تفسير سورة سورة الحشر من كتاب أضواء البيان
المعروف بـأضواء البيان
.
لمؤلفه
محمد الأمين الشنقيطي
.
المتوفي سنة 1393 هـ
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْحَشْرِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَلَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّسْبِيحِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [٢١ ٧٩].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّسْبِيحُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ تَنْزِيهُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَسَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النُّصُوصَ فِي تَسْبِيحِ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعِهَا.
وَقَالَ فِي آخِرِ الْمَبْحَثِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكُنَّا فَاعِلِينَ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)، وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّأْكِيدِ أَنَّ تَسْخِيرَ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحَهَا أَمْرٌ عَجَبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، مَظِنَّةٌ لِأَنْ يُكَذِّبَ بِهِ الْكَفَرَةُ الْجَهَلَةُ [مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ ٣٣٧، وَذَكَرَ عِنْدَ أَوَّلِ سُورَةِ " الْحَدِيدِ " زِيَادَةً لِذَلِكَ].
وَفِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ مِمَّا أَمْلَاهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَصْلِ الدِّرَاسَةِ عَلَى أَوَّلِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [٦٢ ١] قَالَ: التَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ، (وَمَا) الَّتِي لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ؛ لِتَغَلُّبِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ لِكَثْرَتِهِمْ، وَكَانَ يُمْكِنُ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِحَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إِلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ الْآنَ تَدْعُو إِلَى مَزِيدِ بَيَانٍ بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ؛ لِتَعَلُّقِ الْمَبْحَثِ بِأَمْرٍ بَالِغِ الْأَهَمِّيَّةِ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي عَصْرٍ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْعَلْمَانِيَّةُ، وَالْمَادِّيَّةُ فَنُورِدُ مَا أَمْكَنَ أَمَلًا فِي زِيَادَةِ الْإِيضَاحِ.
إِنَّ أَصْلَ التَّسْبِيحِ مِنْ مَادَّةِ سَبَحَ، وَالسِّبَاحَةُ وَالتَّسْبِيحُ مُشْتَرِكَانِ فِي أَصْلِ الْمَادَّةِ، فَبَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَالسِّبَاحَةُ فِي الْمَاءِ يَنْجُو بِهَا صَاحِبُهَا مِنَ الْغَرَقِ، وَكَذَلِكَ الْمُسَبِّحُ لِلَّهِ وَالْمُنَزِّهُ لَهُ يَنْجُو مِنَ الشِّرْكِ، وَيَحْيَا بِالذِّكْرِ وَالتَّمْجِيدِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ جَاءَ الْفِعْلُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي: (سَبَّحَ لِلَّهِ) كَمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَلَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّسْبِيحِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [٢١ ٧٩].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّسْبِيحُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ تَنْزِيهُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَسَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النُّصُوصَ فِي تَسْبِيحِ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعِهَا.
وَقَالَ فِي آخِرِ الْمَبْحَثِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكُنَّا فَاعِلِينَ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)، وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّأْكِيدِ أَنَّ تَسْخِيرَ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحَهَا أَمْرٌ عَجَبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، مَظِنَّةٌ لِأَنْ يُكَذِّبَ بِهِ الْكَفَرَةُ الْجَهَلَةُ [مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ ٣٣٧، وَذَكَرَ عِنْدَ أَوَّلِ سُورَةِ " الْحَدِيدِ " زِيَادَةً لِذَلِكَ].
وَفِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ مِمَّا أَمْلَاهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَصْلِ الدِّرَاسَةِ عَلَى أَوَّلِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [٦٢ ١] قَالَ: التَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ، (وَمَا) الَّتِي لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ؛ لِتَغَلُّبِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ لِكَثْرَتِهِمْ، وَكَانَ يُمْكِنُ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِحَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إِلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ الْآنَ تَدْعُو إِلَى مَزِيدِ بَيَانٍ بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ؛ لِتَعَلُّقِ الْمَبْحَثِ بِأَمْرٍ بَالِغِ الْأَهَمِّيَّةِ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي عَصْرٍ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْعَلْمَانِيَّةُ، وَالْمَادِّيَّةُ فَنُورِدُ مَا أَمْكَنَ أَمَلًا فِي زِيَادَةِ الْإِيضَاحِ.
إِنَّ أَصْلَ التَّسْبِيحِ مِنْ مَادَّةِ سَبَحَ، وَالسِّبَاحَةُ وَالتَّسْبِيحُ مُشْتَرِكَانِ فِي أَصْلِ الْمَادَّةِ، فَبَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَالسِّبَاحَةُ فِي الْمَاءِ يَنْجُو بِهَا صَاحِبُهَا مِنَ الْغَرَقِ، وَكَذَلِكَ الْمُسَبِّحُ لِلَّهِ وَالْمُنَزِّهُ لَهُ يَنْجُو مِنَ الشِّرْكِ، وَيَحْيَا بِالذِّكْرِ وَالتَّمْجِيدِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ جَاءَ الْفِعْلُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي: (سَبَّحَ لِلَّهِ) كَمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ
3
" الْحَدِيدِ ".
قَالَ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَهَا: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ بِالتَّسْبِيحِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [٥٦ ٩٥ - ٩٦]، جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا مُبَاشَرَةً بِالْفِعْلِ الْمَاضِي؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ الْمَأْمُورَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ، وَالْتَزَمَ بِهِ كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. اهـ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ جَاءَ أَيْضًا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ كَمَا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [٥٩ ٢٤]، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْجُمُعَةِ ": (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [٦٢ ١]، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّغَابُنِ: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٦٤ ١]، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ.
بَلْ جَاءَ الْفِعْلُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [٨٧ ١]، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [٥٦ ٧٤].
وَجَاءَتِ الْمَادَّةُ بِالْمَصْدَرِ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [١٧ ١]، (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [٣٠ ١٧]، لِيَدُلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ بِدَوَامِ وَاسْتِمْرَارِ التَّسْبِيحِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، كَمَا سَبَّحَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ، وَسَبَّحَتْهُ مَلَائِكَتُهُ، وَرُسُلُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهُ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِهَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْعَاقِلِ إِذَا نُزِّلَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعَاقِلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [٤ ٣]، وَمَجِيئُهُا هُنَا لِغَيْرِ الْعَاقِلِ تَغْلِيبًا لَهُ؛ لِكَثْرَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَتَكُونُ شَامِلَةً لِلْعَاقِلِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَمِمَّا يَلْفِتُ النَّظَرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي فِي مَعْرِضِ الْعُمُومِ كُلَّهُ فِي الْقُرْآنِ مُسْنَدٌ إِلَى " مَا " دُونَ " مَنْ " إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [٧١ ٤٤]، وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى شُمُولِ " مَا " وَعُمُومِهَا الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْنَدَ التَّسْبِيحَ أَوَّلًا إِلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ صَرَاحَةً بِذَوَاتِهِنَّ، وَهُنَّ مِنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ بِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُنَّ مِنْ أَفْلَاكٍ، وَكَوَاكِبَ، وَبُرُوجٍ، أَوْ جِبَالٍ، وَوِهَادٍ، وَفِجَاجٍ، ثُمَّ عَطَفَ
قَالَ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَهَا: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ بِالتَّسْبِيحِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [٥٦ ٩٥ - ٩٦]، جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا مُبَاشَرَةً بِالْفِعْلِ الْمَاضِي؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ الْمَأْمُورَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ، وَالْتَزَمَ بِهِ كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. اهـ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ جَاءَ أَيْضًا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ كَمَا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [٥٩ ٢٤]، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْجُمُعَةِ ": (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [٦٢ ١]، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّغَابُنِ: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٦٤ ١]، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ.
بَلْ جَاءَ الْفِعْلُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [٨٧ ١]، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [٥٦ ٧٤].
وَجَاءَتِ الْمَادَّةُ بِالْمَصْدَرِ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [١٧ ١]، (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [٣٠ ١٧]، لِيَدُلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ بِدَوَامِ وَاسْتِمْرَارِ التَّسْبِيحِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، كَمَا سَبَّحَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ، وَسَبَّحَتْهُ مَلَائِكَتُهُ، وَرُسُلُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهُ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِهَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْعَاقِلِ إِذَا نُزِّلَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعَاقِلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [٤ ٣]، وَمَجِيئُهُا هُنَا لِغَيْرِ الْعَاقِلِ تَغْلِيبًا لَهُ؛ لِكَثْرَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَتَكُونُ شَامِلَةً لِلْعَاقِلِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَمِمَّا يَلْفِتُ النَّظَرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي فِي مَعْرِضِ الْعُمُومِ كُلَّهُ فِي الْقُرْآنِ مُسْنَدٌ إِلَى " مَا " دُونَ " مَنْ " إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [٧١ ٤٤]، وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى شُمُولِ " مَا " وَعُمُومِهَا الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْنَدَ التَّسْبِيحَ أَوَّلًا إِلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ صَرَاحَةً بِذَوَاتِهِنَّ، وَهُنَّ مِنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ بِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُنَّ مِنْ أَفْلَاكٍ، وَكَوَاكِبَ، وَبُرُوجٍ، أَوْ جِبَالٍ، وَوِهَادٍ، وَفِجَاجٍ، ثُمَّ عَطَفَ
4
عَلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ بِصِيغَةِ " مَنْ " الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ فَقَالَ: (وَمَنْ فِيهِنَّ)، وَإِنْ كَانَتْ " مَنْ "، قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ إِذَا نُزِّلْنَ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَبِهَذَا شَمِلَ إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي نِطَاقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَاقِلٍ، وَغَيْرِ عَاقِلٍ، وَقَدْ أُكِّدَ هَذَا الشُّمُولُ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [١٧ ٤٤]، وَكَلِمَةُ " شَيْءٍ " أَعَمُّ الْعُمُومَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [١٣ ٦]، فَشَمِلَتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالْمَلَائِكَةَ، وَالْإِنْسَ، وَالْجِنَّ، وَالطَّيْرَ، وَالْحَيَوَانَ، وَالنَّبَاتَ، وَالشَّجَرَ، وَالْمَدَرَ، وَكُلَّ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ إِثْبَاتُ التَّسْبِيحِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ كُلٌّ عَلَى حِدَةٍ.
أَوَّلًا: تَسْبِيحُ اللَّهِ تَعَالَى نَفْسَهُ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [١٧ ١]، (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [٣٠ ١٧ - ١٨]، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [٢١ ٢٢].
ثَانِيًا: تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [٢]، وَقَوْلُهُ: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [٣٩ ٧٥]، وَ (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [٢١ ٢٠].
ثَالِثًا: تَسْبِيحُ الرَّعْدِ: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) [١٣ ١٣].
رَابِعًا: تَسْبِيحُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَالْأَرْضِ: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ) [١٧ ٤٤].
خَامِسًا: تَسْبِيحُ الْجِبَالِ: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) [٣٨ ١٨].
سَادِسًا: تَسْبِيحُ الطَّيْرِ: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [٢١ ٧٩].
أَسِرْبَ الْقَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ | لَعَلِّي إِلَى مَنْ قَدْ هَوِيتُ أَطِيرُ |
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ إِثْبَاتُ التَّسْبِيحِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ كُلٌّ عَلَى حِدَةٍ.
أَوَّلًا: تَسْبِيحُ اللَّهِ تَعَالَى نَفْسَهُ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [١٧ ١]، (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [٣٠ ١٧ - ١٨]، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [٢١ ٢٢].
ثَانِيًا: تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [٢]، وَقَوْلُهُ: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [٣٩ ٧٥]، وَ (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [٢١ ٢٠].
ثَالِثًا: تَسْبِيحُ الرَّعْدِ: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) [١٣ ١٣].
رَابِعًا: تَسْبِيحُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَالْأَرْضِ: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ) [١٧ ٤٤].
خَامِسًا: تَسْبِيحُ الْجِبَالِ: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) [٣٨ ١٨].
سَادِسًا: تَسْبِيحُ الطَّيْرِ: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [٢١ ٧٩].
5
سَابِعًا: تَسْبِيحُ الْإِنْسَانِ: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [١٥ ٩٨]، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [٥٦ ٧٤]، (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [١٩ ١١].
فَهَذَا إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ صَرَاحَةً لِكُلِّ هَذِهِ الْعَوَالِمِ مُفَصَّلَةً وَمُبَيَّنَةً، وَاضِحَةً.
وَجَاءَ مِثْلُ التَّسْبِيحِ، وَنَظِيرُهُ وَهُوَ السُّجُودُ مُسْنَدًا لِعَوَالِمَ أُخْرَى وَهِيَ بَقِيَّةُ مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ أَجْنَاسٍ وَأَصْنَافٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) [٢٢ ١٨].
وَيُلَاحَظُ هُنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَسْنَدَ السُّجُودَ أَوَّلًا لِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَ " مَنْ " هِيَ لِلْعُقَلَاءِ أَيْ: الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِنْسُ، وَالْجِنُّ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْعُقَلَاءِ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِأَسْمَائِهِنَّ مِنَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، وَالْجِبَالِ، وَالشَّجَرِ، وَالدَّوَابِّ فَهَذَا شُمُولٌ لَمْ يَبْقَ كَائِنٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَلَا ذَرَّةٌ فِي فَلَاةٍ إِلَّا شَمَلَهُ.
وَبَعْدَ بَيَانِ هَذَا الشُّمُولِ وَالْعُمُومِ يَأْتِي مَبْحَثُ الْعَامِّ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، وَهَلْ عُمُومُ " مَا " هُنَا بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ أَمْ دَخَلَهُ تَخْصِيصٌ؟
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّ لَفْظَ التَّسْبِيحِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي التَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ لَمْ يَدْخُلْهُ خُصُوصٌ، وَلَكِنَّ التَّسْبِيحَ يَخْتَلِفُ، وَلِكُلِّ تَسْبِيحٍ بِحَسْبِهِ فَمِنَ الْعُقَلَاءِ بِالذِّكْرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ كَالْإِنْسَانِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَمِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ سَوَاءٌ الْحَيَوَانُ وَالطَّيْرُ، وَالنَّبَاتُ، وَالْجَمَادُ، فَيَكُونُ بِالدَّلَالَةِ بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ قَادِرٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ.
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: الشَّجَرَةُ تُسَبِّحُ وَالْأُسْطُوانُ لَا يُسَبِّحُ. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ لِلْحَسَنِ وَهُمَا فِي طَعَامٍ وَقَدْ قُدِّمَ الْخِوَانُ: أَيُسَبِّحُ هَذَا الْخِوَانُ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ يُسَبِّحُ مَرَّةً يُرِيدُ أَنَّ التَّسْبِيحَ مِنَ الْحَيِّ، أَوِ النَّامِي سَوَاءٌ الْحَيَوَانُ، أَوِ النَّبَاتُ وَمَا عَدَاهُ
فَهَذَا إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ صَرَاحَةً لِكُلِّ هَذِهِ الْعَوَالِمِ مُفَصَّلَةً وَمُبَيَّنَةً، وَاضِحَةً.
وَجَاءَ مِثْلُ التَّسْبِيحِ، وَنَظِيرُهُ وَهُوَ السُّجُودُ مُسْنَدًا لِعَوَالِمَ أُخْرَى وَهِيَ بَقِيَّةُ مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ أَجْنَاسٍ وَأَصْنَافٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) [٢٢ ١٨].
وَيُلَاحَظُ هُنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَسْنَدَ السُّجُودَ أَوَّلًا لِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَ " مَنْ " هِيَ لِلْعُقَلَاءِ أَيْ: الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِنْسُ، وَالْجِنُّ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْعُقَلَاءِ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِأَسْمَائِهِنَّ مِنَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، وَالْجِبَالِ، وَالشَّجَرِ، وَالدَّوَابِّ فَهَذَا شُمُولٌ لَمْ يَبْقَ كَائِنٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَلَا ذَرَّةٌ فِي فَلَاةٍ إِلَّا شَمَلَهُ.
وَبَعْدَ بَيَانِ هَذَا الشُّمُولِ وَالْعُمُومِ يَأْتِي مَبْحَثُ الْعَامِّ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، وَهَلْ عُمُومُ " مَا " هُنَا بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ أَمْ دَخَلَهُ تَخْصِيصٌ؟
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّ لَفْظَ التَّسْبِيحِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي التَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ لَمْ يَدْخُلْهُ خُصُوصٌ، وَلَكِنَّ التَّسْبِيحَ يَخْتَلِفُ، وَلِكُلِّ تَسْبِيحٍ بِحَسْبِهِ فَمِنَ الْعُقَلَاءِ بِالذِّكْرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ كَالْإِنْسَانِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَمِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ سَوَاءٌ الْحَيَوَانُ وَالطَّيْرُ، وَالنَّبَاتُ، وَالْجَمَادُ، فَيَكُونُ بِالدَّلَالَةِ بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ قَادِرٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ.
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: الشَّجَرَةُ تُسَبِّحُ وَالْأُسْطُوانُ لَا يُسَبِّحُ. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ لِلْحَسَنِ وَهُمَا فِي طَعَامٍ وَقَدْ قُدِّمَ الْخِوَانُ: أَيُسَبِّحُ هَذَا الْخِوَانُ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ يُسَبِّحُ مَرَّةً يُرِيدُ أَنَّ التَّسْبِيحَ مِنَ الْحَيِّ، أَوِ النَّامِي سَوَاءٌ الْحَيَوَانُ، أَوِ النَّبَاتُ وَمَا عَدَاهُ
6
فَلَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَسْتَدِلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ السُّنَةِ بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ وَضْعِ الْجَرِيدِ الْأَخْضَرِ عَلَى الْقَبْرِ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: " لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا ". أَيْ: بِسَبَبِ تَسْبِيحِهِمَا، فَإِذَا يَبِسَا انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُمَا. اهـ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِعِدَّةِ أُمُورٍ:
أَوَّلًا: لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [١٧ ٤٤].
ثَانِيًا: أَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِتَسْبِيحِ الدَّلَالَةِ، هُوَ تَحْكِيمُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، حِينَمَا لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ وَلَمْ تَتَصَوَّرْهُ الْعُقُولُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى تَحْكِيمَ الْعَقْلِ الْحِسِّيِّ هُنَا، وَخَطَرَ عَلَى الْعَقْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
ثَالِثًا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [٢١ ٧٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) [٣٨ ١٨]، فَلَوْ كَانَ تَسْبِيحُهَا مَعَهُ تَسْبِيحَ دَلَالَةٍ كَمَا يَقُولُونَ لَمَا كَانَ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خُصُوصِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ.
رَابِعًا: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لِهَذِهِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا إِدْرَاكًا تَامًّا كَإِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [٣٣ ٧٢]، فَأَثْبَتَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْعَوَالِمِ إِدْرَاكًا وَإِشْفَاقًا مِنْ تَحَمُّلِ الْأَمَانَةِ، بَيْنَمَا سَجَّلَ عَلَى الْإِنْسَانِ ظُلْمًا وَجَهَالَةً فِي تَحَمُّلِهِ إِيَّاهَا، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَرْضُ مُجَرَّدَ تَسْخِيرٍ، وَلَا هَذَا الْإِبَاءُ مُجَرَّدَ سَلْبِيَّةٍ، بَلْ عَنْ إِدْرَاكٍ تَامٍّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [٤١ ١١]، فَهُمَا طَائِفَتَانِ لِلَّهِ، وَهُمَا يَأْبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَ الْأَمَانَةَ إِشْفَاقًا مِنْهَا.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [٥٩ ٢١]، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [٢ ٧٤]،
وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِعِدَّةِ أُمُورٍ:
أَوَّلًا: لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [١٧ ٤٤].
ثَانِيًا: أَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِتَسْبِيحِ الدَّلَالَةِ، هُوَ تَحْكِيمُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، حِينَمَا لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ وَلَمْ تَتَصَوَّرْهُ الْعُقُولُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى تَحْكِيمَ الْعَقْلِ الْحِسِّيِّ هُنَا، وَخَطَرَ عَلَى الْعَقْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
ثَالِثًا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [٢١ ٧٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) [٣٨ ١٨]، فَلَوْ كَانَ تَسْبِيحُهَا مَعَهُ تَسْبِيحَ دَلَالَةٍ كَمَا يَقُولُونَ لَمَا كَانَ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خُصُوصِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ.
