تفسير سورة الشورى

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ حم عسق كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة هود.
وقول الزمخشري في تفسير هذه الآية ﴿ كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ ﴾ أي مثل ذلك الوحي، أو مثل ذلك الكتاب يوحى إليك وإلى الرسل من قبلك الله.
يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني، قد أوحى الله إليك مثله، في غيرها من السور، وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى أن الله تعالى كرر هذه المعاني، في القرآن وفي جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ، واللطف العظيم، لعباده من الأولين والآخرين ا ه منه.
وظاهر كلامه، أن التشبيه في قوله : كذلك يوحى بالنسبة إلى الموحى باسم المفعول.
والأظهر أن التشبيه في المعنى المصدري الذي هو الإيحاء.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ﴾ لم يصرح هنا بشيء من أسماء الذين في قبله الذين أوحى إليهم، كما أوحى إليه، ولكنه قد بين أسماء جماعة منهم في سورة النساء، وبين فيها أن بعضهم لم يقصص حبرهم عليه، وأنه أوحى إليهم وأرسلهم لقطع حجج الخلق، في دار الدنيا وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما ًرُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ [ النساء : ١٦٣ -١٦٥ ].
وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ذكر جل وعلا فيه الثناء على نفسه، باسمه العزيز واسمه الحكيم بعد ذكره إنزاله وحيه على أنبيائه، كما قال في آية النساء المذكورة ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ [ النساء : ١٦٥ ] بعد ذكره إيحاءه إلى رسله.
وقد قدمنا في أول سورة الزمر أن استقراء القرآن. قد دل على أن الله جل وعلا إذا ذكر تنزيله لكتابه أتبع ذلك بعض أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذكرنا كثيراً من أمثلة ذلك.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير ( يوحي ) بكسر الحاء بالبناء للفاعل، وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله : الله العزيز الحكيم فاعل يوحي.
وقرأه ابن كثير ( يُوحَى إليك ) بفتح الحاء بالبناء للمفعول، وعلى هذه القراءة، فقوله :﴿ الله العزيز الحكيم ﴾، فاعل فعل محذوف تقديره يوحى كما قدمنا إيضاحه في سورة النور في الكلام على قوله تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصال ِرِجَالٌ ﴾ [ النور : ٣٦ -٣٧ ] الآية.
وقد قدمنا معاني الوحي مع الشواهد العربية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ [ النحل : ٦٨ ] وغير ذلك من المواضع.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الْعَلِىُّ العَظِيمُ ﴾.
وصف نفسه جل وعلا في هذه الآية الكريمة، بالعلو والعظمة، وهما من الصفات الجامعة كما قدمناه في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ].
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من وصفه تعالى نفسه بهاتين الصفتين الجامعتين المتضمنتين لكل كمال وجلال، جاء مثله في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ﴾ [ النساء : ٣٤ ]. وقوله تعالى ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [ الرعد : ٩ ] وقوله تعالى ﴿ وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ في السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ [ الجاثية : ٣٧ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض ﴾.
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع والكسائي ( تكاد ) بالتاء الفوقية، لأن السماوات مؤنثة وقرأه نافع والكسائي ( يكاد ) بالياء التحتية لأن تأنيث السماوات غير حقيقي.
وقرأه عامة السبعة غير أبي عمرو، وشعبة عن عاصم ( يَتَفَطَّرْنَ ) بتاء مثناة فوقية مفتوحة بعد الياء وفتح الطاء المشددة مضارع. تفطر أي تشقق.
وقرأه أبو عمرو وشعبة عن عاصم ( ينفطرن ) بنون ساكنة بعد الياء وكسر الطاء، المخففة مضارع انفطرت كقوله :﴿ إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ ﴾ [ الانفطار : ١ ] أي انشقت.
وقوله : تكاد مضارع كاد، التي هي فعل مقاربة، ومعلوم أنها تعمل في المبتدأ والخبر معنى كونها فعل مقاربة، أنها تدل على قرب اتصاف المبتدأ والخبر.
وإذاً، فمعنى الآية أن السماوات قاربت أن تتصف بالتفطر على القراءة الأولى، والانفطار على القراءة الثانية.
واعلم أن سبب مقاربة السماوات للتفطر، في هذه الآية الكريمة، فيه للعلماء وجهان كلاهما يدل له قرآن.
الوجه الأول : أن المعنى تكاد السماوات يتفطرن خوفاً من الله، وهيبة وإجلالاً، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى قبله ﴿ وَهُوَ الْعَلِىُّ العَظِيمُ ﴾ لأن علوه وعظمته سبب للسماوات ذلك الخوف والهيبة والإجلال، حتى كادت تتفطر.
وعلى هذا الوجه فقوله بعده :﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض ﴾ مناسبته لما قبله واضحة.
لأن المعنى : أن السماوات في غاية الخوف منه تعالى والهيبة والإجلال له، وكذلك سكانها من الملائكة فهم يسبحون بحمد ربهم أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، مع إثباتهم له كل كمال وجلال، خوفاً منه وهيبة وإجلالاً، كما قال تعالى ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ [ الرعد : ١٣ ] وقال تعالى ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرض مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ النحل : ٤٩ -٥٠ ].
فهم لشدة خوفهم من الله، وإجلالهم له يسبحون بحمد ربهم، ويخافون على أهل الأرض، ولذا يستغفرون لهم خوفاً عليهم من سخط الله، وعقابه، ويستأنس لهذا الوجه بقوله تعالى ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ إلى قوله :﴿ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ] لأن الإشفاق الخوف.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض ﴾ يعني لخصوص الذين آمنوا منهم وتابوا إلى الله واتبعوا سبيله، كما أوضحه تعالى بقوله :﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ [ غافر : ٧ ].
فقوله :﴿ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ يوضح المراد من قوله :﴿ لِمَن في الأرض ﴾ [ الشورى : ٥ ].
ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى عنهم إنهم يقولون في استغفارهم للمؤمنين ﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ﴾ [ غافر : ٧ ] لأن ذلك يدل دلالة واضحة على عدم استغفارهم للكفار.
الوجه الثاني : أن المعنى ﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ ﴾ من شدة عظم الفرية التي افتراها الكفار على خالق السماوات والأرض جل وعلا، من كونه اتخذ ولداً، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وهذا الوجه جاء موضحاً في سورة مريم، في قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمان وَلَداً وَمَا ينبغي لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن في السَّمَاوَاتِ والأرض إِلاَّ آتِى الرَّحْمَانِ عَبْداً ﴾ [ مريم : ٨٨ -٩٣ ] كما قدمنا إيضاحه.
وغاية ما في هذا الوجه أن آية شورى هذه فيها إجمال في سبب تفطر السماوات، وقد جاء ذلك موضحاً في آية مريم المذكورة. وكلا الوجهين حق.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ﴾ فيه للعلماء أوجه.
قيل : يتفطرن، أي السماوات من فوقهن أي الأرضين، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى.
وقال بعضهم : من فوقهن أي كل سماء تتفطر فوق التي تليها.
