تفسير سورة سورة يونس من كتاب تفسير السمعاني
المعروف بـتفسير السمعاني
.
لمؤلفه
أبو المظفر السمعاني
.
المتوفي سنة 489 هـ
تفسير سورة يونس
وهي مكية إلا ثلاث آيات، وهو قوله تعالى ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ) ( ) إلى آخر الآيات الثلاث.
وحكى عن محمد بن سيرين أنه قال : هذه السورة كانت بعد السورة السابقة.
ﰡ
قَوْله تَعَالَى
﴿آلر﴾ روى أَبُو الضُّحَى عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:
﴿آلر﴾ أَنا الله أرى. وروى عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الر، وحم، وَنون هُوَ تَمام اسْم الرَّحْمَن.
وَفِي الْحُرُوف المهجيات أَقْوَال ذَكرنَاهَا فِي أول سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَوله:
﴿تِلْكَ آيَات الْكتاب﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ: هَذِه آيَات الْكتاب. قَالَ الشَّاعِر:
(تِلْكَ خيلي مِنْهُ وَتلك ركابي | هن صفر أَوْلَادهَا كالزبيب) |
وَقَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: وَهُوَ أَن الْآيَات الَّتِي أنزلتها عَلَيْك من قبل
﴿تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم﴾ وَالْكتاب: هُوَ الْقُرْآن، والحكيم: هُوَ الْمُحكم، على قَول أَكثر الْمُفَسّرين، فعيل بِمَعْنى مفعل، مثل قَوْله:
﴿هَذَا مَا لَدَى عتيد﴾ أَي: مُعْتَد. وَقَالَ بَعضهم: الْحَكِيم على وَضعه، وسمى الْقُرْآن حكيما؛ لِأَنَّهُ كالناطق بالحكمة.
قَوْله تَعَالَى:
﴿أَكَانَ للنَّاس عجبا﴾ الْعجب: حَالَة تعتري الْإِنْسَان من رُؤْيَة شَيْء على خلاف الْعَادة.
وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة: أَن الله تَعَالَى لما بعث مُحَمَّدًا قَالَ الْمُشْركُونَ: أما وجد
364
﴿أَن أَوْحَينَا إِلَى رجل مِنْهُم أَن أنذر النَّاس وَبشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم قَالَ الْكَافِرُونَ إِن هَذَا لساحر مُبين (٢) ﴾ الله نَبيا سوى يَتِيم أَبى طَالب، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وهى قَوْله:
﴿أَكَانَ للنَّاس عجبا﴾ وَمَعْنَاهُ: أعجب النَّاس، يعْنى: الْمُشْركين
﴿أَن أَوْحَينَا إِلَى رجل مِنْهُم﴾ وَالرجل هَا هُنَا: النَّبِي، وَقَوله:
﴿مِنْهُم﴾ قَالُوا: مَعْنَاهُ: إِنَّه رجل يعرفونه باسمه وَنسبه، لَا يكْتب، وَلَا يشْعر، وَلَا يتكهن، ولايكذب.
وَقَوله:
﴿أَن أنذر النَّاس﴾ الْإِنْذَار: هُوَ الْإِعْلَام مَعَ التخويف. وَقَوله:
﴿وَبشر الَّذين آمنُوا﴾ قد بَينا معنى الْبشَارَة. وَقَوله:
﴿أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم﴾ فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال:
القَوْل الأول - وَهَذَا قَول الْأَكْثَرين - أَن الْقدَم الصدْق: هُوَ الْأَعْمَال الصَّالِحَة، يُقَال: لفُلَان قدم فِي الشجَاعَة، وَقدم فى الْعلم، وَيُقَال: فلَان وضع قدمه فى كَذَا، إِذا شرع فِيهِ بِعَمَلِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْقدَم الصدْق: هُوَ الثَّوَاب.
وَالْقَوْل الثَّالِث: حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْقدَم الصدْق: هُوَ السَّعَادَة فِي الذّكر الأول.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن المُرَاد مِنْهُ: هُوَ الرَّسُول، وَقدم صدق: شَفِيع صدق، قَالَه مقَاتل بن حَيَّان.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِن هَذَا لساحر مُبين﴾ وقرىء بقراءتين: " لساحر مُبين "، و " إِن هَذَا لسحر مُبين "؛ فالساحر ينْصَرف إِلَى الرَّسُول، وَالسحر ينْصَرف إِلَى الْقُرْآن.
365
﴿إِن ربكُم الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يدبر الْأَمر مَا من شَفِيع إِلَّا من بعد إِذْنه ذَلِكُم الله ربكُم فاعبدوه أَفلا تذكرُونَ (٣) إِلَيْهِ مرجعكم جَمِيعًا وعد الله حَقًا إِنَّه يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا﴾
366
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن ربكُم الله الذى خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام﴾ فِي الْأَيَّام قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا كأيام الْآخِرَة، كل يَوْم ألف سنة. وَالْآخر أَنَّهَا كأيام الدُّنْيَا.
قَوْله ﴿ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش﴾ قد بيينا مَذْهَب أهل السّنة فِي الاسْتوَاء؛ وَهُوَ أَنه نؤمن بِهِ وَنكل علمه إِلَى الله تَعَالَى من غير تَأْوِيل وَلَا تَفْسِير.
وَأما الْمُعْتَزلَة: فَإِنَّهُم أولُوا الاسْتوَاء بِالِاسْتِيلَاءِ، وَهُوَ بَاطِل عِنْد أهل الْعَرَبيَّة.
حكى عَن أَحْمد بن أبي دَاوُد - وَكَانَ من رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة - أَنه قَالَ لِابْنِ الْأَعرَابِي: أتعرف الْعَرَب الاسْتوَاء؟ بِمَعْنى الإستيلاء فَقَالَ. لَا. ويحكى أَن هَذِه الْمَسْأَلَة جرت فِي مجْلِس الْمَأْمُون، فَقَالَ بشر المريسي: الاسْتوَاء بِمَعْنى الِاسْتِيلَاء، فَقَالَ لَهُ أَبُو السمراء - وَهُوَ رجل من أهل اللُّغَة - اخطأت يَا شيخ؛ فَإِن الْعَرَب لَا تعرف الِاسْتِيلَاء إِلَّا بعد عجز سَابق.
قَوْله تَعَالَى ﴿يدبر الْأَمر﴾ قَالَ مُجَاهِد: يقْضِي الْأَمر ﴿مَا من شَفِيع إِلَّا من بعد إِذْنه﴾ مَعْنَاهُ: أَن الشفعاء لَا يشفعون إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهَذَا رد على النَّضر بن الْحَارِث، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يشفعني اللات والعزى. قَوْله تَعَالَى ﴿ذَلِكُم الله ربكُم﴾ يعْنى: ذَلِك الَّذِي فعله هَذَا ربكُم ﴿فاعبدوه أَفلا تذكرُونَ﴾ أَفلا تتعظون.
قَوْله تَعَالَى
﴿إِلَيْهِ مرجعكم جَمِيعًا وعد الله حَقًا﴾ نصب وعد الله حَقًا يعْنى: وعد الله وَعدا حَقًا
﴿إِنَّه يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم
﴿ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات بِالْقِسْطِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: بِالْعَدْلِ
﴿وَالَّذين كفرُوا لَهُم شراب من حميم﴾ الْحَمِيم هُوَ المَاء الَّذِي انْتهى حره. وَفِي الْقَصَص: أَن النَّار أوقدت عَلَيْهِ مُنْذُ يَوْم خلقهَا إِلَى أَن يدْخل الْكفَّار [فِي] (١) النَّار. قَوْله: {وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا
366
﴿الصَّالِحَات بِالْقِسْطِ وَالَّذين كفرُوا لَهُم شراب من حميم وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكفرون (٤) هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نورا وَقدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ يفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ (٥) إِن فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا خلق الله فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لآيَات لقوم يَتَّقُونَ (٦) إِن الَّذين لَا يرجون لقاءنا وَرَضوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطمأنوا بهَا وَالَّذين هم عَن أياتنا غافلون﴾ أَي: عَذَاب موجع بكفرهم.
367
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نورا﴾ الْآيَة، الشَّمْس وَالْقَمَر جسمان نيران، أَحدهمَا أَضْوَأ من الآخر، وَقَوله: ﴿جعل الشَّمْس ضِيَاء﴾ أَي: ذَات ضِيَاء ﴿وَالْقَمَر نورا﴾ أَي: ذَا نور. وَقَوله: ﴿وَقدره منَازِل﴾ مِنْهُم من قَالَ: هَذَا ينْصَرف إِلَى الْقَمَر خَاصَّة، وَمِنْهُم من قَالَ: ينْصَرف إِلَيْهِمَا، إِلَّا أَنه اكْتفى بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر.
ومنازل الْقَمَر ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا، أساميها مَعْلُومَة عِنْد الْعَرَب، تكون أَرْبَعَة عشر مِنْهَا ظَاهِرَة أبدا، وَأَرْبَعَة عشر مِنْهَا غَائِبَة أبدا، وَكلما طلع وَاحِد غَابَ وَاحِد، وَالْقَمَر ينزل كل لَيْلَة منزلا مِنْهَا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب﴾ يَعْنِي: قدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين وحساب الشُّهُور وَالْأَيَّام. وَقَوله: ﴿مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ أَي: للحق.
قَوْله: ﴿يفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم إِلَى آخر الْآيَة، وَقد ذكرنَا من قبل.
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن الَّذين لَا يرجون لقاءنا﴾ قَوْله: " لَا يرجون " فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: لَا يخَافُونَ، وَالْآخر: لَا يطمعون.
وَقَوله:
﴿لقاءنا﴾ قد بَينا من قبل. وَقَوله تَعَالَى:
﴿وَرَضوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قَالَ قَتَادَة: لَهَا يطْلبُونَ وَبهَا يفرحون. وَقَوله تَعَالَى:
﴿واطمأنوا بهَا﴾ سكنوا إِلَيْهَا. قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالَّذين هم عَن آيَاتنَا غافلون﴾ الْغَفْلَة سَهْو يعتري الْقلب يصرفهُ عَن وجد
367
( {٧) أُولَئِكَ مأواهم النَّار بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات يهْدِيهم رَبهم بإيمَانهمْ تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار فِي جنَّات النَّعيم (٩) دَعوَاهُم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتحيتهم فِيهَا سَلام وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين (١٠) الْعلم.
368
ثمَّ قَالَ: ﴿أُولَئِكَ مأواهم النَّار بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات يهْدِيهم رَبهم بإيمَانهمْ﴾ قَالَ مُجَاهِد: هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿نورا يمشي بِهِ﴾. وَقَالَ غَيره: يهْدِيهم رَبهم: يرشدهم رَبهم بإيمَانهمْ إِلَى الْجنَّة ﴿تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار﴾ أَي: من تَحت الْأَشْجَار. قَوْله: ﴿فِي جنَّات النَّعيم﴾.
ثمَّ قَالَ:
﴿دَعوَاهُم فِيهَا﴾ مَعْنَاهُ: دعاؤهم فِيهَا
﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ هَذَا كلمة تَنْزِيه وتبرئة الرب عَن السوء. وَفِي الْأَخْبَار: " أَن قَوْله:
﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ عَلامَة بَين أهل الْجنَّة والخدم، وَإِذا أَرَادوا الطَّعَام قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، فَيدْخل الخدم بالموائد، كل مائدة ميل فِي ميل، قَوَائِمهَا من اللُّؤْلُؤ، على كل مائدة سَبْعُونَ ألف صَحْفَة، فِي كل صَحْفَة لون من الطَّعَام لَا يشبه بعضه بَعْضًا، ثمَّ تجىء الطير كأمثال البخت، قَوَائِمهَا لون، وأجنحتها لون، وبطونها وظهورها لون، فَيَقَع بَين أيدى أهل الْجنَّة فَيَأْكُلُونَ مِنْهَا مَا يشاءون، ثمَّ تطير كَمَا كَانَت ".
وَقَوله تَعَالَى:
﴿وتحيتهم فِيهَا سَلام﴾ يعْنى: تَحِيَّة بَعضهم بَعْضًا يكون بِالسَّلَامِ، وَيُقَال مَعْنَاهُ: إِن تَحِيَّة الْمَلَائِكَة لَهُم بِالسَّلَامِ، وَيُقَال: إِن تَحِيَّة الله لَهُم بِالسَّلَامِ.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَآخر دَعوَاهُم﴾ مَعْنَاهُ: وَآخر قَوْلهم:
﴿أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين﴾ فَيكون ابْتِدَاء أَمرهم بالتسبيح، وانتهاء أَمرهم بِالْحَمْد وَالشُّكْر.
368
﴿يعجل الله للنَّاس الشَّرّ استعجالهم بِالْخَيرِ لقضي إِلَيْهِم أَجلهم فَنَذر الَّذين لَا يرجون لقاءنا فِي طغيانهم يعمهون (١١) وَإِذا مس الْإِنْسَان الضّر دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو﴾
369
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو يعجل الله للنَّاس الشَّرّ استعجالهم بِالْخَيرِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِي قَول الرجل يَقُول عِنْد الْغَضَب لأَهله وَولده: لعنكم الله، لَا بَارك الله فِيكُم، وَمَعْنَاهُ: وَلَو يعجل الله للنَّاس الشَّرّ - يعْنى: الْمَكْرُوه - استعجالهم بِالْخَيرِ أَي: كَمَا يحبونَ استعجالهم بِالْخَيرِ ﴿لقضى إِلَيْهِم أَجلهم﴾ فهلكوا جَمِيعًا وماتوا. وَقَوله: ﴿فَنَذر الَّذين لَا يرجون لقاءنا﴾ أَي: لَا يخَافُونَ لقاءنا ﴿فِي طغيانهم﴾ أَي: فِي ضلالتهم. قَوْله ﴿يعمهون﴾ يَتَرَدَّدُونَ، وَقيل: يتمادون، وَقد ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي بشر أغضب كَمَا يغْضب الْبشر، فأيما [رجل] سببته أولعنته فاجعلها لَهُ طهرة وَرَحْمَة ". وَفِي الْبَاب رِوَايَات كَثِيرَة كلهَا صَحِيحَة.