رَابِعًا: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لِهَذِهِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا إِدْرَاكًا تَامًّا كَإِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [٣٣ ٧٢]، فَأَثْبَتَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْعَوَالِمِ إِدْرَاكًا وَإِشْفَاقًا مِنْ تَحَمُّلِ الْأَمَانَةِ، بَيْنَمَا سَجَّلَ عَلَى الْإِنْسَانِ ظُلْمًا وَجَهَالَةً فِي تَحَمُّلِهِ إِيَّاهَا، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَرْضُ مُجَرَّدَ تَسْخِيرٍ، وَلَا هَذَا الْإِبَاءُ مُجَرَّدَ سَلْبِيَّةٍ، بَلْ عَنْ إِدْرَاكٍ تَامٍّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [٤١ ١١]، فَهُمَا طَائِفَتَانِ لِلَّهِ، وَهُمَا يَأْبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَ الْأَمَانَةَ إِشْفَاقًا مِنْهَا.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [٥٩ ٢١]، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [٢ ٧٤]،
7
وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْإِدْرَاكِ أَشَدُّ مِنْ إِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: " لَا يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ مِنْ حَجَرٍ، وَلَا مَدَرٍ، وَلَا شَجَرٍ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فَبِمَ سَيَشْهَدُ إِنْ لَمْ يَكُ مُدْرِكًا الْأَذَانَ وَالْمُؤَذِّنَ.
وَعَنْ إِدْرَاكِ الطَّيْرِ قَالَ تَعَالَى عَنِ الْهُدْهُدِ يُخَاطِبُ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) [٢٧ ٢٢ - ٢٤].
فَفِي هَذَا السِّيَاقِ عَشْرُ قَضَايَا يُدْرِكُهَا الْهُدْهُدُ وَيُفْصِحُ عَنْهَا لِنَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ.
الْأُولَى: إِدْرَاكُهُ أَنَّهُ أَحَاطَ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ سُلَيْمَانَ.
الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَتُهُ لِسَبَأٍ بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَمَجِيئُهُ مِنْهَا بِنَبَأٍ يَقِينٍ لَا شَكَّ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَتُهُ لِتَوْلِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ إِنْكَارِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعَةُ: إِدْارَكُهُ مَا أُوتِيَتْهُ سَبَأٌ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ لَهَا عَرْشًا عَظِيمًا.
السَّادِسَةُ: إِدْرَاكُهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
السَّابِعَةُ: إِدْرَاكُهُ أَنَّ هَذَا شِرْكٌ بِاللَّهِ تَعَالَى.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ هَذَا مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ هَذَا ضَلَالٌ عَنِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ.
الْعَاشِرَةُ: أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ.
وَقَدِ اقْتَنَعَ سُلَيْمَانُ بِإِدْرَاكِ الْهُدْهُدِ لِهَذَا كُلِّهِ فَقَالَ لَهُ: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [٢٧ ٢٧]، وَسَلَّمَهُ رِسَالَةً، وَبَعَثَهُ سَفِيرًا إِلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ [٢٧ ٢٨]، وَكَانَتْ سِفَارَةً مُوَفَّقَةً جَاءَتْ
وَفِي الْحَدِيثِ: " لَا يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ مِنْ حَجَرٍ، وَلَا مَدَرٍ، وَلَا شَجَرٍ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فَبِمَ سَيَشْهَدُ إِنْ لَمْ يَكُ مُدْرِكًا الْأَذَانَ وَالْمُؤَذِّنَ.
وَعَنْ إِدْرَاكِ الطَّيْرِ قَالَ تَعَالَى عَنِ الْهُدْهُدِ يُخَاطِبُ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) [٢٧ ٢٢ - ٢٤].
فَفِي هَذَا السِّيَاقِ عَشْرُ قَضَايَا يُدْرِكُهَا الْهُدْهُدُ وَيُفْصِحُ عَنْهَا لِنَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ.
الْأُولَى: إِدْرَاكُهُ أَنَّهُ أَحَاطَ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ سُلَيْمَانَ.
الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَتُهُ لِسَبَأٍ بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَمَجِيئُهُ مِنْهَا بِنَبَأٍ يَقِينٍ لَا شَكَّ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَتُهُ لِتَوْلِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ إِنْكَارِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعَةُ: إِدْارَكُهُ مَا أُوتِيَتْهُ سَبَأٌ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ لَهَا عَرْشًا عَظِيمًا.
السَّادِسَةُ: إِدْرَاكُهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
السَّابِعَةُ: إِدْرَاكُهُ أَنَّ هَذَا شِرْكٌ بِاللَّهِ تَعَالَى.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ هَذَا مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ هَذَا ضَلَالٌ عَنِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ.
الْعَاشِرَةُ: أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ.
وَقَدِ اقْتَنَعَ سُلَيْمَانُ بِإِدْرَاكِ الْهُدْهُدِ لِهَذَا كُلِّهِ فَقَالَ لَهُ: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [٢٧ ٢٧]، وَسَلَّمَهُ رِسَالَةً، وَبَعَثَهُ سَفِيرًا إِلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ [٢٧ ٢٨]، وَكَانَتْ سِفَارَةً مُوَفَّقَةً جَاءَتْ
8
بِهِمْ مُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهَا: وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٢٧ ٤٤].
وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ النَّمْلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهَا: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [٢٧ ١٨] فَقَدْ أَدْرَكَتْ مَجِيءَ الْجَيْشِ، وَأَنَّهُ لِسُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ وَأَدْرَكَتْ كَثْرَتَهُمْ، وَأَنَّ عَلَيْهَا وَعَلَى النَّمْلِ أَنْ يَتَجَنَّبُوا الطَّرِيقَ، وَيَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ، وَهَذَا الْإِدْرَاكُ مِنْهَا جَعَلَ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَتَبَسَّمُ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا. وَأَنَّ لَهَا قَوْلًا عَلِمَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ إِثْبَاتُ إِدْرَاكِ الْحَيَوَانَاتِ لِلْمُغَيَّبَاتِ فَضْلًا عَنِ الْمُشَاهَدَاتِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ: " وَإِنَّ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ " إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَهِيَ تُصِيخُ بِأُذُنِهَا مِنْ فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَتَّى طُلُوعِ الشَّمْسِ إِشْفَاقًا مِنَ السَّاعَةِ إِلَّا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ "، فَهَذَا إِدْرَاكٌ وَإِشْفَاقٌ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِيمَانٌ بِالْمَغِيبِ، وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ وَإِشْفَاقٌ مِنَ السَّاعَةِ أَشَدُّ مِنَ الْإِنْسَانِ.
وَقِصَّةُ الْجَمَلِ الَّذِي نَدَّ عَلَى أَهْلِهِ وَخَضَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ: لَكَأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ إِنَّهُ مَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ".
فَهَذَا كُلُّهُ يُثْبِتُ إِدْرَاكًا لِلْحَيَوَانِ بِالْمَحْسُوسِ، وَبِالْمَغِيبِ إِدْرَاكًا لَا يَقِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ إِثْبَاتِ تَسْبِيحِهَا حَقِيقَةً عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا؟ وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ صَرِيحًا فِي التَّسْبِيحِ الْمُثْبَتِ لَهَا فِي أَنَّهُ تَسْبِيحُ تَحْمِيدٍ لَا مُطْلَقُ دَلَالَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [١٣ ١٣]، وَقَرَنَهُ مَعَ تَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ: وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [١٣ ١٣]، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِثْبَاتٌ لِنَوْعِ التَّسْبِيحِ الْمَطْلُوبِ.
خَامِسًا: لَقَدْ شَهِدَ الْمُسْلِمُونَ مَنْطِقَ الْجَمَادِ بِالتَّسْبِيحِ، وَسَمِعُوهُ بِالتَّحْمِيدِ حِسًّا كَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَحَنِينِ الْجِذْعِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى سَمِعَهُ كُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ حَجَرًا فِي مَكَّةَ مَا مَرَرْتُ عَلَيْهِ إِلَّا وَسَلَّمَ عَلَيَّ "، وَمَا ثَبَتَ بِفَرْدٍ يَثْبُتُ لِبَقِيَّةِ أَفْرَادِ جِنْسِهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي قَاعِدَةِ الْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ، وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي أَعْظَمِ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ: " اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّ عَلَيْكَ نَبِيًّا، وَصِدِّيقًا، وَشَهِيدَيْنِ ".
وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ النَّمْلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهَا: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [٢٧ ١٨] فَقَدْ أَدْرَكَتْ مَجِيءَ الْجَيْشِ، وَأَنَّهُ لِسُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ وَأَدْرَكَتْ كَثْرَتَهُمْ، وَأَنَّ عَلَيْهَا وَعَلَى النَّمْلِ أَنْ يَتَجَنَّبُوا الطَّرِيقَ، وَيَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ، وَهَذَا الْإِدْرَاكُ مِنْهَا جَعَلَ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَتَبَسَّمُ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا. وَأَنَّ لَهَا قَوْلًا عَلِمَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ إِثْبَاتُ إِدْرَاكِ الْحَيَوَانَاتِ لِلْمُغَيَّبَاتِ فَضْلًا عَنِ الْمُشَاهَدَاتِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ: " وَإِنَّ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ " إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَهِيَ تُصِيخُ بِأُذُنِهَا مِنْ فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَتَّى طُلُوعِ الشَّمْسِ إِشْفَاقًا مِنَ السَّاعَةِ إِلَّا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ "، فَهَذَا إِدْرَاكٌ وَإِشْفَاقٌ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِيمَانٌ بِالْمَغِيبِ، وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ وَإِشْفَاقٌ مِنَ السَّاعَةِ أَشَدُّ مِنَ الْإِنْسَانِ.
وَقِصَّةُ الْجَمَلِ الَّذِي نَدَّ عَلَى أَهْلِهِ وَخَضَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ: لَكَأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ إِنَّهُ مَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ".
فَهَذَا كُلُّهُ يُثْبِتُ إِدْرَاكًا لِلْحَيَوَانِ بِالْمَحْسُوسِ، وَبِالْمَغِيبِ إِدْرَاكًا لَا يَقِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ إِثْبَاتِ تَسْبِيحِهَا حَقِيقَةً عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا؟ وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ صَرِيحًا فِي التَّسْبِيحِ الْمُثْبَتِ لَهَا فِي أَنَّهُ تَسْبِيحُ تَحْمِيدٍ لَا مُطْلَقُ دَلَالَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [١٣ ١٣]، وَقَرَنَهُ مَعَ تَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ: وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [١٣ ١٣]، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِثْبَاتٌ لِنَوْعِ التَّسْبِيحِ الْمَطْلُوبِ.
خَامِسًا: لَقَدْ شَهِدَ الْمُسْلِمُونَ مَنْطِقَ الْجَمَادِ بِالتَّسْبِيحِ، وَسَمِعُوهُ بِالتَّحْمِيدِ حِسًّا كَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَحَنِينِ الْجِذْعِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى سَمِعَهُ كُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ حَجَرًا فِي مَكَّةَ مَا مَرَرْتُ عَلَيْهِ إِلَّا وَسَلَّمَ عَلَيَّ "، وَمَا ثَبَتَ بِفَرْدٍ يَثْبُتُ لِبَقِيَّةِ أَفْرَادِ جِنْسِهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي قَاعِدَةِ الْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ، وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي أَعْظَمِ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ: " اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّ عَلَيْكَ نَبِيًّا، وَصِدِّيقًا، وَشَهِيدَيْنِ ".
9
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: لَمَّا رَجَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرٍ طَلَعَ عَلَيْهِمْ أُحُدٌ فَقَالَ: " هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا، وَنُحِبُّهُ ".
فَهَذَا جَبَلٌ مِنْ كِبَارِ جِبَالِ الْمَدِينَةِ يَرْتَجِفُ لِصُعُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَيُخَاطِبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِطَابَ الْعَاقِلِ الْمُدْرِكِ: " اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّ عَلَيْكَ نَبِيًّا، وَصِدِّيقًا، وَشَهِيدَيْنِ "، فَيَعْرِفُ النَّبِيَّ، وَيَعْرِفُ الصِّدِّيقَ، وَالشَّهِيدَ فَيَثْبُتُ، فَبِأَيِّ قَانُونٍ كَانَ ارْتِجَافُهُ؟ وَبِأَيِّ مَعْقُولٍ كَانَ خِطَابُهُ؟ وَبِأَيِّ مَعْنًى كَانَ ثُبُوتُهُ؟ ثُمَّ هَاهُوَ يُثْبِتُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَحَبَّةَ الْمُتَبَادَلَةَ بِقَوْلِهِ: " يُحِبُّنَا، وَنُحِبُّهُ ".
وَإِذَا نَاقَشْنَا أَقْوَالَ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ إِثْبَاتِ التَّسْبِيحِ لِلْجَمَادَاتِ وَنَحْوِهَا، لَمَا وَجَدْنَا لَهُمْ وِجْهَةَ نَظَرٍ إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْأَمْثِلَةَ عَلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأَجْنَاسِ، وَتَقَدَّمَ تَنْبِيهُ الشَّيْخِ عَلَى تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنَّا فَاعِلِينَ [٢١ ٢٩] رَدًّا عَلَى اسْتِبْعَادِهِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا جَاءَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [١٧ ٤٤]، جَاءَ بَعْدَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [١٧ ٤٥] وَهَذَا نَصٌّ يُكَذِّبُ الْمُسْتَدِلِّينَ بِالْحِسِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا يَحْجُبُهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْحِجَابُ مَسْتُورٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ فَلَا يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْهُمْ، وَلَا يَرَوْنَ الْحِجَابَ؛ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ قَالَ فِيهَا بَعْضُ الْبَلَاغِيِّينَ: إِنَّ مَسْتُورًا هُنَا بِمَعْنَى سَاتِرًا وَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ جَعْلَ مَسْتُورًا بِمَعْنَى سَاتِرًا تَكْرَارٌ لِمَعْنَى حِجَابٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا [١٧ ٤٥] هُوَ بِمَعْنَى سَاتِرًا، أَيْ: يَسْتُرُهُ عَنِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ مَعْنًى، وَلَا كَبِيرُ مُعْجِزَةٍ، وَلَكِنَّ الْإِعْجَازَ فِي كَوْنِ الْحِجَابِ مَسْتُورًا عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَفِي هَذَا تَحْقِيقُ وُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُمَا حَجْبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ، وَسَتْرُ الْحِجَابِ عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي حِفْظِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحِجَابُ مَرْئِيًّا أَيْ: سَاتِرًا فَقَطْ مَعَ كَوْنِهِ مَرْئِيًّا لَرُبَّمَا اقْتَحَمُوهُ عَلَيْهِ، وَأَقْوَى فِي الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحِجَابُ مَرْئِيًّا لَكَانَ كَاحْتِجَابِ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. وَلَكِنْ حَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ فِيهِ هُوَ كَوْنُهُ مَسْتُورًا عَنْ
فَهَذَا جَبَلٌ مِنْ كِبَارِ جِبَالِ الْمَدِينَةِ يَرْتَجِفُ لِصُعُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَيُخَاطِبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِطَابَ الْعَاقِلِ الْمُدْرِكِ: " اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّ عَلَيْكَ نَبِيًّا، وَصِدِّيقًا، وَشَهِيدَيْنِ "، فَيَعْرِفُ النَّبِيَّ، وَيَعْرِفُ الصِّدِّيقَ، وَالشَّهِيدَ فَيَثْبُتُ، فَبِأَيِّ قَانُونٍ كَانَ ارْتِجَافُهُ؟ وَبِأَيِّ مَعْقُولٍ كَانَ خِطَابُهُ؟ وَبِأَيِّ مَعْنًى كَانَ ثُبُوتُهُ؟ ثُمَّ هَاهُوَ يُثْبِتُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَحَبَّةَ الْمُتَبَادَلَةَ بِقَوْلِهِ: " يُحِبُّنَا، وَنُحِبُّهُ ".
وَإِذَا نَاقَشْنَا أَقْوَالَ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ إِثْبَاتِ التَّسْبِيحِ لِلْجَمَادَاتِ وَنَحْوِهَا، لَمَا وَجَدْنَا لَهُمْ وِجْهَةَ نَظَرٍ إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْأَمْثِلَةَ عَلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأَجْنَاسِ، وَتَقَدَّمَ تَنْبِيهُ الشَّيْخِ عَلَى تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنَّا فَاعِلِينَ [٢١ ٢٩] رَدًّا عَلَى اسْتِبْعَادِهِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا جَاءَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [١٧ ٤٤]، جَاءَ بَعْدَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [١٧ ٤٥] وَهَذَا نَصٌّ يُكَذِّبُ الْمُسْتَدِلِّينَ بِالْحِسِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا يَحْجُبُهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْحِجَابُ مَسْتُورٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ فَلَا يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْهُمْ، وَلَا يَرَوْنَ الْحِجَابَ؛ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ قَالَ فِيهَا بَعْضُ الْبَلَاغِيِّينَ: إِنَّ مَسْتُورًا هُنَا بِمَعْنَى سَاتِرًا وَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ جَعْلَ مَسْتُورًا بِمَعْنَى سَاتِرًا تَكْرَارٌ لِمَعْنَى حِجَابٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا [١٧ ٤٥] هُوَ بِمَعْنَى سَاتِرًا، أَيْ: يَسْتُرُهُ عَنِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ مَعْنًى، وَلَا كَبِيرُ مُعْجِزَةٍ، وَلَكِنَّ الْإِعْجَازَ فِي كَوْنِ الْحِجَابِ مَسْتُورًا عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَفِي هَذَا تَحْقِيقُ وُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُمَا حَجْبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ، وَسَتْرُ الْحِجَابِ عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي حِفْظِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحِجَابُ مَرْئِيًّا أَيْ: سَاتِرًا فَقَطْ مَعَ كَوْنِهِ مَرْئِيًّا لَرُبَّمَا اقْتَحَمُوهُ عَلَيْهِ، وَأَقْوَى فِي الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحِجَابُ مَرْئِيًّا لَكَانَ كَاحْتِجَابِ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. وَلَكِنْ حَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ فِيهِ هُوَ كَوْنُهُ مَسْتُورًا عَنْ
10
أَعْيُنِهِمْ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَدْ جَاءَتْ قِصَّةُ امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ مُفَصِّلَةً هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَمَا سَاقَهَا ابْنُ كَثِيرٍ قَالَ: لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُورَةَ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى قَوْلِهِ: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [١١١ ١ - ٥]، جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُؤْذِيَكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاصِمُنِي مِنْهَا "، وَتَلَا قُرَآنًا، فَجَاءَتْ، وَوَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَتْ: إِنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي. قَالَ: لَا وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ إِنَّهُ لَيْسَ بِشَاعِرٍ، وَلَا هَاجٍ، فَقَالَتْ: إِنَّكَ مُصَدَّقٌ وَانْصَرَفَتْ. أَيْ: وَلَمْ تَرَهُ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَهَلْ يُقَالُ بِعَدَمِ وُجُودِ الْحِجَابِ؛ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ لَمْ يُشَاهَدْ، أَمْ أَنَّنَا نُثْبِتُهُ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ وَعَلَيْهِ وَبَعْدَ إِثْبَاتِهِ نَقُولُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: حِجَابًا مَسْتُورًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [١٧ ٤٤] ؟ فَفِي كِلَا الْمَقَامَيْنِ إِثْبَاتُ أَمْرٍ لَا نُدْرِكُهُ بِالْحِسِّ، فَالتَّسْبِيحُ لَا نَفْقَهُهُ، وَالْحِجَابُ لَا نُبْصِرُهُ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذِهِ النَّمَاذِجَ، وَلَوْ مَعَ بَعْضِ التَّكْرَارِ، لِمَا يُوجَدُ مِنْ تَأَثُّرِ الْبَعْضِ بِدَعْوَى الْمَادِّيِّينَ أَوِ الْعِلْمَانِيِّينَ، الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ إِلَّا الْمَحْسُوسَ، لِتُعْطِيَ الْقَارِئَ زِيَادَةَ إِيضَاحٍ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ يَقِفُ عَلَى عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، وَيَتَّسِعُ أُفُقُهُ إِلَى مَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ وَرَاءَ حُدُودِ الْمَادَّةِ عَوَالِمَ يَقْصُرُ الْعَقْلُ عَنْ مَعَالِمِهَا، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يُثْبِتُهَا.