وقال الزمخشري في الكشاف : فإن قلت لم قال :﴿ مِن فَوْقِهِنَّ ﴾ [ الشورى : ٥ ] قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات، وهي العرش والكرسي، وصفوف الملائكة، المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال :﴿ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ﴾ [ الشورى : ٥ ] أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية.
أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذي تحت السماوات، فكان القياس أن يقال : يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة.
ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في وجهة الفوق. كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن، دع الجهة التي تحتهن.
ونظيره في المبالغة قوله عز وجل ﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ ﴾ [ الحج : ١٩-٢٠ ] فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة ا ه. محل الغرض منه.
وهذا إنما يتمشى على القول بأن سبب التفطر المذكور هو افتراؤهم على الله في قولهم ﴿ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً ﴾ [ مريم : ٨٨ ].
وقد قدمنا آنفاً أنه دلت عليه آية مريم المذكورة وعليه فمناسبة قوله :﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ لما قبله أن الكفار وإن قالوا أعظم الكفر وأشنعه، فإن الملائكة بخلافهم فإنهم يداومون ذكر الله وطاعته.
ويوضح ذلك قوله تعالى :﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٨ ] وقوله تعالى :﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [ الأنعام : ٨٩ ]، كما قدمنا إيضاحه في آخر سورة فصلت.
قوله تعالى :﴿ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾.
أكد جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه هو الغفور الرحيم، وبَين فيها أنه هو وحده المختص بذلك.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، قد جاءا موضحين في غير هذا الموضع.
أما اختصاصه هو جل وعلا بغفران الذنوب، فقد ذكره في قوله تعالى :﴿ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ]، والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله، وفي الحديث «رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت » الحديث. وفي حديث سيد الاستغفار :«اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني » الحديث. وفيه «وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ».
ووجه دلالة هذه الآية على أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب، هو أن ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه في قوله :﴿ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [ الشورى : ٥ ] يدل على ذلك كما هو معلوم في محله، وأما الأمر الثاني، هو توكيده تعالى أنه هو الغفور الرحيم فإنه أكد ذلك هنا بحرف الاستفتاح الذي هو ألا، وحرف التوكيد الذي هو إن.
وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [ الزمر : ٥٣ ]. وقوله تعالى :﴿ وإني لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ ﴾ [ طه : ٨٢ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [ النجم : ٣٢ ] وقوله في الكفار :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ]. وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٧٤ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
فنرجو الله جل وعلا الكريم الرؤوف الغفور الرحيم، أن يغفر لنا جميع ذنوبنا ويتجاوز عن جميع سيئاتنا ويدخلنا جنته على ما كان منا، ويغفر لإخواننا المسلمين. إنه غفور رحيم.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة، ﴿ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي أشركوا معه شركاء يعبدونهم من دونه، كما أوضح تعالى ذلك في قوله :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [ الزمر : ٣ ] وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أولياؤهم الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٠ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ] أي يخوفكم أولياءه. وقوله تعالى :﴿ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ﴾ [ النساء : ٧٦ ] الآية.
وقد وبخهم تعالى على اتخاذهم الشيطان وذريته أولياء من دونه تعالى في قوله :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دوني وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ [ الكهف : ٥٠ ].
وقد أمر جل وعلا باتباع هذا القرآن العظيم، ناهياً عن اتباع الأولياء المتخذين من دونه تعالى، في أول سورة الأعراف في قوله تعالى ﴿ اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣ ].
وقد علمت من الآيات المذكورة أن أولياء الكفار الذين اتخذوهم وعبدوهم من دون الله نوعان : الأول منهما : الشياطين، ومعنى عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما يزين لهم، من الكفر والمعاصي، فشركهم به شرك طاعة، والآيات الدالة على عبادتهم للشياطين بالمعنى المذكور كثيرة كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ﴾ [ يس : ٦٠ ] الآية. وقوله تعالى عن إبراهيم ﴿ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ ﴾ [ مريم : ٤٤ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً ﴾ [ النساء : ١١٧ ] أي وما يعبدون إلا شيطاناً مريداً. وقوله تعالى ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ [ سبأ : ٤١ ] وقوله تعالى ﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [ النحل : ١٠٠ ] وقوله تعالى ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليائهم لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والنوع الثاني : هو الأوثان، كما بين ذلك تعالى بقوله :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ ليقربونا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [ الزمر : ٣ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾.
أي رقيب عليهم حافظ عليهم كل ما يعملونه من الكفر والمعاصي، وفي أوله اتخاذهم الأولياء، يعبدونهم من دون الله.
وفي الآية تهديد عظيم لكل مشرك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾.
أي لست يا محمد، بموكل عليهم تهدي من شئت هدايته منهم، بل إنما أنت نذير فحسب، وقد بلغت ونصحت.
والوكيل عليهم هو الذي يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء وَكِيلٌ ﴾ [ هود : ١٢ ]. وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [ يونس : ٩٩ - ١٠٠ ] وقال تعالى :﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً في الأرض أَوْ سُلَّماً في السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾، وما جرى مجراه من الآيات ليس منسوخاً بآية السيف والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً ﴾.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى :﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عربي مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ١٩٤ – ١٩٥ ]، وفي الزمر في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذي عِوَجٍ ﴾ [ الزمر : ٢٨ ] وفي غير ذلك من المواضع.
قوله تعالى :﴿ لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾.
خص الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة إنذاره، صلى الله عليه وسلم بأم القرى ومن حولها، والمراد بأم القرى مكة حرسها الله.
ولكنه أوضح في آيات أخر أن إنذاره عام لجميع الثقلين كقوله تعالى ﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إني رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] وقوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ ﴾ [ سبأ : ٢٨ ] الآية، كما أوضحنا ذلك مراراً في هذا الكتاب المبارك.
وقد ذكرنا الجواب عن تخصيص أم القرى ومن حولها هنا وفي سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [ الأنعام : ٩٢ ] الآية، في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، فقلنا فيه : والجواب من وجهين.
الأول : أن المراد بقوله :﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [ الأنعام : ٩٢ ] شامل لجميع الأرض، كما رواه ابن جرير وغيره، عن ابن عباس.
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً، أن قوله ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [ الأنعام : ٩٢ ] لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة حرسها الله، كجزيرة العرب مثلاً، فإن الآيات الأخر، نصت على العموم كقوله ﴿ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ] وذكر بعض أفراد العام بحكم العام، لا يخصصه عند عامة العلماء، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور.
وقد قدمنا ذلك واضحاً بأدلته في سورة المائدة، فالآية على هذا القول كقوله ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ] فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم، كما هو واضح. والعلم عند الله تعالى ا ه منه.
قوله تعالى :﴿ وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾.
تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين :
أحدهما : أن من حكم إيحائه تعالى، إلى نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العربي، إنذار يوم الجمع، فقوله تعالى :﴿ وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ﴾ معطوف على قوله :﴿ لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى ﴾ أي لا بد أن تنذر أم القرى وأن تنذر يوم الجمع فحذف في الأول، أحد المفعولين وحذف في الثاني أحدهما، فكان ما أثبت في كل منهما، دليلاً على ما حذف في الثاني، ففي الأول حذف المفعول الثاني، والتقدير «لتنذر أم القرى » أي أهل مكة ومن حولها، عذاباً شديداً إن لم يؤمنوا، وفي الثاني حذف المفعول الأول، أي وتنذر الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة أي تخوفهم مما فيه من الأهوال، والأوجال ليستعدوا لذلك في دار الدنيا.
والثاني : أن يوم الجمع المذكور لا ريب فيه، أي لا شك في وقوعه، وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، جاءا موضحين في آيات أخر.
أما تخويفه الناس يوم القيامة، فقد ذكر في مواضع من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ]. وقوله تعالى ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزِفَةِ ﴾ [ غافر : ١٨ ]. وقوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ﴾ [ المزمل : ١٧ -١٨ ] : وقوله تعالى :﴿ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ المطففين : ٤ -٦ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأما الثاني منهما : وهو كون يوم القيامة لا ريب فيه فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ النساء : ٨٧ ] وقوله ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ آل عمران : ٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ﴾ [ الحج : ٧ ] الآية. وقوله تعالى ﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ ﴾ [ الجاثية : ٣٢ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وإنما سمي يوم القيامة يوم الجمع، لأن الله يجمع فيه جميع الخلائق. والآيات الموضحة لهذا المعنى، كثيرة كقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين َلَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الواقعة : ٤٩- ٥٠ ] وقوله تعالى :﴿ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ والأولين ﴾ [ المرسلات : ٣٨ ]. وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ لا إِلََه إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [ النساء : ٨٧ ]. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [ التغابن : ٩ ] وقوله تعالى ﴿ ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ [ هود : ١٠٣ ] وقوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [ آل عمران : ٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ].
وقد بين تعالى شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله تعالى :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ في الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شيء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]، والآيات الدالة على الجمع المذكورة كثيرة.
قوله تعالى :﴿ فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ ﴾.
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله خلق الخلق، وجعل منهم فريقاً سعداء، وهم أهل الجنة، وفريقاً أشقياء وهم أصحاب السعير، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ [ التغابن : ٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [ هود : ١١٨ -١١٩ ] أي ولذلك الاختلاف، إلى مؤمن وكافر وشقي وسعيد، خلقهم على الصحيح، ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جداً.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وجه الجمع بين قوله :﴿ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ على التفسير المذكور، وبين قوله ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ]، وسنذكر ذلك إن شاء الله في سورة الذاريات.
وقد قدمنا معنى السعير بشواهده العربية في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ الحج : ٤ ]، والجنة في لغة العرب البستان.
ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
كأن عيني في غربي مقتلة *** من النواضح تسقي جنة سحقا
فقوله : جنة سحقا، يعني بستاناً طويل النخل، وفي اصطلاح الشرع هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه يوم القيامة.
والفريق : الطائفة من الناس، ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين، ومنه قول نصيب : فقال فريق القوم لا، وفريقهم *** نعم وفريق قال ويحك ما ندري
والمسوغ للابتداء بالنكرة في قوله : فريق في الجنة، أنه في معرض التفصيل.
ونظيره من كلام العرب قول امرىء القيس :
فلما دنوت تسديتها *** فثوب نسيت وثوب أجر
قوله تعالى :﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شيء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾.
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده، لا إلى غيره، جاء موضحاً في آيات كثيرة.
فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته قال في حكمه ﴿ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ١١٠ ]، وفي قراءة ابن عامر من السبعة ﴿ وَلاَ تُشْرِكُواْ في حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ بصيغة النهي.
وقال في الإشراك به في عبادته :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ﴾ [ الكهف : ١١٠ ]، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله.
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لا نزاع فيه.
وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ يوسف : ٤٠ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ [ يوسف : ٦٧ ]. وقوله تعالى :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾ [ الأنعام : ٥٧ ] وقوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٢٦ ]، وقوله تعالى :﴿ كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]، وقوله تعالى ﴿ لَهُ الْحَمْدُ في الأولى والآخرة وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ القصص : ٧٠ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٢٦ ].
وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر فهي كثيرة جداً، كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [ النحل : ١٠٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ]، وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ﴾ [ يس : ٦٠ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، كما تقدم إيضاحه في الكهف.
مسألة
اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع.
سبحان الله وتعالى عن ذلك.
فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون، فليتبع تشريعهم.
وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية.
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه.
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا :﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شيء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ والأرض يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ ﴾ [ الشورى : ١٠ -١٢ ].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ﴾ [ الأنعام : ١٤٣ ]، وأنه ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ وأن ﴿ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاواتِ والأرض ﴾، وأنه ﴿ هُوَ الَّذِي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ ﴾ أي يضيقه على من يشاء ﴿ وَهُوَ بِكُلّ شيء عَلِيمٌ ﴾.
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [ النساء : ٥٩ ]، فقوله فيها :﴿ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ كقوله في هذه ﴿ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾.
وقد عجب نبيه صلى الله عليه وسلم بعد قوله :﴿ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة، إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم، المعبر عنه في الآية بالطاغوت، وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت، وذلك في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً ﴾ [ النساء : ٦٠ ].
فالكفر بالطاغوت، الذي صرح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية، شرط في الإيمان كما بينه تعالى في قوله :﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ].
فيفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يستمسك بها فهو مترد مع الهالكين.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٢٦ ].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض ؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات ؟
وأنه ليس لأحد دونه من ولي ؟
سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ؟
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلها آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ القصص : ٨٨ ].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد ؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه ؟ وأن الخلائق يرجعون إليه ؟
تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دعي اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ ﴾ [ غافر : ١٢ ].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي، بأنه العلي الكبير ؟
سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلََه إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ في الأولى والآخرة وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون َقُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُون َقُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَه غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُون َوَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ القصص : ٧٠ -٧٣ ].
فهل في مشرعي القوانين الوضعية، من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبيناً بذلك كمال قدرته، وعظمة إنعامه على خلقه.
سبحان خالق السماوات والأرض، جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته، أو ملكه.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ يوسف : ٤٠ ].
فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم ؟
سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ومنها قوله تعالى :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [ يوسف : ٦٧ ].
فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه، وتفوض الأمور إليه ؟
ومنها قوله تعالى :﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أهواءهم وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٩-٥٠ ].
فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لإتباع الهوى ؟ وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه ؟ لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة ؟ وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون ؟
سبحان ربنا وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.
ومنها قوله تعالى :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾ [ الأنعام : ٥٧ ].
فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين ؟
ومنها قوله تعالى :﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ [ الأنعام : ١١٤ -١١٥ ] الآية.
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلاً، الذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق، وبأنه تمت كلماته صدقاً وعدلاً أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ؟
سبحان ربنا ما أعظمه وما أجل شأنه.
قوله تعالى :﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ﴾.
قوله تعالى :﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ تقدم تفسيره في أول سورة فاطر.
