليك سلاماً أو سلمنا سلاماً. قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ خائفون وذلك لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت، ولأنهم امتنعوا من الأكل والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره.
قالُوا لاَ تَوْجَلْ وقرئ «لا تأجل» من أوجله «ولا تواجل» من واجله بمعنى أوجله. إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، فإن المبشر لا يخاف منه. وقرأ حمزة نبشرك بفتح النون والتخفيف من البشر. بِغُلامٍ هو اسحاق عليه السلام لقوله: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ. عَلِيمٍ إذا بلغ.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ تعجب من أن يولد له مع مس الكبر إياه، أو إنكار لأن يبشر به في مثل هذه الحالة وكذا قوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي فبأي أعجوبة تبشرون، أو فبأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء، وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة في كل القرآن على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وكسرها وقرأ نافع بكسرها مخففة على حذف نون الجمع استثقالاً لإِجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية وكسرها على الياء. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ بما يكون لا محالة، أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق وهو قول الله تعالى وأمره. فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ من الآيسين من ذلك فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشراً من غير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر، وكان استعجاب إبراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة ولذلك:
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ المخطئون طريق المعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى وكمال علمه وقدرته كما قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ وقرأ أبو عمرو والكسائي يَقْنَطُ بالكسر، وقرئ بالضم وماضيهما قنط بالفتح.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨)
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة، ولعله علم أن كمال المقصود ليس البشارة لأنهم كانوا عدداً والبشارة لا تحتاج إلى العدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم عليهما السلام، أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها.
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني قوم لوط.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إن كان استثناء من قَوْمٍ كان منقطعاً إذ ال قَوْمٍ مقيد بالإِجرام وإن كان استثناء من الضمير في مُجْرِمِينَ كان متصلاً، والقوم والإِرسال شاملين للمجرمين، وآلَ لُوطٍ المؤمنين به وكأن المعنى: إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ أجرم كلهم إلا آل لوط منهم لنهلك المجرمين وننجي آل لوط منهم، ويدل عليه قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ أي مما يعذب به القوم، وهو استئناف إذا اتصل الاستثناء ومتصل بآل لوط جار مجرى خبر لكن إذا انقطع وعلى هذا جاز أن يكون قوله:
إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من آلَ لُوطٍ، أو من ضميرهم، وعلى الأول لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ اعتراضاً، وقرأ حمزة والكسائي لَمُنَجُّوهُمْ مخففاً. قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين مع الكفرة لتهلك معهم. وقرأ أبو بكر عن عاصم قَدَّرْنا هنا وفي «النمل» بالتخفيف، وإنما علق والتعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم. ويجوز أن يكون قَدَّرْنا أجري مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول، وأصله جعل الشيء على مقدار غيره وإسنادهم إياه إلى أنفسهم. وهو فعل الله سبحانه وتعالى لما لهم من القرب والاختصاص به.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ تنكركم نفسي وتنفر عنكم مخافة أن تطرقوني بِشَرٍ.
قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما يسرك ويشفي لك من عدوك، وهو العذاب الذي توعدتهم به فيمترون فيه.
وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ باليقين من عذابهم. وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٦٥]
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ فاذهب بهم في الليل، وقرأ الحجازيان بوصل الهمزة من السرى وهما بمعنى وقرئ «فسر» من السير. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ في طائفة من الليل وقيل في آخره قال:
افتَحِي البَابَ وَانْظُرِي فِي النُّجُوم كَمْ عَلَيْنَا مِنْ قِطَعٍ لَيْلٍ بَهِيمِ
وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرف أحدكم ولا يتخلف امرؤ لغرض فيصيبه العذاب. وقيل نهوا عن الالتفات ليوطنوا نفوسهم على المهاجرة. وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ إلى حيث أمركم الله بالمضي إليه، وهو الشام أو مصر فعدي وَامْضُوا إلى حَيْثُ وتُؤْمَرُونَ إلى ضميره ٠ المحذوف على الاتساع.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أي وأوحينا إليه مقضياً، ولذلك عدي بإلى. ذلِكَ الْأَمْرَ مبهم يفسره. أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ
مَقْطُوعٌ
ومحله النصب على البدل منه وفي ذلك تفخيم للآمر وتعظيم له. وقرئ بالكسر على الاستئناف والمعنى: أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد. مُصْبِحِينَ داخلين في الصبح وهو حال من هؤلاء، أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحمل على المعنى. ف أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ في معنى مدبري هؤلاء.
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ سدوم. يَسْتَبْشِرُونَ بأضياف لوط طمعا فيهم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩)
قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في ركوب الفاحشة. وَلا تُخْزُونِ ولا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان، أو لا تخجلوني فيهم من الخزاية وهو الحياء.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١)
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ على أن تجير منهم أحداً أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل احد وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه، أو عن ضيافة الناس وإنزالهم.
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي يعني نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، وفيه وجوه ذكرت في سورة «هود».
إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قضاء الوطر أو ما أقول لكم.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٧٢]
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢)
لَعَمْرُكَ قسم بحياة المخاطب والمخاطب في هذا القسم هو النبي عليه الصلاة والسلام وقيل لوط عليه السلام قالت الملائكة له ذلك، والتقدير لعمرك قسمي، وهو لغة في العمر يختص به القسم لإِيثار الأخف فيه لأنه كثير الدور على ألسنتهم. إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم. يَعْمَهُونَ يتحيرون فكيف يسمعون نصحك.
وقيل الضمير لقريش والجملة اعتراض.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني صيحة هائلة مهلكة. وقيل صيحة جبريل عليه السلام. مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس.
