تفسير سورة القيامة

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد تقدم أن المقسم عليه إذا كان منتفياً جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي، والمقسم عليه هاهنا هو إثبات المعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة من عدم بعث الأجساد، ولهذا قال تعالى :﴿ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة * وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة ﴾ قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة، وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعاً والصحيح أنه أقسم بهما معاً وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير، واختاره ابن جرير، فأما يوم القيامة فمعروف، وأما النفس اللوامة فقال الحسن البصري : إن المؤمن والله ما نراه إلاّ يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديث نفسي، وإن الفاجر يمضي قدماً قدماً ما يعاتب نفسه، وعن سماك أنه سأل عكرمة عن قوله ﴿ وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة ﴾ قال : يلوم على الخبر والشر : لو فعلت كذا وكذا، وعن سعيد بن جبير قال : تلوم على الخبر والشر، وقال مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه، وقال ابن عباس : اللوامة المذمومة، وقال قتادة :﴿ اللوامة ﴾ الفاجرة، قال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى، والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات. وقوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ ؟ أي يوم القيامة، أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة؟ ﴿ بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ قال ابن عباس : أن نجعله خفاً أو حافراً، والظاهر من الآية أن قوله تعالى :﴿ قَادِرِينَ ﴾ حال من قوله تعالى :﴿ نَّجْمَعَ ﴾ أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه، أي قدرتنا صالحة لجمعها، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان، فنجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية، وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج، وقوله :﴿ بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ قال ابن عباس : يعني يمضي قدماً، وعنه : يقول الإنسان : أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة، ويقال : هو الكفر بالحق بين يدي القيامة، وقال مجاهد ﴿ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ : ليمضي أمامه راكباً رأسه، وقال الحسن : لا يلفى ابن آدم إلاّ تنزع نفسه إلى معصية الله قدماً إلاّ من عصمه الله تعالى، وروي عن غير واحد من السلف : هو الذي يعجل الذنوب ويسوّف التوبة، وقال ابن عباس : هو الكافر يكذب بيوم الحساب، وهذا هو الأظهر من المراد، ولهذا قال بعده :﴿ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة ﴾ ؟ أي يقول متى يكون يوم القيامة، وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده، كما قال تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [ سبأ : ٢٩-٣٠ ]، وقال تعالى هاهنا :﴿ فَإِذَا بَرِقَ البصر ﴾ بكسر الراء أي حار كقوله تعالى :
2638
﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٤٣ ]، والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور.
وقوله تعالى :﴿ وَخَسَفَ القمر ﴾ أي ذهب ضوؤه، ﴿ وَجُمِعَ الشمس والقمر ﴾ قال مجاهد : كوّرا، كقوله ﴿ إِذَا الشمس كُوِّرَتْ ﴾ [ التكوير : ١ ]، وقوله تعالى :﴿ يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر ﴾ أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة، حينئذٍ يريد أن يفر ويقول :﴿ أَيْنَ المفر ﴾ ؟ أي هل من ملجأ أو مؤئل، قال الله تعالى :﴿ كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر ﴾ قال ابن مسعود وابن عباس : أي لا نجاة، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٤٧ ] أي ليس لكم مكان تتنكرون فيه، وكذا قال هاهنا :﴿ لاَ وَزَرَ ﴾ أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه، ولهذا قال :﴿ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر ﴾ أي المرجع والمصير، ثم قال تعالى :﴿ يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ أي يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها كما قال تعالى :﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، وهكذا قال هاهنا :﴿ بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى :﴿ اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾ [ الإسراء : ١٤ ] وقال ابن عباس ﴿ بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ يقول : سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه، وقال قتادة : شاهد على نفسه، وفي رواية قال : إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم، غافلاً عن ذنوبه وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوباً : يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك. وتترك الجذع عن عينك لا تبصره، وقال مجاهد :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ ولو جادل عها فهو يصير عليها، وقال قتادة :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ ولو اعتذر يومئذٍ بباطل لا يقبل منه، وقال السدي :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ حجته، واختاره ابن جرير. وقال الضحّاك ولو ألقى ستورة. وأهل اليمن يسمون الستر المعذار، والصحيح قول مجاهد وأصحابه. كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، وكقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون ﴾ [ المجادلة : ١٨ ]، وقال ابن عباس :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال :﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ [ غافر : ٥٢ ].