وقوله ﴿ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾.
أي خلق لكم أزواجاً من أنفسكم كما قدمنا الكلام عليه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ [ النحل : ٧٢ ] وبينا أن المراد بالأزواج الإناث كما يوضحه قوله تعالى :﴿ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [ الروم : ٢١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴾ [ النجم : ٤٥ -٤٦ ] وقوله :﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى ﴾ [ القيامة : ٣٩ ] وقوله تعالى :﴿ والليل إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى ﴾ [ الليل : ١ -٣ ]. وقوله في آدم :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ النساء : ١ ] الآية. وقوله تعالى فيه أيضاً :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] الآية. وقوله تعالى فيه أيضاً :﴿ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ الزمر : ٦ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً ﴾ هي الثمانية المذكورة في قوله تعالى :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ﴾. وفي قوله :﴿ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ [ الزمر : ٦ ] وهي ذكور الضأن والمعز والإبل والبقر وإناثها، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾ [ آل عمران : ١٤ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ﴾ الظاهر أن ضمير الخطاب في قوله ﴿ يَذْرَؤُكُمْ ﴾ شامل للآدميين والأنعام، وتغليب الآدميين على الأنعام في ضمير المخاطبين في قوله : يذرؤكم واضح لا إشكال فيه.
والتحقيق إن شاء الله أن الضمير في قوله :«فيه » راجع إلى ما ذكر من الذكور والإناث، من بني آدم والأنعام في قوله تعالى :﴿ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً ﴾ [ الشورى : ١١ ] سواء قلنا إن المعنى : أنه جعل للآدميين إناثاً من أنفسهم أي من جنسهم، وجعل للأنعام أيضاً إناثاً كذلك، أو قلنا إن المراد بالأزواج الذكور والإناث منهما معاً.
وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الآية الكريمة يذرؤكم أي يخلقكم ويبثكم وينشركم فيه، أي فيما ذكر من الذكور والإناث، أي في ضمنه، عن طريق التناسل كما هو معروف.
ويوضح ذلك في قوله تعالى :﴿ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ﴾ [ النساء : ١ ] فقوله تعالى :﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ﴾ يوضح معنى قوله :﴿ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ﴾.
فإن قيل : ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله يذرؤكم فيه، مع أنه على ما ذكرتم، عائد إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام ؟
فالجواب : أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن، رجوع الضمير أو الإشارة بصيغة الإفراد إلى مثنى أو مجموع باعتبار ما ذكر مثلاً.
ومثاله في الضمير :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾ [ الأنعام : ٤٦ ] الآية، فالضمير في قوله : به مفرد مع أنه راجع إلى السمع والأبصار والقلوب.
فقوله :﴿ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾ أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم، ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج :
فيها خطوط من سواد وبلق كأن في الجلد توليع البهق
فقوله : كأنه أي ما ذكر من خطوط من سواد وبلق.
ومثاله في الإشارة ﴿ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ ﴾ [ البقرة : ٦٨ ] أي بين ذلك المذكور، من فارض وبكر، وقول عبد الله بن الزبعري السهمي : إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل
أي كلا ذلك المذكور من الخير والشر.
وقول من قال، إن الضمير في قوله فيه راجع إلى الرحم، وقول من قال راجع إلى البطن، ومن قال راجع إلى الجعل المفهوم من جعل وقول من قال : راجع إلى التدبير، ونحو ذلك من الأقوال خلاف الصواب.
والتحقيق إن شاء الله هو ما ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾.
وقد قدمنا الكلام عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ].
قوله تعالى :﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ والأرض يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾.
مقاليد السماوات والأرض هي مفاتيحهما.
وهو جمع لا واحد له من لفظه، فمفردها إقليد، وجمعها مقاليد على غير قياس.
والإقليد المفتاح. وقيل : واحدها مقليد، وهو قول غير معروف في اللغة.
وكونه جل وعلا ﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ أي مفاتيحهما كناية عن كونه جل وعلا هو وحده المالك لخزائن السماوات والأرض لأن ملك مفاتيحها يستلزم ملكها.
وقد ذكر جل وعلا مثل هذا في سورة الزمر في قوله تعالى :﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء وَهُوَ عَلَى كُل شيء وَكِيل ٌلَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ [ الزمر : ٦٢ -٦٣ ] الآية.
وما دلت عليه آية الشورى هذه وآية الزمر المذكورتان من أنه جل وعلا هو مالك خزائن السماوات والأرض، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [ المنافقون : ٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شيء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الحجر : ٢١ ].
وبين في مواضع أخر أن خزائن رحمته لا يمكن أن تكون لغيره، كقوله تعالى :﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴾ [ ص : ٩ ] وقوله تعالى ﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصيْطِرُونَ ﴾ [ الطور : ٣٧ ] وقوله تعالى ﴿ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٠٠ ].
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ جاء معناه موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ [ سبأ : ٣٩ ]. وقوله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٦ ] وقوله تعالى ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بالحياة الدُّنْيَا ﴾ [ الرعد : ٢٦ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الْرِّزْقِ ﴾ [ النحل : ٧١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الحياة الدُّنْيَا ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] الآية. وقوله تعالى ﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] الآية. وقوله تعالى ﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ اللَّهُ ﴾ [ الطلاق : ٧ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ﴾ أي ضيق عليه رزقه لقلته. وكذلك قوله ﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ في الآيات المذكورة.
أي يبسط الرزق لمن يشاء بسطه له ويقدر، أي يضيق الرزق على من يشاء تضييقه عليه كما أوضحناه في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [ الأنبياء : ٨٧ ].
وقد بين جل وعلا في بعض الآيات حكمة تضييقه للرزق على من ضيقه عليه.
وذكر أن من حكم ذلك أن بسط الرزق للإنسان، قد يحمله على البغي والطغيان كقوله تعالى ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في الأرض وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٢٧ ]، وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى ﴾ [ العلق : ٦ -٧ ].
قوله تعالى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأحزاب في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾.
الضمير في قوله : فيه، راجع إلى الدين في قوله : أن أقيموا الدين.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الافتراق في الدين، جاء مبيناً في غير هذا الموضع، وقد بين تعالى أنه وصى خلقه بذلك، فمن الآيات الدالة على ذلك، قوله تعالى ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] وقد بين تعالى في بعض المواضع أن بعض الناس لا يجتنبون هذا النهي، وعددهم على ذلك كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٩ ]، لأن قوله ﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء ﴾ إلى قوله ﴿ يَفْعَلُونَ ﴾ فيه تهديد عظيم لهم.
وقوله تعالى في سورة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١ ] ﴿ وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُون ِفَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون َفَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ٥٢-٥٤ ].
فقوله ﴿ وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي إن هذه شريعتكم شريعة واحدة ودينكم دين واحد، وربكم واحد فلا تتفرقوا في الدين.
وقوله جل وعلا :﴿ فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ﴾ دليل على أنهم لم يجتنبوا ما نهوا عنه من ذلك.
