ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ الآية تفسيرها قد تقدم في مواضع.٢ - ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ أجمعوا على أن هذا في بني النضير، وهم قوم من اليهود كانوا بالمدينة، غدروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن عاهدوا وصاروا عليه مع المشركين يدًا واحدة، فحاصرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى رضوا بالجلاء وذلك بعد وقعة بدر بستة أشهر، قاله الزهري (١).
وقال محمد بن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحد (٢)، وقد ذكر الله ذلك القصة في هذه السورة وهي تأتي على التوالي في تفسير الآيات.
قوله: ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ ذكر المفسرون فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن جلاءهم ذلك كان أول حشر في الدنيا إلى الشام، قاله
(٢) انظر: "تاريخ الأمم والملوك" ٢/ ٨٣، و"البداية والنهاية" ٤/ ٧٤، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٩ عن قتادة. وقال ابن حجر عن قول الزهري السابق: فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه -صلى الله عليه وسلم- أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي، فالله اعلم. "فتح الباري" ٧/ ٣٣.
والمعنى على هذا القول: أنهم أجلوا إلى الشام فكان ذلك أول حشر حشروا إلى الشام يوم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام.
القول الثاني: أنهم أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب، وكان ذلك أول حشر من المدينة والحشر الثاني كان من خيبر وجزيرة العرب، وهذا قول المقاتلين، ومرة الهمداني، عن ابن عباس (٣).
القول الثالث: ما قال قتادة: كان ذلك أول الحشر، والحشر الثاني نارُ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وهو قول عبد الله بن عمرو (٤)، وذكر أن تلك النار تُرى
(٢) أخرجه البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن عكرمة، عن ابن عباس، انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٨٧ أ، وانظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٣٢.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٨٧ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١٤، و"زاد المسير" ٨/ ٢٠٥.
(٤) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٢، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٨٧ أ، و"زاد المسير" ٨/ ٢٠٤، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٩، ولم أجده عن غير قتادة.
قوله: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾ قال ابن عباس: كان أمرهم في صدور المسلمين عظيمًا (٢)، والمعنى أن المسلمين ظنوا أنهم لعزتهم ومنعتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم، وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من الله، وهو قوله: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾.
ومراد قتادة رحمه الله بالنار التي تحشر الناس ما أخرجه مسلم في كتاب الفتن، من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري وفيه (.. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة (... وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا). انظر: "صحيح البخاري" كتاب: الرقاق، باب: الحشر. انظر: "صحيح مسلم"، كتاب: الجنة، باب: (٥٩)، وعند الحاكم، عن عبد الله بن عمرو رفعه: "تبعث نار على أهل المشرق فتحشرهم إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، ويكون لها ما سقط منهم وتخلّف، تسوقهم سوق الجمل الكبير". قال ابن حجر: وقد أشكل الجمع بين هذه الأخبار. وظهر لي في وجه الجمع أن كونها تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها. والمراد بقوله: "تحشر الناس من المشرق إلى المغرب" إرادة تعميم الحشر لا خصوص المشرق والمغرب، أو أنها بعد الانتشار أول ما تحشر أهل المشرق.. وأما جعل الغاية إلى المغرب فلأن الشام بالنسبة إلى المشرق مغرب. "فتح الباري" ١١/ ٣٧٨ - ٣٧٩ وهذه الأقوال ذكرها الآلوسي، ثم ضعف ما روي عن عكرمة، وضعف ما روي عن قتادة أيضًا، واختار أن يكون المراد بأول الحشر أن أول حشرهم إلى الشام، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزية العرب إلى الشام. "روح المعاني" ٢٨/ ٣٩.
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٩.
قوله تعالى: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ ذكر المفسرون في تخريبهم منازلهم ثلاثة أسباب:
أحدها: لما أيقنوا بالجلاء وحسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج، وهذا قول عكرمة، وقتادة (٣).
وقال مقاتل (٤): إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا ودربُوا (٥) على الأزقة وحصنُوها، فنقضوا بيوتهم يبنون بها على أفواه الأزقة ليحصنوها، وكان المسلمون إذا ظهروا على درب من دروبهم تأخر اليهود إلى وراء بيوتهم فنقبوها من أدبارها وخرب المسلمون ما ظهر عليهم من ديارهم ليتسع مجالهم للحرب، فذلك قوله: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ أنهم عَرضوا لذلك.
(٢) لم أجده عن ابن عباس، ولا عن غيره.
(٣) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٣، و"جامع البيان" ٢٨/ ٢٠ عن قتادة.
(٤) في (ك): (قتادة).
(٥) ولعلها (وردموا).
وقال محمد بن إسحاق: ذلك هدمهم عن نحف (٢) أبوابهم، وهو أنهم لما صالحوا على أن يحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل كان منهم من يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره (٣). وهذا قول الزهري. قال: كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه، أو الباب فيهدمون بيوتهم وينتزعونها ويحملونها على الإبل (٤).
وقراءة العامة ﴿يُخْرِبُونَ﴾ من الإخراب، وقرأ أبو عمرو مشددًا من التخريب (٥)، وكان يقول: الإخراب أن تترك الشيء خرابًا، والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا (٦)، وقال المبرد: ولا أعلم لهذا
(٢) النجف: هو العتبة، وهو الذي يستقبل الباب من أعلى العتبة. انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ١١٤، و"اللسان" ٣/ ٥٨٨ (نجف).
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٢١، و"البداية والنهاية" ٤/ ٨.
(٤) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٢، و"جامع البيان" ٢٨/ ٢١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١٥.
(٥) قرأ الجمهور (يُخْربون) بالتخفيف. وقرأ أبو عمرو (يُخَرِّبون) بالتشديد، ووافقه من غير العشرة الحسن، واليزيدي. انظر: "النشر" ٢/ ٣٨٦، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٤١٣.
(٦) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٨٣، و"حجة القراءات" ص ٧٠٥، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٨٧ ب.
وأخربت من أرض قومي ديارًا (٢)
وقال الفراء: (يخرِّبون) بالتشديد، يهدمون، وبالتخفيف يخرجون منها ويتركونها، ألا ترى أنهم كانوا ينقبون الدار فيعطلونها، فهذا معنى يخربون (٣).
قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ قال ابن عباس: يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر (٤)، وقال مقاتل: يعني يا أهل البصيرة في أمر الله (٥).
قال الفراء: ويقال يا أولي الأبصار: يا من عاين ذلك بعينه (٦).
ومعنى الاعتبار: النظر في أوائل الأمور وأواخرها وتدبرها ليعرف بالنظر فيها شيئًا آخر من جنسها (٧)، والمعنى: تدبروا وانظروا فيما نزل بهم
(٢) "ديوان الأعشى" ص ٨٤، و"الخزانة" ٥/ ٧٢، وصدره:
أقللْتَ قوْمًا وأعمرتهم
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٣.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩، ٢٨٢.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٤٧ أ.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٣.
(٧) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٨٢.
٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾ معنى الجلاء في اللغة: الخروج من الوطن والتحول منه، يقال منه: جلا القوم عن منازلهم. وتقول: أجليناهم عن بلادهم فجلوا (٢) كما قال الشاعر:
وأجلوا عن مساكن فارقوها | كما جلت الفراخ من العشاش (٣) |
قوله تعالى: ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ بالقتل والسبي، ولسلطكم عليهم كما فعل بقريظة (٤)، والمعنى: أنه رفع العذاب عنهم في الدنيا بالقتل وجعل عذابهم في الدنيا الجلاء ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ مع ما أحل بهم في الدنيا، وهذا معنى قول عامة المفسرين (٥).
٥ - قوله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ قال أبو عبيدة: اللينة: النخلة، ما لم تكن عجوة أو برنية، وأنشد لذي الرمة:
كأن قُتودي فوقَها عُشُّ طائر | علي لينةٍ فرواء تهفو جنوبها (٦) |
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٦، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ٣٧٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٤٨٨، و"اللسان" ١/ ٤٨٨ (جلل).
(٣) انظر: "الخزانة" ٩/ ٢٧١.
(٤) وهي الغزوة التي حكم فيها سعد بن معاذ بأن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم، وكانت بعد غزوة الأحزاب، وذلك لنقضهم العهد الذي بينهم وبين محمد -صلى الله عليه وسلم-، انظر: "تاريخ الطبري" ٢/ ٩٣ - ٩٨.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٢٢، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٣٢.
(٦) والبيت في "الديوان" ٢/ ٦٩٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ١٢١، ورواية الديوان: على=
قال المبرد: أصل الياء في لينة الواو، بمنزلة ريح، فإذا قلت ألوان رجعت الواو لذهاب الكسرة كما تقول ريح وأرواح (٢)، قال ذو الرمة:
طراق الخوافي واقع فوق لينة | ندى ليله في ريشة يترفرف (٣) |
وسالفه كسحون الليان | أضرم فيه الغوىَّ السعر (٤) |
والقتودي عيدان الرحل: أي أن الناقة طويلة يصغر الرحل عليها، وسوقاء: طويلة الساق، وتهفو: تضطرب.
(١) وهذا القول قول الزجاج. انظر:"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤٤، و"تهذيب اللغة" ١٥/ ٤٧٠، و"اللسان" ٣/ ٤٢٤ (لين). وانظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٥٦.
(٢) "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٨٢.
(٣) "ديوان ذي الرمة" ص ٧٩، و"الكتاب" ٧/ ١١٢، و"الخزانة" ٤/ ٢١.
(٤) انظر: "الديوان" ص ٣١٥.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٣، و"جامع البيان" ٢٨/ ٢٢، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٩١، و"فتح الباري" ٨/ ٦٢٩، وهو قول سعيد بن جبير، ويزيد بن رومان، وعكرمة، وابن عباس.
(٦) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٦٣، و"جامع البيان" ٢٨/ ٢٢، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٨٨ ب قال النحاس: وهذه الأقوال صحيحة، لأن الأصمعي حكى مثل القول الأول فيكون لجميع النخل، ويكون ما قطعوا منها مخصوصًا فتتفق الأقوال. "إعراب القرآن" ٣/ ٣٩٢.
قال المفسرون: لما حصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني النضير وتحصنوا بحصونهم، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فشق ذلك على اليهود، وجزعوا، وأكثروا القول، وقالوا: أين وجدت فيما أنزل عليك الفساد في الأرض وأخذ المسلمون من ذلك دمامة (٢)، فأنزل الله هذه الآية (٣).
وروي عن ابن عباس قال: أمروا بقطع النخل فحك في صدورهم، فقال المسلمون: قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا ولنسألن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل لنا فيما قطعناه من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر، فأنزل الله هذه الآية (٤).
قال أبو إسحاق: فأعلم الله أن ذلك بإذنه، وإليه القطع والترك جميعًا (٥).
وقال قتادة: نزلت الآية لاختلاف كان بين المسلمين في قطعها وتركها.
قال مجاهد: نهى بعض المسلمين بعضًا عن قطع النخل، وقالوا:
(٢) أي: غضب مما فعلوا. "اللسان" ١/ ١٠١٥ (دمم).
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٢٣، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٨١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١٥.
(٤) أخرجه الترمذي (٣٣٠٣) كتاب: التفسير: تفسير سورة الحشر، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والنسائي ٦/ ٤٨٣ كتاب: التفسير، و"الدر" ٦/ ١٨٧.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤٥.
قوله: ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ يعني اليهود، قال مقاتل: كان قطع النخل ذلاً لهم وهوانًا (٢).
وقال ابن حيان: كان ذلك خزيًا لبني النضير (٣).
وقال الزجاج ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ أن يريهم بأموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا (٤)، والتقدير: وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (٥).
٦ - قوله: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾ قال المبرد: يقال فاء يفيء إذا رجع، وأفاءه الله إذا رده (٦).
وقال الأزهري: الفيء ما رد الله على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال، إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين، وإما أن يصالحوا على جزية يؤدونها عن رؤوسهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم (٧) كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن لكل ثلاثة منهم ما وسق (٨) بعير مما شاءوا سوى السلاح ويتركوا الباقي.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٤٧ ب.