فَجَعَلْنا عالِيَها عالي المدينة أو عالي قراهم. سافِلَها وصارت منقلبة بهم. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجر أو طين عليه كتاب من السجل، وقد تقدم مزيد بيان لهذه القصة في سورة «هود».
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتفكرين المتفرسين الذين يتثبّتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته.
وَإِنَّها وإن المدينة أو القرى. لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بالله ورسله.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ هم قوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة فبعثه الله إليهم فكذبوه فأهلكوا بالظلة، والْأَيْكَةِ الشجرة المتكاثفة.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالإِهلاك. وَإِنَّهُما يعني سدوم والأيكة. وقيل الأيكة ومدين فإنه كان مبعوثاً إليهما فكان ذكر إحداهما منبهاً على الأخرى. لَبِإِمامٍ مُبِينٍ لبطريق واضح، والإِمام اسم ما يؤتم به فسمي به الطريق ومطمر البناء واللوح لأنها مما يؤتم به.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ يعني ثمود، كذبوا صالحاً، ومن كذب واحداً من الرسل فكأنما كذب الجميع، ويجوز أن يكون المراد بالمرسلين صالحاً ومن معه من المؤمنين، والْحِجْرِ واد بين المدينة والشأم يسكنونه.
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني آيات الكتاب المنزل على نبيهم، أو معجزاته كالناقة وسقيها وشربها ودرها، أو ما نصب لهم من الأدلة.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٤]
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها، أو من العذاب لفرط غفلتهم أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ إلا خلقاً ملتبساً بالحق لا يلائم استمرار الفساد ودوام الشرور، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء وإزاحة فسادهم من الأرض. وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فينتقم الله لك فيها ممن كذبك. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ولا تعجل بانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وقيل هو منسوخ بآية السيف.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الذي خلقك وخلقهم وبيده أمرك وأمرهم. الْعَلِيمُ بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم، أو هو الذي خلقكم وعلم الأصلح لكم، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح، وفي مصحف عثمان وأبَيِّ رضي الله عنهما «هو الخالق»، وهو يصلح للقليل والكثير والْخَلَّاقُ يختص بالكثير.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٨٧]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً سبع آيات وهي الفاتحة. وقيل سبع سور وهي الطوال وسابعتها «الأنفال» و «التوبة» فإنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية. وقيل «التوبة» وقيل «يونس» أو الحواميم السبع. وقيل سبع صحائف وهي الأسباع. مِنَ الْمَثانِي بيان للسبع والمثاني من التثنية، أو الثناء فإن كل ذلك مثنى تكرر قراءته، أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه أو مثني عليه بالبلاغة والاعجاز، أو مثن على الله بما هو أهله من صفاته
العظمى وأسمائه الحسنى، ويجوز أن يراد ب الْمَثانِي القرآن أو كتب الله كلها فتكون مِنَ للتبعيض.
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو العام على الخاص، وإن أريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩)
لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمح ببصرك طموح راغب. إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافاً من الكفار، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات. وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه «من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيرا».
وروي «أنه عليه الصلاة والسلام وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فقال لهم: لقد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع».
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أنهم لم يؤمنوا.
وقيل إنهم المتمتعون به. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وتواضع لهم وارفق بهم.
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٩٠]
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ مثل العذاب الذي أنزلناه عليهم، فهو وصف لمفعول النذير أقيم مقامه والمقتسمون هم الإثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم لينفروا الناس عن الإِيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر أو الرهط الذين اقتسموا أي تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه الصلاة والسلام وقيل هو صفة مصدر محذوف يدل عليه. وَلَقَدْ آتَيْناكَ فإنه بمعنى أنزلنا إليك، والمقتسمون هم الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا عناداً: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين، أو أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض على أن القرآن ما يقرءون من كتبهم، فيكون ذلك تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقوله لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الخ اعتراضاً ممداً لها.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أجزاء جمع عضة، وأصلها عضوة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء.
وقيل فعلة من عضهته إذا بهته،
وفي الحديث «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العاضهة والمستعضهة»
وقيل أسحاراً وعن عكرمة المعضة السحر، وإنما جمع جمع السلامة جبراً لما حذف منه والموصول بصلته صفة للمقتسمين أو مبتدأ خبره.
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من التقسيم أو النسبة إلى السحر فنجازيهم عليه.
وقيل هو عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي.
[سورة الحجر (١٥) : آية ٩٤]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤)
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فاجهر به، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً، أو فافرق به بين الحق والباطل، وأصله الإِبانة والتمييز وما مصدرية أو موصولة، والراجع محذوف أي بما تؤمر به من الشرائع. وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ
ولا تلتفت إلى ما يقولون.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بقمعهم وإهلاكهم.
قيل كانوا خمسة من أشراف قريش: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، يبالغون في إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والاستهزاء به فقال جبريل عليه السلام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظماً لاخذه، فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات، وأومأ إلى أخمص العاص فدخل فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحاً فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، وإلى عيني الأسود بن المطلب فعمي:
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم في الدارين.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء بك.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح والتحميد يكفك ويكشف الغم عنك، أو فنزهه عما يقولون حامداً له على أن هداك للحق. وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ من المصلين،
وعنه عليه الصلاة والسلام (أنه كان إذا حَزبه أمر فزع إلى الصلاة).
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت فإنه متيقن لحاقه كل حي مخلوق، والمعنى فاعبده ما دمت حياً ولا تخلّ بالعبادة لحظة.
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم»
والله أعلم.
Icon