وَقَدْ رَسَمَ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ إِثْبَاتٍ وَإِيمَانٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، وَإِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ؟ ! فَقَالَ: " إِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ، وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ، إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا: اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي، فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي " فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، قَالَ: " فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمَا هُمَا ثَمَّ ".
فَفِي هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ نُطْقُ الْبَقَرَةِ وَنُطْقُ الذِّئْبِ بِكَلَامٍ مَعْقُولٍ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ، مِمَّا اسْتَعْجَبَ لَهُ النَّاسُ وَسَبَّحُوا اللَّهَ إِعْظَامًا لِمَا سَمِعُوا، وَلَكِنَّ
وَقَدْ جَاءَتْ قِصَّةُ امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ مُفَصِّلَةً هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَمَا سَاقَهَا ابْنُ كَثِيرٍ قَالَ: لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُورَةَ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى قَوْلِهِ: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [١١١ ١ - ٥]، جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُؤْذِيَكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاصِمُنِي مِنْهَا "، وَتَلَا قُرَآنًا، فَجَاءَتْ، وَوَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَتْ: إِنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي. قَالَ: لَا وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ إِنَّهُ لَيْسَ بِشَاعِرٍ، وَلَا هَاجٍ، فَقَالَتْ: إِنَّكَ مُصَدَّقٌ وَانْصَرَفَتْ. أَيْ: وَلَمْ تَرَهُ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَهَلْ يُقَالُ بِعَدَمِ وُجُودِ الْحِجَابِ؛ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ لَمْ يُشَاهَدْ، أَمْ أَنَّنَا نُثْبِتُهُ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ وَعَلَيْهِ وَبَعْدَ إِثْبَاتِهِ نَقُولُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: حِجَابًا مَسْتُورًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [١٧ ٤٤] ؟ فَفِي كِلَا الْمَقَامَيْنِ إِثْبَاتُ أَمْرٍ لَا نُدْرِكُهُ بِالْحِسِّ، فَالتَّسْبِيحُ لَا نَفْقَهُهُ، وَالْحِجَابُ لَا نُبْصِرُهُ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذِهِ النَّمَاذِجَ، وَلَوْ مَعَ بَعْضِ التَّكْرَارِ، لِمَا يُوجَدُ مِنْ تَأَثُّرِ الْبَعْضِ بِدَعْوَى الْمَادِّيِّينَ أَوِ الْعِلْمَانِيِّينَ، الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ إِلَّا الْمَحْسُوسَ، لِتُعْطِيَ الْقَارِئَ زِيَادَةَ إِيضَاحٍ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ يَقِفُ عَلَى عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، وَيَتَّسِعُ أُفُقُهُ إِلَى مَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ وَرَاءَ حُدُودِ الْمَادَّةِ عَوَالِمَ يَقْصُرُ الْعَقْلُ عَنْ مَعَالِمِهَا، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يُثْبِتُهَا.
وَقَدْ رَسَمَ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ إِثْبَاتٍ وَإِيمَانٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، وَإِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ؟ ! فَقَالَ: " إِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ، وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ، إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا: اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي، فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي " فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، قَالَ: " فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمَا هُمَا ثَمَّ ".
فَفِي هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ نُطْقُ الْبَقَرَةِ وَنُطْقُ الذِّئْبِ بِكَلَامٍ مَعْقُولٍ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ، مِمَّا اسْتَعْجَبَ لَهُ النَّاسُ وَسَبَّحُوا اللَّهَ إِعْظَامًا لِمَا سَمِعُوا، وَلَكِنَّ
11
الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْفَعُ هَذَا الِاسْتِعْجَابَ بِإِعْلَانِ إِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِهِ، وَيَضُمُّ مَعَهُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنْ كَانَا غَائِبَيْنِ عَنِ الْمَجْلِسِ، لِعِلْمِهِ مِنْهُمَا أَنَّهُمَا لَا يُنْكِرَانِ مَا ثَبَتَ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ لِمُجَرَّدِ اسْتِبْعَادِهِ عَقْلًا.
وَهُنَا يُقَالُ لِمُنْكِرِي التَّسْبِيحِ حَقِيقَةً وَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ؟ أَهْوَ مُتَعَلَّقُ الْقُدْرَةِ أَمِ اسْتِبْعَادُ الْعَقْلِ لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ؟
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ لِقَوْمِ صَالِحٍ نَاقَةً عَشْرَاءَ مِنْ جَوْفِ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْطَقَ الْحَصَا فِي كَفِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ حَتَّى يَنْتَظِرَ إِدْرَاكَهَ وَتَحْكِيمُ الْعَقْلِ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [١٧ ٤٤].
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِيمَانُ أَشْبَهَ مَا يَكُونُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَإِيمَانُ تَصْدِيقٍ وَإِثْبَاتٍ لَا تَكْيِيفٍ وَإِدْرَاكٍ وَخَالِقُ الْكَائِنَاتِ أَعْلَمُ بِحَالِهَا، وَبِمَا خَلَقَهَا عَلَيْهِ.
فَيَجِبُ أَنْ نُؤْمِنَ بِتَسْبِيحِ كُلِّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَبًا عَقْلًا، وَلَكِنْ أَخْبَرَ بِهِ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، وَشَاهَدْنَا الْمِثَالَ مَسْمُوعًا مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ.
أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا فِي بَنِي النَّضِيرِ، إِلَّا قَوْلًا لِلْحَسَنِ أَنَّهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَخْرُجُوا، وَلَمْ يُجْلَوْا وَلَكِنْ قُتِلُوا.
وَقَدْ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِسُورَةِ «بَنِي النَّضِيرِ»، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ «الْحَشْرِ» قَالَ: قُلْ سُورَةُ «النَّضِيرِ»، وَهُمْ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فِتَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانُوا قَدْ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي نَعْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ، لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، فَلَمَّا هُزِمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ارْتَابُوا وَنَكَثُوا، فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَحَالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ - فَأَمَرَ
وَهُنَا يُقَالُ لِمُنْكِرِي التَّسْبِيحِ حَقِيقَةً وَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ؟ أَهْوَ مُتَعَلَّقُ الْقُدْرَةِ أَمِ اسْتِبْعَادُ الْعَقْلِ لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ؟
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ لِقَوْمِ صَالِحٍ نَاقَةً عَشْرَاءَ مِنْ جَوْفِ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْطَقَ الْحَصَا فِي كَفِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ حَتَّى يَنْتَظِرَ إِدْرَاكَهَ وَتَحْكِيمُ الْعَقْلِ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [١٧ ٤٤].
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِيمَانُ أَشْبَهَ مَا يَكُونُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَإِيمَانُ تَصْدِيقٍ وَإِثْبَاتٍ لَا تَكْيِيفٍ وَإِدْرَاكٍ وَخَالِقُ الْكَائِنَاتِ أَعْلَمُ بِحَالِهَا، وَبِمَا خَلَقَهَا عَلَيْهِ.
فَيَجِبُ أَنْ نُؤْمِنَ بِتَسْبِيحِ كُلِّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَبًا عَقْلًا، وَلَكِنْ أَخْبَرَ بِهِ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، وَشَاهَدْنَا الْمِثَالَ مَسْمُوعًا مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ.
أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا فِي بَنِي النَّضِيرِ، إِلَّا قَوْلًا لِلْحَسَنِ أَنَّهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَخْرُجُوا، وَلَمْ يُجْلَوْا وَلَكِنْ قُتِلُوا.
وَقَدْ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِسُورَةِ «بَنِي النَّضِيرِ»، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ «الْحَشْرِ» قَالَ: قُلْ سُورَةُ «النَّضِيرِ»، وَهُمْ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فِتَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانُوا قَدْ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي نَعْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ، لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، فَلَمَّا هُزِمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ارْتَابُوا وَنَكَثُوا، فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَحَالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ - فَأَمَرَ
12
بِقَتْلِ كَعْبٍ، فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ غِيلَةً، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اطَّلَعَ مِنْهُمْ عَلَى خِيَانَةٍ حِينَ أَتَاهُمْ فِي دِيَةِ الْمُسْلِمَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ مُنْصَرَفَهُ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَهَمُّوا بِطَرْحِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا قُتِلَ كَعْبٌ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَسِيرَةِ إِلَيْهِمْ، وَطَالَبَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَمْهَلُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ؛ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ، وَلَكِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ سِرًّا: لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ، وَوَعَدَهُمْ بِنَصْرِهِمْ بِأَلْفَيْ مُقَاتِلٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَمُسَاعَدَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَحُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، أَوِ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ، فَدَرَّبُوا أَنْفُسَهُمْ، وَامْتَنَعُوا بِالتَّحْصِينَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ، فَحَاصَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
وَقِيلَ: أَجْمَعُوا عَلَى الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُ: اخْرُجْ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِكِ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثُونَ مِنَّا؛ لِيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوا آمَنَّا كُلُّنَا فَفَعَلَ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَفْهَمُ وَنَحْنُ سِتُّونَ؟ اخْرُجْ فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفَعَلُوا فَاشْتَمَلُوا عَلَى الْخَنَاجِرِ، وَأَرَادُوا الْفَتْكَ فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ نَاصِحَةٌ إِلَى أَخِيهَا، وَكَانَ مُسْلِمًا فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَرَادُوا، فَأَسْرَعَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَارَّهُ بِخَبَرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ غَدَا عَلَيْهِمْ بِالْكَتَائِبِ فَحَاصَرَهُمْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَآيَسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ ابْنُ أُبَيٍّ، فَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الْجَلَاءَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ أَهْلِ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنَ الْمَتَاعِ إِلَّا الْحَلْقَةَ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَ كُلَّ مَا اسْتَطَاعُوا وَلَوْ أَبْوَابَ الْمَنَازِلِ، يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ وَيَحْمِلُونَ مَا اسْتَطَاعُوا مَعَهُمْ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا مُجْمَلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا تَدُورُ مَعَانِي هَذِهِ السُّورَةِ كُلُّهَا، وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَةِ أُصُولِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ السَّبَبِ تُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّفْسِيرِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مَدَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ غَدْرٍ، وَمَا سَلَكُوا مِنْ أَسَالِيبِ الْمُرَاوَغَةِ فَمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ.
وَالَّذِي مِنْ مَنْهَجِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَضْوَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ، حَيْثُ أَسْنَدَ إِخْرَاجَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ حِصَارِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا
وَلَمَّا قُتِلَ كَعْبٌ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَسِيرَةِ إِلَيْهِمْ، وَطَالَبَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَمْهَلُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ؛ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ، وَلَكِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ سِرًّا: لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ، وَوَعَدَهُمْ بِنَصْرِهِمْ بِأَلْفَيْ مُقَاتِلٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَمُسَاعَدَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَحُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، أَوِ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ، فَدَرَّبُوا أَنْفُسَهُمْ، وَامْتَنَعُوا بِالتَّحْصِينَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ، فَحَاصَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
وَقِيلَ: أَجْمَعُوا عَلَى الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُ: اخْرُجْ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِكِ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثُونَ مِنَّا؛ لِيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوا آمَنَّا كُلُّنَا فَفَعَلَ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَفْهَمُ وَنَحْنُ سِتُّونَ؟ اخْرُجْ فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفَعَلُوا فَاشْتَمَلُوا عَلَى الْخَنَاجِرِ، وَأَرَادُوا الْفَتْكَ فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ نَاصِحَةٌ إِلَى أَخِيهَا، وَكَانَ مُسْلِمًا فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَرَادُوا، فَأَسْرَعَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَارَّهُ بِخَبَرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ غَدَا عَلَيْهِمْ بِالْكَتَائِبِ فَحَاصَرَهُمْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَآيَسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ ابْنُ أُبَيٍّ، فَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الْجَلَاءَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ أَهْلِ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنَ الْمَتَاعِ إِلَّا الْحَلْقَةَ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَ كُلَّ مَا اسْتَطَاعُوا وَلَوْ أَبْوَابَ الْمَنَازِلِ، يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ وَيَحْمِلُونَ مَا اسْتَطَاعُوا مَعَهُمْ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا مُجْمَلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا تَدُورُ مَعَانِي هَذِهِ السُّورَةِ كُلُّهَا، وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَةِ أُصُولِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ السَّبَبِ تُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّفْسِيرِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مَدَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ غَدْرٍ، وَمَا سَلَكُوا مِنْ أَسَالِيبِ الْمُرَاوَغَةِ فَمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ.
وَالَّذِي مِنْ مَنْهَجِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَضْوَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ، حَيْثُ أَسْنَدَ إِخْرَاجَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ حِصَارِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا
13
[٣٣ ٢٥]، قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عِنْدَهَا: ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الْآيَةَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ السَّبَبَ الَّذِي رَدَّهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [٣٣ ٩] اهـ.
وَهُنَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْنَدَ إِخْرَاجَهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى مَعَ حِصَارِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ لِإِخْرَاجِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ إِخْرَاجِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقُوَّةِ وَرَاءَ الْحُصُونِ، لَمْ يَتَوَقَّعِ الْمُؤْمِنُونَ خُرُوجَهُمْ، وَظَنُّوا هُمْ أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَدْ كَانَ هَذَا الْإِخْرَاجُ مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِوَعْدٍ سَابِقٍ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٢ ١٣٧].
وَبِهَذَا الْإِخْرَاجِ تَحَقَّقَ كِفَايَةُ اللَّهِ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، فَقَدْ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَكَانَ إِخْرَاجُهُمْ حَقًّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِوَعْدٍ مُسْبَقٍ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي خُصُوصِهِمْ: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٥٩ ٦] وَتَسْلِيطُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ بِمَا بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» وَهُوَ مَا يَتَمَشَّى مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [٣٣ ٢٦].
وَجُمْلَةُ هَذَا السِّيَاقِ هُنَا يَتَّفِقُ مَعَ السِّيَاقِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ عَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [٣٣ ٢٦ - ٢٧]، وَعَلَيْهِ ظَهَرَتْ حَقِيقَةُ إِسْنَادِ إِخْرَاجِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ كَمَا أَنَّهُ هُوَ تَعَالَى الَّذِي رَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيَاحِ، وَالْجُنُودِ، وَهُوَ الَّذِي كَفَى الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ صَيَاصِيهِمْ، وَوَرَّثَ الْمُؤْمِنِينَ دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا.
وَرَشَّحَ لِهَذَا كُلِّهِ التَّذْيِيلُ فِي آخِرِ الْآيَةِ، يَطْلُبُ الِاعْتِبَارَ وَالِاتِّعَاظَ بِمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ:
وَهُنَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْنَدَ إِخْرَاجَهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى مَعَ حِصَارِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ لِإِخْرَاجِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ إِخْرَاجِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقُوَّةِ وَرَاءَ الْحُصُونِ، لَمْ يَتَوَقَّعِ الْمُؤْمِنُونَ خُرُوجَهُمْ، وَظَنُّوا هُمْ أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَدْ كَانَ هَذَا الْإِخْرَاجُ مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِوَعْدٍ سَابِقٍ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٢ ١٣٧].
وَبِهَذَا الْإِخْرَاجِ تَحَقَّقَ كِفَايَةُ اللَّهِ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، فَقَدْ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَكَانَ إِخْرَاجُهُمْ حَقًّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِوَعْدٍ مُسْبَقٍ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي خُصُوصِهِمْ: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٥٩ ٦] وَتَسْلِيطُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ بِمَا بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» وَهُوَ مَا يَتَمَشَّى مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [٣٣ ٢٦].
وَجُمْلَةُ هَذَا السِّيَاقِ هُنَا يَتَّفِقُ مَعَ السِّيَاقِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ عَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [٣٣ ٢٦ - ٢٧]، وَعَلَيْهِ ظَهَرَتْ حَقِيقَةُ إِسْنَادِ إِخْرَاجِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ كَمَا أَنَّهُ هُوَ تَعَالَى الَّذِي رَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيَاحِ، وَالْجُنُودِ، وَهُوَ الَّذِي كَفَى الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ صَيَاصِيهِمْ، وَوَرَّثَ الْمُؤْمِنِينَ دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا.
وَرَشَّحَ لِهَذَا كُلِّهِ التَّذْيِيلُ فِي آخِرِ الْآيَةِ، يَطْلُبُ الِاعْتِبَارَ وَالِاتِّعَاظَ بِمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ:
14
يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [٥٩ ٢]، أَيْ: بِإِخْرَاجِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ حُصُونِهِمْ، وَدِيَارِهِمْ وَمَوَاطِنِ قُوَّتِهِمْ، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا؛ لِضَعْفِ اقْتِدَارِكُمْ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ لِقُوَّتِهَا وَمَنَعَتِهَا، وَلَكِنْ أَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْبَقَاءَ، وَكَانَتْ حَقِيقَةُ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ هِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.
اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْحَشْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ.
فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَشْرِ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ الشَّامُ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَشْرِ: الْجَمْعُ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ بِآثَارٍ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ شَكَّ فِي أَنَّ أَرْضَ الْمَحْشَرِ هَاهُنَا يَعْنِي الشَّامَ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا، وَالزُّهْرِيِّ، وَسَاقَ قَوْلَهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيِ النَّضِيرِ: «اخْرُجُوا»، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ»، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ هُنَا مَكَانِيَّةً، أَيْ: لِأَوَّلِ مَكَانٍ مِنْ أَرْضِ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَأَوَائِلُهُ خَيْبَرُ وَأَذْرِعَاتٌ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْحَشْرَ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْجَمْعُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: الْحَشْرُ الْجَمْعُ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: الْحَشْرُ هُوَ حَشْدُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَتَائِبَ؛ لِقِتَالِهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ حَشْرٍ مِنْهُ لَهُمْ وَأَوَّلُ قِتَالٍ قَاتَلَهُمْ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ زَمَانِيَّةً وَتَقْتَضِي حَشْرًا بَعْدَهُ، فَقِيلَ: هُوَ حَشْرُ عُمَرَ إِيَّاهُمْ بِخَيْبَرَ، وَقِيلَ: نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَهُوَ حَدِيثٌ فِي الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الْبَعْثُ.
إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ أَعَمُّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ النَّارَ الْمَذْكُورَةَ، وَالْبَعْثَ لَيْسَتَا خَاصَّتَيْنِ بِالْيَهُودِ، وَلَا بِبَنِي النَّضِيرِ خَاصَّةً، وَمِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَحَدِ الْمَعَانِي بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَثَّلَ لَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [٥٨ ٢١]، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْغَلَبَةِ: الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَالْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ الْغَلَبَةِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى دُخُولِ تِلْكَ الْغَلَبَةِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُبَيَّنُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.
اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْحَشْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ.
فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَشْرِ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ الشَّامُ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَشْرِ: الْجَمْعُ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ بِآثَارٍ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ شَكَّ فِي أَنَّ أَرْضَ الْمَحْشَرِ هَاهُنَا يَعْنِي الشَّامَ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا، وَالزُّهْرِيِّ، وَسَاقَ قَوْلَهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيِ النَّضِيرِ: «اخْرُجُوا»، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ»، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ هُنَا مَكَانِيَّةً، أَيْ: لِأَوَّلِ مَكَانٍ مِنْ أَرْضِ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَأَوَائِلُهُ خَيْبَرُ وَأَذْرِعَاتٌ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْحَشْرَ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْجَمْعُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: الْحَشْرُ الْجَمْعُ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: الْحَشْرُ هُوَ حَشْدُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَتَائِبَ؛ لِقِتَالِهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ حَشْرٍ مِنْهُ لَهُمْ وَأَوَّلُ قِتَالٍ قَاتَلَهُمْ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ زَمَانِيَّةً وَتَقْتَضِي حَشْرًا بَعْدَهُ، فَقِيلَ: هُوَ حَشْرُ عُمَرَ إِيَّاهُمْ بِخَيْبَرَ، وَقِيلَ: نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَهُوَ حَدِيثٌ فِي الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الْبَعْثُ.
إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ أَعَمُّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ النَّارَ الْمَذْكُورَةَ، وَالْبَعْثَ لَيْسَتَا خَاصَّتَيْنِ بِالْيَهُودِ، وَلَا بِبَنِي النَّضِيرِ خَاصَّةً، وَمِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَحَدِ الْمَعَانِي بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَثَّلَ لَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [٥٨ ٢١]، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْغَلَبَةِ: الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَالْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ الْغَلَبَةِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى دُخُولِ تِلْكَ الْغَلَبَةِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُبَيَّنُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
15
وَهُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ غَلَبَةَ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ بَلْ عُمُومَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَشْرِ إِنَّمَا هُوَ لِلْجَمْعِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْحَشْرِ لِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ [٢٧ ١٧]، وَقَوْلُهُ: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [٦ ١١١]، وَقَوْلُهُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [٣٨ ١٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [٢٠ ٥٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [٧ ١١١]، وَقَوْلُهُ: فَحَشَرَ فَنَادَى [٧٩ ٢٣]، فَكُلُّهَا بِمَعْنَى الْجَمْعِ.
وَإِذَا اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ يَأْتِي مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِ الْقُرْآنِ لِهَذَا، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ [١٨ ٤٧]، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِبُرُوزِ الْأَرْضِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [١٩ ٨٥]، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِتَقْيِيدِهِ بِالْيَوْمِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [٢٠ ١٠٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [٨١ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [٤١ ١٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا يُعَيِّنُ الْمُرَادَ بِالْحَشْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
فَإِذَا أُطْلِقَ كَانَ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، أَنَّ الرَّاجِحَ فِيهِ لِأَوَّلِ الْجَمْعِ، وَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ زَمَانِيَّةً وَفِعْلًا، فَقَدْ كَانَ أَوَّلُ جَمْعٍ لِلْيَهُودِ، وَقَدْ أَعْقَبَهُ جَمْعٌ آخَرُ لِإِخْوَانِهِمْ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ، وَأَعْقَبَهُ جَمْعٌ آخَرُ فِي خَيْبَرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا رَبْطَ إِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ بِإِنْزَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ صَيَاصِيهِمْ، وَهَكَذَا رَبَطَ جَمْعَ هَؤُلَاءِ بِأُولَئِكَ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ أُجْلُوا وَأُخْرِجُوا، وَأُولَئِكَ قُتِلُوا وَاسْتُرِقُّوا.
تَنْبِيهٌ
وَكَوْنُ الْحَشْرِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ لَا يَتَنَافَى مَعَ كَوْنِ خُرُوجِهِمْ كَانَ إِلَى أَوَائِلِ الشَّامِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ هُوَ جَمْعُهُمْ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّامِ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَهُمْ كَانَ إِلَى الشَّامِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِذَا اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ يَأْتِي مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِ الْقُرْآنِ لِهَذَا، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ [١٨ ٤٧]، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِبُرُوزِ الْأَرْضِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [١٩ ٨٥]، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِتَقْيِيدِهِ بِالْيَوْمِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [٢٠ ١٠٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [٨١ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [٤١ ١٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا يُعَيِّنُ الْمُرَادَ بِالْحَشْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
فَإِذَا أُطْلِقَ كَانَ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، أَنَّ الرَّاجِحَ فِيهِ لِأَوَّلِ الْجَمْعِ، وَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ زَمَانِيَّةً وَفِعْلًا، فَقَدْ كَانَ أَوَّلُ جَمْعٍ لِلْيَهُودِ، وَقَدْ أَعْقَبَهُ جَمْعٌ آخَرُ لِإِخْوَانِهِمْ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ، وَأَعْقَبَهُ جَمْعٌ آخَرُ فِي خَيْبَرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا رَبْطَ إِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ بِإِنْزَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ صَيَاصِيهِمْ، وَهَكَذَا رَبَطَ جَمْعَ هَؤُلَاءِ بِأُولَئِكَ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ أُجْلُوا وَأُخْرِجُوا، وَأُولَئِكَ قُتِلُوا وَاسْتُرِقُّوا.
تَنْبِيهٌ
وَكَوْنُ الْحَشْرِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ لَا يَتَنَافَى مَعَ كَوْنِ خُرُوجِهِمْ كَانَ إِلَى أَوَائِلِ الشَّامِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ هُوَ جَمْعُهُمْ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّامِ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَهُمْ كَانَ إِلَى الشَّامِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
16
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [٤ ٤٧] ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّعْرِيضَ بِأَصْحَابِ السَّبْتِ أَلْصَقُ بِهِمْ.
فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْوُجُوهُ هُنَا هِيَ سُكْنَاهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَطَمْسُهَا تَغَيُّرُ مَعَالِمِهَا، وَرَدُّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ، أَيْ: إِلَى بِلَادِ الشَّامِ الَّتِي جَاءُوا مِنْهَا أَوَّلًا حِينَمَا خَرَجُوا مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا.
أَتَى: تَأْتِي لِعِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا بِمَعْنَى الْمَجِيءِ، وَمِنْهَا بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَمِنْهَا بِمَعْنَى الْمُدَاهَمَةِ.
وَقَدْ تَوَهَّمَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ، فَقَالَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ، لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِاتِّفَاقِ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ مَفْتُوحٌ، وَأَنَّ صَرْفَ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِمُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ جَائِزٌ. اهـ.
وَهَذَا مِنْهُ عَلَى مَبْدَئِهِ فِي تَأْوِيلِ آيَاتِ الصِّفَاتِ، وَيَكْفِي لِرَدِّهِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ مُسْتَوَيَاتِ الْعُقُولِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [٤٢ ١١]، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَإِنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا السِّيَاقِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [١٦ ٢٦]، أَيْ هَدَمَهُ وَاقْتَلَعَهُ مِنَ قَوَاعِدِهِ، وَنَظِيرِهِ: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [١٠ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [١٣ ٤١]، وَقَوْلِهِ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [٢١ ٤٤].
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعَدْوَى: أَنِّي قُلْتُ أُتِيتَ أَيْ دُهِيتَ، وَتَغَيَّرَ عَلَيْكَ حِسُّكُ فَتَوَهَّمْتَ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ صَحِيحًا.
وَيُقَالُ: أُتِيَ فُلَانٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ التَّاءِ إِذَا أَظَلَّ عَلَيْهِ الْعَدُّوُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مِنْ مَأْمَنِهِ
فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْوُجُوهُ هُنَا هِيَ سُكْنَاهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَطَمْسُهَا تَغَيُّرُ مَعَالِمِهَا، وَرَدُّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ، أَيْ: إِلَى بِلَادِ الشَّامِ الَّتِي جَاءُوا مِنْهَا أَوَّلًا حِينَمَا خَرَجُوا مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا.
أَتَى: تَأْتِي لِعِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا بِمَعْنَى الْمَجِيءِ، وَمِنْهَا بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَمِنْهَا بِمَعْنَى الْمُدَاهَمَةِ.
وَقَدْ تَوَهَّمَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ، فَقَالَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ، لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِاتِّفَاقِ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ مَفْتُوحٌ، وَأَنَّ صَرْفَ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِمُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ جَائِزٌ. اهـ.
وَهَذَا مِنْهُ عَلَى مَبْدَئِهِ فِي تَأْوِيلِ آيَاتِ الصِّفَاتِ، وَيَكْفِي لِرَدِّهِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ مُسْتَوَيَاتِ الْعُقُولِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [٤٢ ١١]، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَإِنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا السِّيَاقِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [١٦ ٢٦]، أَيْ هَدَمَهُ وَاقْتَلَعَهُ مِنَ قَوَاعِدِهِ، وَنَظِيرِهِ: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [١٠ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [١٣ ٤١]، وَقَوْلِهِ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [٢١ ٤٤].
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعَدْوَى: أَنِّي قُلْتُ أُتِيتَ أَيْ دُهِيتَ، وَتَغَيَّرَ عَلَيْكَ حِسُّكُ فَتَوَهَّمْتَ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ صَحِيحًا.
وَيُقَالُ: أُتِيَ فُلَانٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ التَّاءِ إِذَا أَظَلَّ عَلَيْهِ الْعَدُّوُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مِنْ مَأْمَنِهِ
17
يُؤْتَى الْحَذِرُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، أَخَذَهُمْ وَدَهَاهُمْ وَبَاغَتَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا مِنْ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحِصَارِهِمْ، وَقَذْفِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَهُنَاكَ مَوْقِفٌ آخَرُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٢ ١٠٩]. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَهُوَ فِي سِيَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ بِذَاتِهِمِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ فَيَكُونُ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ هُنَا هُوَ إِتْيَانُ أَمْرِهِ تَعَالَى الْمَوْعُودِ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَقَالَ: وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: بِأَمْرِهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ، هُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [٩ ٢٩].
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ وَاحِدَ الْأُمُورِ، فَهُوَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنَ الْقَتْلِ، وَالتَّشْرِيدِ كَقَوْلِهِ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ الْآيَةَ [٥٩ ٢ - ٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ. اهـ[مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَضْوَاءِ].
فَقَدْ نَصَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ آيَةَ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ مُرْتَبِطَةٌ بِآيَةِ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، هَذِهِ كَمَا قَدَّمْنَا: أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَقَدْ أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا كُلِّهِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ (فَآتَاهُمْ) بِالْمَدِّ بِمَعْنَى: أَعْطَاهُمْ وَأَنْزَلَ بِهِمْ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَهُنَاكَ مَوْقِفٌ آخَرُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٢ ١٠٩]. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَهُوَ فِي سِيَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ بِذَاتِهِمِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ فَيَكُونُ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ هُنَا هُوَ إِتْيَانُ أَمْرِهِ تَعَالَى الْمَوْعُودِ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَقَالَ: وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: بِأَمْرِهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ، هُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [٩ ٢٩].
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ وَاحِدَ الْأُمُورِ، فَهُوَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنَ الْقَتْلِ، وَالتَّشْرِيدِ كَقَوْلِهِ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ الْآيَةَ [٥٩ ٢ - ٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ. اهـ[مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَضْوَاءِ].
فَقَدْ نَصَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ آيَةَ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ مُرْتَبِطَةٌ بِآيَةِ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، هَذِهِ كَمَا قَدَّمْنَا: أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَقَدْ أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا كُلِّهِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ (فَآتَاهُمْ) بِالْمَدِّ بِمَعْنَى: أَعْطَاهُمْ وَأَنْزَلَ بِهِمْ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
18
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أَيْ: أَنْزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةً وَذِلَّةً وَمَهَانَةً جَاءَتْهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.
مَنْطُوقُهُ أَنَّ الرُّعْبَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ هَزِيمَةِ الْيَهُودِ، وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَكْسَ بِالْعَكْسِ أَيْ: أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ وَهِيَ ضِدُّ الرُّعْبِ، سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَهُوَ ضِدُّ الْهَزِيمَةِ.
وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ الْمَفْهُومُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [٤٨ ١٨]، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [٠٠٩ ٠٢٦] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [٩ ٢٥ - ٢٦]، فَقَدْ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ بِالْهَزِيمَةِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ النَّصْرُ لَهُمْ، وَهَزِيمَةُ أَعْدَائِهِمِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا [٩ ٢٥] أَيْ: بِالْقَتْلِ، وَالسَّبْيِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [٩ ٤٠].
وَهَذَا الْمَوْقِفُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، اثْنَانِ أَعْزَلَانِ يَتَحَدَّيَانِ قُرَيْشًا بِكَامِلِهَا، بِعَدَدِهَا وَعُدَدِهَا، فَيَخْرُجَانِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَيَدْخُلَانِ الْغَارَ فِي سُدْفَةِ اللَّيْلِ، وَيَأْتِي الطَّلَبُ عَلَى فَمِ الْغَارِ بِقُلُوبٍ حَانِقَةٍ، وَسُيُوفٍ مُصْلَتَةٍ، وَآذَانٍ مُرْهَفَةٍ حَتَّى يَقُولَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ تَحْتَ نَعْلَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَيَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي غَايَةِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمُنْتَهَى السَّكِينَةِ: «مَا بَالُكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» ؟.
وَمِنْهَا: وَفِي أَخْطَرِ الْمَوَاقِفِ فِي الْإِسْلَامِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، حِينَمَا الْتَقَى الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَجْهًا لِوَجْهٍ، جَاءَتْ قُوَى الشَّرِّ فِي خُيَلَائِهَا وَبَطَرِهَا وَأَشْرِهَا، وَأَمَامَهَا جُنْدُ اللَّهِ فِي تَوَاضُعِهِمْ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.
مَنْطُوقُهُ أَنَّ الرُّعْبَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ هَزِيمَةِ الْيَهُودِ، وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَكْسَ بِالْعَكْسِ أَيْ: أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ وَهِيَ ضِدُّ الرُّعْبِ، سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَهُوَ ضِدُّ الْهَزِيمَةِ.
وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ الْمَفْهُومُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [٤٨ ١٨]، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [٠٠٩ ٠٢٦] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [٩ ٢٥ - ٢٦]، فَقَدْ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ بِالْهَزِيمَةِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ النَّصْرُ لَهُمْ، وَهَزِيمَةُ أَعْدَائِهِمِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا [٩ ٢٥] أَيْ: بِالْقَتْلِ، وَالسَّبْيِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [٩ ٤٠].
وَهَذَا الْمَوْقِفُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، اثْنَانِ أَعْزَلَانِ يَتَحَدَّيَانِ قُرَيْشًا بِكَامِلِهَا، بِعَدَدِهَا وَعُدَدِهَا، فَيَخْرُجَانِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَيَدْخُلَانِ الْغَارَ فِي سُدْفَةِ اللَّيْلِ، وَيَأْتِي الطَّلَبُ عَلَى فَمِ الْغَارِ بِقُلُوبٍ حَانِقَةٍ، وَسُيُوفٍ مُصْلَتَةٍ، وَآذَانٍ مُرْهَفَةٍ حَتَّى يَقُولَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ تَحْتَ نَعْلَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَيَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي غَايَةِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمُنْتَهَى السَّكِينَةِ: «مَا بَالُكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» ؟.
وَمِنْهَا: وَفِي أَخْطَرِ الْمَوَاقِفِ فِي الْإِسْلَامِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، حِينَمَا الْتَقَى الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَجْهًا لِوَجْهٍ، جَاءَتْ قُوَى الشَّرِّ فِي خُيَلَائِهَا وَبَطَرِهَا وَأَشْرِهَا، وَأَمَامَهَا جُنْدُ اللَّهِ فِي تَوَاضُعِهِمْ
19
وَإِيمَانِهِمْ، وَضَرَاعَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ: فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ [٨ ٩ - ١١].
فَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ إِلَّا؛ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَمَا غَشَّاهُمُ النُّعَاسَ إِلَّا أَمَنَةً مِنْهُ، وَتَمَّ كُلُّ ذَلِكَ بِمَا رَبَطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَقَاوَمُوا بِقِلَّتِهِمْ قُوَى الشَّرِّ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَتَمَّ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَدَدٍ مِنَ اللَّهِ، كَمَا رَبَطَ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الْكَهْفِ: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [١٨ ١٤].
هَذِهِ آثَارُ الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ وَالرَّبْطِ عَلَى الْقُلُوبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَيْنِ الْمَنْطُوقَ وَالْمَفْهُومَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [٨ ١٢]، فَنَصَّ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ بِالتَّثْبِيتِ فِي قَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، وَنَصَّ عَلَى الرُّعْبِ فِي قَوْلِهِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَكَانَتِ الطُّمَأْنِينَةُ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالرُّعْبُ زَلْزَلَةً لِلْكَافِرِينَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، قَالَ: «إِنِّي مُتَقَدِّمُكُمْ؛ لِأُزَلْزِلَ بِهِمُ الْأَقْدَامَ»، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَسْبَابِ هَذِهِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [٨ ٤٥، ٤٦].
فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَرْبَعَةَ أَسْبَابٍ لِلطُّمَأْنِينَةِ:
الْأُولَى: الثَّبَاتُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [٦١ ٤].
فَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ إِلَّا؛ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَمَا غَشَّاهُمُ النُّعَاسَ إِلَّا أَمَنَةً مِنْهُ، وَتَمَّ كُلُّ ذَلِكَ بِمَا رَبَطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَقَاوَمُوا بِقِلَّتِهِمْ قُوَى الشَّرِّ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَتَمَّ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَدَدٍ مِنَ اللَّهِ، كَمَا رَبَطَ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الْكَهْفِ: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [١٨ ١٤].
هَذِهِ آثَارُ الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ وَالرَّبْطِ عَلَى الْقُلُوبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَيْنِ الْمَنْطُوقَ وَالْمَفْهُومَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [٨ ١٢]، فَنَصَّ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ بِالتَّثْبِيتِ فِي قَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، وَنَصَّ عَلَى الرُّعْبِ فِي قَوْلِهِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَكَانَتِ الطُّمَأْنِينَةُ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالرُّعْبُ زَلْزَلَةً لِلْكَافِرِينَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، قَالَ: «إِنِّي مُتَقَدِّمُكُمْ؛ لِأُزَلْزِلَ بِهِمُ الْأَقْدَامَ»، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَسْبَابِ هَذِهِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [٨ ٤٥، ٤٦].
فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَرْبَعَةَ أَسْبَابٍ لِلطُّمَأْنِينَةِ:
الْأُولَى: الثَّبَاتُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [٦١ ٤].
20
وَالثَّانِيَةُ: ذِكْرُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [١٣ ٢٨].
وَالثَّالِثَةُ: طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَدُلُّ لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [٤٧ ٢٠ - ٢١].
وَالرَّابِعَةُ: عَدَمُ التَّنَازُلِ وَالِاعْتِصَامُ وَالْأُلْفَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [٣ ١٠٣].
وَمِنْ ذِكْرِ أَسْبَابِ الْهَزِيمَةِ مِنْ رُعْبِ الْقُلُوبِ، وَأَسْبَابِ النَّصْرِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، تَعْلَمُ مَدَى تَأْثِيرِ الدَّعَايَاتِ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، وَمَا سُمِّيَ بِالْحَرْبِ الْبَارِدَةِ مِنْ كَلَامٍ وَإِرْجَافٍ مِمَّا يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْهُ أَشَدُّ الْحَذَرِ، وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [٣٣ ١٨]، وَقَدْ حَذَّرَ تَعَالَى مِنَ السَّمَاعِ لِهَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [٩ ٤٧].
وَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، وَبَلَغَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْيَهُودَ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَسْتَطْلِعُ خَبَرَهُمْ، وَأَوْصَاهُمْ إِنْ هُمْ رَأَوْا غَدْرًا أَلَّا يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ، وَأَنْ يَلْحَنُوا لَهُ لَحْنًا حِفَاظًا عَلَى طُمَأْنِينَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبْعَادًا لِلْإِرْجَافِ فِي صُفُوفِهِمْ.
كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَثَرَ الدِّعَايَةِ الْحَسَنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ [٨ ٦٠]، وَقَدْ كَانَ بِالْفِعْلِ لِخُرُوجِ جَيْشِ أُسَامَةَ بَعْدَ انْتِقَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَعِنْدَ تَرَبُّصِ الْأَعْرَابِ كَانَ لَهُ الْأَثَرُ الْكَبِيرُ فِي إِحْبَاطِ نَوَايَا الْمُتَرَبِّصِينَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: مَا أَنْفَذُوا هَذَا الْبَعْثَ إِلَّا وَعِنْدَهُمُ الْجُيُوشُ الْكَافِيَةُ، وَالْقُوَّةُ اللَّازِمَةُ.
وَمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَمَلِيٍّ، إِذْ يُقَلِّلُ كُلَّ فَرِيقٍ فِي أَعْيُنِ الْآخَرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
وَالثَّالِثَةُ: طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَدُلُّ لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [٤٧ ٢٠ - ٢١].
وَالرَّابِعَةُ: عَدَمُ التَّنَازُلِ وَالِاعْتِصَامُ وَالْأُلْفَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [٣ ١٠٣].
وَمِنْ ذِكْرِ أَسْبَابِ الْهَزِيمَةِ مِنْ رُعْبِ الْقُلُوبِ، وَأَسْبَابِ النَّصْرِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، تَعْلَمُ مَدَى تَأْثِيرِ الدَّعَايَاتِ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، وَمَا سُمِّيَ بِالْحَرْبِ الْبَارِدَةِ مِنْ كَلَامٍ وَإِرْجَافٍ مِمَّا يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْهُ أَشَدُّ الْحَذَرِ، وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [٣٣ ١٨]، وَقَدْ حَذَّرَ تَعَالَى مِنَ السَّمَاعِ لِهَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [٩ ٤٧].
وَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، وَبَلَغَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْيَهُودَ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَسْتَطْلِعُ خَبَرَهُمْ، وَأَوْصَاهُمْ إِنْ هُمْ رَأَوْا غَدْرًا أَلَّا يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ، وَأَنْ يَلْحَنُوا لَهُ لَحْنًا حِفَاظًا عَلَى طُمَأْنِينَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبْعَادًا لِلْإِرْجَافِ فِي صُفُوفِهِمْ.
كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَثَرَ الدِّعَايَةِ الْحَسَنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ [٨ ٦٠]، وَقَدْ كَانَ بِالْفِعْلِ لِخُرُوجِ جَيْشِ أُسَامَةَ بَعْدَ انْتِقَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَعِنْدَ تَرَبُّصِ الْأَعْرَابِ كَانَ لَهُ الْأَثَرُ الْكَبِيرُ فِي إِحْبَاطِ نَوَايَا الْمُتَرَبِّصِينَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: مَا أَنْفَذُوا هَذَا الْبَعْثَ إِلَّا وَعِنْدَهُمُ الْجُيُوشُ الْكَافِيَةُ، وَالْقُوَّةُ اللَّازِمَةُ.
وَمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَمَلِيٍّ، إِذْ يُقَلِّلُ كُلَّ فَرِيقٍ فِي أَعْيُنِ الْآخَرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
21
[٨ ٤٣ - ٤٤]، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَنْبَغِي الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ الْيَوْمَ عَلَى الْعَدُوِّ فِي قَضِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
الْمُشَاقَّةُ: الْعِصْيَانُ، وَمِنْهُ شَقُّ الْعَصَا، وَالْمُخَالَفَةُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْقَعَ مَا أَوْقَعَهُ بِبَنِي النَّضِيرِ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ؛ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَنَّ الْمُشَاقَّةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ عِلَّةُ الْعُقُوبَةِ الْحَاصِلَةِ بِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُشَاقَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ.
وَفِي الْآيَةِ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُشَاقَّةَ قَدْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِمْ تِلْكَ الْعُقُوبَةُ كَمَا وَقَعَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [٨ ١٢]، وَهَذَا فِي بَدْرٍ قَطْعًا، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [٨ ١٣]، وَلَمَّا قَدَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يُوقِعْ بِهِمْ مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنْ قَتْلٍ بَلْ قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» فَوُجِدَ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْمُشَاقَّةُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ، وَلَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَتَخْرِيبُ الْبُيُوتِ.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ الْمُشَاقَّةُ عِلَّةً لِهَذَا التَّخْرِيبِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشَاقَّةُ حَصَلَ التَّخْرِيبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ قُلْنَا: هَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا. اهـ.
وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي آَدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَفِي مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ النَّقْضِ، وَعَنْوَنَ لَهُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ بِقَوْلِهِ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لَيْسَ بِنَقْضٍ سَوَاءً لِوُجُودِ مَانِعٍ أَوْ تَخَلُّفِ شَرْطٍ.
وَمَثَّلَ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ مَانِعٍ بِقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ عَمْدًا، مَعَ عَدَمِ قَتْلِهِ قِصَاصًا بِهِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْقِصَاصِ مَوْجُودَةٌ، وَهِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ، وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْقِصَاصُ مُتَخَلِّفٌ.
وَمَثَّلَ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ بِسَرِقَةِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
الْمُشَاقَّةُ: الْعِصْيَانُ، وَمِنْهُ شَقُّ الْعَصَا، وَالْمُخَالَفَةُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْقَعَ مَا أَوْقَعَهُ بِبَنِي النَّضِيرِ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ؛ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَنَّ الْمُشَاقَّةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ عِلَّةُ الْعُقُوبَةِ الْحَاصِلَةِ بِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُشَاقَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ.
وَفِي الْآيَةِ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُشَاقَّةَ قَدْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِمْ تِلْكَ الْعُقُوبَةُ كَمَا وَقَعَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [٨ ١٢]، وَهَذَا فِي بَدْرٍ قَطْعًا، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [٨ ١٣]، وَلَمَّا قَدَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يُوقِعْ بِهِمْ مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنْ قَتْلٍ بَلْ قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» فَوُجِدَ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْمُشَاقَّةُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ، وَلَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَتَخْرِيبُ الْبُيُوتِ.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ الْمُشَاقَّةُ عِلَّةً لِهَذَا التَّخْرِيبِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشَاقَّةُ حَصَلَ التَّخْرِيبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ قُلْنَا: هَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا. اهـ.
وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي آَدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَفِي مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ النَّقْضِ، وَعَنْوَنَ لَهُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ بِقَوْلِهِ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لَيْسَ بِنَقْضٍ سَوَاءً لِوُجُودِ مَانِعٍ أَوْ تَخَلُّفِ شَرْطٍ.
وَمَثَّلَ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ مَانِعٍ بِقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ عَمْدًا، مَعَ عَدَمِ قَتْلِهِ قِصَاصًا بِهِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْقِصَاصِ مَوْجُودَةٌ، وَهِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ، وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْقِصَاصُ مُتَخَلِّفٌ.
وَمَثَّلَ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ بِسَرِقَةِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ.
22
ثُمَّ قَالَ: النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخَلُّفُ حُكْمِهَا عَنْهَا لَا لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَمَثَّلَ لَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [٥٩ ٣]، قَالُوا: فَهَذِهِ الْعِلَّةُ، الَّتِي هِيَ مُشَاقَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَدْ تُوجَدُ فِي قَوْمٍ يُشَاقُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنِ النَّقْضَ فِي فَنِّ الْأُصُولِ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ مُطْلَقًا، لَا نَقْضٌ لَهَا، وَعَزَاهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ لِلْأَكْثَرِينَ فِي قَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ فِي الدَّلِيلِ فِي الْأُصُولِ:
إِلَى قَوْلِهِ:
وَقَدْ أَطْلَعَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ عَلَى شَرْحٍ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَرَاقِي السُّعُودِ فِي أَوَائِلِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ:
ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ وَلَا يُرَاعِ
وَتَكَلَّمَ عَلَى حُكْمِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، ثُمَّ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.
وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَخْطُوطِ مَا نَصُّهُ: وَرَجَّحَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ كَتَخْصِيصِ النَّصِّ مُطْلَقًا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ الْآيَةَ [٥٩ ٣]، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لَهُمْ مِثْلَ مَا فَعَلَ لَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
إِلَّا أَنِّي طَلَبْتُ هَذَا التَّرْجِيحَ فِي ابْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ الْآيَةِ، فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَلَعَلَّهُ فِي غَيْرِ التَّفْسِيرِ.
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنِ الْبَعْضِ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ: قَدْ يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنِ الْعِلَّةِ، لَا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَخَلُّفِ جُزْءٍ مِنْهَا، وَأَنَّ الْعِلَّةَ
مِنْهَا وُجُودُ الْوَصْفِ دُونَ الْحُكْمِ | سَمَّاهُ بِالنَّقْضِ وُعَاةُ الْعِلْمِ |
وَالْأَكْثَرُونَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْدَحُ | بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَذَا مُصَحِّحٌ |
وَلَسْتُ فِيمَا اسْتَنْبَطْتُ بِضَائِرٍ | إِنْ جَاءَ لِفَقْدِ شَرْطٍ أَوْ لِمَانِعٍ |
ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ وَلَا يُرَاعِ
وَتَكَلَّمَ عَلَى حُكْمِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، ثُمَّ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.
وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَخْطُوطِ مَا نَصُّهُ: وَرَجَّحَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ كَتَخْصِيصِ النَّصِّ مُطْلَقًا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ الْآيَةَ [٥٩ ٣]، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لَهُمْ مِثْلَ مَا فَعَلَ لَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
إِلَّا أَنِّي طَلَبْتُ هَذَا التَّرْجِيحَ فِي ابْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ الْآيَةِ، فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَلَعَلَّهُ فِي غَيْرِ التَّفْسِيرِ.
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنِ الْبَعْضِ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ: قَدْ يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنِ الْعِلَّةِ، لَا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَخَلُّفِ جُزْءٍ مِنْهَا، وَأَنَّ الْعِلَّةَ
23
مُرَكَّبَةٌ، أَيْ هِيَ فِي الْيَهُودِ مُشَاقَّةٌ وَزِيَادَةٌ، تِلْكَ الزِّيَادَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي غَيْرِ الْيَهُودِ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ، وَذَلِكَ أَنَّ مُشَاقَّةَ غَيْرِ الْيَهُودِ كَانَتْ؛ لِجَهْلِهِمْ وَشَكِّهِمْ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى لِذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [٣٦ ٧٨ - ٧٩] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «ص» : وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي [٣٨ ٤ - ٨].
فَهُمْ فِي عَجَبٍ وَدَهْشَةٍ، وَاسْتِبْعَادٍ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُمْ فِي شَكِّ مِنْ أَمْرِهُمْ، فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِزَالَةِ الشَّكِّ وَالتَّثَبُّتِ مِنَ الْأَمْرِ، وَلِذَا لَمَّا زَالَ عَنْهُمْ شَكُّهُمْ وَتَبَيَّنُوا مِنْ أَمْرِهُمْ، وَرَاحُوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، بَيْنَمَا كَانَ كُفْرُ الْيَهُودِ جُحُودًا بَعْدَ مَعْرِفَةٍ، فَكَانُوا يَعْرِفُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٢ ١٤٦]، وَقَدْ سُمِّيَ لَهُمْ فِيمَا أَنْزَلَ كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [٦١ ٦] فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ بَيَانٌ، وَلَكِنَّهُ الْحَسَدُ وَالْجُحُودُ كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [٢ ١٠٩]، وَقَوْلِهِ: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [٣ ٦٩]، وَقَوْلِهِ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٢ ٧٥]، وَقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٣ ٧١].
فَقَدْ كَانُوا جَبْهَةَ تَضْلِيلٍ لِلْنَاسِ، وَتَحْرِيفٍ لِلْكِتَابِ، وَتَلْبِيسٍ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، كُلُّ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ وَعِلْمٍ، بِدَافِعِ الْحَسَدِ وَمُنَاصَبَةِ الْعَدَاءِ وَخَصْمٌ هَذَا حَالُهُ فَلَا دَوَاءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَلِّسَ لَا يُؤْمَنُ جَانِبُهُ، وَالْمُضَلِّلَ لَا يُصَدَّقُ، وَالْحَاسِدَ لَا يَشْفِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ، وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ الطَّمَعَ عَنْ إِيمَانِهِمْ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٢ ٧٥]، كَمَا أَيْأَسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَغَلُّفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَرُؤْيَةِ النُّورِ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ
فَهُمْ فِي عَجَبٍ وَدَهْشَةٍ، وَاسْتِبْعَادٍ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُمْ فِي شَكِّ مِنْ أَمْرِهُمْ، فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِزَالَةِ الشَّكِّ وَالتَّثَبُّتِ مِنَ الْأَمْرِ، وَلِذَا لَمَّا زَالَ عَنْهُمْ شَكُّهُمْ وَتَبَيَّنُوا مِنْ أَمْرِهُمْ، وَرَاحُوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، بَيْنَمَا كَانَ كُفْرُ الْيَهُودِ جُحُودًا بَعْدَ مَعْرِفَةٍ، فَكَانُوا يَعْرِفُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٢ ١٤٦]، وَقَدْ سُمِّيَ لَهُمْ فِيمَا أَنْزَلَ كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [٦١ ٦] فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ بَيَانٌ، وَلَكِنَّهُ الْحَسَدُ وَالْجُحُودُ كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [٢ ١٠٩]، وَقَوْلِهِ: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [٣ ٦٩]، وَقَوْلِهِ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٢ ٧٥]، وَقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٣ ٧١].
فَقَدْ كَانُوا جَبْهَةَ تَضْلِيلٍ لِلْنَاسِ، وَتَحْرِيفٍ لِلْكِتَابِ، وَتَلْبِيسٍ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، كُلُّ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ وَعِلْمٍ، بِدَافِعِ الْحَسَدِ وَمُنَاصَبَةِ الْعَدَاءِ وَخَصْمٌ هَذَا حَالُهُ فَلَا دَوَاءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَلِّسَ لَا يُؤْمَنُ جَانِبُهُ، وَالْمُضَلِّلَ لَا يُصَدَّقُ، وَالْحَاسِدَ لَا يَشْفِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ، وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ الطَّمَعَ عَنْ إِيمَانِهِمْ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٢ ٧٥]، كَمَا أَيْأَسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَغَلُّفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَرُؤْيَةِ النُّورِ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ
24
[٢ ٨٨].
وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي كُلِّ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا هَذَا الْحُكْمَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [٢ ٨٤ - ٨٥].
فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ، وَالْغَدْرِ فِي الصُّلْحِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِيمَانِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَالْكُفْرِ بِبَعْضِهِ، كَانَ خَاصًّا بِالْيَهُودِ، فَكَانَتِ الْعِلَّةُ مُرَكَّبَةً مِنَ الْمُشَاقَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا، وَكَانَ الْحُكْمُ صَرِيحًا هُنَا بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [٢ ٨٥]، وَكَانَ خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَا وَقَعَ بِهِمْ مِنْ إِخْرَاجٍ، وَتَخْرِيبٍ، وَتَقْتِيلٍ.
وَإِنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاسْتِئْصَالُ الْكُلِّيُّ بِإِخْرَاجِهِمْ أَوْ تَقْتِيلِهِمْ، فَلَمْ يَعُدْ يَصْلُحُ فِيهِمُ اسْتِصْلَاحٌ وَلَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُمْ صَلَاحٌ، وَيَكْفِي شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَتَّعِظُوا، وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [٥٩ ٢].
مَا اتَّعَظَ بَنُو قُرَيْظَةَ بِمَا وَقَعَ بِإِخْوَانِهِمْ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَجَئُوا بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ إِلَى مَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ، فَكَانَ اخْتِصَاصُ الْيَهُودِ بِالْحُكْمِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الْمُشَاقَّةِ فَلَمْ يُشَارِكْهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ دَوَافِعِ الْمُشَاقَّةِ.
وَلِلدَّوَافِعِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ، كَمَا فِي قِصَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ، فَقَدِ اشْتَرَكَ آدَمُ وَإِبْلِيسُ فِي عُمُومِ عِلَّةِ الْعِصْيَانِ، إِذْ نُهِيَ آدَمُ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ، وَأُمِرَ إِبْلِيسُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَكَلَ آدَمُ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَامْتَنَعَ إِبْلِيسُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ فَاشْتَرَكَا فِي الْعِصْيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ آدَمَ: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [٢٠ ١٢١]، وَقَالَ عَنْ إِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [٧ ١٢]، وَلَكِنَّ السَّبَبَ كَانَ مُخْتَلِفًا، فَآدَمُ نَسِيَ وَوَقَعَ تَحْتَ وَسْوَسَةِ
وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي كُلِّ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا هَذَا الْحُكْمَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [٢ ٨٤ - ٨٥].
فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ، وَالْغَدْرِ فِي الصُّلْحِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِيمَانِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَالْكُفْرِ بِبَعْضِهِ، كَانَ خَاصًّا بِالْيَهُودِ، فَكَانَتِ الْعِلَّةُ مُرَكَّبَةً مِنَ الْمُشَاقَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا، وَكَانَ الْحُكْمُ صَرِيحًا هُنَا بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [٢ ٨٥]، وَكَانَ خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَا وَقَعَ بِهِمْ مِنْ إِخْرَاجٍ، وَتَخْرِيبٍ، وَتَقْتِيلٍ.
وَإِنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاسْتِئْصَالُ الْكُلِّيُّ بِإِخْرَاجِهِمْ أَوْ تَقْتِيلِهِمْ، فَلَمْ يَعُدْ يَصْلُحُ فِيهِمُ اسْتِصْلَاحٌ وَلَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُمْ صَلَاحٌ، وَيَكْفِي شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَتَّعِظُوا، وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [٥٩ ٢].
مَا اتَّعَظَ بَنُو قُرَيْظَةَ بِمَا وَقَعَ بِإِخْوَانِهِمْ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَجَئُوا بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ إِلَى مَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ، فَكَانَ اخْتِصَاصُ الْيَهُودِ بِالْحُكْمِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الْمُشَاقَّةِ فَلَمْ يُشَارِكْهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ دَوَافِعِ الْمُشَاقَّةِ.
وَلِلدَّوَافِعِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ، كَمَا فِي قِصَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ، فَقَدِ اشْتَرَكَ آدَمُ وَإِبْلِيسُ فِي عُمُومِ عِلَّةِ الْعِصْيَانِ، إِذْ نُهِيَ آدَمُ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ، وَأُمِرَ إِبْلِيسُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَكَلَ آدَمُ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَامْتَنَعَ إِبْلِيسُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ فَاشْتَرَكَا فِي الْعِصْيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ آدَمَ: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [٢٠ ١٢١]، وَقَالَ عَنْ إِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [٧ ١٢]، وَلَكِنَّ السَّبَبَ كَانَ مُخْتَلِفًا، فَآدَمُ نَسِيَ وَوَقَعَ تَحْتَ وَسْوَسَةِ
25
الشَّيْطَانِ فَخُدِعَ بِقَسَمِ إِبْلِيسَ بِاللَّهِ تَعَالَى: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [٧ ٢١]، وَكَانَتْ مَعْصِيَةٌ عَنْ إِغْوَاءٍ وَوَسْوَسَةٍ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [٢ ٣٦].
أَمَّا إِبْلِيسُ، فَكَانَ عِصْيَانُهُ عَنْ سَبْقِ إِصْرَارٍ، وَعَنْ حَسَدٍ وَاسْتِكْبَارٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [٢ ٣٤]، وَلَمَّا خَاطَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [٣٨ ٧٥]، قَالَ فِي إِصْرَارِهِ وَحَسَدِهِ وَتَكَبُّرِهِ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [٣٨ ٧٦].
فَاخْتَلَفَتِ الدَّوَافِعُ وَكَانَ لَدَى إِبْلِيسَ مَا لَيْسَ لَدَى آدَمَ فِي سَبَبِ الْعِصْيَانِ وَبِالتَّالِي اخْتَلَفَتِ النَّتَائِجُ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ مُخْتَلِفَةً تَمَامًا. أَمَّا آدَمُ فَحِينَ عَاتَبَهُ عَلَى أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [٧ ٢٢] رَجَعَا حَالًا، وَاعْتَرَفَا بِذَنْبِهِمَا قَائِلِينَ: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٧ ٢٣]، وَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ لَهُمَا قَوْلَهُ تَعَالَى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [٧ ٢٤].
فَكَانَ هُبُوطُ آدَمَ مُؤَقَّتًا، وَلَحِقَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [٢ ٣٨]، فَأَدْرَكَتْهُ هِدَايَةُ اللَّهِ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [٢ ٣٧].