وقوله تعالى :﴿ فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ فيه تهديد لهم ووعيد عظيم على ذلك. ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء :﴿ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٢ -٩٣ ] فقوله تعالى :﴿ كُلٌّ إِلَيْنَا راجِعُونَ ﴾ فيه أيضاً تهديد لهم ووعيد على ذلك وقد أوضحنا تفسير هذه الآيات في آخر سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى ﴿ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الأنبياء : ٩٢ ] الآية.
وقد جاء في الحديث المشهور «افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافتراق النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن الناجية منها واحدة، وهي التي كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ».
قوله تعالى :﴿ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾.
بين جل وعلا أنه كبر على المشركين أي شق عليهم وعظم ما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم من عبادة الله تعالى وحده، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولعظم ذلك ومشقته عليهم، كانوا يكرهون ما أنزل الله ويجتهدون في عدم سماعه لشدة كراهتهم له، بل يكادون يبطشون بمن يتلو عليهم آيات ربهم لشدة بغضهم وكراهتهم لها.
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة في كتاب الله، وفيها بيان أن ذلك هو عادة الكافرين مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم.
فقد بين تعالى مشقة ذلك على قوم ونوح وكبره عليهم في مواضع من كتابه كقوله تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مقامي وتذكيري بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ [ يونس : ٧١ ] الآية. وقوله تعالى عن نوح ﴿ وإني كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ في ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ﴾ [ نوح : ٧ ].
فقوله تعالى ﴿ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ في ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ ﴾ يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهتهم لما يدعوهم إليه نوح، فهو واضح في أنهم كبر عليهم ما يدعوهم إليه من توحيد الله والإيمان به.
وقد بين الله تعالى مثل ذلك في الكفار الذين كذبوا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم في آيات من كتابه كقوله تعالى ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا ﴾ [ الحج : ٧٢ ] فقوله تعالى :﴿ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ ﴾ الآية. يدل دلالة واضحة، على شدة بغضهم وكراهيتهم لسماع تلك الآيات.
وكقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] الآية. وقوله تعالى في الزخرف. ﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٨ ] الآية، وقوله تعالى في قد أفلح المؤمنون ﴿ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧٠ ] وقوله تعالى في القتال ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ٩ ]، وقوله تعالى :﴿ تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فبأي حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ يُؤْمِنُون َوَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الجاثية : ٦ – ٨ ] وقوله تعالى ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ لقمان : ٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٥ ] الآية. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
واعلم أن هؤلاء الذين يكرهون ما أنزل الله، يجب على كل مسلم أن يحذر كل الحذر من أن يطيعهم في بعض أمرهم، لأن ذلك يستلزم نتائج سيئة متناهية في السوء، كما أوضح تعالى ذلك في قوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الأمر وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ٢٤ -٢٨ ] فعلى كل مسلم أن يحذر ثم يحذر ثم يحذر كل الحذر، من أن يقول للذين كفروا، الذين يكرهون ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، لأن ذلك يسبب له ما ذكره الله في الآيات المذكورة، ويكفيه زجراً وردعاً عن ذلك قوله ربه تعالى ﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ٢٧ -٢٨ ].
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾.
الاجتباء في اللغة العربية معناه الاختيار والاصطفاء.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أنه تعالى يجتبى من خلقه من يشاء اجتباءه.
وقد بين في مواضع أخر بعض من شاء اجتباءه من خلقه، فبين أن منهم المؤمنين من هذه الأمة في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ ﴾ إلى قوله :﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [ الحج : ٧٧-٧٨ ].
وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] الآية.
وبين في موضع آخر أن منهم آدم وهو قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [ طه : ١٢٢ ]. وذكر أن منهم إبراهيم في قوله :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ إلى قوله ﴿ شَاكِراً لأنعمه اجْتَبَاهُ ﴾ [ النحل : ١٢٠ -١٢١ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اجتباء بعض الخلق بالتعيين.
وقوله تعالى :﴿ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾ أي من سبق في علمه أنه ينيب إلى الله أي يرجع إلى ما يرضيه، من الإيمان والطاعة، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الرعد ﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾ [ الرعد : ٢٧ ].
قوله تعالى :﴿ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعدل بَيْنَكُمُ ﴾.
تقدمت الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ].
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الذي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل الكتاب في حال كونه متلبساً بالحق الذي هو ضد الباطل، وقوله :﴿ الْكِتَابَ ﴾ اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية.
وقد أوضحنا في سورة الحج أن المفرد الذي هو اسم الجنس يطلق مراداً به الجمع، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك مع الشواهد العربية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَالْمِيزَانَ ﴾ يعني أن الله جل وعلا هو الذي أنزل الميزان، والمراد به العدل والإنصاف.
وقال بعض أهل العلم : الميزان في الآية : هو آلة الوزن المعروفة.
ومما يؤيد ذلك أن الميزان مفعال، والمفعال قياسي في اسم الآلة.
وعلى التفسير الأول وهو أن الميزان العدل والإنصاف، فالميزان الذي هو آلة الوزن المعروفة داخل فيه، لأن إقامة الوزن بالقسط من العدل والإنصاف.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله تعالى هو الذي أنزل الكتاب والميزان أوضحه في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الحديد ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [ الحديد : ٢٥ ]. فصرح تعالى بأنه أنزل مع رسله بالكتاب والميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل والإنصاف. وكقوله تعالى في سورة الرحمان ﴿ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ألاَّ تَطْغَوْاْ في الْمِيزَان ِوَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ﴾ [ الرحمان : ٧ -٩ ].
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن الميزان في سورة الشورى وسورة الحديد هو العدل والإنصاف، كما قاله غير واحد من المفسرين.
وأن الميزان في سورة الرحمان هو الميزان المعروف أعني آلة الوزن التي يوزن بها بعض المبيعات.
ومما يدل على ذلك أنه في سورة الشورى وسورة الحديد عبر بإنزال الميزان لا بوضعه، وقال في سورة الشورى ﴿ اللَّهُ الذي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ [ الشورى : ١٧ ].
وقال في الحديد :﴿ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [ الحديد : ٢٥ ].
وأما في سورة الرحمان فقد عبر بالوضع لا الإنزال، قال ﴿ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾ [ الرحمان : ٥٥ ] ثم أتبع ذلك بما يدل على أن المراد به آلة الوزن المعروفة، وذلك في قوله :﴿ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ﴾ [ الرحمان : ٩ ]، لأن الميزان الذي نهوا عن إخساره هو أخو المكيال، كما قال تعالى ﴿ أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ ﴾ [ الشعراء : ١٨١ -١٨٣ ] وقال تعالى ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [ المطففين : ١ -٣ ]. وقال تعالى عن نبيه شعيب :﴿ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [ هود : ٨٤ ] الآية. وقال تعالى عنه أيضاً ﴿ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ] الآية. وقال تعالى في سورة الأنعام :﴿ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] وقال تعالى في سورة بني إسرائيل ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٥ ].
فإن قيل : قد اخترتم أن المراد بالميزان في سورة الشورى وسورة الحديد، هو العدل والإنصاف، وأن المراد بالميزان في سورة الرحمان هو آلة الوزن المعروفة، وذكرتم نظائر ذلك من الآيات القرآنية، وعلى هذا الذي اخترتم يشكل الفرق بين الكتاب والميزان، لأن الكتب السماوية كلها عدل وإنصاف.
