تفسير سورة الطارق

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ١٧

سورة الطارق
مكية، وآياتها ١٧ [نزلت بعد البلد] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ المضيء، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، كما قيل: درّىء، لأنه يدرؤه، أى: يدفعه. ووصف بالطارق، لأنه يبدو بالليل، كما يقال للآتى ليلا: طارق: أو لأنه يطرق الجنى، أى يصكه. والمراد: جنس النجوم، أو جنس الشهب التي يرجم بها. فإن قلت: ما يشبه قوله وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ إلا ترجمة كلمة بأخرى، فبين لي أى فائدة تحته؟
قلت: أراد الله عز من قائل: أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيما له، لما عرف فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة، وأن ينبه على ذلك فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره، وهو الطارق، ثم قال: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟ ثم فسره بقوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ كل هذا إظهار لفخامة شأنه، كما قال فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ روى أنّ أبا طالب كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانحط نجم، فامتلأ ما ثم نورا. فجزع أبو طالب وقال: أى شيء هذا؟ فقال عليه السلام: هذا نجم رمى به، وهو آية من آيات الله، فعجب أبو طالب «١»، فنزلت.
[سورة الطارق (٨٦) : آية ٤]
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)
فإن قلت: ما جواب القسم؟ قلت إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ لأنّ «إن» لا تخلو فيمن قرأ لما مشددة، بمعنى: إلا أن تكون نافية. وفيمن قرأها مخففة على أن «ما» صلة تكون مخففة من الثقيلة، وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم، حافظ مهيمن عليها رقيب، وهو الله عز وجل وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً وقيل: ملك يحفظ عملها ويحصى عليها ما تكسب من خير وشر. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين «٢» ».
(١). هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير إسناد.
(٢). أخرجه الطبراني من رواية عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبى أمامة به وأتم منه. وعفير ضعيف.