قَوْله تَعَالَى
﴿وَإِذا مس الْإِنْسَان الضّر﴾ أَي: الْمَكْرُوه
﴿دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا يحْتَمل مَعْنيين:
أَحدهمَا: إِذا مس الْإِنْسَان الضّر لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما دَعَانَا.
وَالْآخر: يحْتَمل إِذا مس الْإِنْسَان الضّر دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما، يَعْنِي: على هَذِه الْأَحْوَال كلهَا.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَلَمَّا كشفنا عَنهُ ضره مر﴾ فِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: مر طاغيا كَمَا كَانَ من قبل، وَالْآخر: اسْتمرّ على مَا كَانَ من قبل. قَالَ بَعضهم فِي هَذَا الْمَعْنى:
(كَأَن الْفَتى لم يعر يَوْمًا إِذا اكتسى | وَلم تَكُ صعلوكا إِذا مَا تمولا) |
قَوْله تَعَالَى:
﴿كَأَن لم يدعنا إِلَى ضرّ مَسّه﴾ مَعْنَاهُ: كَأَن لم يطْلب منا كشف ضرمسه. قَوْله
﴿كَذَلِك زين للمسرفين﴾ قَالَ ابْن جريج: كَذَلِك زين للمسرفين {مَا
369
﴿قَائِما فَلَمَّا كشفنا عَنهُ ضره مر كَأَن لم يدعنا إِلَى ضرّ مَسّه كَذَلِك زين للمسرفين مَا كَانُوا يعْملُونَ (١٢) وَلَقَد أهلكنا الْقُرُون من قبلكُمْ لما ظلمُوا وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا ليؤمنوا كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين (١٣) ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من﴾ كَانُوا يعْملُونَ) من الدُّعَاء عِنْد الْبلَاء، وَترك الشُّكْر عِنْد الرخَاء. وَفِيه معنى آخر: وَهُوَ أَنه كَمَا زين لكم أَعمالكُم، كَذَلِك زين للمسرفين الَّذين كَانُوا من قبلكُمْ أَعْمَالهم.
370
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أهلكنا الْقُرُون من قبلكُمْ لما ظلمُوا وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: ﴿وَمَا كَانُوا ليؤمنوا﴾ قَالَ الزّجاج: هَذَا فِي قوم علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَنعهم الله من الْإِيمَان جَزَاء على كفرهم. قَوْله: ﴿كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين﴾ وَهَذَا دَلِيل على أَن قَول ابْن الْأَنْبَارِي أصح.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من بعدهمْ﴾ يَعْنِي: خلفاء فِي الأَرْض من بعدهمْ ﴿لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ﴾ وَمَعْنَاهُ: ليختبركم فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ.
رُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: يَا ابْن أم عمر، لقد اسْتخْلفت، فَانْظُر كَيفَ تعْمل.
وَرُوِيَ أَنه قَالَ فِي موعظته: أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِن الله استخلفكم لينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ، فأروا الله أَعمالكُم الْحَسَنَة، وَكفوا عَن الْأَعْمَال القبيحة.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هَذَا أَو بدله﴾ رُوِيَ فِي التفاسير أَن الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي: يَا مُحَمَّد، إِن كنت تُرِيدُ أَن نؤمن لَك فأت بقرآن لَيْسَ فِيهِ سبّ آلِهَتنَا، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْبَعْث والنشور وَإِن لم ينزله الله هَكَذَا، فقله من عِنْد نَفسك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش الْفرق بَين قَوْله:
﴿ائْتِ بقرآن غير هَذَا﴾ [وَقَوله] :
﴿أَو بدله﴾ أَلَيْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِد؟
370
﴿بعدهمْ لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هَذَا أَو بدله قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم (١٥) قل لَو شَاءَ الله مَا تلوته عَلَيْكُم وَلَا أدراكم بِهِ فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله أَفلا تعقلون (١٦) فَمن أظلم مِمَّن﴾
الْجَواب: أَن مَعْنَاهُمَا مُخْتَلف، وَقَوله:
﴿ائْتِ بقرآن غير هَذَا﴾ يجوز أَن يَأْتِي بِغَيْرِهِ مَعَه، وَقَوله:
﴿أَو بدله﴾ لَا يكون إِلَّا أَن يتْرك هَذَا وَيَأْتِي بِغَيْرِهِ.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لم أقل هَذَا من تِلْقَاء نَفسِي حَتَّى أَقُول غَيره من تِلْقَاء نَفسِي.
371
ثمَّ قَالَ:
﴿قل لَو شَاءَ الله مَا تلوته عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي: لَو شَاءَ الله مَا أنزل الْقُرْآن عَليّ،
﴿وَلَا أدراكم بِهِ﴾ أَي: وَلَا أعلمكُم الله بِهِ
﴿فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله﴾ الْعُمر والعمر بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:
(بَان الشَّبَاب وأخلف الْعُمر | وتنكر الإخوان والدهر) |
وَقدر الْعُمر الَّذِي لبث فيهم من قبله: هُوَ أَرْبَعُونَ سنة بِاتِّفَاق أهل الْعلم؛ فَإِن النَّبِي بعث إِلَيْهِم وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة، ولبث بِمَكَّة ثَلَاث عشرَة سنة، وبالمدينة عشرا، وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة. وَفِي رِوَايَة عَن أنس " أَن النَّبِي مكث بِمَكَّة عشرا، وبالمدينة عشرا وتوفاه الله على رَأس سِتِّينَ سنة. وَالرِّوَايَة الأولى أظهر وَأشهر.
قَوْله
﴿أَفلا تعقلون﴾ مَعْنَاهُ: أَفلا تفقهون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح المجرمون﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ويعبدون من دون الله مَا لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل:
371
﴿افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح المجرمون (١٧) ويعبدون من دون الله مَا لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله قل أتنبئون الله بِمَا لَا يعلم فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (١٨) وَمَا كَانَ النَّاس﴾ كَيفَ قَالَ:
﴿وَلَا يضرهم﴾ وَلَا شكّ أَنه ضرهم؟
الْجَواب عَنهُ مَعْنَاهُ: لَا يضرهم إِن تركُوا عِبَادَته، وَلَا يَنْفَعهُمْ إِن عبدوه. وَقَوله:
﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله وهم لَا يُؤمنُونَ بِالْبَعْثِ؟.
الْجَواب: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله فِي مصَالح مَعَايِشنَا فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله تَعَالَى:
﴿قل أتنبئون الله﴾ أَي: أتخبرون الله؟
﴿بِمَا لَا يعلم فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَحَقِيقَة الْآيَة: الرَّد أَو الْإِنْكَار عَلَيْهِم.
372
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا كَانَ النَّاس إِلَّا أمة وَاحِدَة﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: قَول مُجَاهِد وَهُوَ: أَن النَّاس كَانُوا على الْإِسْلَام فِي زمَان آدم إِلَى أَن قتل أحد ابنيه الآخر
﴿فَاخْتَلَفُوا﴾.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْعَرَب كَانُوا على دين إِبْرَاهِيم حَتَّى اخْتلفُوا. وَمن الْمَعْرُوف أَن أول من غير دين إِبْرَاهِيم من الْعَرَب هُوَ عَمْرو بن لحي. وَثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت [عَمْرو] بن لحي يجر قصبه فِي النَّار ".
وَيُقَال فِي الْآيَة: إِن المُرَاد من " الْأمة " أهل سفينة نوح عَلَيْهِ السَّلَام.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك﴾ يَعْنِي: فِي التَّأْجِيل والإمهال
﴿لقضى بَينهم فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أَي: لحكم بَينهم فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
372
﴿إِلَّا أمة وَاحِدَة فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لقضي بَينهم فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه فَقل إِنَّمَا الْغَيْب لله فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين (٢٠) وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة من بعد ضراء مستهم إِذا لَهُم مكر فِي آيَاتنَا قل﴾
373
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ الرَّسُول قد أَتَى بِالْآيَاتِ على زعمكم؟
الْجَواب عَنهُ: بلَى، وَمعنى الْآيَة: هلا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه على مَا نقترحه.
﴿فَقل إِنَّمَا الْغَيْب لله﴾ يَعْنِي: علم الْغَيْب لله، إِن شَاءَ أَتَى بِالْآيَةِ الَّتِي تسألونها وَإِن شَاءَ لم يَأْتِ ﴿فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين﴾ يَعْنِي: انتظروا الْغَيْب إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة من بعد ضراء مستهم﴾ الذَّوْق: تنَاول مَاله طعم بفمه ليجد طعمه، فَأَما الرَّحْمَة هَاهُنَا فِيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا الْعَافِيَة، وَالْآخر: أَنَّهَا الخصب وَالنعْمَة.
وَالضَّرَّاء فِيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا الشدَّة، وَالْآخر: أَنَّهَا الجدب والقحط.
﴿مستهم﴾ أَي: أَصَابَتْهُم. وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِذا لَهُم مكر فِي آيَاتنَا﴾ الْمَكْر: صرف الشَّيْء عَن وَجهه بطرِيق الْحِيلَة. قَالَ مُجَاهِد: ﴿إِذا لَهُم مكر فِي آيَاتنَا﴾ أَي: تَكْذِيب واستهزاء.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قل الله أسْرع مكرا﴾ يَعْنِي: أَشد أخذا. وَيُقَال: مَعْنَاهُ: إِن مَا يَأْتِي من الْعَذَاب من قبله أسْرع فِي إهلاككم مِمَّا يَأْتِي مِنْكُم فِي دفع الْحق وتكذيبه.
وَقَوله: ﴿إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
قَوْله تَعَالَى:
﴿هُوَ الَّذِي يسيركم فِي الْبر وَالْبَحْر﴾ قُرِئت بقراءتين: " يسيركم " و " ينشركم "، وَالْمَعْرُوف: " يسيركم " وَمَعْنَاهُ: تسهيل طَرِيق السّير عَلَيْكُم فِي الْبر وَالْبَحْر. وَأما من قَرَأَ: " ينشركم " مَعْنَاهُ: يبثكم. وَرُوِيَ عَن الضَّحَّاك أَنه قَالَ: الْبَحْر هُوَ الْأَمْصَار، وَالْبر هُوَ الْبَوَادِي. وَقَوله تَعَالَى:
﴿حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك﴾ قَالَ أهل
373
﴿الله أسْرع مكرا إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يسيركم فِي الْبر وَالْبَحْر حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة وفرحوا بهَا جاءتها ريح عاصف﴾ اللُّغَة: الْفلك تؤنث وتذكر. قَالَ الله تَعَالَى:
﴿فِي الْفلك المشحون﴾ وَقَالَ هَاهُنَا:
﴿وجرين بهم﴾ وَقَالُوا أَيْضا: إِن الْفلك يكون بِمَعْنى الْوَاحِد وَبِمَعْنى الْجمع. وَقَوله:
﴿برِيح طيبَة﴾ أَي: هينة لينَة.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الرّيح من روح الله، فسألوا الله من خَيرهَا، وتعوذوا بِاللَّه من شَرها ".
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ:
﴿حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم﴾ فَهَذَا تَغْيِير الْكَلَام عَن وَجهه؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَرَب تقيم المعاينة مقَام المخاطبة، والمخاطبة مقَام المعاينة، قَالَ الشَّاعِر:
(وشطت مَزَار العاشقين فَأَصْبَحت | عسيرا على طلابك ابْنة مخرم) |
وَمِنْهُم من قَالَ: معنى الْآيَة: حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة يَا مُحَمَّد. وَقَوله:
﴿وفرحوا بهَا جاءتها ريح عاصف﴾ وَهِي الشَّدِيدَة الْمهْلكَة، قَالَ الشَّاعِر:
(فِي فيلق شهباء ملمومة | تعصف بالحاسر والدارع) |
وَقَوله:
﴿وجاءهم الموج من كل مَكَان﴾ الموج: مَا يظْهر على الْبَحْر من الرّيح.
374
﴿وجاءهم الموج من كل مَكَان وظنوا أَنهم أحيط بهم دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين لَئِن أنجيتنا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ﴾
وَقَوله:
﴿وظنوا﴾ وتيقنوا
﴿أَنهم أحيط بهم﴾ يُقَال لمن كَانَ فِي بلَاء وَشدَّة: إِنَّه قد أحيط بِهِ. وَقَوله:
﴿دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين﴾ مَعْنَاهُ: أَنهم أَخْلصُوا فِي الدُّعَاء، وَلم يدعوا أحدا سوى الله. وَقَوله:
﴿لَئِن أنجيتنا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
375
ثمَّ قَالَ تَعَالَى:
﴿فَلَمَّا أنجاهم إِذا هم يَبْغُونَ فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق﴾ الْبَغي: هُوَ قصد الاستعلاء على الْغَيْر بالظلم، وَالْبَغي هَا هُنَا بِمَعْنى الْفساد، وَيُقَال: بغي الْجرْح إِذا أدّى إِلَى الْفساد، وبغت الْمَرْأَة إِذا فجرت.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يُؤَخر الله صَاحب بغي " أَي: لَا يمهله. وَفِي الْأَخْبَار - أَيْضا -: " الْبَغي مصراعة ".
ثمَّ قَالَ:
﴿يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم﴾ أَي: وبال بَغْيكُمْ عَلَيْكُم.
قَوْله
﴿مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ وقرىء: " مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا "؛ فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع مَعْنَاهُ: هُوَ مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَمن قَرَأَ بِالنّصب مَعْنَاهُ: يمتعون مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا. وَعَن الْأَعْمَش قَالَ: الْمَتَاع: زَاد الرَّاكِب. وَقَالَ أهل الْمعَانِي: حَقِيقَة معنى الْآيَة: أَن الْبَغي مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا.