2639
هذا تعليم من الله عزَّ وجلَّ لرسول الله ﷺ في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عزَّ وجلَّ أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن يبينه له ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه، ولهذا قال تعالى :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾ أي بالقرآن كما قال تعالى :﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [ طه : ١١٤ ] الآية، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ﴾ أي في صدرك، ﴿ وَقُرْآنَهُ ﴾ أي أن تقرأه ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ﴾ أي إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى ﴿ فاتبع قُرْآنَهُ ﴾ أي فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك، ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ أي بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا. عن ابن عباس قال :« كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ قال : معه في صدرك، ثم تقرأه ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ﴾ أي فاستمع له وأنصت، ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه » وفي رواية للبخاري :« فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما ونعده الله عزَّ وجلَّ »، وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال :« كان رسول الله ﷺ إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عرف في تحركيه شفتيه، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل الله تعالى :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾ » وقال ابن عباس : كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه، فقال الله تعالى :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ﴾ أن نجمعه لك ﴿ وَقُرْآنَهُ ﴾ أن نقرئك فلا تنسى، وقال ابن عباس ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ تبيين حلاله وحرامه، وكذا قال قتادة.
وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة ﴾ أي إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة، أنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة، ثم قال تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ من النضارة أي حسنة بهية مشرقة مسرورة، ﴿ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ أي تراه عياناً، كما رواه البخاري في « صحيحه » :« إنكم سترون ربكم عياناً » وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عزَّ وجلَّ في الدار الآخرة، في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها، لحديث أبي هريرة وهما في الصحيحين
2640
« أن ناساً قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال :» هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ « قالوا : لا، قال :» إنكم ترون ربكم كذلك « » وفي الصحيحين عن جرير قال :« نظر رسول الله ﷺ إلى القمر ليلة البدر، فقال :» إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا « »، وفي الصحيحين عن أبي موسى قال، « قال رسول الله ﷺ : جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما ما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزَّ وجلَّ إلاّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » وفي مسلم عن صهيب عن النبي ﷺ قال :« » إذا دخل أهل الجنة الجنة - قال - يقول الله تعالى تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار! قال : فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم وهي الزيادة «، ثم تلا هذه الآية :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ﴾ » [ يونس : ٢٦ ]، ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عزَّ وجلَّ في العرصات وفي روضات الجنات، وروى الإمام أحمد، عن ابن عمر قال، قال رسول الله ﷺ :« إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين »، قال الحسن ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ قال : حسنة، ﴿ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ قال : تنظر إلى الخالق، وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وقوله تعالى :﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾ هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة، قال قتادة : كالحة، وقال السدي : تغير ألوانها، وقال ابن زيد ﴿ بَاسِرَةٌ ﴾ أي عابسة ﴿ تَظُنُّ ﴾ أي تستيقن ﴿ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾ قال مجاهد : داهية، وقال قتادة : شر، وقال السدي : تستيقن أنها هالكة، وقال ابن زيد : تظن أن ستدخل النار، وهذا المقام كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ]، وكقوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [ عبس : ٣٨-٣٩ ]، وكقوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴾ [ الغاشية : ٨-١٠ ] وأشباه ذلك من الآيات الكريمة.
2641
يخبر تعالى عن حالة الاحتضار، وما عنده من الأهوال، ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت، فقال تعالى :﴿ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي ﴾ إن جعلنا ( كلا ) رادعة فمعناها : لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به، بل صار ذلك عندك عياناً، وإن جعلناها بمعنى ( حقاً ) فظاهر أي حقاً إذا بلغت التراقي أي انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك، والتراقي جمع ( ترقوة ) وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق كقوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٨٣-٨٥ ]، ﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾ ؟ قال ابن عباس : أي من راق يرقي؟ وقال أبو قلابة؟ أي من طبيب شاف. وعن ابن عباس :﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾ قيل : من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة، وقال ابن عباس في قوله :﴿ والتفت الساق بالساق ﴾ قال : التفت عليه الدنيا والآخرة، وعنه ﴿ والتفت الساق بالساق ﴾ يقول : آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فتلقي الشدة بالشدة إلاّ من رحمه الله، وقال عكرمة :﴿ والتفت الساق بالساق ﴾ الأمر العظيم بالأمر العظيم، وقال مجاهد : بلاء ببلاء، وقال الحسن البصري : هما ساقاك إذا التفتا، وكذا قال السدي عن الحسن : هو لفهما في الكفن، وقال الضحّاك :﴿ والتفت الساق بالساق ﴾ اجتمع عليه أمران : الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه.
وقوله تعالى :﴿ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق ﴾ أي المرجع والمآب، وذلك أن الروج ترفع إلى السماوات، فيقول الله عزَّ وجلَّ : ردوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، منها أخرجهم تارة أُخرى، كما ورد في حديث البراء الطويل، وقوله جلَّ وعلا :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى ﴾ هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذباً للحق بقلبه، متولياً عن العمل بقالبه، فلا خير فيه باطناً ولا ظاهراً، ولهذا قال تعالى :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى ﴾ أي جذلان أشراً بطراً، لا همة له ولا عمل، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ ﴾ [ المطففين : ٣١ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴾ [ الانشقاق : ١٣-١٤ ] أي يرجع، وقال ابن عباس :﴿ ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى ﴾ أي يختال، وقال قتادة : يتبختر، قال الله تعالى :﴿ أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى ﴾ وهذا تهديد ووعيد من الله تعالى للكافر، المتبختر في مشيه، أي يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك، وذلك على سبيل التهكم والتهديد، كقوله تعالى :﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ﴾ [ الدخان : ٤٩ ]، وكقوله تعالى :
2642
﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ ﴾ [ المرسلات : ٤٦ ] وكقوله جلَّ جلاله :﴿ اعملوا مَا شِئْتُمْ ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] إلى غير ذلك، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس :﴿ أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى ﴾ ؟ قال : قاله رسول الله ﷺ لأبي جهل، ثم أنزله الله عزَّ وجلَّ. وقال قتادة في قوله :﴿ أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى ﴾ وعيد على أثر وعيد كما تسمعون، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نبيّ الله ﷺ بمجامع ثيابه ثم قال :﴿ أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى ﴾، فقال عدو الله أبو جهل : أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً، وإني لأعز من مشى بين جبليها.
وقوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ ؟ قال السدي : يعني لا يبعث، وقال مجاهد : يعني لا يؤمر ولا ينهى، والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا محشور إلى الله في الدار الآخرة، والمقصود هنا إثبات المعاد، ولهذا قال تعالى مستدلاً على الإعادة بالبداءة ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ﴾ أي أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين ﴿ يمنى ﴾ أي يراق من الأصلاب في الأرحام ﴿ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى ﴾ أي فصار علقة ثم مضغة ثم شكل ونفخ فيه الروح فصار خلقاً آخر سوياً، سليم الأعضاء ذكراً أو أُنثى بإذن الله وتقديره : ولهذا قال تعالى :﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى ﴾، ثم قال تعالى :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ ؟ أي أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة، بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ كقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، روى أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها ﴿ أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين ﴾ فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين؛ ومن قرأ :﴿ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة ﴾ فانتهى إلى قوله :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ فليقل بلى، ومن قرأ :﴿ والمرسلات ﴾ فبلغ ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ فليقل : آمنا بالله »، وعن قتادة قوله تعالى :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ ذكر لنا « أن رسول الله ﷺ كان إذا قرأها قال :» سبحانك وبلى « وكان ابن عباس إذا مر بهذه الآية :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ ؟ قال : سبحانك فبلى.
2643
Icon