فالجواب من وجهين :
الأول منهما هو ما قدمنا مراراً من أن الشيء الواحد إذا عبر عنه بصفتين مختلفتين جاز عطفه على نفسه تنزيلاً للتغاير بين الصفات منزلة التغاير في الذوات، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى * الذي خَلَقَ فَسَوَّى * والذي قَدَّرَ فَهَدَى * والذي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴾ [ الأعلى : ١ -٤ ] فالموصوف واحد والصفات مختلفة، وقد ساغ العطف لتغاير الصفات. ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهما م وليث الكتيبة في المزدحم
وأما الوجه الثاني :
فهو ما أشار إليه العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، من المغايرة في الجملة بين الكتاب والميزان.
وإيضاح ذلك : أن المراد بالكتاب هو العدل والإنصاف المصرح به في الكتب السماوية.
وأما الميزان : فيصدق بالعدل والإنصاف الذي لم يصرح به في الكتب السماوية، ولكنه معلوم مما صرح به فيها.
فالتأفيف في قوله تعالى ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ]، من الكتاب لأنه مصرح به في الكتاب، ومنع ضرب الوالدين مثلاً المدلول عليه بالنهي على التأفيف من الميزان، أي من العدل والإنصاف الذي أنزله الله مع رسله.
وقبول شهادة العدلين في الرجعة والطلاق المنصوص في قوله تعالى :﴿ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ [ الطلاق : ٢ ] من الكتاب الذي أنزله الله، لأنه مصرح به فيه.
وقبول شهادة أربعة عدول في ذلك من الميزان الذي أنزله الله مع رسله.
وتحريم أكل مال اليتيم المذكور في قوله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾ [ النساء : ١٠ ] الآية من الكتاب.
وتحريم إغراق مال اليتيم وإحراقه، المعروف من ذلك من الميزان، الذي أنزله الله مع رسله.
وجلد القاذف الذكر للمحصنة الأنثى ثمانين جلدة ورد شهادته، والحكم بفسقه المنصوص في قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ إلى قوله ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾ [ النور : ٤-٥ ] الآية من الكتاب الذي أنزله الله.
وعقوبة القاذف الذكر لذكر مثله، والأنثى القاذفة للذكر أو لأنثى بمثل تلك العقوبة المنصوصة في القرآن من الميزان المذكور.
وحلية المرأة التي كانت مبتوتة، بسبب نكاح زوج ثان وطلاقه لها بعد الدخول المنصوص في قوله تعالى ﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ ﴾ [ البقرة : ٢٣٠ ] أي فإن طلقها الزوج الثاني، بعد الدخول وذوق العسيلة فلا جناح عليهما أي لا جناح على المرأة التي كانت مبتوتة والزوج الذي كانت حراماً عليه، أن يتراجعا بعد نكاح الثاني وطلاقه لها، من الكتاب الذي أنزل الله.
وأما إن مات الزوج الثاني بعد أن دخل بها وكان موته قبل أن يطلقها، فحليتها للأول الذي كانت حراماً عليه، من الميزان الذي أنزله الله مع رسله.
وقد أشرنا إلى كلام ابن القيم المذكور، وأكثرنا من الأمثلة لذلك في سورة الأنبياء في كلامنا الطويل على قوله تعالى ﴿ وداود وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له، في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [ النحل : ١ ] الآية. وفي سورة الأحزاب في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾ [ الأحزاب : ٦٣ ] وفي سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزِفَةِ ﴾ [ غافر : ١٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :
الأولى : أن الكفار الذين لا يؤمنون بالساعة، يستعجلون بها أي يطلبون تعجيلها عليهم، لشدة إنكارهم لها.
والثانية : أن المؤمنين مشفقون منها، أي خائفون منها.
والثالثة : أنهم يعلمون أنها الحق، أي أن قيامها ووقوعها حق لا شك فيه.
وكل هذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أما استعجالهم لها فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ﴾ [ الرعد : ٦ ] وفي غير ذلك من المواضع.
وأما المسألة الثانية : التي هي إشفاق المؤمنين وخوفهم من الساعة، فقد ذكره في مواضع أخر كقوله تعالى ﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٩ ] وقوله تعالى ﴿ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والأبصار ﴾ [ النور : ٣٧ ] وقوله تعالى ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾ [ الإنسان : ٧ ].
وأما المسألة الثالثة : وهي علمهم أن الساعة حق، فقد دلت عليه الآيات المصرحة بأنها لا ريب فيها، لأنها تتضمن نفي الريب فيها من المؤمنين.
والريب : الشك كقوله تعالى عن الراسخين في العلم :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ آل عمران : ٩ ] الآية. وقوله تعالى ﴿ اللَّهُ لا إِلََه إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ النساء : ٨٧ ] الآية : وقوله تعالى ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ آل عمران : ٢٥ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ الشورى : ٧ ] الآية. وقوله تعالى ﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يحيي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن في الْقُبُورِ ﴾ [ الحج : ٦ -٧ ]إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ في السَّاعَةِ لفي ضَلَالَ بَعِيدٍ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ [ الفرقان : ١١ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ يُمَارُونَ ﴾، مضارع مارى، يماري، مراء ومماراة، إذا خاصم وجادل.
ومنه قوله تعالى ﴿ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِرًا ﴾ [ الكهف : ٢٢ ].
وقوله ﴿ لفي ضَلَالَ بَعِيدٍ ﴾ أي بعيد عن الحق والصواب.
وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة العربية، مع الشواهد في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى ﴿ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٠ ] وفي مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك.
قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾.
قد بينا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً ﴾ [ هود : ٢٩ ] الآية. أن جميع الرسل عليهم الصلوات والسلام، لا يأخذون أجراً على التبليغ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وجه الجمع بين تلك الآيات، وآية شورى هذه فقلنا فيه :
اعلم أولاً أن في قوله تعالى ﴿ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾ أربعة أقوال :
الأول : ورواه الشعبي وغيره عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم كما نقله عنهم ابن جرير وغيره، أن معنى الآية ﴿ قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ] أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم، وكان صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ لأنه مبذول لكل أحد، لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس.
وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن أجراً على التبليغ لأنه لم يؤمن.
وإذا كان لا يسأل أجراً إلا هذا الذي ليس بأجر تحقق أنه لا يسأل أجراً كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم.
وهذا القول هو الصحيح في الآية، واختاره ابن جرير، وعليه فلا إشكال.
الثاني : أن معنى الآية ﴿ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ] أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين، وعليه فلا إشكال أيضاً.
لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم، وأحرى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ [ التوبة : ٧١ ] وفي الحديث «مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » وقال صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » والأحاديث في مثل هذا كثيرة جداً.
وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين، تبين أنه غير عوض عن التبليغ.
وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين، وعليه فلا إشكال.
فمعناه على القول الأول ﴿ لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ لكن أذكركم قرابتي فيكم.
وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم.
القول الثالث : وبه قال الحسن إلا المودة في القربى أي إلا أن تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصلح، وعليه فلا إشكال.
لأن التقرب إلى الله ليس أجراً على التبليغ.
القول الرابع : إلا المودة في القربى، أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم، وعليه أيضاً فلا إشكال.
لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجراً على التبليغ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال.
وأما القول بأن قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ] منسوخ بقوله تعالى :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ [ سبأ : ٤٧ ] فهو ضعيف، والعلم عند الله تعالى. انتهى منه.
وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية.
مع أن كثيراً من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية، فيحسبون أن معنى ﴿ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾ إلا أن تودوني في أهل قرابتي.
وممن ظن ذلك محمد السَجَّاد حيث قال لقاتله يوم الجمل : أذكرك حم يعني سورة الشورى هذه، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزم حفظه فيهم، لأن الله تعالى قال في حم هذه ﴿ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ] فهو يريد المعنى المذكور، يظنه هو المراد بالآية، ولذا قال قاتله في ذلك :
يُذَكِّرني حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِر فَهَل لا تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة هود، وذكرنا أن البخاري ذكر البيت المذكور في سورة المؤمن، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل محمداً السجاد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل، هل هو شريح بن أبي أوفىَ العبسي كما قال البخاري، أو الأشتر النخعي، أو عصام بن مقشعر، أو مدلج بن كعب السعدي، أو كعب بن مدلج.
وممن ظن أن معنى الآية هو ما ظنه محمد السجاد المذكور الكميت في قوله في أهل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها مناتقي ومعرب
والتحقيق إن شاء الله أن معنى الآية هو القول الأول ﴿ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾ أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس، كما هو شأن أهل القرابات.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ﴾.
الاقتراف معنا الاكتساب، أي من يعمل حسنة من الحسنات، ويكتسبها نزد له فيها حسناً، أي نضاعفها له.
فمضاعفة الحسنات هي الزيادة في حسنها، وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله تعالى كقوله تعالى ﴿ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ٤٠ ] وقوله تعالى :﴿ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ] وقوله تعالى :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] وقوله تعالى ﴿ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكاة وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأنفسكم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] فكونه خيراً وأعظم أجراً زيادة في حسنه، كما لا يخفى إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ ﴾.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات. وقد جاء ذلك موضحاً في مواضع أخر كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [ التوبة : ١٠٤ ] وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ [ التحريم : ٨ ]. وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا معنى التوبة وأركانها وإزالة ما في أركانها من الإشكال، في سورة النور في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ النور : ٣١ ].
قوله تعالى :﴿ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه ينزل ما يشاء تنزيله من الأرزاق وغيرها بقدر، أي بمقدار معلوم عنده جل وعلا، وهو جل وعلا أعلم بالحكمة والمصلحة في مقدار كل ما ينزله. وقد أوضح هذا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شيء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الحجر : ٢١ ] وقوله تعالى :﴿ وَكُلُّ شيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [ الرعد : ٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرض ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النور في الكلام على قوله تعالى :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ في الأرض وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ﴾ [ النور : ٥٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ في الْبَحْرِ كالأعلام ﴾.
قوله : ومن آياته أي من علاماته الدالة على قدرته واستحقاقه للعبادة وحده، الجواري وهي السفن واحدتها جارية، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ في الْجَارِيَةِ ﴾ [ الحاقة : ١١ ] يعني سفينة نوح، وسميت جارية لأنها تجري في البحر.
وقوله ﴿ كالأعلام ﴾ أي كالجبال، شبه السفن بالجبال لعظمها.
وعن مجاهد أن الأعلام القصور، وعن الخليل : أن كل مرتفع تسميه العرب علماً، وجمع العلم أعلام.
وهذا الذي ذكره الخليل معروف في اللغة، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخراً :
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جريان السفن في البحر، من آياته تعالى الدالة على كمال قدرته، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى ﴿ وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ في الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ﴾ [ يس : ٤١ -٤٤ ] ﴿ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ العنكبوت : ١٥ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التي تَجْرِى في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ إلى قوله :﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ] الآية. وقوله تعالى في سورة النحل :﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النحل : ١٤ ] الآية. وقوله في فاطر :﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ فاطر : ١٢ ] الآية. والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو «الجواري » بياء ساكنة بعد الراء في الوصل فقط، دون الوقف وقرأه ابن كثير بالياء المذكور في الوصل والوقف معاً، وقرأه الباقون الجوار بحذف الياء في الوصل والوقف معاً.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ﴾ الآية.
قرأ هذا الحرف الحمزة والكسائي ( كبير الإثم )، بكسر الباء بعدها ياء ساكنة وراء على صيغة الإفراد.
وقرأه الباقون بفتح الباء بعدها ألف فهمزة مكسورة قبل الراء على صيغة الجمع.
وقوله ﴿ وَالَّذِينَ ﴾ : في محل جر عطفاً على قوله :﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [ الشورى : ٣٦ ] أي وخير وأبقى أيضاً للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش.
والفواحش جمع فاحشة. والتحقيق إن شاء الله أن الفواحش من جملة الكبائر.
والأظهر أنها من أشنعها، لأن الفاحشة في اللغة : وهي الخصلة المتناهية في القبح، وكل متشدد في شيء مبالغ فيه فهو فاحش فيه.
ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي *** عقيلة مال الفاحش المتشدد
فقوله : الفاحش أي المبالغ في البخل المتناهي فيه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعده تعالى الصادق للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش بما عنده لهم من الثواب الذي هو خير وأبقى، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، فبين تعالى في سورة النساء أن من ذلك تكفيره تعالى عنهم سيئاتهم، وإدخالهم المدخل الكريم وهو الجنة في قوله تعالى ﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾ [ النساء : ٣١ ]، وبين في سورة النجم أنهم باجتنابهم كبائر الإثم والفواحش، يصدق عليهم اسم المحسنين ووعدهم على ذلك بالحسنى.
والأظهر أنها الجنة، ويدل له حديث «الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم » في تفسير قوله تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ] كما قدمناه.
وآية النجم المذكورة هي قوله تعالى ﴿ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ﴾ [ النجم : ٣١ ] ثم بين المراد بالذين أحسنوا في قوله ﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [ النجم : ٣٢ ].
وأظهر الأقوال في قوله : إلا اللمم، أن المراد باللمم صغائر الذنوب، ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله تعالى :﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ﴾ [ النساء : ٣١ ]. فدلت على أن اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر، وخير ما يفسر به القرآن، القرآن.
ويدل لهذا حديث ابن عباس الثابت في الصحيح : قال ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تمني وتشتهي والفرج يُصَدِّقُ ذلك أو يكذبه ».
وعلى هذا القول فالاستثناء في قوله إلا اللمم منقطع، لأن اللمم الذي هو الصغائر على هذا القول لا يدخل في الكبائر والفواحش، وقد قدمنا تحقيق المقام في الاستثناء المنقطع. في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى ﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً ﴾ [ مريم : ٦٢ ].
وقالت جماعة من أهل العلم : الاستثناء متصل فالواو وعليه، فمعنى إلا اللمم : إلا أن يلم بفاحشة مرة ثم يجتنبها ولا يعود لها بعد ذلك.
واستدلوا لذلك بقول الراجز :
إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك ما ألما
وروى هذا البيت ابن جرير والترمذي وغيرهما مرفوعاً. وفي صحته مرفوعاً نظر.
وقال بعض العلماء. المراد باللمم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي، قبل الدخول في الإسلام ولا يخفى بعده.
وأظهر الأقوال هو ما قدمنا لدلالة آية النساء المذكورة عليه، وحديث ابن عباس المتفق عليه.
واعلم أن كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين، وقد جاء تعيين بعضها كالسبع الموبقات أي المهكات لعظمها، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة «أنها الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » وقد جاءت روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعيين بعض الكبائر «كعقوق الوالدين واستحلال حرمة بيت الله الحرام والرجوع إلى البادية بعد الهجرة وشرب الخمر واليمين الغموس والسرقة ومنع فضل الماء ومنع فضل الكلأ وشهادة الزور ».
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن ابن مسعود «أن أكبر الكبائر الإشراك بالله الذي خلق الخلق ثم قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه، ثم زناه بحليلة جاره ». وفي بعضها أيضاً «أن من الكبائر تسبب الرجل في سبب والديه »، وفي بعضها أيضاً «أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفرا » وذلك يدل على أنهما من الكبائر.
وفي بعض الروايات «أن من كبائر الوقوع في عرض المسلم، والسبتين بالسبة ».
وفي بعض الروايات «أن منها جمع الصلاتين من غير عذر ».
وفي بعضها «أن منها اليأس من روح الله، والأمن من مكر الله » ويدل عليهما قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لاَ يايْأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ يوسف : ٨٧ ]. وقوله ﴿ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٩ ].
وفي بعضها «أن منها سوء الظن بالله » ويدل له قوله تعالى ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾ [ الفتح : ٦ ].
وفي بعضها «أن منها الإضرار في الوصية ».
وفي بعضها أن منها الغلول، ويدل له قوله تعالى :﴿ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ آل عمران : ١٦١ ]. وقدمنا معنى الغلول في سورة الأنفال، وذكرنا حكم الغال.
وفي بعضها «أن من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ». ويدل له قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ في الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ آل عمران : ٧٧ ] ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة، من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن أهل العلم اختلفوا في حد الكبيرة.
فقال بعضهم : هي كل ذنب استوجب حداً من حدود الله.
وقال بعضهم : هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب.
واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين.
وعن ابن عباس : أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع. وعنه أيضاً أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق أنها لا تنحصر في سبع، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضى انحصارها في ذلك العدد، لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم، وهو مفهوم لقب، والحق عدم اعتباره.
ولو قلنا إنه مفهوم عدد لكان غير معتبر أيضاً، لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق.
وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع، والمنطوق مقدم على المفهوم، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم.
والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، أو كان وجوب الحد فيه، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده.
مع أن بعض أهل العلم قال : إن كل ذنب كبيرة. وقوله تعالى :﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ﴾ [ النساء : ٣١ ] الآية. وقوله :﴿ إِلاَّ اللَّمَمَ ﴾ [ النجم : ٣٢ ] يدل على عدم المساواة، وأن بعض المعاصي كبائر. وبعضها صغائر، والمعروف عند أهل العلم : أنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] الآية. وفي سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [ الزمر : ١٧ -١٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على آية النحل وآية الزمر المذكورتين آنفاً.
قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ].
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ النحل : ٢ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ﴾. يبين الله جل وعلا فيه مِنَّتِهِ على هذا النبي الكريم، بأنه علمه هذا القرآن العظيم ولم يكن يعلمه قبل ذلك، وعلمه تفاصيل دين الإسلام ولم يكن يعلمها قبل ذلك.
فقوله : ما كنت تدري ما الكتاب : أي ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم، حتى علمتكه، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي، حتى علمتكه.
ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد.
وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة، منها : حديث وفد عبد القيس المشهور، ومنها حديث :«من قام رمضان إيماناً واحتساباً » الحديث، فسمى فيه قيام رمضان إيماناً، وحديث «الإيمان بضع وسبعون شعبة »، وفي بعض رواياته «بضع وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ».
والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي في شعب الإيمان فهو صلوات الله وسلامه عليه ما كان يعرف تفاصيل الصلوات المكتوبة وأوقاتها ولا صوم رمضان، وما يجوز فيه وما لا يجوز ولم يكن يعرف تفاصيل الزكاة ولا ما تجب فيه ولا قدر النصاب وقدر الواجب فيه ولا تفاصيل الحج ونحو ذلك، وهذا هو المراد بقوله تعالى :﴿ وَلاَ الإِيمَانُ ﴾.
وما ذكره هنا من أنه لم يكن يعلم هذه الأمور حتى علمه إياها بأن أوحى إليه هذا النور العظيم الذي هو كتاب الله، جاء في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [ النساء : ١١٣ ] الآية. وقوله جل وعلا ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [ يوسف : ٣ ].
فقوله في آية يوسف هذه :﴿ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [ يوسف : ٣ ] كقوله هنا ﴿ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى ﴾ [ الضحى : ٧ ] على أصح التفسيرات كما قدمناه في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ ﴾، الضمير في قوله : جعلناه راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله :﴿ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] وقوله :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ ﴾ أي ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نوراً نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا.
وسمي القرآن نوراً، لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك.
وما ذكره هنا من أن هذا القرآن نور، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ﴾ [ النساء : ١٧٤ ].
وقوله تعالى ﴿ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الذي أُنزِلَ مَعَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] وقوله تعالى :﴿ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ المائدة : ١٥ -١٦ ] وقوله تعالى :﴿ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الذي أَنزَلْنَا ﴾ [ التغابن : ٨ ].
وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة من كون هذا القرآن نوراً يدل على أنه هو الذي يكشف ظلمات الجهل، ويظهر في ضوئه الحق، ويتميز عن الباطل ويميز به بين الهدى والضلال والحسن والقبيح.
فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنوره، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه ويمتثل أوامره ويجتنب ما نهى عنه ويعتبر بقصصه وأمثاله.
والسنة كلها داخلة في العمل به، لقوله تعالى :﴿ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾ [ الحشر : ٧ ].
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
الصراط المستقيم، قد بينه تعالى في قوله :﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الفاتحة : ٦ – ٧ ].
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى ﴾ الآية، قد بينا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ [ فصلت : ١٧ ] الآية، وبينا هناك وجه الجمع بين قوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] مع قوله ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ].
والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح، والمستقيم. الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير : أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم.
قوله تعالى :﴿ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمور ﴾.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأمور كلها تصير إلى الله، أي ترجع إليه وحده لا إلى غيره. جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ ﴾ [ هود : ١٢٣ ] وقوله تعالى :﴿ وَللَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرض وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمور كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عمران : ١٠٩ – ١١٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
Icon