375
﴿فَلَمَّا أنجاهم إِذا هم يَبْغُونَ فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا ثمَّ إِلَيْنَا مرجعكم فننبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّمَا مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من السَّمَاء فاختلط بِهِ نَبَات الأَرْض مِمَّا يَأْكُل النَّاس والأنعام حَتَّى إِذا أخذت الأَرْض زخرفها وازينت بهَا وَظن أَهلهَا أَنهم قادرون عَلَيْهَا﴾
قَوْله تَعَالَى:
﴿ثمَّ إِلَيْنَا مرجعكم فننبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ أَي: نخبركم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ.
376
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِنَّمَا مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا صفة الْحَيَاة الدُّنْيَا
﴿كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من السَّمَاء﴾ أَي: من السَّحَاب
﴿فاختلط بِهِ نَبَات الأَرْض﴾ يَعْنِي: اخْتَلَط الْمَطَر بالنبات، والنبات بالمطر
﴿مِمَّا يَأْكُل النَّاس والأنعام﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَقَوله:
﴿حَتَّى إِذا أخذت الأَرْض زخرفها﴾ الزخرف: كَمَال الْحسن، وَالذَّهَب زخرف؛ لكماله فِي الْحسن، وَمعنى الزخرف هَاهُنَا: الْبَهْجَة والنضرة. وَقَوله:
﴿وازينت﴾ أَي: تزينت، وَقَالُوا مَعْنَاهُ: أنبتت وأثمرت وأينعت.
وَقَوله:
﴿وَظن أَهلهَا أَنهم قادرون عَلَيْهَا﴾ مَعْنَاهُ: وَظن أَهلهَا أَنهم قادرون على جذاذها وقطافها وحصادها. وَقَوله:
﴿أَتَاهَا أمرنَا لَيْلًا أَو نَهَارا﴾ أَي: عذابنا لَيْلًا أَو نَهَارا. وَقَوله:
﴿فجعلناها حصيدا﴾ الحصيد: المحصود، وَالْمعْنَى هَا هُنَا: هُوَ الاستئصال بِالْعَذَابِ. وَقَوله:
﴿كَأَن لم تغن بالْأَمْس﴾ قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: كَأَن لم تعمر بالْأَمْس. وَقَالَ غَيره: كَأَن لم يكن قَائِما بالْأَمْس، يُقَال: غنى فلَان بِالْمَكَانِ إِذا قَامَ فِيهِ، والمغاني هِيَ الْمنَازل، قَالَ لبيد:
(وَلَقَد سئمت من الْحَيَاة وطولها | وسؤال هَذَا النَّاس كَيفَ لبيد) |
(وغنيت سبتا قبل مجْرى داحس | لَو كَانَ للنَّفس اللجوج خُلُود) |
وَمعنى غنيت: أَقمت، والسبت: الدَّهْر هَاهُنَا.
قَالَ قَتَادَة: معنى الْآيَة: هُوَ أَن المتشبث بالدنيا يَأْتِيهِ أَمر الله وعذابه أغفل مَا يكون وأعجب بهَا.
وَقَوله
﴿كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يتفكرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
376
﴿أَتَاهَا أمرنَا لَيْلًا أَو نَهَارا فجعلناها حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس﴾
377
قَوْله تَعَالَى
﴿وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام﴾ فِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من يَوْم تطلع فِيهِ الشَّمْس إِلَّا وبجنبتيها ملكان يسمعان الْخَلَائق إِلَّا الثقلَيْن: أَلا هلموا إِلَى ربكُم، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالله يدعوا إِلَى دَار السَّلَام﴾. وَفِي الْآثَار - أَيْضا -: " أَنه مَا من يَوْم وَلَا ليل إِلَّا وينادى مُنَاد: يَا طَالب الْخَيْر هَلُمَّ، وَيَا طَالب الشَّرّ أقصر.
وَأما دَار السَّلَام: فالدار هِيَ الْجنَّة، وَفِي السَّلَام قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه هُوَ الله. وَالْآخر: أَن السَّلَام بِمَعْنى السَّلامَة؛ كَأَنَّهُ قَالَ: يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام من الْآفَات.
وروى أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر، عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَن على رَأْسِي جِبْرِيل، وَكَأن
377
﴿كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يتفكرون (٢٤) وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (٢٥) ﴾ على رجْلي مِيكَائِيل، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: اضْرِب لَهُ مثلا، فَقَالَ الآخر: مثلك يَا مُحَمَّد مثل ملك بنى دَارا ثمَّ بنى فِي دَار بَيْتا، ثمَّ وضع فِي الْبَيْت مأدبة، ثمَّ دَعَا إِلَيْهَا النَّاس، فَمنهمْ التارك وَمِنْهُم الْمُجيب، فالملك: هُوَ الله تَعَالَى، وَالدَّار: هُوَ الْإِسْلَام، وَالْبَيْت: الْجنَّة، والداعي: أَنْت، فَمن أجَاب دخل الْجنَّة، وَمن دخل الْجنَّة أكل مِنْهَا ".
وَقَوله:
﴿وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم: هُوَ الْإِسْلَام، وَفِيه أَقْوَال أخر، ذَكرنَاهَا من قبل.
378
قَوْله تَعَالَى:
﴿للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة﴾ الْإِحْسَان هَاهُنَا: الْإِسْلَام، وَالْإِحْسَان: هُوَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَاخْتلفُوا فِي الْحسنى وَزِيَادَة، فَروِيَ عَن أبي بكر الصّديق وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَابْن عَبَّاس، وَحُذَيْفَة، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: الْحسنى: هِيَ الْجنَّة، وَالزِّيَادَة: هِيَ النّظر إِلَى الله عز وَعلا. وروى أَبُو الْقَاسِم بن بنت منيع، عَن هدبة بن خَالِد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، عَن صُهَيْب - رَضِي الله عَنْهُم - أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة قَالَ الله - تَعَالَى -: يَا أهل الْجنَّة، إِن لكم عِنْدِي موعدا وَأَنا منجزكموه، فَقَالُوا: وَمَا ذَلِك؟ ألم تبيض وُجُوهنَا؟ ألم تثقل موازيننا؟ ألم تُدْخِلنَا الْجنَّة وتخلصنا من النَّار؟ قَالَ: فيتجلى لَهُم فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجهه، فَمَا أعْطوا شَيْئا هُوَ أحب (إِلَيْهِم) من النّظر إِلَيْهِ، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
﴿للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة﴾ ".
378
﴿للَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى وَزِيَادَة﴾قَالَ الإِمَام أَبُو المظفر: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن النقور بِالتَّخْفِيفِ بِبَغْدَاد قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة قَالَ:
أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن بنت منيع | الْخَبَر خرجه مُسلم فِي " الصَّحِيح ". |
وَفِي الْآيَة أَقْوَال آخر.
وروى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: الزِّيَادَة: غرفَة من اللُّؤْلُؤ لَهَا أَرْبَعَة آلَاف بَاب. وروى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْحسنى: هِيَ الْمثل من الثَّوَاب، وَالزِّيَادَة: هِيَ الزِّيَادَة على الْمثل إِلَى سَبْعمِائة ضعف. وَقَالَ مُجَاهِد: الْحسنى، هِيَ الْمثل، وَالزِّيَادَة: رضوَان الله تَعَالَى.
قَوْله ا تَعَالَى:
﴿وَلَا يرهق وُجُوههم قتر وَلَا ذلة﴾ القتر: سَواد الْوَجْه، وأصل (القتار) : هُوَ الدُّخان.
قَوْله:
﴿وَلَا ذلة﴾ أَي: هوان.
قَوْله:
﴿أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ﴾ مَعْنَاهُ ظَاهر.
379
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالَّذين كسبوا السَّيِّئَات جَزَاء سَيِّئَة بِمِثْلِهَا﴾ الْآيَة، هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يَجْزِي إِلَّا مثلهَا﴾. قَوْله:
﴿ [و] ترهقهم ذلة﴾ أَي: تغشاهم ذلة، أَي: ذل.
﴿مَا لَهُم من الله من عَاصِم﴾ أَي: مَانع. وَقَوله:
﴿كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا﴾ قُرِئت بقراءتين: " قطعا " و " قطعا "، فالقطع
379
﴿وَلَا يرهق وُجُوههم قتر وَلَا ذلة أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ (٢٦) وَالَّذين كسبوا السَّيِّئَات جَزَاء سَيِّئَة بِمِثْلِهَا وترهقهم ذلة مَا لَهُم من الله من عَاصِم كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا من اللَّيْل مظلما أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (٢٧) وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا مَكَانكُمْ أَنْتُم وشركاؤكم فزيلنا بَينهم وَقَالَ﴾ بتحريك الطَّاء - جمع الْقطعَة، وَالْقطع - بِسُكُون الطَّاء - وَاحِد.
فَإِن قيل: كَيفَ لم يقل: " قطعا من اللَّيْل مظْلمَة "؟
قُلْنَا: تَقْدِير الْآيَة: قطعا من اللَّيْل فِي حَال ظلمته، هَكَذَا قَالَه أهل اللُّغَة.
﴿أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ﴾ ظَاهر.
380
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا مَكَانكُمْ أَنْتُم وشركاؤكم﴾ الْآيَة. معنى الْآيَة: ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا: الزموا أَنْتُم وشركاؤكم مَكَانكُمْ.
قَوْله: ﴿فزيلنا بَينهم﴾ مَعْنَاهُ: ميزنا بَينهم يَعْنِي: فرقنا بَين الْمُشْركين والأصنام؛ وَهُوَ من قَوْله: زلت، لَا من قَوْله: ذلت ﴿وَقَالَ شركاؤكم مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ﴾ الشُّرَكَاء: هِيَ الْأَصْنَام الَّتِي جعلوها شُرَكَاء لله تَعَالَى على زعمهم. وَقَوله: ﴿مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ﴾ مَعْنَاهُ: كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ بطلبنا ودعوتنا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَكفى بِاللَّه شَهِيدا بَيْننَا وَبَيْنكُم إِن كُنَّا عَن عبادتكم لغافلين﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿هُنَالك تبلو﴾ الْآيَة، قُرِئت بقراءتين: " تتلو " و " تبلو " فَقَوله: " تبلو " قَالَ مُجَاهِد: تختبر، مَعْنَاهُ: تَجدهُ وتقف عَلَيْهِ، وَقَوله " تتلو " قَالَ الْأَخْفَش: يقْرَأ، فَيكون فِي معنى قَوْله:
﴿يخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة﴾ إِلَى قَوْله:
﴿اقْرَأ كتابك كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبا﴾.
380
﴿شركاؤهم مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ (٢٨) فَكفى بِاللَّه شَهِيدا بَيْننَا وَبَيْنكُم إِن كُنَّا عَن عبادتكم لغافلين (٢٩) هُنَالك تبلو كل نفس مَا أسلفت وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق﴾
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى " تتلو ": تتبع، قَالَ الشَّاعِر:
(أرى الْمُرِيب يتبع المريبا | كَمَا رَأَيْت الذيب يَتْلُوا الذيبا) |
قَوْله تَعَالَى:
﴿كل نفس مَا أسلفت﴾ أَي: مَا قدمت. قَوْله تَعَالَى:
﴿وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر:
﴿وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم﴾ وَقَالَ هَاهُنَا:
﴿وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق﴾ فَكيف وَجه الْآيَتَيْنِ؟.
الْجَواب عَنهُ: أَن الْمولى هُنَاكَ بِمَعْنى النَّاصِر والحافظ، وَالْمولى هَاهُنَا بِمَعْنى الْمَالِك، فَلم يكن بَين الْآيَتَيْنِ اخْتِلَاف.
وَقَوله [تَعَالَى]
﴿وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون﴾ أَي: فَاتَ عَنْهُم مَا كَانُوا يكذبُون.
381
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل من يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض﴾ الرزق من السَّمَاء بالمطر، وَمن الأَرْض بالنبات. وَقَوله: ﴿أم من يملك السّمع والأبصار﴾ مَعْنَاهُ: وَمن أَعْطَاكُم الأسماع والأبصار. وَقَوله ﴿وَمن يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ﴾ مَعْنَاهُ: وَمن يخرج النُّطْفَة من الْحَيّ، والحي من النُّطْفَة، والسنبلة من الْحبّ، وَالْحب من السنبلة، وَالْبيض من الطير وَالطير من الْبيض، وَالشَّجر من النواة، والنواة من الشّجر، وَالْمُؤمن من الْكَافِر، وَالْكَافِر من الْمُؤمن.
وَقَوله ﴿وَمن يدبر الْأَمر﴾ وَمن يقْضِي الْأَمر. وَقَوله: ﴿فسيقولون الله فَقل أَفلا تَتَّقُون﴾ مَعْنَاهُ: أَفلا تَتَّقُون الشّرك مَعَ هَذَا الْإِقْرَار.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فذلكم الله ربكُم الْحق﴾ مَعْنَاهُ: فذلكم الَّذِي صفته هَذَا هُوَ ربكُم الْحق. وَقَوله:
﴿فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال﴾ مَعْنَاهُ: فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الْبَاطِل.
381
﴿وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (٣٠) قل من يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض أَمن يملك السّمع والأبصار وَمن يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وَمن يدبر الْأَمر فسيقولون الله فَقل أَفلا تَتَّقُون (٣١) فذلكم الله ربكُم الْحق فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال فَأنى تصرفون (٣٢) ﴾
وَرُوِيَ عَن حَرْمَلَة أَنه قَالَ: سَأَلت (مَالك بن أنس) عَن الْغناء، فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة:
﴿فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال "﴾
وَرُوِيَ عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد من التَّابِعين نَحوا من هَذَا فِي هَذَا الْمَعْنى. وَقَوله
﴿فَأنى تصرفون﴾ أَي: كَيفَ يعدل بكم عَن وَجه الْحق؟.
382
قَوْله تَعَالَى: ﴿كَذَلِك حقت﴾ أَي: وَجَبت ﴿كلمة رَبك﴾ أَي: حِكْمَة رَبك ﴿على الَّذين فسقوا﴾ أَي: كفرُوا ﴿أَنهم لَا يُؤمنُونَ﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا فِي أَقوام بأعيانهم علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل هَل من شركائكم من يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ﴾ مَعْنَاهُ: ينشىء الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ. وَقَوله: ﴿قل الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ﴾ مَعْنَاهُ: ينشىء الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ، وَمعنى الْإِعَادَة: هِيَ الْإِحْيَاء للبعث يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله ﴿فَأنى تؤفكون﴾ مَعْنَاهُ: فَكيف تصرفون؟.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قل هَل من شركائكم من يهدي إِلَى الْحق قل الله يهدي للحق﴾ مَعْنَاهُ ظَاهر. وَقَوله:
﴿أَفَمَن يهدي إِلَى الْحق أَحَق أَن يتبع أَمن لَا يهدي إِلَّا أَن يهدى﴾ قُرِئت بقراءات كَثِيرَة قَالَ أهل الْعَرَبيَّة: أَصَحهَا: " أَمن لَا يهدي " أَو " يهدي " على وَجه الْإِدْغَام؛ لِأَن مَعْنَاهُ: يَهْتَدِي. ثمَّ قَالَ:
﴿إِلَّا أَن يهدى﴾ فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ:
﴿إِلَّا أَن يهدى﴾ والأصنام لَا يتَصَوَّر فِيهَا أَن تهدى وَلَا أَن تهتدي؟ الْجَواب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن معنى الْهِدَايَة هَاهُنَا هِيَ النَّقْل، يعْنى: لَا ينْتَقل من مَكَان إِلَى مَكَان إِلَّا أَن ينْقل.
382
﴿كَذَلِك حقت كلمت رَبك على الَّذين فسقوا أَنهم لَا يُؤمنُونَ (٣٣) قل هَل من شركائكم من يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ قل الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ فَأنى تؤفكون (٣٤) قل هَل من شركائكم من يهدي إِلَى الْحق قل الله يهدي للحق أَفَمَن يهدي أَي الْحق أَحَق أَن يتبع أَمن لَا يهدي إِلَّا أَن يهدى فَمَا لكم كَيفَ تحكمون (٣٥) وَمَا يتبع أَكْثَرهم إِلَّا ظنا إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا إِن الله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ وتفصيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من﴾
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذَا مَذْكُور على وَجه الْمجَاز؛ فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَصْنَام أَنَّهَا تسمع وتعقل وتهدي، فَذكر ذَلِك فِي الْأَصْنَام على وفْق مَا يَعْتَقِدُونَ، وَجعلهَا بِمَنْزِلَة من يعقل فِي هَذَا الْخطاب، وَأثبت عجزها عَن الْهِدَايَة. قَوْله:
﴿فَمَا لكم كَيفَ تحكمون﴾ مَعْنَاهُ ظَاهر.
383
قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَمَا يتبع أَكْثَرهم إِلَّا ظنا﴾ الْآيَة، الظَّن: حَالَة بَين الشَّك وَالْيَقِين. وَقَوله: ﴿وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا﴾ مَعْنَاهُ: إِن الظَّن لَا يقوم مقَام الْحق بِحَال. وَقَوله: ﴿إِن الله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ مَعْنَاهُ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله﴾ الْآيَة، وَفِيه وَجْهَان من الْمَعْنى:
أَحدهمَا: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن افتراء من دون الله.
وَالْوَجْه الثَّانِي: وَمَا يَنْبَغِي لمثل هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله لقَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل﴾ مَعْنَاهُ: وَمَا يَنْبَغِي لمثل النَّبِي أَن يغل.
وَقَوله:
﴿وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَالثَّانِي: تَصْدِيق الشَّيْء الَّذِي الْقُرْآن بَين يَدَيْهِ من الْقِيَامَة والبعث.
وَقَوله:
﴿وتفصيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين﴾ التَّفْصِيل: التَّبْيِين،
383
﴿رب الْعَالمين (٣٧) أم يَقُولُونَ افتراه قل فَأتوا بِسُورَة مثله وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين (٣٨) بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين (٣٩) وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ وَرَبك أعلم بالمفسدين (٤٠) وَإِن كَذبُوك فَقل لي عَمَلي وَلكم عَمَلكُمْ﴾ وَمعنى بَاقِي الْآيَة مَعْلُوم.
384
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم يَقُولُونَ افتراه قل فَأتوا بِسُورَة مثله﴾ معنى الْآيَة: هُوَ الِاحْتِجَاج على الْكفَّار بمعجزة الْقُرْآن؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا قد افتراه، فَقَالَ لَهُم: إِن كَانَ افتراه وأتى بِهِ من عِنْد نَفسه فَأتوا أَنْتُم بِمثلِهِ.
فَإِن قيل: قَالَ: ﴿فَأتوا بِسُورَة مثله﴾ فللقرآن مثل يُؤْتى بِسُورَة مِنْهُ؟
الْجَواب: أَن مَعْنَاهُ: فَأتوا بِسُورَة من مثله فِي البلاغة وَالنّظم وَصِحَّة الْمَعْنى. وَقيل: إِن مَعْنَاهُ: فَأتوا بِسُورَة مثل سُورَة الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله﴾ مَعْنَاهُ: وَاسْتَعِينُوا بِمن اسْتَطَعْتُم من دون الله ﴿إِن كُنْتُم صَادِقين﴾.
قَوْله: ﴿بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ﴾ الْإِحَاطَة بِعلم الشَّيْء هِيَ: الْمعرفَة بِهِ من جَمِيع وجوهه، وَمعنى الْآيَة: بل كذبُوا بِالْقُرْآنِ وَلم يحيطوا بِعِلْمِهِ، يَعْنِي: لم يعلموه.
وَقَوله: ﴿وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله﴾ أَي: وَلم يَأْتهمْ تَأْوِيله، وَمَعْنَاهُ: وَلم يعلمُوا مَا يؤول إِلَيْهِ عَاقِبَة أَمرهم. ثمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ وَرَبك أعلم بالمفسدين﴾ مَعْنَاهُ: وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ - بِالْقُرْآنِ - كأصحاب النَّبِي من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ كَأبي جهل وَمن (تَابعه)، وَمِنْهُم من قَالَ: وَمِنْهُم من يُؤمن
384
﴿أَنْتُم بريئون مِمَّا أعمل وَأَنا بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك أفأنت تسمع الصم وَلَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ (٤٢) وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك أفأنت تهدي الْعمي وَلَو﴾ بِهِ سرا وَعَلَانِيَة كالمؤمنين المخلصين، وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ سرا كالمنافقين.
﴿وَرَبك أعلم بالمفسدين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
385
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن كَذبُوك فَقل لي عَمَلي وَلكم عَمَلكُمْ﴾ الْآيَة، مَعْنَاهُ: لي عَمَلي وجزاؤه وَلكم عَمَلكُمْ وجزاؤه. قَوْله: ﴿أَنْتُم بريئون مِمَّا أعمل وَأَنا بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هَذَا مثل قَوْله: ﴿لكم دينكُمْ ولي دين﴾ وَمثل قَوْله تَعَالَى: ﴿لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك﴾ الْآيَة، الِاسْتِمَاع: طلب السّمع، وَقد كَانُوا يطْلبُونَ سَماع الْقُرْآن للرَّدّ والتكذيب بِهِ، لَا للتفهم وَالْإِيمَان بِهِ. وَقَوله: ﴿أفأنت تسمع الصم﴾ الصمم: آفَة تمنع من السماع، وَالْمرَاد من الصمم هَاهُنَا: صمم الْقلب؛ فَإِنَّهُم لما لم يسمعوا الْقُرْآن للْإيمَان بِهِ وقبوله كَأَنَّهُمْ لم يسمعوا، وجعلهم بِمَنْزِلَة الصم، والصم: جمع الْأَصَم. وَقَالَ الزّجاج: قد كَانُوا يسمعُونَ حَقِيقَة؛ وَلَكِن لشدَّة بغضهم وعداوتهم للنَّبِي لم يستمعوا ليفهموا، فجعلهم كَأَن لم يسمعوا. قَوْله: ﴿وَلَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ﴾ مَعْنَاهُ: وَلَو كَانُوا جُهَّالًا.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك﴾ النّظر: طلب الرُّؤْيَة بتقليب الْبَصَر، وَأما نظر الْقلب: هُوَ طلب الْعلم بالفكرة. وَقَوله:
﴿أفأنت تهدي الْعمي﴾ جعلهم بِمَنْزِلَة الْعمي؛ لأَنهم لم ينْظرُوا لطلب الْحق، وَالْمرَاد من الْعَمى هَاهُنَا: عمى الْقلب. وَمِنْهُم من قَالَ: جعلهم بِمَنْزِلَة الْعَمى كَمَا جعلهم بِمَنْزِلَة الصم حَيْثُ لم ينتفعوا لَا بأسماعهم وَلَا بِأَبْصَارِهِمْ.
وَذكر ابْن الْأَنْبَارِي حاكيا عَن ابْن قُتَيْبَة أَنه اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة على أَن السّمع أفضل
385
﴿كَانُوا لَا يبصرون (٤٣) إِن الله لَا يظلم النَّاس شَيْئا وَلَكِن النَّاس أنفسهم يظْلمُونَ (٤٤) وَيَوْم يحشرهم كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من النَّهَار يَتَعَارَفُونَ بَينهم قد خسر الَّذين﴾ من الْبَصَر، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي الصمم:
﴿لَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ﴾، وَقَالَ فِي الْعَمى:
﴿وَلَو كَانُوا لَا يبصرون﴾.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَهَذَا غلط؛ لِأَن المُرَاد من الْآيَة عمى الْقلب لَا عمى الْعين، وَكَذَلِكَ صمم الْقلب لَا صمم الْأذن؛ فعلى هَذَا لَا يَقع التَّفْضِيل.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَلِأَن حاسة الْبَصَر أفضل من حاسة السّمع، أَلا ترى أَن الْجمال فِيهَا أَكثر، وَالنُّقْصَان بفوتها أعظم، وسماها الرَّسُول كريمتى الْإِنْسَان؛ فَإِنَّهُ قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: من أخذت كريمتيه فَصَبر واحتسب، لم يكن لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجنَّة ".
وَإِذا كَانَ الرجل أعمى فَإِنَّهُ لَا يبصر إقباله من إدباره، وَلَا طَرِيق غيه من طَرِيق رشده، وَيكون أَسِيرًا فِي نَفسه، (ويتعطل) عَلَيْهِ مَنَافِع عَامَّة جوارحه.
386
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله لَا يظلم النَّاس شَيْئا وَلَكِن النَّاس أنفسهم يظْلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَيَوْم يحشرهم كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من النَّهَار﴾ معنى الْآيَة: تقريب وَقت مماتهم من وَقت بَعثهمْ، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى:
﴿كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من نَهَار﴾. وَقَوله:
﴿يَتَعَارَفُونَ بَينهم﴾ يَعْنِي: يعرف بَعضهم بَعْضًا. وَفِي بعض
386
﴿كذبُوا بلقاء الله وَمَا كَانُوا مهتدين (٤٥) وَإِمَّا نرنيك بعض الَّذين نعدهم أَو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلكُل أمة رَسُول فَإِذا جَاءَ رسولهم قضي بَينهم بِالْقِسْطِ وهم لَا يظْلمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (٤٨) قل لَا أملك لنَفْسي ضرا وَلَا نفعا إِلَّا مَا شَاءَ الله لكل أمة أجل إِذا جَاءَ أَجلهم فَلَا﴾ الْآثَار: أَن الْإِنْسَان يَوْم الْقِيَامَة يعرف من بجنبه، وَلَا يكلمهُ هَيْبَة وخشية. وَقَوله:
﴿قد خسر الَّذين كذبُوا بلقاء الله وَمَا كَانُوا مهتدين﴾ الخسران هَاهُنَا: خسران النَّفس، وَلَا شَيْء أعظم من خسران النَّفس. وَفِي بعض الْآثَار: يَا بَان آدم، أَنْت فِي دَار التِّجَارَة فاربح فِيهَا نَفسك.
387
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم﴾ قَالَ مُجَاهِد: بعض الَّذِي نعدهم هُوَ: الْقَتْل يَوْم بدر. وَقَالَ غَيره: معنى الْآيَة: إِمَّا نعذبهم فِي حياتك ﴿أَو نتوفينك﴾ قبل تعذيبهم ﴿فإلينا مرجعهم﴾ ومرجعهم إِلَيْنَا. وَقَوله: ﴿ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى، و " ثمَّ " هَاهُنَا بِمَعْنى الْوَاو.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلكُل أمة رَسُول﴾ الْأمة: هِيَ الْجَمَاعَة إِذا كَانُوا على مَنْهَج وَاحِد ومقصد وَاحِد. وَالرَّسُول: كل من حمل رِسَالَة ليؤديها على الْحق. وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِذا جَاءَ رسولهم﴾ قَالَ مُجَاهِد: فَإِذا جَاءَ رسولهم شَاهدا عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة ﴿قضى بَينهم بِالْقِسْطِ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ ﴿وهم لَا يظْلمُونَ﴾ يَعْنِي: لَا ينقص من حَقهم.
وَفِي الْآيَة معنى آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿فَإِذا جَاءَ رسولهم﴾ يَعْنِي: إِذا جَاءَ رسولهم بالإعذار والإنذار قضى بَينهم بِالْقِسْطِ أَي: بِالْحَقِّ، وَمَعْنَاهُ: أَنه قبل مَجِيء الرُّسُل لَا يتَوَجَّه ثَوَاب وَلَا عِقَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ يَعْنِي: وعد السَّاعَة.
ثمَّ قَالَ تَعَالَى:
﴿قل لَا أملك لنَفْسي ضرا وَلَا نفعا إِلَّا مَا شَاءَ الله﴾ الْآيَة. الْملك: قُوَّة يتَصَرَّف بهَا فِي الشَّيْء، وَقَوله:
﴿ضرا وَلَا نفعا﴾ يَعْنِي: دفع ضرّ وَلَا جلب نفع لم يقدره الله تَعَالَى. وَقَوله:
﴿لكل أمة أجل﴾ الْأَجَل: مُدَّة مَضْرُوبَة لحلول أَمر.
387
﴿يستئخرون سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قل أَرَأَيْتُم إِن أَتَاكُم عَذَابه بياتا أَو نَهَارا مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون (٥٠) أَثم إِذا مَا وَقع آمنتم بِهِ الْآن وَقد كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون (٥١) ثمَّ قيل للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب الْخلد هَل تُجْزونَ إِلَّا بِمَا كُنْتُم تكسبون (٥٢) ويستنبئونك أَحَق هُوَ قل إِي وربي إِنَّه لحق وَمَا أَنْتُم بمعجزين (٥٣) وَلَو أَن﴾
وَقَوله:
﴿إِذا جَاءَ أَجلهم فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
388
قَوْله تَعَالَى ﴿قل أَرَأَيْتُم إِن أَتَاكُم عَذَابه بياتا أَو نَهَارا﴾ والبيات: مَا يحصل لَيْلًا.
وَقَوله: ﴿مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون﴾ مَعْنَاهُ: مَاذَا يستعجل من الله المجرمون؟ وَقيل: مَاذَا يستعجل من الْعَذَاب المجرمون؟ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنهم كَانُوا يستعجلون الْعَذَاب؛ مثل قَول النَّضر بن الْحَارِث، فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك، فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء، أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم، فَقَالَ الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة: ﴿مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون﴾ يَعْنِي: وأيش يعلم المجرمون مَاذَا يستعجلون وَيطْلبُونَ؟ كَالرّجلِ يَقُول لغيره: مَاذَا جنيت على نَفسك؟ إِذا فعل فعلا قبيحا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ إِذا مَا وَقع آمنتم بِهِ﴾ قيل فِي التَّفْسِير: معنى قَوْله: (أَثم) : هُنَالك إِذا مَا وَقع - أَي: الْعَذَاب ﴿آمنتم بِهِ﴾ يَعْنِي: آمنتم بِاللَّه؟ من وَقع الْعَذَاب؟ أَي: نزل. ثمَّ قَالَ: ﴿الْآن﴾ وَفِيه حذف وَمَعْنَاهُ: الْآن آمنتم بِهِ ﴿وَقد كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون﴾ تَكْذِيبًا واستهزاء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ قيل للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب الْخلد هَل تُجْزونَ إِلَّا بِمَا كُنْتُم تكسبون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويستنبئونك أَحَق هُوَ﴾ مَعْنَاهُ: ويستخبرونك أَحَق هُوَ؟ وَالْحق ضد الْبَاطِل، وَيُقَال: الْحق مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيل. وَقَوله: ﴿قل إِي وربي﴾ مَعْنَاهُ: قل نعم وربي ﴿إِنَّه لحق وَمَا أَنْتُم بمعجزين﴾ مَعْنَاهُ: وَمَا أَنْتُم بفائتين من الْعَذَاب؛ لِأَن من عجز عَن الشَّيْء فقد فَاتَهُ.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلَو أَن لكل نفس ظلمت مَا فِي الأَرْض لافتدت بِهِ﴾ الافتداء
388
﴿لكل نفس ظلمت مَا فِي الأَرْض لافتدت بِهِ وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب وَقضي بَينهم بِالْقِسْطِ وَهُوَ لَا يظْلمُونَ (٥٤) أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض أَلا إِن وعد الله حق وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (٥٥) هُوَ يحيي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ ترجعون (٥٦) يَا أَيهَا﴾ هَاهُنَا: بذل مَا ينجو بِهِ عَن الْعَذَاب. وَقَوله:
﴿وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: قَول أبي عُبَيْدَة، وَهُوَ: أَن مَعْنَاهُ: وأظهروا الندامة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وأسروا الرؤساء مِنْهُم الندامة من الضُّعَفَاء خوفًا من مذامتهم وتعييرهم.
وَقَوله:
﴿وَقضى بَينهم بِالْقِسْطِ وهم لَا يظْلمُونَ﴾ قد بَينا الْمَعْنى.
389
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن عنْدكُمْ السَّمَوَات سبع، والأرضون سبع، فَكيف ذكر السَّمَوَات بِلَفْظ الْجمع وَالْأَرْض بِلَفْظ (الوحدان) ؟
الْجَواب: أَن الْوَاحِد هَاهُنَا بِمَعْنى الْجمع، وَالْعرب قد تذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع، وَالْجمع بِلَفْظ الْوَاحِد، وَقيل: إِن الْأَرْضين وَإِن كَانَت سبعا وَلَكِن لما لم تظهر سوى هَذِه الْوَاحِدَة وَكَانَت الْبَاقُونَ مخفية، ذكر بِلَفْظ الوحدان.
وَقَوله: ﴿أَلا إِن وعد الله حق وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ يحيي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ ترجعون﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿يَا أَيهَا النَّاس قد جاءتكم موعظة من ربكُم﴾ الْآيَة، الموعظة: قَول على طَرِيق الْعلم يُؤَدِّي إِلَى صَلَاح الْعباد. وَقَوله:
﴿وشفاء لما فِي الصُّدُور﴾ الشِّفَاء هَاهُنَا هُوَ الدَّوَاء لذِي الْجَهْل. وَقَالَ أهل الْعلم: لَا دَاء أعظم من الْجَهْل، وَلَا دَوَاء أعز من دَوَاء الْجَهْل، وَلَا طَبِيب أقل من طَبِيب الْجَهْل، وَلَا شِفَاء أبعد من شِفَاء الْجَهْل.
389
﴿النَّاس قد جاءتكم موعظة من ربكُم وشفاء لما فِي الصُّدُور وَهدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين (٥٧) قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ (٥٨) قل أَرَأَيْتُم مَا أنزل الله لكم من رزق فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون﴾
وَأما قَوْله
﴿لما فِي الصُّدُور﴾ الصَّدْر مَوضِع الْقلب، وَهُوَ أعز مَوضِع فِي الْإِنْسَان؛ لجوار الْقلب. وَقَوله:
﴿وَهدى﴾ يَعْنِي: وَهدى من الضَّلَالَة. وَقَوله:
﴿وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين﴾ الرَّحْمَة: هِيَ النِّعْمَة على الْمُحْتَاج، فَإِنَّهُ لَو أهْدى ملك إِلَى ملك شَيْئا لَا يُقَال: قد رَحمَه، وَإِن كَانَ هَذَا نعْمَة على الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ لم يَضَعهَا فِي مُحْتَاج.
390
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل بِفضل الله وبرحمته﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فضل الله: الْقرَان، وَرَحمته: الْإِسْلَام. وَعَن بَعضهم: فضل الله: الْإِسْلَام، وَرَحمته: الْقُرْآن. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: فضل الله: الْقُرْآن، وَرَحمته: أَن جعلنَا من أَهله. وَهَذَا مَرْوِيّ أَيْضا عَن عِكْرِمَة.
وَقَوله: ﴿فبذلك فليفرحوا﴾ وَقَرَأَ الْحسن: " فبذلك فلتفرحوا " مَعْنَاهُ: فبذلك فلتعجبوا.
وَقَوله: ﴿هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ﴾ أَي: مِمَّا يجمع الْكفَّار من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أَرَأَيْتُم مَا أنزل الله لكم من رزق فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: معنى هَذَا هِيَ السوائب والحوامي الَّتِي جعلهَا أهل الشّرك حَرَامًا عَلَيْهِم، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام، وَمَا أحلُّوا من ذَلِك وَمَا حرمُوا فِي تَفْسِير قَوْله: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بطُون هَذِه الْأَنْعَام خَالِصَة لذكورنا ومحرم على أَزوَاجنَا﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا الْمَعْنى، وَقد قَالَ فِي آخر الْآيَة: ﴿قل الله أذن لكم أم على الله تفترون﴾ ؟
وَلَيْسَ المُرَاد من الْآيَة الِاسْتِفْهَام؛ وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهَا الرَّد وَالْإِنْكَار عَلَيْهِم.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة﴾ قَالُوا: مَعْنَاهُ:
390
((٥٩} وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون (٦٠) وَمَا تكون فِي شَأْن وَمَا تتلو مِنْهُ من قُرْآن وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا إِذْ تفيضون فِيهِ وَمَا يعزب عَن رَبك من مِثْقَال ذرة فِي وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة، أيلقاهم الْخَيْر أم يلقاهم الشَّرّ؟ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن الشَّرّ يلقاهم؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَلِيق بافترائهم.
وَقَوله:
﴿إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون﴾ فِي التفاسير: من ألف وَاحِد شَاكر.
391
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا تكون فِي شَأْن﴾ الشَّأْن: اسْم مُبْهَم، وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: مَا حملك وَمَا بالك؟ وَمَا شانك؟ وَقَوله:
﴿فِي شَأْن﴾ يَعْنِي: فِي شَأْن من الشؤون.
وَقَوله:
﴿وَمَا تتلو مِنْهُ من قُرْآن﴾ فَإِن قيل: [أيش معنى] قوبه:
﴿وَمَا تتلو مِنْهُ﴾ وَلم يسْبق ذكر الْقُرْآن؟ الْجَواب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: وَمَا تتلو من الشَّأْن، من قُرْآن، وَالْآخر: أَنه رَاجع إِلَى الْقُرْآن أَيْضا، فأبطن فِي قَوْله:
﴿مِنْهُ﴾ وَأظْهر فِي قَوْله
﴿من قُرْآن﴾ تفخيما لَهُ. وَقَوله:
﴿وَلَا تعلمُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا﴾ الشُّهُود هَاهُنَا: جمع شَاهد.
وَقَوله:
﴿إِذْ تفيضون فِيهِ﴾ قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: إِذْ تندفعون فِيهِ، والإفاضة هِيَ الدّفع بِالْكَثْرَةِ. وَقَوله:
﴿وَمَا يعزب عَن رَبك﴾ مَعْنَاهُ: وَمَا يغيب عَن رَبك
﴿من مِثْقَال ذرة﴾ من وزن ذرة؛ والذرة: هِيَ النملة الصَّغِيرَة، وَقيل: مَا يظْهر فِي شُعَاع الشَّمْس. وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.
391
﴿الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر إِلَّا فِي كتاب مُبين (٦١) أَلا إِن﴾
وَقَوله:
﴿فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَر من ذَلِك﴾ يَعْنِي: أَصْغَر من الذّرة.
﴿وَلَا أكبر﴾ مَعْنَاهُ: وَلَا أكبر من الذّرة إِلَى مَا لَا يعلم قدره إِلَّا الله تَعَالَى. قَوْله:
﴿إِلَّا فِي كتاب مُبين﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا هُوَ مُبين فِي الْكتاب، يَعْنِي: اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَفِي الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة: " أَن الله تَعَالَى لما خلق الْقَلَم قَالَ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله قدر الْمَقَادِير قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة ". خرجه مُسلم فِي " صَحِيحه ".
392
قَوْله تَعَالَى:
﴿أَلا إِن أَوْلِيَاء الله﴾ اخْتلفُوا فِي أَوْلِيَاء الله على أَقْوَال:
أَحدهمَا: أَنهم الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَالْآخر: أَنهم الَّذين يرضون بِالْقضَاءِ، ويشكرون عِنْد الرخَاء، ويصبرون على الْبلَاء، وَالثَّالِث: هم المتحابون فِي الله تَعَالَى.
وَقد روى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " إِن من عباد الله عبادا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاء، يَغْبِطهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاء لِمَكَانِهِمْ عِنْد الله. فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، وَمن هم؟ فَقَالَ رَسُول: قوم تحَابوا بِروح الله من غير أَرْحَام يصلونها، وَلَا أَمْوَال يَتَعَاطونَهَا، وَإِن على وُجُوههم لنورا، وَإِنَّهُم على مَنَابِر من نور، لَا يخَافُونَ إِذا خَافَ النَّاس، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذا حزن النَّاس، ثمَّ قَرَأَ:
﴿أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم﴾ ". ذكره أَبُو دَاوُد فِي " سنَنه " قَرِيبا من هَذَا.
392
﴿أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُم﴾
وَالرَّابِع: هُوَ أَن أَوْلِيَاء الله من إِذا رؤوا [ذكر] الله.
وَفِي بعض الْأَخْبَار المرفوعة إِلَى النَّبِي: " سُئِلَ من أَوْلِيَاء الله؟ فَقَالَ الَّذين إِذا رؤوا [ذكر] الله ". وَفِي رِوَايَة: " الَّذين [يذكر] الله برؤيتهم ".
وَقَوله:
﴿لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾ الْخَوْف: انزعاج فِي النَّفس من توقع مَكْرُوه، والحزن: هم يَقع فِي الْقلب لنَوْع عَارض.
393
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
ثمَّ قَالَ تَعَالَى:
﴿لَهُم الْبُشْرَى﴾ اخْتلفُوا فِي هَذِه الْبُشْرَى على أَقْوَال:
الأول: روى (أَبُو الدَّرْدَاء) - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الْمُؤمن أوترى لَهُ ".
وَرَوَاهُ - أَيْضا - عبَادَة بن الصَّامِت أَبُو الْوَلِيد - رَضِي الله عَنهُ -.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الرُّؤْيَا الصادقة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من
393
﴿الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة لَا تَبْدِيل لكلمات الله ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (٦٤) وَلَا يحزنك قَوْلهم إِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (٦٥) أَلا إِن لله من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء إِن يتبعُون إِلَّا﴾ النُّبُوَّة ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: روى أَبُو ذَر - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " إِن الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا: هُوَ الثَّنَاء الْحسن، وَفِي الْآخِرَة: الْجنَّة ".
وَالثَّالِث: الْبُشْرَى: هِيَ نزُول نزُول مَلَائِكَة الرَّحْمَة بالبشارة من الله تَعَالَى عِنْد الْمَوْت.
وَالرَّابِع: الْبُشْرَى: هِيَ علم الْمُؤمن بمكانه من الْجنَّة قبل أَن يَمُوت. قَالَه قوم من التَّابِعين.
وَقَوله تَعَالَى:
﴿لَا تَبْدِيل لكلمات الله﴾ مَعْنَاهُ: لَا خلف لوعد الله. وَقَوله:
﴿ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم﴾ أَي: النجَاة الْعَظِيمَة.
394
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا يحزنك قَوْلهم﴾ وقف تَامّ. ثمَّ قَالَ: ﴿إِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا﴾ يعْنى: إِن الْغَلَبَة لله جَمِيعًا ﴿هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿أَلا إِن لله من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
وَقَوله:
﴿وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء﴾ مَعْنَاهُ: وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء على الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لله شريك. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء علما ويقينا؛ بل يتبعُون على الظَّن كَمَا قَالَ:
﴿إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون﴾ وَمعنى قَوْله:
﴿يخرصون﴾ : يكذبُون؛ لقَوْله:
﴿قتل الخراصون﴾ أَي: الكذابون.
394
﴿الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون (٦٦) هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ (٦٧) قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض إِن عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ (٦٨) قل إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون (٦٩) مَتَاع فِي الدُّنْيَا ثمَّ إِلَيْنَا﴾
395
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم. قَوْله: ﴿وَالنَّهَار مبصرا﴾ أَي: مبصرا فِيهِ. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَالنَّهَار ذَا إبصار، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فِي عيشة راضية﴾ يَعْنِي: ذَات رضَا. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أيش الْفرق بَين اتِّخَاذ الْوَلَد واتخاذ الْخَلِيل؟
الْجَواب عَنهُ: أَن الْحَقِيقَة الْخلَّة مَقْصُورَة على الله تَعَالَى؛ لِأَن الْخلَّة: تصفية الود، وَهَذَا يجوز على الله تَعَالَى. وَأما حَقِيقَة الْوَلَد: لَا يجوز على الله تَعَالَى؛ فاتخاذه لَا يجوز، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَّخذ الْوَلَد ليرثه ملكه أَو ليسر بِهِ، أَو ليعنه على أَمر، أَو ليخلفه فِي أُمُوره، وَالله تَعَالَى منزه عَن هَذَا كُله، وَلَا يجوز عَلَيْهِ، فَلم يجز اتِّخَاذ الْوَلَد لَهُ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿هُوَ الْغَنِيّ﴾ إِشَارَة إِلَى مَا قُلْنَا من عدم الْحَاجة. وَقَوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض إِن عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا﴾ أَي: من حجَّة بِهَذَا؟.
وَقَوله: ﴿أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون﴾ أَي: لَا ينجون.
وَقَوله
﴿مَتَاع فِي الدُّنْيَا﴾ مَعْنَاهُ: إِن الَّذين يفترون على الله حاصلهم مَتَاع فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله:
﴿ثمَّ إِلَيْنَا مرجعهم ثمَّ نذيقهم الْعَذَاب الشَّديد بِمَا كَانُوا يكفرون﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
395
﴿مرجعهم ثمَّ نذيقهم الْعَذَاب الشَّديد بِمَا كَانُوا يكفرون (٧٠) واتل عَلَيْهِم نبأ نوح إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قوم إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري بآيَات الله فعلى الله توكلت فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون﴾
396
قَوْله تَعَالَى:
﴿واتل عَلَيْهِم نبأ نوح﴾ مَعْنَاهُ: واتل عَلَيْهِم خبر نوح
﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قوم إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري﴾ مَعْنَاهُ: إِن كَانَ ثقل عَلَيْكُم مقَامي أَي: طول مكثي فِيكُم وتذكيري
﴿بآيَات الله﴾ وتحذيري إيَّاكُمْ بآيَات الله
﴿فعلى الله توكلت﴾ قَالُوا هَذَا اعْتِرَاض فِي الْكَلَام وَفِي الْمَعْنى. قَوْله:
﴿فَأَجْمعُوا أَمركُم﴾ هُوَ مُتَّصِل بِمَا سبق كَأَنَّهُ قَالَ: إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري بآيَات الله فَأَجْمعُوا أَمركُم. وَفِي الشاذ: " فاجمعوا أَمركُم " قَرَأَهُ عَاصِم الجحدري.
قَوْله:
﴿فاجمعوا﴾ قَالَ الْفراء: فاعزموا على أَمركُم وَادعوا
﴿شركاءكم﴾ وَقَالَ الزّجاج: فاجمعوا أَمركُم مَعَ شركائكم، إِلَّا أَنه لما ترك كلمة " مَعَ " فانتصب، قَالَ الشَّاعِر:
(يَا لَيْت شعري والمنى لَا تَنْفَع | حَتَّى أرى أَمْرِي وأمري مجمع) |
أَي: معزم عَلَيْهِ. وَقَوله:
﴿ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة﴾ أَي: ملتبسا، وَمِنْه الْغَمَام، وَالْغَم. وَقَوله تَعَالَى:
﴿ثمَّ اقضوا إِلَيّ﴾ قرىء فِي الشاذ: " ثمَّ أفضوا إِلَيّ " بِالْفَاءِ، وَالْمَعْرُوف بِالْقَافِ. قَالَ مُجَاهِد مَعْنَاهُ: ثمَّ اعلموا مَا فِي أَنفسكُم. وَقيل مَعْنَاهُ: توجهوا إليَّ بِالْقَتْلِ وَالْمَكْرُوه، وَهَذَا على طَرِيق التَّعْجِيز، فَإِنَّهُ قَالَ هَذِه الْمقَالة وعجزوا عَن إِيصَال مَكْرُوه إِلَيْهِ، فَهَذَا كَانَ (نوع) معْجزَة لَهُ، وَمِنْهُم من قَالَ: قَوْله:
﴿اقضوا إليَّ﴾ أَي: ثمَّ اقضوا مَا أَنْتُم قاضون، وَاعْمَلُوا مَا أَنْتُم عاملون، وَهَذَا مثل قَول السَّحَرَة:
﴿فَاقْض مَا أَنْت قَاض﴾، مَعْنَاهُ: فاعمل مَا أَنْت عَامل. وَحَقِيقَة
396
(
﴿٧١) فَإِن توليتم فَمَا سألتكم من أجر إِن أجري إِلَّا على الله وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين (٧٢) فَكَذبُوهُ فنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين (٧٣) ثمَّ بعثنَا من بعده رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا بِهِ من قبل كَذَلِك نطبع على قُلُوب﴾ الْقَضَاء: هُوَ إحكام الْأَمر والفراغ عَنهُ، وَمِنْه يُقَال للرجل إِذا مَاتَ: قد قضى فلَان، أَي: فرغ من أمره.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلَا تنْظرُون﴾ أَي: لَا تمهلون.
397
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن توليتم فَمَا سألتكم من أجر﴾ مَعْنَاهُ: فَإِن أعرضتم فَمَا سألتكم من ثَوَاب على تَبْلِيغ الرسَالَة. قَوْله: ﴿إِن أجري إِلَّا على الله﴾ أَي: إِن ثوابي إِلَّا على الله ﴿وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين﴾ أَي: من الْمُوَحِّدين. وَمِنْهُم من قَالَ: معنى قَوْله: ﴿من الْمُسلمين﴾ أَي: من المستسلمين لأمر الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَكَذبُوهُ فنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ مَعَه فِي الْفلك ثَمَانُون رجلا، وَكَانَ أول من حمله: الذّرة، وَآخر من حمله: الْحمار، وَتعلق الشَّيْطَان بذنب الْحمار، وَجعل يَقُول: نوح للحمار، ادخل فَلَا يدْخل حَتَّى قَالَ: ادخل يَا شَيْطَان فَدخل وإبليس مَعَه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وجعلناهم خلائف﴾ أَي: وَجَعَلنَا الَّذين مَعَه فِي الْفلك خلفاء الْقَوْم الَّذين أغرقناهم فِي دُورهمْ ومساكنهم ومنازلهم. وَقَوله تَعَالَى: ﴿وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين﴾ الْغَرق: هَلَاك بِالْمَاءِ والغامر. وَيُقَال: إِن مُدَّة الإغراق كَانَت أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ من وَقت إرْسَال المَاء من السَّمَاء إِلَى أَن (نضب) المَاء سِتَّة أشهر وعدة أَيَّام.
وَقَوله تَعَالَى:
﴿ثمَّ بعثنَا من بعده رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ يَعْنِي: من بعد نوح رسلًا إِلَى قَومهمْ
﴿فَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَي: بالدلالات الواضحات
﴿فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا بِهِ من قبل﴾ أَي: فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذب بِهِ قوم نوح من
397
﴿الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى وَهَارُون إِلَى فِرْعَوْن وملئه بِآيَاتِنَا فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين (٧٥) فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا قَالُوا إِن هَذَا لسحر مُبين (٧٦) قَالَ مُوسَى أتقولون للحق لما جَاءَكُم أَسحر هَذَا وَلَا يفلح الساحرون (٧٧) قَالُوا أجئتنا لتلفتنا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكون لَكمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْض وَمَا نَحن لَكمَا بمؤمنين (٧٨) وَقَالَ فِرْعَوْن ائْتُونِي بِكُل سَاحر عليم (٧٩) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون (٨٠) فَلَمَّا ألقوا قَالَ مُوسَى مَا جئْتُمْ بِهِ السحر إِن الله سيبطله إِن﴾ قبل
﴿كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْمُعْتَدِينَ﴾ يَعْنِي: يخْتم على قُلُوب الْمُعْتَدِينَ.
398
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى وَهَارُون إِلَى فِرْعَوْن وملئه بِآيَاتِنَا فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين﴾ مَعْنَاهُ ظَاهر. وَالْآيَة الَّتِي تَلِيهَا كَذَا مَعْلُوم الْمَعْنى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:قوله تعالى :( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) معناه ظاهر. والآية التي تليها كذا معلوم المعنى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:قوله تعالى :( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) معناه ظاهر. والآية التي تليها كذا معلوم المعنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا أجئتنا لتلفتنا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ مَعْنَاهُ: لتصرفنا. وَقَالَ قَتَادَة: لتلفتنا: لتلوينا، وَقَالَهُ ثَعْلَب من الْمُتَأَخِّرين. وَقَوله: ﴿وَتَكون لَكمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْض﴾ قَالَ مُجَاهِد: الْكِبْرِيَاء: الْملك؛ وَإِنَّمَا سمي الْملك الْكِبْرِيَاء؛ لِأَنَّهُ أكبر مَا يطْلب فِي الدُّنْيَا. وَقيل: معنى الْكِبْرِيَاء: هُوَ العظمة. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْغَلَبَة.
قَوْله: ﴿وَمَا نَحن لَكمَا بمؤمنين﴾ أَي: بمصدقين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْن ائْتُونِي بِكُل سَاحر عليم﴾ فِي الْقَصَص: أَنه جمع سبعين ألف سَاحر.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون﴾ أَي: اطرحوا مَا أَنْتُم طارحون.
وَقَوله:
﴿فَلَمَّا ألقوا قَالَ مُوسَى مَا جئْتُمْ بِهِ السحر﴾ وَقد بَينا معنى السحر من قبل.
﴿إِن الله سيبطله﴾ أَي: سيذهبه
﴿إِن الله لَا يصلح عمل المفسدين﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَفِي الْقَصَص أَنهم كَانُوا سبعين ألفا، مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم حَبل وعصا، فَألْقوا تِلْكَ الحبال والعصي، فَجعلت تخيل فِي أعين النَّاس كَأَنَّهَا ثعابين وحيات.
398
﴿الله لَا يصلح عمل المفسدين (٨١) ويحق الله الْحق بكلماته وَلَو كره المجرمون (٨٢) فَمَا آمن لمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّة من قومه على خوف من فِرْعَوْن وملئهم أَن يفتنهم وَإِن فِرْعَوْن لعال فِي الأَرْض وَإنَّهُ لمن المسرفين (٨٣) وَقَالَ مُوسَى يَا قوم إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه فَعَلَيهِ توكلوا إِن كُنْتُم مُسلمين (٨٤) فَقَالُوا على الله توكلنا رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للْقَوْم﴾
399
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ويحق الله الْحق بكلماته﴾ مَعْنَاهُ: يعلي الله الْحق بآياته ﴿وَلَو كره المجرمون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَا آمن لمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّة من قومه﴾ مَعْنَاهُ: فَمَا آمن لمُوسَى إِلَّا قَلِيل فِي قومه، وَاخْتلفُوا فِي الذُّرِّيَّة هَاهُنَا، قَالَ بَعضهم: إِنَّهُم قوم كَانَت آباؤهم فِي القبط وأمهاتهم من بني إِسْرَائِيل. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّهُم قوم نَجوا من قتل فِرْعَوْن، فَإِن فِرْعَوْن لما أَمر بقتل أَبنَاء بني إِسْرَائِيل كَانَت الْمَرْأَة من بني إِسْرَائِيل إِذا ولد لَهَا ابْن سلمته إِلَى امْرَأَة قبطية، وَتقول: وهبته لَك خوفًا عَلَيْهِ من الْقَتْل، فَنَشَأَ أُولَئِكَ الْأَوْلَاد عِنْد القبط، وَأَسْلمُوا فِي ذَلِك الْيَوْم، يَعْنِي: يَوْم السَّحَرَة الَّذين غلبوا. وَقَوله: ﴿على خوف من فِرْعَوْن وملئهم أَن يفتنهم﴾ قَالَ بعض أهل الْمعَانِي: فِي الْآيَة حذف؛ كَأَنَّهُ قَالَ: على خوف من آل فِرْعَوْن وملئهم، وَهَذَا مثل (قَوْله) :﴿واسأل الْقرْيَة﴾ أَي: أهل الْقرْيَة.
وَمِنْهُم من قَالَ: لما ذكر فِرْعَوْن دخل قومه مَعَه كَالرّجلِ يَقُول: قدم الْخَلِيفَة أَو الْأَمِير بِكَذَا وَكَذَا، فضاقت الْمنَازل على النَّاس، مَعْنَاهُ: قدم الْخَلِيفَة وَمن مَعَه.
ثمَّ قَالَ: ﴿أَن يفتنهم﴾ مَعْنَاهُ: أَن يعذبهم. وَقَوله: ﴿وَإِن فِرْعَوْن لعال فِي الأَرْض﴾ أَي: لطاغ فِي الأَرْض ﴿وَإنَّهُ لمن المسرفين﴾ مَعْلُوم.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قوم إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه فَعَلَيهِ توكلوا إِن كُنْتُم مُسلمين﴾ التَّوَكُّل: هُوَ الثِّقَة بِاللَّه والاعتماد عَلَيْهِ فِي الْأُمُور. وَقَوله: {إِن كُنْتُم
399
﴿الظَّالِمين (٨٥) ونجنا بِرَحْمَتك من الْقَوْم الْكَافرين (٨٦) وأوحينا إِلَى مُوسَى وأخيه أَن تبوءا لقومكما بِمصْر بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَبشر الْمُؤمنِينَ (٨٧) وَقَالَ مُوسَى رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه زِينَة وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن﴾ مُسلمين) أَي: إِذا كُنْتُم مُسلمين.
400
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَقَالُوا على الله توكلنا﴾ أَي: على الله اعتمدنا. وَقَوله: ﴿رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للْقَوْم الظَّالِمين﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: لَا تُهْلِكنَا بأيدي الظَّالِمين فيفتتنوا أَو يَظُنُّوا أَنا لم نَكُنْ على الْحق، قَالَه أَبُو مجلز.
وَالثَّانِي: لَا تعذبنا بِعَذَاب من عنْدك فيظنوا أَنهم خير منا، فَيصير ذَلِك فتْنَة لَهُم
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ونجنا بِرَحْمَتك من الْقَوْم الْكَافرين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وأوحينا إِلَى مُوسَى وأخيه أَن تبوءا﴾ معنى قَوْله:
﴿تبوءا﴾ اتخذا.
قَالَ الشَّاعِر:(نَحن بَنو عدنان لَيْسَ شكّ | تبوأ الْمجد بِنَا وَالْملك) |
وَقَوله
﴿لقومكما بِمصْر بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة وَأقِيمُوا الصَّلَاة﴾ ذكر أهل التَّفْسِير أَن فِرْعَوْن أَمر بتخريب كنائس بني إِسْرَائِيل وبيعهم لما جَاءَ مُوسَى وَدعَاهُ إِلَى الله، فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يأمرا بني إِسْرَائِيل أَن يتخذوا فِي بُيُوتهم الْمَسَاجِد، فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة﴾ يَعْنِي: مَسْجِدا.
وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ أَمرهم الله تَعَالَى أَن يتوجهوا إِلَى الْكَعْبَة. وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّهُم خَافُوا من إِظْهَار الصَّلَاة، فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يقيموا الصَّلَاة فِي الْبيُوت. وَقَوله تَعَالَى:
﴿وَبشر الْمُؤمنِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ مُوسَى رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه﴾ الْآيَة. قَوْله: {زِينَة
400
﴿سَبِيلك رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم (٨٨) قَالَ قد أجيبت دعوتكما فاستقيما وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ (٨٩) ﴾ وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا) قيل فِي التَّفْسِير: إِنَّه كَانَ من فسطاط مصر إِلَى الْعَريش إِلَى قريب من الْحَبَشَة معادن الذَّهَب وَالْفِضَّة والياقوت والزبرجد، فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿زِينَة وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن سَبِيلك﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذِه " اللَّام " لَام الصيرورة، وَيُقَال: هِيَ لَام الْعَاقِبَة، وَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(وللموت مَا تَلد الوالدة... )
فَلَمَّا كَانَت عَاقِبَة أَمرهم الضلال وَالْكفْر قَالَ: ليضلوا عَن سَبِيلك
﴿رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم﴾ الطمس: تَغْيِير صُورَة الشَّيْء، وَقيل: هُوَ الإنمحاء، ودروس الْأَثر. قَالَ قَتَادَة: صَارَت أَمْوَالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حِجَارَة كلهَا. وَفِي بعض الرِّوَايَات: إِن عبيدهم وإماءهم صَارُوا حِجَارَة.
وَقَوله:
﴿وَاشْدُدْ على قُلُوبهم﴾ قَالَ مُجَاهِد: بالضلالة. وَقَالَ السّديّ: أمتهم على الْكفْر.
وَقَوله:
﴿فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم﴾ قيل: هَذَا بِمَعْنى الدُّعَاء (كَأَنَّهُ) قَالَ: فَلَا آمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم. وَقيل: مَعْنَاهُ معنى الْخَبَر.
401
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَ قد أجيبت دعوتكما﴾ فِي الْقَصَص: أَنه كَانَ بَين دُعَاء مُوسَى وإجابته أَرْبَعُونَ سنة، وَكَذَلِكَ كَانَ بَين دُعَاء يَعْقُوب وإجابته أَرْبَعُونَ سنة. فَإِن قَالَ قَائِل: إِن الدَّاعِي كَانَ مُوسَى، وَقَالَ:
﴿قد أجيبت دعوتكما﴾.
الْجَواب الْمَرْوِيّ: أَن مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُون يُؤمن، والتأمين: دُعَاء؛ فَإِن معنى التَّأْمِين: اللَّهُمَّ استجب.
قَوْله:
﴿فاستقيما﴾ يَعْنِي: على الطَّاعَة وَالدّين. وَقَوله:
﴿وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
401
﴿وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فأتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده بغيا وعدوا حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق قَالَ آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل وَأَنا من الْمُسلمين (٩٠) آلآن وَقد﴾
402
قَوْله تَعَالَى: ﴿وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر﴾ الْآيَة، مَعْنَاهُ: عبرنا ببني ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر. وَقَوله: ﴿فأتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده﴾ قَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال: اتبعهُ إِذا سَار فِي أَثَره، وَأتبعهُ إِذا أدْركهُ ولحقه. وَقَوله: ﴿بغيا وعدوا﴾ ظلما واعتداء، قرىء: " عدوا " و " عدوا " وَالْمعْنَى وَاحِد.
وَقَوله: ﴿حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق﴾ يَعْنِي: حَتَّى إِذا غمره المَاء وَقرب هَلَاكه ﴿قَالَ آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بن بَنو إِسْرَائِيل﴾ وَمَعْنَاهُ: آمَنت بالإله الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل ﴿وَأَنا من الْمُسلمين﴾.
وَقَوله:
﴿آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين﴾ فِي الْقَصَص " أَن جِبْرِيل كَانَ وَاقِفًا حِين قَالَ هَذَا القَوْل، فَقَالَ لَهُ: آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين، وَقَالَ لَهُ هَذَا القَوْل بِأَمْر الله تَعَالَى، آلآن وَقد عصيت.
وروى يُوسُف بن مهْرَان، عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي " أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: يَا مُحَمَّد، لَو رَأَيْتنِي وَأَنا آخذ من حَال الْبَحْر، وأدسه فِي فَم فِرْعَوْن خشيَة أَن تُدْرِكهُ الرَّحْمَة ". وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " أَن جِبْرِيل قَالَ: يَا مُحَمَّد، مَا أبغضت أحدا من خلق الله مثل مَا أبغضت فِرْعَوْن لما قَالَ لِقَوْمِهِ: مَا علمت لكم من، إِلَه غَيْرِي، فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ حِين غرق فَجعلت أدس الطين فِي فَمه لِئَلَّا يَقُول
402
﴿عصيت قبل وَكنت من المفسدين (٩١) فاليوم تنجيك ببدنك لتَكون لمن خلقك آيَة وَإِن كثيرا من النَّاس عَن آيَاتنَا لغافلون (٩٢) وَلَقَد بوأنا بني إِسْرَائِيل مبوأ صدق﴾ لَا إِلَه إِلَّا الله ". وَفِي رِوَايَة: " لِئَلَّا يثنى مَخَافَة أَن يغْفر الله لَهُ ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: والْحَدِيث صَحِيح فِي الْجُمْلَة.
403
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فاليوم ننجيك ببدنك﴾ فِي الْبر، قرىء: " ننحيك ببدنك " بِالْحَاء [من التنحية]، وَالْمَعْرُوف بِالْجِيم أَي: نلقيك على نجوة من الأَرْض. والنجوة: الْمَكَان الْمُرْتَفع. فِي الْقَصَص: أَن فِرْعَوْن لما غرق قَالَت بَنو إِسْرَائِيل: هُوَ أجل من أَن يغرق، فَلم يصدقُوا مُوسَى أَنه قد غرق، فَأمر الله تَعَالَى المَاء حَتَّى أَلْقَاهُ على وَجهه؛ وَهَذَا معنى قَوْله: ﴿ننجيك ببدنك﴾ وَقَوله: ﴿ببدنك﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: بدرعك، وَكَانَ لَهُ درع مَشْهُور من اللُّؤْلُؤ مرصع من الْجَوَاهِر، فرأوه فِي درعه فصدقوا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: ببدنك يَعْنِي: بجسد لَا روح فِيهِ.
قَوْله: ﴿لتَكون لمن خَلفك آيَة﴾ أَي: عِبْرَة. وَقَوله: ﴿وَإِن كثيرا من النَّاس عَن آيَاتنَا لغافلون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله تَعَالَى
﴿وَلَقَد بوأنا بني إِسْرَائِيل مبوأ صدق﴾ أَي: أنزلنَا بني إِسْرَائِيل مبوأ صدق أَي: أنزلنَا بني إِسْرَائِيل منَازِل صدق. وَقيل: إِن تِلْكَ الْمنَازل هِيَ مصر. وَقيل: إِنَّهَا الشَّام. وَقَوله:
﴿مبوأ صدق﴾ يَعْنِي: بصدقهم وَإِيمَانهمْ. وَقَوله:
﴿ورزقناهم من الطَّيِّبَات﴾ مَعْلُوم. وَقَوله:
﴿فَمَا اخْتلفُوا حَتَّى جَاءَهُم الْعلم﴾ يَعْنِي: التَّوْرَاة، فَإِنَّهُم اخْتلفُوا بعد نزُول التَّوْرَاة وَذَهَاب مُوسَى اخْتِلَافا شَدِيدا. ثمَّ قَالَ:
﴿إِن رَبك يقْضِي بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
403
﴿ورزقناهم من الطَّيِّبَات فَمَا اخْتلفُوا حَتَّى جَاءَهُم الْعلم إِن رَبك يقْضِي بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك فاسئل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك لقد جَاءَك الْحق من رَبك فَلَا تكونن من الممترين (٩٤) وَلَا تكونن﴾
404
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك﴾ فِي الْآيَة سُؤال مَعْرُوف، وَهُوَ: أَنه قَالَ: ﴿فَإِن كنت فِي شكّ﴾ كَيفَ يجوز أَن يكون الرَّسُول فِي الشَّك حَتَّى يَقُول لَهُ: فَإِن كنت فِي شكّ؟.
الْجَواب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن الْخطاب مَعَه وَالْمرَاد مِنْهُ قومه، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء﴾ وأمثالها كَثِيرَة.
وَقَالَ بَعضهم: تَقْدِيره: فَإِن كنت فِي شكّ أَيهَا الشاك فأسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة: مَا كنت فِي شكّ.
وَقَوله: ﴿فاسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك﴾ زِيَادَة تثبيت؛ وَالَّذين يقرءُون الْكتاب: هم الَّذين أَسْلمُوا من الْيَهُود، مثل عبد الله بن سَلام، وَابْن يَامِين وَغَيرهمَا.
وَالْوَجْه الثَّالِث: هَذَا على عَادَة كَلَام الْعَرَبِيّ، فَإِن الرجل يَقُول لِابْنِهِ: افْعَل كَذَا إِن كنت ابْني، وَلَا يكون هَذَا على الشَّك، وَكَذَا يَقُول لغلامه: أَطْعمنِي إِن كنت عَبدِي، وَلَا يكون على الشَّك. ٍ
وَقَوله: ﴿فاسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك﴾ فَقَالَ: مرهم ﴿فاسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك لقد جَاءَك الْحق من رَبك فَلَا تكونن من الممترين﴾ من الشاكين، وَمَعْنَاهُ: دم على الْيَقِين الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ.
الْوَجْه الأول اخْتِيَار الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي.
وَقَوله تَعَالَى:
﴿وَلَا تكونن من الَّذين كذبُوا بآيَات الله﴾ إِلَى آخر الْآيَة ظَاهر
404
﴿من الَّذين كذبُوا بآيَات الله فَتكون من الخاسرين (٩٥) إِن الَّذين حقت عَلَيْهِم كلمت رَبك لَا يُؤمنُونَ (٩٦) وَلَو جَاءَتْهُم كل آيَة حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم (٩٧) فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة﴾ الْمَعْنى.
405
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين حقت عَلَيْهِم كلمة رَبك﴾ مَعْنَاهُ: وَجب عَلَيْهِم عَذَاب رَبك.
وَيُقَال: معنى الْكَلِمَة: هُوَ قَوْله تَعَالَى: " هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاء فِي النَّار وَلَا أُبَالِي " كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَار.
وَقَوله: ﴿لَا يُؤمنُونَ وَلَو جَاءَتْهُم كل آيَة حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم﴾ يَعْنِي: الْإِيمَان عَن الْبَأْس.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٦:قوله تعالى :( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك ) معناه : وجب عليهم عذاب ربك.
ويقال : معنى الكلمة : هو قوله تعالى :«هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي » كما رُوي في الأخبار( ).
وقوله :( لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) يعني : الإيمان عن البأس.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس﴾ مَعْنَاهُ: فَلم تكن قَرْيَة آمَنت - أَي أهل قَرْيَة آمَنت - فنفعهم إِيمَانهم إِلَّا قوم يُونُس، وَهَذَا الْإِيمَان هُوَ عِنْد نزُول الْعَذَاب. وَالْمَنْقُول فِي الْقَصَص: أَن يُونُس - صلوَات الله عَلَيْهِ - أنذر قومه بِالْعَذَابِ وَخرج من بَينهم، فَلَمَّا رَأَوْا الْعَذَاب شبه النيرَان فِي السَّمَاء خَرجُوا من بلدهم إِلَى الصَّحرَاء، وَفرقُوا بَين الْأَوْلَاد والأمهات والبهائم والأجنة، وضجوا إِلَى الله تَعَالَى ضجة وَاحِدَة، فكشف الله عَنْهُم الْعَذَاب بعد أَن رَأَوْهُ عيَانًا، وَلم يفعل هَذَا بِأحد غَيرهم، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين﴾ أَي: إِلَى أجل مَعْلُوم.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الدُّعَاء الَّذِي دَعَا بِهِ قوم يُونُس هُوَ: يَا حَيّ حِين لَا حَيّ، يَا حَيّ يَا محيي الْمَوْتَى، يَا حَيّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت.
405
﴿الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين (٩٨) وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين (٩٩) وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله وَيجْعَل﴾
وَاخْتلف القَوْل فِي أَنهم هَل رَأَوْا الْعَذَاب عيَانًا أَو رَأَوْا دَلِيل الْعَذَاب؟ فالأكثرون على أَنهم رَأَوْا الْعَذَاب عيَانًا. قَالَ قَتَادَة: تدنى عَلَيْهِم الْعَذَاب حَتَّى صَار بَينهم وَبَين الْعَذَاب قدر ميل. وَقَالَ بَعضهم: رَأَوْا دَلِيل الْعَذَاب، وَلم يرَوا عين الْعَذَاب.
وَالْقَوْل الأول أصح؛ بِدَلِيل قَوْله:
﴿كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ والكشف إِنَّمَا يكون بعد وُقُوع الْعَذَاب أَو قرب الْعَذَاب. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قبل إِيمَانهم عِنْد المعاينة، وَلم يقبل إِيمَان غَيرهم، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر:
﴿يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ دلّ أَن الْإِيمَان المقبول هُوَ الْإِيمَان بِالْغَيْبِ؟
الْجَواب: أَن قوم يُونُس استثنوا من هَذَا الأَصْل بِنَصّ الْقُرْآن، وَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَلَا سُؤال عَلَيْهِ فِيمَا يفعل. وَزعم الْخَلِيل وسيبويه: أَن الِاسْتِثْنَاء هَاهُنَا مُنْقَطع، وَمعنى الْآيَة: لَكِن قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا.
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: الحذر لَا يرد الْقدر، وَالدُّعَاء يرد الْقدر؛ فَإِن الله تَعَالَى كشف الْعَذَاب عَن قوم يُونُس بِالدُّعَاءِ. وَعَن عَليّ - أَيْضا - أَنه قَالَ: كَانَ كشف الْعَذَاب يَوْم عَاشُورَاء.
وَقيل فِي تَقْدِير ابْتِدَاء الْآيَة: " فَهَلا " كَانَت قَرْيَة آمَنت حِين ينفعها إيمَانهَا؛ لَكِن قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم الْعَذَاب، وَمعنى قَرْيَة: أهل قَرْيَة. وَقيل: اسْم تِلْكَ الْقرْيَة كَانَ نِينَوَى، من بِلَاد الجزيرة.
406
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا﴾ فِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أخبر أَنه لم يَشَأْ إِيمَان جَمِيع النَّاس، وَعِنْدهم أَنه شَاءَ إِيمَان جَمِيع النَّاس. وَقَوله:
﴿أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين﴾ هَذَا تَسْلِيَة للنَّبِي
406
﴿الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ (١٠٠) قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا تغني الْآيَات وَالنّذر عَن قوم لَا يُؤمنُونَ (١٠١) فَهَل ينتظرون إِلَّا مثل أَيَّام الَّذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين (١٠٢) ثمَّ ننجي رسلنَا وَالَّذين آمنُوا كَذَلِك حَقًا﴾ أَنى لَو أردْت لأكرهتهم على الْإِيمَان، وَلم أرد، فَلَا ترد أَنْت - أَيْضا - أَن تكرههم على الْإِيمَان.
407
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله﴾ قَالَ عَطاء: إِلَّا بِتَوْفِيق الله. وَقَالَ غَيره: إِلَّا بِعلم الله. وَقيل: إِلَّا بِإِطْلَاق الله ذَلِك بِدفع الْمَوَانِع، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله﴾ مِنْهُم من قَالَ: " بِإِذن الله " أَي: بِقَضَائِهِ وَتَقْدِيره وَحكمه، والمعاني كلهَا صَحِيحَة. وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ﴾ قَالَ الْفراء: الرجس بِمَعْنى الرجز، وَالرجز هُوَ الْعَذَاب. وَقَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - إِن الرجس هُوَ السخط. وَقيل: إِنَّه الْإِثْم. وَقيل: إِنَّه الْهَلَاك. وَأما قَوْله: ﴿على الَّذين لَا يعْقلُونَ﴾ مَعْنَاهُ: لَا يُؤمنُونَ. وَقيل: معنى قَوْله: ﴿لَا يعْقلُونَ﴾ أَي: لَا يعْقلُونَ عَن الله أمره وَنَهْيه.
قَوْله: ﴿قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض من الدَّلَائِل والعبر والحجج. وَقَوله: ﴿وَمَا تغني الْآيَات وَالنّذر عَن قوم لَا يُؤمنُونَ﴾ هَذَا فِي قوم بأعيانهم علم الله تَعَالَى أَنهم لَا يُؤمنُونَ وَإِن نظرُوا فِي الْآيَات.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَهَل ينتظرون إِلَّا مثل أَيَّام الَّذين خلوا من قبلهم﴾ الِانْتِظَار هُوَ الثَّبَات لتوقع أَمر. وَقَوله: ﴿إِلَّا مثل أَيَّام الَّذين خلوا من قبلهم﴾ يَعْنِي: مثل أَيَّام الْهَلَاك فِي الَّذين خلوا من قبلهم من الْأُمَم المكذبة. قَوْله: ﴿قل فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ثمَّ ننجي رسلنَا وَالَّذين آمنُوا﴾ قَوْله: " ننجي " مُسْتَقْبل بِمَعْنى
407
﴿علينا ننج الْمُؤمنِينَ (١٠٣) قل يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني فَلَا أعبد الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله وَلَكِن أعبد الله الَّذِي يتوفاكم وَأمرت أَن أكون من الْمُؤمنِينَ (١٠٤) وَأَن أقِم وَجهك للدّين حَنِيفا وَلَا تكونن من الْمُشْركين (١٠٥) وَلَا تدع من دون﴾ الْمَاضِي، وَمَعْنَاهُ: أنجينا رسلنَا وَالَّذين آمنُوا. قَوْله
﴿كَذَلِك حَقًا علينا ننجي الْمُؤمنِينَ﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه.
408
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني، وهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بطلَان مَا جَاءَ بِهِ على بَصِيرَة؟
الْجَواب: أَنه قد كَانَ فيهم قوم شاكوك، فَالْمُرَاد من الْآيَة أُولَئِكَ الْقَوْم.
وَالثَّانِي: أَنهم لما رَأَوْا الْآيَات اضْطَرَبُوا وَشَكوا فِي أَمرهم وَأمر النَّبِي.
قَوْله: ﴿فَلَا أعبد الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله وَلَكِن أعبد الله الَّذِي يتوفاكم﴾ ظَاهر الْمَعْنى. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: ﴿إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني فَلَا أعبد الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله﴾ وَهُوَ لَا يعبد الَّذين من دون الله شكوا أَو لم يشكوا؟ وَمَا معنى قَوْله: ﴿وَلَكِن أعبد الله الَّذِي يتوفاكم﴾ ولأي شَيْء خص الْوَفَاة بِالذكر؟
الْجَواب: أما الأول مَعْنَاهُ: إِن كُنْتُم فِي شكّ فلست فِي شكّ، وَلَا أعبد إِلَّا الله على يَقِين وبصيرة. وَأما ذكر الْوَفَاة فِي قَوْله: " يتوفاكم " بِمَعْنى التهديد، فَإِن الْعَذَاب يَقع على الْكَافِر حَتَّى تُدْرِكهُ الْوَفَاة.
﴿وَأمرت أَن أكون من الْمُؤمنِينَ﴾ أَي: من المخلصين.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَأَن أقِم وَجهك للدّين حَنِيفا﴾ مَعْنَاهُ: وَأمرت أَن أستقيم لله على الدّين مخلصا. وَيُقَال مَعْنَاهُ: واستقم على الدّين الَّذِي أمرت بِهِ بِوَجْهِك. قَوْله تَعَالَى:
﴿حَنِيفا﴾ قد بَينا من قبل، وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي التَّوَجُّه إِلَى الْقبْلَة، وَهِي الْكَعْبَة؛ وَهِي فِي معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام﴾. وَقَوله:
﴿وَلَا تكونن من الْمُشْركين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
408
﴿الله مَا لَا ينفعك وَلَا يَضرك فَإِن فعلت فَإنَّك إِذا من الظَّالِمين (١٠٦) وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يردك بِخَير فَلَا راد لفضله يُصِيب بِهِ من يَشَاء من عباده وَهُوَ الغفور الرَّحِيم (١٠٧) قل يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم الْحق من ربكُم فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَمَا أَنا عَلَيْكُم بوكيل (١٠٨) وَاتبع مَا يُوحى﴾
409
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تدع من دون الله مَا لَا ينفعك وَلَا يَضرك﴾ الدُّعَاء يكون بمعنيين: أَحدهمَا: بِمَعْنى النداء، كَقَوْلِك: يَا زيد، وَيَا عَمْرو، وَالْآخر: بِمَعْنى الطّلب.
وَقَوله: ﴿مَا لَا ينفعك وَلَا يَضرك﴾ مَعْنَاهُ: لَا ينفعك إِن دَعوته، وَلَا يَضرك إِن تركت دعاءه. وَقَوله: ﴿فَإِن فعلت فَإنَّك إِذا من الظَّالِمين﴾ يَعْنِي: مِمَّن وضع الدُّعَاء فِي غير مَوْضِعه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ مَعْنَاهُ: إِن يصبك الله بضر، والضر: هُوَ الْخَوْف وَالْمَرَض والجوع وَنَحْوه.
وَقَوله: ﴿فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ أَي: لَا كاشف لذَلِك الضّر إِلَّا الله.
وَقَوله: ﴿وَإِن يَرك بِخَير﴾ أَي: يصبك بِخَير، وَالْخَيْر: هُوَ الخصب وَالسعَة والعافية وَنَحْوه.
وَقَوله: ﴿فَلَا راد لفضله﴾ أَي: لَا مَانع لفضله.
قَوْله: ﴿يُصِيب بِهِ من يَشَاء من عباده وَهُوَ الغفور الرَّحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قل يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم الْحق من ربكُم﴾ الْحق هَاهُنَا: هُوَ مَا ينجو بِهِ الْإِنْسَان، وضده: الْبَاطِل، وَهُوَ الَّذِي يهْلك بِهِ الْإِنْسَان. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْإِسْلَام. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْقُرْآن. وَقَوله:
﴿فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ﴾ " يَعْنِي ": يحْتَاط لنَفسِهِ.
﴿وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا﴾ يَعْنِي: من كفر وَترك الْإِيمَان؛ فَإِنَّمَا وباله وضلاله عَلَيْهِ.
قَوْله:
﴿وَمَا أَنا عَلَيْكُم بوكيل﴾ أَي: بمسلط، وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ تسْأَلُون عَن
409
﴿إِلَيْك واصبر حَتَّى يحكم الله وَهُوَ خير الْحَاكِمين (١٠٩) ﴾ أَعمالكُم وَلَا أسأَل أَنا عَن أَعمالكُم، كَمَا يسْأَل من وكل بالشَّيْء.
410
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَاتبع مَا يوحي إِلَيْك﴾ الْوَحْي: إِلْقَاء الشَّيْء فِي قلب الْإِنْسَان على الْخفية. وَقَوله:
﴿واصبر﴾ الصَّبْر: تجرع المرارة بالامتناع عَن الشَّيْء المشتهى لتوقع المحبوب فِي الْعَاقِبَة، وَمِمَّا يعين الْإِنْسَان على الصَّبْر علمه بِحَقِيقَة الْأَمر، وَمَا ينَال من الثَّوَاب، والثقة بموعود الله تَعَالَى. وَقَوله
﴿حَتَّى يحكم الله﴾ أَي: حَتَّى يقْضِي الله
﴿وَهُوَ خير الْحَاكِمين﴾ أَي: خير القاضين.
410
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿آلر كتاب أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير (١) أَلا تعبدوا إِلَّا الله﴾
تَفْسِير سُورَة هود
سُورَة هود مَكِّيَّة، إِلَّا قَوْله تَعَالَى:
﴿وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل﴾ إِلَى آخر الْآيَة؛ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّة.
411