أَمَّا نَتِيجَةُ إِبْلِيسَ فَلَمَّا عَاتَبَهُ تَعَالَى فِي مَعْصِيَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [٣٨ ٧٥]، كَانَ جَوَابُهُ اسْتِعْلَاءً، وَتَعَاظُمًا، عَلَى النَّقِيضِ مِمَّا كَانَ فِي جَوَابِ آدَمَ إِذْ قَالَ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [٣٨ ٧٦]، فَكَانَ جَوَابُهُ كَذَلِكَ عَكْسَ مَا كَانَ جَوَابًا عَلَى آدَمَ: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [٣٨ ٧٧ - ٧٨].
وَلَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الَّذِي جَرَّ عَلَى إِبْلِيسَ هَذَا كُلَّهُ هُوَ الْحَسَدُ، حَسَدَ آدَمَ عَلَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ فَاحْتَقَرَهُ، وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ فِي الْعِصْيَانِ، وَكَانَتْ نَتِيجَتُهُ الطَّرْدَ.
أَمَّا إِبْلِيسُ، فَكَانَ عِصْيَانُهُ عَنْ سَبْقِ إِصْرَارٍ، وَعَنْ حَسَدٍ وَاسْتِكْبَارٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [٢ ٣٤]، وَلَمَّا خَاطَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [٣٨ ٧٥]، قَالَ فِي إِصْرَارِهِ وَحَسَدِهِ وَتَكَبُّرِهِ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [٣٨ ٧٦].
فَاخْتَلَفَتِ الدَّوَافِعُ وَكَانَ لَدَى إِبْلِيسَ مَا لَيْسَ لَدَى آدَمَ فِي سَبَبِ الْعِصْيَانِ وَبِالتَّالِي اخْتَلَفَتِ النَّتَائِجُ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ مُخْتَلِفَةً تَمَامًا. أَمَّا آدَمُ فَحِينَ عَاتَبَهُ عَلَى أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [٧ ٢٢] رَجَعَا حَالًا، وَاعْتَرَفَا بِذَنْبِهِمَا قَائِلِينَ: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٧ ٢٣]، وَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ لَهُمَا قَوْلَهُ تَعَالَى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [٧ ٢٤].
فَكَانَ هُبُوطُ آدَمَ مُؤَقَّتًا، وَلَحِقَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [٢ ٣٨]، فَأَدْرَكَتْهُ هِدَايَةُ اللَّهِ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [٢ ٣٧].
أَمَّا نَتِيجَةُ إِبْلِيسَ فَلَمَّا عَاتَبَهُ تَعَالَى فِي مَعْصِيَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [٣٨ ٧٥]، كَانَ جَوَابُهُ اسْتِعْلَاءً، وَتَعَاظُمًا، عَلَى النَّقِيضِ مِمَّا كَانَ فِي جَوَابِ آدَمَ إِذْ قَالَ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [٣٨ ٧٦]، فَكَانَ جَوَابُهُ كَذَلِكَ عَكْسَ مَا كَانَ جَوَابًا عَلَى آدَمَ: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [٣٨ ٧٧ - ٧٨].
وَلَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الَّذِي جَرَّ عَلَى إِبْلِيسَ هَذَا كُلَّهُ هُوَ الْحَسَدُ، حَسَدَ آدَمَ عَلَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ فَاحْتَقَرَهُ، وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ فِي الْعِصْيَانِ، وَكَانَتْ نَتِيجَتُهُ الطَّرْدَ.
26
وَهَكَذَا الْيَهُودُ: إِنَّ دَاءَهُمُ الدَّفِينَ هُوَ الْحَسَدُ، وَالْعُجْبُ بِالنَّفْسِ، فَجَرَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَوَقَعُوا فِي الْخِيَانَةِ، وَكَانَتِ النَّتِيجَةُ الْقَتْلَ، وَالطَّرْدَ.
وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُشَاقَّةَ الْيَهُودِ هَذِهِ هِيَ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، وَتَهَدَّدَهُمْ إِنْ هُمْ عَادُوا لِلثَّالِثَةِ عَادَ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَهَاهُمْ قَدْ عَادُوا، وَشَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [١٧ ٨]، لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُضِيَ إِلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ - وَبَيَّنَ نَتَائِجَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ - بَيَّنَ تَعَالَى أَيْضًا: أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعُودُ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِتَسْلِيطِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ أَمْ لَا؟.
وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتْمِ صِفَاتِهِ، وَنَقَضِ عُهُودِهِ، وَمُظَاهَرَةِ عَدُّوهِ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِمِ الْقَبِيحَةِ، فَعَادَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ، وَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَبَنِي النَّضِيرِ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَخَيْبَرَ، مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّلْبِ وَالْإِجْلَاءِ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [٢ ٨٩ - ٩٠]، وَقَوْلُهُ: الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [٢ ١٠٠]، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [٥ ١٣] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُشَاقَّةَ الْيَهُودِ هَذِهِ هِيَ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، وَتَهَدَّدَهُمْ إِنْ هُمْ عَادُوا لِلثَّالِثَةِ عَادَ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَهَاهُمْ قَدْ عَادُوا، وَشَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [١٧ ٨]، لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُضِيَ إِلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ - وَبَيَّنَ نَتَائِجَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ - بَيَّنَ تَعَالَى أَيْضًا: أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعُودُ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِتَسْلِيطِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ أَمْ لَا؟.
وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتْمِ صِفَاتِهِ، وَنَقَضِ عُهُودِهِ، وَمُظَاهَرَةِ عَدُّوهِ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِمِ الْقَبِيحَةِ، فَعَادَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ، وَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَبَنِي النَّضِيرِ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَخَيْبَرَ، مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّلْبِ وَالْإِجْلَاءِ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [٢ ٨٩ - ٩٠]، وَقَوْلُهُ: الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [٢ ١٠٠]، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [٥ ١٣] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
27
[٥٩ ٢ - ٤]، وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ [٣٣ ٢٦ - ٢٧] اهـ مِنْهُ.
فَهَذَا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيَانٌ وَدَلِيلٌ إِلَى مُغَايَرَةِ الْمُشَاقَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْيَهُودِ لِلْمُشَاقَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَمَّنْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ؛ لِتَخَلُّفِ بَعْضِ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ.
الْلِينَةُ هُنَا، قِيلَ: اسْمٌ عَامٌّ لِلنَّخْلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقِيلَ: نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الْبَرْنِيَّ وَالْعَجْوَةَ فَقَطْ.
وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: اللِّينَةُ مِنَ اللَّوْنِ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لِينَةً؛ لِأَنَّهَا فِعْلَةٌ مِنْ فَعَلَ وَهُوَ اللَّوْنُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، وَلَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا انْقَلَبَتْ إِلَى يَاءٍ إِلَخْ، وَهَذَا الْأَخِيرُ قَرِيبٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، حَيْثُ يُطْلِقُونَ كَلِمَةَ: لُونَةٍ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ اسْمًا خَاصًّا، وَلَعَلَّ كَلِمَةَ لُونَةٍ مُحَرَّفَةٌ عَنْ كَلِمَةِ لِينَةٍ، وَيُوجَدُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخِيلِ مَا يَقْرُبُ مِنْ سَبْعِينَ نَوْعًا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْلِينَةَ كُلُّ شَجَرَةٍ لِلُيُونَتِهَا بِالْحَيَاةِ.
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَقْطِيعِ وَتَحْرِيقِ بَعْضِ النَّخِيلِ لِبَنِي النَّضِيرِ عِنْدَ حِصَارِهِمْ وَقَطَعَ مِنَ الْبُسْتَانِ الْمَعْرُوفِ بِالْبُوَيْرَةِ، كَمَا رَوَى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ صَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ حَسَّانٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَالْبُوَيْرَةُ مَعْرُوفَةٌ الْيَوْمَ، وَهِيَ بُسْتَانٌ يَقَعُ فِي الْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ.
فَهَذَا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيَانٌ وَدَلِيلٌ إِلَى مُغَايَرَةِ الْمُشَاقَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْيَهُودِ لِلْمُشَاقَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَمَّنْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ؛ لِتَخَلُّفِ بَعْضِ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ.
الْلِينَةُ هُنَا، قِيلَ: اسْمٌ عَامٌّ لِلنَّخْلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقِيلَ: نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الْبَرْنِيَّ وَالْعَجْوَةَ فَقَطْ.
وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: اللِّينَةُ مِنَ اللَّوْنِ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لِينَةً؛ لِأَنَّهَا فِعْلَةٌ مِنْ فَعَلَ وَهُوَ اللَّوْنُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، وَلَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا انْقَلَبَتْ إِلَى يَاءٍ إِلَخْ، وَهَذَا الْأَخِيرُ قَرِيبٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، حَيْثُ يُطْلِقُونَ كَلِمَةَ: لُونَةٍ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ اسْمًا خَاصًّا، وَلَعَلَّ كَلِمَةَ لُونَةٍ مُحَرَّفَةٌ عَنْ كَلِمَةِ لِينَةٍ، وَيُوجَدُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخِيلِ مَا يَقْرُبُ مِنْ سَبْعِينَ نَوْعًا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْلِينَةَ كُلُّ شَجَرَةٍ لِلُيُونَتِهَا بِالْحَيَاةِ.
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَقْطِيعِ وَتَحْرِيقِ بَعْضِ النَّخِيلِ لِبَنِي النَّضِيرِ عِنْدَ حِصَارِهِمْ وَقَطَعَ مِنَ الْبُسْتَانِ الْمَعْرُوفِ بِالْبُوَيْرَةِ، كَمَا رَوَى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ صَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ حَسَّانٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ | حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ |
28
وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ نَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَ مِنَ الْإِثْمِ، وَأَنَّ قَطْعَ مَا قُطِعَ وَتَرْكَ مَا تُرِكَ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ.
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: الْإِذْنُ الْقَدَرِيُّ وَالْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، أَيْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [٣ ١٦٦]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [٣ ١٥٢].
وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْإِذْنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ الْإِذْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [٢٢ ٣٩] ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقِتَالِ إِذْنٌ بِكُلِّ مَا يَتَطَلَّبُهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
وَالْحِصَارُ نَوْعٌ مِنَ الْقِتَالِ، وَلَعَلَّ مِنْ مَصْلَحَةِ الْحِصَارِ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ لِتَمَامِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ لِإِحْكَامِ الْحِصَارِ، أَوْ لِإِذْلَالِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ فِي حِصَارِهِ وَإِشْعَارِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ حِمَايَةِ أَمْوَالِهِ، وَمُمْتَلَكَاتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إِثَارَةٌ لَهُ؛ لِيَنْدَفِعَ فِي حَمِيَّةٍ لِلدِّفَاعِ عَنْ مُمْتَلَكَاتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَيَنْكَشِفَ عَنْ حُصُونِهِ وَيَسْهُلَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالَّتِي أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ أَيْ: بِعَجْزِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ نَخِيلَهُمْ يُقْطَعُ، وَيُحْرَقُ فَلَا يَمْلِكُونَ لَهُ دَفْعًا.
وَعَلَى كُلٍّ فَالَّذِي أَذِنَ بِالْقِتَالِ وَهُوَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَإِزْهَاقُ الْأَنْفُسِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ سَبْيٍ وَغَنَائِمَ لَا يَمْنَعُ فِي مِثْلِ قَطْعِ النَّخِيلِ إِنْ لَزِمَ الْأَمْرُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا أَذِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَذِنَ.
وَبِهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَدُوًّا، وَرَأَوْا أَنَّ مِنْ مَصْلَحَتِهِمْ أَوْ مِنْ مَذَلَّةِ الْعَدُوِّ إِتْلَافَ مُنْشَآتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَغَايَةُ مَا فِيهِ، أَنَّهُ إِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِلتَّغَلُّبِ عَلَى الْعَدُوِّ وَأَخْذِ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا لَهُ
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ نَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَ مِنَ الْإِثْمِ، وَأَنَّ قَطْعَ مَا قُطِعَ وَتَرْكَ مَا تُرِكَ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ.
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: الْإِذْنُ الْقَدَرِيُّ وَالْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، أَيْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [٣ ١٦٦]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [٣ ١٥٢].
وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْإِذْنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ الْإِذْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [٢٢ ٣٩] ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقِتَالِ إِذْنٌ بِكُلِّ مَا يَتَطَلَّبُهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
وَالْحِصَارُ نَوْعٌ مِنَ الْقِتَالِ، وَلَعَلَّ مِنْ مَصْلَحَةِ الْحِصَارِ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ لِتَمَامِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ لِإِحْكَامِ الْحِصَارِ، أَوْ لِإِذْلَالِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ فِي حِصَارِهِ وَإِشْعَارِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ حِمَايَةِ أَمْوَالِهِ، وَمُمْتَلَكَاتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إِثَارَةٌ لَهُ؛ لِيَنْدَفِعَ فِي حَمِيَّةٍ لِلدِّفَاعِ عَنْ مُمْتَلَكَاتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَيَنْكَشِفَ عَنْ حُصُونِهِ وَيَسْهُلَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالَّتِي أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ أَيْ: بِعَجْزِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ نَخِيلَهُمْ يُقْطَعُ، وَيُحْرَقُ فَلَا يَمْلِكُونَ لَهُ دَفْعًا.
وَعَلَى كُلٍّ فَالَّذِي أَذِنَ بِالْقِتَالِ وَهُوَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَإِزْهَاقُ الْأَنْفُسِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ سَبْيٍ وَغَنَائِمَ لَا يَمْنَعُ فِي مِثْلِ قَطْعِ النَّخِيلِ إِنْ لَزِمَ الْأَمْرُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا أَذِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَذِنَ.
وَبِهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَدُوًّا، وَرَأَوْا أَنَّ مِنْ مَصْلَحَتِهِمْ أَوْ مِنْ مَذَلَّةِ الْعَدُوِّ إِتْلَافَ مُنْشَآتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَغَايَةُ مَا فِيهِ، أَنَّهُ إِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِلتَّغَلُّبِ عَلَى الْعَدُوِّ وَأَخْذِ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا لَهُ
29
نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ، كَعَمَلِ الْخِضْرِ فِي سَفِينَةِ الْمَسَاكِينَ لَمَّا خَرَقَهَا، أَيْ أَعَابَهَا بِإِتْلَافِ بَعْضِهَا؛ لِيَسْتَخْلِصَهَا مِنِ اغْتِصَابِ الْمَلِكِ إِيَّاهَا، وَقَالَ: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [١٨ ٨٢].
وَقَدْ جَاءَ اعْتِرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِهِمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَمَا اعْتَرَضَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَطْعِ النَّخِيلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [٢ ٢١٧].
فَقَدْ تَعَاظَمَ الْمُشْرِكُونَ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ نَخْلَةٍ، وَلَمْ يَتَحَقَّقُوا دُخُولَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَاتَّهَمُوهُمْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَى حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمُوجِبِ مَا قَالُوا بِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَلَكِنْ مَا ارْتَكَبَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٍ بِاللَّهِ، وَصَدٍّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ عَنِ الدِّينِ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أَيْ: الَّذِي اسْتَنْكَرُوهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَكَذَا هُنَا لَئِنْ تَعَاظَمَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ، وَعَابُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِيقَاعَ الْفَسَادِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ الْمَالِ فَكَيْفَ بِهِمْ بِغَدْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ نَقْضِهِمِ الْعُهُودَ، وَتَمَالُئِهِمْ عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَدْ سَجَّلَ هَذَا الْمَعْنَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلَ ابْنِ الْأَشْرَفِ:
إِلَى أَنْ قَالَ:
فَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ خِزْيَ بَنِي النَّضِيرِ بِسَبَبِ غَدْرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَكَانَ الْإِذْنُ فِي قَطْعِ النَّخِيلِ هُوَ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ هُوَ عَمَلٌ تَشْرِيعِيٌّ إِذَا مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ، لِمِثْلِ مَا دَعَتِ الْحَاجَّةُ هَنَا إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ جَاءَ اعْتِرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِهِمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَمَا اعْتَرَضَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَطْعِ النَّخِيلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [٢ ٢١٧].
فَقَدْ تَعَاظَمَ الْمُشْرِكُونَ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ نَخْلَةٍ، وَلَمْ يَتَحَقَّقُوا دُخُولَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَاتَّهَمُوهُمْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَى حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمُوجِبِ مَا قَالُوا بِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَلَكِنْ مَا ارْتَكَبَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٍ بِاللَّهِ، وَصَدٍّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ عَنِ الدِّينِ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أَيْ: الَّذِي اسْتَنْكَرُوهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَكَذَا هُنَا لَئِنْ تَعَاظَمَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ، وَعَابُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِيقَاعَ الْفَسَادِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ الْمَالِ فَكَيْفَ بِهِمْ بِغَدْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ نَقْضِهِمِ الْعُهُودَ، وَتَمَالُئِهِمْ عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَدْ سَجَّلَ هَذَا الْمَعْنَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلَ ابْنِ الْأَشْرَفِ:
لَقَدْ خَزِيَتْ بِغَدْرَتِهَا الْحُبُورُ | كَذَاكَ الدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ يَدُورُ |
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبٍّ | عَظِيمٍ أَمْرُهُ أَمْرٌ كَبِيرٌ |
وَقَدْ أُوتُوا مَعًا فَهْمًا وَعِلْمًا | وَجَاءَهُمُ مِنَ اللَّهِ النَّذِيرُ |
فَلَمَّا أُشْرِبُوا غَدْرًا وَكُفْرًا | وَحَادَ بِهِمْ عَنِ الْحَقِّ النُّفُورُ |
أَرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأْيِ صِدْقٍ | وَكَانَ اللَّهُ يَحْكُمُ لَا يَجُورُ |
فَأَيَّدَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمُ | وَكَانَ نَصِيرَهُ نِعْمَ النَّصِيرُ |
30
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ.
الضَّمِيرُ فِي (مِنْهُمْ) هُنَا عَائِدٌ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ.
وَالْفَيْءُ: الْغَنِيمَةُ بِدُونِ قِتَالٍ، وَقَدْ جَعَلَهُ تَعَالَى هُنَا عَلَى رَسُولِهِ خَاصَّةً.
وَقَالَ: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [٥٩ ٦] أَيْ: لَمَّا كَانَ إِخْرَاجُ الْيَهُودِ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَبِمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ هَذَا الْفَيْءُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَقَدْ جَاءَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي سَاقَهُ الشَّيْخُ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ عِنْدَ آخَرِ كَلَامِهِ عَلَى مَبَاحِثِ «الْأَنْفَالِ» عِنْدَ قَوْلِهِ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ سَنَتِهِ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ لَا مِنَ الْمَغَانِمِ، وَسَاقَ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ أَوْسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ مُطَالَبَةِ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ: قَدِيرٌ [٥٩ ٦]، فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهُ وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَا لِلَّهِ إِلَخْ. اهـ.
وَكَانَتْ هَذِهِ خَاصَّةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ جَاءَ بَعْدَهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَيْ: عُمُومًا فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [٥٩ ٧].
وَهَذِهِ الْآيَةُ لِعُمُومِهَا مَصْدَرًا وَمَصْرِفًا، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَحْكَامٍ وَمَبَاحِثَ عَدِيدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْكَلَامُ عَلَى كُلِّ مَا فِيهَا عِنْدَ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ [٨ ١]، فَاسْتَوْفَى وَاسْتَقْصَى وَفَصَّلَ وَبَيَّنَ مَصَادِرَ وَمَصَارِفَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالنَّفْلِ، وَمَا فُتِحَ مِنَ الْبِلَادِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً، وَمَسَائِلَ عَدِيدَةً مِمَّا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلَا غِنَى عَنْهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.
الضَّمِيرُ فِي (مِنْهُمْ) هُنَا عَائِدٌ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ.
وَالْفَيْءُ: الْغَنِيمَةُ بِدُونِ قِتَالٍ، وَقَدْ جَعَلَهُ تَعَالَى هُنَا عَلَى رَسُولِهِ خَاصَّةً.