[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ٥ الى ٧]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧)
فإن قلت: ما وجه اتصال قوله فَلْيَنْظُرِ بما قبله؟ قلت: وجه اتصاله به أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظا، أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته الأولى، حتى يعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره في عاقبته، ومِمَّ خُلِقَ استفهام جوابه خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ والدفق: صبّ فيه دفع. ومعنى دافق: النسبة إلى الدفق الذي هو مصدر دفق، كاللابن والتامر. أو الاسناد المجازى. والدفق في الحقيقة لصاحبه، ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ من بين صلب الرجل وترائب المرأة: وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة. وقرئ: الصلب- بفتحتين، والصلب بضمتين. وفيه أربع لغات: صلب، وصلب،
وصلب وصالب. قال العجاج:... في صلب مثل العنان المؤدم «١»
وقيل: العظم والعصب من الرجل، واللحم والدم من المرأة.
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ٨ الى ١٠]
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠)
إِنَّهُ الضمير للخالق، لدلالة خلق عليه. ومعناه: إنّ ذلك الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة عَلى رَجْعِهِ على إعادته خصوصا لَقادِرٌ لبين القدرة لا يلتاث «٢» عليه ولا يعجز عنه. كقوله: إننى لفقير «٣» يَوْمَ تُبْلَى منصوب برجعه، ومن جعل الضمير في رَجْعِهِ للماء
(١).
ريا العظام فخمة المخدم... في صلب مثل العنان المؤدم
العجاج. والريا: تأنيث الريان، أى: لينة العظام، سمينة محل الخدام وهو الخلخال. والمخدم- بالتشديد- على اسم المفعول. والصلب- بضمتين، وبفتحتين، وبضم فسكون-: عظام الظهر، والمراد هنا: الخصر. وفي بمعنى مع، أى: وصفت بهذه الصفات، مع أن لها خصرا رقيقا لينا، مثل العنان المؤدم، على اسم المفعول، أى:
المؤلف بالفتل، يقال: أدم بينهما- بقصر الهمزة وبمدها-: بمعنى ألف وأصلح. أو المجعول له أدمة. أو لين الأدمة- بفتحتين، وهي الجلدة المدبوغة المصلحة، من أدمه بالمد: جعل له أدمة. والفخمة بالضم: الضخامة واسترخاء الرجلين. والفخمة- بالفتح-: وصف منه. [.....]
(٢). قوله «لا يلتاث عليه» في الصحاح «التاث في عمله» : أى أبطأ. (ع)
(٣). قوله «كقوله إننى لفقير» أى الشاعر، حيث قال:
لئن كان يهدى برد أنيابها العلى... لأفقر منى إننى لفقير (ع)
وقد تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٢٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.
وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو الإحليل. أو إلى الحالة الاولى نصب الظرف بمضمر السَّرائِرُ ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعمال.
وبلاؤها. تعرّفها وتصفحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث. وعن الحسن أنه سمع رجلا ينشد:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ودّ يوم تبلى السّرائر «١»
فقال: ما أغفله عما في وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ؟ فَما لَهُ فما للإنسان مِنْ قُوَّةٍ من منعة في نفسه يمتنع بها وَلا ناصِرٍ ولا مانع يمنعه.
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤)
سمى المطر رجعا، كما سمى أوبا. قال:
ربّاء شمّاء لا يأوى لقلتها إلّا السّحاب وإلّا الأوب والسّبل «٢»
تسمية بمصدرى: رجع، وآب، وذلك أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض. أو أرادوا التفاؤل فسموه رجعا. وأوبا، ليرجع ويؤب. وقيل: لأنّ الله يرجعه وقتا فوقتا. قالت الخنساء: كالرجع في المدجنة السارية.
والصدع: ما يتصدّع عنه الأرض من النبات إِنَّهُ الضمير للقرآن فَصْلٌ فاصل بين
(١).
إذا رمت عنها سلوة قال شافع من الحب ميعاد السلو المقابر
سيقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ود يوم تبلى السرائر
لمجنون بنى عامر صاحب ليلى العامرية. وسلا عنه سلوة وسلوا: صد عنه وأعرض، وشبه بعث الحب إياه وحمله على دوام المودة بقول القائل على طريق التصريحية، وتسمية الحب شافعا: ترشيح. ومن بيانية. ويحتمل أنها تجريدية دلالة على أن الحب بلغ نهاية اللذة حتى حمل على دوام المودة فانتزع منه غيره وأسند له الفعل. ويجوز أنها تبعيضية دالة على أن بعضه يكفى في الشفاعة. وقوله «المقابر» أى دخولها، كناية عن الموت. والمراد: التأبيد، بدليل ما بعده. ومضمر القلب: المضمر في القلب. أو مضمر هو القلب. وتبلى: مبنى للفاعل، أى: تفنى.
ويحتمل بناءه للمفعول، أى: تختبر. والحشا- بالفتح-: عطف على القلب أعم منه، دلالة على أن الحب في غير قلبه أيضا.
(٢). للمنتخل الهذلي يرثى ابنه. وقيل: يصف رجلا بأنه رباء، أى طلاع من ربأ وارتبأ: إذا طلع لينظر إلى أمر. ومنه الربيئة، وإضافته إلى شماء من إضافة الوصف لمفعوله: وهي القلعة المرتفعة من الشمم وهو الارتفاع.
وقلة الجبل وقنته: رأسه وأعلاه. والأوب: النحل، لأنه يذهب ويؤوب إلى بيته. أو المطر، لأن أصله من بحار الأرض على زعم العرب، ثم يؤوب إليها. والسبيل- بالتحريك-: المطر من أسبلت الستر إذا أرسلته وأرخيته، وعلى أن الأوب بمعنى النحل لا مناسبة بينه قرينية، وعلى أنه بمعنى المطر، فالسبل مرادف له.
﴿ إِنَّهُمْ ﴾ يعني أهل مكة يعملون المكايد في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق.
وأنا أقابلهم بكيدي : من استدراجي لهم وانتظاري بهم الميقات الذي وقته للانتصار منهم.
﴿ فَمَهِّلِ الكافرين ﴾ يعني لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به ﴿ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ أي إمهالا يسيراً ؛ وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتصبير.
Icon