(٣) لم أجده، في الأصل (يريهم).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤٥.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٨/ ٢٠٨.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٨٤.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٧٨ (فاء).
(٨) الأصل في الوسق: الحمل، وكل شيء وسقته فقد حملته. "اللسان" ٣/ ٩٢٦ (وسق).
وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ أي من يهود بني النضير.
قوله: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ﴾ يقال وجف الفرس والبعير يجف وجفًا ووجيفًا ووجفانًا (١). قال العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا (٢)
وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع، وهما مثال الإيضاع (٣).
وقوله: ﴿عَلَيْهِ﴾ أي على ما أفاء الله.
قوله: ﴿وَلَا رِكَابٍ﴾ الركاب الإبل، واحدتها راحلة، ولا واحد لها في لفظها (٤).
قال الفراء: الركاب الإبل التي تحمل القوم، وهي ركاب القوم إذا حملت وأريد العمل عليها، وهو اسم جماعة لا يفرد (٥).
قال المفسرون: إن بني النضير لما جلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون من رسول الله أن يخمسها كما فعل بغنائم بدر،
(٢) انظر: "ملحقات ديوان العجاج" ص ٨٤، و"الكتاب مع شواهده" للأعلم ١/ ١٨٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٧٨.
(٣) انظر: "اللسان" ٣/ ٨٨٢، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٦٠.
(٤) "اللسان" ١/ ١٢١٣ (ركب).
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٤، و"تهذيب اللغة" ١٠/ ٢١٩ (ركب)، ونسبه لليث.
فإن قيل: أموال النضير أخذت بعد القتال، لأنهم حوصروا أيامًا وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء، قيل: إن الله تعالى خص نبيه بفيء بني النضير وجعل أموالهم له فيئًا فهو مخصوص بهذا (٥)، وأما سائر الأئمة فليس لهم أن يحكموا في مال بحكم الفيئ إلا إذا حصل بلا إيجاف خيل ولا ركاب وبلا قتال.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٧ ب، و"جامع البيان" ٢٨/ ٢٤.
(٣) في (ك): (وكان).
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١٤٩ (غنم)، ١٥/ ٥٧٨ (فاء)، و"المغني" ٩/ ٢٨٣.
(٥) قال السهيلي: ولم يختلفوا في أن أموال بني النضير كانت خاصة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن المسلمين لم يوجفوا عليهم بخيل ولا ركاب، وأنه لم يقع بينهم قتال أصلاً. "فتح الباري" ٧/ ٣٣. قلت: وتخصيص الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأموال بني النضير هو الثابت عن عمر ابن الخطاب؟ وعمن حضر مجلسه من كبار الصحابة رضوان الله عليهم. انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير ٥/ ١١٣، و"فتح الباري" ٤/ ٣٣٧ - ٣٣٥، و"صحيح مسلم بشرح النووي" ١٢/ ٧١، والحديث مخرج في الكتب الستة، وغيرها.
ثم وكد ذلك بقول ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ فكان في ذلك زيادة شرح لإحراز جميع الفيئ لرسوله دون أصحابه (١).
قال المفسرون: فجعل الله أموال بني النضير لرسوله -صلى الله عليه وسلم- خاصة يفعل فيها ما يشاء، فقسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة (٢)، وسهل بن حنيف (٣)، والحرث (٤) بن الصمة (٥).
(٢) أبو دجانة سماك بن أوس، بن خرشة الأنصاري الخزرجي، شهد بدرًا، وأحدًا، واليمامة وقتل بها. وهو قاتل مسيلمة الكذاب مع وحشي بن حرب رضي الله عنهما. انظر: "المعارف" ص ٢٧١، و"البداية والنهاية" ٦/ ٣٣٧.
(٣) سهل بن حنيف الأوسي، حضر المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشهد مع علي بن أبي طالب مشاهده كلها غير الجمل، فإنه كان قد استخلفه على المدينة، توفي سنة (٣٨ هـ) بالكوفة، وصلى عليه علي رضي الله عنهما. انظر: "المعارف" ص ٢٩١، و"البداية والنهاية" ٧/ ٣١٨.
(٤) الحارث بن الصمة، أبو سعد: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين صهيب بن سنان، شهد أحدًا وثبت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وشهد يوم بئر معونه، وقتل يومئذ شهيدًا في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة. انظر: "طبقات ابن سعد" ٣/ ٥٠٨.
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٨٩ ب، ذكره بغير سند، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١٦، و"زاد المسير" ٨/ ٢٠٩.
وهو المنقول عن السهيلي، واقتصر ابن إسحاق، وابن هشام، وابن سيد الناس، =
﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ يعني بني هاشم، وبني المطلب لأنهم قد منعوا الصدقة فجعل لهم حق في الفي.
﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ قال العلماء من أصحابنا في بيان حكم هذه الآية: كان الفيء في زمان رسول الله مقسومًا على خمسة أسهم،
ومن هذا ما رواه الحاكم في الإكليل، من حديث أم العلاء، قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار لما فتح النضير: "إن أحببتم قسمت بينكم ما أفاء الله علي، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم وإن أحببتم أعيكتهم وفرجوا عنكم"، فاختاروا الثاني. "فتح الباري" ٧/ ٣٣٣.
(١) قريظة: حي من اليهود، كانوا يسكنون المدينة، وكان بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد فنقضوه، وحاصرهم -صلى الله عليه وسلم- خمساً وعشرين ليلة ثم نزلوا على حكمه. "سيرة ابن هشام" ٣/ ٢٤٧.
(٢) خيبر: الموضع المذكور في غزاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بينها وبين المدينة المنورة ثمانية برد على طريق الشام، ويطلق هذا الاسم على الولاية، وتشتمل على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير.
انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٤٠٩.
أحدهما: أنه للمجاهدين المرصدين (٢) للقتال في الثغور، لأنهم قاموا مقام رسول الله في رباط الثغور.
القول الثاني: أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور، وحفر الأنهار، وبناء القناطر يبدأ بالأهم فالأهم، هذا في الأربعة الأخماس التي كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما السهم الذي كان له في خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف (٣).
قوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ أي ما أفاء الله لهؤلاء الذين ذكرهم كي لا يكون دولة، وهي اسم الشيء يتداوله القوم بينهم يكون لذا مرة ولذا مرة.
والدَّوْلة بالفتح: انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم، والدُّولى بالضم:
(٢) في (ك): (المترصدين).
(٣) انظر: "المغني" ٩/ ٢٩٩ وقد احتج الجمهور بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحديث الصحيح: "... فكانت هذه خالصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم... " الحديث. ولم يوجبوا الخمس في الفيء، بل قالوا: مصرف الفيء كله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال ابن المنذر: "لا نعلم أحدًا قبل الشافعي قال بالخمس في الفيء، وقد تأول -رحمه الله- قول عمر المذكور بأنه يريد الأخماس الأربعة. انظر: "مسلم بشرح النووي" ١٢/ ٦٩، و"فتح الباري" ٦/ ٢٠٨.
قال الفراء: المعنى: كيلا يكون الفيء دولة بين الرؤساء منكم يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية (٢)، قال مقاتل: يعني يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم (٣)، وقال الفراء: ونزل في الرؤساء ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٤).
قال ابن عباس: يقول ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه فهو لكم حلال، وما نهاكم عنه فانتهوا (٥)، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في أمر الفيء ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ على ما نهاكم عنه الرسول، وهذا نازل في أمر الفيء فهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكثر من الصحابة احتجوا على أن أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- وزواجره كلها من القرآن (٦)، أن الله تعالى قال: ما أعطاكم وأباح لكم فخذوه، وما منعكم عنه فاتركوه، وكل ما يفعله بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنما يفعله بأمر الله، وهو أمرنا بذلك أمرًا مطلقًا، وكذلك
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٤٨ أ.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٥.
(٥) انظر: "تنوير المقياس" ٦/ ٣٢، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٩٣ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١٨، ولم ينسبوه لقائل.
(٦) في (ك): (القرآن كلها).
قال مقاتل: ثم ذكر أن الفيء للفقراء المهاجرين (٢).
٨ - قال أبو إسحاق: بين المساكين الذين لهم الحق بقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ (٣) يعني أن قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ بدل من قوله للمساكين في الآية الأولى، وأنه عني بالمساكين هؤلاء ﴿الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾، يعني أن كفار مكة أحوجوهم (٤) إلى الخروج، فهم الذين أخرجوهم.
قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ قال مقاتل: يعني رزقًا في الجنة ﴿وَرِضْوَانًا﴾ رضا ربهم (٥).
قال ابن عباس: ابتغوا فضل الله واختاروا رضوان الله على الدور والأموال فقبل الله ذلك منهم، وشكر سعيهم وسماهم الصادقين في قوله:
انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: وما آتاكم الرسول فخذوه، ٦/ ١٨٤، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٩٦، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٣٦، و"روح المعاني" ٢٨/ ٥٠.
وقال الشوكاني: والحق أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمر أو نهي أو ترك أو فعل، وإن كان السبب خاصًا، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصلنا إليه... وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها. "فتح القدير" ٥/ ٢٧٨.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٨ أ.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤٥.
(٤) (ك): (أحوجهم).
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٨ أ.
٩ - قال مقاتل: ثم ذكر الأنصار وأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ جعله للمهاجرين دونهم فقال: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يعني المدينة، وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، وتقدير الآية: والذين تبوؤا الدار من قبلهم والإيمان، لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين، وهذا قول مقاتل (٢). وعطف الإيمان على الدار، ولا يحسن إعمال الفعل الذي نصب الدار في الإيمان، ولكن المعنى، وآثروا الإيمان، هو من باب علفتها تبنًا وماء بارداً، وأكلت الخبز واللبن، وقد مر في مواضع.
وقال أبو علي الفارسي: ومعنى الآية: تبوأوا الدار واعتقدوا الإيمان، لأن الإيمان ليس بمكان فيتبوأ فيكون كقوله: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ [يونس: ٧١] على معنى: وأعدوا شركاءكم، ويجوز أن يكون تبوأوا الإيمان على طريق المثل كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم، وعلى ذلك قول الشاعر:
وبُؤّئت في صميم معشرها | فتم في قومها مبوؤها (٣) |
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ قال
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٨ أ.
(٣) البيت لابن هرمة. انظر: "اللسان" ١/ ٢٨٤ (بوأ) ولم ينسبه لقائل، و"مجاز القرآن" ١/ ٢١٨، و"شواهد المعنى" ص ٢٧٩.
(٤) انظر: "البحر المحيط" ٨/ ٢٤٧.
قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ يقال: آثرتك إيثارًا، أي: فضلتك، وآثره بكذا إذا خصه به وفضله من بين الناس (٢)، ومفعول الإيثار محذوف والتقدير: ويؤثرونهم على أنفسهم، قال المفسرون: أي بأموالهم ومنازلهم، وذلك أنهم أشركوا المهاجرين في رباعهم وأموالهم وواسوهم بها (٣).
وقال الكلبي، عن ابن عباس: هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار: "إن شئتم قسمتم لهم من دوركم وأموالكم، وقسمت لكم من الفيء كما قسمت لهم، وإن شئتم كان لهم القسم ولكم دياركم وأموالكم". فقالوا: لا. بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في القسم، فأنزل الله ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (٤)، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى من المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي الفقر، وذو الخصاصة ذو الخلة، وأصلها من الخصاص، وهي الفرج، وكل خلل أو خرق يكون في
(٢) انظر: "تهذيب اللغة"، ١٥/ ١٢٢ (أثر)، و"اللسان" ١/ ٢٠ (أثر).
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٩٤ أ، و"معالم التزيل" ٤/ ٣١٩.
(٤) ذكره الثعلبي بغير سند. انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٩٥ ب، و"معالم التزيل" ٤/ ٤٢٠، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٨٧، ورواه الواقدي عن معمر، عن الزهري، عن خارجة بن زيج، عن أم العلاء قالت: وذكر نحوه. "تخريجات الكشاف" ص ١٦، ١٦٧.
ينظرن من خصاص... بأعين شواصى (١)
وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام وتعللهم عه حتى شبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار (٢). والصحيح أن الآية نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ثم يجوز أن يتضمن قوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ ما رووه من أنواع الإيثار (٣).
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ ذكرنا تفسير الشح في قوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ (٤) قال سعيد بن جبير: هو أخذ الحرام ومنع الزكاة (٥).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٢٩، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٩٤ أ، ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٨٣.
(٣) وهكذا فسر مقاتل هذه الآية بإيثار الأنصار للمهاجرين بالفيء، ولعل الصواب في هذا أن الآية نزلت في رجل من الأنصار وامرأته حين ضيفا ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يمنع من تضمن الآية لإيثارهم المهاجرين بالفيء وغيره، والله أعلم. انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾، و"فتح الباري" ٨/ ٦٣١.
(٤) عند تفسيره الآية (١٢٨) من سورة النبأ. والشح: بخل مع الحرص، وذلك فيما كان عادة. "اللسان" ٢/ ٢٧٦ (شح)، و"مفردات الراغب" ص ٢٥٦ (شح).
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٠، و"الدر المنثور" ٦/ ١٩٦، ونسب تخريجه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
قال المفسرون: يعني أن الأنصار ممن وقي شح نفسه حين طابت أنفسهم عن الفيء (٣).
١٠ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة.
ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة ولمن سبقهم بالإيمان بقوله: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي غشًا وحسداً وبغضًا (٤)، فكل من لم يترحم على جميع أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وكان في قلبه غل على أحد منهم فإنه ليس ممن عناه بهذه الآية، ولهذا قال المتقدمون من العلماء: رتب الله تعالى المؤمنين على ثلاثة منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجًا من أقسام المؤمنين.
هذا الذي ذكرناه في هذه الآية من أنها نزلت في التابعين قول جماعة المفسرين (٥).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٣٠، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٩٦ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٤٢.
(٣) وهو المذكور في سبب النزول، عن ابن عباس، وتقدم.
(٤) الغِلُّ والغَليِلُ: الغِشُّ والعَداوة والضَّعْنُ والحقْد والحسد. "اللسان" ٢/ ١٠٠٨ (غلل).
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٩٦ - ٩٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٠، و"زاد المسير" ٨/ ٢١٦، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٤٧، ونسبه للجمهور.
١٠ - قوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي أتوا المدينة بعد الأنصار، فإنهم نزلوها بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبل وألف بين قلوبنا ولا تجعل فيها غمرًا (١) للذين آمنوا، أي: حسدًا للأنصار، وذكره الفراء (٢)، والصحيح ما عليه الناس لقوله: ﴿سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ والأنصار لم يسبقوا المهاجرين بالإيمان (٣). والأكثرون أيضًا على أن قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ﴾ وقوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا﴾ عطف على قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ (٤) ويؤكد هذا ما روى مالك بن أوس بن الحدثان (٥) أن عمر بن الخطاب ذكر الفيء ثم قرأ ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ حتى بلغ ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٥، و"جامع البيان" ٢٨/ ٣١، ذكراه دون نسبة لقائل.
(٣) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾. "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٣٩.
(٤) قال النحاس: وعلى هذا كلام أهل التفسير والفقهاء، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٩٩.
(٥) مالك بن أوس بن الحدثان. قديم أدرك الجاهلية، ولكنه تأخر إسلامه، رأى أبا بكر، وروى عن عمر وعثمان. مات بالمدينة سنة (٧٢ هـ).
انظر: "طبقات ابن سعد" ٥/ ٥٦، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٧٠، و"المعارف" ص ٤٢٧، و"التقريب" ٢/ ٢٢٣.
وروى عن مالك بن أنس أنه قال: من تنقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو كان في قلبه عليه غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات. قال: وهذا نص في الكتاب بين (٢).
وقال المقاتلان: قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ﴾ ابتدأ كلام في الثناء على الأنصار ثم حين طالت أنفسهم عن الفيء جعل للمهاجرين دونهم، وعلى قولهما: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو﴾ ابتداء، وخبره ﴿يُحِبُّونَ﴾ وكذلك ما بعده (٣). والأكثرون على القول الأول، وهو أن الله تعالى جعل الفيء لجميع أقسام المسلمين الثلاثة، وهو مما ذكرنا أن الفيء بعد زمان رسول الله يصرف إلى مصالح المسلمين عامة.
ثم أنزل فيما دس المنافقون إلى اليهود أنا معكم في النصر والخروج.
١١ - قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ (٤) قال المقاتلان: يعني عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، كانوا من الأنصار
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٩٩، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٩٨ ب، ٩٨ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٢١، و"زاد المسير" ٨/ ٢١٦.
(٣) انظر: "البحر المحيط" ٨/ ٢٤٧.
(٤) أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: قد أسلم ناس من أهل قريظة والنضير، وكان فيهم منافقون، وكانوا يقولون لأهل النضير: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، فنزلت فيهم هذه الآية... "الدر" ٦/ ١٩٩.
ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر.
١٢ - قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا﴾ الآية، علم الله تعالى ما هو كائن، وما كان، وما ليس بكائن، إذا كان كيف يكون عز ربنا وجل - وقال أبو إسحاق: وقد بَانَ صدق ما قاله الله في أمر بني النضير الذين عاقدهم المنافقون وقوتلوا فلم ينصروهم. فأظهر الله عز وجل كذبهم (٤).
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ﴾ بعد قوله: ﴿لَا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ معناه: وإن قدر وجود نصرهم، لأن ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده، ولكن يجوز أن يقال لو قدر وجوده.
قال الزجاج: معناه أنهم لو تعاطوا نصرهم، يعني أن المنافقين إن قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين (٥) عن محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ يعني بني النضير لا يصيرون منصورين على محمد وأصحابه إذا انهزم ناصرهم الذين راموا نصرهم.
(٢) (ك): (ووعدهم).
(٣) (ك): (بقوله).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤٧.
(٥) انظر: المرجع السابق ٥/ ١٤٧.
١٣ - ثم ذكر أن المنافقين خوفهم من المؤمنين أشد من خوفهم من الله فقال ﴿لَأَنْتُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: يريد هم منكم من أجل أنهم قوم لا يفقهون عظمة الله (٢)، وقال الفراء: هذا من صفة اليهود. يقول إنهم أهيب في صدورهم من عذاب الله عندهم، وذلك أن أهل النضير كانوا ذوي بأس شديد، فقذف الله الرعب في قلوبهم من المسلمين (٣).
١٤ - ثم أخبر عن اليهود فقال ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ﴾ قال أبو إسحاق: أعلم الله عز وجل أنهم إذا اجتمعوا على قتال المؤمنين لم يبرزوا لحربهم، إنما يقاتلون متحصنين بالقرى والجدران (٤).
قوله: ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ أي لا يصحرون (٥) لكم ولا يقاتلون حتى يكون بينكم وبينهم حاجز من حصن أو سور.
وقراءة العامة ﴿جُدُرٍ﴾ على الجمع إذ ليس المعنى أنهم يقاتلونكم من وراء حجاب واحد، ولكن من وراء جدر، ولا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة، وكما أن القرى جماعة كذلك الجدر ينبغي أن تكون جمعًا، ومن
(٢) لم أجد هذا الأثر.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٦.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤٨.
(٥) أصحر القوم إذا برزوا إلى فضاء لا يواريهم شيء. انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٢٣٥، و"اللسان" ٢/ ٤١١ (صحر).
قوله تعالى: ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ قال ابن عباس: بعضهم فظ (٣) على بعض، والمعنى أن بعضهم عدو لبعض (٤).
وقال مجاهد ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ قال: بالوعيد، يقولون لنفعلن كذا وكذا (٥)، والمعنى على هذا أنهم يهددون المؤمنين ببإس شديد من وراء الحيطان والحصون، ثم يجبنون عن البروز للقتال، فبأسهم شديد فيما بينهم لا فيما بينهم وبين المؤمنين، فكان القول الأول أظهر.
قال أبو إسحاق: أي أنهم مختلفون لا تستوي قلوبهم ولا يتعاونون بنيات مجتمعة؛ لأن الله عز وجل ناصر حزبه، خاذل أعدائه (٦)، وهذا معنى قول قتادة: أهل الباطل مختلفة أهوائهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق (٧).
انظر: "حجة القراءات" ص ٧٠٥، و"النشر" ٢/ ٣٨٦، و"الإتحاف" ص ٤١٣.
(٢) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٣٨٣ - ٣٨٤.
(٣) الفظُّ: الخَشِنُ الكلام، وقيل: الفظ الغليظ، والفَظَظُ: خشونة في الكلام. ورجل فَظُّ: ذو فظاظةٍ جافٍ غليظُ، في مَنطئِه غِلَظٌ وخشونةٌ. "اللسان" ٢/ ١١١١ (فظظ).
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٩٨ ب، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٠، و"غرائب القرآن" ٢٩/ ٤٤.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤٨.
(٧) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٣٢، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٩٨ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٢.
ثم بين سبب ذلك الاختلاف فقال ﴿ذَلِكَ﴾ أي ذلك التشتت ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ ما فيه الحظ لهم، ثم ضرب لليهود مثلاً:
١٥ - قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا﴾ والمعنى: مثلهم كمثل الذين من قبلهم، فحذف أحد المثلين، والمراد بالذين من قبلهم كفار مكة الذين قتلوا ببدر (٢)، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر (٣). وهو قوله: ﴿قَرِيبًا﴾، والمعنى: تقدموا قريبًا، لأن قوله: ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يدل على التقدم وعلى هذا تم الكلام (٤).
ثم قال ﴿ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ قال مقاتل: يعني جزاء ذنبهم، وهو القتل ببدر (٥)، ويجوز أن يكون معنى القرب إلى ذوق العذاب فيكون تمام الكلام عند قوله: ﴿وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يعني في الآخرة.
(٢) قال مجاهد ومقاتل: وقال ابن عباس: هم بنو قينقاع، وقيل: مثل قريظة كمثل بني النضير. انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٦٥، و"تفسير مقاتل" ١٤٥ أ، و"جامع البيان" ٢٨/ ٣٢، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٩٨ ب. قال النحاس: اختلف أهل التأويل في الذين من قبلهم، هاهنا، فقال ابن عباس: هم بنو قينقاع، وقال مجاهد: هم أهل بدر، والصواب أن يقال في هذا: إن الآية عامة، وهؤلاء جميعًا ممن كان قبلهم. "إعراب القرآن" ٣/ ٤٠٢.
(٣) وهو قول الزهري رحمه الله.
(٤) وبه قال الأخفش، انظر: "القطع والارتفاق" ص ٧١٨، و"المكتفى" ص ٥٦٢.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٨ ب.
قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ ذكرنا تفسيره في سورة الأنفال في قوله: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ﴾.
١٧ - ثم ذكر أنهما صارا إلى النار بقوله: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا﴾ أي عاقبة الشيطان والإنسان حين صارا إلى النار.
قوله تعالى: ﴿خَالِدَيْنِ فِيهَا﴾ قال الفراء: نصبه على الحال (٢). {وَذَلِكَ
وقال ابن كثير: وكذا روي عن ابن عباس، وطاووس ومقاتل بن حيان، نحو ذلك، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا، فالله أعلم. "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٤١.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٦.
ثم رجع إلى موعظة المؤمنين فقال:
١٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ قال ابن عباس: يريد الأعمال التي فيها الثواب والعقاب، والمعنى: لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه (٢) أعملاً صالحًا أم سيئًا يوبقه (٣).
قال ابن إسحاق ﴿لِغَدٍ﴾ أي ليوم القيامة، وقرب على الناس كأنه يأتي غدًا (٤)، ومعنى الكلام في غد (٥).
١٩ - قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ﴾ قال ابن عباس والمقاتلان، وغيرهم: تركوا أمر الله وذكره ﴿فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ فأنساهم حظوظ أنفسهم حتى لم يعملوا لله بطاعته ولم يقدموا خيرًا، هذا معنى قول جماعة المفسرين (٦).
قال ابن عباس: يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع (٧) وهو قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
(٢) (ك): (إيش الذي قدم نفسه).
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٦، ولم ينسبه لقائل.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤٩.
(٥) عند تفسيره الآية (١٢) من سورة يونس. والغدْووُ: أصلُ الغّدِ، وهو اليومُ الذي يأتي بعد يومك فحُذفت لامه ولم يستعمل تامًّا إلا في الشعر،.. وربما كُني به عن الزمن الأخير كقوله تعالى: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ وقوله: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾. انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١٧٠، و"اللسان" ٢/ ٩٦٣ (غدا).
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٩ ب، و"جامع البيان" ٢٨/ ٣٥، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٠٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٦، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩١.
(٧) انظر: "زاد التفسير" ٨/ ٢٢٤.
والمعنى أن الجبل على قساوته وصلابته يتشقق من خشية الله وحذرًا من أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن، والكافر مستخف بحقه معرض عما فيه من العبر والذكر كأن لم يسمعها، فهو غافل عما تضمنه القرآن من تمييز الحق من الباطل، والواجب مما لا يجب، والجائز مما لا يجوز، والأولى مما ليس بأولى بأحسن البيان وأوضح البرهان، ومن وقف على هذا أوجب ذلك له الخشوع والخشية.
قال مقاتل: يقول: فالذين هم أضعف من الجبل أولى أن يأخذوا القرآن بالخشية والمخافة (٢)، وهذا كأنه وصف للكافر بالقسوة حيث لم يلن قلبه لمواعظ القرآن الذي لو نزل على جبل لخشع، كما قال في آية أخرى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ [البقرة: ٧٤] الآية. وهذه الآية تمثيل، لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع إلا أن يخلق الله له تمييزًا يدل على أنه تمثيل ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ قال مقاتل: ضرب الله ذلك مثلاً (٣)، وكذلك قال غيره (٤).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٩ ب.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٩ ب.
(٤) وروى نحوه عن ابن عباس، وقتادة. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٣٥، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٤٣.
٢٢ - ﴿هُوَ اللَّهُ﴾ وهو ظاهر التفسير ماض فيما سبق (١) إلى قوله: ﴿الْقُدُّوسُ﴾ قال المفسرون: هو الطاهر من كل عيب، المنزه مما لا يليق به (٢)، ومضى الكلام فيه عند قوله: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿الْقُدُّوسُ﴾ الذي منه البركات (٣)، وهو قول قتادة، قال: ويقال أرض مقدسة، أي مباركة (٤)، وقوله: ﴿السَّلَامُ﴾ ذكروا فيه قولين:
أحدهما: أنه الذي سلم من النقص والعيب (٥).
والآخر: أنه الذي سلم خلقه من ظلمه (٦).
وكلا القولين قد تقدم بيانه عند قوله: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ﴾ (٧)، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ (٨).
٢٣ - قوله تعالي: ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ ذكره (٩) المفسرون وأهل اللغة فيه قولين:
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٠ أ، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٢ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٦.
(٣) وفي "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٣، قال الحسن: إنه الذي كثرت بركاته.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٣٦، الكشف والبيان" ١٠٢ ب، ولفظه (المبارك).
(٥) انظر:"تفسير غريب القرآن" ص ٦، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ١/ ١٠١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٦، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٤٣، وهو المعتمد عنده، حيث قال: ﴿السَّلَامُ﴾ أي من جميع العيوب، والنقائض لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.
(٦) قاله قتادة، ومقاتل: انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٠ أ، و"جامع البيان" ٢٨/ ٣٦، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥٠، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ١/ ١٠٢.
(٧) عند تفسيره الآية (١٢٧) من سورة الأنعام.
(٨) عند تفسيره الآية (٢٥) من سورة يونس.
(٩) في (ك): (ذكره).
والمؤمنِ العائذاتِ الطَّيرَ يَمْسَحُها | رُكْبانُ مكة بين الغيل والسَّند (٢) |
قال الكلبي: المؤمن الذي لا يخاف ظلمه (٣).
وقال مقاتل: هو الذي يؤمن أولياءه (٤).
القول الثاني: أن معنى المؤمن في صفته تعالى: المصدق (٥) على معنى أنه يصدق أنبياءه بإظهار المعجزة لهم، ويصدق المؤمنين إذا وحدوه. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (٦). وذكرنا الإيمان بمعنى التصديق في مواضع.
قال ابن الأنباري: سمعت أحمد بن يحيى يقول: المؤمن عند العرب المصدق (٧)، فذهب إلى أن الله تعالى مصدق عباده المسلمين يوم القيامة،
(٢) البيت للنابغة الذبياني. انظر: "ديوانه" ٢٥، و"الخزانة" ٢/ ٣١٥، و"شرح المفصل" ٣/ ١١، ومعنى العائذات: التي عاذت بالحرم، والغيل، الشجر الملتف، ورواية "الديوان" (نسعد) بدل "السند"، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ١/ ١٦٥ - ١٦٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥٠، ذكر نحوه ولم ينسبه.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل": ١٥٠ أ.
(٥) (ك): (المتصدق).
(٦) ذكره المفسرون عن الضحاك، وابن زيد. وانظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٣٦، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٢ ب، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٤٣.
(٧) في (ك): (المتصدق). وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس" ٣/ ٤٠٧، و"اللسان" ١/ ١٠٨ (أمن).
قوله تعالى: ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ قال ابن عباس: الشاهد الذي لا يغيب عنه شيء، وهو قول قتادة، ومجاهد، قالوا: معناه الشهيد على عباده بأعمالهم (٤)، وعلى هذا أصله من قولهم: هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيبًا على الشيء (٥). وهو قول الخليل، وأبي عبيد.
وذهب كثير من المفسرين وأهل المعاني على أن المهيمن مؤيمن على الأصل من أمن يؤمن، فيكون بمعنى المؤمن (٦)، وقد ذكرنا استقصاء هذا عند قوله: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٤٨] قال ابن الأنباري: المهيمن القائم على خلقه برزقه وأنشد:
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٠٧، و"اللسان" ١/ ١٠٩ (أمن).
(٣) انظر: "اللسان" ١/ ١٠٩ (أمن).
(٤) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٥، و"جامع البيان" ٢٨/ ٣٦، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٠٧، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٣ أ.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٦/ ٣٣٤ (همن)، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٠٧، و"زاد المسير" ٨/ ٢٢٦، و"روح المعاني" ٦/ ١٥٢.
(٦) انظر: تفسير "غريب القرآن " ص ١١ - ١٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥٠، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٠٧.
ألا إن خير الناس بعد نبيه | مهيمنه التاليه في العرف والنكر |
قوله تعالى: ﴿الْجَبَّارُ﴾ له معان في صفة الله تعالى، قال ابن عباس: هو العظيم، وجبروت الله عظمته (٣)، وعلى هذا القول: الجبار الملك. والجبابرة الملوك ومنه الحديث "جلد الكافر في النار كثافته أربعون ذراعًا بذراع الجبار"، وهذا كما يقال: كذا ذراعًا بذراع الملك، والجبر في كلام العرب الملك ومنه قول الشاعر:
وانعم صباحًا أيها الجبر (٤)
أراد: أيها الملك. والعرب تسمي الجوزاء الجبار، تشبيهًا لها بالملك، لأنها في صورة رجل على كرسي وعليه تاج، ويجوز أن يكون الجبار في صفة الله تعالى من جبر إذا أغنى الفقير، وأصلح الكسير.
قال الأزهري: وهو لعمري جابر (٥) كسير وفقير، وهو جابر دينه
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٣ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٧.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٣ أ، و"زاد المسير" ٨/ ٢٢٧، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٤.
(٤) وصدره:
أسْلَمْ براووُقٍ حُييتَ به
والبيت لعمرو بن أحمر، وقد ورد منسوبًا في "الخصائص" ٢/ ٢١، "المحتسب" ١/ ٩٧، و"تهذيب اللغة" ١١/ ٥٩، و"اللسان" ١/ ٣٩٥ (جبر).
(٥) (ك): (على).
قد جبر الدين الإله فجبر (١)
قال اللحياني: يقال جبرت اليتيم والفقير أجْبُرُه جَبْرًا وجُبُورًا، فَجَبَرَ يجْبُرُ جُبُورًا، وانْجَبَرَ، واجْتَبَرَ بمعنى واحد (٢).
ويجوز أن يكون الجبار من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراد. قال السدي: هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراد (٣). ونحو ذلك قال مقاتل (٤)، وهو من جبرته على الأمر أجبره جبرًا وجبورًا (٥).
وكان الشافعي -رحمه الله- يقول: جبره السلطان على كذا بغير ألف (٦).
وجعل الفراء الجبار بهذا المعنى من أجبر، وهي اللغة المعروفة في الإكراه، فقال: لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين، وهما جبار من أجبر، ودراك من أدرك (٧). وعلى هذا القول الجبار معناه: القهار الذي يجبر على ما يريد.
قال القرظي: إنما سمي الجبار، لأنه جبر الخلق على ما أراد.
وعور الرحن من ولى العور
و"الخصائص" ٢/ ٢٦٣، و"اللسان" ١/ ٣٩٦ (جبر)، و"شرح الأشموني لألفية ابن مالك" ٤/ ٢٤١.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٦٠ (جبر).
(٣) انظر: " الكشف والبيان" ١٢/ ١٠٣ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٣.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٠ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٧.
(٥) انظر: "اللسان" ١/ ٣٩٦ (جبر).
(٦) انظر: " اللسان" ١/ ٣٩٦، وقال ابن منظور. وهو حجازي وفصيح.
(٧) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٣ - ٢٩٤، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٥١.
وقال ابن الأنباري: الجبار في صفة الله: الذي لا ينال، ومنه قيل للنخلة التي فاتت يد المتناول: جبارة (٣).
هذا الذي ذكرنا معاني الجبار في صفة الله تعالى، وللجبار معان في صفة الخلق:
أحدهما: المسلط كقوله: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق: ٤٥].
والثاني: القوي العظيم الجسم، كقوله: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢].
وقوله: ﴿إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا﴾ [القصص: ١٩].
والثالث: التكبر على عبادة الله، كقوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [مريم: ٣٢].
والرابع: القتال كقوله: ﴿بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ﴾ [الشعراء: ١٣٠].
وقوله: ﴿إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ﴾، ذكر ذلك ابن الأنباري (٤). ومضى الكلام على كل واحد في موضعه.
قوله: ﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾ قال ابن عباس: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله (٥).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥١.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٥٨ (جبر)، و"اللسان" ١/ ٣٩٥ (جبر)، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٤.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٥١، و"اللسان" ١/ ٣٩٥ (جبر)، وقد نسباه للحياني.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٩٤.
وقال أبو إسحاق: الذي تكبر عن ظلم عباده (٣).
قال ابن الأنباري: المتكبر ذو الكبرياء، والكبرياء عند العرب: الملك، ومنه قوله: ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ﴾ (٤).
وقال أهل المعاني: المتكبر في صفة الله تعالى معناه الكبرياء فإنه أجل من أن يتكلف كبرًا، والعرب تضع يفعل في موضع فعل، يقولون: تظلم بمعنى ظلم، ومنه قول الجعدي:
وما يشعر الرُّمْحُ الأصم كُعوبُه | بثروة رهط الا ثلج المتظلمِ (٥) |
فقل لزهيرٍ إن شَتَمْتَ سَرَاتَنا | فلسنا بشَتَّامين للمُتَشَتِّم (٦) |
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٥، و"جامع البيان" ٢٨/ ٣٧.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٥١.
(٤) من آية (٧٨) من سورة يونس. وانظر: "تهذيب اللغة"، و"اللسان" (كبر) عن ابن الأنباري.
(٥) "ديوان النابغة" ص ١٤٤، و"كتاب سيبويه في شرح شواهده" للأعلم ١/ ٢٣٧، و"الأغاني" ٤/ ١٣٩، و"السبع الطوال" ص ٣٤٧، و"شروح سقط الزند" صس ٥٩٢، و"اللسان" (ظلم).
(٦) والبيت لمعبد بن علقمة. انظر: "الحماسة" لأبي تمام ١/ ٣٦٢.