وَقَالَ: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [٥٩ ٦] أَيْ: لَمَّا كَانَ إِخْرَاجُ الْيَهُودِ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَبِمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ هَذَا الْفَيْءُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَقَدْ جَاءَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي سَاقَهُ الشَّيْخُ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ عِنْدَ آخَرِ كَلَامِهِ عَلَى مَبَاحِثِ «الْأَنْفَالِ» عِنْدَ قَوْلِهِ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ سَنَتِهِ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ لَا مِنَ الْمَغَانِمِ، وَسَاقَ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ أَوْسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ مُطَالَبَةِ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ: قَدِيرٌ [٥٩ ٦]، فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهُ وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَا لِلَّهِ إِلَخْ. اهـ.
وَكَانَتْ هَذِهِ خَاصَّةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ جَاءَ بَعْدَهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَيْ: عُمُومًا فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [٥٩ ٧].
وَهَذِهِ الْآيَةُ لِعُمُومِهَا مَصْدَرًا وَمَصْرِفًا، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَحْكَامٍ وَمَبَاحِثَ عَدِيدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْكَلَامُ عَلَى كُلِّ مَا فِيهَا عِنْدَ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ [٨ ١]، فَاسْتَوْفَى وَاسْتَقْصَى وَفَصَّلَ وَبَيَّنَ مَصَادِرَ وَمَصَارِفَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالنَّفْلِ، وَمَا فُتِحَ مِنَ الْبِلَادِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً، وَمَسَائِلَ عَدِيدَةً مِمَّا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلَا غِنَى عَنْهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.
31
مَعْنَى الدُّولَةِ وَالدَّوْلَةِ بِضَمِّ الدَّالِّ فِي الْأُولَى، وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِيَةِ: يَدُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ: الظُّفْرُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ الْمَصْدَرُ، وَبِالضَّمِّ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَدَاوَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ: كَيْلَا يَكُونَ الْفَيْءُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُعْطَى الْفُقَرَاءَ، لِيَكُونَ لَهُمْ بُلْغَةً يَعِيشُونَ بِهَا جَدًّا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ يَتَكَاثَرُونَ بِهِ، أَوْ كَيْلَا يَكُونَ دَوْلَةً جَاهِلِيَّةً بَيْنَهُمْ.
وَمَعْنَى الدَّوْلَةِ الْجَاهِلِيَّةِ: أَنَّ الرُّؤَسَاءَ مِنْهُمْ كَانُوا يَسْتَأْثِرُونَ بِالْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّئَاسَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالدَّوْلَةِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وَالْمَعْنَى: كَيْلَا يَكُونَ أَخْذُهُ غَلَبَةً أَثَرَةً جَاهِلِيَّةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: اتَّخَذُوا عِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا، يُرِيدُ مَنْ غَلَبَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ وَاسْتَأْثَرَ بِهِ، إِلَخْ.
وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ هُنَا: أَنَّ دُعَاةَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الْفَاسِدَةِ، يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمِ الْفَاسِدِ وَيَقُولُونَ: يَجُوزُ لِلدَّوْلَةِ أَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلَى مَصَادِرِ الْإِنْتَاجِ وَرُءُوسِ الْأَمْوَالِ؛ لِتُعْطِيَهَا أَوْ تُشْرِكَ فِيهَا الْفُقَرَاءَ، وَمَا يُسَمُّونَهُمْ طَبَقَةَ الْعُمَّالِ، وَهَذَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ كَسَادٍ اقْتِصَادِيٍّ، وَفَسَادٍ اجْتِمَاعِيٍّ، قَدْ ثَبَتَ خَطَؤُهُ، وَظَهَرَ بُطْلَانُهُ مُجَانِبًا لِحَقِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ.
لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ تُرِكَ لِمَرَافِقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، وَتَأْمِينِ الْغُزَاةِ فِي الْحُدُودِ وَالثُّغُورِ، وَلَيْسَ يُعْطَى لِلْأَفْرَادِ كَمَا يَقُولُونَ، ثُمَّ هُوَ أَسَاسًا مَالٌ جَاءَ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ نَتِيجَةَ كَدْحِ الْفَرْدِ وَكَسْبِهِ.
وَلَمَّا كَانَ مَالُ الْغَنِيمَةِ لَيْسَ مِلْكًا لِشَخْصٍ، وَلَا هُوَ أَيْضًا كَسْبٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، تَحَقَّقَ فِيهِ الْعُمُومُ فِي مَصْدَرِهِ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ، وَالْعُمُومُ فِي مَصْرِفِهِ، وَهُوَ عُمُومُ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَلَا دَخْلَ وَلَا وُجُودَ لِلْفَرْدِ فِيهِ، فَشَتَّانَ بَيْنَ هَذَا الْأَصْلِ فِي التَّشْرِيعِ وَهَذَا الْفَرْعِ فِي التَّضْلِيلِ.
وَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّهُمْ يُؤَيِّدُونَ دَعْوَاهُمْ بِإِقْحَامِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا دَامَتْ عَلَى عُمُومِهَا فَالْمَاءُ شَرِكَةٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ مَا دَامَ فِي مَوْرِدِهِ مِنَ النَّهْرِ أَوِ الْبِئْرِ الْعَامِّ أَوِ السَّيْلِ أَوِ الْغَدِيرِ. أَمَّا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ مَوْرِدِهِ الْعَامِّ، وَأَصْبَحَ فِي حِيَازَةٍ مَا فَلَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ مَعَ مَنْ حَازَهُ، كَمَنْ مَلَأَ إِنَاءً مِنَ النَّهْرِ أَوِ السَّيْلِ وَنَحْوِهِ، فَمَا كَانَ فِي إِنَائِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ، وَهَذَا الْكَلَأُ
الدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ: الظُّفْرُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ الْمَصْدَرُ، وَبِالضَّمِّ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَدَاوَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ: كَيْلَا يَكُونَ الْفَيْءُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُعْطَى الْفُقَرَاءَ، لِيَكُونَ لَهُمْ بُلْغَةً يَعِيشُونَ بِهَا جَدًّا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ يَتَكَاثَرُونَ بِهِ، أَوْ كَيْلَا يَكُونَ دَوْلَةً جَاهِلِيَّةً بَيْنَهُمْ.
وَمَعْنَى الدَّوْلَةِ الْجَاهِلِيَّةِ: أَنَّ الرُّؤَسَاءَ مِنْهُمْ كَانُوا يَسْتَأْثِرُونَ بِالْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّئَاسَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالدَّوْلَةِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وَالْمَعْنَى: كَيْلَا يَكُونَ أَخْذُهُ غَلَبَةً أَثَرَةً جَاهِلِيَّةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: اتَّخَذُوا عِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا، يُرِيدُ مَنْ غَلَبَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ وَاسْتَأْثَرَ بِهِ، إِلَخْ.
وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ هُنَا: أَنَّ دُعَاةَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الْفَاسِدَةِ، يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمِ الْفَاسِدِ وَيَقُولُونَ: يَجُوزُ لِلدَّوْلَةِ أَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلَى مَصَادِرِ الْإِنْتَاجِ وَرُءُوسِ الْأَمْوَالِ؛ لِتُعْطِيَهَا أَوْ تُشْرِكَ فِيهَا الْفُقَرَاءَ، وَمَا يُسَمُّونَهُمْ طَبَقَةَ الْعُمَّالِ، وَهَذَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ كَسَادٍ اقْتِصَادِيٍّ، وَفَسَادٍ اجْتِمَاعِيٍّ، قَدْ ثَبَتَ خَطَؤُهُ، وَظَهَرَ بُطْلَانُهُ مُجَانِبًا لِحَقِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ.
لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ تُرِكَ لِمَرَافِقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، وَتَأْمِينِ الْغُزَاةِ فِي الْحُدُودِ وَالثُّغُورِ، وَلَيْسَ يُعْطَى لِلْأَفْرَادِ كَمَا يَقُولُونَ، ثُمَّ هُوَ أَسَاسًا مَالٌ جَاءَ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ نَتِيجَةَ كَدْحِ الْفَرْدِ وَكَسْبِهِ.
وَلَمَّا كَانَ مَالُ الْغَنِيمَةِ لَيْسَ مِلْكًا لِشَخْصٍ، وَلَا هُوَ أَيْضًا كَسْبٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، تَحَقَّقَ فِيهِ الْعُمُومُ فِي مَصْدَرِهِ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ، وَالْعُمُومُ فِي مَصْرِفِهِ، وَهُوَ عُمُومُ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَلَا دَخْلَ وَلَا وُجُودَ لِلْفَرْدِ فِيهِ، فَشَتَّانَ بَيْنَ هَذَا الْأَصْلِ فِي التَّشْرِيعِ وَهَذَا الْفَرْعِ فِي التَّضْلِيلِ.
وَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّهُمْ يُؤَيِّدُونَ دَعْوَاهُمْ بِإِقْحَامِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا دَامَتْ عَلَى عُمُومِهَا فَالْمَاءُ شَرِكَةٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ مَا دَامَ فِي مَوْرِدِهِ مِنَ النَّهْرِ أَوِ الْبِئْرِ الْعَامِّ أَوِ السَّيْلِ أَوِ الْغَدِيرِ. أَمَّا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ مَوْرِدِهِ الْعَامِّ، وَأَصْبَحَ فِي حِيَازَةٍ مَا فَلَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ مَعَ مَنْ حَازَهُ، كَمَنْ مَلَأَ إِنَاءً مِنَ النَّهْرِ أَوِ السَّيْلِ وَنَحْوِهِ، فَمَا كَانَ فِي إِنَائِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ، وَهَذَا الْكَلَأُ
32
مَا دَامَ عُشْبًا فِي الْأَرْضِ الْعَامَّةِ لَا فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ عَامٌّ لِمَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ، فَإِذَا مَا احْتَشَّهُ إِنْسَانٌ وَحَازَهُ فَلَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ نَابِتًا فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْحُوتِ فِي الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ فَهُوَ مُشَاعٌ لِلْجَمِيعِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ يُصَادُ. فَإِنَّهُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الصَّيَّادِينَ، فَإِذَا مَا صَادَهُ إِنْسَانٌ فَقَدْ حَازَهُ وَاخْتَصَّ بِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَعْتَرِفُ فِيهِ جَمِيعُ النُّظُمِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَتُعْطَى تَرَاخِيصٌ رَسْمِيَّةٌ لِذَلِكَ.
وَهُنَاكَ الْعَمَلُ الْجَارِي فِي تِلْكَ الدُّوَلِ، مِمَّا يَجْعَلُهُمْ يَتَنَاقَضُونَ فِي دَعْوَاهُمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ، وَذَلِكَ فِي شَرِكَاتِ الْمِيَاهِ وَالنُّورِ؛ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِي كُلِّ بَيْتٍ عَدَّادًا يَعُدُّ جَالُونَاتِ الْمَاءِ الَّتِي اسْتَهْلَكَهَا الْمَنْزِلُ وَيُحَاسِبُونَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَأَخَّرَ قَطَعُوا عَلَيْهِ الْمَاءَ وَحَرَمُوهُ مِنْ شُرْبِهِ.
وَكَذَلِكَ التَّيَّارُ الْكَهْرَبَائِيُّ؛ فَإِنَّهُ نَارٌ، وَهُوَ الطَّاقَةُ الْفَعَّالَةُ فِي الْمُدُنِ فَإِنَّهُمْ يَقِيسُونَهُ بِعَدَّادٍ يَعُدُّ الْكِيلُواتْ، وَيَبِيعُونَهُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ، فَلِمَاذَا لَا يَجْعَلُونَ الْمَاءَ وَالْكَهْرَبَاءَ، شَرِكَةً بَيْنَ الْمُوَاطِنِينَ؟ أَمِ النَّاسُ شُرَكَاءُ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَى الدَّوْلَةِ، أَمَّا حَقُّ الدَّوْلَةِ فَخَاصٌّ لِلْحُكَّامِ؟ إِنَّهُ عَكْسُ مَا فِي قَضِيَّةِ الْفَيْءِ تَمَامًا.
حَيْثُ إِنَّ الْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ حَلَالًا مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ كَسْبٌ عَامٌّ دَخَلَ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَجْهُودِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، الْمَاثِلِ فِي الْجَيْشِ الَّذِي يُقَاتِلُ بِاسْمِهَا، وَجَعَلَهُ تَعَالَى فِي مَصَارِفَ عَامَّةٍ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).
(فَلِلَّهِ) : أَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
(وَلِلرَّسُولِ) : لِقِيَامِهِ بِأَمْرِ الْأُمَّةِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ عَامًا، وَمَا بَقِيَ يَرُدُّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
(وَلِذِي الْقُرْبَى) : مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْحُوتِ فِي الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ فَهُوَ مُشَاعٌ لِلْجَمِيعِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ يُصَادُ. فَإِنَّهُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الصَّيَّادِينَ، فَإِذَا مَا صَادَهُ إِنْسَانٌ فَقَدْ حَازَهُ وَاخْتَصَّ بِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَعْتَرِفُ فِيهِ جَمِيعُ النُّظُمِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَتُعْطَى تَرَاخِيصٌ رَسْمِيَّةٌ لِذَلِكَ.
وَهُنَاكَ الْعَمَلُ الْجَارِي فِي تِلْكَ الدُّوَلِ، مِمَّا يَجْعَلُهُمْ يَتَنَاقَضُونَ فِي دَعْوَاهُمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ، وَذَلِكَ فِي شَرِكَاتِ الْمِيَاهِ وَالنُّورِ؛ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِي كُلِّ بَيْتٍ عَدَّادًا يَعُدُّ جَالُونَاتِ الْمَاءِ الَّتِي اسْتَهْلَكَهَا الْمَنْزِلُ وَيُحَاسِبُونَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَأَخَّرَ قَطَعُوا عَلَيْهِ الْمَاءَ وَحَرَمُوهُ مِنْ شُرْبِهِ.
وَكَذَلِكَ التَّيَّارُ الْكَهْرَبَائِيُّ؛ فَإِنَّهُ نَارٌ، وَهُوَ الطَّاقَةُ الْفَعَّالَةُ فِي الْمُدُنِ فَإِنَّهُمْ يَقِيسُونَهُ بِعَدَّادٍ يَعُدُّ الْكِيلُواتْ، وَيَبِيعُونَهُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ، فَلِمَاذَا لَا يَجْعَلُونَ الْمَاءَ وَالْكَهْرَبَاءَ، شَرِكَةً بَيْنَ الْمُوَاطِنِينَ؟ أَمِ النَّاسُ شُرَكَاءُ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَى الدَّوْلَةِ، أَمَّا حَقُّ الدَّوْلَةِ فَخَاصٌّ لِلْحُكَّامِ؟ إِنَّهُ عَكْسُ مَا فِي قَضِيَّةِ الْفَيْءِ تَمَامًا.
حَيْثُ إِنَّ الْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ حَلَالًا مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ كَسْبٌ عَامٌّ دَخَلَ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَجْهُودِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، الْمَاثِلِ فِي الْجَيْشِ الَّذِي يُقَاتِلُ بِاسْمِهَا، وَجَعَلَهُ تَعَالَى فِي مَصَارِفَ عَامَّةٍ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).
(فَلِلَّهِ) : أَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
(وَلِلرَّسُولِ) : لِقِيَامِهِ بِأَمْرِ الْأُمَّةِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ عَامًا، وَمَا بَقِيَ يَرُدُّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
(وَلِذِي الْقُرْبَى) : مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ.
33
(وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) : هَذَا هُوَ التَّكَافُلُ الِاجْتِمَاعِيُّ فِي الْأُمَّةِ.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) : الْمُنْقَطِعُ فِي سَفَرِهِ، وَهَذَا تَأْمِينٌ لِلْمُوَاصَلَاتِ.
فَكَانَ مَصْرِفُهُ بِهَذَا الْعُمُومِ دُونَ اخْتِصَاصِ شَخْصٍ بِهِ أَوْ طَائِفَةٍ: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.
وَإِنَّهُ لَمِنْ مَوَاطِنِ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ هَذَا التَّشْرِيعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ [٥٩ ٧] ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ فِي أَمْرٍ يَمَسُّ الْوَتَرَ الْحَسَّاسَ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ مَوْطِنُ الشُّحِّ وَالْحِرْصِ أَلَا وَهُوَ كَسْبُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ صِنْوُ النَّفْسِ، وَالَّذِي تَوَلَّى اللَّهُ قِسْمَتَهُ فِي أَهَمِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْمِيرَاثِ.
قَسَّمَهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا فُرُوضَهُ، وَحِصَّةَ كُلِّ وَارِثٍ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِدُونِ مُقَابِلٍ، وَكَسْبٌ إِجْبَارِيٌّ. وَالنُّفُوسُ مُتَطَلِّعَةٌ إِلَيْهِ فَتَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ، وَحَرَّمَ الْغُلُولَ فِيهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ.
وَمَثَلُ هَذَا الْمَالِ هُوَ الَّذِي أَلِفُوا قِسْمَتَهُ مَغْنَمًا، وَالَّذِي بَذَلُوا النُّفُوسَ وَالْمُهَجَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَإِذَا بِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ، وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَيُقَسَّمُ الْمَنْقُولُ فَقَطْ، وَلَا يُقَسَّمُ الْعَقَارُ الثَّابِتُ، وَيُقَالُ لَهُمْ: حَدَثَ هَذَا كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ سَوَاءٌ الْأَغْنِيَاءُ بِأَبْدَانِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَعَلَى الْجِهَادِ أَوِ الْأَغْنِيَاءُ بِأَمْوَالِهِمْ بِمَا حَصَّلُوهُ مِنْ مَغَانِمَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَكَانَ لَابُدَّ لِنُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ تَتَحَرَّكَ نَحْوَ هَذَا الْمَالِ، وَفِعْلًا نَاقَشُوا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ - وَلَكِنْ هُنَا يَأْتِي سَوْطُ الطَّاعَةِ الْمُسَلَّتُ، وَأَمْرُ التَّشْرِيعِ الْمُسَكِّتُ إِنَّهُ عَنِ اللَّهِ أَتَاكُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي جَمِيعِ التَّشْرِيعِ إِلَّا أَنَّهَا هُنَا أَخَصُّ، وَهِيَ بِهِ أَقْرَبُ، وَالْمَقَامُ إِلَيْهَا أَحْوَجُ.
وَهُنَا يَنْتَقِلُ بِنَا الْقَوْلُ إِلَى مَا آتَانَا بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي هَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ أَيْ: مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَمْوَالِ.
لَقَدْ جَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارُ يُؤْثِرُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَقَدْ أَعَانَهُمُ اللَّهُ عَلَى شُحِّ نُفُوسِهِمْ، فَمُجْتَمَعُهُمْ مُجْتَمَعُ بَذْلٍ وَإِعْطَاءٍ وَتَضْحِيَةٍ
(وَابْنِ السَّبِيلِ) : الْمُنْقَطِعُ فِي سَفَرِهِ، وَهَذَا تَأْمِينٌ لِلْمُوَاصَلَاتِ.
فَكَانَ مَصْرِفُهُ بِهَذَا الْعُمُومِ دُونَ اخْتِصَاصِ شَخْصٍ بِهِ أَوْ طَائِفَةٍ: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.
وَإِنَّهُ لَمِنْ مَوَاطِنِ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ هَذَا التَّشْرِيعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ [٥٩ ٧] ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ فِي أَمْرٍ يَمَسُّ الْوَتَرَ الْحَسَّاسَ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ مَوْطِنُ الشُّحِّ وَالْحِرْصِ أَلَا وَهُوَ كَسْبُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ صِنْوُ النَّفْسِ، وَالَّذِي تَوَلَّى اللَّهُ قِسْمَتَهُ فِي أَهَمِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْمِيرَاثِ.
قَسَّمَهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا فُرُوضَهُ، وَحِصَّةَ كُلِّ وَارِثٍ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِدُونِ مُقَابِلٍ، وَكَسْبٌ إِجْبَارِيٌّ. وَالنُّفُوسُ مُتَطَلِّعَةٌ إِلَيْهِ فَتَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ، وَحَرَّمَ الْغُلُولَ فِيهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ.
وَمَثَلُ هَذَا الْمَالِ هُوَ الَّذِي أَلِفُوا قِسْمَتَهُ مَغْنَمًا، وَالَّذِي بَذَلُوا النُّفُوسَ وَالْمُهَجَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَإِذَا بِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ، وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَيُقَسَّمُ الْمَنْقُولُ فَقَطْ، وَلَا يُقَسَّمُ الْعَقَارُ الثَّابِتُ، وَيُقَالُ لَهُمْ: حَدَثَ هَذَا كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ سَوَاءٌ الْأَغْنِيَاءُ بِأَبْدَانِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَعَلَى الْجِهَادِ أَوِ الْأَغْنِيَاءُ بِأَمْوَالِهِمْ بِمَا حَصَّلُوهُ مِنْ مَغَانِمَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَكَانَ لَابُدَّ لِنُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ تَتَحَرَّكَ نَحْوَ هَذَا الْمَالِ، وَفِعْلًا نَاقَشُوا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ - وَلَكِنْ هُنَا يَأْتِي سَوْطُ الطَّاعَةِ الْمُسَلَّتُ، وَأَمْرُ التَّشْرِيعِ الْمُسَكِّتُ إِنَّهُ عَنِ اللَّهِ أَتَاكُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي جَمِيعِ التَّشْرِيعِ إِلَّا أَنَّهَا هُنَا أَخَصُّ، وَهِيَ بِهِ أَقْرَبُ، وَالْمَقَامُ إِلَيْهَا أَحْوَجُ.
وَهُنَا يَنْتَقِلُ بِنَا الْقَوْلُ إِلَى مَا آتَانَا بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي هَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ أَيْ: مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَمْوَالِ.
لَقَدْ جَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارُ يُؤْثِرُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَقَدْ أَعَانَهُمُ اللَّهُ عَلَى شُحِّ نُفُوسِهِمْ، فَمُجْتَمَعُهُمْ مُجْتَمَعُ بَذْلٍ وَإِعْطَاءٍ وَتَضْحِيَةٍ
34
وَإِيثَارٍ، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ كَانَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَهُ الضَّيْفُ فَلَا يَجِدُ لَهُ قِرًى فِي بَيْتِهِ، فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: «مَنْ يُضَيِّفُ هَذَا، اللَّيْلَةَ وَلَهُ الْجَنَّةُ؟» فَيَأْخُذُهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَيَأْتِيهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يَطْلُبُونَهُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، فَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، فَيَتَوَلَّوْنَ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَأْتِيهِ الْقَدَحُ مِنَ اللَّبَنِ، فَيَدْعُو: «يَا أَهْلَ الصُّفَّةِ» لِيُشَارِكُوهُ إِيَّاهُ لِقِلَّةِ مَا عِنْدَهُمْ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيُصْرَعُ عَلَى بَابِهِ مِنَ الْجُوعِ، بَيْنَمَا الْعَدِيدُ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَوُو يَسَارٍ، مِنْهُمْ مَنْ يُجَهِّزُ الْجَيْشَ مِنْ مَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِالْقَافِلَةِ كَامِلَةً وَمَا فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِخِيَارِ بَسَاتِينِ الْمَدِينَةِ، وَمِنْهُمْ، فَلَمْ يَأْخُذْ قَطُّ وَلَا دِرْهَمًا وَاحِدًا مِمَّنْ تَصَدَّقَ بِقَافِلَةٍ كَامِلَةٍ وَمَا تَحْمِلُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ دِرْهَمًا بِدُونِ رِضَاهُ، لِيُشَارِكَ مَعَهُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَلَا مِمَّنْ تَصَدَّقَ بِبُسْتَانِهِ صَاعَ تَمْرٍ يُعْطِيهِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، يَسُدُّ مَسْغَبَتَهُ، وَلَا بَعِيرًا وَاحِدًا مِمَّنْ جَهَّزَ جَيْشًا مِنْ مَالِهِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مُتَطَوِّعًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
إِنَّهَا أَمْوَالٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَأَمْلَاكٌ مُسْتَقِرَّةٌ خَاصَّةٌ بِأَصْحَابِهَا، فَهُنَاكَ غَنِيمَةٌ وَفَيْءٌ أُخِذَ بِقُوَّةِ الْأُمَّةِ وَمَدَدِهَا لِلْجَيْشِ، جُعِلَ فِي مَصَارِفَ عَامَّةٍ لِلْأُمَّةِ وَلِلْجَيْشِ، وَهُنَا أَمْوَالٌ خَاصَّةٌ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ تُلْمَسْ، إِلَّا بِرِضَى نَفْسٍ وَطِيبِ خَاطِرٍ، وَلِذَا كَانُوا يَجُودُونَ وَلَا يَبْخَلُونَ، وَيَعْطُونَ وَلَا يَشُحُّونَ، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَكَانَ مُجْتَمَعًا مُتَكَافِلًا مُؤْتَلِفًا مُتَعَاطِفًا وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذَا الْمُجْتَمَعِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مُجْتَمَعِ الْمَدِينَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [٥٩ ٨]، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَلَامٌ مُقْنِعٌ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [٤٣ ٣٢]، نَسُوقُ نَصَّهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ:
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَسْأَلَةٌ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الْآيَةَ [١٦ ٧١]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَتَّةَ تَبْدِيلَهَا، وَلَا تَحْوِيلَهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [٣٥ ٤٣] وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ مَا يَتَذَرَّعُ بِهِ الْآنَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ وَلِجَمِيعِ
إِنَّهَا أَمْوَالٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَأَمْلَاكٌ مُسْتَقِرَّةٌ خَاصَّةٌ بِأَصْحَابِهَا، فَهُنَاكَ غَنِيمَةٌ وَفَيْءٌ أُخِذَ بِقُوَّةِ الْأُمَّةِ وَمَدَدِهَا لِلْجَيْشِ، جُعِلَ فِي مَصَارِفَ عَامَّةٍ لِلْأُمَّةِ وَلِلْجَيْشِ، وَهُنَا أَمْوَالٌ خَاصَّةٌ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ تُلْمَسْ، إِلَّا بِرِضَى نَفْسٍ وَطِيبِ خَاطِرٍ، وَلِذَا كَانُوا يَجُودُونَ وَلَا يَبْخَلُونَ، وَيَعْطُونَ وَلَا يَشُحُّونَ، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَكَانَ مُجْتَمَعًا مُتَكَافِلًا مُؤْتَلِفًا مُتَعَاطِفًا وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذَا الْمُجْتَمَعِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مُجْتَمَعِ الْمَدِينَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [٥٩ ٨]، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَلَامٌ مُقْنِعٌ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [٤٣ ٣٢]، نَسُوقُ نَصَّهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ:
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَسْأَلَةٌ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الْآيَةَ [١٦ ٧١]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَتَّةَ تَبْدِيلَهَا، وَلَا تَحْوِيلَهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [٣٥ ٤٣] وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ مَا يَتَذَرَّعُ بِهِ الْآنَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ وَلِجَمِيعِ
35
النُّبُوَّاتِ وَالرَّسَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ إِلَى ابْتِزَازِ ثَرَوَاتِ النَّاسِ وَنَزْعِ مِلْكِهِمِ الْخَاصِّ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ، بِدَعْوَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ، أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ الَّذِي يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ اسْتِئْثَارَهُمْ بِأَمْلَاكِ جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِيَنْعَمُوا بِهَا وَيَتَصَرَّفُوا فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا تَحْتَ سِتَارٍ كَثِيفٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْغُرُورِ وَالْخِدَاعِ، كَمَا يَتَحَقُّقُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مُطَّلِعٍ عَلَى سِيرَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَعَ الْمُجْتَمَعِ فِي بِلَادِهِمْ.
فَالطُّغْمَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَاكِمَةُ وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا هُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ بِجَمِيعِ خَيْرَاتِ الْبِلَادِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَامَّةِ الشَّعْبِ مَحْرُومُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، مَظْلُومُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى مَا كَسَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، يُعْلَفُونَ بِبِطَاقَةٍ كَمَا تُعْلَفُ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ.
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَأْتِي نَاسٌ يَغْتَصِبُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ، وَهَذَا غَنِيٌ، وَقَدْ نَهَى جَلَّ وَعَلَا عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِتِلْكَ الدَّعْوَى، وَأَوْعَدَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [٤ ١٣٥]، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. انْتَهَى حَرْفِيًّا.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَرْزَاقَ قِسْمَةُ الْخَلَّاقِ، فَهُوَ أَرْأَفُ بِالْعِبَادِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسَ فِي خَزَائِنِهِ مِنْ نَقْصٍ وَلَكِنَّهَا الْحِكْمَةُ لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ»، فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُعْطِي بِقَدَرٍ، وَلَا يُمْسِكُ عَنْ قَتَرٍ.
وَيَكْفِي فِي هَذَا الْمَقَامِ سِيَاقُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي أُسْلُوبِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا [٤٣ ٣٢]، وَهَذَا الضَّمِيرُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَمِثْلُهُ الضَّمِيرُ فِي «قَسَمْنَا»، فَلَا مَجَالَ لِتَدَخُّلِ الْمَخْلُوقِ، وَلَا مَكَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ. وَالْقِسْمَةُ إِذَا كَانَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَقْوَى قُوَّةٌ فِي الْأَرْضِ عَلَى إِبْطَالِهَا، ثُمَّ إِنَّ وَاقِعَ الْحَيَاةِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ بَلْ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [٤٣ ٣٢].
وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، وَيُقِرُّونَ نِظَامَ الطَّبَقَاتِ عُمَّالًا وَغَيْرَ عُمَّالٍ، إِلَخْ، فَلَا دَلِيلَ فِي آيَةِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» هُنَا: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ
فَالطُّغْمَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَاكِمَةُ وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا هُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ بِجَمِيعِ خَيْرَاتِ الْبِلَادِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَامَّةِ الشَّعْبِ مَحْرُومُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، مَظْلُومُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى مَا كَسَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، يُعْلَفُونَ بِبِطَاقَةٍ كَمَا تُعْلَفُ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ.
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَأْتِي نَاسٌ يَغْتَصِبُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ، وَهَذَا غَنِيٌ، وَقَدْ نَهَى جَلَّ وَعَلَا عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِتِلْكَ الدَّعْوَى، وَأَوْعَدَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [٤ ١٣٥]، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. انْتَهَى حَرْفِيًّا.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَرْزَاقَ قِسْمَةُ الْخَلَّاقِ، فَهُوَ أَرْأَفُ بِالْعِبَادِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسَ فِي خَزَائِنِهِ مِنْ نَقْصٍ وَلَكِنَّهَا الْحِكْمَةُ لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ»، فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُعْطِي بِقَدَرٍ، وَلَا يُمْسِكُ عَنْ قَتَرٍ.
وَيَكْفِي فِي هَذَا الْمَقَامِ سِيَاقُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي أُسْلُوبِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا [٤٣ ٣٢]، وَهَذَا الضَّمِيرُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَمِثْلُهُ الضَّمِيرُ فِي «قَسَمْنَا»، فَلَا مَجَالَ لِتَدَخُّلِ الْمَخْلُوقِ، وَلَا مَكَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ. وَالْقِسْمَةُ إِذَا كَانَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَقْوَى قُوَّةٌ فِي الْأَرْضِ عَلَى إِبْطَالِهَا، ثُمَّ إِنَّ وَاقِعَ الْحَيَاةِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ بَلْ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [٤٣ ٣٢].
وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، وَيُقِرُّونَ نِظَامَ الطَّبَقَاتِ عُمَّالًا وَغَيْرَ عُمَّالٍ، إِلَخْ، فَلَا دَلِيلَ فِي آيَةِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» هُنَا: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ
36
وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا فَعَلُوا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِهَذَا الْمَبْدَأِ الْبَاطِلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمُقَدِّمَةِ: إِنَّ السُّنَةَ كُلَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَيْ: أَنَّهَا مُلْزِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِالسُّنَّةِ أَخْذًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [٥٣ ٣ - ٤].
وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْوَحْيُ وَحْيَانِ:
وَحْيٌ أُمِرْنَا بِكِتَابَتِهِ، وَتَعَبَّدْنَا بِتِلَاوَتِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
وَوَحْيٌ لَمْ نُؤْمَرْ بِكِتَابَتِهِ، وَلَمْ نَتَعَبَّدْ بِتِلَاوَتِهِ وَهُوَ السُّنَّةُ.
وَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخَلَفُهَا، كَمَا جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَجْلِسِهِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: لَعَنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ دَفَّتِهِ إِلَى دَفَّتِهِ، فَلَمْ أَجِدْ هَذَا الَّذِي قُلْتَ، فَقَالَ لَهَا: لَوْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَوَجَدْتِيهِ، أَوْ لَمْ تَقْرَئِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَمَنْ لَعَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَدْ لَعَنَهَا اللَّهُ، فَقَالَتْ لَهُ: لَعَلَّ بَعْضَ أَهْلِكِ يَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ لَهَا: ادْخُلِي وَانْظُرِي فَدَخَلَتْ بَيْتَهُ، ثُمَّ خَرَجَتْ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا: مَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، وَانْصَرَفَتْ.
وَجَاءَ الشَّافِعِيُّ وَقَامَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: سَلُونِي يَا أَهْلَ مَكَّةَ عَمَّا شِئْتُمْ أُجِبْكُمْ عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ مَاذَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ، وَحَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَسَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، سُئِلَ: الْمُحْرِمُ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ مَاذَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
فَقَدِ اعْتَبَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ السُّنَّةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْقُرْآنِ، وَاعْتَبَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَوَابَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمُقَدِّمَةِ: إِنَّ السُّنَةَ كُلَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَيْ: أَنَّهَا مُلْزِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِالسُّنَّةِ أَخْذًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [٥٣ ٣ - ٤].
وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْوَحْيُ وَحْيَانِ:
وَحْيٌ أُمِرْنَا بِكِتَابَتِهِ، وَتَعَبَّدْنَا بِتِلَاوَتِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
وَوَحْيٌ لَمْ نُؤْمَرْ بِكِتَابَتِهِ، وَلَمْ نَتَعَبَّدْ بِتِلَاوَتِهِ وَهُوَ السُّنَّةُ.
وَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخَلَفُهَا، كَمَا جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَجْلِسِهِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: لَعَنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ دَفَّتِهِ إِلَى دَفَّتِهِ، فَلَمْ أَجِدْ هَذَا الَّذِي قُلْتَ، فَقَالَ لَهَا: لَوْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَوَجَدْتِيهِ، أَوْ لَمْ تَقْرَئِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَمَنْ لَعَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَدْ لَعَنَهَا اللَّهُ، فَقَالَتْ لَهُ: لَعَلَّ بَعْضَ أَهْلِكِ يَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ لَهَا: ادْخُلِي وَانْظُرِي فَدَخَلَتْ بَيْتَهُ، ثُمَّ خَرَجَتْ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا: مَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، وَانْصَرَفَتْ.
وَجَاءَ الشَّافِعِيُّ وَقَامَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: سَلُونِي يَا أَهْلَ مَكَّةَ عَمَّا شِئْتُمْ أُجِبْكُمْ عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ مَاذَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ، وَحَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَسَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، سُئِلَ: الْمُحْرِمُ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ مَاذَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
فَقَدِ اعْتَبَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ السُّنَّةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْقُرْآنِ، وَاعْتَبَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَوَابَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
37
وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ يُخَصِّصُونَ بِهَا عُمُومَ الْكِتَابِ، وَيُقَيِّدُونَ مُطْلَقَهُ.
فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ» فَخَصَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [٥ ٣]، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا»، وَخُصَّ بِهَا عُمُومُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [٤ ٢٤]، وَنَحْوَهُ كَثِيرٌ.
وَمِنَ الثَّانِي: قَطْعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [٥ ٣٨]، وَكَذَلِكَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فِي التَّيَمُّمِ تَقْيِيدًا أَوْ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [٥ ٦]، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ كَبَيَانِ مُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [٢ ٤٣]، فَلَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ لِكُلِّ وَقْتٍ، وَلَا كَيْفِيَّةَ الْأَدَاءِ فَصَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَحَجَّ وَقَالَ لَهُمْ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السُّنَةَ أَقْوَالٌ، وَأَفْعَالٌ، وَتَقْرِيرٌ، وَقَدْ أَلْزَمَ الْعَمَلَ بِالْأَفْعَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ ٢١]، وَالتَّأَسِّي يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ، وَلَكِنَّهُ فِي الْفِعْلِ أَقْوَى، وَالتَّقْرِيرُ مُنْدَرِجٌ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَالتَّرْكُ فِعْلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ:
وَالتَّرْكُ فِعْلٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ
تَنْبِيهٌ
تَنْقَسِمُ أَفْعَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:
أَوَّلًا: مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ، وَهُوَ مُتَطَلَّبَاتُ الْحَيَاةِ مِنْ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَلُبْسٍ، وَنَوْمٍ، فَهَذَا كُلُّهُ يَفْعَلُهُ اسْتِجَابَةً لِمُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ، وَكَانَ يَفْعَلُهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَيَفْعَلُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَشْرِيعٌ جَدِيدٌ، وَلَكِنْ صُورَةُ الْفِعْلِ، وَكَيْفِيَّتُهُ كَكَوْنِ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ بِالْيَمِينِ إِلَخْ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَمَامِ الْآكِلِ، فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ التَّأَسِّي بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ نَوْعُ الْمَأْكُولِ أَوْ تَرْكُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِمَانِعٍ كَعَدَمِ أَكْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلضَّبِّ وَالْبُقُولِ الْمَطْبُوخَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَرْضِ قَوْمِهِ فَكَانَ يَعَافُهُ، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يُنَاجِي مَنْ لَا نُنَاجِي، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي:
فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ» فَخَصَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [٥ ٣]، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا»، وَخُصَّ بِهَا عُمُومُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [٤ ٢٤]، وَنَحْوَهُ كَثِيرٌ.
وَمِنَ الثَّانِي: قَطْعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [٥ ٣٨]، وَكَذَلِكَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فِي التَّيَمُّمِ تَقْيِيدًا أَوْ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [٥ ٦]، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ كَبَيَانِ مُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [٢ ٤٣]، فَلَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ لِكُلِّ وَقْتٍ، وَلَا كَيْفِيَّةَ الْأَدَاءِ فَصَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَحَجَّ وَقَالَ لَهُمْ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السُّنَةَ أَقْوَالٌ، وَأَفْعَالٌ، وَتَقْرِيرٌ، وَقَدْ أَلْزَمَ الْعَمَلَ بِالْأَفْعَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ ٢١]، وَالتَّأَسِّي يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ، وَلَكِنَّهُ فِي الْفِعْلِ أَقْوَى، وَالتَّقْرِيرُ مُنْدَرِجٌ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَالتَّرْكُ فِعْلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ:
وَالتَّرْكُ فِعْلٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ
تَنْبِيهٌ
تَنْقَسِمُ أَفْعَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:
أَوَّلًا: مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ، وَهُوَ مُتَطَلَّبَاتُ الْحَيَاةِ مِنْ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَلُبْسٍ، وَنَوْمٍ، فَهَذَا كُلُّهُ يَفْعَلُهُ اسْتِجَابَةً لِمُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ، وَكَانَ يَفْعَلُهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَيَفْعَلُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَشْرِيعٌ جَدِيدٌ، وَلَكِنْ صُورَةُ الْفِعْلِ، وَكَيْفِيَّتُهُ كَكَوْنِ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ بِالْيَمِينِ إِلَخْ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَمَامِ الْآكِلِ، فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ التَّأَسِّي بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ نَوْعُ الْمَأْكُولِ أَوْ تَرْكُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِمَانِعٍ كَعَدَمِ أَكْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلضَّبِّ وَالْبُقُولِ الْمَطْبُوخَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَرْضِ قَوْمِهِ فَكَانَ يَعَافُهُ، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يُنَاجِي مَنْ لَا نُنَاجِي، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي: