تفسير سورة البقرة

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة البقرة
هذا هو الاسم المشهور، وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهو معارض لما روي من منع ذلك وتعين أن يقال : السورة التي يذكر فيها البقرة، وكذا في سور القرآن كله، ومن ثمة أجاز الجمهور ذلك من غير كراهة، ويمكن أن يوفق بأنه كان مكروها في بدء الإسلام لاستهزاء الكفار، ثم بعد سطوع نوره نسخ النهي عنه فشاع من غير نكير، وورد في الحديث بيانا لجوازه وقد تقدم بعض الكلام على هذا، وكان خالد بن معدان يسميها فسطاط القرآن، وورد في حديث مرفوع في مسند الفردوس، وذلك لعظمها ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها حتى قال بعض الأشياخ : إن فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر. قيل : وفيها خمسة عشر مثلا، ولهذا أقام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ثماني سنين على تعلمها، وورد في حديث المستدرك تسميتها سنام القرآن وسنام كل شيء أعلاه، وكأنه لذلك أيضا وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أي القرآن أفضل ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم. قال : سورة البقرة، ثم قال : وأيها أفضل ؟ قالوا : الله ورسول أعلم، قال : آية الكرسي.
وهي مدنية وآياتها مائتان وسبع وثمانون على المشهور، وقيل ست وثمانون، وفيها آخر آية نزلت، وهي قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ وقد نزلت في حجة الوداع يوم النحر، ولا تخرج بذلك عن كونها مدنية، كما لا يخفى.
ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولا والعبودية ثانيا وطلب الهداية في المقاصد الدينية والمطالب اليقينية ثالثا وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولا كما في ﴿ يؤمنون بالغيب ﴾ وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيا وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا، وأيضا في آخر الفاتحة طلب الهداية وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله ﴿ هدى للمتقين ﴾ ولما افتتح سبحانه الفاتحة بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن افتتح هذه السورة بما بطن سره وخفي إلا على من شاء الله تعالى أمره فقال سبحانه وتعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ ألم ﴾.

سورة البقرة
هذا هو الاسم المشهور وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهو معارض لما روي من منع ذلك وتعين أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة وكذا في سور القرآن كله ومن ثمة أجاز الجمهور ذلك من غير كراهة ويمكن أن يوفق بأنه كان مكروها في بدأ الإسلام لاستهزاء الكفار ثم بعد سطوع نوره نسخ النهي عنه فشاع من غير نكير وورد في الحديث بيانا لجوازه وقد تقدم بعض الكلام على هذا، وكان خالد ابن معدان يسميها فسطاط القرآن وورد في حديث مرفوع في مسند الفردوس وذلك لعظمها ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها حتى قال بعض الأشياخ: إن فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر قيل وفيها خمسة عشر مثلا ولهذا أقام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ثماني سنين على تعلمها وورد في حديث المستدرك تسميتها سنام القرآن وسنام كل شيء أعلاه وكأنه لذلك أيضا،
وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أي القرآن أفضل فقالوا الله ورسوله أعلم قال سورة البقرة ثم قال وأيها أفضل؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال آية الكرسي،
وهي مدنية وآياتها مائتان وسبع وثمانون على المشهور وقيل ست وثمانون وفيها آخر آية نزلت وهي قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: ٢٨١] وقد نزلت في حجة الوداع يوم النحر ولا تخرج بذلك عن كونها مدنية كما لا يخفى، ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولا والعبودية ثانيا وطلب الهداية في المقاصد الدينية والمطالب اليقينية ثالثا، وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولا كما في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: ٣] وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيا وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا وأيضا في آخر الفاتحة طلب الهداية وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] ولما افتتح سبحانه الفاتحة بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن افتتح هذه السورة بما بطن سره وخفي إلا على من شاء الله تعالى أمره فقال سبحانه وتعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم هي وسائر الألفاظ التي يتهجى بها «كبا تا ثا»
أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها الكلمة لصدق حد الاسم المتفق عليه واعتوار خواصه المجمع عليها
101
على كل منها، ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه كيف تنطقون في الباء من ضرب والكاف من لك فقالوا- باء كاف- فقال: إنما جئتم بالاسم لا الحرف وأنا أقول- به كه- وما
روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول لم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»
فالمراد به غير المصطلح إذ هو عرف جديد بل المعنى اللغوي وهو واحد حروف المباني فمعنى ألف حرف إلخ مسمى ألف وهكذا ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم سمى ذلك حرفا باسم مدلوله فهو معنى حقيقي له وما قيل: انه سماه حرفا مجازا لكونه اسم الحرف وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء فإن أريد من الم مفتتح سورة الفيل يكون المراد أيضا منه مسماه وتكون الحسنات ثلاثين وفائدة النفي دفع توهم أن يكون المراد بالحرف فيمن قرأ حرفا الكلمة وإن أريد نحو ما هنا فالمراد نفسه ويكون عدد الحسنات حينئذ تسعين وفائدة الاستئناف دفع أن يراد بالحرف الجملة المستقلة كما في الإبانة لأبي نصر عن ابن عباس قال: آخر حرف عارض به جبريل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والمعنى لا أقول إن مجموع الأسماء الثلاثة حرف بل مسمى كل منها حرف وإنما لم يذكر تلك الحروف من حيث إنها أجزاء بأن يقابل (١) ألف حرف ولام حرف تنبيها على أن المعتبر في عدد الحسنات الحروف المقروءة التي هي المسميات سواء كانت أجزاء لها أو لكلمات أخر لا من حيث إنها أجزاء لتلك الأسماء فيكون عدد الحسنات في نحو ضرب ثلاثين.
والحاصل أن الحروف المذكورة من حيث إنها مسميات تلك الأسماء أجزاء لجميع الكلم مفردة بقراءتها ومن حيث إنها أجزاء تلك الأسماء لا تكون مفردة إلا عند قراءة تلك الأسماء والمعتبر في عدد الحسنات الاعتبار الأول دون الثاني ذكر ذلك بعض المحققين ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة حيث جعلوا المسمى صدر كل اسم له كما قاله ابن جني وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ألا ترى أنك إذا قلت جيم فأول حروفه جيم وإذا قلت ألف فأول حروفه ألف التي نطقت بها همزة ولما لم يمكن للواضع أن يبتدىء بالألف التي هي مدة ساكنة دعمها باللام قبلها متحركة ليمكن الابتداء بها فقالوا لا كما- لا- كما يقوله المعلمون لام ألف فإنه خطأ (٢) وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا إلى اللام بأختها في التعريف فكأنهم قصدوا ضربا من المعاوضة فالألف هي أول حرف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة ويضاهي هذا في إيداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحمدلة والحوقلة وتسميه النحاة نحتا وحكم أسماء الحروف سكون الإعجاز ما لم تكن معمولة وهل هي معربة أم مبنية أم لا ولا خلاف مبني على الاختلاف في تفسير المعرب والمبني فالخلاف لفظي. وللناس فيما يعشقون مذاهب.
والبحث مستوفى في كتبنا النحوية، وقد كثر الكلام في شأن أوائل السور والذي أطبق عليه الأكثر وهو مذهب سيبويه وغيره من المتقدمين أنها أسماء لها وسميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها وذلك كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وبصاد النحاس وبقاف الجبل واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة فأما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على
(١) قوله بأن بقابل إلخ كذا بخطه وفيه ما يحتاج إلى التأمل اهـ مصححه.
(٢) وما قاله بشار في وصف سكران يخط في الطريق لام ألف فأراد بخط معوجا كلام ومستقيما كألف فافهم اهـ منه.
102
أنها ألقابها بناء على ذلك الإشعار أو غير ذلك والثاني باطل لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب وظاهر أنه ليس كذلك أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين فلا يحمل على ما ليس في لغتهم وعورض بوجوه، الأول أنا نجد سورا كثيرة افتتحت «بالم- وحم» والمقصود رفع الاشتباه، الثاني لو كانت أسماء لوردت ولاشتهرت بها والشهرة بخلافها كسورة البقرة وآل عمران، الثالث أن العرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين كبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم، الرابع أنه يؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، الخامس أن هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة واسم الشيء متأخر عنه فيلزم أن يكون متقدما متأخرا معا وهو محال، وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد، وعن الثاني بأنه
ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «يس قلب القرآن ومن قرأ حم حفظ إلى أن يصبح»
وفي السنن «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سجد في «ص»
وإذا ثبت في البعض ثبت الجميع إذ لا فارق مع أن شهرة أحد العلمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف اسمه إلا بعد التنقير لاشتهاره بغيره كأبي هريرة وذي اليدين وعدم اشتهار بعضها لكونه مشتركا فترك لاحتياجه إلى ضميمة «كالم» هنا، وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء مثلا إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسما واحدا فأما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى.
وقد وردت التسمية بثلاثة ألفاظ- كشاب قرناها، وسر من رأى، ودارابجرد- وسوى سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم، وعن الرابع بأن هذه التسمية من تسمية مؤلف بمفرد والمفرد غير المؤلف فلا اتحاد ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفا منه ومن غيره «كصاد» فهما متغايران ذاتا وصفة، وعن الخامس بأن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل والجزء مقدم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه وهو الاسمية فلا محذور، وقال بعضهم: كونها أسماء الحروف المقطعة أقرب إلى التحقيق لظهوره وعدم التجوز فيه وسلامته مما يرد على غيره ولأنه الأمر المحقق وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز قصدا ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية وكلام سيبويه وغيره ليس نصا فيها لاحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها- كما يقولون- قرأت بانت سعاد وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: ١] أي ما أوله ذلك فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الأعلام الغالبة فذكرت في باب العلم وأثبتت لها أحكامه على أن ما ذكر في الاعتراض الثالث مما لا محيص عنه إذ عدم وجود التسمية بثلاثة أسماء وأربعة وخمسة في كلام العرب مما لا شك فيه وما نقل عن سيبويه مجرد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد السند، هذا ووراء هذين القولين أقوال أخشى من نقلها الملال والذي يغلب على الظن أن تحقيق ذلك علم مستور وسر محجوب عجزت العلماء- كما قال ابن عباس- عن إدراكه وقصرت خيول الخيال عن لحاقه، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه: لكل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور، وقال الشعبي: سر الله تعالى فلا تطلبوه.
بين المحبين سر ليس يفشيه قول ولا قلم للخلق يحكيه
فلا يعرفه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الأولياء الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة وقد تنطق لهم الحروف عما فيها كما كانت تنطق لمن سبح بكفه الحصى وكلمه الضب والظبي صلّى الله عليه وسلّم كما صح ذلك من رواية أجدادنا أهل البيت رضي الله تعالى عنهم بل متى جنى العبد ثمرة شجرة قرب النوافل علمها وغيرها بعلم الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما ذكره المستدل سابقا من أنه لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها
103
كالخطاب بالمهمل إلخ فمهمل من القول وإن جل قائله لأنه إن أراد إفهام جميع الناس فلا نسلم أنه موجود في العلمية وإن أراد إفهام المخاطب بها وهو هنا الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو مما لا يشك فيه مؤمن وإن أراد جملة من الناس فيا حيهلا إذ أرباب الذوق يعرفونها وهم كثيرون في المحمديين والحمد لله.
نجوم سماء كلما انقض كوكب بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
وجهل أمثالنا بالمراد منها لا يضر فإن من الأفعال التي كلفنا بها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والرمل والاضطباع والطاعة في مثله أدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم فلم لا يجوز أن يأمرنا من لا يسأل عما يفعل جل شأنه بما لم نقف على معناه من الأقوال ويكون المقصود من ذلك ظهور كمال الانقياد من المأمور للآمر ونهاية التسليم والامتثال للحكيم القادر.
لو قال تيها قف على جمر الغضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
على أن فيه فائدة أخرى هي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود منه مع القطع بأن المتكلم به حكيم فإنه يبقى قلبه منقلبا إليه أبدا ومتلفتا نحوه سرمدا ومتفكرا فيه وطائرا إلى وكره بقدامى ذهنه وخوافيه وباب التكليف اشتغال السر بذكر المحبوب والتفكر فيه وفي كلامه فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة عظيمة ومنة منه عليه جسيمة ربما يرقى بواسطتها إلى حظائر القدس ومعالم الأنس وأول العشق خيال وهذا لا ينافي كون القرآن عربيا مبينا مثلا لأنه بالنسبة إلى من علمت.
وأما التحدي فليس بجميع أجزائه وكون أول السورة مما ينبغي أن يكون مما يتحدى به غير مسلم، ومن عجائب هذه الفواتح أنها نصف حروف المعجم على قول وهي موجودة في تسع وعشرين سورة عدد الحروف كلها على قول، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة وقد تكلم الشيخ الأكبر قدس سره على سر عدد حروفها بالتكرار وعدد حروفها بغير تكرار وعلى جملتها في السور وعلى إفرادها في «ص» و «ق» و «ن» وتثنيتها في «يس» و «طه» وأخواتهما وجمعها من ثلاثة فصاعدا ولم بلغت خمسة حروف ولم وصل بعضها وقطع بعض؟ فقال قدس سره في فتوحاته أعاد الله تعالى علينا من طيب نفحاته ما حصله: اعلم أن مبادئ السور المجهولة لا يعلم حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة فجعلها تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة وهو كمال الصورة وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: ٣٩] والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجوده وهو سورة آل عمران الم اللَّهُ [آل عمران: ١] ولولا ذلك ما ثبتت الثمانية والعشرون وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا فالثمانية حقيقة البضع
قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون»
وهذه الحروف ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه الله فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية فأرسلها في قرآنه أربعة عشر حرفا مفردة مبهمة فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع الصفات منا وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة فجاءت اثنتا عشرة موجودة وهذا هو الإنسان من هذا الفلك ومن فلك آخر متركب من أحد عشر ومن عشرة ومن تسعة ومن ثمانية حتى يصل إلى فلك الاثنين ولا يتحلل إلى الأحدية أبدا فإنها مما انفرد بها الحق سبحانه ثم إنه تعالى جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ وآخرها النون، فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة، والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك والنصف الآخر النون المعقولة عليها التي لو ظهرت
104
للحس وانتقلت إلى عالم الروح لكانت دائرة محيطة ولكن أخفى هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة فالشمس كاملة والقمر ناقص لأنه محو فصفة ضوئه معارة وهي الأمانة التي حملها وعلى قدر محوه وسراره إثباته وظهوره ثلاثة لثلاثة فثلاثة غروب القمر القلبي الإلهي في الحضرة الأحدية وثلاثة طلوع القمر القلبي الإلهي في الحضرة الربانية وما بينهما في الخروج والرجوع قدما بقدم لا يختل أبدا ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها مقطوع ومنها مفرد ومثنى ومجموع ثم نبه أن في كل وصل قطعا وليس في كل قطع وصل فكل وصل يدل على فصل وليس كل فصل يدل على وصل والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع والفصل وحده في عين الفرق فما أفرده من هذا فإشارة إلى فناء رسم العبد أولا أو ما أثبته فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا وما جمعه فإشارة إلى الأبد بالموارد التي لا تتناهى والإفراد للبحر الأزلي والجمع للبحر الأبدي والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني والألف فيما نحن فيه إشارة إلى التوحيد والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد واللام بينهما واسطة ليكون بينهما رابطة، فانظر إلى السطر الذي يقع عليه الخط من اللام فتجد الألف إليه ينتهي أصلها وتجد الميم منه يبتدىء نشؤها ثم تنزل من أحسن تقويم وهو موضع السطر إلى أسفل سافلين منتهى تعريف الميم ونزول الألف إلى السطر مثل قوله «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» وهو أول عالم التركيب لأنه سماء آدم عليه السلام ويليه فلك النار فلذلك نزل إلى أول السطر فإنه سبحانه وتعالى نزل من مقام الأحدية إلى مقام إيجاد الخليفة نزول تقدس وتنزيه لا نزول تمثيل وتشبيه وكانت اللام واسطة وهي نائبة مناب المكون والكون فهي القدرة التي عنها وجد العالم فأشبهت الألف في النزول إلى أول السطر ولما كانت ممتزجة من المكون والكون فإنه سبحانه وتعالى لا يتصف بالقدرة على نفسه وإنما هو قادر على خلقه فكان وجه القدرة مصروفا إلى الخلق فلا بد من تعلقها بهم ولما كانت حقيقتها لا تتم بالوصول إلى السطر فتكون هي والألف على مرتبة واحدة طلبت بحقيقتها النزول تحت السطر أو عليه كما نزل الميم فنزلت إلى إيجاده ولم تتمكن أن تنزل على صورته فكان لا يوجد عنها إلا الميم فنزلت نصف دائرة حتى بلغت إلى السطر من غير الجهة التي نزلت منها فصارت نصف فلك محسوس تطلب نصف فلك معقول فكان منهما فلك دائر فكان العالم كله في ستة أيام أجناسا من أول يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة وبقي يوم السبت للانتقال من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال فصار الم فلكا محيطا من ورائه علم الذات والصفات والأفعال والمفعولات فمن قرأها بهذه الحقيقة حضر بالكل للكل مع الكل إلى آخر ما قال، وذكر في كتاب الإسراء إلى المقام الأسرى ما يشير إلى دقائق أفكار وخفايا أسرار مبنية على أعداد الحروف وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنين وثلاثين (١) وأول التفصيل من نوح إلى إشراق يوح ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة والروح فبعد عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحا وتضعه
يبدو لك تمام الشريعة حتى إلى انخرام الطبيعة، ومما يستأنس به لذلك ما
رواه العز ابن عبد السلام أن عليا رضي الله تعالى عنه استخرج وقعة معاوية من «حمعسق»
واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره فتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم: ١] وذكر الشيخ قدس سره كيفية استخراج ذلك بغير الطريق الذي ذكره وهو أن تأخذ عدد «الم» بالجزم الصغير فيكون ثمانية وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية فتكون ستة عشر فتزيل الواحد الذي للألف للأس فتبقى خمسة عشر فتمسكها عندك ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير. وهو الجزم فتضرب ثمانية البضع في
(١) قوله واثنين وثلاثين كذا بخط المؤلف ولعله سبق قلم منه إذ مقامه الرفع فيقال واثنان وثلاثون اهـ مصححه. [.....]
105
أحد وسبعين واجعل ذلك كله سنين يخرج لك في الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة فتضيف إليها الخمسة عشر التي مسكتها عندك فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة سنة وهو زمان فتح بيت المقدس على قراءة غلبت بفتح الغين واللام وسيغلبون بضم الياء وفتح اللام انتهى وإذا علمت أن هذه الفواتح السر الأعظم والبحر الخضم والنور الأتم.
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ونور ولا نار وروح ولا جسم
«فاعلم» أن كل ما ذكر الناس فيها رشفة من بحار معانيها ومن ادعى قصرا فمن قصوره أو زعم أنه أتى بكثير فمن قلة نوره والعارف يقول باندماج جميع ما ذكروه في صدف فرائدها وامتزاج سائر ما سطروه في طمطام فوائدها فإن شئت فقل كما أنها مشتملة على هاتيك الأسرار يشير كل حرف منها إلى اسم من أسمائه تعالى وإن شئت فقل أتى بها هكذا لتكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن وإن شئت فقل جاءت كذلك ليكون مطلع ما يتلى عليهم مستقلا بضرب من الغرابة أنموذجا لما في الباقي من فنون الإعجاز فإن النطق بأنفس الحروف في تضاعيف الكلام وإن كان على طرف الثمام يتناوله الخواص والعوام لكن التلفظ بأسمائها إنما يتأتى ممن درس وخط. وأما من لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق ولا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبىء عن سر سرى مبني على نهج عبقري بحيث يحار فيه أرباب العقول ويعجز عن إدراكه ألباب الفحول وإن شئت فقل فيها جلب لإصغاء الأذهان وإلجام كل من يلغو من الكفار عند نزول القرآن لأنهم إذا سمعوا ما لم يفهموه من هذا النمط العجيب تركوا اللغط وتوفرت دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاءت مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل وفي ذلك رد شر كثير من عنادهم وعتوهم ولغوهم الذي كان إذ ذاك يظهر منهم وفي ذلك رحمة منه تعالى للمؤمنين ومنة للمستبصرين وإن شئت فقل:
إن بعض مركباتها بالمعنى الذي يفهمه أهل الله تعالى منها يصح إطلاقه عليه سبحانه فيجري ما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: يا كهيعص ويا حمعسق
على ظاهره، وإن أبيت فقل المراد يا منزلهما وإن شئت فقل غير ذلك حدث عن البحر ولا حرج.
وعندي فيما نحن فيه لطائف وسبحان من لا تتناهى أسرار كلامه فقد أشار سبحانه بمفتتح الفاتحة حيث أتى به واضحا إلى اسمه الظاهر وبمبدأ سورة البقرة إلى اسمه الباطن فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وأشار بتقديم الأول إلى أن الظاهر مقدم وبه عموم البعثة نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وأيضا في الأول إشارة إلى مقام الجمع وفي الثاني رمز إلى الفرق بعد الجمع وأيضا افتتاح هذه السورة بالمبهم ثم تعقيبه بالواضح فيه أتم مناسبة لقصة البقرة التي سميت السورة بها وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: ٧٢] وأيضا في الحروف رمز إلى ثلاثة أشياء فالألف إلى الشريعة واللام إلى الطريقة والميم إلى الحقيقة فهناك يكون العبد كالدائرة نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله تعالى بالكلية وأيضا الألف من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو آخرها فيشير بها إلى أن أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله عز وجل، وأيضا في ذلك إشارة إلى سر التثليث فالألف مشير إلى الله تعالى واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
وقد قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في الألف ست صفات من صفات الله تعالى الابتداء والله تعالى هو الأول والاستواء والله تعالى هو العدل الذي لا يجور والانفراد والله تعالى هو الفرد وعدم الاتصال بحرف وهو سبحانه بائن عن خلقه وحاجة الحروف إليها مع عدم حاجتها وأنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني ومعناها الألفة وبالله تعالى الائتلاف،
وبقيت أسرار وأي أسرار يغار عليها العارف الغيور من الأغيار. ومن الظرف أن بعض الشيعة استأنس بهذه الحروف
106
لخلافة الأمير عليّ كرم الله تعالى وجهه فإنه إذا حذف منها المكرر يبقى ما يمكن أن يخرج منه «صراط على حق نمسكه» ولك أيها السني أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنه بعد الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه ما يكون خطابا للشيعي وتذكيرا له بما ورد في حق الأصحاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهو «طرق سمعك النصيحة» وهذا مثل ما ذكروه حرفا بحرف وإن شئت قلت «صح طرقك مع السنة» ولعله أولى وألطف، وبالجملة عجائب هذه الفواتح لا تنفد ولا يحصرها العد.
وكل يدّعي وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
وقد اختلف الناس في إعرابها حسبما اختلفت أقوالهم فيها فإن جعلت أسماء للسور مثلا كان لها حظ من الإعراب رفعا ونصبا وجرا فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والنصب بتقدير فعل القسم أو فعل يناسب المقام وجاز النصب بتقدير فعل القسم فيما وقع بعده مجرور مع الواو ونحو ق وَالْقُرْآنِ [ق ١] مع أنه يلزم المخالفة بين المتعاطفين في الإعراب أن جعلت الواو للعطف واجتماع قسمين على شيء واحد إن جعلت للقسم وهو مستكره كما قاله الخليل وسيبويه لأن المعطوف عليه في محل يقع فيه المجرور فيكون العطف على المحل ويقدر الجواب من جنس ما بعد أن كانت للقسم أولا حاجة للتقدير ويكتفى بجواب واحد إذ لا مانع من أحد القسمين مؤكدا للآخر من غير عطف أو يقال هما لما كانا مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك ولا وجه وجيه للاستكراه وإن كان للضلالة أب فالتقليد أبوها والجر على إضمار حرف القسم. وقول ابن هشام أنه وهم لأن ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه وبأنه لا جواب للقسم في سورة البقرة ونحوها ولا يصح جعل ما بعد جوابا وحذفت اللام كحذفها في قوله:
ورب السماوات العلى وبروجها والأرض وما فيها المقدر كائن
لأن ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم وهم لا يخفى على الوليد إذ مذهبنا كوفي واتباع البصري ليس بفرض وكثيرا ما يستغنى عن الجواب بما يدل عليه والمقسم عليه مضمون ما بعده وهو قرينة قريبة وبهذا صرح في التسهيل وشروحه، وحديث الاستطالة ليس بلازم بل هو الأغلب كما صرح به ابن مالك.
ثم ما كان من هذه الفواتح مفردا كص أو موازنا له كحم بزنة قابيل يتأتى فيه الإعراب لفظا أو محلا بأن يسكن حكاية لحاله قبل ويقدر إعرابه وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث وما خالفهما نحو كهيعص يحكى لا غير وجازت الحكاية في هذه الأسماء مع أنها مختصة بالأعلام التي نقلت من الجمل كتأبط شرا لرعاية صورها المنبئة عن نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت أعلاما لأنفسها كضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى في الإشعار بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية لأنها لكثرة استعمالها معدودة موقوفة صارت هذه الحالة كأنها أصل فلما جعلت أعلاما جازت حكايتها على تلك الهيئة الراسخة تنبيها على أن فيها سمة من ملاحظة الأصل وهو الحروف المبسوطة. والمقصد الإيقاظ وقرع العصا فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء أعلاما للسور وإلا فلم تجز الحكاية كذا في الحواشي الشريفة الشريفية وإطباق النحاة على أن المفردات تحكي بعد من وأي الاستفهاميتين وبدونهما كقولهم دعنا من تمرتان مخالف لدعوى الاختصاص التي حكاها كما لا يخفى وإن أبقيت على معانيها مسرودة على نمط التعديد لم تعرب لعدم المقتضي والعامل وكذا إذا جعلت أبعاضا على الصحيح (١) أو مزيدة للفصل
(١) وقيل لها محل لتنزيلها منزلة ما هي أبعاض له وهو واه وإن ذهب إليه صاحب الدر المصون اهـ منه.
107
مثلا نعم إن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كانت في حيز الرفع على ما مر وإن جعلت مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في الله لأفعلن وهل ذلك المجموع نحو «الم» و «حم» أو للألف والحاء مثلا على طريق الرمان حلو حامض؟ خلاف والظاهر الأول وجوز بعضهم الرفع بالابتداء والخبر قسمي محذوفا وتصريح الرضي باختصاص ذلك فيما إذا كان المبتدأ صريحا في القسمية يجعله غير مرتضى، وجعل بعضهم النصب في البعض مخصوصا بما إذا لم يمنع مانع كما في ص وَالْقُرْآنِ [ص: ١] فيتعين الجر للزوم المخالفة بين المتعاطفين واجتماع القسمين حينئذ وفيه ما تقدم فلا تغفل، وبقيت أقوال مبنية على أقوال لا أظنها تخفى عليك إن أحطت خبرا بما قدمناه لديك فتدبر، وفي كون هذه الفواتح آية خلاف فقال الكوفيون: الم آية أينما وقعت وكذلك المص وطسم وأخواتهما وطه ويس وحم وأخواتها وكهيعص آية وحم عسق آيتان وأما المر وأخواتها الخمس فليست بآية وكذلك طس وص وق ون. وقال البصريون: ليس شيء من ذلك آية وفي المرشد أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة وليس بشيء كقول بعض أن الم في آل عمران ليست بآية ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ جملة مستأنفة وابتداء كلام أو متعلقة بما قبلها وفيه احتمالات أطالوا فيها وكتاب الله تعالى يحمل على أحسن المحامل وأبعدها من التكلف وأسوغها في لسان العرب وذلك إشارة إلى الكتاب الموعود به صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا كما قال الواحدي أو على لسان موسى وعيسى عليهما السلام لقوله تعالى:
وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا الآية ويؤيده ما روي عن كعب عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالله عهدا،
وقال في التوراة يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح بها «أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
كما قاله غير واحد أو إلى ما بين أيدينا والإشارة بذلك للتعظيم وتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي كما في قوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: ٣٢] كما اختاره في المفتاح أو لأنه لما نزل عن حضرة الربوبية وصار بحضرتنا بعد ومن أعطى غيره شيئا أو أوصله إليه أو لاحظ وصوله عبر عنه بذلك لأنه بانفصاله عنه بعيد أو في حكمه، وقد قيل: كل ما ليس في يديك بعيد.
ولما لم يتأت هذا المعنى في قوله تعالى: هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ [الإنعام: ٩٢، ١٥٥] لأنه إشارة إلى ما عنده سبحانه لم يأت بذلك مع بعد الدرجة وهذا الذكر حروف التهجي في الأول وهي تقطع بها الحروف وهو لا يكون إلا في حقنا وعدم ذكرها في الثاني فلذا اختلف المقامان وافترقت الإشارتان كما قاله السهيلي، وهو عند قوم تحقيق ويرشدك إلى ما فيه عندي نظر دقيق وأبعد بعضهم فوجه البعد بأن القرآن لفظ وهو من قبيل الأعراض السيالة الغير القارة فكل ما وجد منه اضمحل وتلاشى وصار منقضيا غائبا عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد، وقيل لأن صيغة البعيد والقريب قد يتعاقبان كقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ [آل عمران: ٥٨] ثم قال تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: ٦٢] وله نظائر في الكتاب الكريم ونقله الجرجاني عن طائفة وأنشدوا:
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
وليس بنص لاحتمال أن يكون المراد إنني أنا ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به، وقول الإمام الرازي: إن ذلك للبعيد عرفا لا وضعا فحمله هنا على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي مخالف لما نفهمه من كتب أرباب العربية وفوق كل ذي علم عليم والقول بأن الإشارة إلى التوراة والإنجيل- كما نقل عن عكرمة- إن كان قد ورد فيه حديث صحيح قبلناه وتكلفنا له وإلا ضربنا به الحائط وما كل احتمال يليق، وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى
108
الصراط المستقيم في الفاتحة كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد على أتم وجه وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره والذي تنفتح له الآذان أنه إشارة إلى القرآن. ووجه البعد ما ذكره صاحب المفتاح ونور القرب يلوح عليه، والمعتبر في أسماء الإشارة هو الإشارة الحسية التي لا يتصور تعلقها إلا بمحسوس مشاهد فإن أشير بها إلى ما يستحيل إحساسه نحو ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غافر: ٦٢، ٦٤، الإنعام: ١٠٢، يونس: ٣، فاطر: ١٣، الزمر: ٦] أو إلى محسوس غير مشاهد نحو تِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم: ٦٣] فلتصييره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية كما في الرضي فالإشارة هنا لا تخلو عن لطف، وقول بعضهم إن اسم الإشارة إذا كان معه صفة له لم يلزم أن يكون محسوسا- وهم محسوس- والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس والكتب- كما قال الراغب- ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض والأصل في الكتابة النظم بالخط وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ ولذا يستعار كل واحد للآخر ولذا سمي كتاب الله وإن لم يكن كتابا والكتاب هنا إما باق على المصدرية وسمي به المفعول للمبالغة أو هو بمعنى المفعول وأطلق على المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية بما يؤول إليه مع المناسبة وقول الإمام- إن اشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم أو لأن الله تعالى ألزمك فيه التكاليف على الخلق- كلام ملفق لا يخفى ما فيه، ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبي المرسل صلّى الله عليه وسلّم وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء ولا يحتاج هنا إلى ما قيل في دفع المغالطة المعروفة بالجذر الأصم ولا أرى فيه بأسا إن احتجته واللام في الكتاب للحقيقة مثلها في أنت الرجل والمعنى ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس حتى كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه، وقال ابن عصفور: كل لام وقعت بعد اسم الإشارة وأي في النداء وإذ الفجائية فهي للعهد الحضوري وقرىء تنزيل الكتاب، والريب الشك وأصله مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس ومنه ريب الزمان لنوائبه فهو مما نقل من القلق إلى ما هو شبيه به ويستعمل أيضا لما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، وقول الإمام الرازي: إن هذين قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من الحوادث محتمل فهو كالمشكوك وكذلك ما اختلج في القلب فإنه غير مستيقن مستيقن رده، فالمنون من الريب أو يشك فيه ويختلج في القلب من أسباب الغيظ على الكفار مثلا مما «لا ريب فيه» أو فيه ريب وفرق أبو زيد بين رابني وأرابني فيقال رابني من فلان أمر إذا كنت مستيقنا منه بالريب وإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه قلت أرابني وعليه قول بشار:
أخوك الذي إن ربته قال إنما أراب وإن عاتبته لان جانبه
وبعض فرق بين الريب والشك بأن الريب شك مع تهمة، وقال الراغب: الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين وطلب الأمارة من مري الضرع أي مسحه للدر، والريب أن يتوهم في الشيء ثم ينكشف عما توهم فيه، وقال الجولي: يقال الشك لما استوى فيه الاعتقادان أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا لا رَيْبَ فِيهِ للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلا عن شك ونفى سبحانه الريب فيه مع كثرة المرتابين- لا كثرهم الله تعالى- على معنى أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر
109
في كونه وحيا من الله تعالى لا أن لا يرتاب فيه حتى لا يصح ويحتاج إلى تنزيل وجود الريب عن البعض منزلة العدم لوجود ما يزيله، وقيل: إنه على الحذف كأنه قال لا سبب ريب فيه لأن الأسباب التي توجبه في الكلام التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوى العارية عن البرهان وكل ذلك منتف عن كتاب الله تعالى، وقيل معناه النهي وإن كان لفظه خبرا أي لا ترتابوا فيه على حد فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة: ١٩٧] وقيل معناه لا ريب فيه للمتقين فالظرف صفة وللمتقين خبر وهُدىً حال من الضمير المجرور أي لا ريب كائنا فيه للمتقين حال كونه هاديا وهي حال لازمة فيفيد انتفاء الريب في جمع الأزمنة والأحوال ويكون التقييد كالدليل على انتفاء الريب و «لا» لنفي اتصاف الاسم بالخبر لا لنفي قيد الاسم فلا تتوجه إليه ليختل المعنى نعم هو قول قليل الجدوى مع أن الغالب في الظرف الذي بعد لا هذه كونه خبرا وإنما لم يقل سبحانه لا فيه ريب على حد لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: ٤٧] لأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتابا غيره فيه الريب كما قصد في الآية تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها فليس فيها ما في غيرها من العيب قاله الزمخشري وبعضهم لم يفرق بين ليس في الدار رجل وليس رجل في الدار حتى أنكر أبو حيان إفادة تقديم الخبر هنا الحصر وهو مما لا يلتفت إليه، وقرأ سليم أبو الشعثاء لا ريب فيه بالرفع وهو لكونه نقيضا لريب فيه وهو محتمل لأن يكون إثباتا لفرد ونفيه يفيد انتفاءه فلا يوجب الاستغراق كما في القراءة المشهورة ولهذا جاز لا رجل في الدار بل رجلان دون لا رجل فيها بل رجلان فلا لعموم النفي لا لنفي العموم والوقف على فِيهِ هو المشهور وعليه يكون الكتاب نفسه هدى وقد تكرر ذلك في التنزيل وعن نافع وعاصم الوقف على لا رَيْبَ ولا ريب في حذف الخبر، وذهب الزجاج إلى جعل لا رَيْبَ بمعنى حقا فالوقف عليه تام إلا أنه أيضا دون الأول، وقرأ ابن كثير «فيهي» بوصل الهاء ياء في اللفظ وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في فِيهِ مُهاناً [الفرقان: ٦٩] وملاقيه وسأصليه، والباقون لا يشبعون وإذا تحرك ما قبل الهاء أشبعوه، وقرأ الزهري وابن جندب بضم الهاء من الكنايات في جميع القرآن على الأصل «والهدى» في الأصل مصدر هدى أو عوض عن المصدر وكل في كلام سيبويه ولم يجئ من المصادر بهذه الزنة إلا قليل كالتقى، والسرى، والبكى بالقصر في لغة ولقى كما قال الشاطبي وأنشد:
وقد زعموا حلما لقاك فلم أزد بحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا
والمراد منه هنا اسم الفاعل بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله وهو لفظ مؤنث عند ابن عطية ومذكر عند اللحياني وبنو أسد يؤنثون كما قال الفراء فهو كالهداية وقد تقدم معناها. وفي الكشاف هي الدلالة الموصلة إلى البغية واستدل عليه بثلاثة وجوه، الأول وقوع الضلال في مقابله كما في قوله تعالى: لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ [سبأ: ٢٤] والضلال عبارة عن الخيبة وعدم الوصول إلى البغية فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لم يتقابلا لجواز الاجتماع بينهما، والثاني أنه يقال مهدي في موضع المدح كمهتد ومن حصل له الدلالة من غير الاهتداء لا يقال له ذلك فعلم أن الإيصال معتبر في مفهومه، والثالث أن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو كسره فانكسر وفيه بحث. أما أولا فلأن المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى اللازم بمعنى الاهتداء مجازا أو اشتراكا وكلامنا في المتعدي ومقابله الإضلال ولا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل ولا يجعله ضالا على أنه لو فسرت الهداية بمطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال أوصل أم لا، وفسر الضلال المقابل لها- تقابل الإيجاب والسلب- بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأن سلب الدلالة المطلقة سلب للمقيدة إذ سلب الأعم يستلزم سلب الأخص فليس في هذا التقابل ما يرجح المدعى، وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن الضلالة عبارة عن
110
الخيبة إلخ بل هو العدول عن الطريق الموصل إلى البغية فيكون الهدى عبارة عن الدلالة على الطريق الموصل، نعم إن عدم الوصول إلى البغية لازم للضلالة ويجوز أن يكون اللازم أعم، وأما ثالثا فلأنه لا يلزم من عدم إطلاق المهدي إلا على المهتدي أن يكون الوصول معتبرا في مفهوم الهدى لجواز غلبة المشتق في فرد من مفهوم المشتق منه، وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن اهتدى مطاوع هدى بل هو من قبيل أمره فأتمر من ترتب فعل يغاير الأول فإن معنى هداه فاهتدى دله على الطريق الموصل فسلكه بدليل أنه يقال هداه فلم يهتد على أن جمعا يعتد بهم قالوا: لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقا ففي المختار لا يجب أن يوافق المطاوع أصله ويجب في غيره ويؤيده قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء: ٥٩] مع قوله سبحانه: وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً [الإسراء: ٦٠] فقد وجد التخويف بدون الخوف ولا يقال كسرته فما انكسر والفرق بينهما مفصل في عروس الأفراح، وأما خامسا فلأن ما ذكره معارض بما فيه الهداية وليس فيه وصول إلى البغية وقد مر بعضه ولهذا اختلفوا هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو بالعكس أو هي مشتركة بينهما أو موضوعة لقدر مشترك؟ وإلى كل ذهب طائفة، قيل (١) والمذكور في كلام الأشاعرة أن المختار عندهم ما ذكر في الكشاف وعند المعتزلة ما ذكرناه والمشهور هو العكس- والتوفيق بأن كلام الأشاعرة في المعنى الشرعي والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي- يخدشه اختيار صاحب الكشاف مع تصلبه في الاعتزال ما اختاره مع أن الظاهر في القرآن المعنى الشرعي فالأظهر للموفق عكس هذا التوفيق، والحق عند أهل الحق أن الهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الإهلاك وبه يندفع كثير من القال والقيل «والمتقين» جمع متق اسم فاعل من وقاه فاتقى ففاؤه واو لا تاء، والوقاية لغة الصيانة مطلقا وشرعا صيانة المرء نفسه عما يضر في الآخرة والمراتب متعددة لتعدد مراتب الضرر فأولاها التوقي عن الشرك والثانية التجنب عن الكبائر- ومنها الإصرار على الصغائر- والثالثة ما أشير إليه بما
رواه الترمذي عنه صلّى الله عليه وسلّم «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس»
وفي هذه المرتبة يعتبر ترك الصغائر ولذا قيل:
خل الذنوب كبيرها... وصغيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أر... ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة... إن الجبال من الحصى
وفي هذه المرتبة اختلفت عبارات الأكابر، فقيل: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وقيل: التبري عن الحول والقوة، وقيل: التنزه عن كل ما يشغل السر عن الحق، وفي هذا الميدان تراكضت أرواح العاشقين وتفانت أشباح السالكين حتى قال قائلهم:
ولو خطرت لي في سواك إرادة... على خاطري سهوا حكمت بردتي
وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى فالمراد بهم المشارفون مجازا لاستحالة تحصيل الحاصل وإيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز، وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم واعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى فلا ينافي حسن التعقيب ب الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ لأن ذلك كما قيل بالنظر إلى زمان إثبات تلك النسبة كما يقال قتل قتيلا (٢)
(١) قائله الجلال الدواني اهـ منه.
(٢) قوله قتل قتيلا كذا بخطه اهـ مصححه.
111
دفن في موضع كذا وربما جعل التقدير هم الذين في جواب من المتقون وحمل الكل على المشارفة يأباه السوق وقد يقال المتقين مجاز بالمشارفة والصفة ترشيح بلا مشارفة ولا تجوز كما هو المعهود في أمثاله أو نقول هو على حد نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الشفيع يوم المحشر فلا إشكال وإن أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الأولى تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المرقية، وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة فإن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز، ولفظ الهداية حقيقة في جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ما هم عليه وإرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهوما داخلا في المعنى المستعمل فيه فهو مجاز لا محالة ولفظ المتقين حقيقة على كل حالة كذا حققه مولانا مفتي الديار الرومية ومنه يعلم اندفاع ما قيل إن الهداية إن فسرت بالدلالة الموصلة يقتضي أن يكون هُدىً لِلْمُتَّقِينَ دالا على تحصيل الحاصل كأنه قيل دلالة موصلة إلى المطلوب للواصلين إليه وإن فسرت بالدلالة على ما يوصل كان هناك محذور آخر فإن المهتدي إلى مقصوده يكون دلالته على ما يوصله إليه لغوا، ووجه الاندفاع ظاهر لكن حقق بعض المحققين أن الأظهر أنه لا حاجة إلى التجوز هنا لأنه إذا قيل السلاح عصمة للمعتصم والمال غنى للغني على معنى سبب غناه وعصمته لم يلزم أن يكون السلاح والمال سببي عصمة وغنى حادثين غير ما هما فيه، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز في شيء إذ المتقي مهتد بهذا الهدى حقيقة، وقد اختلف أهل العربية والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال أو الاستقبال وهل المراد زمان النسبة أو التكلم من غير واسطة بينهما؟ والذي عليه المحققون أنه زمان النسبة، وقد ذهب السبكي والكرماني إلى أن من قتل قتيلا فله سلبه حقيقة وخطآ من قال إنه مجاز ولا يقال إنه لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به لأن قصد البليغ بمعونة القرينة العقلية أن القتل المتصف به صادر عن هذا القاتل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه فيه غيره فسلبه له دون غيره، ومن هنا جعل المعنى فيما نحن فيه لا هدى للمتقين إلا بكتاب الله تعالى المتلالئ نور هدايته الساطع برهان دلالته وإذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف نحو عصرت هذا الخل مثلا فهناك تعليقان في الحقيقة تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه وتعليق الإشارة والمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق فإذا صح إطلاق الخل على المشار إليه واتصافه بالخلية مثلا في زمان الإشارة- مع قطع النظر- عن الحكم السابق كان حقيقة وإلا فمجاز فافهم وتدبر.
ثم لا يقدح في كونه هدى ما فيه من المجمل والمتشابه لأنه لا يستلزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه فيجوز أن يذكر فيه ما فيه ابتلاء لذوي الألباب من الفحول بما لا تصل إليه الأفهام والعقول أو لأن ذلك لا ينفك عن بيان المراد منه كما ذهب إليه الشافعية فهو بعد التبيين هدى وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها كما أنه على رأي متوقف على تقدم الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد نص الإمام علي أنه (١) كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدى فيه كمعرفة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوات لئلا يلزم الدور إلا أن يكون هدى في تأكيد ما في العقول والاعتداد به، وبعض صحح أن القرآن في نفسه هدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
(١) لعلها أن اهـ مصححه.
112
هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة: ١٨٥] ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية مدحا لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: ٤٥] مع عموم إنذاره صلى الله تعالى عليه وسلم وأما غيرهم فلا وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: ٤٥] ولا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: ٨٢] وأما القول بأن التقدير- هدى للمتقين والكافرين- فحذف لدلالة المتقين على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] فمما لا يلتفت إليه هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق ف الم أشارت إلى ما أشارت وذلِكَ الْكِتابُ قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابا في جنسه أي باب التحدي والهداية ولا رَيْبَ فِيهِ كالتأكيد لأحد الركنين وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ كالتأكيد للركن الآخر.
وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه، وقيل: بالحمل على الاستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزا؟ فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا ومعنى وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى الاختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب ثم لما طولب بالدليل على ذلك استدل بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لظهور اشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعاند عقله وحسه، وقد يقال الإعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المال كان الثاني مقررا للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لاستلزامه ما يليه وكونه في قوته يجعله منزلا منه منزلة بدل الاشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الاتصال بين هذه الجمل. وفيها أيضا من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة قدره على من مرّ ما ذكرناه على فكره.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ صفة للمتقين قبل، فإن أريد بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها فمادحة وفي شرح المفتاح الشريفي إن حمل المتقي على معناه الشرعي- أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيئات- فإن كان المخاطب جاهلا بذلك المعنى كان الوصف كاشفا وإن كان عالما كان مادحا وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصا، واستظهر كون الموصول مفصولا قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته لما قبله وإن فهم ضمنا فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في الارتباط، والاستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى، والوقف على المتقين تام على هذا الوجه حسن على الوجه الأول والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقا وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: ١١١] وبالباء كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان أن تؤمن بالله» الحديث،
قالوا: والأول باعتبار تضمينه معنى الإذعان والثاني باعتبار تضمينه معنى الاعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يعتبر ما لم يقترن به الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق صار ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية أيضا كما في الأساس ويفهم مجازيته- ظاهر كلام الكشاف- وأما في الشرع فهو التصديق بما علم مجيء النبي صلّى الله عليه وسلّم به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم اختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار؟ فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر
113
باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمنا شرعا فيما بينه وبين الله تعالى ويكون مقره الجنة لكن ذكر ابن الهمام أن أهل هذا القول اتفقوا على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه الإقرار أتى به فإن طولب ولم يقر فهو كفر عناد، وذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه الله وغالب من تبعه إلى أن الإقرار وما في حكمه كإشارة الأخرس لا بد منه فالمصدق المذكور لا يكون مؤمنا إيمانا يترتب عليه الأحكام الأخروية كالمصلي مع الرياء فإنه لا تنفعه صلاته ولعل هذا لأنه تعالى ذم المعاندين أكثر مما ذم الجاهلين المقصرين وللمانع أن يجعل الذم للإنكار اللساني ولا شك أنه علامة التكذيب أو للإنكار القلبي الذي هو التكذيب، وحاصل ذلك منع حصول التصديق للمعاند فإنه ضد الإنكار وإنما الحاصل له المعرفة التي هي ضد النكارة والجهالة، وقد اتفقوا على أن تلك المعرفة خارجة عن التصديق اللغوي وهو المعتبر في الإيمان نعم اختلفوا في أنها هل هي داخلة في التصور أم في التصديق المنطقي فالعلامة الثاني على الأول وأنه يجوز أن تكون الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصورا وأن التصديق المنطقي بعينه التصديق اللغوي ولذا فسره رئيسهم في الكتب الفارسية «بكرويدن» وفي العربية بما يخالف التكذيب والإنكار وهذا بعينه المعنى اللغوي. ويؤيده ما أورده السيد السند في حاشية شرح التلخيص أن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة إلا أنه يرد أن المعنى المعبر عنه «بكرويدن» أمر قطعي وقد نص عليه العلامة في المقاصد ولذا يكفي في باب الإيمان التصديق البالغ حد الجزم والإذعان مع أن التصديق المنطقي يعم الظني بالاتفاق فإنهم يقسمون العلم بالمعنى الأعم تقسيما حاصرا إلى التصور والتصديق توسلا به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه التي منها القياس الجدلي المتألف من المشهورات، والمسلمات ومنها القياس الخطابي المتألف من المقبولات والمظنونات، والشعري المتألف من المخيلات فلو لم يكن التصديق المنطقي عاما لم يثبت الاحتياج إلى هذه الأجزاء وهو ظاهر وصدر الشريعة على الأخير فإن الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصديق قطعا فإن كان حاصلا بالقصد والاختيار بحيث يستلزم الإذعان والقبول فهو تصديق لغوي وإن لم يكن كذلك كمن وقع بصره على شيء فعلم أنه جدار مثلا فهو معرفة يقينية وليس بتصديق لغوي فالتصديق اللغوي عنده أخص من المنطقي.
وذهب الكرامية إلى أن الإيمان شرعا إقرار اللسان بالشهادتين لا غير، والخوارج والعلاف وعبد الجبار من المعتزلة إلى أن كل طاعة إيمان فرضا كانت أو نفلا، والجبائي وابنه وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل منها، والقلانسي من أهل السنة والنجار من المعتزلة- وهو مذهب أكثر أهل الأثر- إلى أنه المعرفة بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، قيل: وسر هذا الاختلاف- الاختلاف- في أن المكلف هو الروح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما والحق أن منشأ كل مذهب دليل دعا صاحبه إلى السلوك فيه، وأوضح المذاهب أنه التصديق ولذا
قال يعسوب المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه إن الإيمان معرفة والمعرفة تسليم والتسليم تصديق،
ويؤيد هذا المذهب قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: ٢٢] وقوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ١٤] وقوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: ١٠٦]
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم ثبت قلبي على دينك»
حيث نسبه فيها وفي نظائرها الغير المحصورة إلى القلب فدل ذلك على أنه فعل القلب وليس سوى التصديق إذ لم يبين في الشرع بمعنى آخر فلا نقل وإلا لكان الخطاب بالإيمان خطابا بما لا يفهم ولأنه خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل واحتمال أن يراد بالنصوص الإيمان اللغوي فهو الذي محله القلب لا الإيمان الشرعي فيجوز أن يكون الإقرار أو غيره جزءا من معناه يدفعه أن الإيمان من المنقولات الشرعية بحسب خصوص المتعلق ولذا بين صلى الله تعالى عليه وسلم متعلقه دون معناه
فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته» الحديث
فهو في المعنى اللغوي مجاز في كلام
114
الشارع والأصل في الإطلاق الحقيقة، وأيضا ورد عطف الأعمال على الإيمان كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة: ٢٧٧ وغيرها] والجزء لا يعطف على كله وتنزل الملائكة والروح على أحد الوجهين بتأويل الخروج لاعتبار خطابي وتخصيصها بالنوافل بناء على خروجها خلاف الظاهر وكفى بالظاهر حجة، وأيضا جعل الإيمان شرط صحة الأعمال كقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ [النساء: ١٢٤، طه ١١٢] وهو مؤمن مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لامتناع اشتراط الشيء لنفسه إذ جزء الشرط شرط، وأيضا ورد إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩] مع أنه لا يتحقق للشيء بدون ركنه، وأيضا ما ذكرناه أقرب إلى الأصل إذ لا فرق بينهما إلا باعتبار خصوص المتعلق كما لا يخفى، وقد أورد الخصم وجوها في الإلزام، الأول أن الإيمان لو كان عبارة عن التصديق لما اختلف مع أن إيمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشبهه إيمان العوام بل ولا الخواص، الثاني أن الفسوق يناقض الإيمان ولا يجامعه بنص وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ [الحجرات: ٧] ولو كان بمعنى التصديق لما امتنع مجامعته، الثالث أن فعل الكبيرة مما ينافيه لقوله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: ٤٣] مع قوله تعالى في المرتكب وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ [النور: ٢] ولو كان بمعنى التصديق ما نافاه، الرابع أن المؤمن غير مخزي لقوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: ٨] وقال سبحانه في قطاع الطريق ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [المائدة: ٣٣] فهم ليسوا بمؤمنين مع أنهم مصدقون.
الخامس مستطيع الحج إذا تركه من غير عذر كافر لقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: ٩٧] مع أنه مصدق، السادس من لم يحكم بما أنزل الله مصدق مع أنه كافر بنص وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: ٤٤] السابع أن الزاني كذلك بنص
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يزني الزاني وهو مؤمن»
وكذا تارك الصلاة عمدا من غير عذر وأمثال ذلك، الثامن أن المستخف بنبي مثلا مصدق مع أنه كافر بالإجماع. التاسع أن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البيّنة: ٥٠] والدين هو الإسلام لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: ١٩] والإسلام هو الإيمان لأنه لو كان غيره لما قبل من مبتغيه لقوله سبحانه وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: ٨٥] العاشر أنه لو كان هو التصديق لما صح وصف المكلف به حقيقة إلا وقت صدوره منه كما في سائر الأفعال مع أن النائم والغافل يوصفان به إجماعا مع أن التصديق غير باق فيهما، الحادي عشر أنه يلزم أن يقال لمن صدق بإلهية غير الله سبحانه مؤمن وهو خلاف الإجماع، الثاني عشر أن الله تعالى وصف بعض المؤمنين به عز وجل بكونه مشركا فقال: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: ١٠٦] ولو كان هو التصديق- لامتنع مجامعته للشرك- سلمنا أنه هو ولكن ما المانع أن يكون هو التصديق باللسان كما قاله الكرامية كيف وأهل اللغة لا يفهمون من التصديق غير التصديق باللسان؟ وأجيب عن الأول بأن التصديق الواحد وإن سلمنا عدم الزيادة والنقصان فيه من النبي والواحد منا إلا أنه لا يمتنع التفاوت بين الإيمانين بسبب تخلل الفعلة والقوة بين أعداد الإيمان المتجددة وقلة تخللها أو بسبب عروض الشبه والتشكيكات وعدم عروضها، وللنبي الأكمل الأكمل صلى الله تعالى عليه وسلم:
وللزنبور والبازي جميعا لدى الطيران أجنحة وخفق
115
وعن الثاني بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن الفسوق لا يجامع الإيمان فإنه لو قيل حبب إليكم العلم وكره إليكم الفسوق لم يدل على المناقضة بين العلم والفسوق وكون الكفر مقابلا للإيمان لم يستفد من الآية بل من خارج ولئن سلمنا دلالة الآية على ما ذكرتم إلا أن ذلك معارض بما يدل على عدمه كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الإنعام: ٨٢] فإنه يدل على مقارنة الظلم للإيمان في بعض، وعن الثالث بأنا لا نسلم أن فعل الكبيرة مناف للإيمان وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: ٢] على معنى لا تحملنكم الشفقة على إسقاط حدود الله تعالى بعد وجوبها، وعن الرابع بأن ما ذكر من الآيتين ليس فيه دلالة لأن آية نفي الخزي إنما دلت على نفيه في الآخرة عن المؤمنين مطلقا أو أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم وآية القاطع دالة على الخزي في الدنيا ولا يلزم من منافاة الخزي يوم القيامة للإيمان منافاته للإيمان في الدنيا، وعن الخامس بأنا لا نسلم كفر من ترك الحج من غير عذر وَمَنْ كَفَرَ [البقرة: ١٢٦، آل عمران: ٩٧، النور: ٥٥، لقمان: ٢٣] ابتداء كلام أو المراد من لم يصدق بمناسك الحج وجحدها ولا يتصور مع ذلك التصديق، وعن السادس بأن معنى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ [المائدة: ٤٤، ٤٥، ٤٧] الآية من لم يصدق أو من لم يحكم بشيء مما نزل الله أو المراد بذلك التوراة بقرينة السابق، وعن السابع بأنه يمكن أن يقال معنى
«لا يزني الزاني وهو مؤمن»
أي آمن من عذاب الله أي إن زنى- والعياذ بالله- فليخف عذابه سبحانه وتعالى ولا يأمن مكره أو المراد لا يزني مستحلا لزناه وهو مؤمن أو لا يزني وهو على صفات المؤمن من اجتناب المحظورات، وهذا التأويل أولى من مخالفة الأوضاع اللغوية لكثرته دونها وكذا يقال في نظائر هذا، وعن الثامن بأنا لا ننكر مجامعة الكبائر للإيمان عقلا غير أن الأمة مجمعة على إكفار المستخف فعلمنا انتفاء التصديق- عند وجود الاستخفاف مثلا سمعا- والجمع بين العمل بوضع اللغة وإجماع الإمة على الإكفار أولى من إبطال أحدهما، وعن التاسع بأن الآية قد فرقت بين الدين وفعل الواجبات للعطف وهو ظاهرا دليل المغايرة، سلمنا أن الدين فعل الواجبات وأن الدين هو الإسلام لكن لا نسلم أن الإسلام هو الإيمان وليس المراد بغير الإسلام في الآية ما هو مغاير له بحسب المفهوم وإلا يلزم أن لا تقبل الصلاة والزكاة مثلا بل المغاير له بحسب الصدق فحينئذ يحتمل أن يكون الإسلام أعم وهذا كما إذا قلت من يبتغ غير العلم الشرعي فقد سها فإنك لا تحكم بسهو من ابتغى الكلام، وظاهر أن ذم غير الأعم لا يستلزم ذم الأخص فإن قولك غير الحيوان مذموم لا يستلزم أن يكون الإنسان مذموما، وعن العاشر بأنه مشترك الإلزام فما هو جوابكم فهو جوابنا على أنا نقول التصديق في حالة النوم والغفلة باق في القلب والذهول إنما هو عن حصوله والنوم ضد لإدراك الأشياء ابتداء لا أنه مناف لبقاء الإدراك الحاصل حالة اليقظة، سلمنا إلا أن الشارع جعل المحقق الذي لا يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي حتى كان المؤمن اسما لمن آمن في الحال أو في الماضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب، وعن الحادي عشر بأن عدم تسمية من صدق بإلهية غير الله مؤمنا إنما هو لخصوصية متعلق الإيمان شرعا فتسميته مؤمنا يصح نظرا إلى الوضع اللغوي ولا يصح نظرا إلى الاستعمال الشرعي، وعن الثاني عشر بأن الإيمان ضد الشرك بالإجماع وما ذكروه لازم على كل مذهب ونحن نقول: إن الإيمان هناك لغوي إذ في الشرعي يعتبر التصديق بجميع ما علم مجيئه به صلّى الله عليه وسلّم كما تقدم فالمشرك المصدق ببعض لا يكون مؤمنا إلا بحسب اللغة دون الشرع لإخلاله بالتوحيد والآية إشارة إليه، وقولهم أهل اللغة لا يفهمون إلخ مجرد دعوى لا يساعدها البرهان. نعم لا شك أن المقر باللسان وحده يسمى مؤمنا لغة لقيام دليل الإيمان الذي هو التصديق القلبي فيه كما يطلق الغضبان والفرحان على سبيل الحقيقة لقيام الدلائل الدالة عليها من الآثار اللازمة للغضب والفرح ويجري عليه أحكام الإيمان ظاهرا ولا نزاع في ذلك وإنما النزاع في كونه مؤمنا عند الله تعالى والنبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده كما كانوا يحكمون بإيمان من تكلم بالشهادتين كانوا يحكمون بكفر المنافق فدل على أنه لا يكفي في الإيمان فعل اللسان وهذا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وكأنه
116
لهذا اشترط الرقاشي والقطان مواطأة القلب مع المعرفة عند الأول والتصديق المكتسب بالاختيار عند الثاني، وقال الكرامية: من أضمر الإنكار وأظهر الإذعان وإن كان مؤمنا لغة وشرعا لتحقق اللفظ الدال الذي وضع لفظ الإيمان بإزائه إلا أنه يستحق ذلك الشخص الخلود في النار لعدم تحقق مدلول ذلك اللفظ الذي هو مقصود من اعتبار دلالته، هذا وبعد سبر الأقوال في هذا المقام لم يظهر لي بأس فيما ذهب إليه السلف الصالح وهو أن لفظ الإيمان موضوع للقدر المشترك بين التصديق وبين الأعمال فيكون إطلاقه على التصديق فقط وعلى مجموع التصديق والأعمال حقيقة كما أن المعتبر في الشجرة المعينة- بحسب العرف- القدر المشترك بين ساقها ومجموع ساقها مع الشعب والأوراق فلا يطلق الانعدام عليها ما بقي الساق فالتصديق بمنزلة أصل الشجرة والأعمال بمنزلة فروعها وأغصانها فما دام الأصل باقيا يكون الإيمان باقيا
وقد ورد في الصحيح «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»
وقريب من هذا قول من قال: إن الأعمال آثار خارجة عن الإيمان مسببة له ويطلق عليها لفظ الإيمان مجازا ولا مخالفة بين القولين إلا بأن إطلاق اللفظ عليها حقيقة على الأول مجاز على الثاني وهو بحث لفظي. والمتبادر من الإيمان هاهنا التصديق كما لا يخفى «والغيب» مصدر أقيم مقام الوصف وهو غائب للمبالغة بجعله كائن هو وجعله بمعنى المفعول يرده كما في البحر أن الغيب مصدر غاب وهو لازم لا يبنى منه اسم مفعول وجعله تفسيرا بالمعنى لأن الغائب يغيب بنفسه تكلف من غير داع أو فيعل خفف كقيل وميت- وفي البحر- لا ينبغي أن يدعى ذلك إلا فيما سمع مخففا ومثقلا، وفسره جمع هنا بما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقل، فمنه ما لم ينصب عليه دليل وتفرد بعلمه اللطيف الخبير سبحانه وتعالى كعلم القدر مثلا، ومنه ما نصب عليه دليل كالحق تعالى وصفاته العلا فإنه غيب يعلمه من أعطاه الله تعالى نورا على حسب ذلك النور فلهذا تجد الناس متفاوتين فيه- وللأولياء نفعنا الله تعالى بهم الحظ الأوفر منه.
ومن هنا قيل: الغيب مشاهدة الكل بعين الحق فقد يمنح العبد قرب النوافل فيكون الحق سبحانه بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ويرقى من ذلك إلى قرب الفرائض فيكون نورا فهناك يكون الغيب له شهودا والمفقود لدينا عنده موجودا ومع هذا لا أسوغ لمن وصل إلى ذلك المقام أن يقال فيه إنه يعلم الغيب قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: ٦٥].
ولكن بين ما يصطاد باز وما يصطاده الزنبور فرق
وقل لقتيل الحب وفيت حقه وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل
واختلف الناس في المراد به هنا على أقوال شتى حتى زعمت الشيعة أنه القائم وقعدوا عن إقامة الحجة على ذلك والذي يميل إليه القلب أنه- ما أخبر به- الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام وهو الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره لأن الإيمان المطلوب شرعا هو ذاك لا سيما وقد انضم إليه الوصفان بعده وكون ذلك مستلزما لإطلاق الغيب عليه سبحانه ضمنا والغيب والغائب ما يجوز عليه الحضور والغيبة مما لا يضر إذ ليس فيه إطلاقه عليه سبحانه بخصوصه فهذا ليس من قبيل التسمية على أنه لا نسلم أن الغيب لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور وبعض أهل العلم فرق بين الغيب والغائب فيقولون الله تعالى غيب وليس بغائب ويعنون بالغائب ما لا يراك ولا تراه وبالغيب ما لا تراه أنت، ولا يبعد أن يقال بالتغليب ليدخل إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم به صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ليس بغيب بالنسبة إليهم أو يقال الإيمان به عليه الصلاة والسلام راجع إلى الإيمان برسالته مثلا إذ لا معنى للإيمان به نفسه معرى عن الحيثيات. ورسالته غيب نصب عليها الدليل كما نصب لنا وإن افترقنا بالخبر والمعاينة أو أنه من إسناد ما للبعض إلى الكل مجازا كبنو فلان قتلوا فلانا أو المراد أنهم يؤمنون
117
بالغيب كما يؤمنون بالشهادة فاستوى عندهم المشاهد وغيره. واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد أن هؤلاء المتقين يؤمنون بالغيب أي حال الغيبة عنكم كما يؤمنون حال الحضور لا كالمنافقين الذين إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: ١٤] فهو على حد قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف: ٥٢] ويحتمل أن يقال حال غيبة المؤمن به، ففي سنن الدارمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الحارث بن قيس قال له عند الله نحتسب ما سبقتمونا إليه من رؤية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ابن مسعود عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله إلا هو ما من أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ ولا يلزم من تفضيل إيمان على آخر من حيثية تفضيله عليه من سائر الحيثيات ولا تفضيل المتصف بأحدهما على المتصف بالآخر فإن الأفضلية تختلف بحسب الإضافات والاعتبارات وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، ويا ليت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سكن لوعة الحارث بما
ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا «نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني»
وما كان أغناه رضي الله تعالى عنه عما أجاب به إذ يخرج الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن هذا العموم الذي في هذه الآية كما يشعر به قراءته لها مستشهدا بها، وبه قال بعض أهل العلم وأنا لا أميل إلى ذلك وقيل المراد بالغيب القلب أي يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والباء على الأول للتعدية وعلى الثاني والثالث للمصاحبة وعلى الرابع للآلة وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك الهمزة من يؤمنون وكذا كل همزة ساكنة قد يتركان كثيرا من المتحركة مثل لا يُؤاخِذُكُمُ [البقرة: ٢٢٥] ويُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ [آل عمران: ١٣] وتفصيل مذهب أبي جعفر طويل وأما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل يُهَيِّئْ لَكُمْ [الكهف: ١٦] وَنَبِّئْهُمْ [الحجر: ٥١، القمر: ٢٨] واقْرَأْ كِتابَكَ [الإسراء: ١٤] فإنه لا يترك الهمزة فيها وروي عنه أيضا الهمز في الساكنة وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاء الفعل نحو «يؤمنون» و «لا يؤاخذكم» واختلفت قراءة الكسائي وحمزة ولكل مذهب يطول ذكره وَيُقِيمُونَ من الإقامة يقال أقمت الشيء إقامة إذا وفيت حقه قال تعالى لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة: ٦٨] أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ومعنى يقيمون الصلاة يعدلون أركانها بأن يوقعوها مستجمعة للفرائض والواجبات أولها مع الآداب والسنن من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ويداومون (١) من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة أو يتشمرون لأدائها بلا فترة عنها ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه أو يؤدونها ويفعلونها وعبر عن ذلك بالإقامة لأن القيام بعض أركانها فهذه أربعة أوجه، وفي الكلام على الأولين منها استعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل، وبيان ذلك في الأول أن يشبه تعديل الأركان بتقويم العود بإزالة اعوجاجه فهو قويم تشبيها له بالقائم ثم استعير الإقامة من تسوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني كتعديل أركان الصلاة على ما هو حقها، وقيل الإقامة بمعنى التسوية حقيقة في الأعيان والمعاني بل التقويم في المعاني كالدين والمذهب أكثر فلا حاجة إلى الاستعارة ولا يخفى ما فيه فإن المجازية ما لا شبهة فيها دراية ورواية وذاك الاستعمال مجاز مشهور أو حقيقة عرفية، وفي الثاني بأن نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن
(١) فإن قلت إذا كان بمعنى المداومة ينبغي أن يتعدى بعلى لأنها تتعدى بها كما في قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أجيب بأنه إذا تجوز بلفظ عن معنى آخر وكان عملهما في الحرف الذي تعديا به مختلفا يجوز فيه إعمال عمل لفظ الحقيقة وعمل لفظ المجاز ويكون ذلك كالترشيح والتجريد ألا ترى ان نطقت الحال يعني دلت وتعديه بعلى اهـ منه.
118
الحال والظهور التام فاستعمل القيام فيه والإقامة في إنفاقها ثم استعيرت منه للمداومة فإن كلّا منهما يجعل متعلقه مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه وهذا معنى لطيف لا يقف عليه إلا الخواص إلا أن فيه تجوزا من المجاز وكأنه لهذا مال الطيبي إلى أن في هذا الوجه كناية تلويحية حيث عبر عن الدوام بالإقامة. فإن إقامة الصلاة بالمعنى الأول مشعرة بكونها مرغوبا فيها وإضاعتها تدل على ابتذالها كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها ونفاقها على توجه الرغبات إليها وهو يستدعي الاستدامة بخلافها إذا لم تكن قائمة، وفي الثالث بأن القيام بالأمر يدل على الاعتناء بشأنه ويلزمه التشمر فأطلق القيام على لازمه، وقد يقال بأن قام بالأمر معناه جد فيه وخرج عن عهدته بلا تأخير ولا تقصير فكأنه قام بنفسه لذلك وأقامه أي رفعه على كاهله بجملته فحينئذ يصح أن يكون فيه استعارة تمثيلية أو مكنية أو تصريحية ويجوز أن يكون أيضا مجازا مرسلا لأن من قام لأمر على أقدام الإقدام ورفعه على كاهل الجد فقد بذل فيه جهده، وفي الرابع بأن الأداء المراد به فعل الصلاة والقيد خارج عبر عنه بالإقامة بعلاقة اللزوم إذ يلزم من تأدية الصلاة وإيجادها كلها فعل القيام وهو الإقامة لأن فعل الشيء فعل لأجزائه أو العلاقة الجزئية لأن الإقامة جزء أو جزئي لمطلق الفعل ويجوز أن يكون هناك استعارة لمشابهة الأداء للإقامة في أن كلّا منهما فعل متعلق بالصلاة.
وإلى ترجيح أول الأوجه مال جمع لأنه أظهر وأقرب إلى الحقيقة وأفيد وهو المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه ولعل ذلك منه عن توقيف من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو حمل لكلام الله سبحانه وتعالى على أحسن محامله حيث إنه المناسب لترتيب الهدى الكامل والفلاح التام الشامل وفيه المدح العظيم والثناء العميم ولا يبعد أن يقال باستلزامه لما في الأوجه الأخيرة وتعين الأخير كما قيل في
حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام»
لا يضر في أرجحية الأول في الكلام القديم إذ يرد أنه لو أريد ذلك قيل يصلون والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في كلام بليغ فضلا عن أبلغ الكلام ولكل مقام مقال فافهم والصَّلاةَ في الأصل عند بعض بمعنى الدعاء ومنه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصل»
وهي عند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان لأنها دعاء بالألسنة الثلاثة الحال والفعل والمقال، والمشهور في أصول الفقه أن المعتزلة على أن هذه وأمثالها حقائق مخترعة شرعية لأنها منقولة عن معان لغوية والقاضي أبو بكر منا على أنها مجازات لغوية مشهورة لم تصر حقائق وجماهير الأصحاب على أنها حقائق شرعية عن معان لغوية. وقال أبو علي ورجحه السهيلي الصلاة من الصلوين لعرقين في الظهر لأن أول ما يشاهد من أحوالها تحريكهما للركوع واستحسنه ابن جني وسمّي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد، وقيل أخذت الصلاة من ذاك لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل للآتي مع صلوى السابق وأنكر الإمام الاشتقاق من الصلوين مستندا إلى أن الصلاة من أشهر الألفاظ فاشتقاقها من غير المشهور في غاية البعد وأكاد أوافقه وإن قيل: إن عدم الاستشهار لا يقدح في النقل وقيل من صليت العصا إذا قومتها بالصلي، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل ظاهره وباطنه مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على النار وهي فعلة- بفتح العين- على المشهور وجوز بعضهم سكونها فتكون حركة العين منقولة من اللام وقد اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكوة، ونجاة، ومناة، وصلاة، وزكاة، وحياة حيث كن موحدات مفردات محلات باللام وعلى رسم المضاف منها كصلاتي بالألف وحذفت من بعض المصاحف العثمانية، واتفقوا على رسم المجموع منها بالواو على اللفظ قال الجعبري: ووجه كتابة الواو الدلالة على أن أصلها المنقلبة عنه واو وهو اتباع للتفخيم وهذا معنى قول ابن
119
قتيبة بعض العرب يميلون الألف إلى الواو ولم أختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم وكلام الفصحاء والمراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة وهي الصلوات الخمس كما قاله مقاتل أو الفرائض والنوافل كما قاله الجمهور والأول هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وادعى الإمام أنه هو المراد لأنه الذي يقع عليه الفلاح لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة
قال «والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال عليه الصلاة والسلام أفلح الأعرابي إن صدق»
«والرزق» بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به. وقيل: إنه يعم غيره كالنبات وبالكسر اسم منه ومصدر أيضا على قول. وقيل أصل الرزق الحظ ويستعمل بمعنى المرزوق المنتفع به. وبمعنى الملك وبمعنى الشكر عند أزد- واختلف المتكلمون في معناه- شرعا فالمعول عليه عند الأشاعرة ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به سواء كان حلالا أو حراما من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك والمشهور أنه اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به ويلزم على الأول أن تكون العواري رزقا لأنها مما ساقه الله تعالى للحيوان فانتفع به وفي جعلها رزقا بعد بحسب العرف كما لا يخفى، ويلزم أيضا أن يأكل شخص رزق غيره لأنه يجوز أن ينتفع به الآخر بالأكل إلا أن الآية توافقه إذ يجوز أن يكون الانتفاع من جهة الإنفاق على الغير بخلاف التعريف الثاني إذ ما يتغذى به لا يمكن إنفاقه إلا أن يقال إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده والمعتزلة فسروه في المشهور تارة بما أعطاه الله تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه وتارة بما أعطاه الله لقوامه وبقائه خاصة، وحيث إن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معناه وأنه لا رازق إلا الله سبحانه وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام وما يستند إلى الله تعالى عز وجل عندهم لا يكون قبيحا ولا مرتكبه مستحقا ذما وعقابا قالوا: إن الرزق هو الحلال والحرام ليس برزق وإلى ذلك ذهب الجصاص منا في كتاب أحكام القرآن وعندنا الكل منه وبه وإليه قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: ٧٨] ولا حول ولا قوة إلا بالله وإِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: ٥٣] والذم والعقاب لسوء مباشرة الأسباب بالاختيار نعم الأدب من خير رأس مال المؤمن فلا ينبغي أن ينسب إليه سبحانه إلا الأفضل فالأفضل كما قال إبراهيم عليه السلام: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: ٨٠] وقال تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: ٧] فالحرام رزق في نفس الأمر لكنا نتأدب في نسبته إليه سبحانه والدليل على شمول الرزق له ما
أخرجه ابن ماجة وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان بن أمية قال جاء عمرو بن قرة «فقال يا رسول الله إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغنى من غير فاحشة فقال صلّى الله عليه وسلّم لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله تعالى رزقا حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله»
وحمله على المشاكلة كالقول بأنه يحتمل
قوله عليه الصلاة والسلام فاخترت إلخ
كونه رزقا لمن أحل له فيسقط الاستدلال لقيام الاحتمال خلاف الظاهر جدا. ومثل هذا الاحتمال إن قدح في الاستدلال لا يبقى على وجه الأرض دليل والطعن في السند لا يقبل من غير مستند وهو مناط الثريا كما لا يخفى والاستدلال على هذا المطلب كما فعل البيضاوي وغيره بأنه لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا وليس كذلك لقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦] ليس بشيء لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء بل يكتفوا بمطلق الانتفاع دون الانتفاع بالفعل بل التمكن فيه فلا يتم الدليل إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته بشيء انتفاعا محللا لا رضعة من ثدي ولا شربة من ماء مباح ولا نظرة إلى محبوب ولا وصلة إلى مطلوب بل ولا تمكن من ذلك أصلا والعادة تقضي بعدم وجوده ومادة النقض لا بد من تحققها على أنه لو قدر وجوده لقالوا: إن ذلك ليس محرما بالنسبة إليه، ومن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه- وأيضا لهم أن يعترضوا بمن عاش يوما مثلا ثم مات قبل أن يتناول حلالا ولا حراما وما يكون جوابنا لهم يكون جوابهم لنا على أن الآية
120
لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به فإذا حصل الإعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا، وأيضا قد يقال: معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية فالاتصاف أن هذا لا يصلح دليلا، والأحسن الاستدلال بالإجماع قبل ظهور المعتزلة على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر تشهد بانقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة والأصل الذي بني عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعا صفصفا «والإنفاق» الانفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول اعتناء بما خول الله تعالى العبد أو لأنه مقدم على الانفاق في الخارج ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي ولا مدح أيضا في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الانفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع استحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال ابن القيم في بدائع الفوائد فذهب ابن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله. وقيل: إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح يؤجر به وإن لم يقصده، ويفهم كلام البعض- وهو من الغرابة بمكان- أن الغاصب أيضا يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد واقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب ومرة على الفسق فإذا عمل به خيرا ينبغي أن يثاب عليه- ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره- ولا يرد على ذلك
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يقبل الله صدقة من غلول»
وقوله: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا»
لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلا بالمال الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق. وقد اختلف في الإنفاق هاهنا فقيل- وهو الأولى- صرف المال في سبل الخيرات أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة وعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه. وعن ابن عباس الزكاة، وعنه وعن ابن مسعود نفقة العيال، وعن الضحاك التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في الجهاد. ولعل هذه الأقوال تمثيل للمنفق لا خلاف فيه، وبعضهم جعلها خلافا ورجح كونها الزكاة المفروضة باقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن ومن التبعيضية حينئذ مما لا يسأل عن سرها إذ الزكاة المفروضة لا تكون بجميع المال وأما إذا كان المراد بالإنفاق مطلقه الأعم مثلا ففائدة إدخالها الإشارة إلى أن إنفاق بعض المال يكفي في اتصاف المنفق بالهداية والفلاح ولا يتوقف على إنفاق جميع المال وقول مولانا البيضاوي تبعا للزمخشري:
إنه للكف عن الإسراف المنهي عنه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة ويتجرع مرارة الإضافة وإلا فقد تصدق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله ولم ينكره عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لعلمه بصبره واطلاعه على ما وقر في صدره، ومن هاهنا لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإسراف قال لا إسراف في الخير، وقيل النكتة في إدخال من التبعيضية هي أن الرزق أعم من الحلال والحرام فأدخلت إيذانا بأن الإنفاق المعتد به ما يكون من الحلال وهو بعض من الرزق و «ما» في الآية إما موصولة أو مصدرية أو موصوفة والأول أولى فالعائد محذوف، واستشكل بأنه إن قدر متصلا يلزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة والانفصال في مثله واجب وإن قدر منفصلا امتنع حذفه إذ قد أوجبوا ذكر المنفصل معللين بأنه لم ينفصل إلا لغرض وإذا حذف فاتت الدلالة عليه، وأجيب على اختيار كل. أما الأول فبأنه لما
121
اختلف الضميران جمعا وإفرادا جاز اتصالهما وإن اتحدا رتبة كقوله:
لوجهك في الإحسان بسط وبهجة أنا لهماه قفو أكرم والد
وأيضا لا يلزم من منع ذلك ملفوظا به منعه مقدرا لزوال القبح اللفظي، وأما الثاني فبأن الذي يمنع حذفه ما كان منفصلا لغرض معنوي كالحصر لا مطلقا كما قال ابن هشام في الجامع الصغير، وأشار إليه غير واحد وكتبت من متصلة بما محذوفة النون لأن الجار والمجرور كشيء واحد وقد حذفت النون لفظا فناسب حذفها في الخط قاله في البحر وجعل سبحانه صلات الَّذِينَ أفعالا مضارعة ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكره البعض مشعر بالتجدد والحدوث مع ما فيه هنا من الاستمرار التجددي وهذه الأوصاف متجددة في المتقين واسم الفاعل عندهم ليس كذلك، ورتبت هذا النحو من الترتيب لأن الأعمال إما قلبية وأعظمها اعتقاد حقيقة التوحيد والنبوة والمعاد إذ لولاه كانت الأعمال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء أو قالبية وأصلها الصلاة لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام وهي عمود الدين ومعراج الموحدين والأم التي يتشعب منها سائر الخيرات والمبرات ولهذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم «وجعلت قرة عيني في الصلاة»
وقد أطلق الله تعالى عليها الإيمان كما قاله جمع من المفسرين في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣] أو مالية وهي الإنفاق لوجه الله تعالى وهي التي إذا وجدت علم الثبات على الإيمان وهذه الثلاثة متفاوتة الرتب فرتب سبحانه وتعالى ذلك مقدما الأهم فالأهم والألزم فالألزم لأن الإيمان لازم للمكلف في كل آن والصلاة في أكثر الأوقات والنفقة في بعض الحالات فافهم ذاك والله يتولى هداك.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ عطف على الموصول الأول مفصولا وموصولا والمروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم مؤمنو أهل الكتاب وحيث إن المتبادر من العطف أن الإيمان بكل من المنزلين على طريق الاستقلال اختص ذلك بهم لأن إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنما هو على طريق الإجمال والتبع للإيمان بالقرآن لا سيما في مقام المدح، وقد دلت الآيات والأحاديث على أن لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك وبهذا غايروا من قبلهم وقيل التغاير باعتبار أن الإيمان الأول بالعقل وهذا بالنقل أو بأن ذاك بالغيب وهذا بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم فأولئك على هدى حينئذ إشارة إلى الطائفة الأولى لأن إيمانهم بمحض الهداية الربانية وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إشارة إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه أو بأن أولئك من حيث المجموع كان فيهم شرك وهؤلاء لم يشركوا ولم ينكروا، وقيل التغاير بالعموم والخصوص مثله في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: ٤] والتخصيص هنا بعد التعميم للإشارة إلى الأفضلية من حيثية أنهم يعطون أجرهم مرتين وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وفي ذلك ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإسلام، وقال بعضهم إن هؤلاء هم الأولون بأعيانهم وتوسيط العطف جار في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال والجمع المستفاد من الواو هنا واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين والإيمان الذي مع أولهما إجمالي وعقلي ومع ثانيها تفصيلي ونقلي وإعادة الموصول للتنبيه على تغاير القبيلين وتباين السبيلين وقد يعطف على المتقين والموصول غير مفصول لما يلزم على الوصل الفصل بأجنبي بين المبتدأ وخبره والمعطوف والمعطوف عليه والتغاير بين المتعاطفين باعتبار أن المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن به صلى الله تعالى عليه وسلم من أهل الكتاب وقد رجح بعض المحققين احتمال أن يكون هؤلاء هم الأولون وتوسط الواو بين الصفات بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب والإفراد بالذكر لا يدل على أن الإيمان بكل بطريق الاستقلال فقد أفرد الكتب المنزلة من قبل في
122
قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ [البقرة: ١٣٦] ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل لأن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل ودينهم منسوخ به وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب فالتخصيص بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام.
وأجيب أما أولا فبأن المتبادر من السياق الإيمان بالاستقلال لا سيما في مقام المدح وإليه يشير ما جاء أنهم يؤتون أجرهم مرتين والخطاب في الآية للمسلمين بأن يقولوا دفعة ولم يعد فيها الإيمان والمؤمن فلا ترد نقضا، وأما ثانيا فلأن إيمان أهل الكتاب بكل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة، والنصارى اشتمل إيمانهم على الإنجيل أيضا، ويكفي هذا في توجيه المروي عمن شاهدوا نزول الوحي ولا يرغب عنه إذا أمكن توجيهه وكون المفهوم المتبادر ثبوت الحكم لكل واحد إن سلم لا يرده ولا يرد أن اليهود الذين آمنوا على عهد نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لم يؤمنوا قبل ذلك بالتوراة وإلا لتنصروا لأن فيها نبوة عيسى كما فيها نبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قد ورد فيها- إن الله جاء من طور سيناء وظهر بساعير وعلن بفاران- وساعير بيت المقدس الذي ظهر فيه عيسى، وفاران جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنا نقول إنهم آمنوا بالتوراة وتأولوا ما دل منها على نبوة المسيح عليه السلام فبعض أنكر نبوته رأسا ورموه بما رموه- وحاشاه وهم الكثيرون- وبعض كالعنانية قالوا: إنه من أولياء الله تعالى المخلصين العارفين بأحكام التوراة وليس بنبي وهؤلاء قليلون مخالفون لسائر اليهود في السبت والأعياد ويقتصرون على أكل الطير والظباء والسمك والجراد وهذا الإيمان وإن لم يكن نافعا في النجاة من النار إلا أنه يقلل الشر بالنسبة إلى الكفر بالتوراة وإنكارها بالكلية مع الكفر بعيسى عليه السلام وربما يمدحون بالنظر إلى أصل الإيمان بها وإن ذموا بحيثية أخرى وكأنه لهذا يكتفى منهم بالجزية ولم يكونوا طعمة للسيوف مطلقا والقول بأنهم مدحوا بعد إيمانهم بالقرآن بالإيمان بالتوراة نظرا إلى أسلافهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام فإنهم مؤمنون بها إيمانا صحيحا على وجهها كما أنهم ذموا بما صنع آباؤهم على عهده على ما ينطق به كثير من الآيات ليس بشيء إذ لا معنى لإيتائهم أجرين حينئذ والفرق بين البابين واضح. ثم النسخ الذي ادعاه المرجح خلاف ما ذكره الشهرستاني وغيره من أن الإنجيل لم يبين أحكاما ولا استبطن حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ والأحكام محالة إلى التوراة وقد قال المسيح ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها وهذا خلاف ما تقتضيه الظواهر وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأما ثالثا فلأن ثبوت الصفات لمن آمن من أهل الكتاب لا يضرنا لأنها مذكورة في الأول صريحا وفي الثاني التزاما، وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن ذلك العطف لا يلائم المقام فنكات عطف الخاص على العام لا تخفى كثرتها على ذوي الأفهام فدع ما مر وخذ ما حلا، وعندي بعد هذا كله أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى لكن الرواية دعت إلى ذلك ولعل أهل مكة أدرى بشعابها وفوق كل ذي علم عليم على أن الدراية قد تساعده كما قيل بناء على أن إعادة الموصول وتوصيفه بالإيمان بالمنزلين مع اشتراكه بين جميع المؤمنين واشتمال الإيمان بما أنزل إليك على الإيمان بما أنزل من قبلك يستدعي أن يراد به من لهم نوع اختصاص بالصلة وهم مؤمنو أهل الكتاب حيث كانوا مطالبين بالإيمان بالقرآن خصوصا قال تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [البقرة: ٤١] مؤمنين بالكتب استقلالا في الجملة بخلاف سائر المؤمنين، ثم المتبادر من أهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل وحمله على أهل الإنجيل خاصة وقد آمن منهم أربعون واثنان وثلاثون جاؤوا مع جعفر من أرض الحبشة وثمانية من الشام لا تساعده رواية ولا دراية كما لا يخفى، والإنزال الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من أعلى خلافا لمن ادعاه نحو
123
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ [الصافات: ١٧٧] أي وصل وحل وإنزال الكتب الإلهية قد مر في المقدمات ما يطلعك إلى معارجه، وذكر أن معنى إنزال القرآن أن جبريل سمع كلام الله تعالى كيف شاء الله تعالى فنزل به أو أظهره في اللوح كتابة فحفظه الملك وأداه بأي نوع كان من الأداء.
وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه الذي نجزم به من غير بحث عن كيفيته. وقال الحكماء إن نفوس الأنبياء عليهم السلام قدسية فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوة المتخيلة والحس المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي وربما يعلو فيسمع كلاما منظوما ويشبه أن نزول الكتب من هذا وعندي أن هذا قد يكون لأرباب النفوس القدسية والأرواح الإنسية إلا أن أمر النبوة وراء ذلك وأين الثريا من يد المتناول.
وفعلا الإنزال مبنيان للمفعول وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنيين للفاعل وقرىء شاذا- بما أنزل إليك- بتشديد اللام ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى اللام فالتقى المثلان فأدغم.
وضمير الفاعل قيل الله وقيل جبريل عليه السلام وفي البحر أن فيه التفاتا لتقدم.. مِمَّا رَزَقْناهُمْ فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ولو جرى على الأول لجاء- بما أنزلنا إليك وما أنزلنا من قبلك- وأتى سبحانه بصلة ما الأولى فعلا ماضيا مع أن المراد بالمنزل جميعه لاقتضاء السياق، والسباق له من ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولاقتضاء يؤمنون المنبئ عن الاستمرار والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية لأمرين: الأول أنه تغليب لما وجد نزوله على ما لا يوجد فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق الوقوع لأن بعضه نزل وبعضه سينزل قطعا فيصير إنزال مجموعه مشبها بإنزال ذلك الشيء الذي نزل فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع، هذا ما حققه من يعقد عند ذكرهم الخناصر وفيه دغدغة كبرى. وأهون منه أن التعبير بالماضي هنا للمشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق، وأهون من ذلك كله أن المراد به حقيقة الماضي ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص. وما قيل من أن الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلا أن حمله على الجميع أكمل فلذا اقتصر عليه لا وجه له إذ لا شبهة في أنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما نزل وبأن كل ما سينزل حق وإن لم يجب تفصيله وتعيينه، وقد ذكر العلماء أن الإيمان إجمالا بالكتب المنزلة مطلقا فرض عين وتفصيلا بالقرآن المتعبد بتفاصيله فرض كفاية إذ لو كان فرض عين أدى إلى الحرج والمشقة والدين يسر لا عسر، وهذا مما لا شبهة فيه حتى قال الدواني: يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين، وذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة ويسمى المنصوب للذب ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة وقيل لا بد من شخص كذلك في كل إقليم وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية ولعل هذا التنزل لنزول الأمر وقلة علماء الدين في الدنيا بهذا العصر.
أمست يبابا وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وإلى الله تعالى المشتكى وإليه الملتجى.
إلى الله أشكو إن في القلب حاجة تمر بها الأيام وهي كما هيا
«والآخرة» تأنيث الآخر اسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن لم يستعمل كما أن الآخر- بفتح الخاء- اسم تفضيل منه وهي صفة في الأصل كما في- الدار الآخرة. وينشىء النشأة الآخرة- ثم غلبت كالدنيا. والوصف الغالب قد يوصف به دون الاسم الغالب فلا يقال قيد أدهم للزوم التكرار في المفهوم وهو وإن كان من الدهمة إلا أنه يستعمله
124
من لا تخطر بباله أصلا فافهم. وقد تضاف الدار لها كقوله تعالى: وَلَدارُ الْآخِرَةِ [يوسف: ١٠٩] أي دار الحياة الآخرة وقد يقابل بالأولى كقوله سبحانه وتعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص: ٧٠] والمعنى هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام «والإيقان» التحقق للشيء كسكونه ووضوحه يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته وهو واليقين بمعنى خلافا لمن وهم فيه قال الجوهري اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت بالكسر يقينا وأيقنت واستيقنت كلها بمعنى، وذهب الواحدي وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال فلا يوصف به البديهي ولا علم الله تعالى. وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم الذي لا يحتمل النقيض، وعدم وصف الحق سبحانه وتعالى به لعدم التوقيف، وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه سواء كان ضروريا أو استدلاليا، وذكر الراغب أن اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها يقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الحكم، وفي الأحياء- والقلب إليه يميل- أن اليقين مشترك بين معنيين. الأول عدم الشك فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة عقل أو بتواتر أو دليل وهذا لا يتفاوت. الثاني وهو ما صرح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء وهو ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت وقوي اليقين بإثبات الرزق فكل ما غلب على القلب واستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا ظاهر، وقرأ الجمهور يُوقِنُونَ بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة منها لأنه من أيقن وقرأ النميري بهمزة ساكنة بدل الواو وشاع عندهم أن الواو إذا ضمت ضمة غير عارضة كما فصل في العربية يجوز إبدالها همزة كما قيل في وجوه جمع وجه أجوه فلعل الإبدال هنا لمجاورتها للمضموم فأعطيت حكمه وقد يؤخذ الجار بظلم الجار، وغاير سبحانه بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة فلم يقل- وبالآخرة هم يؤمنون- دفعا لكلفة التكرار أو لكثرة غرائب متعلقات الآخرة وما أعد فيها من الثواب والعقاب وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ونشأة أصحابهما على خلاف النشأة الدنيوية مع إثبات المعاد الجسماني كيفما كان. إلى غير ذلك مما هو أغرب من الإيمان بالكتاب المنزل حتى أنكره كثير من الناس وخلا عن تفاصيله على ما عندنا التوراة والإنجيل فليس في الأول- على ما في شرح الطوالع- ذكر المعاد الجسماني وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعياء والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فناسب أن يقرن هذا الأمر المهم الغريب الذي حارت عقول الكثيرين في إثباته وتهافتوا على إنكاره تهافت الفراش على النار بالإيقان وهو هو إظهارا لكمال المدح وإبداء لغاية الثناء، وتقديم المجرور للإشارة إلى أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى خلاف حقيقتها مما يزعمه اليهود مثلا حيث قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: ١١١] ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] وزعموا أنهم يتلذذون بالنسيم والأرواح إذ ليس ذلك من الآخرة في شيء وفي بناء يوقنون على «هم» إشارة إلى أن اعتقاد مقابليهم في الآخرة جهل محض وتخييل فارغ وليسوا من اليقين في ظل ولا فيء أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ الظاهر أنه جملة مرفوعة المحل على الخبرية فإن جعل الموصول الأول مفصولا على أكثر التقادير في الثاني ويتبعه فصله بحسب الظاهر إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف فالخبرية له وإن جعل موصولا وأريد بالثاني طائفة مما تقدمه وجعل هو مفصولا كان الإخبار عنه وذكر الخاص
بعد العام كما يجوز أن يكون بطريق التشريك بينهما في الحكم السابق- أعني هدى للمتقين- يجوز أن يكون بطريق إفراده بالحكم عن العام وحينئذ تكون الجملة المركبة من الموصول الثاني وجملة الخبر معطوفة على جملة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الموصوفين- بالذين يؤمنون بالغيب- والجملة الأولى وإن كانت مسوقة لمدح الكتاب والثانية لمدح الموصوفين بالإيمان بجميع الكتب إلا أن مدحهم ليس إلا باعتبار إيمانهم بذلك الكتاب فهما متناسبتان باعتبار إفادة مدحه وفائدة
125
جعل المدح مقصودا بالذات ترغيب أمثالهم والتعريض على ما قيل بمن ليس على صفتهم والتخصيص المستفاد من المعطوف بالقياس إلى من لم يتصف بأوصافهم فلا ينافي ما استفيد من المعطوف عليه من ثبوت الهدى للمتقين مطلقا. نعم ليس هذا الوجه في البلاغة بمرتبة فصل الموصول الأول فهو أولى، وعليه تكون الجملة مشيرة إلى جواب سؤال إما عن الحكم أي إن المتقين هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص بالهدى أو عن السبب كأنه قيل ما سبب اختصاصهم أو عن مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك؟ فأجيب بأن هؤلاء لأجل اتصافهم بالصفات المذكورة متمكنون على الهدى الكامل الذي منحهم إياه ربهم تعالى بكتابه. ومعلوم أن العلة مختصة بهم فيكونون مستحقين للاختصاص. فالجواب مشتمل على الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه وضم نتيجة الهدى تقوية للمبالغة التي ضمنها تنكير هدى أو تحقيقا للحكم بالبرهان الآتي أيضا ولذا استغنى عن تأكيد النسبة أو الجملة الاسمية مؤكدة، وقد يقال: إنه بين الجواب مرتبا عليه مسببيه أعني الهدى والفلاح لأن ذلك أوصل إلى معرفة السبب ولا حاجة حينئذ إلى التأكيد، والأمر على التقدير الثالث ظاهر وجعل الجملة مشيرة إلى الجواب على احتمال وصل الأول وفصل الثاني مما لا يخفى انفصاله عن ساحة القبول، وإذا وصل الأول وعطف الثاني تكون هذه الجملة مستأنفة استئنافا نحويا، والفصل لكمال الاتصال إذ هي كالنتيجة للصفات السابقة أو بيانيا والفصل لكونها كالمتصلة فكأن سائلا يقول ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأن سبب اختصاصهم أنه سبحانه قدر في الأزل سعادتهم وهدايتهم فجبلتهم مطبوعة على الهداية
والسعيد سعيد في بطن أمه
لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب، أو يقال: إن الجواب بشرح ما انطوى عليه اسمهم إجمالا من نعوت الكمال وبيان ما تستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شؤونهم أحقاء بما هو أعظم من ذلك، وهذا المسلك يسلك تارة بإعادة من استؤنف عنه الحديث- كأحسنت إلى زيد- زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة صفته- كأحسنت إلى زيد صديقك القديم- أهل لذلك وهذا أبلغ لما فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد اسم الإشارة هنا بمنزلة إعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها وانتظامه لذاك في سلك الأمور المشاهدة مع الإيماء إلى بعد منزلته وعلو درجته، هذا وجعل أولئك وحده خبرا وعَلى هُدىً حال بعيد كجعله بدلا من- الذين- والظرف خبرا. وإنما كتبوا واوا في أُولئِكَ للفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور كما قيل، وقيل: إنه لما كان مشارا به لجمع المذكر وكان مبنيا ومباينا للشائع من صيغ الجموع جبر في الجملة بكتابة حرف يكون في الجمع في بعض الآنات. ومن المشهور- ردوا السائل ولو بظلف محرق- وفي قوله سبحانه عَلى هُدىً استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك- وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به- بحال من اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد، وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفردا لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعهما من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه.
وأبدى قدس سره في الآية ثلاثة أوجه. الأول أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء. الثاني أن يشبه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة عَلى فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في «على» استعارة أصلا بل
126
هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها. الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة عَلى قرينة لها على عكس الوجه الأول. وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل، وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور- وكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي- فحكم- والظاهر أنه لأمر ما- للسيد السند والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرا إضافيا كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة فلجريانها في الحرف تكون تبعية ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور متعددة تمثيلية، ولعل اختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب، وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا- الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- وفي هذا القدر هنا كفاية. وفي تنكير هُدىً إشارة إلى عظمته فلا يعرف حقيقته ومقداره إلا اللطيف الخبير وإنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيدا لذلك بإسناده إليه جل شأنه، وفيه مناسبة واضحة إذ حيث كان ربهم ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين ويمنّ عليهم بمصلحة الدارين وقد تكون ثم صفة محذوفة أي عَلى هُدىً أي هدى وحذف الصفة لفهم المعنى جائز وقيل يحتمل أن يكون التنوين للإفراد أي على هدى واحد إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لنسخه ما قبله. ومِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف أي من هدى ربهم، ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه وإن توسطت هناك أسباب عادية ووسائط صورية على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين فيتبلج صبح العيان لذي عينين. وقد قرأ ابن هرمز- من ربهم- بضم الهاء وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور وعليه العمل، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة ورووه عن نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب، وأظهر النون أبو عون عن قالون، وأبو حاتم عن يعقوب، وهذه الأوجه جارية أيضا في النون والتنوين إذا لاقت (١) لاما وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفلاح الفوز والظفر بإدراك البغية وأصله الشق والقطع ويشاركه في معنى الشق مشاركه في الفاء والعين نحو- فلى وفلق وفلذ- وفي تكرار اسم الإشارة إشارة إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح والاختصاص بكل منهما ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع فيوهم تحقق كل واحد منهما بالانفراد فيمن عداهم وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما واقعتين بين كمال الاتصال والانفصال لأنهما وإن تناسبا مختلفان مفهوما ووجودا فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة وإثبات كل منهما مقصود في نفسه وبهذا فارقا قوله تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: ١٧٩] فالثانية فيه مؤكدة للأولى إذ لا معنى للتشبيه إلا بالإنعام المبالغة في
الغفلة فلا مجال للعطف بينهما وهُمُ يحتمل أن يكون فصلا أو بدلا فيكون الْمُفْلِحُونَ خبرا عن أولئك أو مبتدأ- والمفلحون- خبره والجملة خبر.. أُولئِكَ وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة الحصر كما لا يخفى. وقد ذكر غير
(١) قوله إذا لاقت كذا بخطه والأولى لاقتا كما هو ظاهر اهـ مصححه.
127
واحد أن اللام في- المفلحون- حرف تعريف بناء على أن المراد الثبات على الفلاح فهو حينئذ مما غلبت عليه الاسمية أو ألحق بالصفة المشبهة فهي إما للعهد الخارجي للدلالة على أن المتقين هم الذين بلغك أنهم مفلحون في العقبى وضمير الفصل إما للقصر- أو لمجرد تأكيد النسبة ولا استبعاد في جريان القصر قلبا أو تعيينا بل إفرادا أيضا أو للجنس- فتشير إلى ما يعرفه كل أحد من هذا المفهوم فإن أريد القصر كان الفصل لتأكيد النسبة ولتأكيد الاختصاص أيضا وإن أريد الاتحاد كان لمجرد تأكيد النسبة. وتشبث المعتزلة والخوارج بهذه الآية لخلود تارك الواجب في العذاب لأن قصر جنس الفلاح على الموصوفين يقتضي انتفاء الفلاح عن تارك الصلاة والزكاة فيكون مخلدا في العذاب وهذا أوهن من بيت العنكبوت فلا يصلح للاستدلال لأن الفلاح عدم الدخول أو لأن انتفاء كمال الفلاح كما يقتضيه السياق، والسباق لا يقتضي انتفاءه مطلقا ولا حاجة إلى حمل المتقين على المجتنبين للشرك ليدخل العاصي فيهم لأن الإشارة ليست إليه فقط فلا يجدي نفعا ككون الصفة مادحة كما لا يخفى، وهاهنا سر دقيق وهو أنه سبحانه وتعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لباريه بسبب إحسانه إليه وترقى فيه ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد فسبحانه من إله ماجدكم أسدى جميلا، وأعطى جزيلا، وشكر قليلا، فله الفضل بلا عد، وله الحمد بلا حد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كلام مستأنف يتميز به حال الكفرة الغواة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال والمآل، ولم يعطف على سابقه عطف القصة على القصة لأن المقصود من ذلك بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريرا لكونه يقينا لا مجال للشك فيه، ومن هذا بيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، والقول إنهما مسوقان لبيان حال الكتاب وإنه هدى لقوم وليس هدى لآخرين لا يجدي نفعا لأن عدم كونه هدى لهم مفهوم تبعا لا مقصود أصالة على أن الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه وإعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع. وقيل إن ترك العطف لكونه استئنافا آخر كأنه قيل ثانيا ما بال غيرهم لم يهتدوا به؟ فأجيب بأنهم لإعراضهم وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي المقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه، وأغرب من هذا تخيل أن الترك لغاية الاتصال زعما أن شرح تمرد الكفار يؤكد كون الكتاب كاملا في الهداية نعم يمكن على بعد أن يوجه السؤال بأن يقال: لو كان الكتاب كاملا لكان هدى للكفار أيضا فيجاب بأن عدم هدايته إياهم لتمردهم وتعنتهم لا لقصور في الكتاب.
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
والعطف في قوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لاتحاد الجامع إذ الجملة الأولى مسوقة
128
لبيان ثواب الأخيار، والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيهما من الترصيع والتقابل وقد عد التضاد وشبهه جامعا يقتضي العطف لأن الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا: إن الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد من الأمثال. وصدرت الجملة بأن اعتناء بمضمونها وقد تصدر بها الأجوبة لأن السائل لكونه مترددا يناسبه التأكيد وتعريف الموصول إما للعهد (١) والمراد من شافههم صلّى الله عليه وسلّم بالإنذار في عهده وهم مصرون على كفرهم أو للجنس كما في قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ [البقرة: ١٧١] وكقول الشاعر:
ويسعى إذا أبني ليهدم صالحي وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
فهو حينئذ عام خصه العقل بغير المصرين، والإخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه وقد ذكر الأصوليون ثلاثة أقوال فيما إذا عاد ضمير خاص على العام فقيل يخصصه وقيل لا وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] فإن الضمير في بعولتهن للرجعيات فقط. وما ذكره بعض أجلة المفسرين أن المخصص هنا الخبر أورد عليه أن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبر ينافي ما تقرر من أن المخبر عنه لا بد أن يكون متعينا عند المخاطب قبل ورود الخبر فلو توقف تعين المخبر عنه على الخبر لزم الدور. والكفر بالضم مقابل الإيمان وأصله المأخوذ منه الكفر- بالفتح- مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل، وما في الصحاح من أنه من باب ضرب فالظاهر أنه غير صحيح (٢) وإن لم ينبه عليه في القاموس وشاع استعماله في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأن فيه ستر الحق ونعم الفيض المطلق، وقد صعب على المتكلمين تعريف الكفر الشرعي الغير التبعي واختلفوا في تعريفه على حسب اختلافهم في تعريف الإيمان إلا أن الذي عول عليه الشافعية رحمهم الله تعالى أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام فلا يكفر جاحد المجمع عليه على الإطلاق بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها سائر الناس كالصلاة وتحريم الخمر ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب فليس بكافر ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف، وأما ساداتنا الحنفية رضي الله تعالى عنهم فلم يشترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة وهذا أمر عظيم وكأنه لذلك قال ابن الهمام: يجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف ولا يرد على أخذ الإنكار في التعريف أن أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكارا من فاعلها ظاهرا لأنهم صرحوا بأنها ليست كفرا وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين وصيانة لشريعة سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم وليست بعض المنهيات التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك فلا يبطل الطرد بغير الكفر من الفسق فلبس شعار الكفار مثلا ليس في الحقيقة كفرا كما قاله مولانا الإمام الرازي وغيره إلا أنهم كفروا به لكونه علامة ظاهرة على أمر باطن وهو التكذيب لأن الظاهر أن من يصدق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأتي به فحيث أتى به دل على عدم التصديق وهذا إذا لم تقم قرينة على ما ينافي تلك الدلالة ولهذا قال بعض المحققين: إن لبس شعار الكفرة سخرية بهم وهزلا ليس بكفر. وقال مولانا الشهاب وليس ببعيد إذا
(١) وهو الأولى دراية ورواية اهـ منه.
(٢) مثل ذلك لابن الطيب في حاشية القاموس وفيه أن الذي قال الجوهري: انه من باب ضرب هو الكفر بمعنى الستر وهو صحيح باتفاق وهو غير الكفر الذي هو ضد الإيمان فإنّه من باب نصر أفاده شارح القاموس اهـ مصححه.
129
قامت القرينة وأنا أقول إذا قامت القرينة على غرض آخر غير السخرية والهزل لا كفر به أيضا كما يظنه بعض من ادعى العلم اليوم وليس منه في قبيل ولا دبير ولا في العير ولا النفير ثم الإنكار هنا بمعنى الجحود ولا يرد أن من تشكك أو كان خاليا عن التصديق والتكذيب ليس بمصدق ولا جاحد وأنه قول بالمنزلة بين المنزلتين وهو باطل عند أهل السنة لأنه يجوز أن يكون كفر الشاك والخالي لأن تركهما الإقرار مع السعة والأعمال بالكلية دليل كما قاله السالكوتي على التكذيب كما أن التلفظ بكلمة الشهادة دليل على التصديق وقيل هو هاهنا من أنكرت الشيء جهلته فلا ورود أيضا، وفيه أن الإنكار بمعنى الجهل يقابل المعرفة فيلزم أن يكون العارف الغير المصدق كأحبار اليهود واسطة فالمحذور باق بحاله. وعرف في المواقف الكفر بأنه عدم تصديق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة ولعله أيضا يقول بإقامة بعض الأفعال والأقوال مقام عدم التصديق واعترض على أخذ الضرورة بأن ما ثبت بالإجماع قد يخرج من الضروريات وكذا براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ثبتت بالقرآن، وأدلته اللفظية غير موجبة للعلم فتخرج عن الضروريات أيضا.
وأجيب بأن خروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع والدلالة اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن وهي موجودة في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ولقد عد أصحابنا رضي الله تعالى عنهم في باب الاكفار أشياء كثيرة لا أراها توجب إكفارا والإخراج عن الملة أمر لا يشبهه شيء فينبغي الاتئاد في هذا الباب مهما أمكن، وقول ابن الهمام:
ارفق بالناس وفي أبكار الأفكار- في هذا البحث- ما يقضي منه العجب ولا أرغب في طول بلا طول وفضول بلا فضل. واستدل المعتزلة بهذه الآية ونحوها على حدوث كلامه سبحانه وتعالى لاستدعاء صدق الإخبار بمثل هذا الماضي سابقه المخبر عنه أعني النسبة بالزمان وكل مسبوق بالزمان حادث، وأجيب بأن سبق المخبر عنه يقتضي تعلق كلامه الأزلي بالمخبر عنه فاللازم سبق المخبر عنه على التعلق وحدوثه وهو لا يستلزم حدوث الكلام كما في علمه تعالى بوقوع الأشياء فإن له تعلقا حادثا مع عدم حدوثه أو يقال: إن ذاته تعالى وصفاته لما لم تكن زمانية يستوي إليها جميع الأزمنة استواء جميع الأمكنة فالأنواع كل منها حاضر عنده في مرتبته واختلاف التعبيرات بالنظر إلى المخاطب الزماني رعاية للحكمة في باب التفهيم، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكرنا في الفائدة الرابعة ما يفيدك ذكره هنا فتذكر وسَواءٌ اسم مصدر بمعنى الاستواء وهو لا يثنى ولا يجمع وقد استغنوا عن تثنيته بتثنية «سي» إلا شذوذا وكأنه في الأصل مصدر كما قاله الرضي ورفع على أنه خبر أن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه- أو خبر مبتدأ محذوف- تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله سبحانه أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أو خبر لما بعده أي إنذارك وعدمه سيان وهو المشهور على ألسنة الطلبة في مثله وأورد عليه أمور: الأول أن الفعل لا يسند إليه. الثاني أنه مبطل لصدارة الاستفهام. الثالث أن الهمزة وأَمْ موضوعان لأحد الأمرين وكل ما يدل على الاستواء لا يسند إلا إلى متعدد فلذا يقال: استوى وجوده وعدمه ولا يقال أو عدمه. الرابع أنه على تقدير كونه خبرا يلزم أن لا يصح تقديمه لالتباس المبتدأ بالفاعل. ويجاب أما عن الأول فبأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، والعرب تميل في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا ومن ذلك- لا تأكل السمك وتشرب اللبن- أي لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ولو أجري على ظاهره لزم عطف الاسم المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها. ودعوى البيضاوي- بيض الله تعالى غرة أحواله- أنه استعمل فيه اللفظ في جزء معناه وهو الحدث تجوزا فلذا صح الإخبار عنه كما يجوز الإخبار عما يراد به مجرد لفظه كضرب ماض مفتوح الباء على ما فيها لا تتأتى فيما إذا كان المعادلان- أو أحدهما بعد همزة التسوية- جملة اسمية كما في
130
قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: ١٩٣] ويدخل في الميل مع المعنى مع أنه لا يلزم عليه الخروج عن الحقيقة وقد نقل ابن جني عن أبي علي (١) أنه قال: الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا انتصب وانصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله تعالى: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ [الروم: ٢٨] وكقوله سبحانه وتعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى [النجم: ٣٥] ألا ترى أن الفاء جواب الاستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة والفعل المنصوب مصدر لا محالة حتى كأنه قال أعنده علم الغيب فرؤيته وهل بينكم شركة فاستواء، وأما عن الثاني والثالث فبأن الهمزة وأَمْ انسلخا عن معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولما كانا مستويين في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما، ولهذا قيل تجوز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبة ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر، ثم إن مثل هذا المعنى وإن كان مرادا إلا أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا يلاحظ معنى العاطف فلا يقال في الترجمة هنا إلا الإنذار وعدمه سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إذا كان تقدير المبتدأ المتساويان يلغو حمل سواء عليه فيدفع بما يدفع، وقد قال الإمام الآقسراي: إن أنذرتهم إلخ انتقل عن أن يكون المقصود أحدهما إلى أن يكون المراد كليهما وهذا معنى الاستواء الموجود فيه، وأما الحكم بالاستواء في عدم النفع فلم يحصل إلا من قوله سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ وذكر أنه ظفر بمثله عن أبي علي الفارسي، وكلام المولى الفناري يحوم حول هذا الحمى، وذهب بعض المحققين إلى
أنهما في الأصل للاستفهام عن أحد الأمرين وهما مستويان في علم المستفهم، وقد ذهب ذلك الاستواء هنا إذ سلخ عنهما الاستفهام وبقي الاستواء في العلم وهو معنى قول من قال الهمزة وأَمْ مجردتان لمعنى الاستواء فيكون الحاصل فيما نحن فيه المتساويان في علمك مستويان في عدم الجدوى وهذا على ما فيه تكلف مستغنى عنه بما ذكرناه ومثله ما ذكر العاملي من أن تمام معناهما الاستواء والاستفهام معا فجردا عن معنى الاستفهام وصار المجرد الاستواء ولتكرر الحكم بالاستواء بمعنى واحد يحصل التأكيد كأنه قيل سواء الإنذار وعدمه سواء وهو بعيد عن ساحة التحقيق كما لا يخفى ويوهم قولهم بالتجريد أن هناك مجازا مرسلا استعمل فيه الكل في جزئه، والتحقيق أنه إما استعارة أو مستعمل في لازم معناه ثم المشهور أنه لا يجوز العطف بعد سواء بأو إن كان هناك همزة التسوية حتى قال في المغني: إنه من لحن الفقهاء، وفي شرح الكتاب للسيرافي سَواءٌ إذا دخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت أَمْ كسواء على أقمت أم قعدت فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو فإذا كان بعدها فعلان بغير استفهام عطف أحدهما على الآخر- بأو- كقولك سواء عليّ قمت أو قعدت فإن كان بعدها مصدران مثل سواء عليّ قيامك وقعودك فلك العطف بالواو وبأو. وإنما دخلت في الفعلين بغير استفهام لما في ذلك من معنى المجازاة، فتقدير المثال إن قمت أو قعدت فهما عليّ سواء، والظاهر من هذا بيان استعمالات العرب- لسواء- ولم يحك في شيء من ذلك شذوذا فقراءة ابن محيصن من طريق الزعفراني- سواء عليهم أنذرتهم أو لم تنذرهم- شاذة رواية فقط لا استعمالا كما يفهمه كلام ابن هشام فافهم هذا المقام فقد غلط فيه أقوام بعد أقوام. وأما عن الرابع فبأن النحاة قد صرحوا بتخصيص ذلك بالخبر الفعلي دون الصفة نحو زيد قام فلا يقدم لالتباس المبتدأ بالفاعل حينئذ فإذا لم يمتنع في صريح الصفة فعدم امتناعه هنا أولى على ما قيل، وإنما عدل سبحانه عن المصدر فلم يأت به على الأصل لوجهين:
(١) أي في إعراب الحماسة اهـ منه.
131
لفظي وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنهما في الأصل للاستفهام وهو بالفعل أولى، ومعنوي وهو إيهام التجدد نظرا لظاهر الصيغة، وفيه إشارة إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحدث ذلك وأوجده فأدى الأمانة وبلغ الرسالة وإنما لم يؤمنوا لسبق الشقاء ودرك القضاء لا لتقصير منه وحاشاه فهو وإن أفاد اليأس فيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم.
وعلى هنا باعتبار أصل معناه لأن الاستواء يتعدى بعلى كقوله تعالى: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: ٥٤، يونس:
٣، الرعد: ٢، الفرقان: ٥٩، السجدة: ٤، الحديد: ٤] وقيل بمعنى عند- ففي المغني- على تجرد للظرفية، وعلى ذلك أكثر المفسرين والقول بأنها هنا للمضرة كدعاء عليه ليس بشيء لأن سَواءٌ تستعمل مع على مطلقا فيقال- مودتي دائمة سواء علي أزرت أم لم تزر- «والإنذار» التخويف مطلقا أو الإبلاغ وأكثر ما يستعمل في تخويف عذاب الله تعالى ويتعدى إلى اثنين كقوله تعالى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النبأ: ٤٠] فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت:
١٣] فالمفعول الثاني هنا محذوف أي العذاب ظاهرا ومضمرا واستحسن أن لا يقدر ليعم، وفي البحر: الإنذار الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف فإن لم تسع فهو إشعار وإخبار لا إنذار ولم يذكر سبحانه البشارة لأنها تفهم بطريق دلالة النص لأن الإنذار أوقع في القلب وأشد تأثيرا فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى. وقيل لا محل للبشارة هنا لأن الكافر ليس أهلا لها. وقوله عز من قائل لا يُؤْمِنُونَ يحتمل أن تكون مفسرة لإجمال ما قبلها مما فيه الاستواء والكفر وعدم نفع الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الاستمرار ولا يُؤْمِنُونَ دال عليه ومبين له فلا حاجة إلى القول بأن هذا بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن المصرين وهي حينئذ لا محل لها من الإعراب كما هو شأن الجمل المفسرة، وعند الشلوبين لها محل لأنها عطف بيان عنده ويحتمل أن تكون حالا مؤكدة لما قبلها وصاحب الحال ضمير عليهم أو أنذرتهم وليس هذا كزيد أبوك عطوفا لفقد ما يشترط (١) في هذا النوع هاهنا وأن تكون بدلا، إما بدل اشتمال لاشتمال عدم نفع ما مر على عدم الإيمان، أو بدل كل لأنه عينه بحسب المآل أو خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف- أي هم لا يؤمنون- أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض.
وفي التسهيل: الاعتراضية هي المفيدة تقوية وهي هنا كالعلة للحكم لدلالتها على قسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالإنذار وهو مقتض لعدم الإيمان، وحيث إن الموضوع دال على عدم الإيمان في الماضي والمحمول على استمراره في المستقبل اندفع توهم عدم الفائدة في الإخبار وجعل الجملة دعائية بعيد، وأبعد منه ما روي أن الوقف على- أم لم تنذر- والابتداء- بهم لا يؤمنون- على أنه مبتدأ وخبر بل ينبغي أن لا يلتفت إليه، وقرأ الجحدري سَواءٌ بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز فيجوز أنه أخلص الواو ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو (٢) وعن الخليل أنه قرأ: «سوء» عليهم بضم السين مع واو بعدها فهو عدول عن معنى المساواة إلى السب والقبح وعليه لا تعلق أعرابيا له بما بعده كما في البحر، وقرأ الكوفيون وابن ذكوان- وهي لغة بني تميم- أَأَنْذَرْتَهُمْ بتحقيق الهمزتين وهو الأصل، وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف فقرأ الحرميان وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية إلا أن أبا عمرو وقالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع وهشام يدخلون بينهما ألفا وابن كثير لا يدخل، وروي تحقيقهما عن هشام مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس وابن أبي إسحاق. وروي عن ورش كابن كثير وكقالون إبدال الهمزة الثانية ألفا فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين، وزعم الزمخشري أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين «أحدهما» الجمع بين ساكنين على غير حده «الثاني» أن طريق تخفيف الهمزة
(١) فقد اشترط النحاة فيه الوقوع بعد جملة اسمية طرفاها معرفتان جامدان وعاملها محذوف أبدا اهـ منه
(٢) ولامها على هذا واو لا ياء وفي المشهور همزتها منقلبة عن ياء فهو من باب طويت اهـ منه.
132
المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفا لأنه طريق الهمزة الساكنة وما قالوه مذهب البصريين، والكوفيون أجازوا الجمع على غير الحد الذي أجازه البصريون، وهذه القراءة من قبيل الأداء، ورواية المصريين عن ورش وأهل بغداد يروون التسهيل بين بين كما هو القياس فلا يكون الطعن فيها طعنا فيما هو من السبع المتواتر إلا أن المعتزلي أساء الأدب في التعبير، وقد احتج بهذه الآية وأمثالها من قال بوقوع التكليف بالممتنع لذاته بناء على أن يراد بالموصول ناس بأعيانهم، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه وتعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان وهو ممتنع إذ لو كان ممكنا لما لزم من فرض وقوعه محال لكنه لازم إذ لو آمنوا انقلب خبره كذبا وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون لكونه مما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم وإيمانهم بأنهم لا يؤمنون فرع اتصافهم بعدم الإيمان فيلزم اتصافهم بالإيمان وعدم الإيمان فيجتمع الضدان، وكلا الأمرين من انقلاب خبره تعالى كذبا واجتماع الضدين محال وما يستلزم المحال محال «وأجيب» بأن إيمانهم ليس من المتنازع فيه لأنه أمر ممكن في نفسه وبإخباره سبحانه وتعالى بعدم الإيمان لا يخرج من الإمكان، غايته أنه يصير ممتنعا بالغير واستلزام وقوعه الكذب أو اجتماع الضدين بالنظر إلى ذلك لأن إخباره تعالى بوقوع الشيء أو عدم وقوعه لا ينفي القدرة عليه ولا يخرجه من الإمكان الذاتي لامتناع الانقلاب وإنما ينفي عدم وقوعه أو وقوعه فيصير ممتنعا بالغير واللازم للمكن أن لا يلزم من فرض وقوعه نظرا إلى ذاته محال، وأما بالنظر إلى امتناعه بالغير فقد يستلزم الممتنع بالذات كاستلزام عدم المعلول الأول عدم الواجب. وقيل في بيان استحالة إيمانهم بأنهم لا يؤمنون أنه تكليف بالنقيضين لأن التصديق في الإخبار بأنهم لا يصدقونه في شيء يستلزم عدم تصديقهم في ذلك والتكليف بالشيء تكليف بلوازمه، وقوبل بالمنع لا سيما اللوازم العدمية. وقيل لأن تصديقهم في أن لا يصدقوه يستلزم أن لا يصدقوه وما يستلزم وجوده عدمه محال، ورد بأنه يجوز أن يكون ذلك الاستلزام لامتناعه بالغير كما فيما نحن فيه، وقيل لأن إذعان الشخص بخلاف ما يجد في نفسه محال. واعترض بأنه يجوز أن لا يخلق الله تعالى العلم بتصديقه فيصدقه في أن لا يصدقه نعم إنه خلاف العادة لكنه ليس من الممتنع بالذات كذا قيل، ولا يخلو المقام بعد عن شيء وأي شيء، والبحث طويل واستيفاؤه هنا كالتكليف بما لا يطاق وسيأتيك إن شاء الله تعالى على أتم وجه. ثم فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يثمر استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء في المكلفين لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: ١٦٥] فإن الله تعالى لو أدخل ابتداء كلّا داره التي سبق العلم بأنها داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله تعالى بقوله: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤] فأرسل رسلا مبشرين ومنذرين ليستخرج ما في استعدادهم من الطوع والإباء- فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة- فإن الذكرى تنفع المؤمنين- وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والإباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضرّ من الثواب والعقاب وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما امتنع من الإتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان. لو كان ممتنعا لذاته مطلقا لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشىء من استعداده الأزلي باختياره السيئ وإن كان إباؤه بخلق الله تعالى به فإن فعل الله تعالى تابع لمشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم والمعلوم من حيث ثبوته الأزلي غير مجعول فتعلق العلم به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي ثم الإرادة تعلقت بتخصيص ما سبق العلم به من مقتضى استعداده الأزلي فأبرزته القدرة على طبق الإرادة قال تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: ٥٠] فلهذا قال: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الإنعام: ١٤٩] لكنه لم يشأ إذ لم يسبق به العلم لكونه كاشفا للمعلوم وما في استعداده الأزلي فالمعلوم المستعد للهداية في نفسه كشفه عما هو
133
عليه من قبوله لها، والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله تعالى فصح أن لله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله تعالى قد «أعطى كل شيء خلقه» وما يقتضيه استعداده وما نقص منه شيئا ولهذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «فمن وجد خيرا فليحمد الله»
فإن الله متفضل بالإيجاد لا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال، وإنما قال سبحانه سَواءٌ عَلَيْهِمْ ولم يقل عليك لأن الإنذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله تعالى عليه وسلم- لفضيلة الإنذار الواجب عليه- على تركه، وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لإخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إشارة إلى برهان لميّ للحكم السابق كما أن سواء عليهم إلخ على تقدير كونه اعتراضا برهان إني، فالختم والتغشية مسببان عن نفس الكفر، واقتراف المعاصي سببان للاستمرار على عدم الإيمان أو لاستواء الإنذار وعدمه فالقطع لأنه سؤال عن سبب الحكم، والختم الوسم بطابع ونحوه والأثر الحاصل، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، وتارة في تحصيل أثر عن أثر اعتبارا بالنقش الحاصل، وتارة يعتبر معه بلوغ الآخر، ومنه ختمت القرآن والغشاوة- على ما عليه السبعة- بكسر الغين المجمعة من غشاه إذا غطاه، قال أبو علي: ولم يسمع منه فعل إلا يائي فالواو مبدلة من الياء عنده أو يقال لعل له مادتين وفعالة عند الزجاج لما اشتمل على شيء كاللفافة ومنه أسماء الصناعات كالخياطة لاشتمالها على ما فيها وكذلك ما استولى على شيء كالخلافة، وعند الراغب: هي لما يفعل به الفعل كاللف في اللفافة فإن استعملت في غيره فعلى التشبيه، وبعضهم فرق بين ما فيه هاء التأنيث وبين ما ليس فيه، فالأول اسم لما يفعل به الشيء كالآلة نحو حزام وإمام، والثاني لما يشتمل على الشيء ويحيط به (١) وحمل الظاهريون الختم والتغشية على حقيقتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا كيفية له سبحانه، وروي عن مجاهد أنه قال: إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذا- وضم الخنصر- ثم إذا أذنب ضم هكذا- وضم البنصر- وهكذا إلى الإبهام ثم قال: وهذا هو الختم والطبع والرين، وهو عندي غير معقول، والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني لإحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتم- تلك الظروف- من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم اشتق من الختم ختم، ففيه استعارة تصريحية تبعية، وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلائها الآيات والجامع ما ذكر، فهناك استعارة تصريحية أصلية أو تبعية إذا أولت الغشاوة بمشتق أو جعلت اسم آلة على ما قيل، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الاستنفاع بها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبا والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك
(١) وهذا في غير المصادر وأما فيها فعن أبي علي فعالة- بالكسر في المصادر- يجيء بما كان صنعة ومعنى متقلدا كالكتابة والخلافة وبالفتح في غيره فافهم. اهـ منه.
134
العدة (١) ثم إن إسناد الختم إليه عز وجل باعتبار الخلق والذم والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: ١٥٥] وإلا أشكل التشنيع والذم على ما ليس فعلهم كذا قاله مفسر وأهل السنة عن آخرهم فيما أعلم. والمعتزلة لما رأوا أن الآية يلزم منها أن يكون سبحانه مانعا عن قبول الحق وسماعه بالختم وهو قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على قاعدتهم التزموا. للآية تأويلات ذكر الزمخشري جملة منها حتى قال: الشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله سبحانه وتعالى لما كان هو الذي أقدره أو مكنه أسند الختم إليه كما يسند إلى السبب نحو- بنى الأمير المدينة، وناقة حلوب- وأنا أقول:
إن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلا فهي متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا غير مجعول لتوقف العلم بها على ذلك التميز وإن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضا مختلفة الاقتضاءات والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الخير والشر تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد بمقتضى استعداده فيصير مراده بعد تعلق الإرادة الإلهية مرادا لله تعالى فاختياره الأزلي بمقتضى استعداده متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة وأن اختياره فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختياره لما اختاره، فالعباد منساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر وليسوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على تعلق العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فما من شيء يبرزه الله تعالى بمقتضى الحكمة ويفيضه على الممكنات إلا وهو مطلوبها بلسان استعدادها وما حرمها سبحانه شيئا من ذلك كما يشير إليه قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: ٥٠] أي الثابت له في الأزل مما يقتضيه استعداده الغير المجعول، وإن كانت الصور الوجودية الحادثة مجعولة. وقوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: ٨] أي الثابتين لها في نفس الأمر والكل من حيث إنه خلقه حسن لكونه بارزا بمقتضى الحكمة من صانع مطلق لا حاكم عليه ولهذا قال عز شأنه أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: ٧] وما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: ٣] أي من حيث إنه مضاف إليه ومفاض منه وإن تفاوت من جهة أخرى وافترق عند إضافة بعضه إلى بعض، فعلى هذا يكون الختم منه سبحانه وتعالى دليلا على سواء استعدادهم الثابت في علمه الأزلي الغير المجعول بل هذا الختم الذي هو من مقتضيات الاستعداد لم يكن من الله تعالى إلا إيجاده وإظهار يقينه طبق ما علمه فيهم أزلا حيث لا جعل ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
[آل عمران: ١١٧] تعالى في إظهاره إذ من صفته سبحانه إفاضة الوجود على القوابل بحسب القابليات على ما تقتضيه الحكمة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: ٣٣] حيث كانت مستعدة بذاتها لذلك فحينئذ يظهر أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الإيجاد حقيقة ويحسن الذم لهم به من حيث دلالته على سوء الاستعداد وقبح ما انطوت عليه ذواتهم في ذلك الناد وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: ٥٨] وأما ما ذكره المفسرون من أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الخلق فمسلم لا كلام لنا فيه، وأما أن
(١) وليس للإسناد إلى الخاتم والغشي في هاتين مدخل في هذا التمثيل كما لا مدخل له في قولك أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، وهل هذا التمثيل يبقى في الفعل وحده أو في لفظ مركب ملحوظ بعضه ومنفك في الإرادة؟ ارتضى الشريف المرتضى الثاني وغيره الأول، وعليه إنما صرح بالختم والتغشية لأنهما الأصل والعمدة في تلك الحالة المركبة فيلاحظ باقي الأجزاء بألفاظ متخيلة إذ لا بد في التركيب من ملاحظات قصدية متعلقة بتلك الأجزاء ولا سبيل إلى ذلك إلا بتخيل ألفاظ بإزائها تدبر وافهم اهـ منه.
135
الذم باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار إلخ فنقول فيه: إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الأشاعرة من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلا وإنما المؤثر هو الله تعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: ٣٩] لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا إذ للخصم أن يقول أي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب ابن عباد في هذا الباب: كيف يأمر الله تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أَنَّى يُصْرَفُونَ [غافر: ٦٩] ويخلق فيهم الإفك ثم يقول فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الإنعام: ٨٥، يونس: ٣٤، فاطر: ٣، غافر: ٦٢] وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول لِمَ تَكْفُرُونَ [آل عمران: ٧٠، ٩٨] وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ [آل عمران: ٧١] وصدهم عن السبيل ثم يقول لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران: ٩٩] وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا [النساء: ٣٩] وذهب بهم عن الرشد ثم قال فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: ٢٦] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: ٤٩] ؟!! فإن أجابوا بأن الله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢٣] قلنا لهم: هذه كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه مطالبة العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد عن النبيين عليهم الصلاة والسلام. وإن أرادوا بالكسب فعل العبد استقلالا ما يريده هو وإن لم يرده الله تعالى فهذا مذهب المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال وسلوك مهامه الوبال.
مسا ولو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق
وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب استعداده الأزلي المؤثرة لا مستقلا بل بإذن الله تعالى ما تعلقت به من الأفعال الاختيارية مشيئته التابعة لمشيئة الله تعالى على ما أشرنا إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن طريقها إلا أن أشاعرتنا اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون.
ما في الديار أخو وجد نطارحه حديث نجد ولا خل نجاريه
وأما ما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول عشواء خبطوها وفي مهواة من الأهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب، والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة الله تعالى عليهم وهي أوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت، وقد علمت جوابها مما قدمناه لك- وليكن على ذكر منك- على أنا نرجع فنقول إن أسندوا الملازمة- وكذلك يفعلون- إلى قاعدة التحسين والتقبيح، وقالوا: معاقبة الإنسان مثلا بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبا، قيل: ويقبح في الشاهد أيضا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الأول عنها وأنتم تقولون: إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها
136
لنفسه ذلك فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبي به الحريم وذلك في الشاهد قبيح جزما «فإن قالوا» ثم حكمة استأثر الله تعالى بعلمها فرقت بين الغائب والشاهد فحسن من الغائب ذلك التمكين ولم يحسن في الشاهد «قلنا على سبيل التنزل والموافقة لبعض الناس» ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوقة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر بها كما فرغتم منه الآن حذو القذة بالقذة؟! على أن في كون الخاتم في الحقيقة هو الشيطان مما لا يقدم عليه حتى الشيطان ألا تسمعه كيف قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٢] فلا حول ولا قوة إلا بالله وليكن هذا المقدار كافيا في هذا المقام ولشحرور القلم بعد إن شاء الله تعالى على كل بانة تغريد بأحسن مقام «والقلوب» - جمع قلب- وهو في الأصل مصدر سمي به الجسم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو مشرق اللطيفة الإنسانية، ويطلق على نفس اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية الصمدانية وبها يكون الإنسان إنسانا وبها يستعد لاكتساب الأوامر واجتناب الزواجر وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني ويعبر عنها الحكيم بالنفس الناطقة ولكونها هدف سهام القهر واللطف ومظهر الجمال والجلال ومنشأ البسط والقبض ومبدأ المحو والصحو ومنبع الأخلاق المرضية والأحوال الردية، وقلما تستقر على حال وتستمر على منوال- سميت قلبا- فهي متقلبة في أمره ومنقلبة بقضاء الله وقدره.
وفي الحديث «إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح»
وقد قال الشاعر:
قد سمي القلب قلبا (١) من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وتسمية الجسم المعروف قلبا إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وكأنه لهذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»
وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم، وقيل: إنه في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبني ذلك على إثبات الحواس الباطنة والكلام فيها مشهور. ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجعة سرية لا ينكرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما هي متعذرة والإشارة إلى كنه ما هنالك على أرباب الحقائق وأصحاب الدقائق متعسرة،
ومن عرف نفسه فقد عرف ربه،
والعجز عن درك الإدراك إدراك. والسمع مصدر- سمع سمعا وسماعا- ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: ٢١٢]، والأبصار- جمع بصر- وهو في الأصل بمعنى إدراك العين وإحساسها ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إدراك الألوان والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله، وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة، وإنما قدم سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الإيمان فناسب تقديم القلوب لأنها محل الإيمان والسمع- والأبصار طرق وآلات له- وهذا بخلاف قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية: ٢٣] فإنه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت الفاصلة أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يونس: ٣، هود: ٢٤، ٣٠، النحل: ٨٧، المؤمنون:
(١) وقيل سمي قلبا لأنه لب كما سمي العقل لبا اهـ منه. [.....]
137
٨٥، الصافات: ١٥٥، الجاثية: ٢٣] فكان المناسب هناك تقديم السمع، وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدل على شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى في المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرتين، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو: مرور واحد، وفي مررت بزيد وبعمرو: مروران، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس ظاهرا مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال. ووحد السمع مع أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق واللحاق أن يجري على نمطهما للاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة- هي أن مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة- وكثيرا ما يعتبر البلغاء مثل ذلك، وقيل: إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماه- وهو الحاسة- ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادىء النظر فهناك دلالة التزام ويكفي مثل ما ذكر في اللزوم عرفا (١) ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جميعها على أن الأسماع قلما قرع السمع- ومنه قراءة ابن أبي عبلة في الشواذ- وعلى أسماعهم، واستشهد له بقوله:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا مهلا لقد أبلغت أسماعي
والقول بأنه وحدة للأمن عن اللبس كما في قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
ولأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فروعي ذلك- ليس بشيء- لأن ما ذكر مصحح لا مرجح وأدنى من هذا عندي تقدير مضاف مثل- وحواس سمعهم- وقد اتفق القراء على الوقف على سمعهم وظاهره دليل على أنه لا تعلق له بما بعده فهو معطوف على عَلى قُلُوبِهِمْ وهذا أولى من كونه هو وما عطف عليه خبرا مقدما لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع وإن احتملته الآية لتعين نظيره في قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية: ٢٣] والقرآن يفسر بعضه بعضا ولأن السمع كالقلب يدرك ما يدركه من جميع الجهات فناسب أن يقرن معه بالختم الذي يمنع من جميعها وإن اختص وقوعه بجانب إلا أنه لا يتعين، ولما كان إدراك البصر لا يكون عادة إلا بالمحاذاة والمقابلة جعل المانع ما يمنع منها وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج، ومثل هذا يكفي في النكات ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالإزار، وما في الكشف: من أن الوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه، ويكشف عن حالة النظر في المعنى اللغوي ممن لا غشاوة على بصره.
ولعل سبب تقديم السمع على البصر مشاركته للقلب في التصرف في الجهات الست مثله دون البصر. ومن هنا قيل: إنه أفضل منه، والحق أن كلّا من الحواس ضروري في موضعه، ومن فقد حسا فقد علما، وتفضيل البعض على البعض تطويل من غير طائل (٢) وقد قرىء بإمالة: «أبصارهم» ووجه الإمالة- مع أن الصاد حرف مستعل وهو مناف لها لاقتضائها لتسفل الصوت- مناسبة الكسرة واعتبرت على الراء دون غيرها لمناسبة الإمالة الترقيق، والمشهور عند أهل العربية أن ذلك لقوة الراء لتكرره على اللسان في النطق به فإنه يرتعد ويظهر ذلك إذا شدد أو وقف عليه فكسرته بمنزلة
(١) وقيل في توجيه الافراد أن المراد سمع كل واحد وهذا وإن كان حقه الإفراد إلا أن حمل الجمع على كل فرد فرد جائز لا واجب كما قيل في قوله تعالى: نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا على وجه اهـ منه.
(٢) ويحكى عن أبي يوسف عليه الرحمة أنه سئل عن- اللوزينج والفيلوذج- أيهما أحسن؟ فقال: لا أحكم من دون حضور الخصمين فأتي بهما وأكل منهما ثم قال: كلما أردت أن أحكم لأحدهما على الآخر أتى الآخر بشاهدين عدلين فيمنعني من الحكم اهـ منه.
138
كسرتين فقوي السبب حتى أزال المانع، ولعل مرادهم أنه متكرر طبعا كما يدركه الوجدان إلا أنه يجب المحافظة لئلا يقع التقرير فإنه مضر في الأداء حتى سمعت من بعض الشافعية: أن من كرر الراء في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته والعهدة على الراوي، والجمهور على أن عَلى أَبْصارِهِمْ خبر مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا كذلك، ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية دالة على الثبوت حتى كأن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين دعائيتين ليس بشيء، وفي تقديم الفعلية إشارة إلى أن ذلك قد وقع وفرغ منه، ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم غِشاوَةٌ فقيل هو على تقدير جعل كما صرح به في قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية: ٢٣] وقيل:
إنه على حذف الجار، وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون مصدرا من معنى ختم لأن معناه غشي وستر كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد فيكون حينئذ قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة، وقيل يحتمل أن يكون مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والإزالة، وفي كل ما لا يخفى، فقراءة الرفع أولى، وقرىء أيضا بضم الغين ورفعه، وبفتح الغين ونصبه، وقرىء «غشوة» - بكسر المعجمة- مرفوعا وبفتحها مرفوعا ومنصوبا، و «غشية» بالفتح والرفع و «غشاوة» بفتح المهملة والرفع، وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا بالفتح والقصر وهو الرؤية نهارا لا ليلا، والمعنى أنهم يبصرون إبصار غفلة لا إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات الله تعالى في ظلمات كفرهم ولو زالت أبصروها، وقال الراغب: العشا ظلمة تعرض للعين، وعشي عن كذا عمي قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: ٣٦] فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للإشارة إلى نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة أي غشاوة، وصرح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معا كما حمل على التكثير والتعظيم معا في قوله تعالى: فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ [فاطر: ٤] واللام في لَهُمْ للاستحقاق كما في لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ
[البقرة: ١١٤، المائدة: ٤١] وفي المغني: لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحسانا لأن المبتدأ نكرة موصوفة ولو أخر جاز ك أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الإنعام: ٢] ويجوز كما قيل أن يكون تقديمه للتخصيص- فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد- (١) وكون اللام للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لأنها إنما تقع له في مقابلة عَلى في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به هنا ولا يقال عليهم العذاب، والظاهر أن الجملة مساقة لبيان إصرارهم أن مشاعرهم ختمت وأن الشقوة عليهم ختمت، وهي معطوفة على ما قبلها وليست استئنافا ولا حالا، وقال السالكوتي: عطف- على الذين كفروا- والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما يستحقون، أو على خبر إن والجامع الشركة في المسند إليه مع تناسب مفهوم السندين، وجعل ذلك لدفع ما يتوهم عدم استحقاقهم العذاب على كفرهم لأنه بختم الله تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما لا يخفى.
والعذاب في الأصل الاستمرار ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه فقالوا: عذبته أي داومت عليه الألم قاله أبو حيان، وعن الخليل- وإليه مال كثير- أن أصله المنع يقال عذب الفرس إذا امتنع عن العلف، ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقا وإن لم يكن مانعا ورادعا ولهذا كان أعم من النكال لأنه ما كان رادعا كالعقاب، وقيل: العقاب ما يجازى به كما في الآخرة، وشمل البيان عذاب الأطفال والبهائم
(١) قاله بهاء الدين الغافقي اهـ منه.
139
وغيرهما، وخص السجاوندي العذاب بإيصال الألم إلى الحي مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب عنده، وقيل: إن العذاب مأخوذ في الأصل من التعذيب ثم استعمل في الإيلام مطلقا، وأصل التعذيب على ما قيل: إكثار الضرب بعذبة السوط، وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا، وحمله على التعظيم يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه، والعظيم الكبير، وقيل: فوق الكبير لأن الكبير يقابله الصغير والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير، فالصغير والحقير خسيسان والحقير أخسهما، والعظيم والكبير شريفان والعظيم أشرفهما. فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير كما ذكره الكثير ممن شاع فضله إذ العادة جارية بأن الأخس يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الأخص- أعم- مما لا يلتفت إليه هنا، نعم يشكل على دعوى أن العظيم فوق الكبير
قوله عز شأنه في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري»
حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الإزار، ومعلوم أن الرداء أرفع من الأزار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة، ويقال: إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا، وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس، أو يقال: إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إلى العارفين بعنوان الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزارا ولكثرة هؤلاء كانت رداءا وسبحان الكبير العظيم، وذكر الراغب: إن أصل عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأجري مجراه محسوسا كان أو معقولا معنى كان أو عينا، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة، وقد يقال فيها أيضا: عظيم وهو بمعنى كبير كجيش عظيم، وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخلل يصح أن يتفاضل العذابان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد، وقد ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك. وقال بعضهم: لا يحسن وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقليين فقالوا:
التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منزه عن أن ينتفع بشيء والعبد يتضرر به ولو سلم انتفاعه فالله تعالى قادر أن يوصل إليه النفع من غير عذاب، والضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة، وأيضا أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع قبيح، فأما أن يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب، وأيضا هو الخالق لداعية المعصية فيقبح أن يعاقب عليها، وقالوا أيضا: هب أنا سلمنا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وأقسى الناس قلبا إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه- وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه- لامه كل أحد وقيل له: إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح هذا من إنسان يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام؟! وأيضا من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، افترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] وفي الآخرة لا يجيب دعاءهم إلا ب اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨].
بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا صريحا كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساق، على أنه يحتمل أن تكون تلك الجمل دعائية أو أنها إخبارية لكن الأخبار عن استحقاق الوقوع لا عن الوقوع
140
نفسه، وهذا خلاصة ما ذكر في هذا الباب، وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما يشرح الفؤاد ويبرد الأكباد وتلك شنشنة أعرفها من أخزم، ولعمري أنها شبه تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب فأقول: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: ٨٨] نفي العذاب مطلقا مما لم يقله أحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر حتى أن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم- والعقل بمراحل عنهم- زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة بمعزل عن سلطان الله تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان الله تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه فبقي محبوسا يرمي بالآفات فمن أحياه الله تعالى أماته ومن أصحه أسقمه ومن أسره أحزنه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة وزالت قوته طرحه الله تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له، نعم المشهور عنهم أن الآلام الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن الظلمة دون النور، وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم، ولئن سلمنا أن أحدا من الناس يقول ذلك فهو مردود، وغالب الأدلة التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع ذلك في كتب الكلام يجعل نقله هنا من لغو الكلام على أنا نقول أن لله تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك- لا سيما ملك الملوك- كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر، وقد مدح في الشاهد ذلك كما قيل:
يداك يد خيرها يرتجى وأخرى لأعدائها غائظه
فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية والأعيان الثابتة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان استعداده ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماما للنعمة وإظهارا للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لربما قال: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤] فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن، وإن شئت فقل: إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعات ذاته التي هي في غاية الكمال ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعدادا غير مجعول. وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال. فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سببا حقيقيا وعلة تامة للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان لهما دعت إليهما الحكمة والرحمة. وهذا معنى ما
ورد في الصحيح «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»
أما من كان- أي في علم الله- من أهل السعادة المستعدة لها ذاته- فسييسر- بمقتضى الرحمة- لعمل أهل السعادة لأن شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأما من كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلا- فسييسر بمقتضى القهر- لعمل أهل الشقاوة، وفي ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد قوله تعالى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: ٩] لأن نفي الهداية لنفي المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: ٣٣] وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها. وحيث لا تعلق لا مشيئة، فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها فيوؤل الأمر
141
إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال: ٢٣] فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك، فنقول قولهم الضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس ومتى خلا عن القهر- كان عز شأنه عما يقوله الظالمون- كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا الانتظام. على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عاجلا ولا آجلا مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن هذه الآلام منه سبحانه في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة، وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب إلخ: ففيه أن الكافر في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نفور الظلمة عن النور وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فيها، ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الإباء لإظهار الحجة والكفر مجرد علامة ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[النحل: ٣٣] وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الاستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضر به ولا يلزم الله تعالى عقلا أن يترك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الاستعداد، وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فمن أين الدوام إلخ: قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة، وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم- كما يرشدك إلى ذلك- قوله سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الإنعام: ٢٨] ويدوم المعلول ما دامت علته أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر والملزوم لا ينفك من اللازم، وأيضا الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الاستعداد بمقتضى الحكمة، ومثل ذلك يطلب عذابا أبديا وعقابا سرمديا وشبيه الشيء منجذب إليه، ولا يقاس هذا بما ضربه من المثال إذ أين ذلة التراب من عزة رب الأرباب، وليس مورد المسألتين منهلا واحدا، وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون إلخ: ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئا
مذكورا إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسبا على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها والأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفرة الله تعالى له جودا وكرما ورحمة الله تعالى- وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها- إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: ١٥٦] فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة، ألا تسمع قوله تعالى مرة: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة: ٧]، وتارة إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: ١٢٨] وكرة إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: ٤٠] وطورا إِنَّ مَعِي رَبِّي [الشعراء: ٦٢] ولا ينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] أن الكفار المعذبين أكثر من
142
المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود: ١٧، الرعد: ١، غافر: ٥٩] وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وهم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١] وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٨] فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم مختلفون في العذاب، وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد الناس عذابا لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات. ومنهم غير ذلك، نعم فيهم من عذابه محض لا لذة لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر: ١٠] ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: ٢٢] ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب لها بمقتضى الحكمة الإلهية. وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتا مخصوصا إذا تعداه ربما يؤثر ضررا ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [المؤمنون: ٩٩] ولما كان هذا طلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال الله تعالى في مقابلته كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون: ١٠٠] ولم يغلظ عليه كما أغلظ على من قال: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ [المؤمنون:
١٠٧] حيث صدر عن جهل محض فأجابهم بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨] فلما اختلف الطلب اختلف الجواب وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب، وقولهم بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا إن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين:
فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظنا وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة، والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادا له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها- وكون قائلها صادقا- الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواترا مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم بمجردها ومدخلية القرينة فيه- مما لا يمكن الجزم بأحذ طرفيه- الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل نظر وتأمل «فإن قلت» إذا كان صدق القائل مجزوما به لزم منه الجزم بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما.
«قلت» أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتا وانتفاء ولا طريق إليها، وبالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الاحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلا.
143
هذا وقال الفاضل الرومي هاهنا بحث مشهور وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو قائم في العقليات أيضا وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتا أو انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضا ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزما. وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى. وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من الفتوحات:
على السمع عولنا فكنا أولي النهى... ولا علم فيها لا يكون عن السمع
وقال قدس سره في الباب الثامن والخمسين والثلاثمائة:
كيف للعقل دليل والذي... قد بناه العقل بالكشف انهدم
فنجاة النفس في الشرع فلا... تك إنسانا رأى ثم حرم
واعتصم بالشرع في الكشف فقد... فاز بالخير عبيد قد عصم
أهمل الفكر فلا تحفل به... واتركنه مثل لحم في وضم
إن للفكر مقاما فاعتضد... به فيه تك شخصا قد رحم
كل علم يشهد الشرع له... هو علم فبه فلتعتصم
وإذا خالفه العقل فقل... طورك الزم مالكم فيه قدم
ويؤيد هذا ما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا ينتهي إليه، وقال الإمام الغزالي: ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا تستبعد أن يكون العقل طورا وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه عوالم وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على الخلود في النار، وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها فتأويلها كلها بمجرد شبه أضعف من حبال القمر، والعدول عنها إلى القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى، على أن هذه التأويلات في غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨، ١١٦] أم كيف يقبل أن يكون الأخبار عن الاستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء: ٩٧] كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: ٥٦] ؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. وأما ما ينقل عن بعض السلف الصالح- وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه من السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم- من القول بعدم الخلود فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا، والكثير منهم قد بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية، ولعل قول من قال بعدم الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة من أهل النار وهم العصاة مما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من ترك الصلاة فقد كفر»،
على أن الشيخ قدس سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في عقيدته الصغرى أول الفتوحات: والتأبيد لأهل
144
النار في النار حق، وفي الباب الرابع والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا خروج ما نصه: ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب النار غلقا لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علوا وسفلا كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً. وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه المسمى بالإنسان الكبير، وفي شرح لباب الأسرار من الفتوحات: أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار، وقال: إياك أن تحمل كلام الشيخ محيي الدين أو غيره من الصوفية- في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة- على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجها صحيحا وجب المصير إليه انتهى، نعم قال قدس سره في تفسير الفاتحة من الفتوحات فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيما وجهنم جنة ولا عذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان بمشاهدة العيان إلخ، وهذا وأمثاله محمول على معنى صحيح يعرفه أهل الذوق لا ينافي ما وردت به القواطع، وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على مسكن عصاة هذه الأمة من النار، وفيه يضع الجبار قدمه ويتجلى بصفة القهر على النار فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى فسلمه لهم بالمعنى الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر والله وراء ذلك والأخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها لا يستلزم الخلود في العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد. وإن سولت نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل لك بها وما النصر إلا من عند الله وكان حقا علينا نصر المؤمنين، ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي التجليات فالله تعالى هو الله وكل يوم هو في شأن فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: ١٤٤] ولا أظنك تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد لله رب العالمين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشرة آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرما من سائر الكفار كما يشير إليه قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: ١٤٥] والناس- أصله عند سيبويه، والجمهور- أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان، وقد حذفت فاؤه تخفيفا فوزنه فعال، ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه ومن عرف خص بالبلاء ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله:
إن المنايا يطلع... عن على الأناس الآمنينا
وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع ومن هنا قيل:
وما سمي الإنسان إلا لأنسه... ولا القلب إلا أنه يتقلب
أو من آنس أي أبصر قال تعالى: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً [القصص: ٢٩] وجاء بمعنى سمع وعلم، وسمي به لأنه ظاهر محسوس، وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل. وفي الكشاف أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل، وقيل: من نسي بالقلب لقوله تعالى
145
في آدم عليه السلام: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فوزنه حينئذ «فلع» ولا يستعمل في الغالب إلا في بني آدم، وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب: أناس الجن، قال أبو حيان: وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهرا لا سيما إذا قلنا: إن النوس تذبذب الشيء في الهواء، وعن سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة وإن كان الثاني فهي موصولة مرادا بها عبد الله بن أبيّ وأشياعه، وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلا وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء، وقيل: إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد، وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ [الأحزاب: ٢٣] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التوبة: ٦١] لأنه أريد في الأول الجنس، وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيرا للتفصيل اللفظي، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق- تضمن الإخبار عمن يقول بأنه من الناس- فائدة، ولك أن تحمله على معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أن الستر من الكرم فضحته فيكون مفيدا أيضا وملوحا إلى تهديد ما، وقيل: المراد بكونهم من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية، أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فيتعجب منها- أو مناط الفائدة- الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم، أو المراد بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة، واختار أبو حيان هنا أن تكون مِنَ موصلة مدعيا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم وإن وَمِنَ النَّاسِ الآية وقع عديلا لأن الذين كفروا بيانا للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة: ١٨] لا مطلق المنافقين ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والاستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين، وبهذا الاعتبار صاروا قسما ثالثا فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالاعتبار، وفي قوله تعالى يقول وآمنا مراعاة للفظ مِنَ ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعا حسن مراعاة اللفظ أولا إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو عكس جاز، وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد ويرده قول الشاعر:
لست ممن يكع أو يستكينو ن إذا كافحته خيل الأعادي
واقتصر من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن بالله تعالى- على ما يليق بجلال ذاته- آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة، وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للإيذان بأنهم
146
يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودا وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلا كنبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله تعالى عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار بما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟! وقيل: إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك، وأيضا ترك الراسخ في القلب مما عليه الأباء بترك الإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم- وحمل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ على القسم منهم على الإيمان- سمج بالله. وأسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي (١). واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعدله، وسمي آخرا لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول سواء كان حقيقة أو مجازا ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس، نعم المناسب للفظ اليوم- لغة- هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم- عرفا- من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب. واصطلاحا من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك، وسيأتي لذلك تتمة، وفي قوله سبحانه: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم وقد بلغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامة المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء (٢) أيضا وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ على قصر الأفراد والذوق يبعده، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد.
وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنا، وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس بمؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني كذا قيل، ودقق بعضهم مدعيا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الإنكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ أشهد، والاسم الخاص به تعالى واسم
(١) لأن إعادة العامل تقتضي أن متعلقه كالمعاد كما قال (س) في مررت بزيد وبعمرو فيفيد ما ذكر وهو ظاهر اهـ منه.
(٢) فيه إشارة إلى أن النفي اعتبر أولا ثم أكد فالكلام من تأكيد النفي لا نفي التأكيد اهـ منه.
147
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر.
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام، وقيل: بالكسر اسم مصدر، ومنه المخدع (١) للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الأضرار بالغير أو التخلص منه كما قاله الإمام، وقال السيد: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به، وفي الكشف التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلا يستهجن شرعا أو عقلا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون: الحرب خدعة (٢) مجازا ولا تخفى غرابته. والمخادعة مفاعلة، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي هنا أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر، وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه لا يخدع ولا يخدع، أما على التحقيق فلأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضا متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه أجلّ عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الانفعال وخفاء معلوم ما عليه، وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجلّ من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه، وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق- كما في الانتصاف- ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به هو التخادع بمعنى إظهار التأثر دونه كرما كما يشير إليه
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن غر كريم»
لا الانخداع الدال على البله، ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع، ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في يُخادِعُونَ وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحا وكون المفعول آتيا بمثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة- كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية- مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب- كما قيل- بأن المراد مخادعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأوقع الفعل على غير ما
(١) المخدع مثلث، والخزانة لا تفتح اهـ منه.
(٢) يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، وبضمها مع فتح الدال، فالأول معناه أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة من الخداع أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم يكن لها إقالة، وهو أفصح الروايات وأصحها، ومعنى الثاني هو الاسم من الخدع، ومعنى الثالث أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم كما يقال رجل لعبة وضحكة للذي يكثر اللعب والضحك فليفهم وليحفظ اهـ منه.
148
يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له، وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا، على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازا لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة- يخدعون- والجواب عما يلزم هو الجواب فيما لزم، وقد تأتي فاعل بمعنى فعل كعافاني الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع يُخادِعُونَ إما بيان ليقول لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل: لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم؟ فقيل يخادعون إلخ، وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى. وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلا من صلة من بدل اشتمال أو حالا من الضمير المستكن في يقول أي مخادعين، وأبو البقاء أن يكون حالا من الضمير المستتر في مؤمنين، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال- كما في ما جاءني زيد، وقد طلع الفجر- وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: ٣٣] على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدا للنفي لا للمنفي كما قرروه في- لم أبالغ- في اختصاره تقريبا. وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في بحره، نعم التعجب من كون الجملة بيانا للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى. ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية ربما يؤدي تركها إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى، وقرأ الحرميان وأبو عمرو: وما يخادعون، وقرأ باقي السبعة: «وما يخدعون» وقرأ الجارود وأبو طالوت: «وما يخدعون» - بضم الياء- مبنيا للمفعول. وقرأ بعضهم: «وما يخادعون» - بفتح الدال مبنيا للمفعول أيضا- وقرأ قتادة والعجلي: «وما يخدعون» من خدع مضاعفا مبنيا للفاعل، وبعضهم- بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة- وما عدا القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب أنفسهم على المفعولية الصرفة أو مع الفاعلية معنى، وأما على قراءة بناء الفعل للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلا، ولا يشكل على قراءة يخادعون أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم، وذلك يقتضي نفيه عن الله تعالى والمؤمنين، وقد أثبت أولا، وإن المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتبار أن ضرره عائد إلى أنفسهم فتكون العبارة الدالة عليه مجازا أو كناية عن انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في المرتبة الثانية، وكونه مجازا باعتبار الأول كما قاله السعد غير ظاهر. وقد يقال: إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم حيث حدثتهم بالأماني الخالية، فالمراد بالخداع غير الأول. والمخادع والمخادع متغايران بالاعتبار فالخداع على هذا مجاز عن إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق، وحمله على حقيقته بعيد وكون ذلك من التجريد كقوله:
149
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
لا يرتضيه الذوق السليم كالقول
بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم لله تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم بإعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم، وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من المشاكل والمشاكل مجازا وكل يعمل على شاكلته «والنفس» حقيقة الشيء وعينه ولا اختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الإنعام: ١٢] وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: ٢٨، ٣٠] وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على المشهور، ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو المستفيد منبتا لآلة الاستفادة، وقيل: الدماغ لأنه المنبت ولم تقم دلالة قطعية على ذلك كما في شرح القانون للإمام الرازي وكثيرا ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة في
- من عرف نفسه فقد عرف ربه-
وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضا ولذلك الشرف قد يسمى نفسا، وبعضهم يسمي الرأي بها، والظاهر في الآية على ما قيل: المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعيّن كما لا يخفى، وتطلق على معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء الله تعالى.
وجملة وَما يَشْعُرُونَ مستأنفة أو معطوفة على وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ومفعول يَشْعُرُونَ محذوف أي وَما يَشْعُرُونَ أنهم يخدعونها أو أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أو إطلاع الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على خداعهم وكذبهم- كما روي ذلك عن ابن عباس- أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روي عن زيد، أو المراد لا يشعرون بشيء، ويحتمل- كما في البحر- أن يكون وَما يَشْعُرُونَ جملة حالية أي وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا، والشعور الإدراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون بمعنى العلم، قال الراغب: شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر به عن اللمس ومنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر، وتارة يقال: شعرت كذا أي أدركت شيئا دقيقا من قولهم شعرته أي أصبت شعره نحو- أذنته ورأسته- وكان ذلك إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر، ومنه أخذ الشاعر لإدراك دقائق المعاني انتهى. والآية تحتمل نفي الشعور بمعنى العلم فمعنى لا يَشْعُرُونَ لا يعلمون وكثيرا ما ورد بهذا المعنى، وفي اللحاق نوع إشارة إليه، ويحتمل نفيه بمعنى الإدراك بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد الحواس، ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالإنعام بل هم أضل، ولعل هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم بالطريق الأولى، وهو أيضا أنسب بقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
كما لا يخفى.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ المرض بفتح الراء كما قرأ الجمهور، وبسكونها كما قرأ الأصمعي عن أبي عمر- وعلى ما ذهب إليه أهل اللغة- حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، وعند الأطباء ما يقابل الصحة وهي الحالة التي تصدر عنها الأفعال سليمة، والمراد من الأفعال ما هو متعارف
150
وهي إما طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس أو نفسانية كجودة الفكر، فالحول والحدب مثلا مرض عندهم دون أهل اللغة وقد يطلق المرض لغة على أثره وهو الألم كما قاله جمع ممن يوثق بهم، وعلى الظلمة كما في قوله:
في ليلة مرضت من كل ناحية فما يحس بها نجم ولا قمر
وعلى ضعف القلب وفتوره كما قاله غير واحد ويطلق مجازا على ما يعرض المرء مما يخل بكمال نفسه كالبغضاء والغفلة وسوء العقيدة والحسد وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ والمؤدية إلى الهلاك الروحاني الذي هو أعظم من الهلاك الجسماني، والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي. ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث التي منعتهم مما منعتهم وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار. ولا مانع عند بعضهم أن يحمل المرض أيضا على حقيقته الذي هو الظلمة وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: ٤٠] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: ٢٥٧] وكذا على الألم فإن في قلوب أولئك ألما عظيما بواسطة شوكة الإسلام وانتظام أمورهم غاية الانتظام، فالآية على هذا محتملة للمعنيين ونصب القرينة المانعة في المجاز إنما يشترط في تعيينه دون احتماله فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة فيمكن الحمل عليهما نظرا إلى الأصالة والنكتة إلا أنه يرد هنا أن الألم مطلقا ليس حقيقة المرض بل حقيقته الألم السوء المزاج وهو مفقود في المنافقين والقول بأن حالهم التي هم عليها تقضي إليه في غاية الركاكة على أن قلوب أولئك لو كانت مريضة لكانت أجسامهم كذلك أو لكان الحمام عاجلهم ويشهد لذلك الحديث النبوي والقانون الطبي، أما الأول
فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجسد مضغة» الحديث،
وأما الثاني فلأن الحكماء بعد أن بينوا تشريح القلب قالوا إذا حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أو من أحدهما عاجلت المنية صاحبه وإن لم تتمكن تأخرت الحياة مدة يسيرة ولا سبيل إلى بقائها مع مرض القلب، فالأولى دراية ورواية حمله على المعنى المجازي- ومنه الجبن والخور- وقد داخل ذلك قلوب المنافقين حين شاهدوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين ما شاهدوا. والتنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض، ولم يجمع كما جمع القلوب لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلا فاكتفى بجمعها عن جمعه.
والجملة الأولى إما مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق أو مقررة لما يفيده وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ من استمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل: ما بالهم لا يؤمنون؟ فقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يمنعه أو مقررة لعدم الشعور وإن كان سبيل قوله: وَما يَشْعُرُونَ سبيل الاعتراض- على ما قيل- وجملة فزادهم الله مرضا إما دعائية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والمعترضة قد تقترن بالفاء كما في قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كلّ ما قدرا
كما صرح به في التلويح وغيره نقلا عن النحاة أو إخبارية معطوفة على الأولى وعطف الماضي على الاسمية لنكتة إن أريد في الأولى أن ذلك لم يزل غضا طريا إلى زمن الأخبار، وفي الثانية أن ذلك سبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس فطرتهم لازدادوا بما منّ الله تعالى به على المؤمنين شفاء ولا يتكرر هذا مع قوله تعالى: يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [البقرة: ١٥] للفرق بين زيادة المرض وزيادة الطغيان على أنه لا مانع من زيادة التوكيد مع بعد المسافة، وأيضا الدعاء إن لم يكن جاريا على لسان العباد أو مرادا به مجرد السب والتنقيص يكون إيجابا منه سبحانه فيؤول إلى ما آل إليه الأخبار وزيادة الله تعالى مرضهم إما بتضعيف حسدهم بزيادة نعم الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أو ظلمة قلوبهم بتجدد كفرهم بما ينزله سبحانه شيئا فشيئا من الآيات والذكر الحكيم فهم في
151
ظلمات بعضها فوق بعض أو بتكثير خوفهم ورعبهم المترتب عليه ترك مجاهرتهم بالكفر بسبب إمداد الله تعالى الإسلام ورفع أعلامه على أعلام الإعزاز والاحترام، أو بإعظام الألم بزيادة الغموم وإيقاد نيران الهموم.
والغم يخترم النفوس نحافة... ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ويكون ذلك بتكاليف الله تعالى لهم المتجددة وفعلهم لها مع كفرهم بها وبتكليف النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم ببعض الأمور وتخلفهم عنه الجالب لما يكرهونه من لومهم وسوء الظن بهم فيغتمون إن فعلوا وإن تركوا ونسبة الزيادة إلى الله تعالى حقيقة ولو فسرت بالطبع فإنه سبحانه الفاعل الحقيقي بالأسباب وبغيرها ولا يقبح منه شيء، وبعضهم جعل الإسناد مجازا في بعض الوجوه ولعله نزغة اعتزالية، وأغرب بعضهم فقال. الإسناد مجازي كيفما كان المرض، وحمل على أن المراد أنه ليس هنا من يزيدهم مرضا حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم في الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة مثل.
يزيدك وجهه حسنا... إذا ما زدته نظرا
فتدبر، وإنما عدى سبحانه الزيادة إليهم لا إلى القلوب فلم يقل فزادها إما ارتكابا لحذف المضاف- أي فزاد الله قلوبهم مرضا- أو إشارة إلى أن مرض القلب مرض لسائر الجسد أو رمزا إلى أن القلب هو النفس الناطقة ولولاها ما كان الإنسان إنسانا وإعادة مرض منكرا لكونه مغايرا للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه، وتوهم من زعم أنه من وضع المظهر موضع المضمر، والتنكير للتفخيم، والأليم فعيل من الألم بمعنى مفعل كالسميع بمعنى مسمع، وعلى ما ذهب إليه الزمخشري من ألم الثلاثي كوجيع من وجع، وإسناده إلى العذاب مجاز على حد جد جده، ولم يثبت عنده فعيل بمعنى مفعل وجعل بديع السماوات من باب الصفة المشبهة أي بديعة سماواته، وسميع في قوله:
أمن ريحانة الداعي السميع... يؤرقني وأصحابي هجوع
بمعنى سامع- أي أمن ريحانة داع من قلبي سامع لدعاء داعيها- بدليل ما بعده فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها فعلى هذا يكون تفسيره بمؤلم اسم فاعل بيان لحاصل المعنى، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل شيء في القرآن أليم فهو موجع، وقد جمع للمنافقين نوعان من العذاب عظيم، وأليم، وذلك للتخصيص بالذكر هنا والاندراج مع الكفار هناك، قيل: وهذه الجملة معترضة لبيان وعيد النفاق والخداع والباء إما للسببية أو للبدلية وبِما إما مصدرية مؤولة بمصدر كان إن كان أو بمصدر متصيد من الخبر كالكذب وإما موصولة، واستظهره أبو البقاء بأن الضمير المقدر عائد على ما أورده في البحر بأنه لا يلزم أن يكون ثم مقدر بل من قرأ يكذبون بالتخفيف وهم الكوفيون فالفعل غير متعد ومن قرأ بالتشديد كنافع وابن كثير وأبي عمر فالمفعول محذوف لفهم المعنى والتقدير بكونهم يكذبون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما جاء به، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف للمبالغة في الكيف كما قالوا في- بان الشيء وبين، وصدق وصدق- وقد يكون التضعيف للزيادة في الكم- كموتت الإبل- ويحتمل أن يكون من كذب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه، وتلك حال المتحير وهي حال المنافق ففي الكلام حينئذ استعارة تبعية تمثيلية أو تبعية أو تمثيلية ويشهد لهذا المعنى
قوله: صلّى الله عليه وسلّم «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة»
والجار والمجرور صفة لعذاب لا لأليم كما قاله أبو البقاء لأن الأصل في الصفة أن لا توصف والكذب هو الأخبار عن الشيء النسبة أو الموضوع على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر عندنا، وفي الاعتقاد عند النظام، وفيهما عند الجاحظ، وكل مقصود محمود يمكن التواصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب فالكذب فيه مباح إن كان
152
تحصيل ذلك المقصود مباحا وواجب إن كان واجبا، وصرح في الحديث بجوازه في ثلاث مواطن في الحرب، وإصلاح ذات البين، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها ولا حصر ولهذا جاز تلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار فينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا فله الكذب وإن كان عكسه أو شك حرم عليه، فما قاله الإمام البيضاوي عفا الله تعالى عنه من أن الكذب حرام كله يوشك أن يكون مما سها فيه. وفي الآية تحريض للمؤمنين على ما هم عليه من الصدق والتصديق فإن المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو هو تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب وتصور سماجته فانزجر عنه أعظم انزجار، وهذا ظاهر على قراءة التخفيف ويمكن في غيرها أيضا لأن نسبة الصادق إلى الكذب كذب، وكذا كثرته وإن تكلف في المعنى الأخير، وقيل: إنه مأخوذ من كذب المتعدي كأنه يكذب رأيه فيقف لينظر لكن لما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها أمكن- على بعد بعيد- ذلك التحريض، ولا يرد على تحريم الكذب- في بعض وجوهه- ما
روي في حديث الشفاعة عن إبراهيم عليه السلام أنه يقول: «لست لها إني كذبت ثلاث كذبات»
- وعنى كما في رواية أحمد- إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٩] وبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: ٦٣] وقوله الملك في جواب سؤاله على امرأته سارة هي أختي حين أراد غضبها، وكان من طريق السياسة التعرض لذات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن فإنها إن كانت من الكذب المحرم فأين العصمة وهو أبو الأنبياء؟! وإن لم تكن كذلك فقد أخبر يوم القيامة بخلاف الواقع وحاشاه حيث إن المفهوم من ذلك الكلام أني أذنبت فأستحيي أن أشفع، وهي يستحي مما لا إثم فيه ولقوة هذه الشبهة قطع الرازي بكذب الرواية صيانة لساحة إبراهيم عليه السلام لأنا نقول إن ذلك من المعاريض، وفيها مندوحة عن الكذب، وقد صدرت من سيد أولى العصمة صلّى الله عليه وسلّم كقوله مما في حديث الهجرة، وتسميته كذبا على سبيل الاستعارة للاشتراك في الصورة فهي من المعاريض الصادقة كما ستراه بأحسن وجه إن شاء الله تعالى في موضعه لكنها لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء، ومثله ممن تكفل الله تعالى بحمايته يناسبه المبارزة- فلعدوله عن الأولى بمقامه- عد ذلك في ذلك المقام ذنبا وسماه كذبا لكونه على صور وما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحيي منه فلكل مقام مقال، على أنا نقول: إنها لو كانت كذبا حقيقة لا ضرر فيها ولا استحياء منها، كيف
وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما منها كذبة إلا جادل بها عن دين الله تعالى فهي من الكذب المباح»
لكن لما كان مقام الشفاعة هو المقام المحمود المخبوء للحبيب لا الخليل أظهر الاستحياء للدفع عنه بما يظن أنه مما يوجب ذلك وهو لا يوجبه. وفي ذلك من التواضع وإظهار العجز والدفع بالتي هي أحسن مما لا يخفى فكأنه قال: أنا لا آمن من العتاب على كذب مباح فكيف لي بالشفاعة لكم في هذا المقام فليحفظ، ثم إن الإتيان بالأفعال المضارعة في أخبار الأفعال الماضية الناقصة أمر مستفيض- كأصبح يقول كذا، وكادت تزيغ قلوب فريق منهم- ومعناه أنه في الماضي كان مستمرا متجددا بتعاقب الأمثال والمضي والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم، وقد عد الاستمرار من معاني «كان» فلا إشكال في بِما كانُوا يَكْذِبُونَ حيث دلت «كان» على انتساب الكذب إليهم في الماضي ويكذبون على انتسابه في الحال والاستقبال والزمان فيهما مختلف ودفعه بأن «كان» دالة على الاستمرار في جميع الأزمنة- ويكذبون- دل على الاستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة على علاته يغني الله تعالى عنه. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ووافقه ابن ذكوان في إمالة جاء وشاء وزاد هذه، وعنه خلاف في زاد غيرها، والإمالة لتميم والتفخيم للحجاز. وقد نظم أبو حيان تلك العشرة فقال:
153
وعشرة أفعال تمال لحمزة فجاء وشاء ضاق ران وكملا
بزاد وخاب طاب خاف معا وحا ق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا
[البقرة: ١١- ٢٠] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ اختلف في هذه الجملة فقيل معطوفة على- يكذبون- لأنه أقرب وليفيد تسببه للعذاب أيضا وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن الكذب. ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة الموصول الواقع سببا إذ المعنى في قولهم: «إنما نحن مصلحون» إنكار لادعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح وهو عناد وإصرار على الفساد والإصرار على ذلك فساد وإثم، وهذا الذي مال إليه الزمخشري- وهو مبني على عدم الاحتياج إلى ضمير في الجملة- يعود إلى «ما» فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا يكون التقدير- ولهم عذاب أليم- بالذي كانوا إذا قيل لهم إلخ وهو غير منتظم وكأن من يجعل «ما» مصدرية يجعل الوصل «بكان» حيث لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية نعم يرد أن قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ كذب فيؤول المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب وعطف التفسير مما يأباه الذوق والاستعمال (١) ومن هنا قيل: بأن هذا العطف وجيه على قراءة يكذبون بالتشديد على أحد احتمالاته ليكون سببا للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب. وقول مولانا مفتي الديار الرومية في الاعتراض: أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق الذكر صريحا أو استلزاما، ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة الانتساب بوجه- حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل- لا يخفى ما فيه على من أمعن النظر، وقيل: معطوفة على يقول لسلامته مما في ذلك العطف من الدغدغة ولتكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا ودلالتها على لحوق
(١) فقد قالوا عطف التفسير بالواو في الجمل خلاف الظاهر اهـ منه.
154
العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم فما ظنك بسائرها؟ ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن العطف، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه فلا تغاير سابقها ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وأيضا كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان والاستئناف وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن استهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما اختاره المدقق في الكشف، وقريب منه كلام أبي حيان في البحر أنها معطوفة على قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لبيان حالهم في ادعاء الإيمان وكذبهم فيه أولا ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا، ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح، وما قيل عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أو في بتأدية هذه المعاني وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها إليهم- كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام- كلام خارج عن دائرة الإنصاف كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب والاعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها وما أخرجه ابن جرير عن سلمان رضي الله تعالى عنه- من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد- ليس المراد به أنها مخصوصة بقوم آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم. ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبي صلّى الله عليه وسلّم تبليغا عن الله سبحانه المخبر له بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظا لهم قائلا لا تُفْسِدُوا، والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة ونقيضه الصلاح، والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد- وهو هنا الكفر كما قاله ابن عباس- أو المعاصي- كما قاله أبو العالية- أو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين فإن كل ذلك يؤدي- ولو بالوسائط- إلى خراب الأرض وقلة الخير ونزع البركة وتعطل المنافع، وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة ومشغولية الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل. ولعل النهي عن ذلك لخور أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما تميل إليه الحذاق. على أن في أذهان كثير من الكفار إذ ذاك توقع ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: ٣٢]، ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف والمراد من- الأرض- جنسها أو المدينة المنورة، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد استيعاب الأفراد لا الأجزاء، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا، لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها.
وأقبح خلق الله من بات عاصيا لمن بات في نعمائه يتقلب
وإنما للحصر كما جرى عليه بعض النحويين وأهل الأصول، واختار في البحر أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعا، وجعل القول بكونها مركبة من «ما» النافية دخل عليها «أن» التي للإثبات فأفادت الحصر قولا ركيكا
155
صادر عن غير عارف بالنحو. ومعنى إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يشبه شيء من وجوه الفساد وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، والقصر إما قصر إفراد أو قلب وهذا إما ناشىء عن جهل مركب فاعتقدوا الفساد صلاحا فأصروا واستكبروا استكبارا.
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقرأ هشام والكسائي «قيل» بإشمام الضم ليكون دالا على الواو المنقلبة، وقول: بإخلاص الضم وسكون الواو لغة لهذيل ولم يقرأ بها.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ رد لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم وتحقيقه «بأن، وألا» بناء على تركبها من همزة الاستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى «ولا» النافية فهو نفي نفي فيفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره- ولإفادتها التحقيق- كما قال ناصر الدين: لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم «كان، واللام، وحرف النفي» والذي ارتضاه الكثير أنها بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة ولا النافية لا تدخل عليها إذ قد يقال: انفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل البساطة، ودعوى لا يكاد إلخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب وحبذا ويا النداء في- ألا رب يوم صالح لك منهما- وألا حبذا هند وأرض بها هند- وألا يا قيس والضحاك سيرا- وضم إلى ذلك تعريف الخبر وتوسيط الفصل وأشار ب لا يَشْعُرُونَ على وجه إلى أن كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم يدركوه، وأتى سبحانه بالاستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهما يقتضي تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بادعاء أنهم على خلافه، وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقين بالعلم به مع أنهم ليسوا كذلك فكان محلا للاستدراك. وما يقال: من أنه لا ذمّ على من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم، يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل ربما يقال: إنه أسوأ حالا من غيره، وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول لا يَشْعُرُونَ محذوفا مقدرا بأنهم مفسدون، ويحتمل أن يقدر أن وبال ذلك الفساد يرجع إليهم، أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ لإفادة لازم فائدة الخبر بناء على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم المستمرة، ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب، ويحتمل أن لا ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم. وفيه مزيد تسلية له صلّى الله عليه وسلّم إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته، وفي التأويلات- لعلم الهدى- إن هذه الآية حجة على المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطا للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفسادا لأن الإفساد ارتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائما عليهم عن النفاق لم يكن فعلهم إفسادا فحيث كان إفسادا دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة عليهم. وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل وعدمها، وأنت تعلم أنه مع قيام الاحتمال يقعد على العجز الاستدلال وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة- كما أن لا تفسدوا إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمة- ولذا قدم، وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته- كما قيل- لأن اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان و «الكاف» في موضع نصب، وأكثر النحاة يجعلونها نعتا
156
لمصدر محذوف- أي إيمانا كما آمن الناس- وسيبويه لا يجوّز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناء على أن الكاف لا تكون كذلك و «ما» إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف، والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانا مشابها لإيمان الناس، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقرونا بالإخلاص خالصا عن شوائب النفاق، والمراد من الناس الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقا- كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وهم نصب عين أولى الغين، وملتفت خواطرهم لتأملهم منهم، وقد مر ذكرهم أيضا لدخولهم دخولا أوليا في الذين آمنوا فالعهد
خارجي، أو خارجي ذكرى، أو من آمن من أبناء جنسهم- كعبد الله بن سلام- كما قاله جماعة من وجوه الصحابة، أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل، فاللام إما للجنس أو للاستغراق.
واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب، والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله، ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق.
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها
نعم إن كان معروفا بالزندقة داعيا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين.
قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أرادوا لا يكون ذلك أصلا فالهمزة للإنكار الإبطالي- وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس (١) بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولا أوليا وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلّا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم الله أنى يؤفكون- والسفه- الخفة والتحرك والاضطراب، وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلا منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرا من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم، واليهود قوم بهت، وقد استشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين- كما هو الظاهر- والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟ وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم ورده عليهم، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير، وقيل: «إذا» هنا بمعنى لو تحقيقا لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا- كما قيل مثله في قوله- وإذا ما لمته لمته وحدي، وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين لكن مسارّة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى، وقيل: كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما، وذكر مولانا مفتي الديار الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين
(١) أي جنس السفيه على ما يريد به بعض الأصوليين من بطلان الجمعية أو جنس السفهاء بوصف الجمعية على ما هو قانون العربية اهـ منه.
157
فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر- كما ذكره في تفسيره- وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى- أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا- ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول، والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم وليكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [النساء: ٤٦] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه، وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ من هذا القبيل أيضا، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره، وعندي أنه ليس بشيء لأن أَنُؤْمِنُ لإنكار الفعل في الحال وقولهم كَما آمَنَ السُّفَهاءُ بصيغة الماضي صريح في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح العطّار ما أفسد الدهر. فالأهون بعض هاتيك الوجوه، وقوله: إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام- فضلا عما هو في منصب الإعجاز لا يخفى ما فيه- على من اطلع على محاورات الناس قديما وحديثا وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: ٤] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما سلف، وإنما قال سبحانه هنا: لا يَعْلَمُونَ وهناك لا يَشْعُرُونَ لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم، والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور- على ما قيل- فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر. ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء، ألا ففي ذلك أوجه، تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو، وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو. وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوا، وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون.
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاء فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضا لأن المعنى- ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقا للخداع- وذلك التفوّه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة، والقول بأن المراد ب آمَنَّا أولا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام- ولا أقتدي به- وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبي- فيجب إرادته- يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه، واللقاء استقبال الشخص قريبا منه وهو أحد أربعة عشر (١) مصدرا للقي، وقرأ أبو
(١) وهي لقيا ولقية ولقاء ولقاة ولقاء ولقي ولقي ولقيا ولقيا ولقيانا ولقيانة وتلقاء اهـ منه.
158
حنيفة وابن السميقع لاقوا، وجعله في البحر بمعنى الفعل المجرد، وحذف المفعول في آمنا قيل اكتفاء بالتقييد قيل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وقيل: المراد آمنا بما آمنتم به، وأبعد من قال أرادوا الإيمان بموسى عليه السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهاما: هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب، وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب، وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ من خلوت به، وإليه إذا انفردت معه أو من قولهم في المثل: اطلب الأمر وخلاك ذم- أي عداك- ومضى عنك ومنه قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران: ١٣٧] وعلى الثاني المفعول الأول هاهنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا خلوهم، وتعديته إلى المفعول الثاني إِلى لما في المضي عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت منه، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلانا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحا- خلا- بمعنى سخر في كلام من يوثق به، وقولهم: خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو بمعنى تمكن منه على ما قيل، والدال على السخرية يعبث به، وزعم النضر بن شميل أن إِلى هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف، نعم إن الخلوة كما في التاج تستعمل ب «إلى، والباء، ومع» بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى المضي، وإذا أريد به ذلك كان مجازا وظاهر كلام غيره أنه حقيقة. وضعيفان يغلبان قويا. والمراد ب شَياطِينِهِمْ من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهود- كما قاله ابن عباس- أو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة- وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة- وكان على عهده صلى الله تعالى عليه وسلم كثير منهم- ككعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبي بردة من بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام.
وحمله على شياطين الجن- كما قاله الكلبي- مما لا يختلج بقلبي، والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح- كما في بعض الشواذ- تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدا والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر، وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضبا والأنثى شيطانة وأنشد في البحر:
هي البازل الكوماء لا شيء غيرها وشيطانة قد جن منها جنونها
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب».
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث، وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهاما منهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعا لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان، وقيل: إلى التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون
159
لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان وثباته، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم، وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكي عنهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: ١] إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى، والعوارض كثيرة ولهذا قيل: إنهم للتقية والخداع، ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان- ليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربة- أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين: رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى، وقرأ الجمهور مَعَكُمْ بتحريك العين وقرىء شاذا بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ.
الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، واستفعل بمعنى فعل تقول هزأت به واستهزأت بمعنى كاستعجب وعجب، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين. وأصل هذه المادة الخفة يقال: ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف- وقول الرازي إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية- غير موافق للغة والعرف. والجملة إما استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم- لما قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إن صح ذلك- فما بالكم توافقون المؤمنين- فأجابوا بذلك. أو بدل من إنا معكم، وهل هو بدل اشتمال، أو كل، أو بعض؟ خلاف، أما الأول فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزئ بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد، لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال.
«وأما الثاني» وبه قال السعد: فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول، وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك، أو تأكيد لما قبله بأن يقال: إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما «نحن مستهزئون» لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررا للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع النقيضين، أو يقال يلزم إِنَّا مَعَكُمْ إنا نوهم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيدا باعتبار ذلك اللازم، وأولى الأوجه- عند المحققين- الاستئناف لولا ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز من أن موضوع إِنَّما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل، وقرىء مُسْتَهْزِؤُنَ بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة، ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته وإن لم يكن المستهزئ من أسمائه سبحانه، وقالوا: إنه التحقير على وجه من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا استحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد، وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به- جل وعلا- حقيقة لما فيه من تقرير بالمستهزأ به على الجهل الذي فيه، ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفا بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى، فالآية على هذا مؤولة إما بأن يراد بالاستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة هاهنا، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل، وإما بأن يراد به إنزال الحقارة، والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى التصور وبالعكس
160
نظرا إلى الوجود، وإما بأن يجعل الله- تعالى وتقدس- كالمستهزىء بهم على سبيل الاستعارة المكنية وإثبات الاستهزاء له تخييلا، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح قصدا وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيما للعباد. وقد يقال إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزئ: إما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وإما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال:- هلم هلم- فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال: هلم هلم- فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال:- هلم هلم- فما يأتيه، وقد روي ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في المستهزئين بالناس، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدرا الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم لأنهم ما استهزىء بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله سبحانه، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد، وقيل: ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين، وقولهم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ إشعار بأن ما حكي من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم ويشعر كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام- كهم مستهزئون- بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقا وأنه تولى مجازاتهم مطلقا بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة، وأيضا لكون استهزاء الله تعالى- بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما- يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيا أنه لو عطف- ولو بحسب التوهم- على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤون بهم والله يستهزىء بهم لفاتت الفائدتان هذا، ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر، وعدل سبحانه عن- الله مستهزىء
بهم المطابق لقولهم- إلى قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ مع الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل: (١)
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا متجددا مستمرا أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة: ١٢٦] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة: ٦٤] وهذا نوع من العذاب الأدنى «ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون» (٢) وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصا وإنما تركه المنافقون فيما حكي عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى- كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا- وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
معطوف على قوله سبحانه وتعالى: يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ كالبيان له على رأي، والمدّ من مد الجيش وأمده بمعنى
(١) هو المتنبي.
(٢) نص الآية ١٢٧ من سورة طه: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى وفي الزمر والقلم: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ
161
أي ألحق به ما يقويه ويكثره، وقيل: مد زاد من الجنس وأمد زاد من غير الجنس، وقيل: مد في الشراء وأمد في الخير عكس وعد وأوعد، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب فبشرهم بعذاب أليم، وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين، أحدهما ما ذكرنا، وثانيهما الإمهال، ومنه مد العمر، والواقع هنا من الأول دون الثاني لوجهين، الأول أنه روي عن ابن كثير من غير السبعة يَمُدُّهُمْ بالضم من المزيد وهو لم يسمع في الثاني، والثاني أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع فمعنى يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يزيدهم ويقويهم فيه، وإلى ذلك ذهب البيضاوي وغيره، والحق أن الإمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وابن كيسان والوجهان مخدوشان، فقد ورد- عند من يعول عليه من أهل اللغة- كل منهما ثلاثيا ومزيدا ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كما أو كيفا، وفي الصحاح مد الله في عمره ومده في غيه أمهله وطول له، وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن مد الله تعالى في طغيانهم التمكين من العصيان. وعن ابن عباس الإملاء ونسبة المد إلى الله تعالى- بأي معنى كان عند أهل الحق- حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد للأشياء المنفرد باختراعها على حسب ما اقتضته الحكمة ورفعت له أكفها الاستعدادات، ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف: ٢٠٢] نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: ١١] مع قوله جل وعلا اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: ٤٢] وذهبت المعتزلة أن الزيادة في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة وحملوا الآية على محامل أخر، وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم- فلنطوه هنا على ما فيه «والطغيان» بضم الطاء على المشهور، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بكسرها وهما لغتان فيه، وقد سمعا في مصدر اللقاء، وقد أماله الكسائي، وأصله تجاوز المكان الذي وقفت فيه ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فقد طغى، ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه، وإضافته إليهم لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد فإنه اعتبار عليه غبار بل غبار ليس له اعتبار فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته، ويحتمل أن يكون الاختصاص للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادعاء اختصاصهم به وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة «والعمه» التردد والتحير، ويستعمل في الرأي خاصة- والعمى فيه وفيه البصر- فبينهما عموم وخصوص مطلق في الاستعمال وإن تغايرا في أصل الوضع، واختص العمى بالبصر على ما قيل، وأصله الأصيل عدم الإمارات في الطريق التي تنصب- لتدل من حجارة- وتراب ونحوهما وهي المنار ويقال عمه يعمه- كتعب يتعب- عمها وعمهانا فهو عمه وعامه وعمهاء (١) فمعنى يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون، وإلى ذلك ذهب جمع من المفسرين، وقيل: العمه العمى عن الرشد، وقال ابن قتيبة: هو أن يكب رأسه فلا يبصر ما يأتي، فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون رؤوسهم فلا يبصرون وكأن هذا أقرب إلى الصواب لأن المنافقين لم يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه معتقدين أنه الحق وما سواه باطل إلا أن يقال التردد والتحير في أمر آخر لا في الكفر، وجملة يَعْمَهُونَ في موضع نصب على الحال إما من الضمير في- يمدهم- وإما من الضمير في- طغيانهم- لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل، وفي- طغيانهم- يحتمل أن يكون متعلقا- بيمدهم- وأن يكون متعلقا- بيعمهون- وجاز على خلاف (٢) كون في طُغْيانِهِمْ ويَعْمَهُونَ
(١) قوله وعمها. كذا بخط المؤلف اهـ.
(٢) المخالف أبو البقاء قال: العامل لا يعمل في حالين اهـ منه. [.....]
162
حالين من الضمير في يمدهم أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى إشارة إلى المنافقين الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الصلاح وهم المفسدون، ونسبة السفه للمؤمنين- وهم السفهاء- والاستهزاء- وهم المستهزأ بهم- ولبعد منزلتهم في الشر وسوء الحال أشار إليهم بما يدل على البعد، والكلام هنا يمكن أن يكون واقعا موقع أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ٥] فإن السامع بعد سماع ذكرهم وإجراء تلك الأوصاف عليهم كأنه يسأل من أين دخل على هؤلاء هذه الهيئات؟ فيجاب بأن أولئك المستبعدين إنما جسروا عليها لأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى حتى خسرت صفقتهم وفقدوا الاهتداء للطريق المستقيم ووقعوا في تيه الحيرة والضلال، وقيل: هو فذلكة وإجمال لجميع ما تقدم من حقيقة حالهم أو تعليل لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ والمد في الطغيان أو مقرر لقوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وفيه حصر المسند على المسند إليه لكون تعريف الموصول للجنس بمنزلة تعريف اللام الجنسي وهو ادعائي باعتبار كمالهم في ذلك الاشتراء، وإن كان الكفار الآخرون مشاركين لهم في ذلك لجمعهم هاتيك المساوئ الشنيعة والخلال الفظيعة، فبذلك الاعتبار صح تخصيصهم بذلك، والضلالة الجور عن القصد، والهدى التوجه إليه، ويطلقان على العدول عن الصواب في الدين والاستقامة عليه، والاشتراء كالشراء استبدال السلعة بالثمن- أي أخذها به- وبعضهم يجعله من الأضداد لأن المتبايعين تبايعا الثمن والمثمن فكل من العوضين مشترى من جانب مبيع من جانب، ويطلق مجازا على أخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما أو معنى، وهذا يستدعي بظاهره أن يكون ما يجري مجرى الثمن- وهو الهدى- حاصلا لهؤلاء قبل، ولا ريب أنهم بمعزل عنه فإما أن يقال: إن الاشتراء مجاز عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار له فكأنه تعالى قال: اختاروا الضلالة على الهدى ولكون الاستبدال ملحوظا جيء بالباء على أنه قيل: إن التوافق معنى لا يقتضي التوافق متعلقا، ولا يرد على هذا الحمل كونه مخلا بالترشيح الآتي كما زعمه مولانا مفتي الديار الرومية لأن الترشيح المذكور يكفي له وجود لفظ الاشتراء وإن كان المعنى المقصود غير مرشح- كما هو العادة في أمثاله- أو يقال ليس المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب وبأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى، ولا مرية في أن ذلك كان حاصلا لأولئك المنافقين بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة والإرشاد العظيم والنصح والتعليم لكنهم نبذوا ذلك فوقعوا في مهاوي المهالك، أو يقال: المراد بالهدى الهدى الجبلي وقد كان حاصلا لهم حقيقة- فإن كل مولود يولد على الفطرة- وقول مولانا مفتي الديار الرومية: إن حمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات النقلية والعقلية على أن ذلك يفضي إلى كون- ما فصل من أول السورة إلى هنا ضائعا- كلام ناشىء عن الغفلة عن معنى الإشارة فإنها تقتضي ملاحظتهم بجميع ما مر من الصفات، والمعنى أن الموصوفين بالنفاق المذكور، هم الذين ضيعوا الفطرة أشد تضييع بتهويد الآباء ثم بعد ما ظفروا بها أضاعوها بالنفاق مع تحريضهم على المحافظة والنصح شفاها ونحو ذلك مما لا يوجد في غيرهم كما يشير إليه التعريف، أو يقال: هذه ترجمة عن جناية أخرى من جناياتهم، والمراد بالهدى ما كانوا عليه من التصديق ببعثته صلى الله تعالى عليه وسلم وحقية دينه بما وجدوه عندهم في التوراة ولهذا كانوا يستفتحون به ويدعون بحرمته ويهددون الكفار بخروجه فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: ٨٩] وأما حمل الهدى على ما كان عندهم ظاهرا من التلفظ بالشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والغزو فمما لا يرتضيه من هدى إلى سواء السبيل، وما ذكرناه من أن أُولئِكَ إشارة إلى المنافقين- هو الذي ذهب إليه أكثر المفسرين- والمروي عن مجاهد، وهو الذي يقتضيه النظم الكريم- وبه أقول-
163
وروي عن قتادة أنهم أهل الكتاب مطلقا، وعن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم الكفار مطلقا، والكل عندي بعيد، ولعل مراد من قال ذلك أن الآية بظاهر مفهومها تصدق على من أرادوا لا أن
الآية نزلت فيهم، وقرأ يحيى ابن يعمر وابن إسحاق اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بالكسر لأنه الأصل في التقاء الساكنين، وأبو السماك اشْتَرَوُا بالفتح اتباعا لما قبل، وأمال حمزة والكسائي «الهدى» وهي لغة بني تميم وعدم الإمالة لغة قريش.
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على الصلة، وأتى بالفاء للإشارة إلى تعقب نفي الربح للشراء وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح، وزعم بعضهم أن الفاء دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء لمكان الموصول- فهو على حد الذي يدخل الدار فله درهم- وليس بشيء لأن الموصول هنا ليس بمبتدأ كما في المثال بل هو خبر عن أُولئِكَ وما بعد الفاء ليس بخبر بل هو معطوف على الصلة فهو صلة ولا يجوز أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ مبتدأ وفَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ خبر عن الثاني وهو وخبره خبر عن الأول لعدم الرابط في الجملة الثانية ولتحقق معنى الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها ولا أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ بدلا منه والجملة خبرا لأن الفاء إنما تدخل الخبر لعموم الموصول والمبدل من المخصوص مخصوص فالحق ما ذكرناه، ومعنى الآية عليه ليس غير كما في البحر. والتِّجارَةِ التصرف في رأس المال طلبا للربح ولا يكاد يوجد- تاء- أصلية بعدها جيم إلا نتج وتجر ورتج وارتج، وأما تجاه ونحوه فأصلها الواو، و «الربح» تحصيل الزيادة على رأس المال، وشاع في الفضل عليه، و «المهتدي» اسم فاعل من اهتدى مطاوع هدى ولا يكون افتعل المطاوع إلا من المتعدي، وأما قوله:
حتى إذا اشتال سهيل في السحر كشعلة القابس ترمي بالشرر
فافتعل فيه بمعنى فعل تقول: شال يشول واشتال يشتال بمعنى، وفي الآية ترشيح لما سمعت من المجاز فيما قبلها، والمقصد الأصلي تصوير خسارهم بفوت الفوائد المترتبة على الهدى التي هي كالربح وإضاعة الهدى الذي هو- كرأس المال- بصورة خسارة التاجر الفائت للربح المضيع لرأس المال حتى كأنه هو على سبيل الاستعارة التمثيلية مبالغة في تخسيرهم ووقوعهم في أشنع الخسار الذي يتحاشى عنه أولو الأبصار، وإسناد الربح إلى التجارة- وهو لأربابها- مجاز للملابسة، وكني في مقام الذمّ بنفي الربح عن الخسران لأن فوت الربح يستلزمه في الجملة ولا أقل من قدر ما يصرف من القوة، وفائدة الكناية التصريح بانتفاء مقصد التجارة مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل خسرت تجارتهم فلا يتوهم أن نفي أحد الضدين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة وهي موجودة هنا فإن التاجر قد لا يربح ولا يخسر، وقيل: إن ذلك إنما يكون إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقية أما إذا كان لا يقبل إلا اثنين منها فنفي أحدهما يكون إثباتا للآخر، والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما على أنه قد قامت القرينة هنا على الخسران لقوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وقد جعله غير واحد كناية عن إضاعة رأس المال فإن من لم يهتد بطرق التجارة تكثر الآفات على أمواله، واختير طريق الكناية نكاية لهم بتجهيلهم وتسفيههم، ويحتمل على بعد أن يكون النفي هنا من باب قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره، أي لا منار فيهتدى به فكأنه قال لا تجارة ولا ربح.
والظاهر أن وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على ما ربحت للقرب مع التناسب والتفرع باعتبار المعنى الكنائي، وبتقدير المتعلق لطرق الهداية يندفع توهم أن عدم الاهتداء قد فهم مما قبل فيكون تكرارا لما مضى وهو إما من باب التكميل والاحتراس كقوله:
164
أو من باب التتميم كقوله:
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الغمام وديمة تهمي
كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وقال الشريف قدس سره: إن العطف على اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أولى لأن عطفه على فَما رَبِحَتْ يوجب ترتبه على ما قبله بالفاء فيلزم تأخره عنه، والأمر بالعكس إلا أن يقال ترتيبه باعتبار الحكم والأخبار، وفيه أنه لو كان معطوفا على اشْتَرَوُا كان الظاهر تقديمه لما في التأخير من الإيهام، وحينئذ يكون الأحسن ترك العطف احتياطا كما ذكر في نحو قوله:
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
على أن بين معنى اشْتَرَوُا إلخ ومعنى وَما كانُوا إلخ تقاربا يمنع حسن العطف كما لا يخفى على من لم يضع فطرته السليمة، وجوّز أن تكون الجملة حالا، ولا يخفى سوء حاله على من حسن تمييزه. وقرأ ابن أبي عبلة- تجاراتهم- على الجمع ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه الإفراد في قراءة الجمهور فهم المعنى مع الإشارة أن تجاراتهم وإن تعددت فهي من سوق واحدة وهم شركاء فيها مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً جملة مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على ما قبلها، ولما كان ذلك جاريا على ما فيه من استعارات وتجوزات مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل تتميما للبيان، فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللثام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد، وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها، وهناك تنجلي غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: ٢١] وقيل: الأشبه أن تجعل موضحة لقوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ ولا بعد فيه، والحمل على الاستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان.
والمثل- بفتحتين- كالمثل- بكسر فسكون- والمثيل في الأصل النظير والشبيه، والتفرقة لا أرتضيها، وكأنه مأخوذ من المثول- وهو الانتصاب- ومنه
الحديث «من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار»
ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه بلا شبيه، أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة نافعة، أو كناية بديعة، أو نظم من جوامع الكلم الموجز، ولا يشترط فيه أن يكون استعارة مركبة خلافا لمن وهم، بل لا يشترط أن يكون مجازا، وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها التصانيف وفيها الكثير مستعملا في معناه الحقيقي ولكونه فريدا في بابه، وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال القرآن لأن الله تعالى ابتدأها وليس لها مورد من قبل، اللهم إلا أن يقال: إن هذا اصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة. ومن ذلك وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: ٦٠] ومَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: ٣٥] وهو المراد هنا في المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف. والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا إلخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء الله تعالى، فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ، وزعم ابن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى:
أينتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا مذهب ابن الحسن، وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول بالزيادة كما في قوله: فصيروا مثل كَعَصْفٍ
165
مَأْكُولٍ
[الفيل: ٥] زيادة في الجهل، والذي وضع موضع- الذين- إن كان ضمير بِنُورِهِمْ راجعا إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع، وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية اقتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه، ولأنه مع صلته كشيء واحد، وعلامة الجمع لا تقع حشوا فلذا لم يلحقوها به ووضعوه لما يعم- كمن، وما، والذين- ليس جمعا له بل هو اسم وضع مزيدا فيه لزيادة المعنى، وقصد التصريح بها ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح، ولأن استطال بالصلة فاستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن اقتصر على اللام في نحو اسم الفاعل، قاله القاضي وغيره، ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه الأخير، وما روي عن بعض النحاة من جواز حذف نون- الذين- ليس بالمرضي عند المحققين، ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه كما في قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: ٦٩] على وجه، وقول الشاعر:
يا رب عيسى لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف كالملفوظ، فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في- الذي- من معنى الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به- مستوقد- مخصوص ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه ما يجري فيه. واسم الجنس وإن كان لفظه مفردا قد يعامل معاملة الجمع ك:
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ [الإنسان: ٢١] وقولهم: الدينار الصفر، والدرهم البيض، أو يقال: إنه مقدر له موصوف مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فيحسن النظام، ويلاحظ في ضمير- استوقد- لفظ الموصوف، وفي ضمير بِنُورِهِمْ معناه، «واستوقدوا» بمعنى أوقدوا، فقد حكى أبو زيد أوقد واستوقد بمعنى- كأجاب واستجاب- وبه قال الأخفش- جعل الاستيقاد بمعنى طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي- محوج إلى حذف، والمعنى حينئذ طلبوا نارا واستدعوها فأوقدوها فَلَمَّا أَضاءَتْ لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الإيقاد والنار جوهر لطيف مضيء محرق، واشتقاقها من نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها- على ما تشاهد- حركة واضطرابا لطلب المركز، وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس، نعم أورد على التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة- لما ثبت في الكتب الحكمية- أن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون لها وكذا يقال في الإحراق، والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان الأشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها، وأما اعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها وذلك خارج عن وسع أكثر الناس، والناس يدركون من النار التي عندهم الإضاءة والإحراق ويجعلونهما أخص أوصافها، والتعريف للمتعارف وعدم الإحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ، واحتراق الشهب شهاب على من ينكر الإحراق، وأغرب من هذا نفي النار التي عند الأثير وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء الحار جدا، وقرأ ابن السميقع- كمثل الذين- على الجمع وهي قراءة مشكلة جدا، وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن- الذي- لها لفظا ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله:
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع
أو أنه اكتفى بالإفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه فهو كقوله:
166
أي كراكرهم، أو أن الفاعل في استوقد عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ [يوسف: ٣٥] على وجه، والعائد حينئذ محذوف على خلاف القياس- أي لهم- أولا عائد في الجملة الأولى اكتفاء بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء، وفي القلب من كل شيء فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «لما» حرف وجود لوجود، أو وجوب لوجوب كما نص عليه سيبويه، أو ظرف بمعنى حين. أو إذ، والإضاءة جعل الشيء مضيئا نيّرا، أو الإشراق وفرط الإنارة. وأضاء يكون متعديا ولازما، فعلى الأول ما موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي المفعول والفاعل ضمير النار وعلى الثاني فما كذلك وهي الفاعل وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية، ولا يجب التصريح بفي حينئذ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفا فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد- وهي الجهات الست- وهي مما ينصب على الظرفية قياسا مطردا فكذا ما عبر به عنها، وأولى الوجوه أن تكون أَضاءَتْ متعدية وما موصولة إذ لا حاجة حينئذ إلى الحمل على المعنى، ولا ارتكاب ما قل استعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا، ولم يحفظ من كلام العرب جلست- ما- مجلسا حسنا ولا قمت- ما- يوم الجمعة. ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه البيضاوي؟! وإذا جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضوءها فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل، وهو مبني على أن الظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا من كون الإشراق والمشرق فيه، وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل قاصر- كقام زيد في الدار- فإن زيدا والقيام فيها ذاتا وتبعا- وإلى ذلك مال الزمخشري- ومن الناس من اكتفى بوجود الأثر فيه وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول، وحول ظرف مكان ملازم للظرفية والإضافة- ويثنى ويجمع- فيقال حوليه وأحواله وحوال مثله فيثنى على حوالي، ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من الكتب اللغوية ولا تقل حواليه- بكسر اللام- كما في الصحاح. ولعل التثنية والجمع- مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة- ليسا حقيقين، وقيل:
باعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم افندي في ترجمة القاموس بالرومية وفيه تأمل، وأصل هذا التركيب موضوع للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى مثله، ولما لزمه الانتقال والتغير استعمل فيه باعتباره كالاستحالة والحوالة وإن خفي في نحو- الحول- بمعنى القوة، وقيل: أصله تغير الشيء وانفصاله وذَهَبَ إلخ جواب فَلَمَّا والسببية ادعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا مهلة جعل كأنه سبب له على أن يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو- إن كان لي مال حججت- والإذهاب متوقف على الإضاءة، والضمير في بِنُورِهِمْ للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم. واختار النور على النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقا ولحاقا، وقيل الجملة مستأنفة جوابا عما حالهم شبهت حالهم بذلك، أو بدل من جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب «لما» محذوف أي خمدت نارهم فبقوا متحيرين، ومثله فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ [يوسف: ١٥] وحذفه للإيجاز وأمن الإلباس ولا يخفى ما فيه على من له أدنى إنصاف وإن ارتضاه الجم الغفير، ويحل عن مثل هذا الألغاز كلام الله تعالى اللطيف الخبير. وإسناد الفعل إليه تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في الأمور كلها بواسطة وبغير واسطة، ولا يعترض على الحكيم بشيء، وحمل النار على نار لا يرضي الله تعالى إيقادها إما مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقية أوقدها الغواة للفساد أو الإفساد، فحينئذ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم يدع إليه إلا اعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال، وعدي بالباء دون الهمزة لما في المثل السائر أن
167
ذهب بالشيء يفهم منه أنه استصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن اشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين، أعني الإزالة والمصاحبة والإلصاق. ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى القوي العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه، وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته، ولعله يقول: إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجيء في ظاهر قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: ٢٢] والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن (١) الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما. والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه استعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل:
ويظهر في البلاد ضياء نور
وقال العباس رضي الله تعالى عنه:
وبالبدو منا أسرة يحفظونها سراع إلى الداعي عظام كراكره
وأنت لما ظهرت أشرقت الأر ض وضاءت بنورك الأفق
ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء، وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع، وهذا الذي ذكرنا هو الذي ارتضاه المحققون من أهل اللغة، ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: ١٥] والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: ٤٨] وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم
وكذا وجه وصف الصلاة- الناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم- بالنور والصبر بالضياء، ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل (٢) واعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات فتدبر، وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: ٥] وعلى هذا يكون التعبير بيذهب الله بنورهم دون ذهب الله بضوئهم دفعا لاحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا مع أن الغرض إزالة النور رأسا، وذكر بعضهم أن كلا من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الاصطلاح لا من أصل الوضع واللغة، ومن هنا قال الحكماء: إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته، والنور ما يكون من غيره، واستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس، أو مجازا كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة، ومنه
«الصبر ضياء»
ومعلوم أنه كاسمه: والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الشريعة السهلة السمحة البيضاء، ومنه
«الصلاة نور»
ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير
«وجعلت قرة عيني في الصلاة» «وأرحنا يا بلال»
واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما
ورد «كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره»
وقول الشاعر:
(١) قوله: إلى أن الباء هكذا بخط المؤلف اهـ مصححه.
(٢) قوله: كذا قيل إلى قوله: فتدبر هذا ليس موجودا في خط المؤلف بل في المبيضة فقط التي ليست بخطه اهـ مصححه.
168
بتنا وعمر الليل في غلوائه وله بنور البدر فرع أشمط
والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني أدنى ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في اختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة اعتبرها ومناسبة لاحظها، وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع- فالله نور السماوات والأرض ولله المثل الأعلى- وشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن انسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من انسياقها من النور إليه فقد انتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون، والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون- أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضيء- مما بين بطلانه في الكتب الحكمية وإن قال بكل بعض من الحكماء، ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما انقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه نورا في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ [المائدة: ١٥] فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمه سبحانه ضوءا لتتأتى هذه الإشارة- لو قال هنا ذهب الله بضوئهم- بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الأتم والرداء المعلم. هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم. وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة- فلما ضاءت- ثلاثيا وتخريجها يعلم مما تقدم وقرأ اليماني- أذهب الله نورهم- وفيها تأييد لمذهب سيبويه.
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ عطف على قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها، وإيراد لا يُبْصِرُونَ وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه، وليس المعنى عليه- والترك- في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوسا كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصدا واختيارا أو قهرا واضطرارا. ويفهم من المصباح أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف- والكل هنا محتمل- فعلى الأولى «هم» مفعوله الأول، وفي ظلمات مفعوله الثاني، ولا يُبْصِرُونَ صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر، أو من «هم» ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالا، ولا يُبْصِرُونَ مفعولا ثانيا لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا وإن جوزه بعضهم وعلى الثاني «هم» مفعوله، وفِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان، فالأول من المفعول. والثاني من الضمير فيه أو فِي ظُلُماتٍ متعلق ب تَرَكَهُمْ ولا يُبْصِرُونَ حال. والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئا، فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة، واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الإنعام: ١] والمجعول لا يكون إلا موجودا، وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا البتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة، وعن الثاني بالمنع أيضا فإنّ الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف، وقيل: كيفية مانعة من الأبصار فالتقابل تقابل التضاد، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها فيندفع الاعتراض عنه، وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل، وقيل: التقابل بين النور والظلمة
169
تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة، وإن كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة- كما قيل رب واحد يعدل ألفا- أو لأنه لما كان لكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الاعتبار كذا قالوا «ومن اللطائف» أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفردا، ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر، وأيضا كثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا الاكتفاء بكثير من هذا، وأيضا معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: ١٤] ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين. وهي كقلب رجل واحد، وأيضا النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: ٣٥] وفي الظلمة لا يرى مثل هذا، وأيضا الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم- ما ظلمك أن تفعل كذا- أي ما منعك، وفي مثلثات ابن السيد- الظلم بفتح الظاء- شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم- أي أول شخص يسد بصري- وزرته والليل ظلم- أي مانع من الزيارة- فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية، فباعتبار تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في أصل معنى النور فلم يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اختصارا للفظ واكتفاء بما دل عليه المعنى، والظرفية مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء، ولا يُبْصِرُونَ منزل منزلة اللازم- لطرح المفعول- نسيا منسيا، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم، وقرأ الجمهور فِي ظُلُماتٍ بضم اللام، والحسن وأبو السماك بسكونها وقوم
بفتحها، والكل جمع ظلمة.
وزعم قوم أن ظُلُماتٍ بالفتح جمع ظلم- جمع ظلمة- فهي جمع الجمع، والعدول إلى الفتح تخفيفا مع سماعه في أمثاله أسهل من ادعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه، وقرأ اليماني في ظلمة، وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر- والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلك- مما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم، وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للانتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع الله تعالى بها على قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات، والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- كما أخرجه ابن جرير عنه- أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لاجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للانتفاع والاستبصار ولذهاب أثره وانطماس نوره باهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها، ويشتمل التشبيه وجوها أخر «ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم» أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال، أو مثل من استوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة المعنى فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر ولا يجد مناصا من الفضيحة يوم تبلى السرائر، وقال أبو الحسن الوراق: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها، نسأل الله تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور
170
بعد الكور صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ الأوصاف جموع كثرة على وزن فعل وهو قياس في جمع فعلاء، وأفعل الوصفين سواء تقابلا- كأحمر وحمراء- أم انفردا لمانع في الخلقة- كغرل ورتق- فإن كان الوصف مشتركا ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء- كرجل أليّ، وامرأة عجزاء- فالوزن فيه سماعي، والصمم داء في الأذن يمنع السمع، وقال الأطباء: هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمي عندهم طرشا، وأصله من الصلابة أو السد، ومنه بقولهم قناة صماء وصممت القارورة والبكم الخرس وزنا ومعنى- وهو داء في اللسان يمنع من الكلام- وقيل: الأبكم هو الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم شيئا ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا، وقيل: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، ويطلق على عدم البصيرة مجازا عند بعض وحقيقة عند آخرين، وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق- وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس- وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله:
أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
وأصمّ عما كان بينهما أذني وما في سمعها وقر
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما، وذكرهما قصدا حكما أو حقيقة مانع عن الاستعارة عندهم، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين، وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى، غير أنهم ذكروا هنا بحثا وهو أنه لا نزاع أن التقدير هم صُمٌّ إلخ لكن ليس المستعار له حينئذ مذكورا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم، فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ، وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة، أو يقال- ولعله أولى- إن- هم- المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلا فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صُمٌّ على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر، والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله صُمٌّ إلخ فقد انكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جدا، والآية فذلكة ما تقدم ونتيجة إذ قد علم من قوله سبحانه لا يَشْعُرُونَ ولا يُبْصِرُونَ أنهم صُمٌّ عُمْيٌ ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم- كالبكم- ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يَرْجِعُونَ وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيا يستلزم البكم وأخر- العمى- لأنه كما قيل: شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط- حل بين العصا ولحائها ولو قدم- ولأهم تعلقه ب لا يُبْصِرُونَ أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر. ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: ١٤٢] وأخرى بدونها كما في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: ١٩٦] لأن استلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي الاقتران بالفاء وهو الشائع المعروف، وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذ إلى
171
التجوز ويكفي فيه الفرض وإن امتنع عادة كما في قوله:
أعلام ياقوت نشر... ن على رماح من زبرجد
فيفرض هنا حصول الصمم، والبكم، والعمى لمن وقع في هاتيك الظلمة الشديدة المطبقة، وقيل لا يبعد فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت فضلا عن ذلك، ويؤيد كونها تتمته قراءة ابن مسعود حفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم- «صما وبكما وعميا» - بالنصب فإن الأوصاف حينئذ تحتمل أن تكون مفعولا ثانيا لترك وفي ظلمات متعلقا به أو في موضع الحال، ولا يُبْصِرُونَ حالا أو منصوبة على الحال من مفعول تركهم متعديا لاثنين أو لواحد أو منصوبة بفعل محذوف أعني أعني، والقول بأنها منصوبة على الحال من ضمير لا يُبْصِرُونَ جهل بالحال، وقريب منه في الذم من نصب على الذم إذ ذاك إنما يحسن حيث يذكر الاسم السابق، وأما جعل هذه الجملة على القراءة المشهورة دعائية وفيها إشارة إلى ما يقع في الآخرة من قوله تعالى:
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: ٩٧] فنسأل الله تعالى العفو والعافية من ارتكاب مثله ونعوذ به من عمى قائله وجهله، ومثله- بل أدهى وأمر- القول بأن جملة لا يَرْجِعُونَ كذلك ومتعلق- لا يرجعون- محذوف أي لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وقد لا يقدر شيء ويترك على الإطلاق.
والوجهان الأولان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ والأخير على تقدير أن يكون من ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إلخ بأن يراد به أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة، فالمراد هنا أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤوا منه، والأعمى لا ينظر طريقا وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتا من صوب مرجعه فيهتدي به؟ والفاء للدلالة على أن اتصافهم بما تقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم كيف ما كانوا.
«ومن البطون» - صم «آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق إلهام القربة- بكم- عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب عجبا- عمي- عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه: وقال سيدي الجنيد قدس سره: صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة ما عرفوا وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ شروع في تمثيل لحالهم إثر تمثيل وبيان لكل دقيق منها وجليل فهم أئمة الكفر الذين تفننوا فيه وتفيؤوا ظلال الضلال بعد أن طاروا إليه بقدامى النفاق وخوافيه فحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال وتمد أطناب الاطناب في شرح أفعالهم ليكون أفعى لهم ونكالا بعد نكال وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا بد أن يوفى فيه حق كل من مقال الأطناب والإيجاز فماذا عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز. ولقد نعى سبحانه عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم العديمة المثيل وهو معطوف على الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ويكون النظم كمثل ذوي صيب (١) فيظهر مرجع ضمير الجمع فيما بعد وتحصل الملاءمة للمعطوف عليه والمشبه. وأو عند ذوي التحقيق لأحد الأمرين ويتولد منه في الخبر الشك والإبهام
(١) ذكر مولانا الساليكوتي أن ذوي مقدر والكاف من كصيب زائدة لدخول مثل الأول عليها حكما ولا تقدير، ونقل عن الرضى أن من مواقع زيادة الكاف دخول لفظ مثل عليه وزيادة حرف أهون من تقدير اسم لا سيما إذا رجحه قرب المعطوف عليه فتأمل وتدبر اهـ منه.
172
والتفصيل على حسب اعتبارات المتكلم، وفي الإنشاء الإباحة والتخيير كذلك، وحينئذ لا يلزم الاشتراك ولا الحقيقة والمجاز. وبعضهم يقول: إنها باعتبار الأصل موضوعة للتساوي في الشك وحمل على أنه فرد من أفراد المعنى الحقيقي ثم اتسع فيها فجاءت للتساوي من غير شك كما- فيما نحن فيه- على رأي إذا المعنى مثل بأي القصتين شئت فهما سواء في التمثيل ولا بأس لو مثلت بهما جميعا وإن كان التشبيه الثاني أبلغ لدلالته على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذا أخر ليتدرج من الأهون إلى الأهول، وزعم بعضهم أن «أو» هنا بمعنى الواو وما في الآيتين تمثيل واحد، وقيل: بمعنى بل، وقيل: للإبهام، والكل ليس بشيء، نعم اختار أبو حيان أنها للتفصيل وكأن من نظر إلى حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب مدعيا أن الإباحة- وكذا التخيير- لا يكونان إلا في الأمر أو ما في معناه انتهى. ولا يخفى على من نظر في معناه وحقق ما معناه أن ما نحن فيه داخل في الشق الثاني على أن دعوى الاختصاص مما لم يجمع عليه الخواص، فقد ذكر ابن مالك أن أكثر ورود أو للإباحة في التشبيه نحو فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: ٧٤] والتقدير نحو فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم: ٩]- والصيب- في المشهور المطر من صاب يصوب إذا نزل وهو المروي هنا عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. ويطلق على السحاب أيضا كما في قوله:
حتى عفاها صيب ودقه... داني النواحي مسبل هاطل
ووزنه فيعل- بكسر العين- عند البصريين وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل- بكسر القاف- علم لامرأة، والبغداديون يفتحون العين، وهو قول تسد الأذن عنه، وقريب منه قول الكوفيين إن أصله فعيل كطويل فقلب، وهل اسم جنس أو صفة، بمعنى نازل أو منزل؟ قولان أشهرهما الأول، وأكثر نظائره في الوزن من الثاني، وقرىء- أو كصائب- وصيب أبلغ منه، والتنكير فيه للتنويع والتعظيم، والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه والمعروفة عند خواص أهل الأرض والمرئية عند عوامهم، وأصلها الواو من السمو وهي مؤنثة (١) وقد تذكر كما في قوله:
فلو رفع السماء إليه قوما... لحقنا بالسماء مع السحاب
وتلحقها هاء التأنيث فتصح الواو حينئذ كما قاله أبو حيان لأنها بنيت عليها الكلمة فيقال سماوة وتجمع على سماوات وأسمية وسمائي، والكل- كما في البحر- شاذ لأنها اسم جنس وقياسه أن لا يجمع، وجمعه بالألف والتاء خال عن شرط ما يجمع بهما قياسا، وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال.
والمراد بالسماء هنا الأفق والتعريف للاستغراق لا للعهد الذهني كما ينساق لبعض الأذهان فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها فيشعر بقوة المصيبة مع ما فيه من تمهيد الظلمة ولهذا القصد ذكرها، وعندي أن الذكر يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: ١٩] وكثيرا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك والعيان والوجدان أقوى شاهد على ما قلنا. ومِنَ لابتداء الغاية، وقيل: يحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف أي من أمطار السماء وليس بشيء، وزعم بعضهم أن الآية تبطل ما قيل: إن المطر من أبخرة متصاعدة من السفل- وهو من أبخرة الجهل- إذ ليس في الآية سوى أن المطر من هذه
(١) والتأنيث لأهل الحجاز والتذكير للتميميين وأهل نجد، وكذا شأنهم في الجنس الذي ميز واحده بتاء تؤنثه اهـ منه.
173
الجهة وهو غير مناف لما ذكر، كيف والمشاهدة تقضي به فقد حدثني من بلغ مبلغ التواتر أنهم شاهدوا- وهم فوق الجبال الشامخة- سحابا يمطر أسفلهم وشاهدوا تارات أبخرة تتصاعد من نحو الجبال فتنعقد سحابا فيمطر، فإياك أن تلتفت لبرق كلام خلب ولا تظن أن ذلك علم فالجهل منه أصوب، ثم حمل- الصيب- هنا على السحاب وإن كان محتملا غير أنه بعيد بعد الغمام وكذا حمل السماء عليه فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أي معه ذلك كما في قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ [الأعراف: ٣٨] وإذا حملت «في» على الظرفية- كما هو الشائع في كلام المفسرين- احتيج إلى حمل الملابسة التي تقتضيها الظرفية على مطلق الملابسة الشاملة للسببية والمجاورة وغيرهما ففيه بذلك المعنى ظلمات ثلاث. ظلمة تكاثفه بتتابعه. وظلمة غمامه مع ظلمة الليل التي يستشعرها الذوق من قوله تعالى:
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وكذا فيه رعد وبرق لأنهما في منشئه ومحل ينصب منه، وقيل: فيه- وهو كما قال الشهاب- وهم نشأ من عدم التدبر، وإن كان المراد- بالصيب- السحاب فأمر الظرفية أظهر، والظلمات حينئذ ظلمة السحمة والتطبيق مع ظلمة الليل، وجمع الظلمات على التقديرين مضيء، ولم يجمع الرعد والبرق وإن كانا قد جمعا في لسان العرب، وبه تزداد المبالغة وتحصل المطابقة مع الظلمات والصواعق لأنهما مصدران في الأصل، وإن أريد بهما العينان هنا كما هو الظاهر، والأصل في المصدر أن لا يجمع على أنه لو جمعا لدل ظاهرا على تعدد الأنواع كما في المعطوف عليه، وكل من الرعد والبرق نوع واحد. وذكر الشهاب مدعيا أنه مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر نكتة سرية في إفرادهما هنا وهي أن الرعد- كما ورد في الحديث وجرت به العادة- يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد لم يكن السحاب مطبقا فتزول شدة ظلمته وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يشير إليه قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ فافرادهما متعين هنا. وعندي- وهو من أنوار العناية المشرقة على آفاق الأسرار- أن النور لما لم يجمع في آية من القرآن- لما تقدم- لم يجمع البرق إذ ليس هو بالبعيد عنه كما يرشدك إليه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ والرعد مصاحب له فانعكست أشعته عليه.
أوما ترى الجلد الحقير مقبلا بالثغر لما صار جار المصحف
وارتفاع ظلمات إما على الفاعلية للظرف المعتمد على الموصوف أو على الابتدائية والظرف خبره- وجعل الظرف حالا من النكرة المخصصة وظلمات فاعله- لا يخلو عن ظلمة البعد كما لا يخفى. وللناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول صوت زجر الملك الموكل بالسحاب، والثاني لمعان مخاريقه التي هي من نار، والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحار والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد، وقد تشتعل منه- لشدة حركته ومحاكته- نار لامعة وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت، وربما كان البرق سببا للرعد فإن الدخان المشتعل ينطفىء في السحاب فيسمع لانطفائه صوت كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال لأن الإبصار لا يحتاج إلا إلى المحاذاة من غير حجاب، والرعد يسمع بعد لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة وذلك يستدعي زمانا كذا قالوه، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسرى به ليلا- بلا رعد ولا برق- على ظهر البراق وعرج إلى ذي المعارج حيث لا زمان ولا مكان فرجع وهو أعلم خلق الله على الإطلاق صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا بحول من عز حوله وتوفيق من غمرني فضله أوفق لك بما يزيل الغين عن العين
174
ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد الكونين صلى الله تعالى عليه وسلم.
فأقول: قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة- مما شاهدوه في أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضتهم وكذا عند سائر المتألهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس وغيرهم- أن لكل نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها ربا هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لامتناع صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لا شعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها، فجميع هذه الأفعال من الأرباب إلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى صلى الله تعالى عليه وسلم
بقوله: «وإن لكل شيء ملكا» حتى قال: «إن كل قطرة من القطرات ينزل معها ملك» وقال: «أتاني ملك الجبال وملك البحار»
وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات البدنية وشاهدها، وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره في تفسيره الفاتحة أنه ما ثم صورة إلا ولها روح، وأطال أهل الله تعالى الكلام في ذلك، فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال: أراد صلى الله تعالى عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب- في بيان الرعد- هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب استعداده وقابليته، وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير، وأراد بالمخاريق- في بيان البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان بعضهم بعضا- الآلة التي يحصل بواسطتها الشق، ولا شك أنها كما قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكّة فظهرت كما ترى، وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير ما ورد من هذا القبيل حتى قولهم: إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه، وإن كان بحسب الظاهر مما يضحك منه، ولم أر أحدا وفق فوفق وتحقق فحقق والله تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيرا ما يلتفت إليه كما في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف: ٤].
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقال: يَجْعَلُونَ إلخ، وجوزوا وجوها أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي يكاد كونها صفة صيب بتأويل نحو- لا يطيقونه- أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه، والجعل في الأصل الوضع. والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك، وحكوا عاشرة وهي أصبوع بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإبهام فبعض بني أسد يذكّرها والتأنيث أجود، وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه «أحدها» نسبة الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل «وثانيها» من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبع كانت ولا يسلكون المسلك المعهود «ثالثها» في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه أو للتجوز في الجعل؟ أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل فيه خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور. وابن مالك وجماعة على الأخير ظنا منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة، وقيل: لا مجاز هنا أصلا لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه كما يقال: دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل فإن ذلك حقيقة مع أن
175
الدخول والمجيء والمسح في بعض- البلد والليلة، والمنديل- ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على إطلاقه، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر ومِنَ تعليلية تغني غناء اللام في المفعول له وتدخل على الباعث المتقدم والغرض المتأخر وهي متعلقة ب يَجْعَلُونَ وتعلقها بالموت بعيد- أي يجعلون- من أجل الصواعق وهي جمع صاعقة ولا شذوذ، والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث أو للمبالغة إن لم تقدر- كراوية- أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية- كحقيقة- وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجري أو حديدي، وسد الآذان إنما ينفع على المعنى الأول، وقد يراد المعنى الثاني ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط دهشتهم حيث يظنون ما لا ينفع نافعا، وقرأ الحسن من الصواقع وهي لغة بني تميم كما في قوله:
ألم تر أن المجرمين أصابهم صواقع لا بل هن فوق الصواقع
وليس من باب القلب على الأصح إذ علامته كون أحد البناءين فائقا للآخر ببعض وجوه التصريف والبناءان هنا مستويان في التصرف. وحَذَرَ الْمَوْتِ نصب على العلة ل يَجْعَلُونَ
وإن كان من الصواعق في المعنى مفعولا له كان هناك نوعان منصوب ومجرور، ولزوم العطف في مثله غير مسلم خلافا لمن زعمه ولا مانع من أن يكون علة له مع علته كما أن من الصواعق علة له نفسه، وورد مجيء المفعول له معرفة وإن كان قليلا كما في قوله:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وجعله مفعولا مطلقا لمحذوف أي يحذرون- حذر الموت- بعيد. وقرأ قتادة والضحاك وابن أبي ليلى- حذار- وهو كحذر شدة الخوف. والموت في المشهور زوال الحياة عما يتصف بها بالفعل وإطلاقه على العدم السابق في قوله سبحانه: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: ٢٨] مجاز ولا يرد قوله تعالى: خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك: ٢] إذ الخلق فيه بمعنى التقدير وتعيين المقدار بوجه ما وهو مما يوصف به الموجود والمعدوم لأن العدم كالوجود له مدة ومقدار معين عنده تعالى، وقيل: المراد بخلق الموت إحداث أسبابه، وقيل: إنه العدم مطلقا وإن لم يكن مخلوقا إلا أن إعدام الملكات مخلوقة لما فيها من شائبة التحقق بمعنى أن استعداد الموضوع معتبر في مفهومها وهو أمر وجودي فيجوز أن يعتبر تعلق الخلق والإيجاد باعتبار ذلك، وصحح محققو أهل السنة أن الموت صفة وجودية خلقت ضدا للحياة، ولهذا يظهر كما
في الحديث «يوم تتجسد المعاني- كما قال أهل الله تعالى- بصورة كبش أملح»
ويصير عدما محضا إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط فإحاطته تعالى به مجاز تشبيها لحال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور أصلا بإحاطة المحيط بالمحاط بحيث لا يفوته فيكون في الإحاطة استعارة تبعية وإن شبه حاله تعالى- وله المثل الأعلى- معهم بحال المحيط مع المحاط بأن تشبه هيئة منتزعة من عدة أمور بمثلها كان هناك استعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها إلا أنه صرح بالعمدة منها وقدر الباقي فافهم. وجوز أبو علي في مُحِيطٌ أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى:
وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة: ٨١] أو عالم علم مجازاة كما في قوله تعالى: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ [الجن: ٢٨] وكل هذا من الظاهر، ولأهل الشهود كلام- من ورائه محيط- والواو اعتراضية لا عاطفة ولا حالية والجملة معترضة بين جملتين من قصة واحدة وفيها تتميم للمقصود من التمثيل بما تفيده من المبالغة لأن- الكافرين- وضع موضع الضمير وعبر به إشعارا باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم فيكون الكلام على حد قوله تعالى: ثَلُ ما
176
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
[آل عمران:
١١٧] فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدفع الحذر القدر. وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر. وجعل الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد بِالْكافِرِينَ المنافقون ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لاظهار كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه الذوق السليم يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استئناف آخر بياني كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقال يَكادُ إلخ، وفي البحر يحتمل أن يكون في موضع جر لذوي المحذوفة فيما تقدم- ويكاد- مضارع كاد من أفعال المقاربة وتدل على قرب وقوع الخبر وأنه لم يقع والأول لوجود أسبابه والثاني لمانع أو فقد شرط على ما تقضي العادة به، والمشهور أنها إن نفيت أثبتت وإن أثبتت نفت وألغزوا بذلك، ولم يرتض هذا أبو حيان وصحح أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات، واللام- في البرق للعهد إشارة إلى ما تقدم- نكرة، وقيل: إشارة إلى البرق الذي مع الصواعق أي برقها وهو كما ترى وإسناد الخطف وهو في الأصل الأخذ بسرعة أو الاستلاب إليه من باب إسناد الإحراق إلى النار وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه قريبا. والشائع في خبر- كاد- أن يكون فعلا مضارعا غير مقترن بأن المصدرية الاستقبالية أما المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب حتى كأنه لشدة قربه وقع وأما أنه غير مقترن- بأن- فلمنا فاتها لما قصدوا ونحو- وأبت إلى فهم وما كدت آئبا. وكاد الفقر أن يكون كفرا، وقد كاد- من طول البلى أن يمحصا- قليل. وقرأ مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب «يخطف» بكسر الطاء والفتح أفصح.
وعن ابن مسعود «يختطف» - وعن الحسن «يخطف» - بضم الياء وفتح الخاء وأصله يختطف فأدغم التاء في الطاء.
وعن عاصم وقتادة والحسن أيضا- «يخطّف» - بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وعن الحسن أيضا والأعمش- «يخطّف» - بكسر الثلاثة والتشديد وعن زيد- «يخطّف» - بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة وهو تكثير مبالغة لا تعدية، وكسر الطاء في الماضي لغة قريش، وهي اللغة الجيدة.
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا استئناف ثالث كأنه لما قيل إنهم مبتلون باستمرار تجدد خطف الأبصار فهم منه أنهم مشغولون بفعل ما يحتاج إلى الأبصار ساعة فساعة وإلا لغطوها كما سدوا الآذان، فسئل وقيل: ما يفعلون في حالتي وميض البرق وعدمه؟ فأجيب بأنهم حراص على المشي- كما أضاء لهم- اغتنموه- ومشوا وإذا أظلم عليهم- توقفوا مترصدين. وكُلَّما في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية وناصبها «ما» هو جواب معنى. و «ما» حرف مصدري أو اسم نكرة بمعنى وقت فالجملة بعدها صلة أو صفة وجعلت شرطا لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموما بدليا ولهذا أفادت- كما- التكرار كما صرح به الأصوليون وذهب إليه بعض النحاة واللغويين واستفادة التكرار من إِذا وغيرها من أدوات الشرط من القرائن الخارجية على الصحيح، ومن ذلك قوله:
إذا وجدت أوار الحب من كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
وزعم أبو حيان أن التكرار الذي ذكره الأصوليون وغيرهم في كُلَّما إنما جاء من عموم كل لا من وضعها وهو مخالف للمنقول والمعقول، وقد استعملت هنا في لازم معناها كناية أو مجازا وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه ولذا قال مع الإضاءة كُلَّما ومع الاظلام إِذا وقول أبي حيان: إن التكرار متى فهم من كُلَّما هنا لزم منه التكرار في «إذا» إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام ومتى وجد «ذا» فقد ذا فلزم من تكرار وجود «ذا» تكرار عدم
177
ذا غفلة عما أرادوه من هذا المعنى الكنائي والمجازي. وأضاء إما متعد كما في قوله:
أعد نظرا يا عبد قيس لعلما أضاءت لك النار الحمار المقيدا
والمفعول محذوف أي كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ ممشي مَشَوْا فِيهِ وسلكوه، وإما لازم ويقدر حينئذ مضافان- أي كلما لمع لهم- مشوا في مطرح ضوئه ولا بد من التقدير إذ ليس المشي في البرق بل في محله وموضع إشراق ضوئه وكون «في» للتعليل والمعنى مشوا الأجل الإضاءة فيه يتوقف فيه من له ذوق في العربية، ويؤيد اللزوم قراءة ابن أبي عبلة ضاء ثلاثيا، وفي مصحف ابن مسعود بدل- مشوا فيه- مضوا فيه، وللإشارة إلى ضعف قواهم لمزيد خوفهم ودهشتهم لم يأت سبحانه بما يدل على السرعة، ولما حذف مفعول أضاء وكانت النكرة أصلا أشار إلى أنهم لفرط الحيرة كانوا يخبطون خبط عشواء ويمشون كل ممشى، ومعنى أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ اختفى عنهم، والمشهور استعمال أظلم لازما، وذكر الأزهري- وناهيك به- في التهذيب أن كل واحد من أوصاف الظلم يكون لازما ومتعديا، وعلى احتمال التعدي هنا ويؤيده قراءة زيد بن قطيب والضحاك أَظْلَمَ بالبناء للمفعول مع اتفاق النحاة على أن المطرد بناء المجهول من المتعدي بنفسه يكون المفعول محذوفا أي- إذا أظلم- البرق بسبب خفائه معاينة الطريق قامُوا أي وقفوا عن المشي ويتجوز به عن الكساد ومنه قامت السوق، وفي ضده يقال: مشت الحال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ عطف على مجموع الجمل الاستئنافية ولم يجعلوها معطوفة على الأقرب ومن تتمته لخروجها عن التمثيل وعدم صلاحيتها للجواب، وعطف ما ليس بجواب على الجواب ليس بصواب وجوزه بعض المحققين إذ لا بأس بأن يزاد في الجواب ما يناسبه وإن لم يكن له دخل فيه بل قد يستحسن ذلك إذا اقتضاه المقام كما في وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧] الآية وكونها اعتراضية أو حالية من ضمير قامُوا بتقدير المبتدأ أو معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفواصل اللفظية، والمقدرة فضول عند ذوي الفضل، والقول بأنه أتى بها لتوبيخ المنافقين حيث لم ينتهوا لأن من قدر على إيجاد قصيف الرعد ووميضه وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم أفلا يرجعون عن ضلالهم محل للتوبيخ إذ لا يصح عطف الممثل له على حال الممثل به، ومفعول شاء هنا محذوف وكثيرا ما يحذف (١) مفعولها إذا وقعت في حيز الشرط ولم يكن مستغربا، والمعنى ولو أراد الله إذهاب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب، ولتقدم ما يدل على التقييد من يَجْعَلُونَ ويَكادُ قوى دلالة السياق عليه وأخرجه من الغرابة، ولك أن لا تقيد ذلك المفعول وتقيد الجواب كما صنعه الزمخشري أو لا تقيد أصلا، ويكون المعنى لو أراد الله إذهاب هاتيك القوى أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم ما صنعوه، والمشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء، وقيل: أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته وإن استعمل عرفا في موضع الإرادة، وقرأ ابن أبي عبلة- لأذهب الله بأسماعهم- وهي محمولة على زيادة الباء لتأكيد التعدية أو على أن- أذهب- لازم بمعنى ذهب كما قيل بنحوه في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: ٢٠] وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة: ١٩٥] إذ الجمع بين أداتي تعدية لا يجوز، وبعضهم يقدر له مفعولا- أي لأذهبهم- فيهون الأمر (٢) وكلمة لَوْ لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض هو الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضة الشرط دلالتها على انتفائه
(١) ومثل شاء أراد اهـ منه.
(٢) وقريب من هذا المعنى ما قيل في القراءة المشهور: إن معنى ذهب الله بسمعهم وأبصارهم- أهلكهم- لأن في إهلاكهم ذهاب ذلك وهو معنى قريب بعيد اهـ منه.
178
قطعا والمنازع فيه مكابر، وأما دلالتها على انتفاء الجزاء فقد قيل وقيل: والحق أنه إن كان ما بينهما من الدوران قد بنى الحكم على اعتباره فهي دالة عليه بواسطة مدلولها ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول. أما في الدوران الكلي كالذي في قوله تعالى: شأنه وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ [النحل: ٩] وقولك لو جئتني لأكرمتك فظاهر، ثم إنه قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في المثالين، وهو الاستعمال الشائع في لَوْ ولذا قيل: إنها لامتناع الثاني لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهرا أو مسلما على انتفاء الأول لكونه بعكسه كما في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] ولَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: ١١] واللزوم في الأول حقيقي وفي الثاني ادعائي، وكذا انتفاء الملزومين وليس هذا بطريق السببية الخارجية بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول. ومن لم يتنبه زعم أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثاني. وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك: لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط بالشرط ليس وجود أي ضوء بل وجود الضوء الخاص الناشئ من الطلوع ولا ريب في انتفائه بانتفائه هذا إذا بني الحكم على اعتبار الدوران وإن بني على عدمه فأما أن يعتبر تحقق مدار آخر له أو لا، فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال ذلك المدار فإن كان بينه وبين الانتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء فإن وجود الضوء معلق في الحقيقة بسبب آخر هو المدار ووضع عدم الطلوع موضعه لكونه كاشفا عنه فكأنه قيل: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بالقمر مثلا.
ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند انتفاء الشرط لاستحالة الضوء القمري عند طلوع الشمس، وإن لم يكن بينهما منافاة تعين عدم الدلالة
كحديث «لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي (١) من الرضاعة»
فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط- أعني كونها ابنة الأخ- غير مناف لانتفائه الذي هو كونها ربيبته بل مجامع له، ومن ضرورته مجامعة أثريهما أعني الحرمة الناشئة من هذا، وهذا وإن لم يعتبر تحقق مدار آخر بل بني الحكم على اعتبار عدمه فلا دلالة لها على ذلك أصلا، ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع ما لا ينافيه بالأولى كما في قوله تعالى: (٢) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ [الإسراء: ١٠٠] فإن الجزاء قد نيط بما ينافيه إيذانا بأنه في نفسه بحيث يجب ثبوته مع فرض انتفاء سببه أو تحقق سبب انتفائه فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لَوْ الوصلية
«ونعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه»
إن حمل على تعليق عدم العصيان في ضمن عدم الخوف بمدار آخر كالحياء مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث الربيبة، وإن حمل على بيان استحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل، والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائع مفيدة لفظاعة حالهم وهول ما دهمهم وأنه قد بلغ الأمر إلى حيث لو تعلقت مشيئة الله تعالى بإزالته قواهم لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاء تاما. وقيل: كلمة لَوْ فيها- لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر- بمنزلة أن، ذكر جميع ذلك مولانا مفتي الديار الرومية وأظنه قد أصاب الغرض إلا أن كلام مولانا الساليكوتي يشعر باختيار أن لَوْ موضوعة لمجرد تعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فيه من غير دلالة على انتفاء
(١) هي بنت أبي سلمة اهـ.
(٢) ومثله
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من فارس»،
وقول علي كرم الله تعالى وجهه: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا
أهـ منه.
179
الأول أو الثاني أو على استمرار الجزاء بل جميع هذه الأمور خارجة عن مفهومها مستفادة بمعونة القرائن كيلا يلزم القول بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز من غير ضرورة، وبه قال بعضهم، وما ذهب إليه ابن الحاجب من أنها للدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني من لوازم هذا المفهوم وكونه لازما لا يستلزم الإرادة في جميع الموارد فإن الدلالة غير الإرادة.
وذكر أن ما قالوه من أنها لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فرضا مع القطع بانتفائه فيلزم لأجل انتفائه انتفاء ما علق به فيفيد أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول فيه مع توقفه على كون انتفاء الأول مأخوذا في مدخولها، وقد عرفت أنه يستلزم خلاف الأصل يرد عليه أن المستفاد من التعلق على أمر مفروض الحصول إبداء المانع من حصول المعلق في الماضي وأنه لم يخرج من العدم الأصلي إلى حد الوجود وبقي على حاله لارتباط وجوده بأمر معدوم، وأما إن انتفاءه سبب لانتفائه في الخارج فكلا كيف والشرط النحوي قد يكون مسببا مضافا للجزاء؟ نعم إن هذا مقتضى الشرط الاصطلاحي، وما استدل به العلامة التفتازاني على إفادتها السببية الخارجية من قول الحماسي:
ولو طار ذو حافر قبلها... لطارت ولكنه لم يطر
لأن استثناء المقدم لا ينتج، ففيه أن اللازم مما ذكر أن لا تكون مستعملة للاستدلال بانتفاء الأول على انتفاء الثاني ولا يلزم منه أن لا تكون مستعملة لمجرد التعليق لإفادة إبداء المانع مع قيام المقتضى كيف ولو كان معناها إفادة سببية الانتفاء للانتفاء كان الاستثناء تأكيدا وإعادة بخلاف ما إذا كان معناها مجرد التعليق فإنه يكون إفادة وتأسيسا، وهذا محصل ما قالوه ردا وقبولا. وزبدة ما ذكروه إجمالا وتفصيلا. ومعظم مفتي أهل العربية أفتوا بما قاله مفتي الديار الرومية، ولا أوجب عليك التقليد فالأقوال بين يديك فاختر منها ما تريد.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كالتعليل للشرطية والتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إذهاب ما ذكر لأن القادر على الكل قادر على البعض. والشيء لغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كما نص عليه سيبويه، وهو شامل للمعدوم والموجود الواجب والممكن وتختلف إطلاقاته، ويعلم المراد منه بالقرائن فيطلق تارة، ويراد به جميع أفراده كقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: ٢٨٢، النساء: ١٧٦، النور: ١٨، ٦٤، التغابن: ١١] بقرينة إحاطة العلم الإلهي بالواجب والممكن المعدوم والموجود والمحال الملحوظ بعنوان ما، ويطلق ويراد به الممكن مطلقا كما في الآية الكريمة بقرينة القدرة التي لا تتعلق إلا بالممكن، وقد يطلق ويراد به الممكن الخارجي الموجود في الذهن كما في قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: ٢٣، ٢٤] بقرينة كونه متصورا مشيئا فعله غدا، وقد يطلق ويراد به الممكن المعدوم الثابت في نفس الأمر كما في قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: ٤٠] بقرينة إرادة التكوين التي تختص بالمعدوم، وقد يطلق ويراد به الموجود الخارجي كما في قوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: ٩] أي موجودا خارجيا لامتناع أن يراد نفي كونه شيئا بالمعنى اللغوي الأعم الشامل للمعدوم الثابت في نفس الأمر لأن كل مخلوق فهو في الأزل شيء- أي معدوم- ثابت في نفس الأمر وإطلاق الشيء عليه قد قرر، والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يعدل عنه إلا لصارف ولا صارف. وشيوع استعماله في الموجود لا ينتهض صارفا إذ ذاك إنما هو لكون تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاصه به لغة، وما ذكره مولانا البيضاوي من اختصاصه بالموجود- لأنه في الأصل مصدر شاء- أطلق بمعنى شاء تارة وحينئذ يتناول الباري تعالى وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء وجوده إلخ ففيه- مع ما فيه- أنه يلزمه في قوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ استعمال المشترك في معنييه لأنه إذا كان بمعنى الشائي لا يشمل
180
نحو الجمادات عنده، وإذا كان بمعنى المشيء وجوده لا يشمل الواجب تعالى شأنه، وفي استعمال المشترك في معنييه خلاف (١) ولا خلاف في الاستدلال بالآية على إحاطة علمه تعالى. وأما ما ذكر في شرحي المواقف والمقاصد فجعجعة ولا أرى طحنا، وقعقعة ولا أرى سلاحا تقنا. وقد كفانا مؤنة الإطالة في رده مولانا الكوراني قدس سره، والنزاع في هذا وإن كان لفظيا والبحث فيه من وظيفة أصحاب اللغة إلا أنه يبتني على النزاع في أن المعدوم الممكن ثابت أولا، وهذا بحث طالما تحيرت فيه أقوام وزلت فيه أقدام. والحق الذي عليه العارفون الأول لأن المعدوم الممكن- أي ما يصدق عليه هذا المفهوم- يتصور ويراد بعضه دون بعض، وكل ما هو كذلك فهو متميز في نفسه من غير فرض الذهن، وكل ما هو كذلك فهو ثابت ومتقرر في خارج أذهاننا منفكا عن الوجود الخارجي فما هو إلا في نفس الأمر. والمراد به علم الحق تعالى باعتبار عدم مغايرته للذات الأقدس فإن لعلم الحق تعالى اعتبارين «أحدهما» أنه ليس غيرا «والثاني» أنه ليس عينا، ولا يقال بالاعتبار الأول- العلم تابع للمعلوم- لأن التبعية نسبة تقتضي متمايزين ولو اعتبارا، ولا تمايز عند عدم المغايرة، ويقال ذلك بالاعتبار الثاني للتمايز النسبي المصحح للتبعية، والمعلوم الذي يتبعه العلم هو ذات الحق تعالى بجميع شؤونه ونسبه واعتباراته. ومن هنا قالوا: علمه تعالى بالأشياء أزلا عين علمه بنفسه لأن كل شيء من نسب علمه بالاعتبار الأول فإذا علم الذات لجميع نسبها فقد علم كل شيء من عين علمه بنفسه، وحيث لم يكن الشريك من نسب العلم بالاعتبار الأول إذ لا ثبوت له في نفسه من غير فرض إذ الثابت كذلك هو أنه تعالى لا شريك له فلا يتعلق به العلم بالاعتبار الثاني ابتداء، ومتى كان تعلق العلم بالأشياء أزليا لم تكن أعداما صرفة إذ لا يصح حينئذ أن تكون طرفا إذ لا تمايز، فإذا لها تحقق بوجه ما، فهي أزلية بأزلية العلم، فلذا لم تكن الماهيات بذواتها مجعولة لأن الجعل تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت، فالثبوت متقدم على الجعل بمراتب فلا تكون من حيث الثبوت أثرا للجعل وإلا لدار، وإنما هي مجعولة في وجودها، لأن العالم حادث وكل حادث مجعول وليس الوجود حالا حتى لا تتعلق
به القدرة، ويلزم أن لا يكون الباري تعالى موجدا للممكنات ولا قادرا عليها لأنه قد حقق أن الوجود بمعنى ما- بانضمامه إلى الماهيات الممكنة- يترتب عليها آثارها المختصة بها موجود، أما أولا فلأن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجودا بأمر ينضم إليه وهو الوجود، فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد وإلا لتسلسل، وامتيازه عما عداه بأن وجوده ليس زائدا على ذاته، وأما ثانيا فلأنه لو لم يكن موجودا لم يوجد شيء أصلا لأن الماهية الممكنة قبل انضمام الوجود متصفة بالعدم الخارجي فلو كان الوجود معدوما كان مثلها محتاجا لما تحتاجه فلا يترتب على الماهية بضمه آثارها لأنه على تقدير كونه معدوما ليس فيه بعد العدم إلا افتقاره إلى الوجود وهذا بعينه متحقق في الماهية قبل الضم فلا يحدث لها بالضم وصف لم تكن عليه، فلو كان هذا الوجود المفتقر مفيدا- لترتب الآثار- لكانت الماهية مستغنية عن الوجود حال افتقارها إليه واللازم باطل لاستحالة اجتماع النقيضين فلا بد أن يكون الوجود موجودا بوجود هو نفسه وإلا لتسلسل أو انتهى إلى وجود موجود بنفسه. والأول باطل، والثاني قاض بالمطلوب. نعم الوجود بمعنى الموجودية حال لأنه صفة اعتبارية ليست بعرض ولا سلب، ومع هذا يتعلق به الجعل لكن لا ابتداء بل بضم حصة من الوجود الموجود إلى الماهية فيترتب على ذلك اتصاف الماهية بالموجودية وظاهر أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالوجود بمعنى الموجودية ابتداء أن لا تتعلق به بوجه آخر، وإذا تبين أن الماهيات مجعولة في وجودها فلا بد أن يكون وجود كل شيء عين حقيقته، بمعنى أن ما صدق عليه حقيقة الشيء من الأمور الخارجية
(١) والإمام الغزالي لا يقول باستعمال المشترك في معنييه واستدل في قواعد العقائد بالآية على عموم علمه تعالى اهـ منه.
181
هو بعينه ما صدق عليه وجوده، وليس لهما هويتان متمايزتان في الخارج كالسواد والجسم إذ الوجود إن قام بالماهية معدومة لزم التناقض، وموجودة لزم وجودان مع الدور أو التسلسل، والقول بأن الوجود ينضم إلى الماهية من حيث هي لا تحقيق فيه، إذ تحقق في محله أن الماهية قبل عروض الوجود متصفة في نفس الأمر بالعدم قطعا لاستحالة خلوها عن النقيضين فيه، غاية الأمر أنا إذا لم نعتبر معها العدم لا يمكن أن نحكم عليها بأنها معدومة، وعدم اعتبارنا العدم معها حين عروض الوجود لا يجعلها منفكة عنه في نفس الأمر وإنما يجعلها منفكة عنه باعتبارنا وضم الوجود أمر يحصل لها باعتبار نفس الأمر لا من حيث اعتبارنا، فخلوها عن العدم باعتبارنا لا يصحح اتصافها بالوجود من حيث هي هي في نفس الأمر سالما عن المحذور فإذا ليس هناك هويتان تقوم إحداهما بالأخرى بل عين الشخص في الخارج عين تعين الماهية فيه وهو عين الماهية فيه أيضا إذ ليس التعين أمرا وجوديا مغايرا بالذات للشخص منضما للماهية في الخارج ممتازا عنهما فيه مركبا منها ومن الفرد بل لا وجود في الخارج إلا للأشخاص، وهي عين تعيينات الماهية وعين الماهية في الخارج لاتحادهما فيه، وعلى هذا فلا شك في مقدورية الممكن إذ جعله بجعل حصته من الوجود المطلق الموجود في الخارج مقترنة بأعراض وهيئات يقتضيها استعداد حصته من الماهية النوعية فيكون شخصا، وإيجاد الشخص من الماهية- على الوجه المذكور- عين إيجاد الماهية لأنهما متحدان في الخارج جعلا ووجودا متمايزان في الذهن فقط، وهذا تحقيق قولهم: المجعول هو الوجود الخاص، ولا يستعد معدوم لعروضه إلا إذا كان له ثبوت في نفس الأمر إذ ما لا ثبوت له- وهو المنفي- لا اقتضاء فيه لعروض الوجود بوجه، وإلا لكان المحال ممكنا واللازم باطل، فالثبوت الأزلي لماهية الممكن هو المصحح لعروض الإمكان المصحح للمقدورية لا أنه المانع كما توهموه، هذا والبحث طويل والمطلب جليل، وقد أشبعنا الكلام عليه- في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- على وجه رددنا فيه كلام المعترضين المخالفين لما تبعنا فيه ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، وهذه نبذة يسيرة تنفعك في تفسير الآية الكريمة فاحفظها فلا أظنك تجدها في تفسير، وحيث كان الشيء عاما لغة واصطلاحا عند أهل الله تعالى، وإن ذهب إليه المعتزلة أيضا فلا بد في مثل ما نحن فيه من تخصيصه بدليل العقل بالممكن. والقدرة عند الأشاعرة صفة ذاتية ذات إضافة تقتضي التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء لا نفس التمكن لأنه أمر اعتباري ولا نفي العجز عنه تعالى لأنه من الصفات السلبية، ولعل من اختار ذلك اختاره تقليلا للصفات الذاتية، أو نفيا لها «والقادر» هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولكون المشيئة عندنا صفة مرجحة لأحد طرفي المقدور، وعند الحكماء- العناية الأزلية- ساغ لنا أن نعرفه بما ذكر دونهم خلافا لمن وهم فيه- والقدير- هو الفعال لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة، وقلما يوصف به غيره تعالى، والمقتدر إن استعمل فيه- تعالى- فمعناه «القدير» أو في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة، واشتقاق القدرة من القدر بمعنى التحديد والتعيين، وفي الآية دليل على أن الممكن الحادث حال بقائه مقدور لأنه شيء وكل شيء مقدور له تعالى، ومعنى كونه مقدورا أن الفاعل إن شاء أعدمه وإن شاء لم يعدمه واحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر مما أجمع عليه من قال: إن علة الحاجة هي الإمكان ضرورة أن الإمكان لازم له حال البقاء وأما من قال: إن علة الحاجة الحدوث وحده أو مع الإمكان قال باستغنائه إذ لا حدوث حينئذ وتمسك في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البناء، ولما رأى بعضهم شناعة ذلك قالوا: إن الجواهر لا تخلو عن الأعراض وهي لا تبقى زمانين فلا يتصور الاستغناء عن القادر سبحانه بحال، وهذا مما ذهب إليه الأشعري- ولما فيه من مكابرة الحس ظاهرا- أنكره أهل الظاهر، نعم يسلمه العارفون من أهل الشهود- وناهيك بهم- حتى إنهم زادوا على ذلك فقالوا: إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضا والناس في لبس من خلق جديد، وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى الله الذي لا يتقيد بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، ثم المراد من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة
182
ولباس إيمانهم
المبطن بالكفر المطرز بالخداع حذر القتل بحال ذوي مطر شديد فيه ما فيه يرقعون خروق آذانهم بأصابعهم حذر الهلاك إلى آخر ما علم من أوصافهم، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم، وقيل:
شبه سبحانه المنافقين بأصحاب الصيب، وإيمانهم المشوب بصيب فيه ما تلى من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد كذا عاد نفعه ضرا، ونفاقهم حذرا عن النكاية يجعل الأصابع في الآذان مما دها حذر الموت من حيث إنه لا يرد من القدر شيئا وتحيرهم لشدة ما عني وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن يخطف أبصارهم فحطوا يسيرا ثم إذا خفي بقوا متقيدين لا حراك لهم، وقيل: جعل الإسلام- الذي هو سبب المنافع في الدارين- كالصيب الذي هو سبب المنفعة وما في الإسلام من الشدائد والحدود بمنزلة الظلمات والرعد وما فيه من الغنيمة والمنافع بمنزلة البرق فهم قد جعلوا أصابعهم في آذانهم من سماع شدائده وإذا لمع لهم برق غنيمة مشوا فيه وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بالشدائد قامُوا متحيرين، وقيل: غير ذلك، وما تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل غير خفي عليك إذا لمعت بوارق العناية لديك «ومن البطون» تشبيه من ذكر في التشبيه الأول بذوي صيب فيكون قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ إلخ إشارة إلى أنهم كلما وجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا عاجلا مَشَوْا فِيهِ وإذا حبس عليهم طريق الكرامات تركوا الطاعات، وقال الحسين: إذا أضاء له مرادهم من الدنيا في الدين أكثروا من تحصيله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا متحيرين.
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ لما بين سبحانه فرق المكلفين وقسمهم إلى مؤمنين وكفار ومذبذبين، وقال في الطائفة الأولى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وفي الثانية سَواءٌ عَلَيْهِمْ وفي الثالثة يُخادِعُونَ اللَّهَ وشرح ما ترجع إليه
183
أحوالهم دنيا وأخرى فقال سبحانه في الأولى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: ٧] وفي الثانية خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: ١٠] وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: ٧] وفي الثالثة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: ١٠] وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة: ١٠] أقبل عز شأنه عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذيذ المخاطبة ويكفي للنكتة الوجود في البعض، و «يا» حرف لا اسم فعل على الصحيح وضع لنداء البعيد، وقيل: لمطلق النداء أو مشتركة بين أقسامه، وعلى الأول ينادي بها القريب لتنزيله منزلة غيره إما لعلو مرتبة المنادي أو المنادى، وقد ينزل غفلة السامع وسوء فهمه منزلة بعده، وقد يكون ذلك للاعتناء بأمر المدعو له والحث عليه لأن نداء البعيد وتكليفه الحضور لأمر يقتضي الاعتناء والحث، فاستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو استعارة تبعية في الحرف أو مكنية وتخييلية- وهو مع المنادى المنصوب لفظا أو تقديرا به لنيابته عن نحو ناديت الإنشائي أو بناديت اللازم الإضمار لظهور معناه مع قصد الإنشاء- كلام يحسن السكوت عليه كما يحسن في نحو «لا، ونعم» وأي- لها معان- شهيرة والواقعة في النداء نكرة موضوعة لبعض من كل، ثم تعرفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه- أل- لأن «يا» لا يدخل عليها في غير الله إلا شذوذا لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا فيما شذّ من نحو:
فلا والله لا يلفى لما بي ولا للما بهم أبدا دواء
وأعطيت حكم المنادى وجعل المقصود بالنداء وصفا لها والتزم فيه هذه الحركة الخاصة المسماة بالضمة خلافا للمازني فإنه أجاز نصبه وليس له في ذلك سلف ولا خلف لمخالفته للمسموع وإنما التزم ذلك إشعارا بأنه المقصود بالنداء ولا ينافي هذا كون الوصف تابعا غير مقصود بالنسبة لمتبوعه لأن ذلك بحسب الوضع الأصلي حيث لم يطرأ عليه ما يجعله مقصودا في حد ذاته ككونه مفسرا لمبهم ومن هنا لم يشترطوا في هذا الوصف الاشتقاق مع أن النحويين- إلا النذر- كابن الحاجب اشترطوا ذلك في النعوت على ما بين في محله، و «ها» التنبيهية زائدة لازمة للتأكيد والتعويض عما تستحق من المضاف إليه أو ما في حكمه من التنوين كما في أَيًّا ما تَدْعُوا [الإسراء: ١١٠] وإن لم يستعمل هنا مضافا أصلا وكثر النداء في الكتاب المجيد على هذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيرا ما يقتضيه المقام بتكرر الذكر والإيضاح بعد الإبهام والتأكيد بحرف التنبيه واجتماع التعريفين. هذا ما ذهب إليه الجمهور، وقطع الأخفش- لضعف نظره- بأن «أيا» الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوبا لمناسبة التخفيف للمنادى- وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم- موصولة، وندرة وقوعها موصوفة، واعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه إذا حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم، فحرف النداء على هذا يكون داخلا على مبني على الضم ولم يغيره، وإن كان مضارعا للمضاف، ويؤيد الأول عدم الاحتياج إلى الحذف وصدق تعريف النعت والموافقة مع هذا وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور، نعم أورد عليه إشكال استصعبه بعض من سلف من علماء العربية وقال: إنه لا جواب له- وهو أن ما ادعوا كونه تابعا- معرب بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل يقتضي الرفع هناك لأن متبوعه مبني لفظا ومنصوب محلا فلا وجه لرفعه، وأقول: إن هذا من الأبحاث الواقعة بين أبي نزار وابن الشجري، وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء وليست ضمة إعراب لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة، وكتب الشيخ منصور موهوب بن أحمد أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب، وذلك لأن الواقع عليه النداء أي
184
المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والاسم الواقع بعد وإن كان مقصودا بالنداء إلا أنه صفة أي فمحال أن يبنى أيضا لأنه مرفوع رفعا صحيحا، ولهذا أجاز فيه المازني النصب على الموضع كما يجوز في «يا» زيد الظريف. وعلة الرفع أنه لما استمر الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل فأجريت صفته على اللفظ فرفعت، وأجاب ابن الشجري بما أجاب به الشيخ وكتب أنها ضمة إعراب لأن ضمة المنادى المفرد لها- باطرادها- منزلة بين منزلتين فليست كضمة حيث لأنها غير مطردة لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد في نحو- خرج زيد- لأنها حدثت بعامل لفظي ولما اطردت الضمة في نحو- يا زيد يا عمرو- وكذلك اطردت في نحو- يا رجل يا غلام- إلى ما لا يحصى نزل الاطراد فيها منزلة العامل المعنوي الواقع للمبتدأ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدئ به مجردا عن عامل لفظي وجيء له بخبر- كعمرو منطلق، وزيد ذاهب- إلى غير ذلك فلما استمرت ضمة المنادى في معظم الأسماء كما استمرت في الأسماء المعربة الضمة- الحادثة عن الابتداء- شبهتها العرب بضمة المبتدأ فأتبعها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو «يا زيد الطويل» وجمع بينهما أيضا أن الاطراد معنى كما في الابتداء كذلك، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى مناسبة بينهما حتى أنهم قد حملوا أشياء على نقائضها، ألا ترى أنهم أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ الحمد لله- بضم اللام وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في نحو- يا زيد بن عمرو- في قول من فتح الدال من زيد؟! انتهى ملخصا، وقد ذكر ذلك ابن الشجري في أماليه وأكثر في الحط على ابن نزار وبين ما وقع بينه وبينه مشافهة، ولو
لا مزيد الإطالة لذكرته بعجره وبجره، وأنت تعلم ما في ذلك كله من الوهن، ولهذا قال بعض المحققين: إن الحق أنها حركة اتباع ومناسبة لضمة المنادى- ككسر الميم من غلامي- وحينئذ يندفع الإشكال كما لا يخفى على ذوي الكمال. بقي الكلام في اللام الداخلة على هذا النعت هل هي للتعريف أم لا؟ والذي عليه الجمهور- وهو المشهور- أنها للتعريف كما تقدمت الإشارة إليه، ولما سئل عن ذلك أبو نزار قال: إنها هناك ليست للتعريف لأن التعريف لا يكون إلا بين اثنين في ثالث واللام فيما نحن فيه داخلة في اسم المخاطب، ثم قال: والصحيح أنها دخلت بدلا من- يا، وأي- وإن كان منادي إلا أن نداءه لفظي، والمنادى على الحقيقة هو المقرون- بأل- ولما قصدوا تأكيد التنبيه- وقدروا تكرير حرف النداء- كرهوا التكرير فعوضوا عن حرف النداء ثانيا- ها- وثالثا- أل- وتعقبه ابن الشجري قائلا: إن هذا قول فاسد بل اللام هناك لتعريف الحضور كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل مثلا ولكنها لما دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا يا أيها الرجل معناه يا رجل، ولما كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب فاكتفى باثنين لأن أسماء الخطاب لا تفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث، ألا ترى أن قولك خرجت يا هذا وانطلقت وأكرمتك لا حاجة به إلى ثالث؟ وليس كل وجوه التعريف يقتضي أن يكون بين إثنين في ثالث فإن ضمير المتكلم في- أنا خرجت- معرفة إجماعا ولا يتوقف تعريفه على حضور ثالث، وأيضا ما قص من حديث التعويض يستدعي بظاهره أن يكون أصل يا أيها الرجل مثلا «يا أي يا يا رجل» وأنهم عوضوا من- يا- الثانية- ها- ومن الثالثة الألف واللام، وأنت تعلم أن هذا مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجه السمع وينكره الطبع فليفهم.
والنَّاسُ اسم جمع على ما حققه جمع، والجموع وأسماؤها المحلاة- بال- للعموم حيث لا عهد خارجي كما يدل عليه وقوع الاستثناء والأصل فيه الاتصال وهو يقتضي الدخول يقينا ولا يتصور إلا بالعموم، ونحو- ضربت زيدا إلا رأسه وصمت رمضان إلا عشره الأخير- عام تأويلا، وكذا التأكيد بما يفيد العموم إذ لو لم يكن هناك عموم كان التأكيد تأسيسا والاتفاق على خلافه، وشيوع استدلال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالعموم كما في حديث
185
السقيفة وهم أئمة الهدى. ثم هذا الخطاب في نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ يسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين قالوا:
وليس عاما لمن بعد الموجودين في زمن الوحي أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي، والأول هو الوجه وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع، وأما بمجرد الصيغة فلا، وقالت الحنابلة: بل هو عام لمن بعدهم إلى يوم القيامة، واستدل الأولون بأنا نعلم أنه لا يقال للمعدومين نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ قال العضد: وإنكاره مكابرة وبأنه امتنع خطاب الصبي والمجنون بنحوه وإذا لم نوجهه نحوهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أجدر أن يمنع لأن تناوله أبعد، واستدل الآخرون بأنه لو لم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مخاطبا به لمن بعدهم لم يكن مرسلا إليهم واللازم منتف وبأنه لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل ذلك، وهو إجماع على العموم لهم.
وأجيب: أما عن الأول فبأن الرسالة إنما تستدعي التبليغ في الجملة وهو لا يتوقف على المشافهة بل يكفي فيه حصوله للبعض شفاها وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم، وأما عن الثاني فبأنه لا يتعين أن يكون ذلك لتناوله لهم بل قد يكون لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر قاله غير واحد.
وفي شرح العلامة الثاني للشرح العضدي أن القول بعموم الشفاهي وإن نسب إلى الحنابلة ليس ببعيد. وقال بعض أجلّة المحققين: إنه المشهور حتى قالوا إن الحق أن العموم معلوم بالضرورة من الدين المحمدي وهو الأقرب، وقول العضد: إن إنكاره مكابرة حق لو كان الخطاب للمعدومين خاصة، أما إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب فلا، ومثله فصيح شائع وكل ما استدل به على خلافه ضعيف انتهى. وإلى العموم ذهب كثير من الشافعية على أنه عندهم عام بحاق لفظه ومنطوقه من غير احتياج إلى دليل آخر، وقد قيل: إنه من قبيل الخطاب العام الذي أجري على غير ظاهره كما في قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
هذا وعلى كل حال ما روي عن ابن مسعود وعلقمة من أن كل شيء- نزل فيه «يا أيها الناس» مكي و «يا أيها الذين آمنوا» مدني إن صح ولم يؤول- لا يوجب تخصيص هذا العام بوجه بالكفار بل هم أيضا داخلون فيه ومأمورون بأداء العبادة كالاعتقاد، والأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به وكون الإيمان أصل العبادات، ولو وجب بوجوبها انقلب الأصل تبعا مردود بأن الأصالة بحسب الصحة لا تنافي التبعية في الوجوب على أنه واجب استقلالا أيضا، والعجب كيف خفي على مشايخ سمرقند؟! وهذا ما ذهب إليه العراقيون والشافعية، ويؤيده ظواهر الآيات كقوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦] وقوله سبحانه: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: ٤٢، ٤٤] وذهب البخاريون إلى أنهم مكلفون في حق الاعتقاد فقط، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم ينص ظاهرا على شيء في المسألة لكن في كلام صاحبه الثاني ما يدل عليها، ولعل ذلك من الإمام لأنه لا ثمرة للخلاف في الدنيا للاتفاق على أنهم ما داموا كفارا يمتنع منهم الإقدام عليها ولا يؤمرون بها وإذا أسلموا لم يجب قضاؤها عليهم، وإنما ثمرته في الآخرة وهو أنهم يعذبون على تركها كما يعذبون على ترك الإيمان عند من قال بوجوبها عليهم، وعلى ترك الإيمان فقط عند من لم يقل، وهذا في غير العقوبات والمعاملات، أما هي فمتفق على خطابهم بها، والأمر بالعبادة هنا للطوائف الثلاث باعتبار أن المراد بها الشامل لإيجاد أصلها والزيادة والثبات- فاعبدوا- يدل على طلب في الحال لعبادة مستقلة وهي من الكفار ابتداء عبادة ومن بعض المؤمنين زيادة ومن آخرين مواظبة، وليس الابتداء والزيادة والمواظبة داخلا في المفهوم وضعا فلا محذور في شيء أصلا خلافا لمن توهمه فتكلف في
186
دفعه وذكر- سبحانه- الرب ليشير إلى أن الموجب القريب للعبادة هي نعمة التربية، وإن كانت عبادة الكاملين لذاته تعالى من غير واسطة أصلا سوى أنه هو هو فسبحانه من إله ما أعظمه ومن رب ما أكرمه الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الموصول صفة مادحة للرب، وفيها أيضا تعليل العبادة أو الربوبية على ما قيل، فإن كان الخطاب في ربكم شاملا للفرق الثلاث فذاك وإن خص بالمشركين وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى احتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس وموضحة إن حملت على العهد، ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب إلا أن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه وتعريضا بما كانوا عليه ولأنه الأصل فلا يترك إلا بدليل، والخلق الاختراع بلا مثال ويكون بمعنى التقدير وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه، وعلى الثاني قد يتصف به غيره ومنه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: ١٤] وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [المائدة: ١١٠] وقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
ومن العجب أن أبا عبد الله البصري- أستاذ القاضي عبد الجبار- قال: إطلاق الخالق عليه تعالى محال لأن التقدير يستدعي الفكر والحسبان وهي مسألة خلافية بينه وبين الله تعالى القائل: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ [الحشر:
٢٤] وبقول الله تعالى أقول، والموصول الثاني عطف على المنصوب في خَلَقَكُمْ وقبل- ظرف زمان بكثرة ومكان بقلة ويتجوز بها عن التقدم بالشرف والرتبة، والخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد- بالذين قبلهم- من تقدمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم وفي هذا تذكير لكمال جلال الله تعالى وربوبيته وفيه من تأكيد أمر العبادة ما لا يخفى، وقدم سبحانه التنبيه على- خلقهم- وإن كان متأخرا بالزمان لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أنفسهم آكد وأهم، وأتى- بالخلق- صلة والصلات لا بد من كونها معلومة الانتساب عند المخاطب، ولذا يعرف الموصول عنده بما فيها من العهد، واشترطت خبريتها إشارة إلى أنه ليس في المخاطبين من ينكر كون الخالق هو الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف: ٨٧] أو مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨] وانفهام ذلك من الوصف- بناء على ما قالوا- الأخبار بعد العلم بها أوصاف الأوصاف قبل العلم بها أخبار مما قاله بعض المحققين وإن كان هناك من لا يعلم أن الله تعالى خالقه وخالق من قبله احتيج إلى ادعاء التغليب أو تنزيل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين فتخرج الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر، وقرأ ابن السميقع- وخلق من قبلكم- وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- والذين من قبلكم- بفتح الميم، واستشكل لتوالي موصولين والصلة واحدة وخرجت على جعل- من- تأكيدا للذين فلا يحتاج إلى صلة نحو قوله:
من النفر اللائي الذين إذا هم تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
واعترض بأن الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك إذ يكاد أن يكون تأكيده كتأكيد بعض الاسم- فمن- حينئذ موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر وما بعدها صلة أو صفة وهي مع المقدر صلة الموصول الأول ويكون على أحد الاحتمالين نظير. فقلت وأنكرت الوجوه هم هم. وتخريج البيت على نحو هذا، وقيل: مِنْ زائدة، وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء، والكسائي زيادة مِنْ الموصولة، وجعل- من ذلك.
187
وبعضهم استشكل القراءة المشهورة أيضا بأن- الذين- أعيان ومِنْ قَبْلِكُمْ ناقص ليس في الأخبار به عنها فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف لفظا أو تقديرا مع القرينة صح الإخبار والوصل به تقول نحن: في يوم طيب، وما- هنا في تقدير- والذين- كانوا من زمان قبل زمانكم، وقدر أبو البقاء- والذين خلقهم- من قبل خلقكم فحذف الفعل الذي هو صلة وأقيم متعلقه مقامه فتدبر لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ- لعل- في المشهورة موضوعة للترجي وهو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع والإشفاق وهو توقع مخوف ممكن، والظاهر التقابل فتكون مشتركة، وذكر الرضى أنها للترجي وهو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله فيدخل فيه الطمع والإشفاق، والذي يميل إليه القلب ما ذكره بعض المحققين إنها لانشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول، إما محبوب فيسمى رجاء أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم- وهو الشائع- لأن معاني الإنشاءات قائمة به، وإما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما. ومنه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع بالفعل من متوقع أصلا. ففي الآية الكريمة- إن جعلت الجملة حالا من مفعول خلقكم وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة- امتنع حمل- لعل- على حقيقتها لا بالنظر إلى المتكلم لاستحالة الترجي على عالم الغيب والشهادة الفاعل لما يشاء، ولا بالنظر إلى المخاطبين لأنهم حين الخلق لم يكونوا عالمين فيكف يتصور الرجاء منهم؟! ولا يجوز جعلها حالا مقدرة لأن المقدر حال الخلق التقوى لا رجاؤها فلا بد أن يحمل على المعنى المجازي بأن يشبه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابه ودواعيه بالترجي في أن متعلق كل واحد منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فيستعمل كلمة- لعل- الموضوع له فيه فيكون استعارة تبعية أو تشبه ضورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم على التقوى وتركها مع رجحانها منهم بحال المرتجى بالقياس إلى المرتجى منه القادر على المرتجى، وتركه مع رجحان وجوده فيكون استعارة تمثيلية إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه أعني كلمة- لعل- أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه أعني الرجاء فيكون استعارة بالكناية، وجعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل نزغة اعتزالية مؤسسة على القاعدة القائلة بجواز تخلق المراد عن إرادته تعالى شأنه وبعضهم (١) قال بالترجي هنا إلا أنه ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ [هود: ١٢] لأنه لما ولد كل مولود على الفطرة كان بحيث إن تأمله متأمل توقع منه رجاء أن يكون متقيا وليس بالبعيد، وإن جعلت حالا من فاعل خَلَقَكُمْ امتنعت الحقيقة أيضا وتعينت بعض الوجوه، وإن جعلت حالا من ضمير اعْبُدُوا جاز إبقاء الترجي على حقيقته مصروفا إلى المخاطبين- أي راجين التقوى- والمراد بها حينئذ منتهى درجات السالكين وهو طرح الهوى ونبذ السوي والفوز بالمحبوب الأعلى وفي ذلك غاية المبتغي والعروج فوق سدرة المنتهى. وقد شاع ذلك عند الأقصى والأدنى وبذلك يصح الترغيب ويندفع ما قيل إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادتهم وما هو لذة لهم- أعني الثواب- لا ما يشق عليهم وهو التقوى وإن كان مفضيا إليه ووجه الدفع ظاهر، وما قاله المولى التفتازاني- من أن تقييد العبادة بترجي التقوى ليس له كثير معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى أو اقترانها برجاء ثوابها- يدفعه أن في الترجي تنبيها على أن العابد ينبغي أن لا يفتر في
(١) أي ابن عطية اهـ منه.
188
عبادته ويكون ذا خوف ورجاء، نعم قالوا: الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر، فإن قلنا: إنه أعم من الوجوب فلا إشكال، وإن قلنا: إنه حقيقة في الوجوب اقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه. وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها، فإن الذي جعل لكم الأرض موصول بربكم صفة له- يجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك اتصال معنوي، وإن جعل الَّذِي جَعَلَ مبتدأ- خبره لا تجعلوا- كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال، ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته، ثم لا يبعد أن يقال: إن المعنى في الآية على التعليل إما لأن- لعل- تجيء بمعنى كي كما ذهب إليه ابن الأنباري وغيره (٢) واستشهدوا بقوله:
وكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم (٣) لنا كل موثق
أو لأنها تجيء للإطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء، ثم يتجوز به عن كل متحقق كتحقق العلة سواء كان معه أطماع أم لا على ما قيل. ولا يرد أن تعليل الخلق وهو فعله تعالى مما لم يجوزه أكثر الأشاعرة حيث منعوا تعليل أفعاله سبحانه بالأغراض لئلا يلزم استكماله- عز شأنه- بالغير وهو محال لأنا نقول الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح، ومن أنكر تعليل بعض الأفعال- لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود- فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة، والوقوف على ذلك في كل محل مما لا يلزم، على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظيا لأن العلة إن فسرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل امتنع ذلك في حقه سبحانه، وإن فسرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهرا مع الغنى الذاتي فلا شبهة في وقوعها ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند، وإنما لم يقل سبحانه في النظم تعبدون لأجل- اعبدوا- أو اتقوا لأجل تتقون ليتجاوب طرفاه مع اشتماله على صنعة بديعة من رد العجز على الصدر لأن التقوى قصارى أمر العابد فيكون الكلام أبعث على العبادة وأشد إلزاما كذا قيل، وفي القلب منه شيء، وسبب حذف مفعول تَتَّقُونَ مما لا يخفى، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقدره- الشرك- والضحاك- النار- وأظنك لا تقدر شيئا، ولما أمر سبحانه المكلفين بعبادة الرب الواجد لهم- ووصفه بما وصفه، ومعلوم أن الصفة آلة لتمييز الموصوف عما عداه وأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية- أشعرت الآية أن طريق معرفته تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه العبادة النظر في صنعه، ولما كان التربية والخلق اللذان نيط بهما العبادة سابقين على طلبها فهم أن العبد لا يستحق ثوابا حيث أنعم عليه قبل العبادة بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته عشر عشره، واستدل بالآية من زعم أن التكليف بالمحال واقع حيث أمر سبحانه بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون، وقد تقدم الكلام في ذلك فارجع إليه الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً الموصول إما منصوب على أنه نعت- ربكم- أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول تتقون- كما قاله أبو البقاء- إعراب غث ينزه القرآن عنه، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة، وفيه أيضا غير مجمع عليه، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة فَلا تَجْعَلُوا والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج: ١٠] إلى
(٢) قطرب وابن كيسان اهـ منه.
(٣) فإن قوله: وثقتم إلخ يقتضي عدم التردد في الوقوع كما في الترجي وبهذا يتعين أنها بمعنى كي فليفهم اهـ منه.
189
قوله تعالى: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: ١٠] والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرا بالتأويل المشهور، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من بخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره رِزْقاً لَكُمْ بتقدير يرزق، وجَعَلَ بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: بمعنى أوجدوا انتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك، ومعنى تصييرها فِراشاً أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطا بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت- فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها فِراشاً لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى. وعبر سبحانه هنا- يجعل- وفيما تقدم- بخلق- لاختلاف المقام أو تفننا في التعبير كما في قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الإنعام: ١] وتقديم المفعول الغير الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الإشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف، واختار سبحانه لفظ- السماء- على السماوات موافقة للفظ- الأرض- وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السماوات، وكل طبقة وجهة منها، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبنى بيتا كان (١) أو قبة أو خباء أو طرافا، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا خباء جديدا ليدخلوا على العروس فيه، والمراد بكون السَّماءَ بِناءً أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض، ويقال لسقف البيت بناء، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء- كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات- أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء، وفي ذلك خلاف مشهور، وقرأ يزيد الشامي: «بساطا»، وطلحة «مهادا» وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام- جعل- في لام- لكم- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ عطف على- جعل- ومِنَ الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول- وهو نكرة- صار الظرف صفة، وذكر في البحر أن مِنَ على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى. والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء- على الظواهر- غير بعيدة نظرا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري يابسا، فإذا صعد البخار إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر، وإن كان قويا كان ثلجا وبردا، وقد لا ينعقد ويسمى ضبابا.
(١) في الكشف الأول من الشعر، والثاني من لبن والثالث من وبر أو صوف، والرابع من آدم، وفي الثاني نظر وإن ذكره ابن السكيت فليراجع اهـ منه.
190
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشوؤه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له، على أن من انجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسبما تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: ٢١] بل من علم أن الله سبحانه في السماء- على المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بجلال ذاته تعالى- صح له أن يقول: إن ما في العالمين من تلك السماء، ونسبة نزوله إلى غيرها أحيانا لاعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة- والماء- معروف، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو وهمزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويها بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته، ومِنَ الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد- فرزقا- حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له- لأخرج- ولَكُمُ ظرف لغو مفعول به لرزق أي أخرج شيئا مِنَ الثَّمَراتِ أي بعضها لأجل أنه رزقكم، وجوّز أن يكون بعض الثمرات مفعول أخرج، ورزقا بمعنى مرزوقا حالا من المفعول أو نصبا على المصدر لأخرج، وإما للتبيين- فرزق- بمعنى مرزوق مفعول لأخرج ولَكُمُ صفته، وقد كان مِنَ الثَّمَراتِ صفته أيضا إلا أنه لما قدم صار حالا على القاعدة في أمثاله، وفي تقديم البيان على المبين خلاف، فجوزه الزمخشري والكثيرون، ومنعه صاحب الدر المصون وغيره، واحتمال جعلها ابتدائية- بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر- تعسف لا ثمرة فيه، وأل في الثَّمَراتِ إما للجنس أو للاستغراق وجعلها له، ومِنَ زائدة ليس بشيء لأن زيادة مِنَ في الإيجاب- وقبل- معرفة مما لم يقل به إلا الأخفش، ويلزم من ذلك أيضا أن يكون جميع الثَّمَراتِ التي أخرجت رزقا لنا، وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقا (١) وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل أقل قليل بالنسبة لثمار الجنة، ولما ادخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث إن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنة فقط، المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة، وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك: أدركت ثمرة بستانك، وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الاعتبارية، ويؤيده قراءة ابن السميقع من الثمرة أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان: ٢٥] وثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب، وإذا قيل: بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشترك- والمقام يخصصه بها- اندفع السؤال وارتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل، والباء من بِهِ للسببية، والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلا في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو الله تعالى عند الأسباب لأنها لحديث الاستكمال بالغير، قالوا: ومن اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الري في الماء مثلا فهو
(١) وقد نص على إفادة الجمع السالم المذكر والمؤنث القلة بن الدباح فقال:
بأفعل وبأفعال وأفعلة... وفعلة يعرف الأدنى من العدد
وسالم الجمع أيضا داخل معها... وذلك الحكم فاحفظها ولا تزد
اهـ منه. [.....]
191
فاسق وفي كفره قولان، وجمع على كفره كمن قال: إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول: إن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل الله- تعالى شأنه- مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة، ويا لله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب عليه؟! نستغفر الله تعالى مما يقولون: فالله عز وجل يفعل بالأسباب التي اقتضتها الحكمة مع غناه عنها كما صح أن يفعل عندها لا بها، وحديث الاستكمال يرده أن الاستكمال إنما يلزم لو توقف الفعل على ذلك السبب حقيقة واللازم باطل لقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:
٨٢] فالأسباب مؤثرة بقوى أودعها الله تعالى فيها ولكن بإذنه وإذا لم يأذن وحال بينها وبين التأثير لم تؤثر كما يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: ١٠٢] ولو لم يكن في هذه الأسباب قوى أودعها العزيز الحكيم لما قال سبحانه: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: ٦٩] إذ ما الفائدة في القول وهي ليس فيها قوة الإحراق وإنما الإحراق منه تعالى بلا واسطة ولو كان الأمر كما ذكروا لكان للنار أن تقول: إلهي ما أودعتني شيئا ولا منحتني قوة وما أنا إلا كيد شلّاء صحبتها يد صحيحة تعمل الأعمال وتصول وتجول في ميدان الأفعال أفيقال لليد الشلاء لا تفعلي وفي ذلك الميدان لا تنزلي ولا يقال ذلك لليد الفعالة وهي الحرية بتلك المقالة، ولا أظن الأشاعرة يستطيعون لذلك جوابا ولا أراهم يبدون فيه خطابا، وهذا الذي ذكرناه هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل الله تعالى بالقبول، ولا يوقعنك في شك منه نسبته للمعتزلة فإنهم يقولون أيضا لا إله إلا الله أفتشكّ فيها لأنهم قالوها معاذ الله تعالى من التعصب فالحكمة صالة المؤمن والحق أحق بالاتباع والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً نهي معطوف على- اعبدوا- مترتب عليه فكأنه قيل: إذا وجب عليكم عبادة ربكم فلا تجعلوا لله ندا وأفردوه بالعبادة إذ لا رب لكم سواه وإيقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات بعد تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التي عليها يدور أمر الوحدانية واستحالة الشركة والإيذان باستتباعها لسائر الصفات وقيل: لفظ الرب مستعمل في المفهوم الكلي. والله علم للجزئي الحقيقي الواجب الوجود تعالى شأنه فلا يكون من وضع المظهر موضع المضمر، وحينئذ يظهر الفرق بين هذه الآية الكريمة- حيث علق العبادة بصفة الربوبية فالمناسب الفاء- وبين قوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: ٣٦] حيث علق العبادة وعدم الشرك بذاته تعالى فالمناسب الواو، فلا يرد أن المناسب على هذا الواو كما في الآية الثانية أو نفي منصوب بإضمار- أن- جواب للأمر كما قاله مولانا البيضاوي، واعترض بأنه يأباه إن ذلك فيما يكون الأول سببا للثاني، ولا ريب في أن العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو أصلها ومنشؤها، وأجيب بأن عبادته تعالى أساسها التوحيد وعدم الإشراك به، وأما عبادة الرب فليس أصلها عدم الإشراك بذاته تعالى بل من متفرعاته، والحق أن الآية تضمنت عبادة رب موصوف بما
192
يجعله كالمشاهد من خلقه لهم ولأصولهم وإبداع الكائنات العظيمة والتفضل بإفاضة النعم الجسيمة فدلت عليه دلالة عرفتهم به، فمحصلها اعبدوا الله تعالى الذي عرفتموه معرفة لا مرية فيها، ولا شك في أن العبادة والمعرفة سبب لعدم الإشراك إذ من عرف الله تعالى لا يسوي به سواه فالذي سول للمعترض النظر للعبادة وقطع النظر عن المعرفة، ويحتمل أن يكون متعلقا بلعل فينصب الفعل نصب فَأَطَّلِعَ على قراءة جعفر من لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [غافر: ٣٦] إلخ على رأي (١) إلحاقا بالأشياء الستة لأنها غير موجبة لحصول ما يتضمنها فتكون كالشرط في عدم التحقق، والقول بالإلحاق لها بليت- تنزيلا للمرجو منزلة المتمنى في عدم الوقوع- يؤول إلى هذا إن أريد بعدم الوقوع عدمه في حال الحكم لا استحالته، والمعنى خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه فافهم، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي- بتأويل القول- خبر عن الذي على جعله مبتدأ، وقيل: الجملة متعلقة بالذي، والفاء جزاء شرط محذوف، والمعنى هو الذي جَعَلَ لَكُمُ ما ذكر من النعم المتكاثرة، وإذا كان كذلك فَلا تَجْعَلُوا إلخ، والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو- صيرت الحديد سيفا، ومنه ما تقدم على وجه- يكون بالقول والعقد- والأنداد- جمع ند- كعدل وأعدال أو نديد- كيتيم وأيتام- والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح، وأصله من ند ندودا إذا نفر، وقيل: الند المشارك في الجوهرية فقط، والشكل المشارك في القدر والمساحة، والشبه المشارك في الكيفية فقط، والمساوي في الكمية فقط، والمثل عام في جميع ذلك، وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون الله أَنْداداً والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله. وإنما عبدوها- لتقربهم إليه سبحانه زلفى- إشارة إلى استعارة تهكمية حيث استعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما استعير التبشير للإنذار والأسد للجبان، وإن أريد بالند النظير مطلقا لم يكن هناك تضاد وإنما هو من استعارة أحد المتشابهين للآخر، فإن المشركين جعلوا الأصنام- بحسب أفعالهم وأحوالهم- مماثلة له تعالى في العبادة، وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم، ولعل الأول أولى، وفي الإتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا أَنْداداً لمن يستحيل أن يكون له ند واحد، ولله در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي الله تعالى عنه حيث يقول في ذلك:
أربّا واحدا أم ألف ربّ أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الرجل البصير
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حال من ضمير فَلا تَجْعَلُوا والمفعول مطروح- أي وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي- فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه، أو مقدر حسبما يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم، أي تَعْلَمُونَ أنه سبحانه لا يماثله شيء، أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الأهلية، وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول، ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ- باعتبار بعض أفراد المخاطبين بإلهي بناء على عموم الخطاب حسبما مر في الأمر- فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمرا ونهيا بل قيل: إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الانتظام إذ لا
(١) فإنه قيل: يعطف أطلع على معنى (لعلى أبلغ) لأنه بمعنى أن أبلغ، ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد. ولبس عباءة وتقر. اهـ منه.
193
محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل.
وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما اقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: ٥٤] ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار، وقد يقال: إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه- خلقهم والذين من قبلهم- ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل، وهي أيضا تسمى فراشا، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلا للولد الذي يخرج من الأم، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية:
تأمل في رياض الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار، والعطف إما على قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أو على فَلا تَجْعَلُوا وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفى الشرك- بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه- أرشدهم بما يوجب هذا العلم، ولذا لم يقل جل شأنه- وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا- غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعا ولو أريد ذلك لكفى- اعبدوا، ولا تشركوا- من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن، وقيل لليهود: لما أن سبب النزول- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشبه الوحي وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [هود: ١١٠] وقيل: هو على نحو الخطاب في اعْبُدُوا وكلمة إِنْ إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله، أو لتغليب- من لا- قطع بارتيابهم على من سواهم، أو لأن البعض لما كان مرتابا والبعض غير مرتاب جعل الجميع- كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه- وجعلها بمعنى إذ كما ادعاه بعض المفسرين- خلاف مذهب المحققين- وإيراد كلمة- كان- لإبقاء معنى المضي فإنها لتمحضها للزمان لا تقلبها- إن- إلى معنى الاستقبال- كما ذهب إليه المبرد وموافقوه- والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية،
194
وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن، أو تبين مثلا ولا يميل إليه الفؤاد، وتنكير الريب للإشعار بأن حقه- إن كان- أن يكون ضعيفا قليلا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله، وجعله ظرفا- بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم- لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، ومن ابتدائية صفة رَيْبٍ ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلا للريب وحاشاه، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب، وقيل: عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه. ومعنى كونهم في- ريب منه- ارتيابهم في كونه وحيا من الله تعالى شأنه، والتضعيف في نَزَّلْنا للنقل وهو المرادف للهمزة، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب- أنزلنا- وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: ٣٢] وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير (١) ممن يعقد عند ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبا (٢) في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو- فتحت وقطعت- ونزلنا- لم يكن معتديا قبل، وأيضا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديا فلا، والفعل هنا كان لازما فكون التعدي مستفادا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير، وأيضا لو كان نزل مفيدا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إلى تأويل لمنافاة العجز الصدر، وكذا مثل لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [الأنعام: ٣٧] ولَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء: ٩٥] وقد قرىء بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلا قليلا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلا قليلا قالوا: ونظيره تدرج وتدخل ونحوه- رتبه- أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازا أو اشتراكا فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة، وفي تعدي- نزل- بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل
عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول. وفي ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم- بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة- تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله تعالى عليه وسلم:
لا تدعني إلا بيا عبدها... فإنه أشرف أسمائي
وقرىء- عبادنا- فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه، وبعضهم (٣) جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الإنعام: ٩١] وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه- مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى- بنا- المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم
(١) الزمخشري، والبيضاوي، وأبو السعود، وغيرهم اهـ منه.
(٢) قلنا ذلك لورود موتت الإبل.
(٣) هو أبو حيان اهـ منه.
195
الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام، والفاء من فَأْتُوا جوابية وأمر السببية ظاهر، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى: فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: ٢٥٨] وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان، ويقال في الخير والشر والأعيان والأعراض، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: ٥٤] وأصل فَأْتُوا فأتيوا فأعل الإعلال المشهور، وأتى شذوذا حذف الفاء فقيل «ت» و «توا» والتنوين في سورة للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
ومِنْ مِثْلِهِ إما أن يكون ظرفا مستقرا صفة لسورة والضمير راجع إما- لما- التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين، والأخفش يجوز زيادتها في مثله، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر، وإما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضا (١) كما قيل: في مثلك لا يجهل، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ مِنْ التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون مِنْ للابتداء مثلها في إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ [النمل: ٣٠] ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة فَأْتُوا.
والشائع أن يتعين حينئذ عود الضمير للعبد لأن مِنْ لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقرا أبدا لا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في- أخذت من الدراهم- ولا معنى لاتيان البعض بل المقصد الإتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود مِنْ ولأنه يلزم أن يكون بِسُورَةٍ ضائعا فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفا- للإتيان بالكلام منه- معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للإتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي، أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة، ومساق الكلام بمعونة المقام.
واعترض بأن معنى مِنْ لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: ٣٨] لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً [الزخرف: ٦٠] وللمجاوزة كعذت منه، فعلى هذا- لو علق مِنْ مِثْلِهِ ب فَأْتُوا وحمل مِنْ على البدل أو المجاوزة ومثل- على المقحم ورجع الضمير إلى مِمَّا نَزَّلْنا على معنى فَأْتُوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة- لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه: وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو- قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار- وأيضا فالإتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا
(١) وبعضهم يقول على التبعيض المراد ائتوا بمقدار بعض ما من القرآن مماثل له في البلاغة ولا إشكال فيه اهـ منه.
196
يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال- وهو الذي اختاره مولانا الشهاب- أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم: معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير- لما- أو- للعبد- لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضا، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضا- ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله- فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه- ائتوا- من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن مِنْ ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعليا بل ماديا، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعي وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتض أولا ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد، ومِمَّا على تقديري اللغو والاستقرار أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي- ولا أزكّي نفسي- أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجاربردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل. وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله، ونقلت نبذة منها في- الأجوبة العراقية- ثم أولي الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل ومِنْ بيانية، أما أولا فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: ٣٨] لأن المماثلة فيها صفة للمأتي به، وأما ثانيا فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم، وأما ثالثا فلأن أمر الجم الغفير- لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم- أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدا يأتي بمثل ما أتى به رجل آخر، وأما رابعا فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله تعالى عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأن الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر- ما نزلنا- أن يكون الكلام مسوقا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أمي كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه، وظاهر السباق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرا كما سنبينه بمنه تعالى، قوله تعالى:
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الدعاء النداء والاستعانة، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به، ومنه أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الإنعام: ٤٠] والشهداء جمع شهيد أو شاهد، والشهيد كما قال الراغب: كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد، ولذا سموا غيره مخلفا وجاء بمعنى الحاضر، والقائم بالشهادة، والناصر، والإمام أيضا. ودُونِ ظرف مكان لا يتصرف ويستعمل- بمن- كثيرا- وبالياء- قليلا، وخصه في البحر بمن «دونها» ورفعه في قوله:
197
ألم تريا أني حميت حقيقتي وباشرت حد الموت والموت «دونها»
نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو- كعند- إلا أنها تنبىء عن دنو كثير وانحطاط يسير، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافا للبيضاوي- كما قيل- لأنه من الديوان الدفتر ومحله، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه. وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف- كدون زيد في القامة- ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب الحسية- كدون عمرو شرفا- ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط، وهو بهذا المعنى قريب غير فكأنه أداة استثناء، ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله:
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع «بالدون» من كان دونا
وما في القاموس من أنه يقال رجل من دون، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية، وليس عندي وجه وجيه في توجيهه، والمشهور أنه ليس لهذا فعل، وقيل يقال: دان يدين منه واستعماله بمعنى فضلا وعليه حمل قول أبي تمام:
الود للقربى ولكن عرفه للأبعد الأوطان «دون» الأقرب
لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا: يكون بمعنى وراء- كأمام- وبمعنى فوق ونقيضا له. ومِنْ لابتداء الغاية متعلقة بادعوا، ودون تستعمل بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال، والمعنى ادعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه، والأمر للتعجيز والإرشاد أو ادعوا من دون الله من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثلة فإنهم لا يشهدون، ولا تدعوا الله تعالى للشهادة بأن تقولوا الله تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت- والشهيد- على الأول بمعنى الحاضر، وعلى الثاني بمعنى الناصر، وعلى الثالث بمعنى القائم بالشهادة، قيل: ولا يجوز أن يكون بمعنى الإمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكما، ولو قيل: ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان إذ لا دخل لإخراج الله تعالى عن الدعاء في التهكم، وفيه أن أي تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد؟ ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون بمعنى القدام إذ لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي الله تعالى أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا، وجوزوا أن تتعلق من ب «شهداءكم» وهي للابتداء أيضا، ودُونِ بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافة- الشهداء- أعني الاتخاذ، والمعنى ادعوا الذين اتخذتموهم أولياء مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون دُونِ بمعنى أمام حقيقة أو مستعارا من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول- لشهداء- ويكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى الاعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا، ومِنْ للتبعيض كما قالوا في مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرعد: ١١، الجن: ٢٧] لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل. أنها زائدة، وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها ابتدائية، والمعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله عز وجل على زعمكم، والأمر للتهكم، وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما اعتقدوه من أنها من الله تعالى بمكان، وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قيل: هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم- فلا عطر بعد عروس، وما وراء عبادان قرية- ولم تجعل دُونِ بمعنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا
198
وجه للإخراج، وقيل يجوز أن تكون مِنْ للابتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف، والمعنى- ادعوا شهداءكم- من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء الله ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل: تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذنب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذارا من اللائمة وأنفة من الشهادة البتة البطلان، كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل؟ وإخراج الله تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه، والالتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه- والصدق- مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة، والجواب إِنْ محذوف لدلالة الأول عليه وليس هو جوابا لهما، وكذا متعلق الصدق أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بزعمكم في أنه كلام البشر أو في أنكم تقدرون على معارضته- فأتوا، وادعوا- فقد بلغ السيل الزبى، وهذا كالتكرير للتحدي والتأكيد له، ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الارتياب لتقدمه مما لا ارتياب في تأخره لأن الارتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب، والقول بأن المراد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في احتمال أنه كذا مع ما فيه من التكلف لا يجدي نفعا لأن الاحتمال شك أيضا
، ومن التكلف بمكان قول الشهاب: إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة، وتوضيح المحجة، فالمعنى إن ارتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا هذا، ووجه ملائمة الآية- لما قلناه في الآية السابقة- أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالاستعانة إما حقيقة أو تهكما بكل ما يعينهم بالإمداد في الإتيان في- المثل- أو بالشهادة على أن المأتي به- مثل- ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحدا منهم فإنهم باعثون له على الإتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له، وإن صح نسبته إليهم- باعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة- ليس بشيء لأنه شهادة على المماثلة ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضا، وقد أورد هاهنا أمور طويلة لا طائل تحتها.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود- وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الإتيان بمثله وما يداينه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم- فآمنوا واتقوا النار، وأتى- بأن- والمقام- لإذا- لاستمرار العجز- وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير- تهكما بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك، وتحميقا لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح، ففي الآية استعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر، وقد يقال عبر بذلك نظرا لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم، وتَفْعَلُوا مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين إن، وإن تخيل، وقد صرح ابن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن ابن العلج أجازه استدلالا بهذه الآية، ورد بأن إن تطلب مثبتا، ولَمْ منفيا، وشرط التنازع الاتحاد في المعنى- فإن هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال: فإن تركتم الفعل، فيفيد الكلام استمرار عدم الإتيان المحقق
199
في الماضي وبهذا ساغ اجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الاستقبال والمضي تناف، نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل: وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو- إن لم يقمن- وإن كان للجملة رد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلا مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى، وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر- فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام- ظاهرا لإيجاز القصر، وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة استحالته، وإن مناط الجواب في الشرطية- أعني الأمر بالاتقاء- هو عجزهم عن إيقاعه لا فوت حصول المقصود، وقيل: أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال، أو على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرير، والظاهر أن فيما عبر به إيجازا وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره، وإن لم يكن مرادا وَلَنْ كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالاختصاص بالمضارع، وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله:
«لن» يخب الآن من رجاك ومن حرك من دون بابك الحلقة
و: لا تقتضي النفي على التأبيد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولأطول مدة أو قلتها خلافا لبعضهم، وليس أصلها- لا أن- كما روي عن الخليل: فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار «لن» تضرب كلاما تاما دون أن ومصحوبها، وقيل: به لقوله:
يرجى المرء ما «لا أن» يلاقيه ويعرض دون أقربه الخطوب
واحتمال زيادة أن يوهن الاحتجاج ولا- كما عند الفراء- فأبدلت ألفه نونا إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل، والجملة اعتراض بين جزئي الشرطية ظاهرا مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها، وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي؟ وما أتى به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لم يقصد به المعارضة وإنما ادعاه وحيا.
وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه وبهذا يندفع ما يتوهم من أن اتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق، وأيضا الشرط سبب أو ملزوم للجزاء، وليس عدم الفعل سببا للاتقاء ولا ملزوما له فكيف وقع جزاء له، وبعضهم قدر لذلك جوابا، والتزمه جملة خبرية لأن الانشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبرا إلا بتأويل، والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضى له، والوقود- بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار، وكذا كل ما كان على فعول اسم لما يفعل به في المشهور، وقد يكون مصدرا عند بعض، وحكوا ولوعا، وقبولا، ووضوءا، وطهورا، ووزوعا، ولغوبا. وقرأ عبيد بن عمير- وقيدها- وعيسى بن عمرو وغيره وَقُودُهَا بالضم، فإن كان اسما لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدرا- كما قيل في سائر ما كان على فعول- فحمله على النار للمبالغة أو للتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولا كذو وقودها أو ثانيا- كاحتراق- وهو نفسه خارجا غيره مفهوما وذاك مصداق الحمل، وحكي إن من العرب من يجعل المفتوح مصدرا والمضموم اسما فينعكس الحال فيما نحن فيه وَالْحِجارَةُ كحجار جمع كثرة لحجر، وجمع القلة أحجار وجمع فعل- بفتحتين- على فعال شاذ، وابن مالك في التسهيل يقول: إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر، والمراد بها على ما صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، ولمثل
200
ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت، وفيها- من شدة الحر وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان، وإعداد أهل النار أن يكونوا حطبا مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة (١) - ما نعوذ بالله منه، وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد، وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم، وقيل: المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة وزيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون، وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني، ويؤيد هذا قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: ٩٨] وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجرا- كما في القاموس- دون هذين القولين، الأصح أولهما عند المحدثين، وثانيهما عند الزمخشري ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وأل فيها- على كل- ليست للعموم، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، وذكر النَّاسُ وَالْحِجارَةُ تعظيما لشأن جهنم وتنبيها على شدة وقودها ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهو خلاف الظاهر والمتبادر من الآيات، ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الاقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضا، نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره: إنهم لهبها وأولئك جمرها، وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقادا من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف، وإنما عرف النار وجعل الجملة- صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولا فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهودا فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك- الخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون، وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولا مقالا فتأمل أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ابتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة اعتناء بشأنه بجعله مقصودا بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد، وجعله استئنافا بيانيا بأن يقدر لمن أعدت أو لم كان وقودها كذا وكذا، فمع عدم مساعدة عطف- بشر- الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه
لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الاستئناف لا يجب أن يكون استئنافا يأبى عنه الذوق، أما الأول فلأن السياق لا يقتضيه، وأما الثاني فلأن المقصد من الصلة التهويل، فالسؤال- بلم كان شأن النار كذا- مما لا معنى له، والجواب غير واف به وجعله حالا من النار- بإضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير وَقُودُهَا للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجنبي حينئذ- ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة بمنزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة، ولذا قيل: إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والأخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد، أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به ابن مالك وجعله صلة. ووَقُودُهَا النَّاسُ إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، ومعنى أُعِدَّتْ هيئت، وقرأ عبد الله- اعتدت- من العتاد بمعنى العدة، وابن أبي عبلة- أعدها الله للكافرين- والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الإعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة
(١) كما قال سبحانه: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ اهـ منه.
201
إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار، ثم ما يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الآن والله تعالى أعلم بمكانها في واسع ملكه، وجعل المستقبل لتحققه ماضيا- كنفخ في الصور- والإعداد مثله في أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً [الأحزاب: ٣٥] كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر، والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرورها هواء محترق لا جمر لها البتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون الله تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الإنس والجن الذين يدخلونها، ولذا يختلف عذاب داخليها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين، فهذا كله يزاد إلى ما هو الآن.
ولذا كان يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: إذا رأى البحر يا بحر متى تعود نارا، وكان يكره الوضوء بمائة ويقول: التيمم أحب إليّ منه وقال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير: ٦] أي أججت، وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى: غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: ٤٦] وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم، والإحساس والحيوانية، ومعنوية وهي الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: ٧] وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى، والمخالفة وهي عين الجهل بمن استكبر عليه أشد العذاب، وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب، وحقيقة الأمر عندي لا يعلمها إلا الله تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية- وماذا علي إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار- وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والانذار- عقب بالمؤمنين وما لهم جريا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وينفعه اللطف، ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة، والتناسب بينهما باعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين، وهل هو معطوف على وَإِنْ كُنْتُمْ إلى أُعِدَّتْ أو على فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا الآية قولان؟ اختار السيد أولهما، وادعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة، وأدعى لتلاؤم النظم لأن يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا خطاب عام يشمل الفريقين وَإِنْ كُنْتُمْ إلخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار وَبَشِّرِ إلخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته، ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق، والسعد اختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم وقيل عطف على فَاتَّقُوا وتغاير المخاطبين لا يضر ك يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي [يوسف: ٢٩] وترتبه على الشرط بحكم العطف باعتبار أن- اتقوا- إنذار وتخويف للكفار وَبَشِّرِ تبشير للمؤمنين، وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم- استيجاب منكره- العقاب، ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت، واستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير، فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه بلا فرق، وقد يقال إن الجزاء فآمنوا محذوفا والمذكور قائم مقامه فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فآمنوا وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير، وفيه حث لهم على الإيمان، ولعله أقل مؤنة، واختار صاحب الإيضاح عطفه على- أنذر- مقدرا بعد جملة أُعِدَّتْ وقيل: عطف على- قل- قبل فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وتقديره قبل يا أَيُّهَا النَّاسُ يحوج إلى إجراء مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا على طريقة كلام العظماء، أو تقدير قال الله بعد قل، والبشارة- بالكسر والضم- اسم من بشر بشرا وبشورا- وتفتح الباء- فتكون بمعنى الجمال، وفي الفعل لغتان، التشديد وهي العليا،
202
والتخفيف وهي لغة أهل تهامة، وقرىء بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول، فإن واحدا كان فعل فيه مغنيا عن فعل، وفسروها في المشهور، وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المخبر علم به، واشترط بعضهم أن يكون صدقا، وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزنا أو سرورا وكثر استعماله في الخير، وصححه في البحر فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١، التوبة: ٣٤، الانشقاق: ٢٤] ظاهر عليه، ومن باب التهكم على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: كل من يتأتى منه ذلك كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «بشر المشائين إلى المساجد» الحديث
ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعا لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله، ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا تاما بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم، وقيل: تغيير للأسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين، وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم حلة عبوديته في قوله: مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم، وفي ذلك من اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم وبهم ما لا يخفى.
وقرأ زيد بن علي وبشر مبنيا للمفعول وهو معطوف على أُعِدَّتْ كما اشتهر، وقيل: إنه خبر بمعنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفا، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده، وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان، ومتعلق آمَنُوا مما لا يخفى، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عز وجل، والصَّالِحاتِ جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحا وصلاحا خلاف فسدت، ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره، وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسما وأل- فيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الاثنان، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلا أو عمل عملا واحدا غير داخل في الآية، ومعرفة كونه مبشرا من مواقع أخر، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلا كان أو كثيرا، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد، وليس هذا توزيعا في المشهور- كركب القوم دوابهم- إذ قد يطلق أيضا على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد- كالمثال- أو الجمع الواحد- كدخل الرجال مساجد محلاتهم- أو العكس- كلبس القوم ثيابهم- ومنه فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: ٦] والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أراد سبحانه ب أَنَّ لَهُمْ إلخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لاطراد حذف الجار مع- أنّ، وأن- بغير عوض لطولهما بالصلة، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور، وفي المحل بعد الحذف قولان، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام
203
الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلا وكرما لكن بشرط الموت على الإيمان، والجنة- في الأصل المرة من الجن- بالفتح- مصدر جنه إذا ستره، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل فإن كرم ففردوس، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى (١) بمعنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم «مالا، ولا» مما هو مغيب الآن عنا، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال، وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفّاظ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسرّ للسامع، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة ك إِنَّ لَنا لَأَجْراً [الأعراف: ١١٣] وتحت- ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير مِنْ كما نص عليه أبو الحسن، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل- من تحت أشجارها- أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخداما ونحوه، وقيل: إن «تحت» بمعنى جانب- كداري تحت دار فلان- وضعف كالقول- من تحت أوامر أهلها- وقيل:
منازلها، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية- كما قيل- بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لاطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس:
وتحدث الماء الزلال مع الحصى فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
والأنهار جمع نهر- بفتح الهاء وسكونها- والفتح أفصح، وأصله الشق، والتركيب للسعة ولو معنوية- كنهر السائل- بناء على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان: أشهرهما الأول، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها، وتأنيث تَجْرِي رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف «أولا، ولا» والإسناد مجازي، وأل- للعهد الذهني قيل:
أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ [محمد: ١٥] الآية فإنها مكية على الأصح، وذي مدنية نزلت بعدها، واستبعده السيد والسعد، وقيل: عوض عن المضاف إليه- أي أنهارها- وهو مذهب كوفي، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطىء الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج، ولا يخفى الكلام على جمع القلة.
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ صفة ثانية لجنات أخّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار- من تحتها- وصف لها باعتبار ذاتها، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف- أي هم- والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة، وكون الكلام مسوقا لبيان أحوال المؤمنين، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لاسميتها، ومعنى لكونها جواب سؤال- كأنه قيل: ما حالهم في تلك الجنات؟ - فأجيب بأن لهم فيها ثمارا لذيذة عجيبة وأزواجا نظيفة وَهُمْ فِيها خالِدُونَ وتقدير المبتدأ هو أو هي- للشأن أو القصة- ليس بشيء بناء على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير، وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة اسمية، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة- كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن
(١) وهو قوله: كأن عيني في غربي.
204
ثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد؟ - كان أصح وأوضح، وأجاز أبو البقاء كونها حالا من الَّذِينَ أو من جَنَّاتٍ لوصفها وهي حينئذ حال مقدرة والأصل... (١) الصاحبة، والقول: بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لاحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة، وكُلَّما نصب على الظرفية ب قالُوا ورِزْقاً مفعول ثان- لرزقوا- كرزقه مالا أي أعطاه، وليس مفعولا مطلقا مؤكدا لعامله لأنه بمعنى المرزوق أعرف، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له، وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعا لذيذا غير ما تعرفونه، ومِنْ الأولى والثانية للابتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعا انفصل عنه الشيء، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو- إلى، وهما ظرفان مستقران واقعان حالا على التداخل، وصاحب الأولى رِزْقاً والثانية ضميره المستكن في الحال، والمعنى كل حين رزقوا- مرزوقا- مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، والشائع كونهما لغوا، والرزق قد ابتدأ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وجعل بمنزلة أن تقول أعطاني فلان فيقال: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقول: من أي ثمرة؟ فتقول: من الرمان، وتحريره أن رُزِقُوا جعل مطلقا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدا بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة، وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداء من غير تبعية. وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع- كالتفاح والرمان- لا الفرد لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة منه لا جميعه وهو ركيك جدا، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافا لمن وهم فيه وقع حالا من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديرا جاز تقديم المبين على المبهم، والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنأة الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول، ورِزْقاً مصدر مؤكد أو في موقع الحال من رِزْقاً لبعده مع أن الأصل التبيين والابتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزاء لمجرورها لا جزئيا فتأتي الركاكة هاهنا، وجمع سبحانه بين مِنْها ومِنْ ثَمَرَةٍ ولم يقل- من ثمرها- بدل ذلك لأن تعلق مِنْها يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس، وتعلق مِنْ ثَمَرَةٍ يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيرا إلى نهر جاء هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه، والإخبار عنه ب الَّذِي إلخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع
وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات، أو لتبيين المزية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة، والتشابه في الصورة إما مع الاختلاف في الطعم- كما روي عن الحسن «إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك؟ فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف» أو مع التشابه في الطعم أيضا كما يشير إليه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والذي نفس
(١) بياض فبي الأصل قدر كلمة.
205
محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها»
فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم.
والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن كُلَّما تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم، وقيل: كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم، على أن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته- لمتشابها- بعد فإنه في رزق الجنة أظهر، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه بمنه تعالى، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: ٥٥] أي جزاءه- فالذي رزقناه- مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء- كمالا في- أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر، وقيل: أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً تذييل للكلام السابق- وتأكيد له بما يشتمل على معناه- لا محل له من الإعراب، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير «قد» وهو شائع، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرا الخدم الولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي «وأتوا» على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إلى قوله سبحانه وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد- من قبل- في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان هذا- والَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وهو المرزوق في الدارين- أي أوتوا بمرزوق الدارين متشابها بعضه بالبعض- ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع الى الملفوظ لقيل بهما، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، وفي الكشف أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد. قال أبو حيان: والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه- بالذي رزقوه من قبل- ولان هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة- أنه متشابه ليس من حديث الجنة- إلا بتكلف، ولا يعكر- على دعوى متشابه ما في الدارين- ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء» لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد، وهاتان بالاسمية لإفادة الدوام، وترك العاطف في البعض- مع إيراده في البعض- قيل: للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان، وجوز أن تكون الثانية حالا من ضمير الجمع في لَهُمْ والعامل فيها معنى الاستقرار- والأزواج- جمع قلة وجمع الكثرة زوجة- كعود وعودة- ولم يكثر استعماله في الكلام، وقيل: ولهذا استغني عنه بجمع القلة توسعا، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من
206
الحور وغيرهن، ويقال: الزوج للذكر والأنثى، ويكون لأحد المزدوجين ولهما معا، ويقال: للأنثى زوجة في لغة تميم، وكثير من قيس، والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره، وليس في المفهوم اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد، على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثارا في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام، وذكر بعضهم
أن الأولاد روحانيون والله قادر على ما يشاء. ومعنى كونها مُطَهَّرَةٌ أن الله سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن، فإن كن من الحور كما روي عن عبد الله- فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي، وإن كن من بني آدم- كما روي عن الحسن- «من عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب» فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها. والتطهير- كما قال الراغب- يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعا، فيكون عاما هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقا منصرفا إلى الكامل، وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل: فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع، وقرأ زيد بن علي- مطهرات- بناء على طهرن لا طهرت- كما في الأولى- ولعلها أولى استعمالا، وإن كان الكل فصيحا لأنهم قالوا: جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة، فإن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء ك فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة: ٢٣٤، الطلاق: ٢] ويُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة: ٢٣٣] ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة، ومجيء هذه الصفة مبينة للمفعول، ولم تأت طاهرة- وصف من طهر- بالفتح على الأفصح، أو طهر بالضم، وعلى الأول قياس، وعلى الثاني شاذ للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهرا وليس سوى الله تعالى، وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه؟! وقرأ عبيد بن عمير «مطهرة» وأصله متطهرة فأدغم ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل:
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة، والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وعندنا البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع، واستعماله في المكث الدائم من حيث إن مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا، وقد شهدت له الآيات والسنن، والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها، والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر، والأولية تقدمه على جميع المخلوقات، والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي، ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال، ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان جاهلا تعالى عن ذلك، وإن علم لزم الانتهاء وهو بعد الفناء، ولنا النصوص الدالة على التأييد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن. والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل:
البؤس خير من نعيم زائل، والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص، ومعنى «الأول والآخر» ليس كما في الشاهد بل بمعنى لا ابتداء ولا انتهاء له في ذاته من غير استناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم، والخلق ليسوا كذلك، فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى، وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد؟! أفيقال: إن الله سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية. تبا للجهمية ما أجهلهم، وأجهل منهم من قال: إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك فكيف يمكن التأبيد، وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة، وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم
207
الكون والفساد؟! على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرا مختارا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلم لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل، أو إن تحللت فلم لا يجوز أن يخلق بدل ما تحلل دائما أبدا؟ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت، والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا: إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية. ووجه ربطها بما تقدم على هذا- وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلا- أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب، وقال مجاهد وغيره: نزلت في المنافقين، قالوا- لما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد، والصيب- الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه، وقيل: إنها متصلة بقوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا لهذه الأنداد، وقيل: هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت، كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤوا منها هلكوا، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثوابا وعقابا، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه. وما انفكت الأمثال في الناس سائرة. والحياء- كما قال الراغب- انقباض النفس عن القبائح، وهو مركب من جبن وعفة، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياة فهما متغايران وإن تلازما، وقال بعضهم: الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله، وما في القاموس خجل استحى تسامح، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة- وللناس في ذلك مذهبان- فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناء على ما روي أنهم قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب، والعنكبوت، وبعض- وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله- مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث- على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة، وقرأ الجمهور يستحيي بياءين والماضي استحيا، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر، وقرأ ابن كثير في رواية- وقليلون- بياء واحدة وهي لغة بني تميم، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع. أو
العين فالوزن يستفل؟
قولان: أشهرهما الثاني، وهذا الفعل مما يكون متعديا بنفسه وبالحرف فيقال: استحييته واستحيت منه، والآية تحتملهما. والضرب إيقاع شيء على شيء، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره، فمعنى يضرب هنا يذكر، وقيل: يبين. وقيل: يضع من ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [آل عمران: ١١٢] وما اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد، وقد يفيد التحقير أيضا- كاعطه شيئا ما- والتعظيم- كالأمر ما جدع قصير أنفه- والتنويع- كاضربه ضربا ما- وقد تجعل سيف خطيب، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء، وبعوضة إما صفة- لما- أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من مَثَلًا أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة، أو مفعول ومَثَلًا حال وهي المقصودة، أو منصوب على نزع الخافض أي
208
ما من بعوضة فَما فَوْقَها كما نقل عن الفراء. والفاء بمعنى إلى، أو مفعول ثان أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء؟ فالمعنى لا يترك مَثَلًا ما استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده، وقرأ ابن أبي عبلة، وجماعة: بعوضة بالرفع والشائع على أنه خبر، واختلفوا فيما يكون عنه خبرا فقيل مبتدأ محذوف- أي هي، أو هو- بعوضة، والجملة صلة ما على جعلها موصولة، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول، وقيل: ما بناء على أنها استفهامية مبتدأ، واختار فى البحر أن تكون ما صلة أو صفة وهي بَعُوضَةً جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام، وقيل: بَعُوضَةً مبتدأ، وما نافية والخبر محذوف- أي متروكة- لدلالة لا يَسْتَحْيِي عليه.
«والبعوضة» واحد البعوض، وهو طائر معروف، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود. وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع، ولذا سمي في لغة هذيل- خموش- فغلبت، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع فَما فَوْقَها الفاء عاطفة ترتيبية، وما عطف على بَعُوضَةً أو «ما» إن جعل اسما والتفصيل وما فيه غير خفي. والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترقّ من الصغير للكبير، وبه قال ابن عباس، أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا: إن جعلت «ما» موصولة ففيه الوجهان، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك، وقيل: أراد- ما فوقها- وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] فافهم.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي إلخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها. وكأنه قيل كما قيل فيضربه فَأَمَّا الَّذِينَ إلخ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبا، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحا، أو دلالة، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرا، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى- من المحققين- أغلبيا، وفسر سيبويه- أما زيد فذاهب- بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم، والفعل إذ لا نظير له، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك. ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه، ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبا، وقامت- أما ذلك المقام- لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم، وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا، وقد يقدم على الفاء- كما في الرضى- من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذم ما لا يخفى. والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى، والضمير في أَنَّهُ للمثل، وهو أقرب، أو لضربه المفهوم من أن يضرب، وقيل: لترك الاستحياء المنقدح مما
209
مر، وقيل: للقرآن والْحَقُّ خلاف الباطل، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت، وقال الراغب: أصله المطابقة والموافقة، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع، وقيل: إنه الحكم المطابق، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق، والصدق في القول كذلك، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال- هذا هو الحق- أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف، ومِنْ رَبِّهِمْ إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق، ومِنْ لابتداء الغاية المجازية، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: ٢٨، ٣٠] وقيل: في ذلك- مع الإضافة إلى الضمير- تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم، والجملة سادة مسد مفعولي- يعلمون- عند الجمهور، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي فَيَعْلَمُونَ حقيته ثابتة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا لم يقل سبحانه- وأما الذين كفروا فلا يعلمون- ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة:
ومن قال للمسك أين الشذا... يكذبه ريحه الطيب
قيل: ولم يقل سبحانه هناك- وأما الذين آمنوا فيقولون- إلخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كاخفاء الجمر في الحلفاء، وقيل: إن- يقولون- لا يدل صريحا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند فَيَقُولُونَ إلخ أشمل وأجمع، وماذا لها ستة أوجه في استعمالهم. الأول أن تكون «ما» استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا- بمعنى الذي خبره، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناء على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام. وغيره يجعل النكرة خبرا عن الموصول. الثاني أن تكون ماذا كلها استفهاما مفعولا- لأراد- وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ [النور: ٤٠]، الثالث أن يجعل- ما- استفهامية، وذا- صلة لا إشارة ولا موصولة، الرابع أن يجعلا معا موصولا كقوله. دعي ماذا علمت سأتقيه. الخامس أن يجعلا نكرة موصوفة وقد جوز في المثال، السادس أن تكون- ما- استفهامية، وذا- اسم إشارة خبر له.
«والإرادة» كما قاله الراغب: منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل، وجعل اسما لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي إلخ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد. وللمتكلمين- أهل الحق وغيرهم- في تفسيرها مذاهب، فالكلبي والنجار وغيرهما على أن إرادته
210
سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالما بها وبما فيها من المصلحة، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها، فالمعاصي إذا ليست بإرادته جل شأنه، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي، ويسمون هذا العلم عناية وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية، وموجودة لا في محل عند الأبوين، والمذاهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال- كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه- لم يذهب إليه أحد. وفي كلمة- هذا- استحقار للمشار إليه مثلها في أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: ٤١] وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام، ومَثَلًا نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه. وقد ذكر الرضى- والعهدة عليه- أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجيء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة، ويحتمل أن يكون حالا من اسم الله تعالى أو من هذا أي ممثلا أو ممثلا به أو بضربه.
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جملتان جاريتان مجرى البيان، والتفسير للجملتين المصدرتين- بأما- إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورا إلى نورهم، والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطا في ظلمتهم، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحا أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية، وصرح بعضهم بأنهما جواب-لماذا- ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيرا، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان، قيل: ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: ٢١] وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشىء من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببا له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور، فالاهتمام ببيانه أولى، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت لدى المجد حتى عد ألف بواحد
لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية، هذا وجوّز بعضهم أن يكون قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً إلخ في موضع الصفة- لمثل- فهو من كلام الكفار، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل- يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا- وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً من كلام الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في الكشاف لأنه نزغة اعتزالية، والضمير في بِهِ للمثل أو لضربه في
211
الموضعين، وقيل: في الأول للتكذيب، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام، ولا يخفى ضعفه، وقرأ زيد بن علي يُضِلُّ هنا وفيما يأتي، ويَهْدِي بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في- الثلاثة- بالبناء للفاعل، ورفعا للفاسقين- خفضهم الله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناء على قول من جوزه، وقيل:
حال، ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلا لأنه لا يصح كونه جوابا وبيانا، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه، والْفاسِقِينَ جمع فاسق من الفسق، وهو شرعا خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرا بقرينة، وهو من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره، قال ابن الأعرابي: ولم يسمع الفسق وصفا للإنسان في كلام العرب، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري، وإلا فقد قال رؤبة، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه:
يذهبن في نجد وغور أغائرا «فواسقا» عن قصدها جوائرا
على أنه يمكن أن يقال: لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء، وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل. والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق وما أجري عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا، ونصب الْفاسِقِينَ على أنه مفعول يضل أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحدا، ولا تفريغ كما في قوله:
نجا سالم والنفس منه بشدة ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ يحتمل النصب والرفع، والأول إما على الاتباع أو القطع- أي أذم- والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الابتداء، والخبر جملة أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد والنقض- فسخ التركيب، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه، ونقيضه البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد- كما قال الزمخشري- من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك: عالم يغترف منه الناس، وشجاع يفترس أقرانه.
والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية، وتحقيق البحث يطلب من محله، والعهد الموثق، وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه، واستعهد منه إذا اشترط عليه، واستوثق منه. والمراد بالعهد هاهنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله تعالى عليهم وسلم، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة
212
والسلام وأنزل الكتب مؤكدا لها، والناقضون على هذا جميع الكفار. وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره. وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه. والناقضون حينئذ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلا، والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول، وعكس بعض- ولكل وجهة- وقيل: الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السماوات والأرض عن أن يحملنها، وقيل: هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول والظاهر العموم. ومِنْ للابتداء وكون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشيء وخرج، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل، وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد- فأثر ما استوثق الله تعالى منهم نقضوه- وقيل: صلة وهو بعيد، والميثاق مفعال وهو في الصفات كثير- كمنحار- ويكون مصدرا عند أبي البقاء والزمخشري- كميعاد- بمعنى الوعد، وأنكره جماعة وقالوا: هو اسم في موضع المصدر كما في قوله:
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد «عطائك» المائة الرتاعا
ويكون اسم آلة- كمحراث- ولم يشع هذا وليس بالبعيد، والمراد به ما وثق الله تعالى به عهده من الآيات والكتب، أو ما وثقوه به من القبول والالتزام، والضمير للعهد لأنه المحدث عنه. ويجوز عوده إلى الله تعالى ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد فهو أهم من ذكر الفاعل، ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل، وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر بمعنى التوثقة، وفي الضمير الاحتمالان فإن عاد إلى اسم الله تعالى كان المصدر مضافا إلى الفاعل، وإن إلى العهد كان مضافا إلى المفعول، وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية، وأما فيها فمطرد كثير، وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤول بمشتق فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم، والوجه أنها في نية الانفصال وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ما المقطوعة موصولة، أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء، وفي المراد بها أقوال: «الأول» رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان- قاله الحسن- وفيه استعمال «ما» لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل «الثاني» القول فإنه تعالى أمر- أن يوصل- بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا، وظاهر هذا أنها نزلت في المنافقين «الثالث» التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض «الرابع» الرحم والقرابة قاله قتادة، وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم «الخامس» الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد- المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ولا دليل واضح على الخصوص. ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر- أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه، وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم- وليس بالقوي. والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون:
فَماذا تَأْمُرُونَ [الأعراف: ١١٠، الشعراء: ٣٥] ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها، وفي موجبها خلاف، وهذا هو الأمر الطلبي. وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمي الخطب والحال العظيمة شأنا. وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد. وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: ٩٧]. وأَنْ يُوصَلَ يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما أو من ضميره، والثاني أولى
213
للقرب ولأن- قطع ما أمر الله تعالى بوصله- أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه، واحتمال الرفع بتقدير هو- أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله- أي لأن- أو كراهية- أن ليس بشيء كما لا يخفى.
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم- أو بأنهم يرتكبون كل معصية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها- ولعل هذا أولى وذكر في الْأَرْضِ إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. وأُولئِكَ إشارة إلى الْفاسِقِينَ باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر- الخاسرين- عليهم باعتبار كما لهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية، واشتروا النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والقطعية بالصلة، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان- رأس المال والربح- وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم. وفي الآية ترشيح (١) للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم.
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله. وكَيْفَ اسم ما ظرف- وعزي إلى سيبويه- فمحلها نصب دائما، أو غير ظرف- وعزي إلى الأخفش- فمحلها رفع مع المبتدأ ونصب مع غيره، وادعى ابن مالك أن أحدا لم يقل بظرفيتها إذ ليست زمانا ولا مكانا لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازا، واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ. وأكثر ما تستعمل استفهاما والشرط بها قليل والجزم غير مسموع، وأجازه قياسا- الكوفيون وقطرب، والبدل منها أو الجواب إن كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخا. وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء، وهي هنا للاستخبار منضما إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيد اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به، ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال: كافر معاند وكافر جاهل؟ فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة؟ وهو يستلزم العلم بصانع موصوف بصفات الكمال منزه عن النقصان، وهو صارف قوي عن الكفر، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ، وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم. وفيه من المبالغة أيضا ما ليس في «أتكفرون» لأن الإنكار الذي هو نفي قد توجه للحال التي لا تنفك. ويلزم من نفيها نفي صاحبها بطريق البرهان، وإن شئت عممت الحال. وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق، ولا يرد أن الاستخبار محال على- اللطيف الخبير عز شأنه- لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه- وهما من المعاني المجازية للاستفهام- الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الاستخبار حقيقة للصيغة، وبين معنيين مجازيين إن كان مجازا لأن الانفهام بطريق الاستتباع واللزوم لا من حلق الوسط، أو أنه تجوّز على تجوّز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه، وإما أن يكون بمعنى الاستفهام فنقول: لا قدح في صدوره ممن
(١) لأن الخسران من لوازم التجارة، والآيات تتضمن استبدال الأمور المذكورة بنقائضها المستعار له البيع والشراء اهـ منه.
214
يعلم المستفهم عنه لأنه- كما في الإتقان- طلب الفهم. أما فهم المستفهم- وهو محال عليه تعالى- أو وقوع فهمه ممن لا يفهم كائنا من كان ولا استحالة فيه منه تعالى، وكذا لا استحالة في وقوع التعجيب منه تعالى بل قالوا: إذا ورد التعجب من الله جل وعلا لم يلزم محذور إذ يصرف إلى المخاطب أو يراد غايته أو يرجع إلى مذهب السلف، وأتى سبحانه- يتكفرون- ولم يأت بالماضي وإن كان الكفر قد وقع منهم- لأن الذي أنكر الدوام والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون في الكلام توبيخ لمن وقع منه الكفر ممن آمن كأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ما قبل ثُمَّ حال من ضمير تَكْفُرُونَ بتقدير قد لا محالة خلافا لمن وهم فيه. والمعنى كَيْفَ تَكْفُرُونَ وقد خلقكم، فعبر عن الخلق بذلك، ولما كان- مركوزا في الطباع ومخلوقا في العقول- أن لا خالق إلا الله كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر، والجمل بعد مستأنفة لا تعلق لها بالحال ولذا غايرت ما قبلها بالحرف والصيغة، ولك أن تجعل جميع الجمل مندرجة في الحال وهو في الحقيقة العلم بالقصة كأنه قيل: كَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها، فلا يضر اشتمالها على ماض ومستقبل، وكلاهما لا يصح أن يقع حالا، ورجح هذا جمع محققون، والحياة قوة تتبع الاعتدال النوعي ويفيض منها سائر القوى، وقيل: القوة الحساسة والعضو المفلوج حي وإلا لتسارع إليه الفساد، وعدم الاحساس بالفعل لا يدل على عدم القوة لجواز فقدان الأثر لمانع، وكأنهم أرادوا من ذلك قوة اللمس لأن مغايرة الحياة لما عداه من الحواس ظاهرة فإنها مختصة بعضو دون عضو، وأنها مفقودة في بعض أنواع الحيوانات، وأنه يلزم تعدد الحياة بالنوع في شخص واحد إن قيل بكون الحياة كل واحد منها. وتركبها في الخارج إن أريد مجموعها، وتطلق مجازا على القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها، وعلى ما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها، والموت- مقابل لها في كل مرتبة والكل (١) في كتاب الله تعالى وحياته سبحانه وتعالى صحة اتصافه جل شأنه بالعلم والقدرة أو معنى قائم بذاته تعالى يقتضي ذلك، وأين التراب من رب الأرباب. ثم إن للناس في المراد بما في الآية الكريمة أقوالا شتى، والمروي عن ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموت الأول العدم السابق، والإحياء الأول الخلق والموت الثاني المعهود في الدار الدنيا، والحياة الثانية البعث للقيامة، واختاره بعض المحققين وادعى أن قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً وإسناده آخر الإماتة إليه تعالى مما يقويه، واختار آخرون أن كونهم أمواتا هو من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة (٢) الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار، والإماتة- هي المعهودة- والإحياء بعدها- هو البعث- يوم ينفخ في الصور ولعله أقرب من الأول، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فسر- الموت- بعدم الحياة عمن اتصف به، وحقيقة إن فسر بعدم الحياة عما من شأنه، قاله الساليكوتي، ويفهم كلام بعضهم: أنه على معنى كالأموات على التفسير الثاني وإن فسر بعدم الحياة مطلقا كان حقيقة وهو المشهور وأبعد الأقوال عندي حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل، والإحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر فيكون قد وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الوقوع، ثم لا دليل في الآية على المختار لنفي عذاب القبر إذ نهاية ما فيها عدم ذكر الاحياء المصحح له، ونحن لا نستدل لها
(١) قال الشيخ: أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس فأنه كما أن للنبات قوة غاذية يجوز ان يفقد سائر القوى دونها.
كذلك حال اللامسة للإنسان اهـ.
(٢) قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وقال سبحانه: أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وقال عز شأنه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ اهـ.
215
بذلك الوجه عليه ولنا- والحمد لله تعالى- في ذلك المطلب أدلة شتى، وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ لله، ووراء هذا من المقال ما لا يخفى على العارفين، وفي قوله تعالى: تُرْجَعُونَ على البناء للمفعول دون- يرجعكم- المناسب للسياق مراعاة لتناسب رؤوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسياق، ولهذا قيل: إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد، وجماعة «ترجعون» مبنيا للفاعل، ولا يرد أن الآية إذا كانت خطابا للكفار- ومعنى العلم ملاحظ فيها- امتنع خطابهم بما بعد- ثم وثم- من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية- وسطوع أنوارها عقلية ونقلية- منزل منزل العلم في إزاحة العذر، وبهذا يندفع أيضا ما قيل: هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به، ويحتمل كما قيل: أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضا من قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلى فَلا تَجْعَلُوا ودلائل النبوة من وَإِنْ كُنْتُمْ إلى إِنْ كُنْتُمْ وأوعد ب فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا الآية، ووعد ب وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله وَكُنْتُمْ أَمْواتاً إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ والخاصة من يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: ٤٠] إلى ما نَنْسَخْ [البقرة: ١٠٦] واستقبح صدور الكفر- مع تلك النعم منهم- توبيخا للكافر وتقريرا للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب، وقد يقال: إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها.
«ومن الإشارة» قول ابن عطاء وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بالظاهر فَأَحْياكُمْ بمكاشفة الأسرار ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن أوصاف العبودية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بأوصاف الربوبية، وقال فارس: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بشواهدكم فَأَحْياكُمْ بشواهده ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن شاهدكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بقيام الحق ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عن جميع ما لكم فتكونون له.
216
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً معطوف على قوله تعالى: وَكُنْتُمْ وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها، وهُوَ لغير المتكلم والمخاطب، وفيه لغات: تخفيف الواو مفتوحة، وحذفها في الشعر، وتشديدها لهمدان، وتسكينها لأسد وقيس، وهُوَ عند أهل الله تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة، وهُوَ اسم مركب من حرفين الهاء والواو، والهاء- أصل، والواو- زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه، ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلّة مدارا لذكرهم وسراجا لسرهم، وهو جار مع الأنفاس، ومسماه غائب عن الحدس والقياس، وفي «جعل» الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والانتفاع- أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض- لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالاستدلال والاعتبار، واستدل كثير من أهل السنة- الحنفية، والشافعية- بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع، وعليه أكثر المعتزلة، واختاره الإمام في المحصول، والبيضاوي في المنهاج.
واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: ٧] وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع، وبأن المراد النفع بالاستدلال، وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره، وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر، وقال قوم بالوقف لتعارض الأدلة عندهم، واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعا خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا، ويرده أنها تدل على أن الكل للكل، ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب، فهناك شبه التوزيع، والتعيين يستفاد من دليل منفصل، ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي، وما تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفا لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط، أو تجعل الجهة اعتبارية، نعم قيل: تعم كل جزء من أجزاء الأرض- فإنه من جملة ضروراتها- ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول: بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض- لا أرضى به، وبعضهم لم يتكلف شيئا من ذلك، واستغنى بتقدم الامتنان بالأرض في قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: ٢٢] وجَمِيعاً حال مؤكدة من كلمة «ما» ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معا، وجعله حالا من ضمير لَكُمْ يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من الأرض أيضا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد- قاله الربيع- أو قصد إليها بإرادته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم: استوى إليه- كالسهم المرسل- إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء- قاله الفراء- وقيل: استولى وملك كما في قوله:
217
وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون إِلَى بمعنى على، وأيضا الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولى عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الأجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل: للتراخي في الوقت، وقيل: لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على خلق الأرض، والناس مختلفون في خلق السماء وما فيها، والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر لتعارض الظواهر في ذلك، فذهب بعض إلى تقدم خلق السماوات لقوله تعالى: أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: ٢٧- ٣٢] وذهب آخرون إلى تقدم خلق الأرض لقوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] إلى قوله سبحانه:
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: ١٠- ١٢] وجمع بعضهم فقال: إن أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بدل أو عطف بيان «لدحاها» أي بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر- خلق ما فيها- وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير. وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني، وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر فجعل نفسه متأخرا وما رواه الحاكم والبيهقي- بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في التوفيق بين الآيتين- يشير إلى هذا، ولا يعارضه ما
رواه ابن جرير وغيره وصححوه عنه أيضا- «إن اليهود أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة فقال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إلى سَواءً لِلسَّائِلِينَ وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة» -
لجواز أن يحمل على أنه خلق مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور المدائن والعمران والخراب قبل، فعطفه عليه قرينة لذلك، واستشكال الإمام الرازي تأخر التدحية عن خلق السماء بأن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية فإذا كانت التدحية متأخرة كان خلقها أيضا متأخرا مبني كما قيل: على الغفلة لأن من يقول بتأخر دحوها عن خلقها لا يقول بعظمها ابتداء بل يقول. إنها في أول الخلق كانت كهيئة الفهر ثم دحيت، فيتحقق الانفكاك ويصح تأخر دحوها عن خلقها، وقوله قدس سره: إن خلق الأشياء في الأرض- لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة- لا يخفى دفعه بناء على أن المراد بذلك خلق المواد والأصول لا خلق الأشياء فيها كما هو اليوم وقال بعض المحققين: اختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول- واختاره المحققون- ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السماوات السبع بل اتفقوا عليه، فحينئذ يجعل- الخلق- في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد أو بمعناه ويقدر الإرادة- ويكون المعنى أراد خلق ما في الأرض جميعا- لكم على حد إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: ٦] وفَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [الإسراء: ٤٥] ولا يخالفه وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها، أو إرادة إيجادها والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها فلا إشكال، وأما قوله سبحانه وتعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] فعلى تقدير الإرادة، والمعنى أراد خلق الأرض، وكذا وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ [الرعد: ٣، فصلت: ١٠] ينبغي أن يكون بمعنى أراد أن يجعل، ويؤيد ذلك قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] فإن الظاهر أن المراد ائتيا في الوجود، ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه سبحانه قال: أئنكم
218
لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا بأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام.
«بقي هاهنا» بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر هاهنا وفي «حم» السجدة خلق الأرض وما فيها على خلق السماوات وعكس في- النازعات- ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظرا إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى: هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء ثم خلق السماء، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد- ويقال له سماء أيضا- مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السماوات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان، فمعنى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواده، ومعنى وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إلخ في الآية الأخرى على نحو هذا، «وخلق الأرض فيها» على ظاهرة ولا يأباه قوله سبحانه: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا إلخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى الآن، ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة، ونسأل الله تعالى التوفيق فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام، وجاز أن يرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤولة به، وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد- نعم رجلا- وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى، وفي نصب سَبْعَ خمسة أوجه: البدل من المبهم، أو العائد إلى السماء، أو مفعول به أي سوى منهن، أو حال مقدرة، أو تمييز، أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صير- ولم يثبت- والبدلية أرجح لعدم الاشتقاق وبعدها الحالية- كما في البحر- وأريد «بسواهن» أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم: ضيق فم البئر ووسع الدار، وفي مقارنة التسوية والاستواء حسن لا يخفى «لا يقال» إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك، وهل هي إلا سماوات؟ لأنا نقول هم شاكّون إلى الآن في النقصان والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد، وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي، وقال بعض محققيهم: لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض، وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد، على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما اختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة، وكلام البيضاوي في تفسيره يشير إليه خلافا لما في منهاجه الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في المنخول، وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد- والخلاف في ذلك مشهور- وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام.
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل مقرر لما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: ٣، ٤] وفي عَلِيمٌ من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعا إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثّر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة- والشيء- هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافا
219
لمن ضل عن سواء السبيل، والجار والمجرور متعلق ب عَلِيمٌ وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه، والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة كما قالوا: خالفت أفعالها لأنها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية وهو أنه إن كان فعله متعديا فإن أفهم علما أو جهلا تعدى بالباء- كأعلم به وأجهل به، وعليم به وجهول به- وأعلم من يضل على التأويل وإلا تعدى باللام- كالضرب لزيد فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود:
١٠٧]- وإلا تعدى بما يتعدى به فعله- كما صبر على النار، وصبور على كذا- ولعل ذلك أغلبي إذ يقال رحيم به فافهم وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً لما امتنّ سبحانه على من تقدم بما تقدم أتبع ذلك بنعمة عامة وكرامة تامة والإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع والولد سر أبيه وَإِذْ ظرف زمان للماضي مبني لشبهه بالحرف وضعا وافتقارا ويكون ما بعدها جملة فعلية أو اسمية، ويستفاد الزمان منها بأن يكون ثاني جزأيها فعلا أو يكون مضمونها مشهورا بالوقوع في الزمان المعين، وإذا دخلت على المضارع قلبته إلى الماضي، وهي ملازمة للظرفية إلا أن يضاف إليها زمان، وفي وقوعها مفعولا به أو حرف تعليل أو مفاجأة أو ظرف مكان أو زائدة خلاف، وفي البحر أنها لا تقع، وإذا استفيد شيء من ذلك فمن المقام، واختلف المعربون فيها هنا فقيل: زائدة وبمعنى قد، وفي موضع رفع أي ابتداء خلقكم إذ وفي موضع نصب بمقدر- أي ابتدأ خلقكم أو أحياكم إذ- ويعتبر وقتا ممتدا لا حين القول، ويقال: بعدها ومعمول- لخلقكم- المتقدم والواو زائدة والفصل بما يكاد أن يكون سورة، ومتعلق- باذكر- ويكفي في صحة الظرفية ظرفية المفعول- كرميت الصيد في الحرم- وهذه عدة أقوال بعضها غير صحيح والبعض فيه تكلف، فاللائق أن تجعل منصوبة- بقالوا- الآتي وبينهما تناسب ظاهر والجملة بما فيها عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة كذا قيل، وأنت تعلم أن المشهور القول الأخير ولعله الأولى فتدبر، ولا يخفى لطف الرب هنا مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم بطريق الخطاب وكان في تنويعه والخروج من عامه إلى خاصه رمزا إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها فهو صلى الله تعالى عليه وسلم على الحقيقة الخليفة الأعظم في الخليقة والإمام المقدم في الأرض والسماوات العلى، ولولاه ما خلق آدم بل «ولا، ولا» ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول عن لسان الحقيقة المحمدية:
فلما «علونا واستوينا عليهم» تركناهم صرعى لنسر وكاسر
وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
واللام الجارة للتبليغ، و «الملائكة» جمع ملأك على وزن شمائل وشمأل وهو مقلوب مالك صفة مشبهة عند الكسائي، وهو مختار الجمهور من الألوكة وهي الرسالة، فهم رسل إلى الناس وكالرسل إليهم، وقيل: لا قلب فابن كيسان إلى أنه فعال من الملك بزيادة الهمزة لأنه مالك ما جعله الله تعالى إليه أو لقوته فإن «م ل ك» يدور مع القوة والشدة يقال: ملكت العجين شددت عجنه، وهو اشتقاق بعيد، وفعال قليل، وأبو عبيدة إلى أنه مفعل من لاك إذا أرسل مصدر ميمي بمعنى المفعول أو اسم مكان على المبالغة، وهو اشتقاق بعيد أيضا، ولم يشتهر لاك، وكثر في الاستعمال الكني إليه- أي كن لي رسولا- ولم يجىء سوى هذه الصيغة فاعتبره مهموز العين، وإن أصله ألا كنى، وبعض جعله أجوف من لاك يلوك، والتاء لتأنيث الجمع، وقيل: للمبالغة ولم يجعل لتأنيث اللفظ كالظلمة لاعتبارهم التأنيث المعنوي في كل جمع حيث قالوا: كل جمع مؤنث بتأويل الجماعة وقد ورد بغير تاء في قوله:
أبا خالد صلت عليك الملائك
واختلف الناس في حقيقتها بعد اتفاقهم على أنها موجودة سمعا أو عقلا، فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام نورانية، وقيل: هوائية قادرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى، وقالت النصارى: إنها الأنفس
220
الناطقة المفارقة لأبدانها الصافية الخيرة، والخبيثة عندهم شياطين، وقال عبدة الأوثان: إنها هذه الكواكب السعد منها ملائكة الرحمة، والنحس ملائكة العذاب. والفلاسفة يقولون: إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وصرح بعضهم بأنها العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك، وهي عندنا منقسمة إلى قسمين. قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: ٦] وهم فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: ٥] فمنهم سماوية ومنهم أرضية، ولا يعلم عددهم إلا الله.
وفي الخبر «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع»
وهم مختلفون في الهيئات متفاوتون في العظم، لا يراهم على ما هم عليه إلا أرباب النفوس القدسية. وقد يظهرون بأبدان يشترك في رؤيتها الخاص والعام وهم على ما هم عليه، حتى قيل: إن جبريل عليه السلام في وقت ظهوره في صورة دحية الكلبي بين يدي المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى، ومثله يقع للكمل من الأولياء، وهذا ما وراء طور العقل- وأنا به من المؤمنين- وقد ذكر أهل الله- قدس الله تعالى أسرارهم- أن أول مظهر للحق جل شأنه العما، ولما انصبغ بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجساد الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم. فلما أوجدهم تجلى لهم باسمه الجميل فهاموا في جلال جماله، فهم لا يفيقون، فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحدا من هؤلاء- وهو أول ملك ظهر عن ملائكة ذلك النور- سماه العقل والقلم، وتجلى له في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لا إلى غاية، فقبل بذاته علم ما يكون، وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي، فاشتق من هذا العقل ما سماه اللوح، وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه ما يكون إلى يوم القيامة لا غير. فجعل لهذا العلم ثلاثمائة وستين سنا من كونه قلما، ومن كونه عقلا ثلاثمائة وستين تجليا أو رقيقة كل سن أو رقيقة تفترق من ثلاثمائة وستين صنفا من العلوم الإجمالية فيفصلها في اللوح، وأول علم حصل فيه علم الطبيعة فكانت دون النفس، وهذا كله في عالم النور الخالص، ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فأفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة، فلأم شعثها ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور الممتزج الملائكة الحافين، وليس لهم شغل إلا كونهم- حافين من حول العرش يسبحون بحمده- ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش، وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته، فكل فلك أصل لما خلق فيه من عماره، كالعناصر فيما خلق فيها من عمارها، وقسم في هذا الكرسي الكلمة إلى خبر وحكم، وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر. ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك، فلكا في جوف فلك، وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه، وزينها بالكواكب وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: ١٢] إلى أن خلق صور المولدات، وتجلى لكل صنف منها بحسب ما هي عليه، فتكون من ذلك أرواح الصور وأمرها بتدبيرها وجعلها غير منقسمة بل ذاتا واحدة، وميز بعضها عن بعض فتميزت وكان تمييزها بحسب قبول الصور من ذلك التجلي، وهذه الصور في الحقيقة كالمظاهر لتلك الأرواح، ثم أحدث سبحانه الصور الجسدية الخيالية بتجلّ آخر، وجعل لكل من الأرواح والصور غذاء يناسبه، ولا يزال الحق سبحانه يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين، وسبحان من يقول للشيء كن فيكون.
إذا علمت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في الملائكة المقول لهم، فقيل: كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص،
221
فشمل المهيمين وغيرهم، وقيل: ملائكة الأرض بقرينة أن الكلام في خلافة الأرض، وقيل: إبليس ومن كان معه في محاربة الجن الذين أسكنوا الأرض دهرا طويلا ففسدوا فبعث الله تعالى عليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن أيضا وهم خزان الجنة- اشتق لهم اسم منها- فطردوهم إلى شعوب الجبال والجزائر. والذي عليه السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، أنهم ما عدا العالمين ممن كان مودعا شيئا من أسماء الله تعالى وصفاته، وأن العالمين غير داخلين في الخطاب ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات، وقوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: ٧٥] يشير إلى ذلك عندهم، وجعلوا من أولئك الملك المسمى بالروح وبالقلم الأعلى وبالعقل الأول وهو المرآة لذاته تعالى، فلا يظهر بذاته إلا في هذا الملك، وظهوره في جميع المخلوقات إنما هو بصفاته فهو قطب العالم الدنيوي والأخروي وقطب أهل الجنة والنار وأهل الكثيب والأعراف، وما من شيء إلا ولهذا الملك فيه وجه يدور ذلك المخلوق على وجهه فهو قطبه، وهو قد كان عالما بخلق آدم ورتبته، فإنه الذي سطر في اللوح ما كان وما يكون، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه، وقد ظهر هذا الملك بكماله في الحقيقة المحمدية كما يشير إليه قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] ولهذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى على الإطلاق، بل هو الخليفة على الحقيقة في السبع الطباق، وليس هذا بالبعيد فليفهم.
وجاعِلٌ اسم فاعل من الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين، والأول هنا خليفة، والثاني فِي الْأَرْضِ أو بمعنى الخلق فيتعدى لواحد، ف فِي الْأَرْضِ متعلق بخليفة، وقدم للتشويق وعمل الوصف لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه، ورجح في البحر كونه بمعنى الخلق لما في المقابل، ويلزم- على كونه بمعنى التصيير- ذكر خليفة أو تقديره فيه. والمراد من الأرض إما كلها وهو الظاهر، وبه قال الجمهور، أو أرض مكة، وروي هذا مرفوعا والظاهر أنه لم يصح، وإلا لم يعدل عنه، وخص سبحانه الأرض لأنها من عالم التغيير والاستحالات، فيظهر بحكم الخلافة فيها حكم جميع الأسماء الإلهية التي طلب الحق ظهوره بها بخلاف العالم الأعلى والخليفة- من يخلف غيره وينوب عنه، والهاء للمبالغة، ولهذا يطلق على المذكر، والمشهور أن المراد به آدم عليه السلام وهو الموافق للرواية ولإفراد اللفظ ولما في السياق، ونسبة سفك الدم والفساد إليه حينئذ بطريق التسبب أو المراد- بمن يفسد- إلخ من فيه قوة ذلك، ومعنى كونه خَلِيفَةً أنه خليفة الله تعالى في أرضه، وكذا كل نبي استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى، ولكن لقصور المستخلف عليه لما أنه في غاية الكدورة والظلمة الجسمانية، وذاته تعالى في غاية التقدس، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية فلا بد من متوسط ذي جهتي تجرد وتعلق ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى، وقيل: هو وذريته عليه السلام، ويؤيده ظاهر قول الملائكة، فإلزامهم حينئذ بإظهار فضل آدم عليهم لكونه الأصل المستتبع من عداه، وهذا كما يستغني بذكر أبي القبيلة عنهم، إلا أن ذكر الأب بالعلم وما هنا بالوصف، ومعنى كونهم خلفاء أنهم يخلفون من قبلهم من الجن بني الجان أو من إبليس ومن معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك على ما نطقت به الآثار، أو أنه يخلف بعضهم بعضا، وعند أهل الله تعالى المراد بالخليفة آدم وهو عليه السلام خليفة الله تعالى وأبو الخلفاء والمجلى له سبحانه وتعالى، والجامع لصفتي جماله وجلاله، ولهذا جمعت له اليدان وكلتاهما يمين، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه، ومن هنا
قال الخليفة الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته أو- على- صورة الرحمن»
وبه جمعت الأضداد وكملت النشأة وظهر الحق، ولم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام، بل متى فارق هذا الإنسان العالم مات العالم لأنه الروح الذي به قوامه، فهو العماد المعنوي
222
للسماء، والدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه. ولما كان هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته صحت له الخلافة وتدبير العالم والله سبحانه الفعال لما يريد، ولا فاعل على الحقيقة سواه وفي المقام ضيق، والمنكرون كثيرون ولا مستعان إلا بالله عز وجل. وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة لأن هذه المعاملة تشبهها أو تعظيم شأن المجعول وإظهار فضله ويحتمل أنه سبحانه أراد بذلك تعريف آدم عليه السلام لهم ليعرفوا قدره لأنه باطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم، وكان هذا القول على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في دولة السنبلة بعد مضي سبعة عشر ألف سنة من عمر الدنيا ومن عمر الآخرة التي (١) لا نهاية له في الدوام ثمانية آلاف سنة، ومن عمر العالم الطبيعي المفيد بالزمان المحصور بالمكان إحدى وسبعون ألف سنة من السنين المعروفة الحاصلة أيامها من دورة الفلك الأول وهو يوم وخمسا يوم من أيام ذي المعارج ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، وقرأ زيد بن علي- خليقة- بالقاف والمعنى واضح قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ استكشاف عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة وليس استفهاما عن نفس الجعل والاستخلاف لأنهم قد علموه قبل، فالمسؤول عنه هو الجعل ولكن لا باعتبار ذاته بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته، أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الفساد مثلهم أو مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وقيل: استفهام محض حذف فيه المعادل- أي أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ أم تجعل من لا يفسد- وجعله بعضهم من الجملة الحالية- أي أَتَجْعَلُ فِيها- كذا- وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أم نتغير- واختار ذلك شيخنا علاء الدين الموصلي روح الله تعالى روحه، والأدب يسكتني عنه، وعلى كل تقدير ليست الهمزة للإنكار كما زعمته الحشوية مستدلين بالآية على عدم عصمة الملائكة لاعتراضهم على الله تعالى وطعنهم في بني آدم، ومن العجيب أن مولانا الشعرائي- وهو من أكابر أهل السنة بل من مشايخ أهل الله تعالى- نقل عن شيخه الخواص أنه خص العصمة بملائكة السماء معللا له بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة، وقال: إن الملائكة الأرضية غير معصومين ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من ملائكة الأرض الساكنين بجبل الياقوت بالمشرق عند خط الاستواء فعليه لا يبعد الاعتراض ممن كان في الأرض والعياذ بالله تعالى، ويستأنس له بما ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وعندي أن ذلك غير صحيح، وقيل: إن القائل إبليس وقد كان إذ ذاك معدودا في عداد الملائكة ويكون نسبة القول إليهم على حد- بنو فلان قتلوا فلانا- والقاتل واحد منهم، والوجه ما قررنا وتكرار الظرف للدلالة على الإفراط في الفساد ولم يكرره بعد للاكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى و «السفك» الصب والإراقة ولا يستعمل إلا في الدم أو فيه وفي الدمع والعطف من عطف الخاص على العام للإشارة إلى عظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية، والدِّماءَ جمع دم لامه ياء أو واو وقصره وتضعيفه مسموعان، وأصله فعل أو فعل، والمراد بها المحرمة بقرينة المقام، وقيل: الاستغراق فيتضمن جميع أنواعها من المحظور وغيره والمقصود عدم تمييزه بينها، وقرأ ابن أبي عبلة «يسفك» - بضم الفاء، ويسفك من أسفك وبالتضعيف من سفك، وقرأ ابن هرمز بنصب الكاف وخرج على النصب في جواب الاستفهام، وقرىء على البناء للمجهول، والراجع إلى من حينئذ سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوف- أي فيهم- وحكم الملائكة بالإفساد والسفك على الإنسان بناء على بعض هاتيك الوجوه ليس من ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين ولكن
(١) قوله التي إلخ كذا بخط المؤلف اهـ مصححه.
223
بأخبار من الله تعالى ولم يقص علينا فيما حكي عنهم اكتفاء بدلالة الجواب عليه للإيجاز كما هو عادة القرآن، ويؤيد ذلك ما روي في بعض الآثار أنه لما قال الله تعالى ذلك قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا: ربنا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وقيل:
عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب، ويحتاج الجواب إلى تكلف، وقيل: عرفوه استنباطا عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره، وذلك يفضي إلى الفساد وسفك الدماء، وقيل: قياسا لأحد الثقلين على الآخر بجامع اشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين، ويحتمل أنه علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك أو لأنها مجلى الجلال كما أنها مجلى الجمال، ولكل آثار، والإفساد والسفك- من آثار الجلال وسكتوا عن آثار الجمال إذ لا غرابة فيها وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ حال من ضمير الفاعل في أَتَجْعَلُ وفيها تقرير لجهة الإشكال، والمعنى تستخلف من ذكر ونحن المعصومون وليس المقصود إلا الاستفسار عن المرجح لا العجب والتفاخر حتى يضر بعصمتهم كما زعمت الحشوية، ولزوم الضمير، وترك الواو في الجملة الاسمية إذا وقعت حالا مؤكدة غير مسلم كما في شرح التسهيل وصيغة المضارع للاستمرار، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاختصاص، ومن الغريب جعل الجملة استفهامية حذف منها الأداة، وكذا المعادل والتسبيح في الأصل مطلق التبعيد، والمراد به تبعيد الله تعالى عن السوء وهو متعد بنفسه ويعدى باللام إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه فالمفعول المقدر هاهنا يمكن أن يكون باللام على وفق قرينه، وأن يكون بدونه كما هو أصله، و «بحمدك» في موضع الحال والباء لاستدامة الصحبة والمعية، وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازا من التوفيق والهداية، أو إلى المفعول أي متلبسين بحمدنا لك على ما وفقتنا لتسبيحك، وفي ذلك نفي ما يوهمه الإسناد من العجب، وقيل: المراد به تسبيح خاص وهو- سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العظمة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت- ويعرف هذا بتسبيح الملائكة، أو- سبحان الله وبحمده-
وفي حديث عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال ما اصطفى الله تعالى لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده»
أي وبحمده نسبح، والتقديس- في المشهور كالتسبيح معنى، واحتاجوا لدفع التكرار إلى أن أحدهما باعتبار الطاعات والآخر باعتبار الاعتقادات، وقيل: التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع بينهما أخر نحو- سبوح قدوس- ويحتمل أن يكون بمعنى التطهير، والمراد نسبحك ونطهر أنفسنا من الأدناس أو أفعالنا من المعاصي فلا نفعل فعلهم من الإفساد والسفك أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك، ولام «لك» إما للعلة متعلق- بنقدس- والحمل على التنازع مما فيه تنازع أو معدية للفعل كما في- سجدت لله تعالى- أو للبيان كما في- سفها لك (١) - فمتعلقها حينئذ خبر مبتدأ محذوف أو زائدة والمفعول هو المجرور، ثم الظاهر أن قائل هذه الجملة هو قائل الجملة الأولى، وأغرب الشيخ صفي الدين الخزرجي في كتابه- فك الأزرار- فجعل القائل مختلفا، وبين ذلك بأن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين وكان إبليس مندرجا في
(١) قوله سفها لك كذا بخطه اهـ مصححه.
224
جملتهم فورد الجواب منهم مجملا، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه انفصل الجواب إلى نوعين، فنوع الاعتراض منه، ونوع التسبيح والتقديس ممن عداه، فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه، فالكلام شبيه بقوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: ١٣٥] وهو تأويل لا تفسير قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي أعلم من الحكم في ذلك ما أنتم بمعزل عنه، وقيل: أراد بذلك علمه بمعصية إبليس وطاعة آدم، وقيل: بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، وقيل: الأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله سبحانه: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويفهم من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، أن المراد من الآية بيان الحكمة في الخلافة على أدق وجه وأكمله، فكأنه قال جل شأنه- أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم- فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور استعدادكم ونقصان قابليتكم، فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم، فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي، فلا بد من إظهار من تم استعداده، وكملت قابليته ليكون مجلى لي ومرآة لأسمائي وصفاتي ومظهرا للمتقابلات فيّ، ومظهرا لما خفي عندي، وبي يسمع وبي يبصر وبي وبي، وبعد ذاك يرق الزجاج والخمر، وإلى الله عز شأنه يرجع الأمر. وأَعْلَمُ فعل مضارع، واحتمال أنه أفعل تفضيل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله سبحانه كما لا يخفى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها عطف على «قال»، وفيه تحقيق لمضمون ما تقدم، وظاهر الابتداء بحكاية التعليم يدل على أن ما مر من المقاولة إنما جرت بعد خلقه عليه السلام بمحضر منه بأن قيل أثر نفخ الروح فيه: إني جاعل إياه خليفة، فقيل ما قيل، وقيل: إنه معطوف على محذوف، أي فخلق وعلم، أو فخلقه وسواه ونفخ فيه الروح وعلم، أو فجعل في الأرض خليفة وعلم، وإبراز اسمه عليه السلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره. وآدَمَ صرح الجواليقي وكثيرون أنه عربي ووزنه أفعل من الأدمة- بضم فسكون- السمرة وياما أحيلاها في بعض، وفسرها أناس بالبياض أو الأدمة- بفتحتين- الأسوة والقدوة أو من أديم الأرض ما ظهر منها. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه غير واحد، أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها، فخلق منها آدم، فلذلك تأتي بنوه أخيافا (١)، أو من الأدم أو الأدمة، الموافقة والألفه، وأصله أآدم- بهمزتين- فأبدلت الثانية ألفا لسكونها بعد فتحة، ومنع صرفه للعلمية ووزن الفعل، وقيل: أعجمي ووزنه فاعل- بفتح العين- ويكثر هذا في الأسماء- كشالخ وآزر- ويشهد له جمعه على أوادم- بالواو- لا- أآدم- بالهمزة، وكذا تصغيره على- أويدم- لا- أؤيدم- واعتذر عنه الجوهري بأنه ليس للهمزة أصل في البناء معروف، فجعل الغالب عليها- الواو- ولم يسلموه له، وحينئذ لا يجري الاشتقاق فيه لأنه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصح، والتوافق بين اللغات بعيد، وإن ذكر فيه فذاك للإشارة إلى أنه بعد التعريب ملحق بكلامهم، وهو اشتقاق تقديري اعتبروه لمعرفة الوزن والزائد فيه من غيره، ومن أجراه فيه حقيقة كمن جمع بين الضب والنون، ولعل هذا أقرب إلى الصواب. والْأَسْماءَ جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال، واستعمل عرفا في الموضوع لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما، وكلا المعنيين محتمل. والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيبا خبريا أو إنشائيا يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية. وإرادة المعنى المصطلح مما لا يصلح لحدوثه بعد القرآن. وقال الإمام: المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، لأنها علامات دالة على ماهياتها، فجاز أن يعبر عنها بالأسماء، وفيه كما قال الشهاب نظر إذ
(١) أي مختلفين اهـ منه. [.....]
225
لم يعهد إطلاق الاسم على مثله حتى يفسر به النظم، وقيل: المراد بها أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعزي إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: اللغات، وقيل: أسماء الملائكة، وقيل: أسماء النجوم، وقال الحكيم الترمذي: أسماؤه تعالى، وقيل وقيل وقيل. والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى، وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت، وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو عرضية، ويقال لها أسماء الله تعالى عندهم باعتبار دلالتها عليه، وظهوره فيها غير متقيد بها، ولهذا قالوا: إن أسماء الله تعالى غير متناهية، إذ ما من شيء يبرز للوجود من خبايا الجود، إلا وهو اسم من أسمائه تعالى وشأن من شؤونه عز شأنه، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، ومن هنا قال قدس سره:
إن الوجود وإن تعدد ظاهرا وحياتكم ما فيه إلا أنتم
لكن للفرق مقام وللجمع مقام ولكل مقام مقال، ولولا المراتب لتعطلت الأسماء والصفات، وتعليمها له عليه السلام على هذا ظهور الحق جل وعلا فيه منزها عن الحلول والاتحاد والتشبيه بجميع أسمائه وصفاته المتقابلة حسب استعداده الجامع بحيث علم وجه الحق في تلك الأشياء، وعلم ما انطوت عليه وفهم ما أشارت إليه، فلم يخف عليه منها خافية ولم يبق من أسرارها باقية، فيا لله هذا الجرم الصغير كيف حوى هذا العلم الغزير. واختلف الرسميون بينهم في كيفية التعليم بعد أن فسر بأنه فعل يترتب عليه العلم غالبا، وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم لا تخلف فقيل: بأن خلق فيه- عليه السلام- بموجب استعداده- علما ضروريا تفصيليا بتلك الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها، وقيل: بأن خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام والقول: بأن التعليم على ظاهره- وكان بواسطة ملك غير داخل في عموم الخطاب ب أَنْبِئُونِي- مما لا أرتضيه، اللهم إلا إن صح خبر في ذلك، ومع هذا أقول: للخبر محمل غير ما يتبادر مما لا يخفى على من له ذوق، وقيل: غير ذلك. ثم إن هذا التعليم لا يقتضي تقدم لغة اصطلاحية كما زعمه أبو هاشم واحتج عليه بوجوه ردت في التفسير الكبير، إذ لو افتقر لتسلسل الأمر أو دار، والإمام الأشعري يستدل بهذه الآية على أن الواضع للغات كلها هو الله تعالى ابتداء ويجوز حدوث بعض الأوضاع من البشر كما يضع الرجل علم ابنه. والمعتزلة يقولون: الواضع من البشر آدم أو غيره ويسمى مذهب الاصطلاح. وقيل: وضع الله تعالى بعضها ووضع الباقي البشر وهو مذهب التوزيع وبه قال الأستاذ، والمسألة مفصلة بأدلتها وما لها وما عليها في أصول الفقه. وقرأ اليماني «علّم» مبنيا للمفعول، وفي البحر أن التضعيف للتعدية وهي به سماعية، وقيل: قياسية، والحريري- في شرح لمحته- يزعم أن- علم- المتعدي لاثنين يتعدى به إلى ثلاثة، وقد وهم في ذلك ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ
أي المسميات المفهومة من الكلام وتذكير الضمير على بعض الوجوه لتغليب ما اشتملت عليه من العقلاء، وللتعظيم بتنزيلها منزلتهم في رأي على البعض الآخر، وقيل: الضمير للأسماء باعتبار أنها المسميات مجازا على طريق الاستخدام. ومن قال: الاسم عين المسمى قال: الأسماء هي المسميات والضمير لها بلا تكلف- وإليه ذهب مكي والمهدوي- ويرد عليه أن أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات- لا عن نفسها- وإلا لقيل: أنبئوني بهؤلاء، فلا بد أن يكون المعروض غير المسئول عنه فلا يكون نفس الأسماء، ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة، أو إظهارها لهم كالذر، أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالا، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم
226
ومعادهم إجمالا أيضا، وإلا فالتفصيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير، فكأنه سبحانه قال: سأوجد كذا وكذا فأخبروني بما لهم وما عليهم، وما أسماء تلك الأنواع من قولهم: عرضت أمري على فلان فقال لي كذا، فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان، وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم، وعندي أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد الله تعالى المجردين، أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني- وهذا غير ممتنع على الله تعالى- بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت بحيث يراها من يراها، ومن أحاط خبرا بعالم المثال لم يستبعد ذلك، وقيل: إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام، وهو المراد بعرضها.
وتزعم أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
وقرأ أبيّ «ثم عرضها» وعبد الله «عرضهن» والمعنى عرض مسمياتها أو مسمياتهن، وقيل: لا تقدير.
فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ تعجيز لهم، وليس من التكليف بما لا يطاق- على ما وهم- وفيه إشارة إلى أن أمر الخلافة والتصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن، فكيف يروم الخلافة من لا يعرف ذلك، أو من لا يعرف الألفاظ أنفسها؟! هيهات- ذلك أبعد من العيوق، وأعز من بيض الأنوق- وعندي أن المراد إظهار عجزهم وقصور استعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن بأمرهم بالإنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها، والعاجز عن نفس الإنباء أعجز عن التحلي المطلوب في ذلك المنصب المحبوب.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها... قلل الجبال ودونهن حتوف
الرجل حافية ومالي مركب... والكف صفر والطريق مخوف
والإنباء- في الأصل مطلق الاخبار- وهو الظاهر هنا- ويطلق على الاخبار بما فيه فائدة عظيمة ويحصل به علم أو غلبة ظن، وقال بعضهم: إنه إخبار فيه إعلام، ولذلك يجري مجرى كل منهما، واختاره هنا- على ما قيل- للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها وهذا مبني على أن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم، وفي استعمال- ثم- فيما تقدم- والفاء- هنا ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام وعدمه في شأنهم.
وقرأ الأعمش «أنبوني» بغير همز إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما اختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقا إلا أنتم أعلم منه وأفضل- وهذا هو التفسير المأثور- فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الملائكة قالوا:
لن يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم، وفي الكلام دلالة عليه، فإن وَنَحْنُ نُسَبِّحُ إلخ يدل على أفضليتهم، وتنزيه الله تعالى وتقديسه- أو تقديسهم أنفسهم- يدل على كمال العلم أيضا. وقيل: إن المعنى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم أنكم أحق بالاستخلاف أو في أن استخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة- وليس هذا من المعصية في شيء- لأنه شبهة اختلجت، وسألوا عما يزيحها وليس باختياري، ولا يرد أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبر- وهم استخبروا ولم يخبروا- لأنا نقول: هما يتطرقان إلى الإنشاءات بالقصد الثاني، ومن حيث ما يلزم مدلولها، وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول ومن حيث منطوقها، وجواب إِنْ في مثل هذا الموضع محذوف عند سيبويه وجمهور البصريين يدل عليه السابق، وهو هنا أَنْبِئُونِي وعند الكوفيين وأبي زيد والمبرد أن الجواب هو المتقدم، وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة، ووهم البعض فعكس الأمر، ومن زعم أن إِنْ هنا بمعنى إذا الظرفية- فلا تحتاج إلى جواب- فقد وهم، وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها،
227
ولم يجد لها محملا مع إبقاء إِنْ على ظاهرها افتقر إلى ذلك، والحمد لله تعالى على ما أغنانا من فضله ولم يحوجنا إلى هذا ولا إلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، فحاصل المعنى حينئذ أخبروني ولا تقولوا إلا حقا- كما قال الإمام-.
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل: فماذا؟ قالُوا إذ ذاك:
هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أو لا؟ فقيل: قالُوا: إلخ. وذكر غير واحد أن الجمل المفتتحة بالقول- إذا كانت مرتبا بعضها على بعض في المعنى- فالأفصح أن لا يؤتى فيها بحرف اكتفاء بالترتيب المعنوي، وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك كثير، بل القرآن مملوء منه، و «سبحان» قيل: إنه مصدر، وفعله- سبح- مخففا بمعنى نزه، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا، إما للمفعول أو الفاعل منصوبا بإضمار فعل وجوبا، وقوله:
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجوديّ والجمد
شاذ كقوله:
سبحانك اللهم ذا السبحان
ومجيئه منادى مما زعمه الكسائي- ولا حجة له- وذهب جماعة إلى أنه علم للتسبيح- بمعنى التنزيه- لا مصدر سبح- بمعنى قال: سبحان الله- لئلا يلزم الدور (١) ولأن مدلول ذلك لفظ- ومدلول هذا معنى- واستدل على ذلك بقوله:
قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
إذ لولا أنه علم لوجب صرفه. لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية، وأجيب بأن- سبحان- فيه على حذف المضاف إليه أي- سبحان الله- وهو مراد للعلم به، وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله- وهو التجرد عن التنوين- وقيل: «من» زائدة والإضافة لما بعدها على التهكم والاستهزاء به، ومن الغريب قول بعض: إن معنى سُبْحانَكَ تنزيه لك بعد تنزيه، كما قالوا في- لبيك- إجابة بعد إجابة، ويلزم على هذا ظاهرا أن يكون مثنى ومفرده- سبحا- وأن لا يكون منصوبا- بل مرفوع- وأنه لم تسقط النون للإضافة وإنما التزم فتحها، ويا سبحان الله تعالى لمن يقول ذلك، والغرض من هذا الجواب الاعتراف بالعجز عن أمر الخلافة، والقصور عن معرفة الأسماء على أبلغ وجه كأنهم قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا- ولم تعلمنا الأسماء- فكيف نعلمها؟ وفيه إشعار بأن سؤالهم لم يكن إلا استفسارا، إذ لا علم لهم إلا من طريق التعليم، ومن جملته علمهم بحكمة الاستخلاف مما تقدم- فهو بطريق التعليم أيضا- فالسؤال المترتب هو عليه سؤال مستفسر لا معترض وثناء عليه تعالى بما أفاض عليهم مع غاية التواضع ومراعاة الأدب وترك الدعوى، ولهذا كله لم يقولوا- لا علم لنا بالأسماء- مع أنه كان مقتضى الظاهر ذلك، ومن زعم عدم العصمة جعل هذا توبة، والإنصاف أنه يشبهها ولكن لا عن ذنب مخل بالعصمة بل عن ترك أولى بالنسبة إلى علو شأنهم ورفعة مقامهم إذ اللائق بحالهم على العلات أن يتركوا الاستفسار ويقفوا مترصدين لأن يظهر حقيقة الحال وما عند الجمهور موصولة حذف عائدها وهى إما في موضع رفع على البدل أو نصب على الاستثناء. وحكى ابن عطية عن الزهراوي أنها في موضع نصب ب عَلَّمْتَنا ويتكلف لتوجيهه بأن الاستثناء منقطع، ف إِلَّا بمعنى لكن وما شرطية والجواب محذوف كأنهم نفوا أولا سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل أي شيء علمهم علموه ويكون ذلك أبلغ في ترك الدعوى كما لا يخفى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ تذييل يؤكد مضمون الجملة السابقة، ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه وأردفوه بالوصف بالحكمة لما تبين لهم ما تبين- وأصل
(١) لأن التسبيح بمعنى أن يقال: سبحان الله فرع على سبحان الله فيكون فرعا له- والعلم بعد الجنس- وهل هذا إلا دور؟ اهـ منه.
228
الحكمة- المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها عن الاعوجاج، وتقال للعلم لأنه يمنع عن ارتكاب الباطل، ولإتقان الفعل لمنعه عن طرق الفساد والاعتراض- وهو المراد هاهنا- لئلا يلزم التكرار، فمعنى الحكيم ذو الحكمة، وقيل: المحكم لمبدعاته، قال في البحر: وهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل، والمشهور أنه إن أريد به الْعَلِيمُ- كان من صفات الذات أو الفاعل لما- لا اعتراض عليه كان من صفات الفعل فافهم.
وقدم سبحانه الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة لمناسبة ما تقدم من أَنْبِئُونِي ولا عِلْمَ لَنا ولأن الحكمة لا تبعد عن العلم وليكون آخر مقالتهم مخالفا لما يتوهم من أولها، وأَنْتَ يحتمل أن يكون فصلا- لا محل له على المشهور- يفيد تأكيد الحكم، والقصر المستفاد من تعريف المسند، وقيل: هو تأكيد لتقرير المسند إليه، ويسوغ في التابع ما لا يسوغ في المتبوع. وقيل: مبتدأ خبره ما بعد، والْحَكِيمُ إما خبر بعد خبر أو نعت له وحذف متعلقهما لإفادة العموم، وقد خصهما بعض فقال: الْعَلِيمُ بما أمرت ونهيت الْحَكِيمُ فيما قضيت وقدرت والعموم أولى.
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ نادى سبحانه آدم باسمه العلم كما هو عادته جل شأنه مع أنبيائه ما عدا نبينا صلّى الله عليه وسلّم حيث ناداه ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: ٦٤، ٦٥، ٧٠ وغيرها] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: ٤١، ٦٧] لعلو مقامه ورفعة شأنه إذ هو الخليفة الأعظم، والسر في إيجاد آدم. ولم يقل سبحانه أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضا، وهو ظهور فضل آدم إبانة لما بين الرتبتين من التفاوت، وإنباء للملائكة بأن علمه عليه السلام واضح لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الامتحان وأنه حقيق أن يعلم غيره أو لتكون له عليه السلام منة التعليم كاملة حيث أقيم مقام المفيد وأقيموا مقام المستفيدين منه، أو لئلا تستولي عليه الهيبة فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره.
والمراد بالإنباء هنا الإعلام لا مجرد الاخبار كما تقدم.
وفيه دليل لمن قال إن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، ومنع قوم ذلك في الطبقة العليا منهم، وحمل عليه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤]، وأفهم كلام البعض منع حصول العلم المرقي لهم فلعل ما يحصل علم قال: لا حال والفرق ظاهر لمن له ذوق، وقرأ ابن عباس «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء- «وأنبيهم» - بقلب الهمزة ياء، وقرأ الحسن- «أنبهم» - كأعطهم، والمراد بالأسماء ما عجزوا عن علمها واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها، والضمير عائد على المعروضين على ما تقدم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ عطف على جملة محذوفة والتقدير- فانبأهم بها- فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ إلخ، وحذفت لفهم المعنى، وإظهار الأسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها مع الإشارة إلى أنه عليه السلام- أنبأهم بها- على وجه التفصيل دون الإجمال. وعلمهم بصدقه من القرائن الموجبة له والأمر أظهر من أن يخفى، ولا يبعد أن عرفهم سبحانه الدليل على ذلك واحتمال أن يكون لكل صنف منهم لغة أو معرفة بشيء ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة أو ذلك الشيء بعيد.
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
جواب ل «ما» وتقرير لما مر من الجواب الإجمالي واستحضار له على وجه أبسط من ذلك وأشرح. ولا يخفى ما في الآية من الإيجاز، إذ كان الظاهر أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وشهادتهما وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وما ستبدون وتكتمون، إلا أنه سبحانه اقتصر على غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه يعلم منه شهادتهما بالأولى، واقتصر من الماضي على المكتوم لأنه يعلم منه البادي كذلك- وعلى المبدأ من المستقبل- لأنه قبل الوقوع خفي، فلا فرق بينه وبين غيره من خفياته- وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: وتكتمون- لعله لإفادة استمرار
229
الكتمان- فالمعنى- أعلم ما تبدون قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه، وذكر الساليكوتي أن كلمة- كان- صلة غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد المناسب للكتمان، ثم الظاهر من الآية العموم ومع ذلك ما لا تَعْلَمُونَ أعم مفهوما لشموله- غيب الغيب- الشامل لذات الله تعالى وصفاته- وخصها قوم- فمن قائل: غَيْبَ السَّماواتِ أكل آدم وحواء من الشجرة، وغيب الْأَرْضِ قتل قابيل هابيل، ومن قائل: «الأول» ما قضاه من أمور خلقه «والثاني» ما فعلوه فيها بعد القضاء، ومن قائل: «الأول» ما غاب عن المقربين مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى «والثاني» ما غاب عن أصفيائه من أسرار الملك الأدنى وأمور الآخرة، والأولى- وما أبدوه- قبل قولهم أَتَجْعَلُ فِيها وما كتموه، قولهم: لن يخلق الله تعالى أكرم عليه منا، وقيل: ما أظهروه بعد من الامتثال. وقيل: ما أسره إبليس من الكبر، وإسناد الكتم إلى الجميع حينئذ من باب- بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم- ومعنى الكتم على كل حال عدم إظهار ما في النفس لأحد ممن كان في الجمع، وليس المراد أنهم كتموا الله تعالى شيئا بزعمهم- فإن ذلك لا يكون حتى من إبليس- وأبدى سبحانه العامل في ما تُبْدُونَ إلخ اهتماما بالإخبار بذلك المرهب لهم- والظاهر عطفه على الأول- فهو داخل معه تحت ذلك القول، ويحتمل أن يكون عطفا على جملة أَلَمْ أَقُلْ فلا يدخل حينئذ تحته.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام- كانقادوا وأطاعوا- والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة- مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا اعتراف به- ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناء على اللائق الذي قدمناه لاختلاف الوقتين، وجوز على أن نصب السابق بمقدر، والسجود في الأصل تذلل مع انخفاض بانحناء وغيره، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة- وفي المعنى المأمور به هنا خلاف- فقيل: المعنى الشرعي، والمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى- وآدم إما قبلة أو سبب- واعترض بأن لو كان كذلك ما امتنع إبليس، وبأنه لا يدل على تفضيله عليه السلام عليهم. وقوله تعالى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: ٦٢] يدل عليه- ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها- وأجيب بالتباس الأمر على إبليس، وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن- كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن- ومن الناس من جوّز كون المسجود له آدم عليه السلام حقيقة مدعيا أن السجود للمخلوق- إنما منع في شرعنا- وفيه أن السجود الشرعي عبادة، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان- ولا أراها حلت في عصر من الأعصار. وقيل: المعنى اللغوي- ولم يكن فيه وضع الجباه- بل كان مجرد تذلل وانقياد، فاللام إما باقية على ظاهرها، وإما بمعنى- إلى- مثلها في قول حسان رضي الله عنه:
أليس أول من صلى «لقبلتكم» وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو للسببية، مثلها في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: ٧٨] وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولا: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ وهنا وَإِذْ قُلْنا- بضمير العظمة- لأن في الأول خلق آدم واستخلافه. فناسب ذكر الربوبية مضافا إلى أحب خلفائه إليه- وهنا المقام مقام إيراد أمر يناسب العظمة- وأيضا في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم. وقرأ أبو جعفر بضم تاء «الملائكة» اتباعا لضم الجيم، وهي لغة أزد شنوءة وهي لغة غريبة عربية- وليست بخطأ كما ظن الفارسي- فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل، فقالت- أفي السوأ نتنه- تريد أفي السوأة أنتنه.
230
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه، وإِبْلِيسَ اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، ووزنه- فعليل- قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة وغيره: إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الإبعاد من الخير أو اليأس من رحمة الله تعالى، ووزنه على هذا مفعيل، ومنعه من الصرف حينئذ لكونه لا نظير له في الأسماء. واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر- كإحليل وإكليل- وفيه نظر، وقيل: لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب، وليس بشيء، واختلف الناس فيه، هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف: ٥] وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة- كما روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها- خلقوا من النور، وخلق الجن مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: ١٥] وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: ١٢] وعد تركه السجود- إباء واستكبارا حينئذ- إما لأنه كان ناشئا بين الملائكة مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل، أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن، أو لأنه- عليه اللعنة- كان مأمورا صريحا لا ضمنا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى: إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: ١٢] وضمير فَسَجَدُوا راجع للمأمورين بالسجود وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الاستثناء- وتصحيحه بما ذكر تكلف- لأنه وإن كان واحدا منهم لكن كان رئيسهم ورأسهم- كما نطقت به الآثار- فلم يكن مغمورا بينهم، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس، وكونه مأمورا صريحا الآية غير صريحة فيه- ودون إثباته خرط القتاد- واقتضاء ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلا، وقوله تعالى: فَفَسَقَ كالبيان له، ويجوز أيضا أن يكون كانَ بمعنى صار- كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية- فصار جنيا- كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير- سلمنا، لكن لا منافاة بين كونه جنا وكونه ملكا، فإن الجن- كما يطلق على ما يقابل الملك- يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم. وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا، أو أنه يقال للملائكة جن أيضا- كما قاله ابن إسحاق- لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، وبذلك فسر بعضهم قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: ١٥٨] وورد مثله في كلام العرب، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام:
وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر
وكون الملائكة لا يستكبرون- وهو قد استكبر- لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم- وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا- وفي عقيدة أبي المعين النسفي ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية- فعصى عند ذلك- والملك ما دام ملكا لا يعصى.
ومن ذا الذي يا ميّ لا يتغير
وكونه مخلوقا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضا- ولا قادح في ملكيته- لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض، على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب- وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار- إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه،
وورد أن تحت العرش نهرا إذا غتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك،
وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات- وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات- كالبررة والفسقة من الإنس- والجن يشملهما- وكان إبليس من هذا الصنف، فعده ما
231
شئت من- ملك، وجن، وشيطان- وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة، ومنقطع إن لم يكن منهم، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه، والمتصل هو المستثنى من جنسه، قال القرافي في العقد المنظوم: وهو غلط فيهما، فإن قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء: ٢٩] لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: ٥٦] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: ٩٢] الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أو لا بنقيض ما حكمت به- ولا بد من هذين القيدين- فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس- سواء حكم عليه بنقيضه أو لا- نحو رأيت القوم إلا فرسا، فالمنقطع نوعان، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم اجزائه، فقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ إلخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض، لأن نقيضه ذاقوه فيها- وليس كذلك- وكذلك إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً لأنها لا تؤكل بالباطل- بل بحق- وكذلك إِلَّا خَطَأً لأنه ليس له القتل مطلقا- وإلا لكان مباحا- فتنوع المنقطع حينئذ إلى ثلاثة، الحكم على الجنس بغير النقيض، والحكم على غيره به أو بغيره، والمتصل نوع واحد- فهذا هو الضابط- وقيل: العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه، فتأمل ترشد.
وأفهم كلام القوم- نفعنا الله تعالى بهم- أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعا ما يرد على الظاهر:
طه النبي تكونت من نوره كل الخليقة ثم لو ترك القطا
وفي الآثار ما يؤيد ذلك، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال، وإبليس من حيث الجلال، ويؤول هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي تقتضيه الحقائق، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس- ولم يكن اسمه من قبل- بل كان اسمه عزازيل، أو الحارث، وكنيته أبا مرة- ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه- والله تعالى يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:
٤] وفي قوله تعالى: أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ نوع إشارة إلى بعض ما ذكر، والجملة استئناف جواب لمن قال ما فعل، وقيل: إن الفعلين الأولين في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبرا وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ مستأنف أو في موضع الحال، وقيل: الجمل الثلاث تذييل بعد تذييل، والإباء الامتناع مع الأنفة والتمكن من الفعل، ولهذا كان قولك- أبى زيد الظلم أبلغ من لم يظلم- ولإفادة الفعل النفي صح بعده الاستثناء المفرغ ك يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: ٣٢] وقوله:
أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
والفعل منه- أبى- بالفتح، وعليه لا يكون يأبى قياسيا. وقد سمع- أبي- كرضي فالمضارع حينئذ قياسي والمفعول هنا محذوف أي السجود، والاستكبار- التكبر وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وقيل: التكبر أن يرى الشخص نفسه أكبر من غيره وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع، وقدم الإباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الرتبة لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفساني أو لأن المقصود الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء أو بإنشاء الاخبار عنه بالمخالفة فبدأ
232
بذلك على أبلغ وجه- وكان على بابها- والمعنى كان في علم الله تعالى من الكافرين أو كان من القوم الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم، وقيل: بمعنى صار وهو مما أثبته بعض النحاة قال ابن فورك: وترده الأصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء ثم إن كفره ليس لترك الواجب كما زعم الخوارج متمسكين بهذه الآية لأنه لا يوجب ذلك في ملتنا على ما دلت عليه القواطع، وإيجابه قبل ذلك غير مقطوع به بل باستقباحه أمر الله تعالى بالسجود لمن يعتقد أنه خير منه وأفضل- كما يدل عليه الإباء والاستكبار- وقال أبو العالية: معنى مِنَ الْكافِرِينَ من العاصين ثم الظاهر أن كفره كان عن جهل بأن استرد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذي كان مرتديا به حين كان طاووس الملائكة- وأظافير القضاء إذا حكت أدمت، وقسى القدر إذا رمت أصمت.
وكان سراج الوصل أزهر بيننا فهبت به ريح من البين فانطفى
وقيل: عن عناد حمله عليه حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من النفاسة ولم يدر المسكين إنه لو امتثل ارتفع قدره وسما بين الملأ الأسمى فخره ولكن.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
وكم أرقت هذه القصة جفونا، وأراقت من العيون عيونا فإن إبليس كان مدة في دلال طاعته يختال في رداء مرافقته ثم صار إلى ما ترى وجرى ما به القلم جرى.
وكنا وليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت وزلّت
ومن هنا قال الشافعية والأشعرية- وبقولهم أقول- في هذه المسألة: إن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه ويأتي متصفا به في آخر حياته وأول منازل آخرته، ولذا يصح أنا مؤمن إن شاء الله تعالى بالشك، ولكن ليس في الإيمان الناجز بل في الإيمان الحقيقي المعتبر عند الموت وختم الأعمال. وقد صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه- كما أورده الزرقاني- إن من تمام إيمان العبد أن يستثني إذ عواقب المؤمنين مغيبة عندهم وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الإنعام:
١٨، ٦١]
وفي الصحيح عن جابر «كان صلّى الله عليه وسلّم يكثر من قوله يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك»
وخبر «من قال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فليس له من الإسلام نصيب»
موضوع باتفاق المحدثين، وأنا مؤمن بغيره إن شاء الله تعالى، هذا واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة، وكذا التي في الأعراف، وبني إسرائيل، والكهف، وطه أن سجود الملائكة ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه، ونفخ الروح فيه، وهو الذي يشهد له النقل والعقل إلا أن ما في- الحجر- من قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: ٢٨، ٣٠] وكذا ما في- ص- تستدعي ظاهرا ترتبه على ما فيها من الأمر التعليقي من غير أن يتوسط بينهما شيء غير الخلق وتوابعه، وبه قال بعضهم، وحمل ما في تلك الآيات من الأمر على حكاية الأمر التعليقي بعد تحقق المعلق به إجمالا فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز، و «ثم» في آية- الأعراف- للتراخي الرتبي، أو التراخي في الأخبار، أو يقال: إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه، فحكي على صورة التنجيز، ولما رأى بعضهم أن هذا مؤد إلى أن ما جرى في شأن الخلافة- وما قالوا: وما سمعوا- إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة قدره عليه السلام، وخروج إبليس من البين باللعن، وبعد مشاهدتهم لكل ذلك وهو خرق لقضية النقل بل خرق في العقل اضطر إلى القول بأن السجود كان مرتين، وهيهات لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، فالحق الحقيق ما دلت عليه هاتيك الآيات، وما استدل به المخالف لا ينتهض دليلا لأن الشرط إن كان قيدا للجزاء كان معناه على تقدير
233
صدق- إذا سويته- أطلب بناء على أن الشرط قيد للطلب على ما صرح به العلامة التفتازاني من أن معنى قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه، أي على تقدير صدق إن جاءك زيد أطلب منك إكرامه، وإن كان الحكم بين الشرط والجزاء فالجزاء الطلبي لا بد من تأويله بالخبر أي يستحق أن يقال في حقه أكرمه، وعلى التقديرين كان مدلول فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: ٢٩] طلبا استقباليا لا حاليا فلا يلزم تحقق الأمر بالسجود قبل التسوية، نعم لو كان الشرط قيدا للمطلوب لا للطلب يكون المعنى الطلب في الحال للسجود وقت التسوية فيفيد تقدم الأمر على التسوية، وقول مولانا الرازي قدس سره: إن الآية كما تدل على تقدم الأمر بالسجود على التسوية تفيد أن التعليم والإنباء كان بعد السجود لأنها تدل على أن آدم عليه السلام كما صار حيا صار مسجودا للملائكة لأن الفاء في فَقَعُوا للتعقيب لا يخفى ما فيه لأن الفاء للسببية لا للعطف، وهو لا يقتضي التعقيب كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا [الجمعة: ٩]، وقوله سبحانه: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، ومن الناس من حمل نفخ الروح في الآية على التعليم لما اشتهر أن العلم حياة والجهل موت، وأنت في غنى عنه، والله الموفق.
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ عطف على- إذ قلنا- بتقدير إذ أو بدونه أو على- قلنا- والزمان ممتد واسع للقولين، وتصدير الكلام بالنداء لتنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر وتحريكه لما يخاطب به إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يتوجه إليها، واسْكُنْ أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن لا من السكون ترك الحركة إذ ينافيه ظاهرا حَيْثُ شِئْتُما وذكر متعلقه بدون في وليس بمكان مبهم وأَنْتَ توكيد للمستكن في اسْكُنْ، والمقصد منه بالذات صحة العطف إذ لولاه لزم العطف على الضمير المتصل بلا فصل وهو ممتنع في الفصيح على الصحيح، وإفادة تقرير المتبوع مقصودة تبعا، وصح العطف مع أن المعطوف لا يباشره فعل الأمر لأنه وقع تابعا، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في المتبوع، وقيل: هناك تغليبان تغليب المخاطب على الغائب والمذكر على المؤنث، ولكون التغليب مجازا ومعنى السكون والأمر موجودا فيهما حقيقة خفي الأمر، فإما أن يلتزم أن التغليب قد يكون مجازا غير لغوي بأن يكون التجوز في الإسناد، أو يقال: إنه لغوي لأن صيغة الأمر هنا للمخاطب وقد استعملت في الأعم، وللتخلص عن ذلك قيل: إنه معطوف بتقدير فليسكن، وفيه أنه حينئذ يكون من عطف الجملة على الجملة فلا وجه للتأكيد، والأمر يحتمل أن يكون للإباحة- كاصطادوا- وأن يكون للوجوب كما أن النهي فيما بعد للتحريم وإيثاره على- اسكنا- للتنبيه على أنه عليه السلام المقصد بالحكم في جميع الأوامر وهي تبع له كما أنها في الخلقة كذلك، ولهذا قال بعض المحققين: لا يصح إيراد- زوجك- بدون العطف بأن يكون منصوبا على أنه مفعول معه، والجنة- في المشهور دار الثواب للمؤمنين يوم القيامة لأنها المتبادرة عند الإطلاق ولسبق ذكرها في السورة وفي ظواهر الآثار ما يدل عليه، ومنها ما في الصحيح من محاجة آدم وموسى عليهما السلام فهي إذن في السماء حيث شاء الله تعالى منها، وذهب المعتزلة وأبو مسلم الأصفهاني وأناس إلى أنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل: بأرض عدن، وقيل: بفلسطين كورة بالشام ولم تكن الجنة المعروفة، وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة: ٦١] أو على ظاهره، ويجوز أن تكون في مكان مرتفع قالوا: لأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان نقله إليها لكان أولى بالذكر ولأنه سبحانه قال في شأن تلك الجنة وأهلها لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة: ٢٥] ولا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور: ٢٣] وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر: ٤٨] وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحواء مع إدخالهما فيها على وجه السكنى لا كإدخال النبي صلى الله تعالى
234
عليه وسلم ليلة المعراج ولأن جنة الخلد دار للنعيم وراحة وليست بدار تكليف، وقد كلف آدم أن لا يأكل من الشجرة ولأن إبليس كان من الكافرين وقد دخلها للوسوسة ولو كانت دار الخلد ما دخلها ولا كاد لأن الأكابر صرحوا بأنه لو جيء بالكافر إلى باب الجنة لتمزق ولم يدخلها لأنه ظلمة وهي نور ودخوله مستترا- في الجنة على ما فيه- لا يفيد، ولأنها محل تطهير فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين ولأن أول حمل حواء كان في الجنة على ما في بعض الآثار ولم يرد أن ذلك الطعام اللطيف يتولد منه نطفة هذا الجسد الكثيف، والتزام الجواب عن ذلك كله لا يخلو عن تكلف، والتزام ما لا يلزم- وما في حيز المحاجة يمكن حمله على هذه الجنة وكون حملها على ما ذكر يجري مجرى الملاعبة بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين- غير مسلم، وقيل: كانت في السماء وليست دار الثواب بل هي جنة الخلد، وقيل: كانت غيرهما ويرد ذلك أنه لم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة المعروفة، واحتمال أنها خلقت إذ ذاك ثم اضمحلت مما لا يقدم عليه منصف، وقيل: الكل ممكن والله تعالى على ما يشاء قدير. والأدلة متعارضة، فالأحوط والأسلم هو الكف عن تعيينها والقطع به، وإليه مال صاحب
التأويلات، والذي ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم أنها في الأرض عند جبل الياقوت تحت خط الاستواء- ويسمونها جنة البرزخ- وهي الآن موجودة وإن العارفين يدخلونها اليوم بأرواحهم لا بأجسامهم ولو قالوا: إنها جنة المأوى- ظهرت حيث شاء الله تعالى وكيف شاء كما ظهر لنبينا صلّى الله عليه وسلّم على ما ورد في الصحيح في عرض حائط المسجد- لم يبعد على مشربهم ولو أن قائلا قال بهذا لقلت به لكن للتفرد في مثل هذه المطالب آفات. وكما اختلف في هذه الجنة اختلف في وقت خلق زوجه عليه السلام، فذكر السدي عن ابن مسعود، وابن عباس وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكنها آدم بقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعا من جانبه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة فسألها من أنت؟ قالت: امرأة قال ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ فقالت الملائكة تجربه لعلمه: من هذه؟
قال: امرأة قالوا: لم سميت امرأة؟ قال: لأنها خلقت من المراء فقالوا: ما اسمها؟ قال: حواء قالوا: لم سميت حواء؟
قال: لأنها خلقت من شيء حي. وقال كثيرون- ولعلي أقول بقولهم- إنها خلقت قبل الدخول ودخلا معا، وظاهر الآية الكريمة يشير إليه وإلا توجه الأمر إلى معدوم وإن كان في علمه تعالى موجودا، وأيضا في تقديم زَوْجُكَ على الْجَنَّةَ نوع إشارة إليه وفي المثل، الرفيق قبل الطريق. وأيضا هي مسكن القلب، والجنة مسكن البدن، ومن الحكمة تقديم الأول على الثاني، وأثر السدي- على ما فيه مما لا يخفى عليك- معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بعث الله جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور حتى أدخلوهما الجنة فإنه كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما الضمير المجرور للجنة على حذف مضاف أي من مطاعمها من ثمار وغيرها فلم يحظر عليهما شيئا إلا ما سيأتي، وأصل كُلا أأكلا بهمزتين الأولى للوصل، والثانية فاء الكلمة فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ وأتبعت بالأولى لفوات الغرض، وقيل: حذفا معا لكثرة الاستعمال- والرغد بفتح الغين- وقرأ النخعي- بسكونها- الهنيّ الذي لا عناء فيه أو الواسع، يقال: رغد عيش القوم، ورغد- بكسر الغين وضمها- كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم أخصبوا وصاروا في رغد من العيش، ونصبه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلا رغدا. وقال ابن كيسان: إنه حال بتأويل راغدين مرفهين، وحَيْثُ ظرف مكان مبهم لازم للظرفية، وإعرابها لغة بني فقعس ولا تكون ظرف زمان خلافا للأخفش، ولا يجزم بها دون «ما» خلافا للفراء، ولا تضاف للمفرد خلافا للكسائي ولا يقال: زيد حيث عمرو- خلافا للكوفيين- ويعتقب على آخرها الحركات الثلاث- مع الياء والواو والألف- ويقال: حايث على قلة- وهي هنا
235
متعلقة بكلا، والمراد بها العموم لقرينة المقام وعدم المرجح أي أي مكان من الجنة شِئْتُما وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول مما حظر. ولم تجعل متعلقة ب اسْكُنْ، لأن عموم الأمكنة مستفاد من جعل- الجنة- مفعولا به له، مع أن التكريم في الأكل من كل ما يريد منها لا في عدم تعيين السكنى ولأن قوله تعالى في آية أخرى:
فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما [الأعراف: ١٩] يستدعي ما ذكرنا، وكذا قوله سبحانه:
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ظاهر هذا النهي التحريم، والمنهي عنه الأكل من الشجرة، إلا أنه سبحانه نهى عن قربانها مبالغة، ولهذا جعل جل شأنه العصيان المرتب على الأكل مرتبا عليه، وعدل عن فتأثما إلى التعبير بالظلم الذي يطلق على الكبائر، ولم يكتف بأن يقول: ظالمين، بل قال: مِنَ الظَّالِمِينَ بناء على ما ذكروا أن قولك: زيد من العالمين، أبلغ من زيد عالم لجعله غريقا في العلم أبا عن جد، وإن قلنا بأن فَتَكُونا دالة على الدوام ازدادت المبالغة، ومن الناس من قال: لا تقرب- بفتح الراء- نهي عن التلبس بالشيء- وبضمها- بمعنى لا تدن منه، وقال الجوهري: قرب- بالضم- يقرب قربا دنا وقربته- بالكسر- قربانا دنوت منه. والتاء في الشَّجَرَةَ للوحدة الشخصية- وهو اللائق بمقام الإزاحة- وجاز أن يراد النوع، وعلى التقديرين- اللام- للجنس- كما في الكشف- ووقع خلاف في هذه الشجرة، فقيل: الحنطة، وقيل: النخلة،
وقيل: شجرة الكافور- ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه-
وقيل: التين، وقيل: الحنظل، وقيل: شجرة المحبة، وقيل: شجرة الطبيعة والهوى «وقيل، وقيل... » والأولى عدم القطع والتعيين- كما أن الله تعالى لم يعينها باسمها في الآية- ولا أرى ثمرة في تعيين هذه الشجرة- ويقال: فيها شجرة- بكسر الشين- وشيرة- بإبدال الجيم ياء مفتوحة مع فتح الشين وكسرها- وبكل قرأ بعض، وعن أبي عمرو أنه كره- شيرة- قائلا: إن برابر مكة وسودانها يقرؤون بها- ولا يخفى ما فيه، والشجر ما له ساق أو كل ما تفرع له أغصان وعيدان، أو أعم من ذلك لقوله تعالى: شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: ١٤٦] وقوله تعالى: فَتَكُونا إما مجزوم- بحذف النون- معطوفا على تَقْرَبا فيكون منهيا عنه وكان على أصل معناها، أو منصوب على أنه جواب للنهي كقوله سبحانه: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ [طه: ٨١] والنصب بإضمار «أن» عند البصريين- وبالفاء نفسها- عند الجرمي، وبالخلاف عند الكوفيين- وكان- حينئذ بمعنى صار، وأيّا ما كان من تفهم سببية ما تقدم لكونها مِنَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود الله تعالى، ولعل القربان المنهي عنه الذي يكون سببا للظلم المخل بالعصمة هو ما لا يكون مصحوبا بعذر- كالنسيان هنا مثلا- المشار إليه بقوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] فلا يستدعي حمل النهي على التحريم، والظلم- المقول بالتشكيك على ارتكاب المعصية عدم عصمة آدم عليه السلام- بالأكل المقرون بالنسيان- وإن ترتب عليه ما ترتب- نظرا إلى أن حسنات الأبرار سيئات المقربين- وللسيد أن يخاطب عبده بما شاء، نعم لو كان ذلك غير مقرون بعذر كان ارتكابه حينئذ مخلا- ودون إثبات هذا خرط القتاد- فإذا لا دليل في هذه القصة على عدم العصمة، ولا حاجة إلى القول إن ما وقع كان قبل النبوة لا بعدها- كما يدعيه المعتزلة- القائلون بأن ظهوره مع علمه بالأسماء معجزة على نبوته إذ ذاك. وصدور الذنب قبلها جائز عند أكثر الأصحاب- وهو قول أبي هذيل وأبي علي من المعتزلة- ولا إلى حمل النهي على التنزيه والظلم على نقص الحظ مثلا- والتزمه غير واحد- وقرىء تَقْرَبا- بكسر التاء- وهي لغة الحجازيين، وقرأ ابن محيصن «هذي» بالياء فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي حملهما على الزلة بسببها، وتحقيقه أصدر زلتهما عنها وعن هذه مثلها في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة: ١١٤] والضمير على هذا للشجرة، وقيل: أزلهما أي أذهبهما، ويعضده قراءة حمزة فأزالهما وهما
236
متقاربان في المعنى غير أن أزلّ يقتضي عثرة مع الزوال- والضمير حينئذ للجنة وعوده إلى الشجرة بتجوز، أو تقدير مضاف- أي محلها- أو إلى الطاعة المفهومة من الكلام- بعيد، وإزلاله- عليه اللعنة- إياهما- عليهما السلام- كان بكذبه عليهما ومقاسمته على ما قص الله تعالى في كتابه، وفي كيفية توسله إلى ذلك أقوال، فقيل: دخل الجنة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل: قام عند الباب فناداهما وأفسد حالهما، وقيل: تمثل بصورة دابة فدخل ولم يعرفه الخزنة، وقيل:
أرسل بعض أتباعه إليهما. وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة فدنت حواء منه، وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار، وقيل: توسل بحية تسورت الجنة- ومشهور حكاية الحية- وهذان الأخيران يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب، وتسور جدار الجنة عندهم إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة، وقيل: توسله إلى ما توسل إليه إذ ذاك مثل توسله اليوم إلى إذلال من شاء الله تعالى وإضلاله، ولا نعرف من ذلك إلا الهواجس والخواطر التي تفضي إلى ما تفضي، ولا جزم عند كثير في دخول الشيطان في القلب بل لا يعقلونه، ولهذا قالوا: خبر إن الشيطان- يجري من بني آدم مجرى الدم- محمول على الكناية عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وكأني بك تختار هذا القول، وقال أبو منصور: ليس لنا البحث عن كيفية ذلك، ولا نقطع القول بلا دليل، وهذا من الإنصاف بمكان، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «فوسوس لهما الشيطان عنها» (١) والضمير في هذه القراءة- للشجرة- لا غير، وعوده إلى- الجنة- بتضمين الإذهاب ونحوه بعيد فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من النعيم والكرامة أو من الجنة. «الأول» جار على تقدير رجوع ضمير عَنْها إلى- الشجرة- أو- الجنة- «الثاني» مخصوص بالتقدير الأول- لئلا يسقط الكلام. وقيل: أخرجهما من لباسهما الذي كانا فِيهِ لأنهما لما أكلا تهافت عنهما، وفي الكلام من التفخيم ما لا يخفى وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ- الهبوط- النزول، وعين المضارع تكسر وتضم، وقال المفضل: هو الخروج من البلد، والدخول فيها من الأضداد- ويقال في انحطاط المنزلة- والبعض في الأصل مصدر بمعنى القطع ويطلق على الجزء، وهو ككل ملازم للإضافة- لفظا أو نية- ولا تدخل عليه اللام، ويعود عليه الضمير مفردا ومجموعا- إذا أريد به جمع- والعدو- من- العداوة- مجاوزة الحد أو التباعد أو الظلم، ويطلق على الواحد المذكر ومن عداه بلفظ واحد، وقد يقال:- أعداء وعدوة- والخطاب لآدم وحواء، لقوله تعالى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: ١٢٣] والقصة واحدة، وجمع الضمير لتنزيلهما منزلة البشر كلهم، ولما كان في الأمر بالهبوط انحطاط رتبة المأمور لم يفتتحه بالنداء- كما افتتح الأمر بالسكنى- واختار الفراء أن المخاطب- هما وذريتهما- وفيه خطاب المعدوم، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وكثير من السلف- أنه هما وإبليس- واعترض بخروجه قبلهما. وأجيب بأن الاخبار عما قال لهم مفرقا- على أنه لا مانع من المعية- وقيل: هم والحية، واعترض بعدم تكليفها، وأجيب بأن الأمر تكويني، والجملة الاسمية منصوبة المحل على الحال المقدرة، والحكم باعتبار الذرية. وإذا دخل إبليس والحية- كان الأمر أظهر، ولا يرد أنه كيف يقيد الأمر بالتعادي- وهو منهي عنه- لأنا نقول بصرف توجه النظر عن القيد كون العداوة طبيعية- والأمور الطبيعية غير مكلف بها- وإن كلف فبالنظر إلى أسبابها، وإذا جعل الأمر تكوينيا زال الإشكال- إلا أن فيه بعدا- وبعضهم يجعل الجملة مستأنفة على تقدير السؤال فرارا عن هذا السؤال- مع ما في الاكتفاء بالضمير دون الواو في الجملة الاسمية الحالية من- المقال، حتى ذهب الفراء إلى
(١) سورة الأعراف الآية: ٢٠
237
شذوذه، وإن كان التحقيق ما ذكره بعض المحققين أن الجملة الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية- فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو- كجاء زيد، وأبوه منطلق- إلا ما شذ من نحو كلمته- فوه- إلى- في- وإن أجنبية لزمتها- الواو- نائبة عن العائد، وقد يجمع بينهما- كقدم بشر وعمرو قادم إليه- وقد جاءت- بلا ولا- كقوله:
ثم انتصبنا جبال الصغد معرضة عن اليسار وعن أيماننا جدد
وقد تكون صفة ذي الحال ك تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة: ٨٣] وهذه يجوز فيها الوجهان باطراد، وما نحن فيه من هذا القبيل فتدبر وإفراد العدو إما للنظر إلى لفظ البعض، وإما لأن وزانه وزان المصدر كالقبول، وبه تعلق ما قبله واللام- كما في البحر- مقوية، وقرأ أبو حيوة اهْبِطُوا- بضم الباء- وهو لغة فيه، وبهذا الأمر نسخ الأمر والنهي السابقان وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أراد بالأرض محل الإهباط، وليس المراد شخصه الذي هو لآدم عليه السلام- موضع بجبل سرنديب- ولحواء موضع بجدة، ولإبليس موضع بالأبلة، ولصاحبته موضع بنصيبين أو أصبهان أو سجستان- والمستقر- اسم مكان أو مصدر ميمي، ويحتمل- على بعد- كونه اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وتصرفكم فيه- وأبعد منه- احتمال كونه اسم زمان وهو مبتدأ خبره لَكُمْ وفيه متعلق بما تعلق به- والمتاع- البلغة، مأخوذ من متع النهار- إذا ارتفع- ويطلق على الانتفاع الممتد وقته- ولا يختص بالحقير- والحين مقدار من الزمان- قصيرا أو طويلا- والمراد هنا إلى وقت الموت- وهو القيامة الصغرى- وقيل: إلى يوم القيامة الكبرى، وعليه تجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض، أو يجعل الخطاب شاملا لإبليس- ويراد الكل المجموعي- والجار متعلق بمتاع، قيل: أو به، وبمستقر على التنازع- أو بمقدار صفة لمتاع- وهذه الجملة كالتي قبلها استئنافا وحالية.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ المراد- بتلقي- الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها، فهو مستعار من استقبال الناس بعض الأحبة- إذا قدم بعد طول الغيبة- لأنهم لا يدعون شيئا من الإكرام إلا فعلوه، وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الأخذ والقبول والعمل بها، وفي التعبير- بالتلقي- إيماء إلى أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت في مقام البعد ومِنْ رَبِّهِ حال من كَلِماتٍ مقدم عليها، وقيل: متعلق ب فَتَلَقَّى وهي من تلقاه منه بمعنى تلقنه، ولولا خلوّه عما في الأول من اللطافة لتلقيناه بالقبول، وقرأ ابن كثير بنصب آدَمُ ورفع كَلِماتٍ على معنى- استقبلته- فكأنها مكرمة له لكونها سبب العفو عنه، وقد يجعل الاستقبال مجازا عن البلوغ بعلاقة السببية، والمروي في المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن هذه الكلمات هي رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا [الأعراف: ٢٣] الآية، وعن ابن مسعود أنها، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وقيل: رأى مكتوبا على ساق العرش، محمد رسول الله فتشفع به، وإذا أطلقت الكلمة على عيسى عليه السلام، فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم، والحبيب الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم، فما عيسى، بل وما موسى، بل «وما، وما..» إلا بعض من ظهور أنواره، وزهرة من رياض أنواره، وروي غير ذلك فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة أصلها الرجوع وإذا أسندت إلى العبد كانت- كما في الاحياء- عبارة عن مجموع أمور ثلاثة- علم- وهو معرفة ضرر الذنب، وكونه حجابا عن كل محبوب، وحال يثمره ذلك العلم، وهو تألم القلب بسبب فوات المحبوب، ونسميه ندما، وعمل يثمره الحال- وهو الترك والتدارك- والعزم على عدم العود، وكثيرا ما تطلق على الندم وحده لكونه لازما للعلم مستلزما للعمل.
وفي الحديث «الندم توبة»
وطريق
238
تحصيلها تكميل الإيمان بأحوال الآخرة وضرر المعاصي فيها، وإذا أسندت إليه سبحانه كانت عبارة عن قبول التوبة والعفو عن الذنب ونحوه، أو التوفيق لها والتيسير لأسبابها بما يظهر للتائبين من آياته، ويطلعهم عليه من تخويفاته، حتى يستشعروا الخوف فيرجعوا إليه، وترجع في الآخرة إلى معنى التفضل والعطف، ولهذا عديت- بعلى- وأتى سبحانه بالفاء لأن تلقي الكلمات عين التوبة، أو مستلزم لها، ولا شك أن القبول مترتب عليه، فهي إذا لمجرد السببية، وقد يقال: إن التوبة لما دام عليها صح التعقيب- باعتبار آخرها إذ لا فاصل حينئذ- وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهما بكيا مائتي سنة على ما فاتهما، ولم يقل جل شأنه- فتاب عليهما- لأن النساء تبع يغني عنهن ذكر المتبوع، ولذا طوى ذكرهن في كثير من الكتاب والسنة، وفي الجملة الاسمية ما يقوي رجاء المذنبين، ويجبر كسر قلوب الخاطئين حيث افتتحها ب «أن» وأتى بضمير الفصل وعرف المسند وأتى به من صيغ المبالغة إشارة إلى قبوله التوبة كلما تاب العبد، ويحتمل أن ذلك لكثرة من يتوب عليهم، وجمع بين وصفي كونه توابا وكونه رحيما إشارة إلى مزيد الفضل، وقدم التَّوَّابُ لظهور مناسبته لما قبله، وقيل في ذكر الرَّحِيمُ بعده.
إشارة إلى أن قبول التوبة ليس على سبيل الوجوب- كما زعمت المعتزلة- بل على سبيل الترحم والتفضل، وأنه الذي سبقت رحمته غضبه، فيرحم عبده في عين غضبه- كما جعل هبوط آدم سبب ارتفاعه، وبعده سبب قربه- فسبحانه من تواب ما أكرمه، ومن رحيم ما أعظمه، وإذا فسر التواب بالرجاع إلى المغفرة- كان الكلام تذييلا- لقوله تعالى:
فَتابَ عَلَيْهِ أو بالذي يكثر الإعانة على التوبة- كان تذييلا- لقوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ إلخ، وقرأ نوفل إِنَّهُ بفتح الهمزة على تقدير- لأنه- قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً كرر للتأكيد، فالفصل لكمال الاتصال- والفاء- في فَتَلَقَّى للاعتراض، إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها- ولا يمهل- فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم «أولا» للتعادي وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني «وثانيا» ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع- الترديد- فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل:
إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟؟ فلو لم يعد الأمر لعطف فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ على «الأول» فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل- على بعد- أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: ١٧] وقال الجبائي: إن «الأول» من الجنة إلى السماء «والثاني» منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عقيب الأول وجَمِيعاً حال من فاعل اهْبِطُوا أي مجتمعين، سواء كان في زمان واحد أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: ٣٠] وأبعد ابن عطية فجعله تأكيدا لمصدر محذوف أي هبوطا جميعا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
لا يدخل في الخطاب غير المكلف، وأدرج الكثيرون إِبْلِيسَ لأنه مخاطب بالإيمان- والفاء- لترتيب ما
239
بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر وإما مركبة من إن الشرطية و «ما» الزائدة للتأكيد، وكثر تأكيد الفعل بعدها بالنون، ولم يجب كما يدل عليه قول سيبويه: إن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجئ «بما» وقد ورد ذلك في قوله:
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي
وقوله:
إما أقمت وإما كنت مرتحلا فالله يحفظ ما تبقي وما تذر
وحمل ذلك من قال بالوجوب على الضرورة وهو مما لا ضرورة إليه، والقول بأنه يلزم حينئذ مزية التابع الذي هو حرف الشرط على المتبوع وهو الفعل- يدفعه أن التابع ومؤكده تابع فلا مزية، أو أن «ما» لتأكيد الفعل في أوله كما أن النون إذا كانت تأكيدا له في آخره وجيء بحرف الشك إذ لا قطع بالوقوع فإنّه تعالى لا يجب عليه شيء بل إن شاء هدى وإن شاء ترك، وقيل: بالقطع واستعمال «إن» في مقامه لا يخلو عن نكتة كتنزيل العالم منزلة غيره بعدم جريه على موجب العلم، ويحسنه سبق ما سيق وقوعه من آدم، وقيل: إن زيادة «ما» والتوكيد بالثقيلة لا يتقاعد في إفادة القطع عن إذا، نعم لا ينظر فيه إلى الزمان بل إلى أنه محقق الوقوع أبهم وقته، وأنت تعلم أن ما اخترناه أسلم وأبعد عن التكلف مما ذكر- وإن جل قائله فتدبر- و «مني» متعلق بما قبله، وفيه شبه الالتفات- كما في البحر- وأتى بالضمير الخاص هنا للرمز إلى أن اللائق- بمن- هدى التوحيد الصرف وعدم الالتفات إلى الكثرة، ونكر- الهدى- لأن المقصود هو المطلق ولم يسبق فيه عهد فيعرف، وفي المراد به هنا أقوال، فقيل الكتب المنزلة، وقيل: الرسل، وقيل: محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولعل المراد هديه الذي جاء به نوابه عليهم الصلاة والسلام، والفاء في «فمن» للربط و «ما» بعد جملة شرطية وقعت جوابا للشرط الأول على حدّ- إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك- وقال السجاوندي: جوابه محذوف أي فاتبعوه، واختار أبو حيان كون «من» هذه موصولة لما في المقابل من الموصول، ودخلت الفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط، ووضع المظهر موضع المضمر في هداي إشارة للعلية لأن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع، وبالنظر إلى أنه أضيف إليه تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع، وقيل: لم يأت به ضميرا لأنه أعم من الأول لشموله لما يحصل بالاستدلال والعقل، ولم يقل الهدى لئلا تتبادر العينية أيضا لأن النكرة في الغالب إذا أعيدت معرفة كانت عين الأول مع ما في الإضافة إلى نفسه تعالى من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرفا باللام، والخوف الفزع في المستقبل، والحزن ضد السرور مأخوذ من الحزن- وهو ما غلظ من الأرض- فكأنه ما غلظ من الهمّ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي على المشهور، ويؤول حينئذ نحو إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف: ١٣] بعلم ذلك الواقع، وقيل: إنه والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف استشعارهم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوت محبوب، وجعل هنا نفي الخوف كناية عن نفي العقاب، ونفي الحزن كناية عن نفي الثواب وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة، والمعنى- لا خوف عليهم- فضلا عن أن يحل بهم مكروه، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه، فالمنفي عن الأولياء خوف حلول المكروه والحزن في الآخرة، وفيه إشارة إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن لا خوف فيها ولا حزن، وحينئذ يظهر التقابل بين الصنفين في الآيتين، وقال بعض الكبراء: خوف المكروه منفي عنهم مطلقا. وأما خوف الجلال ففي غاية الكمال والمخلصون على خطر عظيم، وقيل: المعنى- لا خوف عليهم- من الضلالة في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في العقبى، وقدم انتفاء الخوف لأن انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن على ما فات. ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي، وقدم
240
الضمير إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وأن غيرهم يحزن. والمراد بيان دوام الانتفاء لا بيان انتفاء الدوام كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما تقرر في محله أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام، وذكر بعض الناس أن العدول عن لا خوف لهم أو عندهم إلى- لا خوف عليهم- للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم. وفي البحر أنه سبحانه كني بعليهم عن الاستيلاء والإحاطة إشارة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ألا ترى انصراف النفي على كونية الخوف عليهم، ولا يلزم من نفي كونية استيلاء الخوف انتفاؤه في كل حال، فلا دليل
في الآية على نفي أهوال القيامة وخوفها عن المطيعين، وأنت تعلم أن فيما أشرنا إليه كناية غنية عن مثله وكذا عما قيل إن نفي الاستيلاء للتعريض بالكفار، والإشارة إلى أن الخوف مستول عليهم. هذا وقرأ الأعرج «هداي» بسكون الياء، وفيه الجمع بين ساكنين وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الجحدري وغيره «هدي» بقلب الألف ياء وإدغامها في الياء على لغة هذيل. وقرأ الزهري وغيره «فلا خوف» بالفتح، وابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين، وكأنه حذف لنية الإضافة، أو لكثرة الاستعمال، أو لملاحظة اللام في الاسم- على ما في البحر- ليحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلا الجملتين وهو على قراءة الجمهور مبتدأ، وعَلَيْهِمْ خبره أو أن لا عاملة عمل ليس كما قال ابن عطية والأول أولى.
241
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ عطف على فَمَنْ تَبِعَ قسيم له كأنه قال: ومن لم يتبعه، وإنما أوثر عليه ما ذكر تعظيما لحال الضلالة وإظهارا لكمال قبحها أو لأن من لم يتبع شامل لمن لم تبلغه الدعوة ولم يكن من المكلفين فعدل عن ذلك لإخراجهم، ولأنه شامل للفاسق بناء على أن المراد بالمتابعة المتابعة الكاملة ليترتب عليه عدم الخوف والحزن فلو قال سبحانه ذلك لزم منه خلوده في النار ولما قال ما قال لم يلزم ذلك بل خرج الفاسق من الصنفين، ويعلم بالفحوى أن عليه خوفا وحزنا على قدر عدم المتابعة- ولو جعل قوله تعالى:
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حينئذ لنفي استمرار الخوف والحزن، وأريد بمتابعة الهدى الإيمان به تعالى- كان داخلا في فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ إلا أن أولياء كتاب الله تعالى لا يرضون ذلك ولا يقبلون- وأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون- وإيراد الموصول بصيغة الجمع للإشارة إلى كثرة الكفرة، والمتبادر من الكفر الكفر بالله تعالى، ويحتمل أن يكون كفروا وكذبوا متوجهين إلى الجار والمجرور فيراد بالكفر بالآيات إنكارها بالقلب، وبالتكذيب إنكارها باللسان. والآية في الأصل العلامة الظاهرة بالقياس إلى ذي العلامة، ومنه آية القرآن لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها والذي قبلها، أو لأنها علامة على معناها وأحكامها، وقيل: سميت آية لأن الآية تطلق على الجماعة أيضا، كما قال أبو عمرو يقال: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم، وهي جماعة من القرآن وطائفة من الحروف، وذكر بعضهم أنها سميت بذلك لأنها عجب يتعجب من إعجازه، كما يقال: فلان آية من الآيات، وفي أصلها ووزنها أقوال: فمذهب سيبويه والخليل أن أصلها أيية- بفتحات- قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها على خلاف القياس- كغاية وراية- إذ المطرد عند اجتماع حرفي علة إعلال الآخر لأنه محل التغيير، ومذهب الكسائي أن أصلها آيية- كفاعلة- وكان القياس أن تدغم كدابة، إلا أنه ترك ذلك تخفيفا فحذفوا عينها، ومذهب الفراء أن وزنها فعلة- بسكون العين- من تأيّ القوم إذا اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء كأفعال، فظهرت الياء، والهمزة الأخيرة بدل ياء والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة، ولو كان عينها واوا لقالوا في الجمع: آواء، ثم إنهم قلبوا الياء الساكنة ألفا على غير القياس لعدم تحركها وانفتاح ما قبلها. ومذهب الكوفيين أن وزنها- أيية- كنبقة فأعلت وهو في الشذوذ كالأول، وقيل: وزنها فعلة بضم العين، وقيل: أصلها أياة فقدمت اللام وأخرت العين- وهو ضعيف- وكل الأقوال فيها لا تخلو عن شذوذ، ولا بدع فهي آية، والمراد بالآيات هنا الكتب المنزلة أو الأنبياء، أو القرآن، أو الدوال عليه سبحانه من كتبه ومصنوعاته، وينزل المعقول منزلة الملفوظ ليتأتى التكذيب، وأتى سبحانه بنون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة، وأضاف تعالى الآيات إليها لإظهار كمال قبح التكذيب بها، وأشار ب أُولئِكَ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة للإشعار بتميز أُولئِكَ بذلك الوصف تميزا مصححا للإشارة الحسية مع الإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ خبره
242
أصحاب وهو جمع صاحب، وجمع فاعل على أفعال شاذ (١) كما في البحر، ومعنى الصحبة الاقتران بالشيء، والغالب في العرف أن تطلق على الملازمة، وهذه الجملة خبر عن الذين، ويحتمل أن يكون اسم الإشارة بدلا منه أو عطف بيان، والأصحاب خبره، والجملة الاسمية بعد في حيز النصب على الحالية لورود التصريح في قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها [التغابن: ١٠] وجوّز كونها حالا من النار لاشتمالها على ضميرها، والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة، أو في حيز الرفع على أنها خبر آخر- لأولئك- على رأي من يرى ذلك، قال أبو حيان: ويحتمل أن تكون مفسرة لما أبهم في أَصْحابُ النَّارِ مبينة أن هذه الصحبة لا يراد منها مطلق الاقتران بل الخلود، فلا يكون لها إذ ذاك محل من الإعراب، والخلود هنا الدوام على ما انعقد عليه الإجماع، ومن البديع ما ذكره بعضهم أن في الآيتين نوعا منه، يقال له الاحتباك، ويا حبذاه لولا الكناية المغنية عما هناك.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الخطاب العام، وإقامة دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والتذكير بصنوف الإنعام، وجعله سبحانه بعد قصة آدم، لأن هؤلاء بعد ما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، وأمروا ونهوا وحرضوا على اتباع- النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم- ظهر منهم ضد ذلك، فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة، وهبطوا إلى أرض الطبيعة، وتعرضت لهم الكلمات- إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول- ففات منهم ما فات، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي. وبَنِي جمع ابن شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده، ولذا ألحق في فعله تاء التأنيث- كقالت بنو عامر- وهو مختص بالأولاد الذكور، وإذا أضيف عم في العرف- الذكور والإناث- فيكون بمعنى الأولاد- وهو المراد هنا- وذكر الساليكوتي أنه حقيقة في الأبناء الصلبية- كما بين في الأصول- واستعماله في العام مجاز، وهو محذوف اللام، وفي كونها- ياء أو واوا- خلاف، فذهب إلى الأول ابن درستويه وجعله من البناء، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه، ولهذا ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال للقصيدة مثلا: بنت الفكر، وقد أطلق في شريعة من قبلنا على بعض المخلوقين- أبناء الله تعالى- بهذا المعنى، لكن لما تصوّر من هذا الجهلة الأغبياء- معنى الولادة- حظر ذلك حتى صار التفوه به كفرا، وذهب إلى الثاني الأخفش، وأيده بأنهم قالوا: البنوّة، وبأن حذف- الواو- أكثر، وقد حذفت في- أب وأخ- وبه قال الجوهري: ولعل الأول أصح، ولا دلالة في البنوة. لأنهم قالوا أيضا: الفتوة، ولا خلاف في أنها من ذوات- الياء- وأمر الأكثرية سهل، وعلى التقديرين في وزن- ابن- هل هو فعل أو فعل؟ خلاف و «إسرائيل» اسم أعجمي، وقد ذكروا أنه مركب من- إيل- اسم من أسمائه تعالى، و «إسرا» وهو العبد، أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر- وهو لقب سيدنا يعقوب عليه السلام- وللعرب فيه تصرفات، فقد قالوا: إِسْرائِيلَ بهمزة بعد الألف وياء بعدها- وبه قرأ الجمهور- «وإسراييل» - بياءين بعد الألف- وبه قرأ أبو جعفر وغيره- «وإسرائيل» - بهمزة ولام، وهو مروي عن ورش- «وإسرأل» - بهمزة مفتوحة ومكسورة بعد الراء، ولام- «وإسرأل» - بألف ممالة- بعدها لام خفيفة- وبها ولا إمالة- وهي رواية عن نافع- وقراءة الحسن وغيره «وإسرائين» بنون بدل اللام، كما في قوله: (٢)
(١) والصحبة والصحابة- أسماء جموع وكذا صحب على الأصح خلافا للأخفش اهـ منه.
(٢) كذا بخط المؤلف والمشهور.
قالت وكنت رجلا فطينا هذا لعمر الله إسرائينا
اهـ مصححه.
243
تقول أهل السوء لما جينا... هذا ورب البيت «إسرائينا»
وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب- تأكيدا لتحريكهم إلى طاعته- فإن في إِسْرائِيلَ ما ليس في اسمه الكريم- يعقوب- وقولك: يا ابن الصالح أطع الله تعالى، أحث للمأمور من قولك: يا ابن زيد- مثلا- أطع، لأن الطبائع تميل إلى اقتفاء أثر الآباء- وإن لم يكن محمودا- فكيف إذا كان؟ ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب- بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة- وهي من بيت النبوّة أحسن- والسيئة في نفسها سيئة- وهي من بيت النبوّة أسوأ، واذْكُرُوا أمر من الذكر- بكسر الذال وضمها- بمعنى واحد، ويكونان باللسان والجنان، وقال الكسائي: هو بالكسر- للسان- وبالضم- للقلب- وضد الأول الصمت، وضد الثاني النسيان.
«وعلى العموم» فإما أن يكون مشتركا بينهما، أو موضوعا لمعنى عام شامل لهما «والظاهر» هو الأول، والمقصود من الأمر بذلك- الشكر على النعمة والقيام بحقوقها- لا مجرد الاخطار بالجنان، أو التفوه باللسان، وإضافة النعمة إلى ضميره تعالى لتشريفها، وإيجاب تخصيص شكرها به سبحانه، وقد قال بعض المحققين: إنها تفيد الاستغراق- إذ لا عهد- ولمناسبته بمقام الدعوة إلى الإيمان، فهي شاملة للنعم العامة والخاصة بالمخاطبين، وفائدة التقييد بكونها عليهم أنها- من هذه الحيثية أدعى للشكر- فإن الإنسان حسود غيور، وقال قتادة: أريد بها ما أنعم به على آبائهم- مما قصه سبحانه في كتابه- وعليهم من فنون النعمة التي أجلها- إدراك زمن أشرف الأنبياء- وجعلهم من جملة أمة الدعوة له، ويحتاج تصحيح الخطاب حينئذ إلى اعتبار التغليب، أو جعل نعم الآباء نعمهم، فلا جمع بين الحقيقة والمجاز- كما وهم- ويجوز في الياء من نِعْمَتِيَ الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح، وأَنْعَمْتُ صلة الَّتِي والعائد محذوف، والتقدير- أنعمتها- وقرىء- اذكروا- بالدال المهملة المشددة على وزن افتعلوا وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يقال: أوفى ووفى- مخففا ومشددا- بمعنى، وقال ابن قتيبة: يقال: أوفيت بالعهد ووفيت به، وأوفيت الكيل لا غير، وجاء- أوفى- بمعنى ارتفع كقوله:
ربما «أوفيت» في علم... ترفعن ثوبي شمالات
«والعهد» يضاف إلى كل ممن يتولى أحد طرفيه، والظاهر هنا أن الأول مضاف إلى الفاعل، والثاني إلى المفعول، فإنه تعالى أمرهم بالإيمان والعمل وعهد إليهم بما نصب من الحجج العقلية والنقلية الآمرة بذلك، ووعدهم بحسن الثواب على حسناتهم والمعنى أَوْفُوا بِعَهْدِي بالإيمان والطاعة أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بحسن الإثابة، ولتوسط الأمر صح طلب الوفاء منهم. واندفع ما قال العلامة التفتازاني على ما فيه أنه لا معنى لوفاء غير الفاعل بالعهد، وقيل:- وهو المفهوم من كلام قتادة ومجاهد- أن كليهما مضاف إلى المفعول والمعنى- أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان (١) والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة، وتفصيل العهدين قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله سبحانه: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ [المائدة: ١٢] إلخ، ويحوج هذا إلى اعتبار أن عهد الآباء عهد الأبناء لتناسبهم في الدين، وإلا فالمخاطبون ب أَوْفُوا ما عوهدوا بالعهد المذكور في الآية، وقيل: إن فسر- الإيفاء- بإتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين، وإن فسر بمراعاته تكون الإضافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول وفيه تأمل، ولا يخفى أن للوفاء عرضا عريضا، فأول المراتب الظاهرة منا الإتيان بكلمتي الشهادة، ومنه تعالى حقن الدماء والمال وآخرها منا الفناء حتى عن الفناء، ومنه تعالى التحلية بأنوار الصفات والأسماء- فما روي من الآثار على اختلاف
(١) ذكر الالتزام لأنه قد يعوق عن الفعل عائق، ويعد وافيا اهـ منه.
244
أسانيدها صحة وضعفا في بيان الوفاء بالعهدين، فبالنظر إلى المراتب المتوسطة، وهي لعمري كثيرة- ولك أن تقول:
«أول» المراتب منا توحيد الأفعال، «وأوسطها» توحيد الصفات.
«وآخرها» توحيد الذات، ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق، وقرأ الزهري «أوّف» بالتشديد، فإن كان موافقا للمجرد فذاك وإن أريد به التكثير- والقلب إليه يميل- فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه، ومزيد امتنانه، حيث أخبر وهو الصادق، أنه يعطي الكثير في مقابلة القليل، وهو صرح بذلك في قوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الإنعام: ١٦٠] وانجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر، والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر وهو اختيار الفارسي ونص سيبويه.
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة الخوف مطلقا، وقيل: مع تحرز، وبه فارق الاتقاء لأنه مع حزم ولهذا كان الأول للعامة، والثاني للأئمة، والأشبه بمواقع الاستعمال أن الاتقاء التحفظ عن المخوف، وأن يجعل نفسه في وقاية منه، والرهبة نفس الخوف، وفي الأمر بها وعيد بالغ، وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت:
٤٠] كما وهم لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى وَإِيَّايَ ضمير منفصل منصوب المحل بمحذوف يفسره المذكور، والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلا على تقدير الشرط، ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء، ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع، ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان، واختار صاحب المفتاح أنها للعطف على الفعل المحذوف، فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب استمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبي كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك اجتماعها مع واو العطف مثلا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون فارهبون مفسرا للمحذوف لا يقتضي اتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لا يصح جعلها عاطفة واستحسن هذا بعض المتأخرين لاشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية، وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة: إنها عاطفة بحسب الأصل، وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] وعد من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي ارهبوا فَارْهَبُونِ وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة، وحذف متعلق الرهبة للعموم أي ارهبوني في جميع ما تأتون وتذرون، وقيل: ارهبون في نقض العهد ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان، خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر، وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب. وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن المعنى ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره- ظاهر في قسم أهل الظاهر وهو المناسب بحال هؤلاء المخاطبين- الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون- وحذفت ياء الضمير من ارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ عطف على ما قبله، وظاهره أنه أمر لبني إسرائيل، وقيل: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم، وأفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في أَوْفُوا بِعَهْدِي بمجموع الأمر به والحث عليه المستفاد من قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ للإشارة إلى أنه المقصود، والعمدة للوفاء بالعهود، وبِما موصولة، وأَنْزَلْتُ صلته والعائد محذوف أي أنزلته ومصدقا حال إما من الموصول أو من ضميره المحذوف. واللام في لِما مقوية،
245
والمراد بما أنزلت القرآن، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه والمراد بما معكم التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرار المراجعة إليها والوقوف على تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقا لها، ومعنى تصديقه لها أنه نازل حسبما نعت فيها، أو مطابق لها في أصل الدين والملة أو لما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرمات- كالكذب، والزنا، والربا- أو لجميع ما فيها والمخالفة في بعض جزئيات الأحكام التي هي للأمراض القلبية كالأدوية الطبية للأمراض البدنية المختلفة بحسب الأزمان والأشخاص ليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كلّا منها حق في عصره متضمن للحكمة التي يدور عليها فلك التشريع، وليس في التوراة ما يدل على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها بل إن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها وانتهاء وقتها الذي شرعت للمصلحة فيه وليس هذا من البداء في شيء كما يتوهمون، فإذن المخالفة في تلك الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتقدم، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم، وإلى ذلك يشير ما أخرجه الإمام أحمد وغيره
عن جابر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين قرأ بين يديه عمر رضي الله تعالى عنه شيئا من التوراة: «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية الدارمي «والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني»
وتقييد المنزل بكونه- مصدقا لما معهم- لتأكيد وجوب الامتثال فإن إيمانهم بما معهم يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا، ومن الناس من فسر المنزل بالكتاب- والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم- وما معهم بالتوراة والإنجيل، وليس فيه كثير بعد إلا أن البعيد من وجه جعل- مصدقا- حالا من الضمير المرفوع والأبعد جعل ما مصدرية، ومصدقا حال من- ما- الثانية، وأبعد منه جعله حالا من المصدر المقدر.
وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون حقيقة الأمر وحقيته. وقد كنتم من قبل تقولون إنا نكون أول من يتبعه فلا تضعوا موضع ما يتوقع فيكم، ويجب منكم ما يبعد صدوره عنكم ويحرم عليكم من كونكم أول كافر به. وأَوَّلَ في المشهور أفعل لقولهم: هذا أول منك ولا فعل له لأن فاءه وعينه واو. وقد دل الاستقراء على انتفاء الفعل لما هو كذلك وإن وجد فنادر. وما في الشافية من أنه من وول بيان للفعل المقدر. وقيل: أصله- أو أل- من وأل وأولا إذا لجأ ثم خفف بإبدال الهمزة واوا ثم الإدغام وهو تخفيف غير قياسي، والمناسبة الاشتقاقية أن الأول الحقيقي- أعني ذاته تعالى- ملجأ للكل وإن قلنا وأل بمعنى تبادر فالمناسبة أن التبادر سبب الأولية، وقيل أوأل من آل بمعنى رجع، والمناسبة الاشتقاقية على قياس ما ذكر سابقا، وإنما لم يجمع على أو أول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع، وقال الدريدي: هو فوعل فقلبت الواو الأولى همزة، وأدغمت واو فوعل في عين الفعل، ويبطله ظاهرا منع الصرف وهو خبر عن ضمير الجمع، ولا بد هنا عند الجمهور من تأويل المفضل عليه بجعله مفردا للفظ جمع المعنى أي أَوَّلَ فريق مثلا أو تأويل المفضل أي لا يكن كل واحد منكم، والمراد عموم السلب كما في لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ [القلم: ١٠] وبعض الناس- لا يوجب في مثل هذا- المطابقة بين النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل وما جرى هو عليه بل يجوز الوجهان عنده كما في قوله:
وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع
ومن أوجب أول البيت كالآية ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد التعريض- فأول- الكافرين غيرهم أو وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ من أهل الكتاب والخطاب للموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم بل للعلماء منهم، وقد يقال الضمير راجع إلى ما معكم والمراد من- لا تكونوا أول كافر- بما
246
معكم- لا تكونوا أول كافر- ممن كفر بما معه- ومشركو مكة- وإن سبقوهم في الكفر بما يصدق القرآن حيث سبقوا بالكفر به وهو مستلزم لذلك لكن ليسوا ممن كفر بما معه، والفرق بين لزوم الكفر والتزامه غير بين إلا أنه يخدش هذا الوجه، إن هذا واقع في مقابلة آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ فيقتضي اتحاد متعلق الكفر والإيمان، وقيل: يقدر في الكلام مثل، وقيل: يقدر- ولا تكونوا أول كافر- وآخره وقيل: أَوَّلَ زائدة، والكل بعيد، وبحمل التعريض على سبيل الكناية يظهر وجه التقييد بالأولية، وقيل: إنها مشاكلة لقولهم إنا نكون أول من يتبعه، وقد يقال: إنها بمعنى السبق، وعدم التخلف، فافهم وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا الاشتراء مجاز عن الاستبدال لاختصاصه بالأعيان إما باستعمال المقيد في المطلق- كالمرسن في الأنف- أو تشبيه الاستبدال المذكور في كونه مرغوبا فيه بالاشتراء الحقيقي، والكلام على الحذف- أي لا تستبدلوا بالإيمان بآياتي، والاتباع لها- حظوظ الدنيا الفانية القليلة المسترذلة بالنسبة إلى حظوظ الآخرة وما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم العظيم الأبدي، والتعبير عن ذلك- بالثمن- مع كونه مشتري لا مشترى به للدلالة على كونه كالثمن في الاسترذال والامتهان، ففيه تقريع وتجهيل قوي حيث إنهم قلبوا القضية وجعلوا المقصود آلة والآلة مقصودة وإغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنا بإطلاق الثمن عليه، ثم جعل الثمن مشترى بإيقاعه بدلا لما جعله ثمنا بإدخال الباء عليه «فإن قيل» : الاشتراء بمعنى الاستبدال بالإيمان بالآيات إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك للحظوظ الدنيوية وهم بمعزل عن الإيمان، أجيب بأن مبنى ذلك على أن الإيمان بالتوراة الذي يزعمونه إيمان بالآيات كما أن الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الاستبدال، ومن الناس من جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي التي وقفوا عليها في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من التوراة والكتب الإلهية أو ما علموه من نعته الجليل وخلقه العظيم عليه الصلاة والسلام، وقد كانوا يأخذون كل عام شيئا معلوما من زروع أتباعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا ذلك لهم وتابعوه صلّى الله عليه وسلّم أن يفوتهم ذلك فضلوا وأضلوا، وقيل: كان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا، وقيل: غير ذلك، وقد استدل بعض أهل العلم بالآية على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى والعلم، وروي في ذلك أيضا أحاديث لا تصح. وقد صح
أنهم قالوا: «يا رسول الله أنأخذ على التعليم أجرا؟ فقال: إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى»
وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز ذلك وإن نقل عن بعضهم الكراهة، ولا دليل في الآية على ما ادعاه هذا الذاهب كما لا يخفى والمسألة مبينة في الفروع.
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الاشتراء بآيات الله تعالى الثمن القليل والعرض الزائل، وإنما ذكر في الآية الأولى فَارْهَبُونِ وهنا فَاتَّقُونِ لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها أمرهم بالرهبة التي تورث التقوى ويقع فيها الاشتراك ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله، وحيثما أراد بالخطاب فيما بعد- العلماء منهم، وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات- أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات، وليس وراء عبادان قرية.
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ هذا النهي مع ما بعده معطوف على مجموع الآية التي قبله وهي قوله تعالى:
وَآمِنُوا إلخ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: ٣] إن مجموع الوصفين الأخيرين بعد اعتبار التعاطف معطوف على مجموع الأولين كذلك، ويجوز العطف على جملة واحدة من الجمل السابقة إلا أن المناسبة على الأول أشد والملاءمة أتم. واللبس (١) بفتح اللام الخلط، وفعله لبس من باب ضرب
(١) وأما- اللبس- بضم اللام وفعله من باب علم فمعناه پوشيدن جامه كما في التاج، ويفهم ذلك من الصحاح اهـ منه.
247
ويكون بمعنى الاشتباه إما بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز: والباء إما للتعدية أو للاستعانة واللام في- الحق والباطل- للعهد أي لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الذي اخترعتموه وكتبتموه أو لا تجعلوا ذلك ملتبسا مشتبها غير واضح لا يدركه الناس بسبب الباطل وذكره، ولعل الأول أرجح لأنه أظهر وأكثر لا لأن جعل وجود الباطل سببا لالتباس الحق ليس أولى من العكس لما أنه لما كان المذموم هو التباس الحق بالباطل- وإن لزمه العكس وكان هذا طارئا على ذلك- استحق الأولوية التي نفيت وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ مجزوم بالعطف على تَلْبِسُوا فالنهي عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار- أن- وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم. وروى الجرمي إن النصب بنفس الواو- وهي عندهم بمعنى مع- وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف، والمراد لا يكن منكم لبس الحق على من سمعه وكتمان الحق وإخفاؤه عمن لم يسمعه، والقصد أن ينعى عليهم سوء فعلهم الذي هو الجمع بين أمرين كل منهما مستقل بالقبح، ووجوب الانتهاء وطريق واسع إلى الإضلال والإغواء، وحيث كان التلبيس بالنسبة إلى من سمع، والكتمان إلى من لم يسمع اندفع السؤال بأن النهي عن الجمع بين شيئين إنما يتحقق إذا أمكن افتراقهما في الجملة وليس- لبس الحق بالباطل مع كتمان الحق كذلك- ضرورة أن لبس الحق بالباطل كتمان له، وكرر الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة وإما لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح باسم الحق ما ليس في ضميره، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- وتكتمون- وخرجت على أن الجملة في موضع الحال- أي وأنتم تكتمون أو كاتمين- وفي جواز اقتران الحال المصدرة بالمضارع بالواو قولان، وليس للمانع دليل يعتمد عليه، وهذه الحال عند بعض المحققين لازمة والتقييد لإفادة التعليل كما في- لا تضرب زيدا وهو أخوك- وعليه يكون المراد بكتمان الحق ما يلزم من لبس الحق بالباطل لا إخفائه عمن لا يسمع، وجوز أن تكون معطوفة على جملة النهي على مذهب من يرى جواز ذلك- وهو سيبويه وجماعة- ولا يشترط التناسب في عطف الجمل وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية ومفعول تَعْلَمُونَ محذوف اقتصارا- أي وأنتم من ذوي العلم- ولا يناسب من كان عالما أن يتصف بالحال الذي أنتم عليه، ولا يبعد أن يكون الحذف للاختصار- أي وأنتم تعلمون أنكم لابسون كاتمون- أو تعلمون صفته صلّى الله عليه وسلّم أو البعث والجزاء، والمقصود من تقييد النهي بالعلم زيادة تقبيح حالهم لأن الإقدام على هاتيك الأشياء القبيحة مع العلم بما ذكر أفحش من الإقدام عليها مع الجهل- وليس من يعلم كمن لا يعلم- وجوز ابن عطية أن تكون هذه الجملة معطوفة وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الاخبار، وهي عنده شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وليست شاهدة بالعلم على الإطلاق إذ هم بمراحل عنه، واستدل بالآية على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه بالشروط المعروفة لدى العلماء وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ المراد بهما- سواء كانت اللام للعهد أو للجنس- صلاة المسلمين وزكاتهم لأن غيرهما مما نسخه القرآن ملتحق بالعدم، والزكاة في الأصل النماء والطهارة، ونقلت شرعا لإخراج معروف فإن نقلت من الأول فلأنها تزيد بركة المال وتفيد النفس فضيلة الكرم، أو لأنها تكون في المال النامي وإن نقلت من الثاني فلأنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل. واستدل بالآية حيث كانت خطابا لليهود من قال: إن الكفار مخاطبون بالفروع واحتمال أن يكون الأمر فيها بقبول الصلاة المعروفة والزكاة والإيمان بهما، أو أن يكون أمرا للمسلمين- كما قاله الشيخ أبو منصور- خلاف الظاهر فلا ينافي الاستدلال بالظاهر، وقدم الأمر بالصلاة لشمول وجوبها ولما فيها من الإخلاص والتضرع للحضرة، وهي أفضل العبادات البدنية وقرنها بالزكاة لأنها أفضل العبادات المالية، ثم من قال: لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قال إنما جاء هذا بعد أن بين صلّى الله عليه وسلّم أركان ذلك وشرائطه، ومن قال بجوازه قال
بجواز أن يكون الأمر لقصد أن يوطن السامع نفسه- كما يقول السيد لعبده
248
إني أريد أن آمرك بشيء فلا بد أن تفعله وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أي صلوا مع المصلين وعبر بالركوع عن الصلاة احترازا عن صلاة اليهود فإنها لا ركوع فيها وإنما قيد ذلك بكونه مع الراكعين لأن اليهود كانوا يصلون وحدانا فأمروا بالصلاة جماعة لما فيها من الفوائد ما فيها، واستدل به بعضهم على وجوبها ومن لم يقل به حمل الأمر على الندب أو المعية على الموافقة وإن لم يكونوا معهم وقيل: الركوع- الخضوع والانقياد لما يلزمهم من الشرع قال الأضبط السعدي:
لا تذل الفقير علّك أن «تركع» يوما والدهر قد رفعه
ولعل الأمر به حينئذ بعد الأمر بالزكاة لما أنها مظنة ترفع فأمروا بالخضوع لينتهوا عن ذلك إلا أن الأصل في إطلاق الشرع المعاني الشرعية: وفي المراد بالراكعين قولان: فقيل، النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقيل: الجنس وهو الظاهر «ومن باب الإشارة» في قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ إلخ أي لا تقطعوا على أنفسكم طريق الوصول إلى الحق بالباطل الذي هو تعلق القلب بالسوي- فإن أصدق كلمة قالها شاعر- لكمة لبيد.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ولا تَكْتُمُوا الْحَقَّ بالتفاتكم إلى غيره سبحانه وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه ليس لغيره وجود حقيقي أو لا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة الحقة بالباطل الذي هو صفات نفوسكم ولا تكتموها بحجاب صفات النفس وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفته لغيره وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بمراقبة القلوب وَآتُوا الزَّكاةَ أي بالغوا في تزكية النفس عن الصفات الذميمة لتحصل لكم التحلية بعد التخلية. أو أدوا زكاة الهمم فإن لها زكاة كزكاة النعم بل إن لكل شيء زكاة كما قيل:
كل شيء له «زكاة» تؤدى وزكاة- الجمال رحمة مثلي
وَارْكَعُوا أي اخضعوا لما يفعل بكم المحبوب، فالخضوع علامة الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات العلى، وحاصله ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي فإن لي أحبابا لسان حال كل منهم يقول:
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل
ثم إنه تعالى لما أمرهم بفعل الخير شكرا لما خصهم به من النعم حرضهم على ذلك من مأخذ آخر بقوله سبحانه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ والهمزة فيه للتقرير مع توبيخ وتعجيب والبر- سعة المعروف والخير، ومنه البر، والبرية للسعة، ويتناول كل خير، والنسيان- كما في البحر- السهو الحادث بعد العلم. والمراد به هنا الترك لأن أحدا لا ينسى نفسه بل يحرمها ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة في عدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله، وقد نزلت هذه الآية- على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا يتبعونه وقيل: إنهم كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون فالمراد بالبر هنا إما الإيمان أو الإحسان، وتركه بعضهم على ظاهره متناولا كل خير على ما قال السدي: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية، والتوبيخ ليس على أمر الناس بِالْبِرِّ نفسه بل لمقارنته بالنسيان المذكور وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أي التوراة، والجملة حال من فاعل أَتَأْمُرُونَ، والمراد التبكيت وزيادة التقبيح أَفَلا تَعْقِلُونَ أصل هذا الكلام ونحوه عند الجمهور كان بتقديم حرف العطف على الهمزة لكن لما كان للهمزة صدر الكلام قدمت على حرف العطف، وبعضهم ذهب إلى أنه لا تقديم ولا تأخير ويقدر بين الهمزة وحرف العطف ما يصح العطف عليه، والعقل- في الأصل المنع والإمساك، ومنه- عقال البعير- سمي به النور الروحاني الذي به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل
249
على ما يحسن، والفعل يحتمل أن يكون مطلقا أجري مجرى اللازم، ويحتمل أن يكون متعديا مقدرا لمفعول، والمعنى- أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون سوء خاتمته ووخامة عاقبته- أو أَفَلا تَعْقِلُونَ قبح صنيعكم شرعا لمخالفة ما تتلونه في التوراة. وعقلا لكونه جمعا بين المتنافيين، فإن المقصود من الأمر بِالْبِرِّ الإحسان والامتثال، والزجر عن المعصية، ونسيانهم أنفسهم ينافي كل هذه الأغراض، ولا نزاع في كون قبح الجمع بين ذلك عقلا بمعنى كونه باطلا فعلى هذا لا حجة للمعتزلة في الآية على القبح العقلي الذي يزعمونه بل قد ادعى بعض المحققين أنها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه لأنه سبحانه رتب التوبيخ على ما صدر منهم بعد تلاوة الكتاب وكذا لا حجة فيها لمن زعم أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن التوبيخ على جمع الأمرين بالنظر للثاني فقط لا منع الفاسق عن الوعظ فإن النهي عن المنكر لازم ولو لمرتكبه فإن ترك النهي ذنب وارتكابه ذنب آخر، وإخلاله بأحدهما لا يلزم منه الإخلال بالآخر، ثم إن هذا التوبيخ والتقريع- وإن كان خطابا لبني إسرائيل- إلا أنه عام- من حيث المعنى- لكل واعظ يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا ينزجر، ينادي الناس البدار البدار، ويرضى لنفسه التخلف والبوار، ويدعو الخلق إلى الحق، وينفر عنه، ويطالب العوام بالحقائق ولا يشم ريحها منه. وهذا هو الذي يبدأ بعذابه قبل عبدة الأوثان، ويعظم ما يلقى لوفور تقصيره يوم لا حاكم إلا الملك الديان.
وعن محمد بن واسع قال: بلغني أن أناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار، فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا: كنا نأمركم بها، ونخالف إلى غيرها، هذا ومن الناس من جعل هذا الخطاب للمؤمنين، وحمل الكتاب على القرآن، فيكون ذلك من تلوين الخطاب- كما في- يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي [يوسف: ٢٩] والظاهر يبعده وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ لما أمرهم سبحانه بترك الضلال والإضلال والتزام الشرائع، وكان ذلك شاقا عليهم- لما فيه من فوات محبوبهم وذهاب مطلوبهم- عالج مرضهم بهذا الخطاب، و «الصبر» حبس النفس على ما تكره، وقدمه على الصلاة- لأنها لا تكمل إلا به- أو لمناسبته لحال المخاطبين، أو لأن تأثيره- كما قيل- في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح- واللام- فيه للجنس، ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه- وهو الصوم- بقرينة ذكره مع الصلاة- والاستعانة بالصبر- على المعنى الأول لما يلزمه من انتظار الفرج والنجح- توكلا على من لا يخيب المتوكلين عليه- ولذا قيل:
الصبر مفتاح الفرج، وبه- على المعنى الثاني- لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس الموجبين للانقطاع إلى الله تعالى- الموجب لإجابة الدعاء- وأما الاستعانة ب الصَّلاةِ فلما فيها من أنواع العبادة، مما يقرب إلى الله تعالى قربا يقتضي الفوز بالمطلوب والعروج إلى المحبوب، وناهيك من عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات يناجي فيها العبد علام الغيوب، ويغسل بها العاصي درن العيوب،
وقد روى حذيفة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا حزنه أمر صلى،
وروى أحمد أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة،
وحمل الصلاة على الدعاء في الآية وكذا في الحديث لا يخلو عن بعد، وأبعد منه كون المراد بالصبر الصبر على الصلاة.
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الضمير للصلاة- كما يقتضيه الظاهر، وتخصيصها- برد الضمير إليها- لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر، ومعنى- كبرها- ثقلها وصعوبتها على من يفعلها، على حد قوله تعالى:
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: ١٣] والاستثناء مفرغ أي لَكَبِيرَةٌ على كل أحد إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ وهم المتواضعون المستكينون، وأصل- الخشوع- الإخبات، ومنه الخشعة- بفتحات- الرمل المتطامن، وإنما لم تثقل عليهم، لأنهم عارفون بما يحصل لهم فيها متوقعون ما ادخر من ثوابها فتهون عليهم، ولذلك قيل: من
250
عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف، جاد بالعطية، وجوّز رجوع الضمير إلى- الاستعانة- على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨] ورجح بالشمول، وما يقال: إن الاستعانة ليست ب لَكَبِيرَةٌ لا طائل تحته، فإن الاستعانة ب الصَّلاةِ أخص من فعل الصلاة لأنها أداؤها- على وجه الاستعانة بها على الحوائج- أو على سائر الطاعات لاستجرارها ذلك، وقيل: يجوز أن يكون من أسلوب وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: ٨] وقوله: والتأنيث مثله في قوله تعالى على رأي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة: ٣٤] أو المراد كل خصلة منها، وقيل: الضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهي عنها، ومشقتها عليهم ظاهرة، وهو أقرب مما قاله الأخفش من رجوعه إلى إجابة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، والبعيد بل الأبعد عوده إلى الكعبة المفهومة من ذكر الصلاة الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ الظن في الأصل الحسبان- واللقاء- وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه، والمراد من ملاقاة الرب سبحانه، إما ملاقاة ثوابه أو الرؤية عند من يجوزها، وكل منهما مظنون متوقع لأنه وإن علم الخاشع أنه لا بد من ثواب للعمل الصالح، وتحقق أن المؤمن يرى ربه يوم المآب- لكن من أين يعلم ما يختم به عمله- ففي وصف أولئك بالظن إشارة إلى خوفهم، وعدم أمنهم مكر ربهم فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: ٩٩]. وفي تعقيب الخاشعين به حينئذ لطف لا يخفى، إلا أن عطف... أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ على ما قبله- يمنع حمل الظن على ما ذكر- لأن الرجوع إليه تعالى- المفسر بالنشور- أو المصير إلى الجزاء مطلقا، مما لا يكفي فيه الظن والتوقع- بل يجب القطع به- اللهم إلا أن يقدر له عامل- أي ويعلمون- أو يقال: إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع، وهو كذلك غير مقطوع به- وإن كان أحد جزئيه مقطوعا- أو يقال: إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص، أعني الثواب بدار السلام، والحلول بجواره جل شأنه- والكل خلاف الظاهر- ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازا، ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه، ولقاء الله تعالى بمعنى الحشر إليه، والرجوع بمعنى المجازاة- ثوابا أو عقابا- فكأنه عز شأنه قال: يعلمون أنهم يحشرون إليه فيجازيهم متوقعين لذلك، وكأن النكتة في استعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم- فكيف من تيقنه- والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية- والمالكية للحكم- وجعل خبر «أن» في الموضعين اسما للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يعلمون وهي تؤيد هذا التفسير.
إن شرخ الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونا
«ومن باب الإشارة» أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد أَفَلا تَعْقِلُونَ فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية بِالصَّبْرِ على ما يفعل بكم، لكي تصلوا إلى مقام الرضا وَالصَّلاةِ التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقي تجليات الرب، وإن المراقبة لشاقة- إلا على- المنكسرة قلوبهم، اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة، واستيلاء سطواتها القهرية، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته فلا يجدون في الدار إلا شؤون الملك اللطيف القهار يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب، فكأنه قال سبحانه: إن لم تطيعوني لأجل سوابق
251
نعمتي، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هو فرد من أفرادها وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عطف على نعمتي من عطف الخاص على العام، وهو مما انفردت به- الواو- كما في البحر، ويسمى هذا النحو من العطف- بالتجريد- كأنه جرد المعطوف من الجملة، وأفرد بالذكر اعتناء به، والكلام على حذف مضاف، أي فضلت آباءكم- وهم الذين كانوا قبل التغيير، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم، قال الزجاج: والدليل على ذلك قوله تعالى:
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ إلخ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم، والمراد ب الْعالَمِينَ سائر الموجودين في وقت التفضيل، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: ٢٠] فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا على أمته، الذين هم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:
١١٠] وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه- ولو صح ذلك- يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة، ولا قائل به.
«ومن اللطائف» أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ إلخ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقل: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: ٥٨] فشتان من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه «فالأول» يقتضي الفناء «والثاني» يقتضي الإعجاب، والحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً اليوم الوقت، وانتصابه إما على الظرف والمتقى محذوف- أي واتقوا العذاب يَوْماً- وإما مفعول به- واتقاؤه- بمعنى- اتقاء ما فيه- إما مجازا بجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له، وإلا- فالاتقاء- من نفس- اليوم- مما لا يمكن، لأنه آت لا محالة، ولا بد أن يراه أهل الجنة والنار جميعا، والممكن المقدور- اتقاء- ما فيه بالعمل الصالح، وتَجْزِي من جزى بمعنى قضى، وهو متعد بنفسه لمفعوله الأول، وبعن للثاني- وقد ينزل منزلة اللازم للمبالغة- والمعنى لا تقضي يوم القيامة نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً مما وجب عليها، ولا تنوب عنها، ولا تحتمل مما أصابها، أو لا تقضي عنها شيئا من الجزاء، فنصب شَيْئاً إما على أنه- مفعول به- أو على أنه- مفعول مطلق- قائم مقام المصدر، أي جزاء ما. وقرأ أبو السماك «ولا تجزىء» من أجزأ عنه إذا أغنى، فهو لازم، وشَيْئاً مفعول مطلق لا غير، والمعنى لا تغني نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً من الإغناء- ولا تجديها نفعا- وتنكير الأسماء للتعميم في الشفيع والمشفوع، وما فيه الشفاعة، وفيه من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى، كما يشير إليه قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: ٣٤- ٣٧] والجملة في المشهور صفة يوم والرابط محذوف، أي «لا تجزي فيه» ولم يجوز الكسائي حذف المجرور إذا لم يتعين، فلا تقول: رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد أرغب فيه، ومذهبه في هذا التدريج، وهو أن يحذف حرف الجر أولا حتى يتصل الضمير بالفعل- فيصير منصوبا- فيصح حذفه كما في قوله:
فما أدرى أغيّرهم تناء وطول العهد أو مال أصابوا
يريد أصابوه، وقد يجوز- على رأي الكوفيين- أن لا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها «يوم» محذوف- لدلالة ما قبله عليه- فلا تحتاج إلى ضمير، ويكون ذلك المحذوف- بدلا من المذكور- ومن ذلك ما حكاه الكسائي- أطعمونا لحما سمينا، شاة ذبحوها- بجر شاة- على تقدير- لحم شاة- وحكى الفراء مثل ذلك، ومنه قوله:
252
رحم الله أعظما دفنوها بسجستان طلحة الطلحات
في رواية من خفض طلحة، والبصريون لا يجوّزون حذف المضاف، وترك المضاف إليه على خفضه، ويقولون بشذوذ ما ورد من ذلك، وقرأ أبو سرار «لا تجزي نسمة عن نسمة» وهي بمعنى النفس.
وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ الشفاعة- كما في البحر- ضم غيره إلى وسيلته- وهي من الشفع ضد الوتر- لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب- فيصير شفعا بعد أن كان فردا- و «العدل» الفدية، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي عنه أيضا- البدل- أي رجل مكان رجل، وأصل «العدل» - بفتح العين- ما يساوي الشيء- قيمة وقدرا- وإن لم يكن من جنسه- وبكسرها- المساوي في الجنس والجرم، ومن العرب من يكسر- العين- من معنى الفدية، وذكر الواحدي أن عَدْلٌ الشيء- بالفتح والكسر- مثله، وأنشد قول كعب بن مالك:
صبرنا لا نرى لله «عدلا» على ما نابنا متوكلينا
وقال ثعلب: العدل الكفيل والرشوة- ولم يؤثر في الآية- والضميران المجروران- بمن- إما راجعان إلى النفس الثانية لأنها أقرب مذكور ولموافقته لقوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ولأنه المتبادر من قوله: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ ومعنى عدم قبول الشفاعة حينئذ أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها وإما إلى الأولى لأنها المحدث عنها، والثانية فضلة ولأن المتبادر من نفي قبول الشفاعة أنها لو شفعت لم تقبل شفاعتها، وحينئذ معنى عدم- أخذ العدل- من الأولى أنه لو أعطى عدلا من الثانية لم يؤخذ، وكأن في الآية على هذا نوعا من الترقي ارتكب هنا وإن لم يرتكب في مقام آخر كأنه قيل: إن النفس الأولى لا تقدر على استخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات لأنها مشغولة عنها بشأنها، ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها، وإن زادت عليه بأن ضمت الفداء فلا يؤخذ منها، وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة- وأنى لها ذلك- فلا تتمكن منه، واختار الكواشي جعل الضمير الأول للنفس الأولى، والثاني للثانية على اللف والنشر لما فيه من إجراء الجملتين على المعنى الظاهر منهما، ويهوّن أمر التفكيك الاتضاح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو- ولا تقبل- بالتاء، وسفيان يُقْبَلُ بفتح الياء، ونصب شَفاعَةٌ على البناء للفاعل، وفيه التفات من ضمير المتكلم في نِعْمَتِيَ إلخ إلى ضمير الغائب وبناؤه للمفعول أبلغ.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ النصر في الأصل المعونة، ومنه أرض منصورة ممدودة بالمطر، والمراد به هنا ما يكون بدفع الضرر- أي ولا هم يمنعون من عذاب الله عز وجل- والضمير راجع إلى ما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة فيكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر، وإما إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل في قوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة:
٤٧] وأتى به مذكرا لتأويل النفوس بالعباد والأناسي، وفيه تنبيه على أن تلك النفوس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى، وأنهم ناس كسائر الناس في هذا الأمر، وعوده إلى النفسين بناء على أن التثنية جمع ليس بشيء، وجعل النفي- منسحبا على جملة اسمية للتقوى، ورفع هُمْ على الابتداء والجملة بعده خبره، وجعله مفعولا لما لم يسم فاعله والفعل بعده مفسّر فتوافق الجمل- لا أوافق على اختياره- وإن ذهب إليه بعض الأجلة- وتمسك المعتزلة بعموم الآية، على نفي الشفاعة لأهل الكبائر- وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم- لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ، وأجيب بالتخصيص من وجهين، الأول بحسب المكان والزمان فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول، ولعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدته ثم يأذن بالشفاعة، وقد قيل: مثل ذلك في الجمع بين قوله تعالى: فَلا
253
أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ
[المؤمنون: ١٠١] وقوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات:
٢٧] وكون مقام الوعيد يأبى عنه غير مسلم، والثاني بحسب الأشخاص إذ لا بد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات فليس العام باقيا على عمومه عندهم وإلا اقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به، ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر، وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضا ذلك النفي مخصص بما قبل الإذن، لقوله تعالى: لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ [سبأ: ٢٣] وهو تخصيص له دليل، وتخصيصهم لا يظهر له دليل على أن الشفاعة بزيادة المنافع يكاد أن لا تكون شفاعة وإلا لكنا شفعاء الرسول صلّى الله عليه وسلم عند الصلاة عليه مع أن الإجماع وقع منا ومنهم على أنه هو الشفيع، وأيضا في قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [محمد: ١٩] ما يشير إلى الشفاعة التي ندعيها- ويحث على التخصيص الذي نذهب إليه- رزقنا الله تعالى الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة، ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فقال: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وهو على الشائع عطف على نِعْمَتِيَ بتقدير اذْكُرُوا كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي وهو اتَّقُوا وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا، وقرىء- أنجيناكم، وأنجيتكم- ونسبت الأولى للنخعي، والآل قيل: بمعنى الأهل وإن ألفه بدل عن هاء، وإن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب، فألفه بدل من واو، ولذلك قال يونس في تصغيره: أويل، ونقله الكسائي نصا عن العرب، وروي عن أبي عمر- غلام ثعلب- أن الأهل القرابة كان لها تابع أو لا، والآل القرابة بتابعها فهو أخص من الأهل، وقد خصوه أيضا بالإضافة إلى أولي الخطر فلا يضاف إلى غير العقلاء ولا إلى من لا خطر له منهم، فلا يقال- آل الكوفة، ولا- آل الحجام- وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال- آل فاطمة- ولعل كل ذلك أكثريّ وإلا فقد ورد على خلاف ذلك- كآل اعوج- اسم فرس وآل المدينة وآل نعم، وآل الصليب. وآلك- ويستعمل غير مضاف- كهم خير آل- ويجمع- كأهل- فيقال آلون: وفرعون لقب لمن ملك العمالقة- ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة- وقال السهيلي: هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وقد اشتق منه باعتبار ما يلزمه فقيل: تفر عن الرجل إذا تجبر وعتا.
واسم فرعون هذا الوليد بن مصعب- قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين- وقيل: أبوه مصعب بن ريان حكاه ابن جرير، وقيل: قنطوس حكاه مقاتل، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا: إن اسمه قابوس، وكنيته أبو مرة وكان من القبط، وقيل: من بني عمليق أو عملاق بن لاوز بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، وهم أمم تفرقوا في البلاد، وروي أنه من أهل إصطخر ورد إلى مصر فصار بها ملكا، وقيل: كان عطارا بأصفهان ركبته الديون فدخل مصر وآل أمره إلى ما آل- وحكاية البطيخ شهيرة- وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في تفسيره، والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه السلام، وكان اسمه- على المشهور- الريان بن الوليد، وقد آمن بيوسف ومات في حياته وهو من أجداد فرعون المذكور على قول، ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما السلام أكثر من أربعمائة سنة، والمراد ب آلِ فِرْعَوْنَ هنا أهل مصر أو أهل بيته خاصة أو أتباعه على دينه، وب نَجَّيْناكُمْ أنجينا آباءكم، وكذا نظائره فلا حجة فيها لتناسخي، وهذا في كلام العرب شائع كقول حسان:
ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت عساكركم في الهالكين «تجول»
ويَسُومُونَكُمْ من السوم، وأصله الذهاب للطلب، ويستعمل للذهاب وحده تارة، ومنه السائمة، وللطلب
254
أخرى، ومنه السوم في البيع، ويقال: سامه كلفه العمل الشاق، والسوء- مصدر ساء يسوء، ويراد به السيئ، ويستعمل في كل ما يقبح- كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق وسُوءَ الْعَذابِ أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره، وهو منصوب على المفعولية ل يَسُومُونَكُمْ بإسقاط حرف الجر أو بدونه، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير نَجَّيْناكُمْ أو مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وهو الأقرب، والمعنى يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة، والأمور الفظيعة أو يرسلونكم إليها ويصرفونكم فيها أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده. وقد حكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا، وصنفهم في الأعمال- فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يخدمون- ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم، ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا، وجعل النساء يغزلن الكتان، وينسجن يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ جملة حالية أو استئنافية كأنه قيل: ما الذي ساموهم إياه، فقال: يُذَبِّحُونَ إلخ، ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ [الفرقان: ٦٨، ٦٩]، وقيل: بالعطف وحذف حرفه لآية إبراهيم، والمحققون على الفرق، وحملوا سُوءَ الْعَذابِ فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح، وعطف للتغاير، واعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: ٥]، وهو يقتضي التعداد، وليس هنا ما يقتضيه، والأبناء الأطفال الذكور، وقيل: إنهم الرجال هذا وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي، وحكي أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج والتجمع لإفساد أمره، والمشهور حمل الأبناء على الأول، وهو المناسب المتبادر، وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل ففعل ما فعل وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب: ٣٨] وقرأ الزهري وابن محيض «يذبحون» مخففا، وعبد الله «يقتّلون» مشددا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ عطف على يُذَبِّحُونَ أي يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات، وقيل: يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل- والحياء الفرج- لأنه يستحى من كشفه، والنساء جمع المرأة، وفي البحر إنه تكسير لنسوة على وزن فعلة جمع قلة، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه، وهي في الأصل البالغات دون الصغائر، فهي على الوجه الأول مجاز باعتبار الأول للإشارة إلى أن استبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساء لخدمتهم، وعلى الثاني في تغليب البالغات على الصغائر، وعلى الثالث حقيقة، وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور وأشقها عند الناس وإن كان ذلك الاستحياء أعظم من القتل لدى الغيور.
وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إشارة إلى التذبيح والاستحياء أو إلى الإنجاء، وجمع الضمير للمخاطبين، ويجوز أن يشار ب ذلِكُمْ إلى الجملة وأصل البلاء الاختبار، وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور، وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، وتارة بهما ليرغبوا ويرهبوا- فإن حملت الإشارة على المعنى الأول- فالمراد بالبلاء المحنة، وإن على الثاني فالمراد به النعمة، وإن على الثالث فالمراد به القدر المشترك كالامتحان الشائع بينهما، ويرجح الأول التبادر، والثاني أنه في معرض الامتنان، والثالث لطف جمع الترغيب والترهيب ومعنى مِنْ رَبِّكُمْ من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما جميعا، وعَظِيمٌ صفة بلاء وتنكيرهما للتفخيم، والعظم بالنسبة للمخاطب، والسامع لا بالنسبة إليه تعالى لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئا «ومن باب الإشارة» والتأويل وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ من قوى فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها. والنظر إلى نفسها المستعلية على إهلاك الوجود، ومصر مدينة البدن المستعبدة، وهي وقواها من الوهم، والخيال والغضب، والشهوة القوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله تعالى يعقوب الروح، والقوى الطبيعية
255
البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة، والأعمال الشاقة من جمع المال، والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك، ويستعبدونكم بالتفكر فيها والاهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار، والتمتع بدار القرار يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب، والعملية التي هي العين اليسرى له، والفهم الذي هو سمعه، والسر الذي هو قلبه وَيَسْتَحْيُونَ قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها، وفي ذلك- الإنجاء- نعمة عظيمة من ربكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه، أو في مجموع ذلك امتحان لكم وظهور آثار الأسماء المختلفة عليكم فاشكروا واصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب.
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ عطف على ما قبل، والفرق- الفصل بين الشيئين، وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق، أي فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم، وبسبب إنجائكم. والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللام- إذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى- وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل، وكونه مقصودا منه- إن لم نقل به- وإنما قال سبحانه:
بِكُمُ دون لكم، لأن العرب- على ما نقله الدامغاني- تقول: غضبت لزيد- إذا غضبت من أجله وهو حي- وغضبت بزيد- إذا غضبت من أجله وهو ميت- ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين، ويحتمل أن تكون للاستعانة على معنى- بسلوككم- ويكون هناك استعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من الله تعالى، ويستعمل الباء. وقول الإمام الرازي قدس سره:- إنهم كانوا يسلكون، ويتفرق الماء عند سلوكهم، فكأنه فرق بهم- يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقا على سلوكهم على ما تدل عليه القصة، وقوله تعالى:
أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: ٦٣] وما قيل: إن الآلة هي العصا- كما تفهمه الآية- غير مسلم. والمفهوم كونها آلة الضرب- لا الفرق- ولو سلم يجوز كون المجموع آلة، على أن آلية السلوك على التجوز، وقد يقال: إن الباء للملابسة، والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل، وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية، وهو كونه ناصرا وحافظا لهم، وهي ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: ٦٢] ومن الناس من جعله حالا من الْبَحْرَ مقدما- وليس بشيء- لأن الفرق مقدم على ملابستهم الْبَحْرَ اللهم إلا على التوسع، واختلفوا في هذا البحر، فقيل: القلزم- وكان بين طرفيه أربعة فراسخ- وقيل النيل، والعرب تسمي الماء الملح، والعذب بحرا- إذا كثر، ومنه مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرحمن: ١٩] وأصله السعة، وقيل: الشق، ومن الأول البحرة البلدة، ومن الثاني البحيرة التي شقت أذنها، وفي كيفية الانفلاق قولان «فالمشهور» كونه خطيا، وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسيا، إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه، واحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا لأن الأعداء في أثرهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث.
فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ في الكلام حذف يدل عليه المعنى والتقدير وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فَأَنْجَيْناكُمْ أي من الغرق، أو من إدراك فرعون وآله لكم، أو مما تكرهون، وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله كما يقال: بني هاشم، وقوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: ٧٠] يعني هذا الجنس الشامل لآدم، أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد ورأس الضلال أولى بذلك، وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً [الإسراء:
256
١٠٣] فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [القصص: ٤٠ والذاريات: ٤٠] وحمل الآل- على الشخص حيث إنه ثبت لغة كما في الصحاح- ركيك غير مناسب للمقام، وإنما المناسب له التعميم، وناسب نجاتهم- بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين- نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر وخروجه منه سالما، ولكل أمة نصيب من نبيها وناسب هلاك فرعون- وقومه بالغرق- هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت ولا دم خارج وكان ما به الحياة وهو الماء كما يشير إليه قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: ٣٠] سببا لإعدامهم من الوجود، وفيه إشارة إلى تقنيطهم وانعكاس آمالهم كما قيل:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة «إلى أين» يسعى من يغص بماء
ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة- ولهذا كان الغريق المسلم شهيدا- جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية وقال أنا ربكم الأعلى وعلى قدر الذنب يكون العقاب. ويناسب دعوى الربوبية، والاعتلاء انحطاط المدعى وتغيبيه في قعر الماء، ولك أن تقول لما افتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: ٥١] جعل الله تعالى هلاكه بالماء وللتابع حظ وافر من المتبوع- وكان ذلك الغرق، والإنجاء، والإغراق يوم عاشوراء- والكلام فيه مشهور وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جملة حالية وفيها تجوز أي وآباؤكم ينظرون، والمفعول محذوف أي جميع ما مر فإن أريد الاحكام فالنظر بمعنى العلم- وعليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه- وإن نفس الأفعال من الغرق، والإنجاء، والإغراق فهو بمعنى المشاهدة- وعليه الجمهور- والحال على هذا من الفاعل وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع، وفائدته تقرير النعمة عليهم وكأنه قيل: وأنتم لا تشكون فيها، وجوز أن يقدر المفعول خاصا أي غرقهم، وإطباق البحر عليهم فالحال متعلق بالقريب، وهو أَغْرَقْنا وفائدته تتميم النعمة فإن هلاك العدو نعمة ومشاهدتة نعمة، أخرى، وفي قصص الكسائي أن بني إسرائيل حين عبروا البحر وقفوا ينظرون إلى البحر وجنود فرعون، ويتأملون كيف يفعلون، أو انفلاق البحر فيكون الحال متعلقا بالأصل في الذكر، وهو فَرَقْنا وفائدته إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها، ويتعرفوا إعجازها، وذلك الآل الغريق فالحال من مفعول أَغْرَقْنا متعلق به والفائدة تحقيق الإغراق وتثبيته، وقيل: المراد ينظر بعضكم بعضا وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له: أين أصحابنا؟ فقال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم قالوا: لا نرضى حتى نراهم فأوحى الله تعالى أن قل بعصاك هكذا فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فتراءوا وسمعوا كلام بعضهم بعضا فالحال متعلق ب فَرَقْنا وفائدته تتميم النعمة فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم- حال بعض آخر- نعمة أخرى، وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلا منزلة اللازم وليس بالبعيد نعم البعيد جعل النظر هنا مجازا عن القرب أي وأنتم بالقرب منهم أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم- أنت مني بمرأى ومسمع- أي قريب مني بحيث أراك وأسمعك، وكذا جعله بمعنى الاعتبار أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم وهم في البحر، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها والله تعالى أعلم بشأنها «والإشارة» في الآية أن البحر هو الدنيا وماءه شهواتها ولذاتها، وموسى هو القلب، وقومه صفات القلب، وفرعون هو النفس الأمارة وقومه صفات النفس، وهم أعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم، وهم سائرون إلى الله تعالى، والعدو من خلفهم، وبحر الدنيا أمامهم ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من عبوره ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا الله بيد موسى-
257
القلب فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن- لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق فكما أن يد موسى القلب شرط في الانفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه، فإذا حصل الشرطان وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن الله بحر الدنيا بالنفي وينشبك ماء الشهوات يمينا وشمالا، ويرسل الله تعالى ريح العناية، وشمس الهداية على قعر ذلك البحر فيصير يابسا من ماء الشهوات فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد إلى ساحل النجاة وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: ٤٢] ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا نارا ألا: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: ٤٤].
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لما جاوز بنو إسرائيل البحر سألوا موسى عليه السلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فوعده سبحانه أن يعطيه التوراة وقبل موسى ذلك، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة أو ذا الحجة وعشر المحرم فالمفاعلة على بابها، وهي من طرف فعل، ومن آخر قبوله مثل- عالجت المريض- وإنكار جواز ذلك لا يسمع مع وروده في كلام العرب وتصريح الأئمة به وارتضائهم له، ويجوز أن يكون واعَدْنا من باب الموافاة وليس من الوعد في شيء وإنما هو من قولك موعدك يوم كذا وموضع كذا، ويحتمل أن يكون بمعنى وعدنا وبه قرأ أبو عمرو أو يقدر الملاقاة أو يقال بالتفكيك إلى فعلين فيقدر الوحي في أحدهما، والمجيء في الآخر ولا محذور في شيء كما حققه الدامغاني، وقول أبي عبيدة: المواعدة لا تكون إلا من البشر غير مسلم، وقول أبي حاتم: أكثر ما تكون من المخلوقين المتكافئين على تقدير تسليمه لا يضرنا، وأَرْبَعِينَ مفعول به بحذف المضاف بأدنى ملابسة أي إعطاء أربعين أي عند انقضائها، أو في العشر الأخير منها، أو في كلها أو في أولها على اختلاف الروايات، أو ظرف مستقر وقع صفة لمفعول محذوف- لواعدنا- أي واعدنا موسى أمرا كائنا في أربعين، وقيل: مفعول مطلق أي واعدنا موسى مواعدة أربعين ليلة.
ومن الناس من ذهب إلى أن الأولى أن لا يقدر مفعول لأن المقصود بيان من وعد لا ما وعد- وينصب الأربعين على الإجراء مجرى المفعول به توسعا، وفيه مبالغة بجعل ميقات الوعد موعودا وجعل الأربعين ظرفا لواعدنا على حد جاء زيد يوم الخميس- ليس بشيء كما لا يخفى، ومُوسى اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة، ويقال:
هو مركب من «مو» وهو الماء «وشي» وهو الشجر وغيّر إلى «سي» بالمهملة وكأن من سماه به أراد ماء البحر والتابوت الذي قذف فيه- وخاض بعضهم في وزنه- فعن سيبويه إن وزنه مفعل (١) وقيل: إنه فعلى وهو مشتق من ماس يميس فأبدلت الياء واوا لضم ما قبلها كما قالوا طوبي، وهي من ذوات الياء لأنها من طاب يطيب، ويبعده أن الإجماع على صرفه نكرة ولو كان فعلى لم ينصرف لأن ألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة على أن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك الوقت بالليالي دون الأيام لأن افتتاح الميقات كان من الليل، والليالي غرر شهور العرب لأنها وضعت على سير القمر، والهلال إنما يهل بالليل، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] أو إشارة إلى مواصلة الصوم ليلا ونهارا ولو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي فهم من قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها، والقول بأن ذكر الليلة- كان للإشعار بأن وعد موسى عليه السلام كان بقيام الليل- ليس بشيء لأن المروي أن المأمور به كان
(١) وموسى: الحديدة المعلومة مذكر لا غير عند الآمدي. وقال الفراء: هي فعلى ويؤنث، وفي البحر إنه مؤنث عربي مشتق من آسوت الشيء أصلحته ووزنه مفعل وأصله الهمز، وقيل: اشتقاقه من أوسيت حلقت ولا أصل للواو في الهمز اهـ منه.
258
الصيام لا القيام، وقد يقال من طريق الإشارة: إن ذكر الليلة للرمز إلى أن هذه المواعدة كانت بعد تمام السير إلى الله تعالى ومجاوزة بحر العوائق والعلائق، وهناك يكون السير في الله تعالى الذي لا تدرك حقيقته، ولا تعلم هويته، ولا يرى في بيداء جبروته إلا الدهشة والحيرة، وهذا السير متفاوت باعتبار الأشخاص والأزمان ولي مع الله تعالى وقت يشير إلى ذلك ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ والاتخاذ يجيء بمعنى ابتداء صنعة فيتعدى لواحد نحو- اتخذت سيفا- أي صنعته. وبمعنى اتخاذ وصف فيجري مجرى الجعل ويتعدى لاثنين نحو- اتخذت زيدا صديقا- والأمران محتملان في الآية، والمفعول الثاني على الاحتمال الثاني محذوف لشناعته أي اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الذي صنعه السامري إلها، والذم فيه ظاهر لأنهم كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام، وعلى الاحتمال الأول لا حاجة إلى المفعول الثاني ويؤيده عدم التصريح به في موضع من آيات هذه القصة، والذم حينئذ لما ترتب على الاتخاذ من العبادة أو على نفس الاتخاذ لذلك، والعرب تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها، والْعِجْلَ ولد البقرة الصغير وجعله الصوفية إشارة إلى عجل النفس الناقصة وشهواتها وكون ما اتخذوه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه فيما يأتي حقيقة أيضا وهو الذي ذهب إليه الحسن، وقيل: أراد سبحانه بالعجل ما يشبهه في الصورة والشكل ونسبة الخوار إليه مجاز وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك.
ومن الغريب أن هذا إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى فاتخذوه إلها، أو لقصر مدته حيث إن موسى عليه السلام بعد الرجوع من الميقات حرقه ونسفه في اليم نسفا، والضمير في بعده راجع إلى موسى، أي بَعْدِهِ ما رأيتم منه من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه، وذكر الظرف للإيذان بمزيد شناعة فعلهم، ولا يقتضي أن يكون مُوسى متخذا إلها- كما وهم- لأن مفهوم الكلام أن يكون الاتخاذ- بعد- موسى ومن أين يفهم اتخاذ موسى سيما في هذا المقام؟ ويجوز أن يكون في الكلام حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه واعَدْنا أي من بعد مواعدته، وقيل: المحذوف الذهاب المدلول عليه- بالمواعدة- لأنها تقتضيه. والجملة الاسمية في موضع الحال، ومتعلق الظلم الإشراك، ووضع العبادة في غير موضعها، وقيل: الكف عن الاعتراض على ما فعل السامري وعدم الإنكار عليه- وفائدة التقييد بالحال- الإشعار بكون الاتخاذ- ظلما- بزعمهم أيضا لو راجعوا عقولهم بأدنى تأمل، وقيل: الجملة غير حال بل مجرد إخبار أن سجيتهم الظلم وإنما راج فعل السامري عندهم لغاية حمقهم وتسلط الشيطان عليهم- كما يدل على ذلك سائر أفعالهم- واتخاذ السامري لهم الْعِجْلَ دون سائر الحيوانات، قيل: لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم على صور البقر فقالوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] فهجس في نفس السامري أن فتنتهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم ذلك، وقيل: إنه كان هو من قوم يعبدون البقر- وكان منافقا- فاتخذ عجلا من جنس ما يعبده.
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ثُمَّ لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم، فلا يكون مِنْ بَعْدِ ذلِكَ تكرارا. و «عفا» بمعنى درس يتعدى ولا يتعدى- كعفت الدار، وعفاها الريح- والمراد بالعفو هنا- محو الجريمة بالتوبة- وذلك موضوع موضع «ذلكم» والإشارة- للاتخاذ- كما هو الظاهر، وإثبارها لكمال العناية بتمييزه- كأنه يجعل ظلمهم مشاهدا لهم- وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر «العفو» والمراد بالترجي ما علمت، والمشهور هنا كونه مجازا عن طلب الشكر على «العفو» ومن قدر الإرادة من أهل السنة- أراد مطلق الطلب- وليس ذلك من الاعتزال، إذ لا نزاع في أن الله تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع
259
«والشكر» عند الجنيد هو العجز عن الشكر، وعند الشبلي- التواضع تحت رؤية المنة- وقال ذو النون: «الشكر» لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان.
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الْكِتابَ التوراة- بإجماع المفسرين- وفي الفرقان أقوال «الأول» أنه هو التوراة أيضا، والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى استقلال كل منها، فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك، كونها كتابا جامعا لما لم يجمعه منزل سوى القرآن، وكونها فرقانا أي حجة تفرق بين الحق والباطل- قاله الزجاج- ويؤيد هذا قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً [الأنبياء: ٤٨] «الثاني» أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام، فالعطف مثله في تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: ٤] قاله ابن بحر «الثالث» أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل- من العصا واليد وغيرهما- قاله مجاهد.
«الرابع» أنه النصر الذي فرق بين العدو والولي، وكان آية لموسى عليه السلام، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إنه القرآن، ومعنى إتيانه لموسى عليه السلام نزول ذكره له حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري- وهو بعيد- وأبعد منه، ما حكي عن الفراء وقطرب- أنه القرآن- والكلام على حذف مفعول- أي ومحمدا الفرقان- وناسب ذكر الاهتداء إثر ذكر إتيان مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: ٣٧].
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين، وإنما فصل بينهما بقوله: وَإِذْ آتَيْنا إلخ، لأن المقصود تعداد النعم- فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة- وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم- وليس بشيء- واللام في لِقَوْمِهِ للتبليغ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب مُوسى لِقَوْمِهِ كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه- كالخطابات المذكورة سابقا لبني إسرائيل- والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرئ- وقياسه أن لا يجمع- وشذ جمعه على- أقاويم- والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: ١١] مع قوله: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: ١١] وقال زهير:
فما أدري وسوف إخال أدري أ «قوم» آل حصن أم «نساء»
وقيل: لا اختصاص له بهم، بل يطلق على النساء أيضا لقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: ١] والأول أصوب، واندراج النساء على سبيل الاستتباع، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك، وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء، وفي إقبال مُوسى عليهم بالنداء، ونداؤه لهم ب يا قَوْمِ إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه، وهز لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم «ظلموا أنفسهم» والباء في بِاتِّخاذِكُمُ سببية وفي- الاتخاذ- هنا الاحتمالان السابقان هناك فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ الفاء للسببية- لأن الظلم سبب للتوبة- وقد عطفت ما بعدها على إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف- بالواو- وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معا، و «البارئ» هو الذي خلق الخلق بريا- من التفاوت- وعدم تناسب الأعضاء وتلاؤم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة، والأخرى بخلافه، ومتميزا بعضه عن بعض بالخواص والأشكال والحسن والقبح- فهو أخص من الخالق- وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي- كبرء المريض- أو الإنشاء- كبر الله تعالى آدم- أي خلقه ابتداء متميزا عن لوث الطين، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته حتى عرضوا
260
أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها- وهو مثل في الغباوة والبلادة- وقرأ أبو عمرو بارِئِكُمْ بالاختلاس، وروي عنه- السكون- أيضا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ.
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الفاء للتعقيب، والمتبادر من «القتل» القتل المعروف من إرهاق الروح- وعليه جمع من المفسرين- والفعل معطوف على سابقه، فإن كانت توبتهم هو «القتل» إما في حقهم خاصة، أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى عليه السلام، فالمراد بقوله تعالى: فَتُوبُوا اعزموا على التوبة- ليصح العطف- وإن كانت هي الندم و «القتل» من متمماتها- كالخروج عن المظالم في شريعتنا- فهو على معناه ولا إشكال، وقد يقال: إن التوبة جعلت لهؤلاء عين «القتل» ولا حاجة إلى تأويل «توبوا» باعزموا، بل تجعل- الفاء- للتفسير- كما تجعل الواو له- وقد قيل به في قوله تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ [الأعراف: ٣٦] وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا، فمعنى «اقتلوا أنفسكم» حينئذ، ليقتل بعضكم بعضا، كما في قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: ١١] والمؤمنون كنفس واحدة، وروي أنه أمر من لم يعبد الْعِجْلَ أن يقتل من عبده، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل، وسمي الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز، والقاتل إما غير معين، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه السلام، والذين كانوا مع موسى عليه السلام، وفي كيفية (القتل) أخبار لا نطيل بذكرها، وجملة القتلى سبعون ألفا، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل- بقتل أنفسهم- وقال: لا يجوز ذلك عقلا- إذ الأمر لمصلحة المكلف- وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقا- بأمره نستبقيها، وبأمره نفنيها- وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو، حياة سرمدية وبهجة أبدية.
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا- كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه، ووال في بلد يسوسه- وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه- وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما، ومن الناس من جوز ذلك- إلا أنه استبعد وقوعه- فقال: معنى «اقتلوا أنفسكم» ذللوا، ومن ذلك قوله:
إن التي عاطيتني فرددتها «قتلت قتلت» فهاتها لم تقتل
ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرا. ونقل عن قتادة أنه قرأ «فأقيلوا أنفسكم» والمعنى أن أَنْفُسَكُمْ قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه، وقد هلكت- فأقيلوها- بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات.
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم، وخَيْرٌ أفعل تفضيل حذفت همزته، ونطقوا بها في الشعر قال الراجز:
بلال خير الناس وابن الأخير
وقد تأتي- ولا تفضيل- والمعنى أن ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من العصيان والإصرار على الذنب- أو خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الدائم، والكلام- على حد العسل- أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم. والعندية هنا مجاز، وكرر البارئ بلفظ الظاهر اعتناء بالحث على التسليم له في كل حال، وتلقي ما يرد من قبله والقبول والامتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحا فأنشأ رأى الإعدام راجحا، فأمر به وهو العليم الحكيم.
261
فَتابَ عَلَيْكُمْ جواب شرط محذوف بتقدير- قد- إن كان من كلام موسى عليه السلام لهم، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد «تاب عليكم» ومعطوف على محذوف- إن كان خطابا من الله تعالى لهم، كأنه قال: ففعلتم ما أمرتم فَتابَ عَلَيْكُمْ بارئكم وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه السلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة، أو من التكلم إلى الغيبة في فَتابَ حيث لم يقل: فتبنا، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال، وظاهر الآية كونها إخبارا عن المأمورين بالقتل الممثلين ذلك وقال ابن عطية: جعل الله تعالى- القتل- لمن- قتل- شهادة و «تاب» عن الباقين و «عفا» عنهم، فمعنى عَلَيْكُمْ عنده، على باقيكم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تذييل لقوله تعالى: فَتُوبُوا فإن التوبة بالقتل- لما كانت شاقة على النفس هونها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها، أو تذييل لقوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وتفسر «التوبة» منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين- والتأكيد لسبق الملوح- أو للاعتناء بمضمون الجملة، والضمير المنصوب إن كان ضمير لشأن- فالضمير المرفوع مبتدأ- وهو الأنسب لدلالته على كمال الاعتناء بمضمون الجملة، وإن كان راجعا إلى البارئ سبحانه فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل- فلا يتخذه إلها- أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل لفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى والدين القويم ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم، والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب، والفرقان الذي يهتدي بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض واتبعت هواها، وآثرت شهواتها على مولاها، أمرت بقتلها بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء، والصحو بعد المحو، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية، وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر.
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق، ورجال الصدق، وإليه الإشارة، ب (موتوا) قبل أن تموتوا. وقيل: أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات، وقطعها عن الملاذ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين- هيهات هيهات- ذاك بمعزل عنا، ومناط الثريا منا
تعالوا نقم مأتما للهموم فإن الحزين يواسي الحزينا
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات التوراة، قيل:
قالوه بعد الرجوع، وقتل عبدة العجل، وتحريق عجلهم، ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للاعتذار عن عبدة العجل- وكانوا سبعين أيضا، وقيل: القائل عشرة آلاف من قومه، وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل- إلا من عصمه الله تعالى- وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا- واللام- من (لك) إما- لام الأجل- أو للتعدية بتضمين معنى الإقرار على أن مُوسى مقرّ له والمقر به محذوف، وهو أن الله تعالى أعطاه التوراة، أو أن الله تعالى كلمه فأمره ونهاه، وقد كان هؤلاء مؤمنين- من قبل- بموسى عليه السلام، إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص. وقيل: أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه»
والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلا لم نره لأحد من أئمة التفسير.
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً حَتَّى هنا حرف غاية، و (الجهرة) في الأصل مصدر جهرت بالقراءة- إذا رفعت
262
صوتك بها- واستعيرت للمعاينة بجامع الظهور التام. وقال الراغب:- الجهر- يقال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع «أما البصر» فنحو رأيته جهارا «وأما السمع» فنحو وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه: ٧] وانتصابها- على أنها مصدر- مؤكد مزيل لاحتمال أن تكون الرؤية مناما أو علما بالقلب، وقيل: على أنها حال على تقدير ذوي- جهرة- أو مجاهرين، فعلى الأول- الجهرة- من صفات الرؤية، وعلى الثاني من صفات الرائين، وثم قول ثالث، وهو أن تكون راجعة لمعنى القول أو القائلين- فيكون المعنى- (وإذ قلتم) كذا قولا جَهْرَةً أو جاهرين بذلك القول غير مكترثين ولا مبالين، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي عبيدة، وقرأ سهل بن شعيب وغيره «جهرة» بفتح الهاء، وهي إما مصدر- كالغلبة- ومعناها معنى (المسكنة) وإعرابها إعرابها، أو جمع- جاهر- كفاسق وفسقة، وانتصابها على الحال.
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أي استولت عليكم وأحاطت بكم، وأصل- الأخذ- القبض باليد، والصَّاعِقَةُ هنا نار من السماء أحرقتهم، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا، أو صيحة سماوية خروا لها صعقين ميتين يوما وليلة، واختلف في مُوسى هل أصابه ما أصابهم؟ والصحيح- لا- وأنه صعق ولم يمت لظاهر ثم أفاق في حقه، وثُمَّ بَعَثْناكُمْ إلخ في حقهم،
وقرأ عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما «الصعقة»
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جملة حالية ومتعلق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرها الباقي في أجسامهم بعد البعث، أو إحياء كل منهم- كما وقع في قصة العزير، قالوا:
أحيا عضوا بعد عضو: والمعنى وَأَنْتُمْ تعلمون أنها تأخذكم، أو وأَنْتُمْ يقابل بعضكم بعضا، قال في البحر: ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إجابة السؤال في حصول الرؤية لكم كان وجها من قولهم: نظرت الرجل- أي انتظرته- كما قال:
فإنكما إن (تنظراني) ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لكن هذا الوجه غير منقول فلا أجسر على القول به، وإن كان اللفظ يحتمله ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ بسبب الصاعقة، وكان ذلك بدعاء موسى عليه السلام ومناشدته ربه بعد أن أفاق، ففي بعض الآثار أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحييون، والموت هنا ظاهر في مفارقة الروح الجسد، وقيد البعث به لأنه قد يكون عن نوم كما هو في شأن أصحاب الكهف، وقد يكون بمعنى إرسال الشخص- وهو في القرآن كثير- ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانا وهمودا لا موتا حقيقة كما في قوله تعالى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم: ١٧] ومنهم من حمل الموت على الجهل مجازا كما في قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: ١٢٢]. وقد شاع ذلك نثرا ونظما، ومنه قوله:
أخو (العلم حي) خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى يظن من الأحياء وهو عديم
ومعنى البعث على هذا التعليم أي ثم علمناكم بعد جهلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نعمة الله تعالى عليكم بالإحياء بعد الموت أو نعمته سبحانه بعد ما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله تعالى في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت وتكليف من أعيد بعد الموت مما ذهب إليه جماعة لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد في هذه الدار بعد بعثة المرسلين، ومن جعل البعث بعد الموت مجازا عن التعليم بعد الجهل جعل متعلق الشكر ذلك، وفي بعض الآثار أنه لما أحياهم الله تعالى سألوا أن يبعثهم أنبياء ففعل، فمتعلق الشكر حينئذ على ما قيل: هذا البعث وهو بعيد، وأبعد منه جعل متعلقه
263
إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد إن لم يكن لهم شرائع وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية البارئ سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها، ويجوز أيضا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليه السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم، وقد يقال: إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلما فعوقبوا بما عوقبوا، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقا في الدنيا والآخرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ عطف على بعثناكم، وقيل: على قلتم، والأول أظهر للقرب والاشتراك في المسند إليه مع التناسب في المسندين في كون كل منهما نعمة بخلاف قُلْتُمْ فإنه تمهيد لها، وإفادته تأخير التظليل والإنزال عن واقعة طلبهم الرؤية، وعلى التقديرين لا بد لترك كلمة إذ هاهنا من نكتة، ولعلها الاكتفاء بالدلالة العقلية على كون كل منهما نعمة مستقلة مع التحرز عن تكرارها في ظَلَّلْنا وأَنْزَلْنا والْغَمامَ اسم جنس كحمامة وحمام، وهو السحاب، وقيل: ما ابيض منه، وقال مجاهد: هو أبرد من السحاب وأرق، وسمي غماما لأنه يغم وجه السماء ويستره. ومنه الغم والغمم، وهل كان غماما حقيقة أو شيئا يشبه وسمي به؟ قولان، والمشهور الأول وهو مفعول ظَلَّلْنا على إسقاط حرف الجر كما تقول: ظللت على فلان بالرداء أو بلا إسقاط، والمعنى جعلنا الغمام عليكم ظلة، والظاهر أن الخطاب لجميعهم. فقد روي أنهم لما أمروا بقتال الجبارين وامتنعوا وقالوا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: ٢٤] ابتلاهم الله تعالى بالتيه بين الشام ومصر أربعين سنة وشكوا حر الشمس فلطف الله تعالى بهم بإظلال الغمام- وإنزال المنّ والسلوى- وقيل: لما خرجوا من البحر وقعوا بأرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل فشكوا الحر فوقوا به، وقيل: الذين ظللوا بالغمام بعض بني إسرائيل وكان الله تعالى قد أجرى العادة فيهم أن من عبد ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته الغمامة وكان فيهم جماعة يسمون أصحاب غمائم فامتن الله تعالى عليهم لكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة والنعمة الباهرة وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى المنّ اسم جنس لا واحد له من لفظه والمشهور أنه الترنجبين وهو شيء يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحموضة كان ينزل عليهم كالطل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم إلا يوم السبت وكان كل شخص مأمورا بأن يأخذ قدر صاع كل يوم أو ما يكفيه يوما وليلة ولا يدخر إلا يوم الجمعة فإن ادخار حصة السبت كان مباحا فيه. وعن وهب أنه الخبز الرقاق، وقيل:
المراد به جميع ما من الله تعالى به عليهم في التيه وجاءهم عفوا بلا تعب، وإليه ذهب الزجاج ويؤيده
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الكمأة من المنّ الذي منّ الله تعالى به على بني إسرائيل»
والسَّلْوى اسم جنس أيضا واحدها سلواة كما قاله الخليل وليست الألف فيها للتأنيث وإلا لما أنثت بالهاء في قوله. كما انتفض السلوات من بلل القطر وقال الكسائي: السَّلْوى واحدة وجمعها سلاوى، وعند الأخفش الجمع والواحد بلفظ واحد، وقيل: جمع لا واحد له من لفظه وهو طائر يشبه السماني أو هو السماني بعينها وكانت تأتيهم من جهة السماء بكرة وعشيا أو متى أحبوا فيختارون منها السمين ويتركون منها الهزيل، وقيل: إن ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي، وفي رواية كانت تنزل عليهم مطبوخة ومشوية- وسبحان من يقول للشيء كن فيكون- وذكر السدوسي أن السلوى هو العسل بلغة كنانة ويؤيده، قول الهذلي:
وقاسمتها بالله جهرا لأنتم ألذ من (السلوى) إذا ما نشورها
وقول ابن عطية- إنه غلط- غلط، واشتقاقها من السلوة لأنها لطيبها تسلي عن غيرها وعطفها على بعض وجوه
264
المنّ من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أمر (١) إباحة على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين، والطيبات- المستلذات وذكرها للمنة عليهم أو الحلالات فهو للنهي عن الادخار، ومِنْ للتبعيض، وأبعد من جعلها للجنس أو للبدل، ومثله من زعم أن هذا على حذف مضاف أي من عوض طيبات قائلا: إن الله سبحانه عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة من قبل- بالمنّ والسلوى- فكانا بدلا من الطيبات، وما موصولة والعائد محذوف- أي رزقناكموه- أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول، واستنبط بعضهم من الآية أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك (٢) وهو أحد أقوال في المسألة وَما ظَلَمُونا عطف على محذوف أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر أو فظلموا بأن كفروا هذه النعم وَما ظَلَمُونا بذلك، ويجوز- كما في البحر- أن لا يقدر محذوف لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها، وسؤال رؤيته تعالى ظلما وغير ذلك فجاء قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا بجملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا منها نقص ولا ضرر، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفران أو بما فعلوا إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفيه ضرب تهكم بهم، والجمع بين صيغتي الماضي، والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم عليه، وفي ذكر أَنْفُسَهُمْ بجمع القلة تحقير لهم وتقليل، والنفس العاصية أقل من كل قليل وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ منصوبة على الظرفية عند سيبويه، والمفعولية عند الأخفش، والظاهر أن الأمر بالدخول على لسان موسى عليه السلام كالأوامر السابقة واللاحقة.- والقرية- بفتح القاف- والكسر لغة أهل اليمن- المدينة من قريت إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس على طريقة المساكنة، وقيل: إن قلوا قيل لها: قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة، وأنهى بعضهم حدّ القلة إلى ثلاثة، والجمع القرى على غير قياس، وقياس أمثاله فعال كظبية وظباء وفي المراد بها هنا خلاف جمّ والمشهور عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والسدي والربيع وغيرهم- وإليه ذهب الجمهور- أنها بيت المقدس، وقد كان هذا الأمر بعد التيه والتحير وهو أمر إباحة يدل عليه عطف (فكلوا) إلخ وهو غير الأمر المذكور بقوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: ٢١] لأنه كان قبل ذلك وهو أمر تكليف كما يدل عليه عطف النهي، ومنهم من زعم اتحادهما. وجعل هذا الأمر أيضا للتكليف وحمل تبديل الأمر على عدم امتثاله بناء على أنهم لم يدخلوا القدس في حياة موسى عليه السلام، ومنهم من ادّعى اختلافهما لكنه زعم أن ما هنا كان بعد التيه على لسان يوشع لا على لسان موسى عليهما السلام لأنه وأخاه هارون ماتا في التيه وفتح يوشع مع بني إسرائيل أرض الشام بعد موته عليه السلام بثلاثة أشهر ومنهم من قال الأمر في التيه بالدخول بعد الخروج عنه ولا يخفى ما في كل، فالأظهر ما ذكرنا وقد روي أن موسى عليه السلام سار بعد الخروج من التيه بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا- وهي بأرض القدس- وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض وكأنهم أمروا بعد الفتح بالدخول على وجه الإقامة والسكنى كما يشير إليه قوله تعالى: (فكلوا) إلخ، وقوله تعالى في الأعراف: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف: ١٦١] ويؤيد كونه بعد الفتح الإشارة بلفظ القريب، والقول- بأنها نزلت منزلة القريب ترويجا للأمر- بعيد، ولا ينافي هذا ما مر من أنه مات في التيه لأن المراد به المفازة لا التيه مصدر تاه يتيه تيها بالكسر والفتح
(١) وفي البحر أن من ذهب إلى الأصل في الأشياء الإباحة قال: المراد داوموا وا فتدبر اهـ منه.
(٢) ثانيها أنه يملك بالوضع فقط وثالثها بالأخذ والتناول، رابعها لا يملك بحال بل ينتفع به وهو على ملك المالك اهـ منه.
265
وتيهانا إذا ذهب متحيرا فليفهم فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين، وفي الكلام إشارة إلى حلّ جميع مواضعها لهم، أو الإذن بنقل حاصلها إلى أي موضع شاؤوا مع دلالة رَغَداً على أنهم مرخصون بالأكل منها- واسعا- وليس عليهم القناعة لسد الجوعة، ويحتمل أن يكون وعدا لهم بكثرة المحصولات وعدم الغلاء، وأخر هذا المنصوب هنا مع تقديمه في آية آدم عليه السلام قبل لمناسبة الفاصلة في قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً والخلاف في نصب الْبابَ كالخلاف في نصب هذِهِ الْقَرْيَةَ والمراد بها على المشهور أحد أبواب بيت القدس، وتدعى الآن باب حطة قاله ابن عباس، وقيل: الباب الثامن من أبوابه، ويدعى الآن باب التوبة- وعليه مجاهد- وزعم بعضهم أنها باب القبة التي كانت لموسى وهارون عليهما السلام يتعبدان فيها، وجعلت قبلة لبني إسرائيل في التيه، وفي وصفها أمور غريبة في القصص لا يعلمها إلا الله تعالى وسُجَّداً حال من ضمير ادْخُلُوا والمراد خضعا متواضعين لأن اللائق بحال المذنب التائب والمطيع الموافق الخشوع والمسكنة، ويجوز حمل السجود على المعنى الشرعي، والحال مقارنة أو مقدرة، ويؤيد الثاني ما روي عن وهب في معنى الآية- إذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله أي على ما أنعم عليكم حيث أخرجكم من التيه ونصركم على من كنتم منه تخافون وأعادكم إلى ما تحبون- وقول الزمخشري- أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا- لم نقف على ما يدل عليه من كتاب وسنة، وفسر ابن عباس السجود هنا بالركوع، وبعضهم بالتطامن والانحناء قالوا: وأمروا بذلك لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى انحناء،
وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قيل لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فدخلوا يزحفون على أستاههم»
وَقُولُوا حِطَّةٌ أي مسألتنا، أو شأنك يا ربنا أن تحط عنا ذنوبنا، وهي فعلة من- الحط- كالجلسة، وذكر أبان أنها بمعنى التوبة وأنشد:
فاز (بالحطة) التي جعل الل هـ بها ذنب عبده مغفورا
والحق أن تفسيرها بذلك تفسير باللازم، ومن البعيد قول أبي مسلم: إن المعنى أمرنا- حطة- أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه إلا أن يقال كانوا مأمورين بهذا القول عند الحط في القرية لمجرد التعبد، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حِطَّةٌ أو نسألك ذلك، ويجوز أن يكون النصب على المفعولية- لقولوا- أي قولوا هذه الكلمة بعينها- وهو المروي عن ابن عباس- ومفعول القول عند أهل اللغة يكون مفردا إذا أريد به لفظه ولا عبرة بما في البحر من المنع إلا أنه يبعد هذا أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الظاهر أنهم أمروا أن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم حتى لو قالوا اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا ولا تتوقف التوبة على ذكر لفظة بعينها، ولهذا قيل: الأوجه في كونها مفعولا- لقولوا- أن يراد قولوا أمرا حاطا لذنوبكم من الاستغفار، وحينئذ يزول عن هذا الوجه الغبار، ثم هذه اللفظة على جميع التقادير عربية معلومة الاشتقاق، والمعنى وهو الظاهر المسموع، وقال الأصم: هي من ألفاظ أهل الكتاب لا نعرف معناها في العربية وذكر عكرمة أن معناها لا إله إلا الله وهو من الغرابة بمكان نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ بدخولكم الباب سجدا وقولكم حطة. والخطايا أصلها خطايىء بياء بعد ألف ثم همزة فأبدلت الياء- عند سيبويه- الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا، وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء، وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر، وقرأ نافع «يغفر» - بالياء- وابن عامر- بالتاء- على البناء للمجهول، والباقون- بالنون- والبناء للمعلوم- وهو الجاري على نظام ما قبله وما بعده- ولم يقرأ أحد من السبعة إلا
266
بلفظ خَطاياكُمْ وأمالها الكسائي، وقرأ الجحدري وقتادة «تغفر» بضم التاء، وأفرد- «الخطيئة» - وقرأ الجمهور بإظهار- الراء- من «يغفر» عند- اللام- وأدغمها قوم، قالوا: وهو ضعيف وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ معطوف على جملة قُولُوا حِطَّةٌ وذكر أنه عطف على الجواب، ولم ينجزم لأن- السين- تمنع الجزاء عن قبول الجزم، وفي إبرازه في تلك الصورة دون تردد دليل على أن المحسن يفعل ذلك البتة، وفي الكلام صفة الجمع مع التفريق، فإن قُولُوا حِطَّةٌ جمع، ونَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ تفريق، والمفعول محذوف، أي ثوابا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي بدل الَّذِينَ ظَلَمُوا بالقول الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قولا غيره فَبَدَّلَ يتعدى لمفعولين «أحدهما» بنفسه «والآخر» بالياء ويدخل على المتروك- فالذم متوجه- وجوزّ أبو البقاء أن يكون- بدل- محمولا على المعنى، أي فقال الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا إلخ، والقول بأن غَيْرَ منصوب بنزع الخافض، كأنه قيل: فغيروا قولا بغيره غير مرضي من القول، وصرح سبحانه- بالمغايرة- مع استحالة تحقق- التبديل- بدونها تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على- المغايرة- من كل وجه، وظاهر الآية انقسام من هناك إلى- ظالمين- وغير ظالمين- وأن- الظالمين- هم- الذين بدلوا- وإن كان- المبدل- الكل كان وضع ذلك من وضع الظاهر موضع الضمير- للإشعار بالعلة- واختلف في- القول الذي بدلوه- ففي الصحيحين أنهم قالوا: حبة في شعيرة، وروى الحاكم «حنطة» بدل حِطَّةٌ وفي المعالم أنهم قالوا بلسانهم- حطا سمقاثا- أي حنطة حمراء، قالوا ذلك استهزاء منهم بما قيل لهم، والروايات في ذلك كثيرة، وإذا صحت يحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، والقول بأنه لم يكن منهم- تبديل- ومعنى- فبدلوا لم يفعلوا ما أمروا به، لا أنهم أتوا ببدل له- غير مسلم- وإن قاله أبو مسلم- وظاهر الآية، والأحاديث تكذبه فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم، وإشعارا بكون ظلمهم وإضرارهم أنفسهم بترك ما يوجب نجاتها، أو وضعهم غير المأمور به موضعه سببا لإنزال- الرجز- وهو العذاب- وتكسر راؤه وتضم- والضم لغة بني الصعدات- وبه قرأ ابن محيصن- والمراد به هنا- كما روي عن ابن عباس- ظلمة وموت، يروى أنه مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا، وقال وهب: طاعون غدوا به أربعين ليلة ثم
ماتوا بعد ذلك، وقال ابن جبير: ثلج هلك به منهم سبعون ألفا- فإن فسر بالثلج- كان كونه مِنَ السَّماءِ ظاهرا- وإن بغيره- فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء، وذكر بعض المحققين أن الجار والمجرور ظرف مستقر وقع صفة ل رِجْزاً وبِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق به لنيابته عن العامل علة له، وكلمة (ما) مصدرية، والمعنى فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا لظلمهم عذابا مقدرا بسبب كونهم مستمرين على- الفسق- في الزمان الماضي، وهذا أولى من جعل الجار والمجرور ظرفا لغوا متعلقا ب فَأَنْزَلْنا لظهوره على سائر الأقوال، ولئلا يحتاج في تعليل- الإنزال بالفسق- بعد التعليل المستفاد من التعليق بالظلم إلى القول بأن الفسق- عين- الظلم- وكرر للتأكيد، أو أن- الظلم أعم- والفسق- لا بد أن يكون من الكبائر، فبعد وصفهم بالظلم- وصفوا- بالفسق- للإيذان بكونه من الكبائر، فإن «الأول» (١) بضاعة العاجز «والثاني» لا يدفع ركاكة التعليل، وما قيل: إنه تعليل- للظلم- فيكون إنزال العذاب مسببا عن- الظلم- المسبب عن- الفسق- ليس بشيء، إذ- ظلمهم- المذكور سابقا، الذي هو سبب الإنزال لا يحتاج إلى العلة، وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى: فَبَدَّلَ إلخ، وترتب العذاب عن التبديل، على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر، وقال قوم: يجوز ذكر إذا كانت
(١) الأول لأبي مسلم، والثاني للرازي، والثالث للجيلي اهـ منه.
267
الكلمة الثانية تسد الأولى (١)، وعلى هذا جرى الخلاف- كما في البحر- في قراءة بالمعنى وروي الحديث به، وجرى في تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك، والبحث مفصل في محله هذا. وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه الله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات. «الأول» قال هنا:
(وإذ قلنا) لما قدم ذكر النعم، فلا بد من ذكر المنعم، وهناك (وإذا قيل) إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به. «الثاني» قال هنا: ادْخُلُوا وهناك اسْكُنُوا [الأعراف: ١٦١] لأن الدخول مقدم، ولذا قدم وضعا المقدم طبعا. «الثالث» قال هنا: خَطاياكُمْ- بجمع الكثرة- لما أضاف ذلك القول إلى نفسه، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة، وهناك خَطِيئاتِكُمْ
[الأعراف: ١٦١]- بجمع القلة- إذ لم يصرح بالفاعل «الرابع» قال هنا: (رغدا) دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك.
«الخامس» قال هنا: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وهناك بالعكس، لأن- الواو- لمطلق الجمع، وأيضا المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين، والبعض الآخر ما كانوا كذلك، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدما على اشتغاله بالعبادة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا: حِطَّةٌ ثم- يدخلوا- وأما الذي لا يكون مذنبا، فالأولى به أن يشتغل «أولا» بالعبادة ثم يذكر التوبة «ثانيا» للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن- يدخلوا ثم يقولوا- فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين، لا جرم ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى «السادس» قال هنا: وَسَنَزِيدُ- بالواو- وهناك بدونه، إذ جعل هنا- المغفرة- مع الزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول حِطَّةٌ والزيادة جزاء الدخول فترك- الواو- يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين «السابع» قال هناك: الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [الأعراف: ١٦٢] وهنا لم يذكر (منهم) لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص ب (من) حيث قال: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الأعراف:
١٥٩] فخص في آخر الكلام ليطابق أوله، ولما لم يذكر في الآيات التي قبل فَبَدَّلَ هنا تمييزا وتخصيصا لم يذكر في آخر القصة ذلك. «الثامن» قال هنا: فَأَنْزَلْنا وهناك فَأَرْسَلْنا [الأعراف: ١٦٢] لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم، وذلك يكون بالآخرة. «التاسع» قال هنا: فَكُلُوا- بالفاء- وهناك- بالواو- لما مر في وَكُلا مِنْها رَغَداً [البقرة: ٣٥] وهو أن كل فعل عطف عليه شيء- وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء- عطف الثاني على الأول- بالفاء- دون- الواو- فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة فَكُلُوا ولما لم يتعلق- الأكل بالسكون- في الأعراف، قيل: وَكُلُوا [الأعراف: ٣١، ١٦١] «العاشر» قال هنا: يَفْسُقُونَ وهناك يظلمون لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلما اكتفى بلفظ- الظلم- هناك انتهى ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولا- كما أنها متقدمة عليها ترتيبا- وليس كذلك، فإن سورة البقرة كلها مدنية، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى (واسألهم عن القرية) إلى قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف:
١٦٣- ١٧١] وقوله تعالى: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف: ١٦١] داخل في الآيات المكية، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة. وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق- الأكل بالسكون- لأنهم إذا سكنوا القرية، تتسبب سكناهم- للأكل- منها كما ذكر الزمخشري، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، فحينئذ لا فرق بين
(١) قوله: تسد الأولى كذا بخط مؤلفه، ولعل فيه سقطا من قلمه، والأصل تسد مسد الأولى اهـ.
268
كُلُوا وفَكُلُوا فلا يتم الجواب وأما الثالث فلأنه تعالى- وإن قال في الأعراف: وَإِذْ قِيلَ- لكنه قال في السورتين: نَغْفِرْ لَكُمْ وأضاف- الغفران- إلى نفسه، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين- جمع الكثرة- بل لا شك أن رعاية نَغْفِرْ لَكُمْ أولى من رعاية وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لتعلق- الغفران بالخطايا- كما لا يخفى على العارف بالمزايا. وأما الرابع فلأنه تعالى- وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى- لكنه مسند إليه في نفس الأمر، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين. وأما الخامس فلأن القصة واحدة، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق- فعلى مقتضى ما ذكر- ينبغي أن يذكر وَقُولُوا حِطَّةٌ مقدما في السورتين وأما السادس فلأن القصة واحدة، وأن- الواو- لمطلق الجمع، وقوله تعالى نَغْفِرْ في مقابلة قُولُوا سواء قدم أو أخر، وقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ في مقابلة وَادْخُلُوا سواء ذكر- الواو- أو ترك، وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل فَبَدَّلَ ما يدل على التخصيص والتمييز، حيث قال سبحانه: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ إلخ بكافات الخطاب وصيغته- فاللائق حينئذ- أن يذكر لفظ مِنْهُمْ أيضا، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حاكاها- ما ذكره الزمخشري- من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله تعالى: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وقوله: وَكُلُوا لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، وسواء قدموا «الحطة» على- دخول الباب- أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهما، وترك ذكر- الرغد- لا يناقض إثباته، وقوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ١٦١] موعد بشيئين- بالغفران والزيادة، وطرح- الواو- لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل:
ماذا بعد الغفران؟ فقيل له سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وكذلك زيادة (منهم) زيادة بيان وَأَرْسَلْنا وأَنْزَلْنا ويَظْلِمُونَ ويَفْسُقُونَ من دار واحد، انتهى.
وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني، والله يؤتي فضله من يشاء، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو.
ومن باب الإشارة في الآيات وإذ قلتم لموسى- القلب لَنْ نُؤْمِنَ الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان- فأخذتكم صاعقة الموت- الذي هو الفناء في التجلي الذاتي- وأنتم تراقبون أو تشاهدون- ثم بعثناكم بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عز وجل،- وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات- لكونها حجب شمس الذات المحرقة سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمة، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها، فتسلون بذلك السَّلْوى وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهى كُلُوا أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب استعدادكم، وأعطيتموها على ما وعد لكم وَما ظَلَمُونا أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات أنفسهم، ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها، وهذا هو الخسران المبين وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ أي المحل المقدس الذي هو مقام المشاهدة وَادْخُلُوا الْبابَ الذي هو الرضا بالقضاء، فهو باب الله تعالى الأعظم سُجَّداً منحنين خاضعين لما يرد عليكم من التجليات، واطلبوا أن يحط الله تعالى عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم، فإن فعلتم ذلك نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ
«فمن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»
وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ أي
269
المشاهدين «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وهل ذلك إلا الكشف التام عن الذات الأقدس.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم وأضاعوها ووضعوها في غير موضعها اللائق بها قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ابتغاء للحظوظ الفانية والشهوات الدنية. فَأَنْزَلْنا على الظالمين خاصة، عذابا وظلمة وضيقا في سجن الطبيعة واسرا في وثاق التمني وقيد الهوى وحرمانا، وذلا بمحبة الماديات السفلية، والاعراض عن هاتيك التجليات العلية، وذلك من جهة قهر سماء الروح، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة القلب الذي لا يأمر إلا بالهدى كما ورد في الأثر استفت قلبك وإن أفتاك المفتون إلى طاعة النفس الأمارة بالسوء. وهذا هو البلاء العظيم، والخطب الجسيم.
270
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها- وكان ذلك في التيه لما عطشوا- ففي بعض الآثار أنهم قالوا فيه: من لنا بحر الشمس- فظلل عليهم الغمام- وقالوا: من لنا بالطعام- فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى- وقالوا: من لنا بالماء- فأمر موسى بضرب الحجر- وتغيير الترتيب لقصد إبراز كل من الأمور المعدود في معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر، ولو روعي الترتيب الوقوعي لفهم أن الكل أمر واحد- أمر بذكره- والاستسقاء- طلب- السقيا- عند عدم الماء أو قلته. قيل: ومفعول- استسقى- محذوف أي- ربه- أو- ماء- وقد تعدى هذا الفعل في الفصيح إلى- المستسقى منه تارة- وإلى- المستسقي أخرى- كما في قوله تعالى: إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ [الأعراف: ١٦٠] وقوله:
من كان يرغب في السلامة فليكن أبدا من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنك بالفتور فإنه نظر يضر بقلبك استلذاذه
إياك من طمع المنى فعزيزه كذليله، وغنيه وشحاذه
وأبيض- يستسقى- الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وتعديته إليهما مثل أن تقول:- استسقى زيد ربه الماء- لم نجدها في شيء من كلام العرب- واللام- متعلقة بالفعل، وهي سببية أي لأجل قومه فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ أي فأجبناه فَقُلْنَا إلخ- والعصا- مؤنث- والألف منقلبة عن- واو- بدليل عصوان وعصوته- أي ضربته بالعصا- ويجمع على أفعل شذوذا وعلى فعول قياسا، فيقال: أعص وعصي، وتتبع حركة- العين- حركة- الصاد- والْحَجَرَ هو هذا الجسم المعروف، وجمعه أحجار وحجار، وقالوا: حجارة، واشتقوا منه فقالوا: استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جدا. والمراد بهذه- العصا- المسئول عنها في قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧] والمشهور أنها من آس الجنة- طولها عشرة أذرع طول موسى عليه السلام- لها شعبتان تتقدان في الظلمة، توارثها صاغر عن كابر حتى وصلت إلى شعيب ومنه إلى موسى عليهما السلام، وقيل: رفعها له ملك في طريق مدين، وفي المراد من الْحَجَرَ خلاف، فقال الحسن:
لم يكن حجرا معينا، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أبلغ في الإعجاز وأبين في القدرة، وقال وهب: كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر، وعلى هذا- اللام- فيه للجنس، وقيل: للعهد، وهو حجر معين حمله معه من الطور مكعب له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم، وكانوا ستمائة ألف ما عدا دوابهم، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا، وقيل: حجر كان عند آدم وصل مع العصا إلى شعيب فدفع إلى موسى، وقيل: هو الحجر الذي فر بثوبه، والقصة معروفة. وقيل: حجر أخذ من قعر البحر خفيف يشبه رأس الآدمي كان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج للماء ضربه. والروايات في ذلك كثيرة، وظاهر أكثرها التعارض، ولا ينبني على تعيين هذا الحجر أمر ديني، والأسلم تفويض علمه إلى الله تعالى.
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً عطف على مقدر، أي فضرب فانفلق، ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار، ولو كان ينفجر دون ضرب لما كان للأمر فائدة، وبعضهم يسمي هذه- الفاء- الفصيحة ويقدر شرطا أي فإن ضربت فقد «انفجرت» وفي المغني أن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب، إلا أن يقال: المراد فقد حكمنا
271
بترتب الانفجار على ضربك، وقال بعض المتأخرين (١) : لا حذف، بل- الفاء- للعطف وإن مقدرة بعد- الفاء- كما هو القياس، بعد الأمر عند قصد السببية، والتركيب من قبيل- زرني فأكرمك- أي اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فإن انفجرت فليكن منك الضرب فالانفجار- ولا يخفى ما في كل حتى قال مولانا مفتي الديار الرومية في الأول إنه غير لائق بجلالة شأن النظم الكريم- والثاني أدهى وأمرّ- والانفجار انصداع شيء من شيء، ومنه الفجر والفجور، وجاء هنا «انفجرت» وفي الأعراف [١٦٠] «انبجست» فقيل: هما سواء وقيل: بينهما فرق وهو أن الانبجاس أول خروج الماء، والانفجار اتساعه وكثرته، أو الانبجاس خروجه من الصلب، والآخر خروجه من اللين، والظاهر استعمالهما بمعنى واحد- وعلى فرض المغايرة- لا تعارض لاختلاف الأحوال، و (من) لابتداء الغاية، والضمير عائد على- الحجر المضروب- وعوده إلى الضرب، و (من) سببية مما لا ينبغي الإقدام عليه، والتاء في- اثنتا- للتأنيث، ويقال: ثنتا إلا أن التاء فيها على ما في البحر للإلحاق، وهذا نظير أنبت، ونبت ولامها محذوفة، وهي ياء لأنها من ثنيت، وقرأ مجاهد وجماعة- ورواه السعدي عن أبي عمرو- عشرة بكسر الشين وهي لغة بني تميم، وقرأ الفضل الأنصاري بفتحها قال ابن عطية:
وهي لغة ضعيفة، ونص بعض النحاة على الشذوذ، ويفهم من بعض المتأخرين أن هذه اللغات في المركب لا في عشرة وحدها، وعبارات القوم لا تساعده، والعين- منبع الماء وجمع على أعين شذوذا وعيون قياسا، وقالوا في أشراف الناس: أعيان، وجاء ذلك في الباصرة قليلا كما في قوله أعيانا لها ومآقيا وهو منصوب على التمييز، وإفراده في مثل هذا الموضع لازم، وأجاز الفراء أن يكون جمعا، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطا وكان بينهم تضاغن وتنافس فأجرى الله تعالى لكل سبط عينا يردها لا يشركه فيها أحد من السبط الآخر دفعا لإثارة الشحناء، ويشير إلى حكمة الانقسام، قوله تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وهي جملة مستأنفة مفهمة على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدى لمشرب غيره، وأُناسٍ جمع لا واحد له من لفظه، وما ذكر من شذوذ إثبات همزته إنما هو مع الألف واللام، وأما بدونها فشائع صحيح، وعَلِمَ هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف- ووجد ذلك بكثرة- والمشرب- إما اسم مكان أي محل الشرب، أو مصدر ميمي بمعنى الشرب، وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء، وحمله على المكان أولى عند أبي حيان، وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كُلُّ ولا يجوز أن يعود على لفظها لأن- كلّا- متى أضيف إلى نكرة وجب مراعاة المعنى كما في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: ٧١] وقوله:
وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفرّ منها الأنامل
ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة وإن كان سرد الكلام يقتضي- قد علم كل أناس عينهم- وفي الكلام حذف أي منها لأن قَدْ عَلِمَ صفة- لاثنتا عشرة عينا- فلا بد من رابط، وإنما وصفها به لأنه معجزة أخرى حيث يحدث مع حدوث الماء جداول يتميز بها مشرب كل من مشرب آخر، ويحتمل أن تكون الجملة حالية لا صفة لقوله تعالى: اثْنَتا عَشْرَةَ لئلا يحتاج إلى تقدير العائد وليفيد مقارنة العلم بالمشارب للانفجار، والمشرب حينئذ العين كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ على إرادة القول، وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به، والاحتياج إلى الشرب حاصل عنه، ومِنْ لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتبعيض، وفي ذكر الرزق مضافا تعظيم
(١) هو عصام الدين اهـ منه
272
للمنة، وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف، وفي هذا التفات إذ تقدم فَقُلْنَا اضْرِبْ ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا، ولو جعل الإضمار قبل كُلُوا مسندا إلى موسى- أي وقال موسى كلوا واشربوا- لا يكون فيه ذلك، والرزق- هنا بمعنى المرزوق وهو الطعام المتقدم من المنّ والسلوى، وبالمشروب من ماء العيون، وقيل: المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى: يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ
ولَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ويلزم عليه أيضا الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤول إلى- كلوا واشربوا- من الماء، ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته، والأكل بإرادة ما هو سبب عنه، أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق الله واشربوا من رزق الله، وقول بعض المتأخرين إن رزق الله- عبارة عن الماء، وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يروي العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب- بعيد غاية البعد، وأقرب منه أن لا يكون كُلُوا وَاشْرَبُوا بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمرا مرتبا على ذكرهم ما وقع وقت الاستسقاء على وجه الشكر والتذكير بقدرة الله تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم الله تعالى، وعدم الإفساد بإضلال الخلق، وجمع عرض الدنيا ويكون فضله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور «واحتجت المعتزلة» بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فاقتضى أن يكون الرزق مباحا فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما، وأنه غير جائز، والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المنّ والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم التبعيض وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران، والعثى- عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقا فسادا كان أو لا فهو كالاعتداء، ثم غلب في الفساد ومفسدين على هذا حال غير مؤكدة هو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها وذكر أبو البقاء أن العثي الفساد والحال مؤكدة، وفيه أن مجيء الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم، والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: ١٣٠] وإلا فالفساد أيضا منكر منهي عنه، وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا، والمراد من الْأَرْضِ عند الجمهور أرض التيه. ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم، وجوز أن يريد الأرضين كلها، و (أل) لاستغراق الجنس، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرضين، هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الاستسقاء ولا الضرب ولا الانفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكررا، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة. والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له، وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة. وقال كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه، وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض، ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه السلام على ما ورد أنه كان بعد
ذلك يأمره، فينفجر ولا ينافيه انفصاله عن الأرض كما وهم، ويحتمل أيضا أن يقلب الله تعالى- بواسطة قوة أودعها في الحجر- الهواء ماء
273
بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها. والله تعالى على كل شيء قدير، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا- لا إله إلا الله- ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً من مياه الحكمة لأن كلمة- لا إله إلا الله- اثنا عشرة حرفا فانفجر من كل حرف عين قد علم كل سبط من أسباط صفات الإنسان وهي اثنا عشر سبطا من الحواس (١) الظاهرة والباطنة، واثنان من القلب والنفس، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة، وقَدْ عَلِمَ مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات، ومشرب ملح أجاج، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات. والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الإنسان: ٢١] للاضمحلال في حقيقة الذات كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ بأمره ورضاه وَلا تَعْثَوْا في هذا القالب مُفْسِدِينَ بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى:
اهْبِطُوا إلخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كدّ وتعب حيث سألوا ب لَنْ نَصْبِرَ فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ إلخ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة، قال مولانا الساليكوتي- ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي- لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم، لأن الإجابة إلى المعصية معصية- وهي غير جائزة على الأنبياء- وإن قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا أمر إباحة لا إيجاب، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين الْمَنَّ وَالسَّلْوى اللذين رزقوهما في التيه، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال: طعام مائدة الأمير واحد- ولو كان ألوانا شتى- بمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات، أو باعتبار كونه ضربا واحدا لأن الْمَنَّ وَالسَّلْوى من طعام أهل التلذذ والسرف، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه، وقيل: إنهم كانوا يطبخونهما معا فيصير طعاما واحدا، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول السَّلْوى نازل من القول، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد السَّلْوى لأن الْمَنَّ كان شرابا، أو شيئا يتحلون به، فلم يعدوه طعاما آخر، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ
[الرحمن: ٢٢] وإنما يخرج من أحدهما- وهو الملح دون العذب- فَادْعُ لَنا رَبَّكَ أي سله لأجلنا- بدعائك إياه- بأن يخرج لنا كذا وكذا- والفاء- لسببية عدم الصبر للدعاء، ولغة بني عامر «فادع» - بكسر العين- جعلوا- دعا من ذوات الياء- كرمى، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم، على أن دعاء الغير للغير مطلقا أقرب إليها- فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم؟ - ولهذا
قال صلّى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: «أشركنا في دعائك» وفي الأثر «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها»
وحملت على ألسنة الغير، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادئ الإجابة، وقالوا: رَبَّكَ ولم يقولوا: ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم
(١) قوله: من الحواس إلخ كذا بخط اهـ مصححه.
274
من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة، فكأنهم قالوا: ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك.
يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها المراد- بالإخراج- المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي، وهو الإظهار بطريق الإيجاد- لا بطريق إزالة الخفاء- والحمل على المعنى الحقيقي يقتضي مخرجا عنه، وما يصلح له هاهنا هو الْأَرْضُ وبتقديره يصير الكلام سخيفا، ويُخْرِجْ مجزوم لأنه جواب الأمر، وجزمه- بلام الطلب- محذوفة لا يجوز عند البصريين، ومِنْ الأولى تبعيضية أي مأكولا بعض ما تُنْبِتُ وادعى الأخفش زيادتها- وليس بشيء- وما موصولة والعائد محذوف، أي تنبته، وجعلها مصدرية لم يجوزه أبو البقاء- لأن المقدر جوهر- ونسبة- الإنبات- إلى الْأَرْضُ مجاز من باب النسبة إلى القابل. وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض- أو فيها- قوة قابلة لذلك، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع، ومِنْ الثانية بيانية، فالظرف مستقر واقع موقع الحال، أي كائنا من بَقْلِها. وقال أبو حيان: تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ما فالظرف لغو متعلق يُخْرِجْ وعلى التقديرين- كما قال الساليكوتي- يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء، ولو جعل بيانا لما أفاده مِنْ التبعيضية- كما قاله المولى عصام الدين- لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة، وأوهم أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد- والبقل- جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والإنعام، والمراد به هنا أطايب البقول التي يأكلها الناس- والقثاء- هو هذا المعروف، وقال الخليل: هو الخيار، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره- بضم القاف- وهو لغة- والفوم- الحنطة- وعليه أكثر الناس- حتى قال الزجاج: لا خلاف عند أهل اللغة أن- الفوم- الحنطة، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم- الفوم- وقال الكسائي وجماعة: هو الثوم، وقد أبدلت- ثاؤه فاء- كما في- جدث وجدف- وهو بالبصل والعدس أوفق- وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- ونفس شيخنا- عليه الرحمة- إليه تميل، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من الْأَرْضُ وذكره مع البقل وغيره وما في المعالم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن- الفوم- الخبز يمكن توجيهه بأن معناه أنه يقال عليه، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولا ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة- وهو البقل- إذ منه ما هو بارد رطب- كالهندبا- ومنه ما هو حار يابس- كالكرفس والسذاب- ومنه ما هو حار وفيه رطوبة، كالنعناع «وثانيا» ما هو بارد رطب- وهو القثاء- «وثالثا» ما هو حار يابس- وهو الثوم- «ورابعا» ما هو بارد يابس- وهو العدس- «وخامسا» ما هو حار رطب- وهو البصل- وإذا طبخ صار باردا رطبا عند بعضهم، أو يقال: إنه ذكر أولا ما يؤكل من غير علاج نار، وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله.
قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل قال: أَتَسْتَبْدِلُونَ إلخ، والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليه السلام، ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم، أو موسى نفسه- وهو الأنسب بسياق النظم- والاستفهام للإنكار، والاستبدال الاعتياض.
«فإن قلت» كونهم لا يصبرون عَلى طَعامٍ واحِدٍ افهم طلب ضم ذلك إليه- لا استبداله به- أجيب بأن قولهم: لَنْ نَصْبِرَ يدل على كراهتهم ذلك الطعام، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها، وقيل: إنهم طلبوا ذلك، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم (المن والسلوى) فلا يجتمعان، وقيل: الاستبدال في المعدة- وهو كما ترى- وقرأ أبيّ- أتبدلون- وهو مجاز، لأن التبديل ليس لهم- إنما ذلك إلى الله تعالى- لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى أتسألون
275
تبديل الذي إلخ، والَّذِي مفعول تَسْتَبْدِلُونَ وهو الحاصل، والَّذِي دخلت عليه الباء هو الزائل، وهو أَدْنى صلة الَّذِي وهو هنا واجب الإثبات- عند البصريين- إذ لا طول، وأَدْنى إما من الدنو أو مقلوب من الدون، وهو على الثاني ظاهر، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف، فقيل: بعيد المحل بعيد الهمة، ويحتمل أن يكون مهموزا من الدناءة، وأبدلت فيه- الهمزة ألفا- ويؤيده قراءة زهير والكسائي «أدنأ» بالهمزة، وأريد بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته، والنفع الجليل في تناوله، وعدم الكلفة في تحصيله، وخلوه عن الشبهة في حله اهْبِطُوا مِصْراً جملة محكية بالقول كالأولى، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى، وهذه ليست كذلك، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى، فوجه الفصل ظاهر، والوقف على خير كاف «على الأول» وتام «على الثاني» والهبوط يجوز أن يكون مكانيا بأن يكون التيه أرفع من المصر، وأن يكون رتبيا، وهو الأنسب بالمقام، وقرىء اهْبِطُوا بضم الهمزة والباء- والمصر- البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين، قال:
وجاعل الشمس (مصرا) لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها- إذا حلبت كل شيء في ضرعها- بعيد، وحكي عن أشهب أنه قال: قال لي مالك: هي مصر قرتيك مسكن فرعون- فهو إذا علم- وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذكر، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث، فهو- إن جعل علما- فإما باعتبار كونه بلدة، فالصرف مع العلمية، والتأنيث لسكون الوسط، وإما باعتبار كونه- بلدا- فالصرف على بابه، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه في مصحف ابن مسعود «مصر» بلا- ألف بعد الراء- ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير، وأن قوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة: ٢١] يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب- كما يدل عليه عطف النهي- وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورا على بلاد التيه- وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين- ومن الناس من جعل مصر معرب- مصرائيم- كاسرائيل اسم لأحد أولاد نوح عليه السلام- وهو أول من اختطها- فسميت باسمه، وإنما جاز الصرف حينئذ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ تعليل للأمر بالهبوط، وفي البحر أنها جواب للأمر- وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة- وفي ذلك محذوفان ما يربط الجملة بما قبلها، والضمير العائد على ما والتقدير، فإن لكم فيها ما سألتموه، والتعبير عن الأشياء المسئولة ب ما للاستهجان بذكرها، وقرأ النخعي ويحيى سَأَلْتُمْ بكسر السين.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي جعل ذلك محيطا بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين، وضُرِبَتْ استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون، وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم، وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم، وهذا الضرب مجازاة لهم
276
على كفران تلك النعمة، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود، وشامل للمخاطبين، بقوله تعالى: فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما- أو رجعوا بغضب- أي صار عليهم، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه، أو صاروا أحقاء به، أو استحقوا العذاب بسببه- وهو بعيد- وأصل- البواء- بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال: هو بواء فلان أي كفؤه، ومنه بؤ- لشسع نعل كليب-
وحديث «فليتبوأ مقعده من النار»
وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم، وإنما بعّده لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب. أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤول ولم يعبر به، وعبر بما عبر تنبيها على تجدد الكفر والقتل منهم حينا بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى، أو لاستحضار قبيح صنعهم و «الآيات» إما المعجزات مطلقا أو التسع التي أتى بها موسى عليه السلام أو ما جاء به من التسع وغيرها، أو آيات الكتب المتلوة مطلقا، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. أو التي فيها الرجم أو القرآن، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما (أل) فيتساويان- كما في البحر- فلا يرد أنهم قتلوا ثلاثمائة نبي في أول النهار، وأقاموا سوقهم في آخره، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقدا حقية قتل أحد منهم عليهم السلام، وإنما حملهم عليه حب الدنيا، واتباع الهوى، والغلو في العصيان، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد، وقيل: الأظهر أنها للجنس، والمراد بغير حق أصلا إذ لام الجنس المبهم كالنكرة، ويؤيده ما في آل عمران [٢١] (بغير حق) فيفيد أنه لم يكن حقا باعتقادهم أيضا ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر سواء كان حقا عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل، والقول: بأنه يمكن أن يقال- لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحدا بغير حق لا يقتص، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيدا لما هو الحكم الشرعي- بعيد كما لا يخفى، قال بعض المتأخرين: هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي- أي بلا حق، أما إذا كان بمعناه- أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل- فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته، وقريب من هذا ما قاله القفال: من أنهم كانوا يقولون: إنهم كاذبون وإن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء، ويحيى، وزكريا عليهم السلام لم يقتلوا لذلك، وإنما قتل شعياء لأن ملكا من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، وقتل بعضهم بعضا فنهاهم عليه السلام فبغوا عليه وقتلوه، ويحيى عليه السلام إنما قتل لقصة تلك الامرأة لعنها الله تعالى، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هاربا فأرسل الملك في طلبه غضبا لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولا بمنشار، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما
277
تنازع فيه الكفر، والقتل، وفي البحر أنه متعلق بما عنده، وزعم بعض الملحدين- أن بين هذه الآية- وما أشبهها، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: ٥١] تناقضا- وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ [البقرة: ٨٧] إلى قوله سبحانه: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة: ٨٧] يدل على أن المقتول رسل أيضا، وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبة الحجة أو الأخذ بالثأر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفا، وبكل خليفة خمسا وثلاثين ألفا ولا يخفى ما فيه، فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال- كما أجاب به المحققين- لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم،
وقرأ علي رضي الله تعالى عنه: يقتلون
بالتشديد، والحسن في رواية عنه وتقتلون بالتاء فيكون ذلك من الالتفات، وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي، والنبوة، واستشكل بما
روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم «يا نبيء الله بالهمز فقال لست بنبيء الله
- يعني مهموزا-
ولكن نبي الله»

بغير همزة فأنكر عليه ذلك. ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة والسلام على أنه استشكل أيضا جمع النبي على نبيين وهو فعيل بمعنى مفعول، وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم. وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها فمنع لوهم أن معناه يا طريد الله تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه، ولا يلزم من صحة استعمال الله تعالى له في حق نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم- الذي برأه من كل نقص- جوازه من البشر، وقيل إن النهي كان خاصا في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول راعِنا إلى قول انْظُرْنا [البقرة: ١٠٤] وعن الثاني بأنه ليس بمتفق عليه إذ قيل: إنه بمعنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصلي، ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك، فصح جمعه باعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر.
ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سببا لما تقدم، وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور، ونحوه مما هو مفرد لفظا متعدد معنى، وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملا عليه، والباء للسببية، وما بعدها سبب للسبب، والمعنى أن الذي حملهم على الكفر بآيات الله تعالى، وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم الحدود، والذنب يجر الذنب، وأكد الأول لأنه مظنة الاستبعاد بخلاف مطلق العصيان، وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول، وترك العاطف للدلالة على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذ- لإيراد كلمة ذلك- فائدة إذ الظاهر بِما عَصَوْا إلخ ويفوت أيضا ما يفوت، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا.
«ومن باب الإشارة» الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب وقطع وريدها بقطع واردها، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب، والاعتياض بالاغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لما انجر الكلام إلى ذكر وعيد أهل الكتاب قرن به
278
ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب والترهيب وبهذا يتضح وجه توسيط هذه الآية وما قبلها بين تعداد النعم، وفي المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا هنا أقوال، والمروي عن سفيان الثوري أنهم المؤمنون بألسنتهم، وهم المنافقون بدليل انتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا، وعن السدي أنهم الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم- كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل- ومن لحقه- كأبي ذر وبحيرى- ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون البعثة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وروى السدي عن أشياخه أنهم المؤمنون بموسى إلى أن جاء عيسى عليهما السلام فآمنوا به، وقيل: إنهم أصحاب سلمان الذين قصّ حديثهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
فقال له: «هم في النار»
فأظلمت الأرض عليه كما روى مجاهد عنه فنزلت عند ذلك الآية إلى يَحْزَنُونَ قال سلمان: فكأنما كشف عني جبل، وقيل: إنهم المتدينون بدين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مخلصين أو منافقين- واختاره القاضي- وكأن سبب الاختلاف قوله تعالى فيما بعد: مَنْ آمَنَ إلخ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر وأقل الأقوال مؤنة أولها وَالَّذِينَ هادُوا أي تهودوا يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، ويهود- إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، ووجه التخصيص كون توبتهم أشق الأعمال كما مر، وإما معرب يهوذا بذال معجمة وألف مقصورة كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وقرىء هادُوا بفتح الدال أي مال بعضهم إلى بعض وَالنَّصارى جمع نصران بمعنى نصراني، وورد ذلك في كلام العرب وإن أنكره البعض كقوله:
تراه إذا دار العشيّ محنفا ويضحى لديه وهو (نصران) شامس
ويقال في المؤنث نصران كندمان وندمانة قاله سيبويه- وأنشد. كما سجدت نصرانة لم تحنف. والياء في نصراني عنده للمبالغة كما يقال للأحمر أحمري إشارة إلى أنه عريق في وصفه، وقيل: إنها للفرق بين الواحد والجمع كزنج وزنجي، وروم ورومي، وقيل: النصارى جمع نصري كمهري ومهارى حذفت إحدى ياءيه وقلبت الكسرة فتحة للتخفيف فقلبت الياء ألفا. وإلى ذلك ذهب الخليل، وهو اسم لاصحاب عيسى عليه السلام، وسموا بذلك لأنهم نصروه، أو لنصر بعضهم لبعض، وقيل: إن عيسى عليه السلام ولد في بيت لحم بالقدس ثم سارت به أمه إلى مصر ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام وأقامت بقرية ناصرة، وقيل: نصرايا، وقيل: نصري، وقيل: نصرانة، وقيل:
نصران- وعليه الجوهري- فسمي من معه باسمها، أو أخذ لهم اسم منها وَالصَّابِئِينَ هم قوم مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين واتخاذهم وسائط ولما لم يتيسر لهم التقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فرعت جماعة منهم إلى هياكلها، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وجماعة نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن أحد شيئا. فالفرقة الأولى هم عبدة الكواكب، والثانية هم عبدة الأصنام وكل من هاتين الفرقتين أصناف شتى مختلفون في الاعتقادات والتعبدات، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: إنهم ليسوا بعبدة أوثان وإنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة، وقيل: هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء كيحيى عليه السلام، وقيل: إنهم يقرون بالله تعالى ويقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة، وقيل: إلى مهب الجنوب، وقد أخذوا من كل دين شيئا، وفي جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم كلام للفقهاء يطلب في محله، واختلف في اللفظ فقيل غير عربي، وقيل عربي من صبأ- بالهمز- إذا خرج أو من صبا
279
معتلا بمعنى مال لخروجهم عن الدين الحق وميلهم إلى الباطل، وقرأ نافع وحده بالياء وذلك إما على الأصل أو الإبدال للتخفيف.
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً أي أحدث من هذه الطوائف إيمانا بالله تعالى وصفاته وأفعاله والنبوات، وبالنشأة الثانية على الوجه اللائق، وأتى- بعمل صالح- حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر، وهذا مبني على أول الأقوال، والقائلون بآخرها منهم من فسر الآية بمن اتصف من أولئك بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات، والدوام عليه كإيمان المخلصين، أو بطريق إحداثه، وإنشائه كإيمان من عداهم من المنافقين، وسائر الطوائف، وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين، ومنهم من فسرها بمن كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه، فيعم الحكم المخلصين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والمنافقين الذين تابوا، واليهود والنصارى الذين ماتوا قبل التحريف والنسخ وَالصَّابِئِينَ الذين ماتوا زمن استقامة أمرهم إن قيل: إن لهم دينا، وكذا يعم اليهود والصائبين الذين آمنوا بعيسى عليه السلام وماتوا في زمنه، وكذا من آمن من هؤلاء الفرق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وفائدة ذكر الَّذِينَ آمَنُوا على هذا مع أن الوعيد السابق كان في اليهود لتسكين حمية اليهود بتسوية المؤمنين بهم في أن كون كل في دينه «قبل النسخ» يوجب الأجر «وبعده» يوجب الحرمان، كما أن ذكر الصَّابِئِينَ للتنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا يتاب عليهم إذا صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فغيرهم بالطريق الأولى وانفهام قبل النسخ من وَعَمِلَ صالِحاً إذ لا صلاح في العمل بعده، وهذا هو الموافق لسبب النزول لا سيما
على رواية أن سلمان رضي الله تعالى عنه ذكر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حسن حال الرهبان الذين صحبهم، فقال: «ماتوا وهم في النار» فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام: «من مات على دين عيسى عليه السلام قبل أن يسمع بي فهو على خير، ومن سمع ولم يؤمن بي فقد هلك».
والمناسب لعموم اللفظ وعدم صرفه إلى تخصيص الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى بالكفرة منهم وتخصيص مَنْ آمَنَ إلخ بالدخول في ملة الإسلام، إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصابئين دين، وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات «ففي الملل والنحل» أن الصورة في مقابلة الحنيفية، ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم: الصابئة، ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه، فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصَّابِئِينَ فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين اسم إِنَّ وخبرها إليهم- على القول المشهور- وارتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصدا إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من الصَّابِئِينَ مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه؟! على أن فيه بعد ما لا يخفى فتدبر. ومَنْ مبتدأ، وجوزوا فيها أن تكون موصولة والخبر جملة قوله تعالى:
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ودخلت- الفاء- لتضمن المبتدأ معنى الشرط كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: ١٠] الآية، وأن تكون شرطية- وفي خبرها خلاف- هل الشرط، أو الجزاء، أو هما؟ وجملة مَنْ آمَنَ إلخ خبر إِنَّ فإن كانت مَنْ موصولة- وهو الشائع هنا- احتيج إلى تقدير- منهم- عائدا، وإن كانت شرطية لم يحتج إلى تقديره- إذ العموم يغني عنه- كأنه قيل: هؤلاء وغيرهم إذا آمنوا فَلَهُمْ إلخ على ما قالوا في قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: ٣٠] وجوز بعضهم أن تكون مَنْ
280
بدلا من اسم إِنَّ وخبرها فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ واختار أبو حيان أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إِنَّ فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا من غير الأصناف الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة فَلَهُمْ إلخ. وقد حملت الضمائر الثلاثة باعتبار معنى الموصول، كما أن إفراد ما في الصلة باعتبار لفظه، وفي البحر إن هذين الحملين لا يتمان إلا بإعراب مَنْ مبتدأ، وأما على إعرابها بدلا فليس فيها إلا حمل على اللفظ فقط فافهم. ثم المراد من- الأجر- الثواب الذي وعدوه على الإيمان والعمل الصالح، فإضافته إليهم واختصاصه بهم بمجرد الوعد لا بالاستيجاب- كما زعمه الزمخشري رعاية للاعتزال- لكن تسميته- أجرا- لعدم التخلف، ويؤيد ذلك قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ المشير إلى أنه لا يضيع لأنه عند لطيف حفيظ، وهو متعلق بما تعلق به فَلَهُمْ، ويحتمل أن يكون حالا من أَجْرُهُمْ.
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عطف على جملة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ وقد تقدم الكلام على مثلها في آخر قصة آدم عليه السلام فأغنى عن الإعادة هنا وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ تذكير بنعمة أخرى، لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم، والظاهر من الميثاق هنا العهد، ولم يقل: مواثيقكم، لأن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره- فكان ميثاقا واحدا- ولعله كان بالانقياد لموسى عليه السلام، واختلف في أنه متى كان؟ فقيل: قبل رفع الطور، ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ [النساء: ١٥٤] إلخ، وقيل: كان معه وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ- الواو- للعطف، وقيل: للحال، والطُّورَ قيل: جبل من الجبال، وهو سرياني معرب، وقيل:
الجبل المعين. وعن أبي حاتم عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا، وكان على قدر عسكرهم- فرسخا في فرسخ- ورفع فوقهم قدر قامة الرجل، واستشكل بأن هذا يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان فينافي التكليف، وأجاب الإمام بأنه لا إلجاء لأن الأكثر فيه خوف السقوط عليهم، فإذا استمر في مكانه مدة- وقد شاهدوا السماوات مرفوعة بلا عماد- جاز أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف، وقال العلامة: كأنه حصل لهم بعد هذا الإلجاء قبول اختياري، أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان- وفيه كما قال الساليكوتي- إن الكلام في أنه كيف يصح التكليف ب خُذُوا إلخ مع القسر، وقد تقرر أن مبناه على الاختيار- فالحق أنه إكراه- لأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختاره- لو خلي ونفسه- فيكون معدما للرضا لا للاختيار إذ الفعل يصدر باختياره كما فصل في الأصول، وهذا كالمحاربة مع الكفار، وأما قوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: ٢٥٦] وقوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: ٩٩] فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ هو على إضمار القول أي قلنا أو قائلين خُذُوا وقال بعض الكوفيين. لا يحتاج إلى إضماره لأن أخذ الميثاق قول، والمعنى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ بأن تأخذوا ما آتيناكم.- وليس بشيء- والمراد هنا- بالقوة- الجد والاجتهاد- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويؤول إلى عدم التكاسل والتغافل، فحينئذ لا تصلح الآية دليلا لمن ادعى أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لا يقال: خذ هذا بقوة، إلا والقوة حاصلة فيه لأن القوة بهذا المعنى لا تنكر صحة تقدمها على الفعل وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي ادرسوه واحفظوه ولا تنسوه، أو تدبروا معناه، أو اعملوا بما فيه من الأحكام، فالذكر يحتمل أن يراد به الذكر اللساني والقلبي والأعم منهما وما يكون كاللازم لهما، والمقصود منهما أعني العمل لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قد تقدم الكلام على الترجي في كلامه تعالى، وقد ذكر هاهنا أن كلمة- لعل- متعلقة- بخذوا، واذكروا- إما مجاز يؤول معناه بعد الاستعارة إلى تعليل ذي الغاية بغايته أو حقيقة لرجاء المخاطب، والمعنى خُذُوا واذكروا راجين أن
281
تكونوا متقين ويرجح المعنى المجازي أنه لا معنى لرجائهم فيما يشق عليهم أعني التقوى، اللهم إلا باعتبار تكلف أنهم سمعوا مناقب المتقين ودرجاتهم فلذا كانوا راجين للانخراط في سلكهم، وجوز المعتزلة كونها متعلقة- بقلنا- المقدر وأولوا الترجي بالإرادة أي (قلنا) واذكروا- إرادة أن تتقوا، وهو مبني على أصلهم الفاسد من أن إرادة الله تعالى لأفعال العباد غير موجبة للصدور لكونها عبارة عن العلم بالمصلحة، وجوز العلامة تعلقها إذا أول الترجي بالإرادة- بخذوا- أيضا على أن يكون قيدا للطلب لا للمطلوب، وجوز الشهاب أن يتعلق بالقول على تأويله بالطلب والتخلف فيه جائز، وفيه أن القول المذكور وهو خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بعينه طلب التقوى فلا يصح أن يقال- خذوا ما آتيناكم- طالبا منكم التقوى إلا بنوع تكلف فافهم ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه وخالفتم، وأصل التولي الإعراض المحسوس ثم استعمل في الإعراض المعنوي كعدم القبول، ويفهم من الآية أنهم امتثلوا الأمر ثم تركوه.
فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها، أو الفضل والرحمة بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإدراكهم لمدته، فالخطاب على الأول جار على سنن الخطابات السابقة مجازا باعتبار الإسلاف وعلى الثاني جار على الحقيقة، والخسران ذهاب رأس المال أو نقصه، والمراد لكنتم مغبونين هالكين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط في مهاوي الضلال عند الفترة، وكلمة- لولا- إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وتقدم الكلام عليها، وحرف النفي- والاسم الواقع بعدها عند سيبويه- مبتدأ خبره محذوف وجوبا لدلالة الحال عليه وسد الجواب مسده، والتقدير- ولولا فضل الله ورحمته- حاصلان، ولا يجوز أن يكون الجواب خبرا لكونه في الأغلب خاليا عن العائد إلى المبتدأ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أي لولا ثبت فضل الله تعالى إلخ، ولَكُنْتُمْ جواب- لولا- ويكثر دخول اللام على الجواب إذا كان موجبا، وقيل: إنه لازم إلا في الضرورة كقوله:
لولا الحياء ولولا الدين (عبتكما) ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وجاء في كلامهم بعد اللام قد، كقوله:
لولا الأمير ولولا خوف طاعته (لقد) شربت وما أحلى من العسل
وقد جاء أيضا حذف اللام وإبقاء قد نحو- لولا زيد قد أكرمتك- ولم يجىء في القرآن مثبتا إلا باللام إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: وَهَمَّ بِها [يوسف: ٢٤] جواب لولا قدم عليها هذا (من باب الإشارة والتأويل في الآية) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال- والصفات ورفعنا فوقكم طور- الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها، أو أشار سبحانه- بالطور- إلى موسى القلب، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد وقلنا خُذُوا أي اقبلوا ما آتَيْناكُمْ من كتاب العقل الفرقاني بجد، وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله تعالى بإمهاله وحكمه بإفضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة
إلى الله يدعى بالبراهين من أبى فإن لم يجب بادته بيض الصوارم
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللام واقعة في جواب قسم مقدر، وعلم- هنا كعرف فلذلك تعدت إلى واحد، وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين، وقدر بعضهم مضافا أي اعتداء الذين، وقيل:
أحكامهم، ومِنْكُمْ في موضع الحال، والسَّبْتِ اسم لليوم المعروف وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع لأنه سبت فيه خلق كل شيء وعمله، وقيل: من السبوت وهو الراحة والدعة. والمراد به هنا اليوم، والكلام على حذف
282
مضاف أي في حكم السبت لأن الاعتداء والتجاوز لم يقع في اليوم بل وقع في حكمه بناء على ما
حكي أن موسى عليه السلام أراد أن يجعل يوما خالصا للطاعة وهو يوم الجمعة فخالفوه وقالوا: نجعله يوم السبت لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا فأوحى الله تعالى إليه أن دعهم وما اختاروا ثم امتحنهم فيه فأمرهم بترك العمل وحرم عليهم فيه صيد الحيتان فلما كان زمن داود عليه السلام- اعتدوا- وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها أيلة. وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حظر هناك وأخرج خرطومه وإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء فيصطادونها يوم الأحد، وروي أنهم فعلوا ذلك زمانا فلم ينزل عليهم عقوبة فاستبشروا وقالوا: قد أحل لنا العمل في السبت فاصطادوا فيه علانية وباعوا في الأسواق،
وعلى هذا يصح جعل اليوم ظرفا للاعتداء، ولا يحتاج إلى تقدير مضاف، وقيل: المراد بالسبت هنا مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وليس بمعنى اليوم فحينئذ لا حاجة إلى تقدير مضاف إذ يؤول المعنى إلى أنهم اعتدوا في التعظيم وهتكوا الحرمة الواجبة عليهم. وقد ذكر بعضهم أن تسمية العرب للأيام بهذه الأسماء المشهورة حدثت بعد عيسى عليه السلام وأن أسماءها قبل غير ذلك وهي التي في قوله:
أؤمل أن أعيش وأن يومي بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته فمونس أو عروبة أو شبار
واستدل بهذه الآية على تحريم الحيل في الأمور التي لم تشرع كالربا- وإلى ذلك ذهب الإمام مالك- فلا تجوز عنده بحال قال الكواشي: وجوزها أكثرهم ما لم يكن فيها إبطال حق أو إحقاق باطل، وأجابوا عن التمسك بالآية فإنها ليست حيلة وإنما هي عين المنهي عنه لأنهم إنما نهوا عن أخذها ولا يخفى ما في هذا الجواب، وتحقيقه في كتب الفقه فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ القردة جمع قرد وهو معروف ويجمع فعل الاسم قياسا على فعول، وقليلا على فعلة، والخسو- الصغار والذلة ويكون متعديا ولازما. ومنه قولهم للكلب: اخسأ وقيل: الخسوء والخساء مصدر خسأ الكلب بعد، وبعضهم ذكر الطرد عند تفسير الخسوء كالإبعاد، فقيل: هو لاستيفاء معناه لا لبيان المراد، وإلا لكان الخاسئ بمعنى الطارد، والتحقيق أنه معتبر في المفهوم إلا أنه بالمعنى المبني للمفعول، وكذلك الإبعاد فالخاسئ الصاغر المبعد المطرود، وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة، وعلى ذلك جمهور المفسرين- وهو الصحيح- وذكر غير واحد منهم أنهم بعد أن مسخوا لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ولم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام وماتوا في اليوم الثامن، واختار أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا- وأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم- ويرده ما
رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ؟ «إن الله تعالى لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك»
وروى ابن جرير عن مجاهد «أنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظا ولا تعي زجرا» فيكون المقصود من الآية تشبيههم بالقردة كقوله:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن (حجرا) من يابس الصخر جلمدا
وكُونُوا «على الأول» ليس بأمر حقيقة، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم، بل المراد منه سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراد من غير امتناع ولا لبث.
«وعلى الثاني» يكون الأمر مجازا عن التخلية والترك والخذلان- كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اصنع ما شئت»
وقد قرره العلامة في تفسير قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا [العنكبوت: ٦٦]
283
والمنصوبان خبران للفعل الناقص، ويجوز أن يكون خاسِئِينَ حالا من الاسم، ويجوز أن يكون صفة ل قِرَدَةً والمراد وصفهم بالصغار عند الله تعالى دفعا لتوهم أن يجعل مسخهم وتعجيل عذابهم في الدنيا لدفع ذنوبهم ورفع درجاتهم.
واعترض أنه لو كان صفة لها لوجب أن يقول: خاسئة لامتناع الجمع- بالواو- والنون في غير ذوي العلم، وأجيب بأن ذلك على تشبيههم بالعقلاء كما في السَّاجِدِينَ أو باعتبار أنهم كانوا عقلاء، أو بأن المسخ إنما كان بتبدل الصورة فقط، وحقيقتهم سالمة على ما روي أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم، فيقول له: ألم أنهك؟ فيقول: بلى ثم تسيل دموعه على خده- ولم يتعرض في الآية بمسخ شيء منهم خنازير- وروي عن قتادة أن الشباب صاروا قِرَدَةً والشيوخ صاروا- خنازير- وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم، وقرىء قِرَدَةً بفتح القاف وكسر الراء وخاسِئِينَ بغير همز فَجَعَلْناها نَكالًا أي كينونتهم وصيرورتهم قِرَدَةً أو المسخة، أو العقوبة، أو الآية المدلول عليها بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ وقيل: الضمير للقرية، وقيل: للحيتان- والنكال- واحد- الأنكال- وهي القيود- ونكل به- فعل به ما يعتبر به غيره، فيمتنع عن مثله لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أي لمعاصريهم ومن خلفهم- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره- وروي عنه أيضا لِما بحضرتها من القرى- أي أهلها وما تباعد عنها- أو للآتين والماضين- وهو المختار عند جماعة- فكل من ظرفي المكان مستعار للزمان، و (ما) أقيمت مقام- من- إما تحقيرا لهم في مقام العظمة والكبرياء- أو لاعتبار الوصف- فإن ما يعبر بها عن العقلاء تعظيما- إذا أريد الوصف- كقوله: «سبحان ما سخر كن» وصحح كونها نَكالًا للماضين أنها ذكرت في زبر الأولين- فاعتبروا بها- وصحت- الفاء- لأن جعل ذلك نَكالًا للفريقين إنما يتحقق بعد القول والمسخ، أو لأن- الفاء- إنما تدل على ترتب جعل العقوبة نَكالًا على القول وتسببه عنه- سواء كان على نفسه أو على الإخبار به- فلا ينافي حصول الاعتبار قبل وقوع هذه الواقعة بسبب سماع هذه القصة، وقيل:- اللام- لام الأجل و (ما) على حقيقتها- والنكال- بمعنى العقوبة لا- العبرة- والمراد بما بَيْنَ يَدَيْها ما تقدم من سائر الذنوب قبل أخذ السمك، وب ما خَلْفَها ما بعدها، والقول بأن المراد جعلنا المسخ عقوبة لأجل ذنوبهم المتقدمة على المسخة والمتأخرة عنها يستدعي بقاءهم مكلفين بعد المسخ ولا يظهر ذلك إلا على قول مجاهد، وحمل الذنوب التي بعد المسخة- على السيئات الباقية آثارها- ليس بشيء كما لا يخفى، وقول أبي العالية- إن المراد ب لِما بَيْنَ يَدَيْها ما مضى من الذنوب، وب ما خَلْفَها من يأتي بعد، والمعنى فجعلناها عقوبة لما مضى من ذنوبهم، وعبرة لمن بعدهم- منحط من القول جدا لمزيد ما فيه من تفكيك النظم والتكلف وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الموعظة ما يذكر مما يلين القلب- ثوابا كان أو عقابا- والمراد بالمتقين ما يعم كل متق من كل أمة- وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقيل: من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: منهم، ويحتمل أنهم اتعظوا بذلك وخافوا عن ارتكاب خلاف ما أمروا به، ويحتمل أنهم وعظ بعضهم بعضا بهذه الواقعة، وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وجعلهم بحيث لو أهملوا وتركوا وخلوا بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية والغواشي الظلمانية لضروراتهم لها واعتيادهم من الطفولية عليها
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فوضع الله تعالى العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة ليزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة ارتكاب الشهوات، وجعل يوما من أيام الأسبوع مخصوصا للاجتماع
284
على العبادة وإزالة وحشة التفرقة ودفع ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية، فوضع السَّبْتِ لليهود لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم والسَّبْتِ آخر الأسبوع، والأحد للنصارى لأن عالم العقل الذي إليه دعوتهم أول العوالم، ويوم الأحد أول الأسبوع، والجمعة للمسلمين لأنه يوم الجمع،- والختم- فهو أوفق بهم وأليق بحالهم- فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلا- زال نور استعداده، وطفىء مصباح فؤاده، ومسخ كما مسخ أصحاب السبت، ومن غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده، وتمكن في طباعه، وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا أطلق عليه اسم ذلك الحيوان حتى
كأن صار طباعه طباعه، ونفسه نفسه، فليجهد المرء على حفظ إنسانيته، وتدبير صحته بشراب الأدوية الشرعية والمعاجين الحكمية، وليحث نفسه بالمواعظ الوعدية والوعيدية
هي النفس إن تهمل تلازم خساسة وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً بيان نوع من مساوئهم من غير تعديد النعم وصح العطف لأن ذكر النعم سابقا كان مشتملا على ذكر المساويء أيضا من المخالفة للأنبياء والتكذيب لهم وغير ذلك، وقد يقال: هو على نمط ما تقدم، لأن الذبح نعمة دنيوية لرفعة التشاجر بين الفريقين، وأخروية لكونه معجزة لموسى عليه السلام. وكأن مولانا الإمام الرازي خفي عليه ذلك فقال: إنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات، وجعل النوع الثاني ما أشارت إليه هذه الآية- وليس بالبعيد.
«وأول القصة» قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [البقرة: ٧٢] إلخ، وكان الظاهر أن يقال- قال موسى إذ قتل قتيل تنوزع في قاتله- إن الله يأمر بذبح بقرة هي كذا وكذا، وأن يضرب ببعضها ذلك القتيل ويخبر بقاتله فيكون كيت وكيت إلا أنه فك بعضها وقدم لاستقلاله بنوع من مساوئهم التي قصد نعيها عليهم، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال، وترك المصارعة إلى الامتثال، ولو أجرى على النظم لكانت قصة واحدة، ولذهبت تثنية التقريع، وقد وقع في النظم من فك التركيب والترتيب ما يضاهيه في بعض القصص، وهو من المقلوب المقبول لتضمنه نكتا وفوائد، وقيل: إنه يجوز أن يكون ترتيب نزولها على موسى عليه السلام على حسب تلاوتها بأن يأمرهم الله تعالى- بذبح البقرة- ثم يقع القتل فيؤمروا بضرب بعضها- لكن المشهور خلافه- والقصة أنه عمد اخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما- أخي أبيهما- فقتلاه ليرثا ماله وطرحاه على باب محلهم ثم جاءا يطلبان بدمه فأمر الله تعالى بذبح بقرة وضربه ببعضها ليحيا، ويخبر بقاتله، وقيل: كان القاتل أخا القتيل، وقيل: ابن أخيه ولا وارث له غيره فلما طال عليه عمره قتله ليرثه، وقيل: إنه كان- تحت رجل يقال له عاميل- بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال فقتله ذو قرابة له لينكحها فكان ما كان، وقرأ الجمهور- يأمركم- بضم الراء، وعن أبي عمرو، السكون، والاختلاس- وإبدال الهمزة ألفا، و (أن) تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط حرف الجر- أي بأن تذبحوا قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل: فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أم لا؟ فأجيب بذلك، والاتخاذ كالتصيير، والجعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وهُزُواً مفعوله الثاني ولكونه مصدرا لا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا لأنه خبر المبتدأ في الحقيقة وهو اسم ذات هنا فيقدر مضاف- كمكان، أو أهل- أو يجعل بمعنى المهزوء به كقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة: ٩٦] أي مصيده أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة كرجل عدل، وقد قالوا ذلك إما بعد أن أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة دون ذكر الاحياء بضربها، وإما
285
بعد أن أمرهم وذكر لهم استبعادا لما قاله واستخفافا به كما يدل عليه الاستفهام إذ المعنى أتسخر بنا فإن جوابك لا يطابق سؤالنا ولا يليق، وأين ما نحن فيه مما أنت آمر به، ولا يأبى ذلك انقيادهم له لأنه بعد العلم بأنه جد وعزيمة، ومن هنا قال بعضهم: إن إجابتهم نبيهم- حين أخبرهم عن أمر الله تعالى بأن يذبحوا بقرة بذلك دليل على سوء اعتقادهم بنبيهم وتكذيبهم له إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى لما استفهموا هذا الاستفهام، ولا كانوا أجابوا هذا الجواب، فهم قد كفروا بموسى عليه السلام. ومن الناس من قال: كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية، والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليه السلام داعبهم، أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء، فأجابوا بما أجابوا، وقيل: استفهموا على سبيل الاسترشاد- لا على وجه الإنكار والعناد- وقرأ عاصم وابن محيصن «يتخذنا» - بالياء- على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع «هزأ» بالإسكان، وحفص عن عاصم- بالضم وقلب الهمزة واوا، والباقون- بالضم والهمزة- والكل لغات فيه.
قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من أن أعد في عدادهم، والجهل- كما قال الراغب- له معان، عدم العلم، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل- سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا- وهذا الأخير هو المراد هنا، وقد نفاه عليه السلام عن نفسه قصدا إلى نفي ملزومه الذي رمى به- وهو الاستهزاء على طريق الكناية- وأخرج ذلك في صورة الاستعارة استفظاعا له، إذ- الهزء- في مقام الإرشاد كاد يكون كفرا وما يجري مجراه، ووقوعه في مقام الاحتقار والتهكم مثل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١- التوبة: ٣٤- الانشقاق: ٢٤] سائغ شائع- وفرق بين المقامين- وذكر بعضهم أن الاستعاذة بالله تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [المؤمنون: ٩٧] لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك، والأول أولى- وهو المعروف من إيراد الاستعاذة في أثناء الكلام- والفرق بين- الهزء والمزح- ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانا كما لا يخفى.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي سل لأجلنا رَبُّكَ الذي عوّدك ما عوّدك- يظهر لَنا ما حالها وصفتها، فالسؤال في الحقيقة عن الصفة، لأن الماهية ومسمى الاسم معلومان- ولا ثالث لهما- لتستعمل ما فيه، أما إذا أريد بقرة معينة فظاهر لأنه استفسار لبيان المجمل- وإلا فلمكان التعجب- وتوهم أن مثل هذه البقرة لا تكون إلا معينة، والجواب «على الأول» بيان «وعلى الثاني» نسخ وتشديد، وهكذا الحال فيما سيأتي من السؤال والجواب.
وكان مقتضى الظاهر «على الأول» أي لأنها للسؤال عن المميز وصفا كان أو ذاتيا. «وعلى الثاني» كيف؟ لأنها موضوعة للسؤال عن الحال، وما وإن سئل بها عن الوصف لكنه على سبيل الندور، وهو إما مجاز أو اشتراك- كما صرح به في المفتاح- والغالب السؤال بها عن الجنس، فإن أجريت هنا على الاستعمال الغالب نزل مجهول الصفة لكونه على صفة لم يوجد عليها جنسه- وهو إحياء الميت بضرب بعضه- منزلة مجهول الحقيقة فيكون سؤالا عن الجنس تنزيلا، وعن الصفة حقيقة. وإن أجريت على النادر لم يحتج إلى التنزيل المذكور، والقول إنه يمكن أن يجعل ما هِيَ على حذف مضاف- أي ما حالها؟ - فيكون سؤالا عن نوع حال تفرع عليه هذه الخاصية- على بعده- خال عن اللطافة اللائقة بشأن الكتاب العزيز. وما استفهامية خبر مقدم ل هِيَ والجملة في موضع نصب ب يُبَيِّنْ لأنه معلق عنها، وجاز فيه ذلك لشبهه بأفعال القلوب، والمعنى يُبَيِّنْ لَنا جواب هذا السؤال قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ الفارض اسم للمسنة التي انقطعت ولادتها من الكبر، والفعل- فرضت- بفتح الراء
286
وضمها- ويقال لكل ما قدم وطال أمره فارِضٌ ومنه قوله:
يا رب ذي ضغن على (فارض) له قروء كقروء الحائض
وكأن المسنة سميت- فارضا- لأنها- فرضت- سنها أي قطعتها وبلغت آخرها، والبكر- اسم للصغيرة، وزاد بعضهم- التي لم تلد من الصغر- وقال ابن قتيبة: هي التي ولدت ولدا واحدا، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجال، وقيل: (١) هي التي لم تحمل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى- والبكر- بفتح الباء- الفتي من الإبل، والأنثى- بكرة- وأصله من التقدم في الزمان، ومنه- البكرة والباكورة- والاسمان صفة (بقرة) ولم يؤت- بالتاء- لأنهما اسمان لما ذكر، واعترضت لا بين الصفة والموصوف وكررت لوجوب تكريرها مع الخبر والنعت والحال إلا في الضرورة خلافا للمبرد وابن كيسان كقوله:
قهرت العدا (لا مستعينا) بعصبة ولكن بأنواع الخدائع والمكر
ومن جعل ذلك من الوصف بالجمل فقدر مبتدأ أي لا هي (فارض ولا بكر) فقد أبعد، إذ الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أيضا أن لا حذف، وذكر يَقُولُ للإشارة إلى أنه من عند الله تعالى لا من عند نفسه.
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أي متوسطة السن، وقيل: هي التي ولدت بطنا أو بطنين، وقيل: مرة بعد مرة ويجمع على فعل كقوله:
طوال مثل أعناق الهوادي نواعم بين أبكار (وعون)
ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر، وفائدة هذا بعد لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ نفى أن تكون عجلا أو جنينا، وأراد من ذلك ما ذكر من الوصفين السابقين وبهذا صح الإفراد وإضافة بَيْنَ إليه فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد وكون الكلام مما حذف منه المعطوف لدلالة المعنى عليه والتقدير عوان بين ذلك وهذا أي- الفارض والبكر- فيكون نظير قوله:
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر (إلا ليال) قلائل
حيث أراد بين الخير وباعثه تكلف مستغنى عنه بما ذكر (٢). واختار السجاوندي أن المراد في وسط زمان الصلاح للعوان واعتداله تقول: سافرت إلى الروم وطفت بين ذلك، فالمشار إليه عوان وارتضاه بعض المحققين مدعيا أنه أولى لئلا يفوت معنى بين ذلك لأن أهل اللغة قالوا: بقرة عوان لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ وعلى الشائع ربما يحتاج الأمر إلى تجريدكما لا يخفى، ثم إن عود الضمائر المذكورة في السؤال والجواب وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة لأن الأول يدل على أن الكلام في البقرة المأمور بذبحها، والثاني يفيد أن المقصد تعيينها وإزالة إبهامها بتلك الصفات كما هو شأن الصفة لا أنها تكاليف متغايرة بخلاف ما إذا ذكر تلك الصفات بدون الإجراء، وقيل: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ فإنه يحتمل أن يكون المقصود منه تبديل الحكم السابق، والقول:- بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجة عما عليه الجنس فسألوا عن حالها وصفتها فوقعت الضمائر لمعينة باعتقادهم فعينت تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد منها أول الأمر معينة- ليس بشيء لأنه حينئذ لم تكن الضمائر عائدة إلى ما أمروا بذبحها بل ما اعتقدوها، والظاهر خلافه واللازم على هذا تأخير البيان عن
(١) القائل ابن قتيبة اهـ منه. [.....]
(٢) فيه لطاعة اهـ منه.
287
وقت الخطاب وليس بممتنع والممتنع تأخيره عن وقت الحاجة إلا عند من (١) يجوز التكليف بالمحال وليس بلازم إذ لا دليل على أن الأمر هنا للفور حتى يتوهم ذلك ومن الناس من أنكروا ذلك وادعوا أن المراد بها بقرة من نوع البقر بلا تعيين وكان يحصل الامتثال لو ذبحوا أي بقرة كانت إلا أنها انقلبت مخصوصة بسؤالهم- وإليه ذهب جماعة من أهل التفسير- وتمسكوا بظاهر اللفظ فإنه مطلق فيترك على إطلاقه مع ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا مرسلا وبأنه لو كانت معينة لما عنفهم على التمادي وزجرهم عن المراجعة إلى السؤال، واللازم حينئذ النسخ قبل الفعل بناء على مذهب من يقول الزيادة على الكتاب نسخ كجماهير الحنفية القائلين بأن الأمر المطلق يتضمن التخيير وهو حكم شرعي والتقييد يرفعه وهو جائز بل واقع كما في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج، والممتنع النسخ قبل التمكن من الاعتقاد بالاتفاق لأنه بداء وقبل التمكن من الفعل عند المعتزلة وليس بلازم- على ما قيل- على أنه قيل: يمكن أن يقال: ليس ذلك بنسخ لأن البقرة المطلقة متناولة للبقرة المخصوصة وذبح البقرة المخصوصة ذبح للبقرة مطلقا فهو امتثال للأمر الأولى فلا يكون نسخا واعترض على كون التخيير حكما شرعيا إلخ بالمنع مستندا بأن الأمر المطلق إنما يدل على إيجاب ماهية من حيث هي بلا شرط لكن لما لم تتحقق إلا في ضمن فرد معين جاء التخيير عقلا من غير دلالة النص عليه وإيجاب الشيء لا يقتضي إيجاب مقدمته العقلية إذ المراد بالوجوب الوجوب الشرعي، ومن الجائز أن يعاقب المكلف على ترك ما يشمله مقدمة عقلية ولا يعاقب على ترك المقدمة، ونسب هذا الاعتراض لمولانا القاضي في منهياته- وفيه تأمل- وذكر بعض المحققين أن تحقيق هذا المقام أنه إن كان المراد بالبقرة المأمور بذبحها مطلق البقرة أي بقرة كانت فالنسخ جائز لأن شرط النسخ التمكن من الاعتقاد وهو حاصل بلا ريب، وإن كان البقرة المعينة فلا يجوز النسخ لعدم التمكن من الاعتقاد حينئذ لأنه إنما حصل بعد الاستفسار فاختلاف العلماء في جواز النسخ وعدمه في هذا المقام من باب النزاع اللفظي فتدبر فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي من ذبح البقرة ولا تكرروا السؤال ولا تتعنتوا، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من قول الله تعالى لهم، ويحتمل أن تكون من قول موسى عليه السلام حرضهم على امتثال ما أمروا به شفقة منه عليهم، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به، وقد شاع حذف الجار في هذا الفعل حتى لحق بالمتعدي إلى مفعولين فالمحذوف من أول الأمر هو المنصوب، وأجاز بعضهم أن تكون (ما) مصدرية أي- فافعلوا أمركم- ويكون المصدر بمعنى المفعول كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٦] على أحد الوجهين، وفيه بعد لأن ذلك في الحاصل بالسبك قليل وإنما كثر في صيغة المصدر.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إسناد البيان في كل مرة إلى الله عز وجل لإظهار كمال المساعدة في إجابة مسؤولهم وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة- والفقوع- أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه والوصف به للتأكيد- كأمس الدابر- وكذا في قولهم أبيض ناصع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأخضر ناضر، ولَوْنُها مرفوع ب فاقِعٌ ولم يكتف بقوله صفراء فاقعة لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة فحكم عليها أنها صفراء ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة فابتدأ أولا بوصف البقرة بالصفرة ثم أكد ذلك بوصف اللون بها فكأنه قال: هي صفراء ولونها شديد الصفرة، وعن الحسن سوداء شديدة السواد ولا يخفى أنه خلاف الظاهر
(١) وإليه ذهب أكثر الحنفية وبعض الشافعية اهـ منه.
288
لأن الصفرة- وإن استعملها العرب بهذا المعنى- نادرا كما أطلقوا الأسود على الأخضر لكنه في الإبل خاصة على ما قيل في قوله تعالى: جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: ٣٣] لأن سواد الإبل تشوبه صفرة وتأكيده بالفقوع ينافيه لأنه من وصف الصفرة في المشهور، نعم ذكر في اللمع أنه يقال: أصفر فاقع، وأحمر فاقع، ويقال في الألوان: كلها فاقع وناصع إذا أخلصت فعليه لا يرد ما ذكر، ومن الناس من قال: إن الصفرة استعيرت هنا للسواد، وكذا فاقع لشديد السواد وهو ترشيح ويجعل سواده من جهة البريق واللمعان- وليس بشيء، وجوز بعضهم أن يكون لَوْنُها مبتدأ وخبره إما فاقِعٌ أو الجملة بعده، والتأنيث على أحد معنيين، أحدهما لكونه أضيف إلى مؤنث كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه، والثاني أنه يراد به المؤنث إذ هو الصفرة فكأنه قال: صفرتها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ولا يخفى بعد ذلك. والسرور- أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق، وأما نفسه فانشراح مستبطن فيه- وبين السرور، والحبور، والفرح- تقارب لكن السرور هو الخالص المنكتم سمي بذلك اعتبارا بالإسرار، والحبور ما يرى حبره- أي أثره- في ظاهر البشرة وهما يستعملان في المحمود. وأما الفرح فما يحصل بطرا وأشرا ولذلك كثيرا ما يذم كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: ٧٦] والمراد به هنا عند بعض الإعجاب مجازا للزومه له غالبا، والجملة صفة البقرة أي تعجب الناظرين إليها. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ولهذا
كان علي كرم الله تعالى وجهه يرغب في النعال الصفر ويقول من لبس نعلا أصفر قل همه،
ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود لأنها تغم، وقرىء- يسر- بالياء فيحتمل أن يكون لَوْنُها مبتدأ- ويسر- خبره ويكون فاقِعٌ صفة تابعة لصفراء على حد قوله:
وإني لأسقي الشرب (صفراء فاقعا) كأن ذكي المسك فيها يفتق
إلا أنه قليل حتى قيل: بابه الشعر، ويحتمل أن يكون لونها فاعلا ب فاقِعٌ ويسر- إخبار مستأنف.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إعادة للسؤال عن الحال والصفة لا لرد الجواب الأول- بأنه غير مطابق وأن السؤال باق على حاله- بل لطلب الكشف الزائد على ما حصل وإظهار أنه لم يحصل البيان التام.
إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا تعليل لقوله تعالى: ادْعُ كما في قوله تعالى: صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: ١٠٣] وهو اعتذار لتكرير السؤال أي إن البقر الموصوف بما ذكر كثير فاشتبه علينا، والتشابه مشهور في البقر،
وفي الحديث «فتن كوجوه البقر»
أي يشبه بعضها بعضا وقرأ يحيى وعكرمة- والباقر ان الباقر- وهو اسم لجماعة البقر، والبقر اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء ومثله يجوز تذكيره وتأنيثه،- كنخل منقعر، والنخل باسقات- وجمعه أباقر، ويقال فيه: بيقور وجمعه بواقر، وفي البحر إنما سمي هذا الحيوان بذلك لأنه يبقر الأرض أي يشقها للحرث، وقرأ الحسن «تشابه» بضم الهاء جعله مضارعا محذوف التاء وماضيه «تشابه» - وفيه ضمير يعود على البقر على أنه مؤنث، والأعرج كذلك إلا أنه شدد الشين، والأصل- تتشابه- فأدغم، وقرىء تشبه- بتشديد الشين- على صيغة المؤنث من المضارع المعلوم، «ويشبه» بالياء والتشديد على صيغة المضارع المعلوم أيضا، وابن مسعود- «يشّابه» - بالياء والتشديد جعله مضارعا من تفاعل لكنه أدغم التاء في الشين، وقرىء «مشتبه»، و «متشبه»، و «يتشابه» - والأعمش- «متشابه» و «متشابهة» - وقرىء- «تشابهت» - بالتخفيف، وفي مصحف أبيّ بالتشديد، واستشكل بأن التاء لا تدغم إلا في المضارع، وليس في زنة الأفعال فعل ماض على تفاعل بتشديد الفاء ووجه بأن أصله- إن البقرة تشابهت- فالتاء الأولى من البقرة، والثانية من الفعل فلما اجتمع مثلان أدغم نحو- الشجرة تمايلت- إلا أن جعل
289
التشابه في بقرة ركيك، والأهون القول بعدم ثبوت هذه القراءة فإن دون تصحيحها على وجه وجيه خرط القتاد، ويشكل أيضا- تشابه- من غير تأنيث لأنه كان يجب ثبوت علامته إلا أن يقال: إنه على حد قوله:
ولا أرض أبقل إبقالها وابن كيسان يجوزه في السعة وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أي إلى عين البقرة المأمور بذبحها، أو لما خفي من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا،
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس- مرفوعا معضلا- وسعيد عن عكرمة- مرفوعا مرسلا- وابن أبي حاتم عن أبي هريرة- مرفوعا موصولا- أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لو لم يستثنوا لما تبينت لهم آخر الأبد»
واحتج بالآية على أن الحوادث بإرادة الله حيث علق فيما حكاه وجود الاهتداء الذي هو من جملة الحوادث بتعلق المشيئة وهي نفس الإرادة وما قصه الله تعالى في كتابه من غير نكير فهو حجة على ما عرف في محله، وهذا مبني على القول بترادف المشيئة والإرادة، وفيه خلاف وأن كون ما ذكر بالإرادة مستلزم لكون جميع الحوادث بها- وفيه نظر- واحتج أيضا بها على أن الأمر قد ينفك عن الإرادة وليس هو الإرادة كما يقوله المعتزلة لأنه تعالى لما أمرهم بالذبح فقد أراد اهتداءهم في هذه الواقعة فلا يكون لقوله: إن شاء الله الدال على الشك وعدم تحقق الاهتداء فائدة بخلاف ما إذا قلنا: إنه تعالى قد يأمر بما لا يريد، والقول بأنه يجوز أن يكون أولئك معتقدين على خلاف الواقع للانفكاك، أو يكون مبنيا على ترددهم في كون الأمر منه تعالى يدفعه التقرير إلا أنه يرد أن الاحتجاج إنما يتم لو كان معنى لَمُهْتَدُونَ الاهتداء إلى المراد بالأمر أما لو كان المراد إن شاء الله اهتداءنا في أمر ما لكنا مهتدين فلا إلا أنه خلاف الظاهر كالقول بأن اللازم أن يكون المأمور به وهو الذبح مرادا ولا يلزمه الاهتداء إذ يجوز أن يكون لتلك الإرادة حكمة أخرى بل هذا أبعد بعيد، والمعتزلة والكرامية يحتجون بالآية على حدوث إرادته تعالى بناء على أنها والمشيئة سواء لأن كلمة إِنَّ دالة على حصول الشرط في الاستقبال وقد تعلق الاهتداء الحادث بها، ويجاب بأن التعليق باعتبار التعلق فاللازم حدوث التعلق ولا يلزمه حدوث نفس الصفة وتوسط الشرط بين اسم إِنَّ وخبرها لتتوافق رؤوس الآي، وجاء خبر إِنَّ اسما لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم وللاعتناء بذلك أكد الكلام.
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ صفة بَقَرَةٌ وهو من الوصف بالمفرد، ومن قال: هو من الوصف بالجملة، وان التقدير لا هي ذلول فقد أبعد عن الصواب، ولا بمعنى غير، وهو اسم على ما صرح به السخاوي وغيره لكن لكونها في صورة الحرف ظهر إعرابها فيما بعدها، ويحتمل أن تكون حرفا- كالا- التي بمعنى غير في مثل قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] والذلول- الريض الذي زالت صعوبته يقال دابة ذلول بينة الذل بالكسر، ورجل ذلول بين الذل بالضم تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ (لا) صلة لازمة لوجوب التكرار في هذه الصورة وهي مفيدة للتصريح بعموم النفي إذ بدونها يحتمل أن يكون لنفي الاجتماع، ولذا تسمى المذكرة والإثارة- قلب الأرض للزراعة من أثرته إذا هيجته، والْحَرْثَ الأرض المهيأة للزرع أو هو شق الأرض ليبذر فيها ويطلق على ما حرث وزرع، وعلى نفس الزرع أيضا، والفعلان صفتا ذَلُولٌ والصفة يجوز وصفها على ما ارتضاه بعض النحاة وصرح به السمين والفعل الأول داخل في حيز النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض- أي لا تثير الأرض- فتذل فهو من باب على لا حب لا يهتدي بمناره ففيه نفي للأصل والفرع معا، وانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، قال الحسن: كانت هذه البقرة وحشية ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض إلخ، وذهب قوم إلى أن تثير مثبت لفظا ومعنى، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ونفى عنها سقي الحرث، ورد بأن ما كان يحرث لا ينتفي عنه كونه
290
ذلولا، وقال بعض: المراد أنها تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا، ومن عادة البقر إذا بطرت تضرب بقرونها وأظلافها فتثير تراب الأرض. فيكون هذا من تمام قوله لا ذَلُولٌ لأن وصفها بالمرح، والبطر دليل على ذلك- وليس عندي بالبعيد- وذهب بعضهم كما في الكواشي إلى أن جملة تُثِيرُ في محل نصب على الحال، قال ابن عطية: ولا يجوز ذلك لأنها من نكرة، واعترض بأنه إن أراد بالنكرة بقرة فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا وإن أراد بها لا ذَلُولٌ فمذهب سيبويه جواز مجيء الحال من النكرة وإن لم توصف، وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه اللهم إلا أن يقال: إنه تبع الجمهور في ذلك- وهم على المنع- وجعل الجملة حالا من الضمير المستكن في ذلول أي لا ذَلُولٌ في حال إثارتها ليس بشيء، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: لا ذَلُولٌ بالفتح ف لا للتبرئة، والخبر محذوف أي هناك، والمراد مكان جدت هي فيه، والجملة صفة ذلول، وهو نفي لأن توصف بالذل، ويقال: هي ذلول بطريق الكناية لأنه لو كان في مكان البقرة لكانت موصوفة به ضرورة اقتضاء الصفة للموصوف، فلما لم يكن في مكانها لم تكن موصوفة به فهذا كقولهم محل- فلان- مظنة الجود والكرم، وهذا أولى مما قيل: إن تُثِيرُ خبر لا والجملة معترضة بين الصفة والموصوف لأنه أبلغ كما لا يخفى، وبعضهم خرج القراءة على البناء نظرا إلى صورة لا كما- في كنت بلا مال- بالفتح، وليس بشيء لأن ذلك مقصور على مورد السماع، وليس بقياسي على ما يشعر به كلام الرضي (١) وقرىء «تسقى» بضم حرف المضارعة من أسقى بمعنى سقى، وبعض فرق بينهما بأن سقى لنفسه، وأسقى لغيره كماشيته وأرضه.
مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها أي سلمها الله تعالى من العيوب قاله ابن عباس، أو أعفاها أهلها من سائر أنواع الاستعمال قاله الحسن، أو مطهرة من الحرام لا غصب فيها ولا سرقة قاله عطاء، أو أخلص لونها من الشيات قاله مجاهد، والأولى ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن المطلق ينصرف إلى الكامل ولكونه تأسيسا، وعلى آخر الأقوال يكون لا شِيَةَ فِيها أي لا لون فيها يخالف لونها تأكيدا والتضعيف هنا للنقل والتعدية، ووهم غير واحد فزعم أنه للمبالغة، والشية- مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا إذا زينته بخطوط مختلفة الألوان فحذف فاؤه- كعدة وزنة- ومنه الواشي للنمام، قيل: ولا يقال له: واش حتى يغير كلامه ويزينه، ويقال: ثور أشيه، وفرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع- كل ذلك بمعنى البلقة- وفي البحر ليس الأشيه في قولهم: ثور أشيه للذي فيه بلق مأخوذا من الشية لاختلاف المادتين، وشية- اسم لا وفِيها خبره.
قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي أظهرت حقيقة ما أمرنا به فالحق هنا بمعنى الحقيقة، وقيل: بمعنى الأمر المقضي أو اللازم، وقيل: بمعنى القول المطابق للواقع ولم يريدوا أن ما سبق لم يكن حقا بل أرادوا أنه لم يظهر الحق به كمال الظهور فلم يجىء بالحق بل أومأ إليه فعلى هذه الأقوال لم يكفروا بهذا القول، وأجراه قتادة على ظاهرة وجعله- متضمنا أن ما جئت به من قبل- كان باطلا فقال: إنهم كفروا بهذا القول، والأولى عدم الإكفار، والْآنَ ظرف زمان لازم البناء على الفتح ولا يجوز تجريده من- أل- واستعماله على خلافه لحن، وهي تقتضي الحال وتخلص المضارع له غالبا، وقد جاءت حيث لا يمكن أن تكون له نحو فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: ١٨٧] إذ الأمر نص في الاستقبال وادعى بعضهم إعرابها لقوله
كأنهما ملآن لم يتغيرا
يريد من الآن فجره وهو يحتمل البناء على الكسر،
(١) فإنه قال: ربما فتح نظرا إلى لفظة (لا) فقيل: كنت بلا مال اهـ منه.
291
(أل) فيها للحضور عند بعض، وزائدة عند آخرين، وبنيت لتضمنها معنى الإشارة أو لتضمنها معنى- أل- التعريفية- كسحر- وقرىء لان بالمد على الاستفهام التقريري إشارة إلى استبطائه وانتظارهم له.
وقرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وعنه روايتان حذف واو «قالوا» وإثباتها فَذَبَحُوها أي فطلبوا هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها فَذَبَحُوها فالفاء فصيحة عاطفة على محذوف إذ لا يترتب الذبح على مجرد الأمر بالذبح، وبيان صفتها وحذف لدلالة الذبح عليه، وتحصيلها كان باشترائها من الشاب البار بأبويه كما تظافرت عليه أقوال أكثر المفسرين والقصة مشهورة، وقيل:- كانت وحشية فأخذوها، وقيل: لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها الله تعالى من السماء- وهو قول هابط إلى تخوم الأرض، قيل: ووجه الحكمة في جعل البقرة آلة دون غيرها من البهائم أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل وحبب ذلك في قلوبهم، لقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: ٩٣] ثم بعد ما تابوا أراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم ليكون حقيقة لتوبتهم، وقيل:
ولعله ألطف وأولى إن الحكمة في هذا الأمر إظهار توبيخهم في عبادة العجل بأنكم كيف عبدتم ما هو في صورة البقرة مع أن الطبع لا يقبل أن يخلق الله تعالى فيه خاصية يحيا بها ميت بمعجزة نبي؟! وكيف قبلتم قول السامري إنه إلهكم وها أنتم لا تقبلون قول الله سبحانه: إنه يحيا بضرب لحمة منه الميت سبحان الله تعالى؟ هذا الخرق العظيم وَما كادُوا يَفْعَلُونَ كنى على الذبح بالفعل أي- وما كادوا يذبحون- واحتمال أن يكون المراد وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ما أمروا به بعد الذبح من ضرب بعضها على الميت بعيد، وكاد- موضوعة لدنو الخبر حصولا ولا يكون خبرها في المشهور إلا مضارعا دالا على الحال لتأكيد القرب، واختلف فيها فقيل: هي في الإثبات نفي وفي النفي إثبات، فمعنى- كاد زيد يخرج- قارب ولم يخرج وهو فاسد لأن معناها مقاربة الخروج، وأما عدمه فأمر عقلي خارج عن المدلول ولو صح ما قاله لكان قارب ونحوه كذلك ولم يقل به أحد، وقيل: هي في الإثبات إثبات وفي النفي الماضي إثبات وفي المستقبل على قياس الأفعال. وتمسك القائل بهذه الآية لأنه لو كان معنى وَما كادُوا هنا نفيا للفعل عنهم لناقض قوله تعالى: فَذَبَحُوها حيث دل على ثبوت الفعل لهم والحق إنها في الإثبات والنفي كسائر الأفعال، فمثبتها لإثبات القرب، ومنفيها لنفيه، والنفي والإثبات في الآية محمولان على اختلاف الوقتين أو الاعتبارين فلا تناقض إذ من شرطه اتحاد الزمان والاعتبار، والمعنى أنهم ما قاربوا ذبحها حتى انقطعت تعللاتهم فذبحوا كالملجأ أو فذبحوها ائتمارا وَما كادُوا من الذبح خوفا من الفضيحة أو استثقالا لعلو ثمنها حيث روي أنهم اشتروها بملء جلدها ذهبا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، واستشكل القول باختلاف الوقتين بأن الجملة حال من فاعل فَذَبَحُوها فيجب مقارنة مضمونها لمضمون العامل، والجواب بأنهم صرحوا بأنه قد يقيد بالماضي فإن كان مثبتا قرن- بقد- لتقربه من الحال وإن كان منفيا- كما هنا- لم يقرن بها لأن الأصل استمرار النفي فيفيد المقاربة لا يجدي نفعا لأن عدم مقاربة الفعل لا يتصور مقارنتها له، ولهذا عول بعض المتأخرين في الجواب على أن وَما كادُوا يَفْعَلُونَ كناية عن تعسر الفعل وثقله عليهم وهو مستمر باق، وقد صرح في شرح التسهيل أنه قد يقول القائل- لم يكد زيد يفعل- ومراده أنه فعل بعسر لا بسهولة وهو خلاف الظاهر الذي وضع له اللفظ فافهم وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً أي شخصا أو ذا نفس، ونسبة القتل إلى المخاطبين لوجوده فيهم على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح، وقول بعضهم:- إنه لا يحسن إسناد فعل أو قول صدر عن البعض إلى الكل إلا إذا صدر عنه بمظاهرتهم أو رضا منهم- غير مسلم، نعم لا بد لإسناده إلى الكل من نكتة ما، ولعلها هنا الإشارة إلى أن الكل بحيث لا يبعد صدور القتل منهم لمزيد حرصهم وكثرة طمعهم وعظم جرأتهم.
292
فهم كأصابع الكفين طبعا... وكل منهم طمع جسور
وقيل: إن القاتل جمع وهم ورثة المقتول، وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله، ولهذا نسب القتل إلى الجمع فَادَّارَأْتُمْ فِيها أصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع فاجتمعت التاء والدال مع تقارب مخرجيهما وأريد الإدغام فقلبت التاء دالا وسكنت للإدغام فاجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بها، وهذا مطرد في كل فعل على تفاعل أو تفعل فاؤه- تاء أو طاء أو ظاء، أو صاد أو ضاد- والتدارؤ هنا إما مجاز عن الاختلاف والاختصام، أو كناية عنه إذ المتخاصمان يدفع كل منهما الآخر أو مستعمل في حقيقته أعني التدافع بأن طرح قتلها كل عن نفسه إلى صاحبه فكل منهما من حيث إنه مطروح عليه يدفع الآخر من حيث إنه طارح، وقيل: إن طرح القتل في نفسه نفس دفع الصاحب- وكل من الطارحين دافع فتطارحهما- تدافع، وقيل: إن كلّا منهما يدفع الآخر عن البراءة إلى التهمة فإذا قال أحدهما:
أنا بريء وأنت متهم يقول الآخر: بل أنت المتهم وأنا البريء ولا يخفى أن ما ذكر على ما فيه بالمجاز أليق، ولهذا عد ذلك أبو حيان من المجاز، والضمير في فِيها عائد على النفس، وقيل: على القتلة المفهومة من الفعل، وقيل: على التهمة الدال عليها معنى الكلام، وقرأ أبو حيوة- «فتدارأتم» - على الأصل، وقيل: قرأ هو وأبو السوار- «فادرأتم» - بغير ألف قبل الراء، وإن طائفة أخرى قرؤوا- «فتدارأتم» - وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر لا محالة ما كنتم تكتمونه من أمر القتيل، والقاتل كما يشير إليه بناء الجملة الاسمية وبناء اسم الفاعل على المبتدأ المفيد لتأكيد الحكم وتقويه- وذلك بطريق التفضل عندنا- والوجوب عند المعتزلة وتقدير المتعلق خاصا هو ما عليه الجمهور، وقيل: يجوز أن يكون عاما في القتيل وغيره، ويكون القتيل من جملة أفراده، وفيه نظر إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى، وأعمل مُخْرِجٌ لأنه مستقبل بالنسبة للحكم الذي قبله، وهو التدارؤ ومضيه الآن لا يضر والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار. وفي البحر- إن كان- للدلالة على تقدم الكتمان.
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
عطف على قوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ وما بينهما اعتراض يفيد أن كتمان القاتل لا ينفعه، وقيل: حال أي والحال أنكم تعلمون ذلك، والهاء في اضْرِبُوهُ
عائد على النفس بناء على تذكيرها إذ فيها التأنيث- وهو الأشهر- والتذكير، أو على تأويل الشخص أو القتيل، أو على أن الكلام على حذف مضاف أي ذا نفس، وبعد الحذف أقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: الأظهر أن التذكير لتذكير المعنى، وإذا كان اللفظ مذكرا والمعنى مؤنثا أو بالعكس فوجهان، وذكر هذا الضمير- مع سبق التأنيث- تفننا أو تمييزا بين هذا الضمير والضمير الذي بعده توضيحا، والظاهر أن المراد بالبعض أي بعض كان إذ لا فائدة في تعينه- ولم يرد به نقل صحيح- واختلف بم ضربوه فقيل: بلسانها أو بأصغريها أو بفخذها اليمنى أو بذنبها أو بالغضروف (١) أو بالعظم الذي يلين أو بالبضعة التي بين الكتفين أو بالعجب أو بعظم من عظامها، ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل، وذلك قبل دفنه، ومن قال: إنهم مكثوا في تطلبها أربعين سنة أو أنهم أمروا بطلبها ولم تكن في صلب ولا رحم قال: إن الضرب على القبر بعد الدفن، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر، وفي بعض الآثار أنه قام وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني ابن أخي، وفي رواية فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا وما ورث قاتل بعد ذلك، وفي بعض القصص أن القاتل حلف بالله تعالى ما قتلته فكذب بالحق بعد معاينته قال الماوردي: وإنما كان الضرب بميت لا حياة فيه لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به فلإزالة الشبهة وتأكد الحجة كان ذلك كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
جملة
(١) هو أصل الأذن اهـ منه.
293
اعتراضية تفيد تحقق المشبه وتيقنه بتشبيه الموعود بالموجود، والمماثلة في مطلق الإحياء، وفي الكلام حذف دلت عليه الجملة أي فضربوه فحيي، والتكلم من الله تعالى مع من حضر وقت الحياة- والكاف- خطاب لكل من يصح أن يخاطب ويسمع هذا الكلام لأن أمر الإحياء عظيم يقتضي الاعتناء بشأنه أن يخاطب به كل من يصح منه الاستماع فيدخل فيه أولئك دخولا أوليا- ويدل على ذلك قوله تعالى: وَيُرِيكُمْ
إلخ ولا بد على هذا من تقدير القول أي قلنا أو وقلنا لهم كذلك ليرتبط الكلام بما قبله، وقيل: حرف الخطاب مصروف إليهم، وكان الظاهر كذلكم على وفق ما بعده إلا أنه أفرده بإرادة كل واحد أو بتأويل فريق ونحوه قصدا للتخفيف، ويحتمل أن يكون التكلم مع من حضر نزول الآية، وعليه لا تقدير إذ ينتظم بدونه بل ربما يخرج معه من الانتظام، وأبعد الماوردي فجعله خطابا من موسى نفسه عليه السلام وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
مستأنف أو معطوف على ما قبله، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى، والمراد بها الدلائل الدالة على أن الله تعالى على كل شيء قدير، ويجوز أن يراد بها هذا الإحياء، والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبار الميت بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادات، وفي المنتخب أن التعبير عن الآية الواحدة بالآيات لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه السلام، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر القتل لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
أي لكي تعقلوا الحياة بعد الموت والبعث والحشر فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: ٢٨] أو لكي يكمل عقلكم أو لعلكم تمتنعون من عصيانه وتعملون على قضية عقولكم، وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتيل ولا يظهر ذلك من الآية ولا أرى لذكر ذلك طائلا سوى الطول هذا.
«ومن باب الإشارة» إن البقرة هي النفس الحيوانية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة النظر لا تثير أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة ولا تسقي حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة بمياه التوجه إلى حضرة القدس والسير إلى رياض الأنس، وقد سلمت لترعى أزهار الشهوات ولم تقيد بقيود الآداب والطاعات فلم يرسخ فيها مذهب واعتقاد، ولم يظهر عليها ما أودع فيها من أنوار الاستعداد، وذبحها قمع هواها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة فمن أراد أن يحيا قلبه حياة طيبة ويتحلى بالمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وينكشف له حال الملك والملكوت وتظهر له أسرار اللاهوت والجبروت ويرتفع ما بين عقله ووهمه من التدارؤ والنزاع الحاصل بسبب الإلف للمحسوسات فليذبحها وليوصل أثره إلى قلبه الميت فهناك يخرج المكتوم وتفيض بحار العلوم وهذا الذبح هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر وعقباه الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية
ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
وقد أشير بالشيخ والعجوز والطفل والشاب المقتول على ما في بعض الآثار في هذه القصة إلى الروح والطبيعة الجسمانية والعقل والقلب وتطبيق سائر ما في القصة بعد هذا إليك هذا وسلام الله تعالى عليك.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ القسوة في الأصل اليبس والصلابة وقد شبهت هنا حال قلوبهم وهي نبوها عن الاعتبار بحال قسوة الحجارة في أنها لا يجري فيها لطف العمل ففي قَسَتْ استعارة تبعية أو تمثيلية، وثُمَّ لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها، وقيل: إنها للتراخي في الزمان لأنهم قست قلوبهم بعد مدة حين قالوا: إن الميت كذب عليهم أو أنه عبارة عن قسوة عقبهم، والضمير في قُلُوبُكُمْ لورثة القتيل عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعند
294
أبي العالية وغيره لبني إسرائيل مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي إحياء القتيل، وقيل: كلامه، وقيل: ما سبق من الآيات التي علموها- كمسخهم قردة وخنازير، ورفع الجبل، وانبجاس الماء والإحياء- وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعليه تكون ثُمَّ قَسَتْ إلخ عطفا على مضمون جميع القصص السابقة والآيات المذكورة، وعلى سابقه تكون عطفا على قصة وَإِذْ قَتَلْتُمْ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أي في القسوة وعدم التأثر والجمع لجمع القلوب وللإشارة إلى أنها متفاوتة في القسوة كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة- والكاف- للتشبيه وهي حرف عند سيبويه، وجمهور النحويين والأخفش يدعي اسميتها وهي متعلقة هنا بمحذوف أي كائنة كالحجارة خلافا لابن عصفور إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أي من الحجارة فهي كالحديد مثلا أو كشيء لا يتأثر أصلا ولو وهما، وأَوْ لتخيير المبالغ ويكون في التشبيه كما يكون بعد الأمر أو للتنويع أي بعض كَالْحِجارَةِ وبعض أَشَدُّ أو للترديد بمعنى تجويز الأمرين مع قطع النظر عن الغير على ما قيل، أو بمعنى بل ويحتاج إلى تقدير مبتدأ إذا قلنا باختصاص ذلك بالجمل، أو بمعنى الواو أو للشك وهو لاستحالته عليه تعالى يصرف إلى الغير والعلامة لا يرتضي ذلك لما أنه يؤدي إلى تجويز أن يكون معاني الحروف بالقياس إلى السامع، وفيه إخراج للألفاظ عن أوضاعها فإنها إنما وضعت ليعبر بها المتكلم عما في ضميره، والحق جواز اعتبار السامع في معاني الألفاظ عند امتناع جريها على الأصل بالنظر إلى المتكلم فلا بأس بأن يسلك ب أَوْ في الشك مسلك لعل في الترجي الواقع في كلامه تعالى فتلك جادة مسلوكة لأهل السنة وقد مرت الإشارة إلى ذلك فتذكر، وأَشَدُّ عطف على كَالْحِجارَةِ من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول:
زيد على سفر أو مقيم، وقدر بعضهم أو هي أَشَدُّ فيصير من عطف الجمل، ومن الناس من يقدر مضافا محذوفا أي مثل ما هو أشد، ويجعله معطوفا على الكاف إن كان اسما أو مجموع الجار والمجرور إذا كان حرفا، ثم لما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه، ولا يخفى أن اعتبار التشبيه في جانب المعطوف بدون عطفه على المجرور بالكاف مستبعد جدا، وقرأ الأعمش أَوْ أَشَدُّ مجرورا بالفتحة لكونه غير منصرف للوصف ووزن الفعل وهو عطف على الحجارة واعتبار التشبيه حينئذ ظاهر وإنما لم يقل سبحانه وتعالى- أقسى- مع أن فعل القسوة مما يصاغ منه أفعل وهو أخصر ووارد في الفصيح كقوله:
كل خمصانة أرق من الخم ر بقلب (أقسى) من الجلمود
لما في أشد من المبالغة لأنه يدل على الزيادة بجوهره وهيئته بخلاف أقسى فإن دلالته بالهيئة فقط، وفيه دلالة على اشتداد القسوتين ولو كان أقسى لكان دالا على اشتراك القلوب والحجارة في القسوة، واشتمال القلوب على زيادة القسوة لا في شدة القسوة وليس هذا مثل قولك زيد أشد إكراما من عمرو حيث ذكروا أن ليس معناه إلا أنهما مشتركان في الإكرام وإكرام زيد زيد على إكرام عمرو لا أنهما مشتركان في شدة الإكرام، وشدة إكرام زيد زائدة على شدة إكرام عمرو للفرق بين ما بني للتوصل وما بني لغيره وما نحن فيه من الثاني وإن كان الأول أكثر. والاعتراض- بأن أشد محمول على القلوب دون القسوة- ليس بشيء لأنه محمول عليها بحسب المعنى لكونها تمييزا محولا عن الفاعل أو منقولا عن المبتدأ كما في البحر، ويمكن أن يقال: إن الله تعالى أبرز القساوة في معرض العيوب الظاهرة تنبيها على أنها من العيوب بل العيب كل العيب ما صد عن عالم الغيب فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: ٤٦].
وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تذييل لبيان تفضيل قلوبهم على الحجارة أو اعتراض بين قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ وبين الحال
295
عنها وهو وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ لبيان سبب ذلك فإنه لغرابته يحتاج إلى بيان السبب كما في قوله:
فلا هجرة يبدو وفي اليأس راحة ولا وصفه يصفو لنا (فنكارمه)
وجعله جملة حالية مشعرة بالتعليل يأباه الذوق إذ لا معنى للتقييد، وكونه بيانا وتقريرا من جهة المعنى لما تقدم- مع كونه بحسب اللفظ معطوفا على جملة- هي كالحجارة أو أشد- كما قاله العلامة- مما لا يظهر وجهه لأنه إذا كان بيانا في المعنى كيف يصح عطفه ويترك جعله بيانا، والمعنى أن الحجارة تتأثر وتنفعل، وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمر الله تعالى أصلا، وقد ترقى سبحانه في بيان التفضيل كأنه بين أو لا تفضيل قلوبهم في القساوة على الحجارة التي تتأثر تأثرا يترتب عليه منفعة عظيمة من تفجر الأنهار، ثم على الحجارة التي تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة من خروج الماء ثم على الحجارة التي تتأثر من غير منفعة فكأنه قال سبحانه: قلوب هؤلاء أشد قسوة من الحجارة لأنها لا تتأثر بحيث يترتب عليه المنفعة العظيمة بل الحقيرة بل لا تتأثر أصلا، وبما ذكر يظهر نكتة ذكر تفجر الأنهار وخروج الماء، وترك فائدة الهبوط، وذكر غير واحد أن الآية واردة على نهج التتميم دون الترقي- كالرحمن الرحيم- إذ لو أريد الترقي لقيل- وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يتفجر منه الأنهار- وفائدته استيعاب جميع الانفعالات التي على خلاف طبيعة هذا الجوهر، وهو أبلغ من الترقي، ويكون وَإِنَّ مِنْها الأخير تتميما للتتميم، ولا يخفى أنه يرد عليه منع إفادته لاستيعاب جميع الانفعالات وخلوه عن لطافة ما ذكرناه، والتفجر- التفتح بسعة وكثرة كما يدل عليه جوهر الكلمة وبناء التفعل، والمراد من الأنهار الماء الكثير الذي يجري في الأنهار، والكلام إما على حذف المضاف، أو ذكر المحل وإرادة الحال أو الإسناد مجازي، قال بعض المحققين: وحملها على المعنى الحقيقي وهم إذ التفتح لا يمكن إسناده إلى الأنهار اللهم إلا بتضمين معنى الحصول بأن يقال: يتفجر ويحصل منه الأنهار على أن تفجير الحجارة بحيث تصير نهرا غير معتاد فضلا عن كونها أنهارا، والتشقق التصدع بطول أو بعرض، والخشية الخوف، واختلف في المراد منها فذهب قوم- وهو المروي عن مجاهد وغيره- أنها هنا حقيقة، وهي مضافة إلى الاسم الكريم من إضافة المصدر إلى مفعوله- أي من خشية الحجارة الله- ويجوز أن يخلق الله تعالى العقل والحياة في الحجر، واعتدال المزاج والبنية ليسا شرطا في ذلك خلافا للمعتزلة، وظواهر الآيات ناطقة بذلك،
وفي الصحيح «إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث»
وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وورد في- الحجر الأسود- أنه يشهد لمن استلمه، وحديث تسبيح الحصى بكفه الشريف صلّى الله عليه وسلّم مشهور، وقيل: هي حقيقة، والإضافة هي الإضافة إلا أن الفاعل محذوف هو العباد، والمعنى أن مِنَ الْحِجارَةِ ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزال من خشية عباد الله تعالى إياه، وتحقيقه أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط فيؤول المعنى أنه يهبط من أجل أن يحصل خشية العباد الله تعالى.
وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في مِنْها لَما يَهْبِطُ عائد على القلوب، والمعنى أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن وترجع إلى الله تعالى، وهي قلوب المخلصين، فكني عن ذلك بالهبوط، وقيل: إنها حقيقة إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد بالحجر البرد، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله وهذا القول أبرد من الثلج وما قبله أكثف من الحجر وما قبلهما بين بين وقال قوم: إن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم، ولا ينبغي أن تحمل على حقيقتها، أما على القول بأن اعتدال المزاج والبنية شرط وما ورد مما يقتضي خلافه محمول على أن الله تعالى قرن ملائكته بتلك الجمادات، ومنها هاتيك الأفعال ونحو «هذا جبل يحبنا ونحبه» على حذف مضاف أي يحبنا أهله ونحب أهله فظاهر.
296
وأما على القول بعدم الاشتراط فلأن الهبوط والخشية على تقدير خلق العقل والحياة لا يصح أن يكون بيانا لكون الحجارة في نفسها أقل قسوة- وهو المناسب للمقام- والاعتراض بأن قلوبهم إنما تمتنع عن الانقياد لأمر التكليف بطريق القصد والاختيار ولا تمتنع عما يراد بها على طريق القسر والإلجاء كما في الحجارة وعلى هذا لا يتم ما ذكر، فالأولى الحمل على الحقيقة أجيب عنه بأن المراد أن قلوبهم أقسى من الحجارة لقبولها التأثر الذي يليق بها وخلقت لأجله بخلاف قلوبهم فإنها تنبو عن التأثر الذي يليق بها وخلقت له، والجواب بأن ما رأوه من الآيات مما يقسر القلب ويلجئه فلما لم تتأثر قلوبهم عن القاسرات الكثيرة ويتأثر الحجر من قاسر واحد تكون قلوبهم أَشَدُّ قَسْوَةً لا يخلو عن نظر لأنه إن أريد بذلك المبالغة في الدلالة على الصدق فلا ينفع، وإن أريد به حقيقة الإلجاء فممنوع، وإلا لما تخلف عنها التأثر ولما استحق من آمن بعد رؤيتها الثواب لكونه إيمانا اضطراريا- ولم يقل به أحد- ثم الظاهر على هذا تعلق خشية الله بالأفعال الثلاثة السابقة وقرىء وَإِنَّ على أنها المخففة من الثقيلة ويلزمها- اللام- الفارقة بينها وبين النافية، والفراء يقول: أنها النافية- واللام- بمعنى إلا، وزعم الكسائي أن إِنَّ إن وليها اسم كانت المخففة، وإن فعل كانت النافية، وقطرب إنها إن وليها فعل كانت بمعنى- قد- وقرأ مالك بن دينار «ينفجر» مضارع انفجر والأعمش «يتشقق» و «يهبط» - بالضم..
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد على ما ذكر كأنه قيل: إن الله تعالى لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم حافظ لأعمالهم محص لها، فهو مجازيهم بها في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن كثير «يعملون» - بالياء التحتانية- ضما إلى ما بعده من قوله سبحانه أَنْ يُؤْمِنُوا ويَسْمَعُونَ وفريق منهم، وقرأ الباقون- بالتاء الفوقانية- لمناسبة وَإِذْ قَتَلْتُمْ فَادَّارَأْتُمْ وتكتمون إلخ وقيل: ضما إلى قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ بأن يكون الخطاب فيه للمؤمنين وعدلهم، ويبعده أنه لا وجه لذكر وعد المؤمنين تذييلا لبيان قبائح اليهود.
297
أَفَتَطْمَعُونَ الاستفهام للاستبعاد أو للإنكار التوبيخي، والجملة قيل: معطوفة على قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ أو على مقدر بين- الهمزة والفاء- عند غير سيبويه، أي تحسبون أن قلوبكم صالحة للإيمان فتطمعون- والطمع- تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقا قويا- وهو أشد من الرجاء لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدة إرادة- والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والمؤمنين- أو للمؤمنين- قاله أبو العالية وقتادة، أو للأنصار- قاله النقاش- والمروي عن ابن عباس ومقاتل أنه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، والجمع للتعظيم أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أي يصدقوا مستجيبين لكم، فالإيمان بالمعنى اللغوي والتعدية- باللام- للتضمين كما في قوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: ٢٦] ويؤمنوا لأجل دعوتكم لهم فالفعل- منزل منزلة اللازم- والمراد بالإيمان المعنى الشرعي- واللام لام الأجل- وعلى التقديرين أَنْ يُؤْمِنُوا معمول لتطمعون على إسقاط حرف الجر وهو في موضع نصب عند سيبويه، وجر عند الخليل والكسائي، وضمير الغيبة لليهود المعاصرين له صلّى الله عليه وسلّم: لأنهم المطموع في إيمانهم، وقيل: المراد جنس اليهود ليصح جعل طائفة منهم مطموع الإيمان وطائفة محرفين وفيه ما لا يخفى.
وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي طائفة من أسلافهم وهم الأحبار يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أي يسمعون التوراة ويؤولونها تأويلا فاسدا حسب أغراضهم، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والجمهور على أن تحريفها بتبديل كلام من تلقائهم- كما فعلوا ذلك في نعته صلى الله تعالى عليه وسلم- فإنه روي أن من صفاته فيها
298
أنه أبيض ربعة فغيروه بأسمر طويل وغيروا آية الرجم بالتسخيم وتسويد الوجه- كما في البخاري- وقيل: المراد بكلام الله تعالى ما سمعوه على الطور، فيكون المراد من الفريق طائفة من أولئك السبعين، وقد روى الكلبي أنهم سألوا موسى عليه السلام أن يسمعهم كلامه تعالى، فقال لهم: اغتسلوا والبسوا الثياب النظيفة ففعلوا فأسمعهم الله تعالى كلامه، ثم قالوا: سمعنا يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا. والتحريف على هذا الزيادة. ثم لا يخفى أن فيما افتروا شاهدا على فساده حيث علقوا الأمر بالاستطاعة والنهي بالمشيئة- وهما لا يتقابلان- وكأنهم أرادوا بالأمر غير الموجب على معنى افعلوا إن شئتم وإن شئتم فلا تفعلوا كذا أفاده العلامة ومقصوده بيان منشأ تحريفهم الفاسد، فلا ينافي كون عدم التقابل شاهدا على فساده، ومقتضى هذه الرواية أن هؤلاء سمعوا كلامه تعالى بلا واسطة كما سمعه موسى عليه السلام، والمصحح أنهم لم يسمعوا بغير واسطة، وأن ذلك مخصوص به عليه السلام، وقيل: المراد به الوحي المنزل على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، كان جماعة من اليهود يسمعونه فيحرفونه قصدا أن يدخلوا في الدين ما ليس منه، ويحصل التضاد في أحكامه وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة:
٣٢] وقرأ الأعمش «كلم الله».
مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي ضبطوه وفهموه- ولم يشتبه عليهم صحته- وما مصدرية أي من بعد عقلهم إياه، والضمير في عَقَلُوهُ عائد على كلام الله، وقيل: ما موصولة والضمير عائد عليها، وهو بعيد.
وَهُمْ يَعْلَمُونَ متعلق العلم محذوف، أي إنهم مبطلون كاذبون، أو ما في تحريفه من العقاب، وفي ذلك كمال مذمتهم، وبهذا التقرير يندفع توهم تكرار ما ذكر- بعد ما عقلوه- وحاصل الآية استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء السفلة إيمان، وقد كان أحبارهم ومقدموهم على هذه الحالة الشنعاء، ولا شك أن هؤلاء أسوأ خلقا وأقل تمييزا من أسلافهم أو استبعادا لطمع في إيمان هؤلاء الكفرة المحرفين، وأسلافهم الذين كانوا زمن نبيهم فعلوا ذلك فلهم فيه سابقة وبهذا يندفع ما عسى أن يختلج في الصدر من أنه كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان باقيهم وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا جملة مستأنفة إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم، ويحتمل أن تكون معطوفة على وقد كان فريق منهم إلخ، وقيل: معطوفة على يَسْمَعُونَ وقيل: على قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً عطف القصة على القصة وضمير لَقُوا لليهود على طبق أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وضمير قالُوا للاقين لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة، بل بمباشرة منافقيهم وسكوت الباقين، فهو من إسناد ما للبعض للكل- ومثله أكثر من أن يحصى- وهذا أدخل، كما قال مولانا- مفتي الديار الرومية- في تقبيح حال الساكتين «أولا» العاتبين «ثانيا» لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف، أي قال منافقوهم- كما فعله البعض- وقيل: الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم ويؤيده ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة في تفسير وَإِذا لَقُوا يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلّص قالوا: إلا أن السباق واللحاق- كما رأيت وسترى- يبعدان ذلك، وقرأ ابن السميفع «لاقوا».
وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي إذا انفرد بعض المذكورين- وهم الساكتون منهم- بعد فراغهم عن الاشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم وهم من نافق، وهذا كالنص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين، إذ- الخلو- إنما يكون بعد الاشتغال ولأن عتابهم معلق بمحض- الخلو ولولا إنهم حاضرون عند المقاولة
299
لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط، ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت ثم العتاب قالُوا أي أولئك البعض الخالي موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم.
أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته، والتعبير عنه- بالفتح- للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق، وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم: آمَنَّا بل عللوه بما ذكر، وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ، ومن الناس من حوّز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا، وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل خَلا عبارة عن المنافقين، وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيرا للمعنى- والاستفهام إنكار- ونهى عن التحديث في الزمان المستقبل وليس بشيء- وإن جل قائله- اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة، ودون ذلك خرط القتاد.
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ متعلق بالتحديث دون الفتح خلافا لمن تكلف له، والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ، فإن التحديث- وإن كان منكرا في نفسه- لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل، والمفاعلة هنا غير مرادة، والمراد ليحتجوا به عليكم، إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة، وذكر ابن تمجيد أنه لو ذهب أحد إلى المشاركة بين المحتج والمحتج عليه بأن يكون من جانب احتجاج ومن جانب آخر سماع لكان له وجه- كما في بايعت زيدا- وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر. واللام- هذه لام كي- والنصب بأن مضمرة بعدها أو بها، وهي مفيدة للتعليل- ولعله هنا مجاز- لأن المحدثين لم يحوموا حول ذلك الغرض، لكن فعلهم ذلك- لما كان مستتبعا له البتة- جعلوا كأنهم فاعلون له إظهارا لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم، وضمير بِهِ راجع إلى بِما فَتَحَ اللَّهُ على ما يقتضيه الظاهر عِنْدَ رَبِّكُمْ أي في كتابه وحكمه- وهو عند عصابة- بدل من بِهِ، ومعنى كونه بدلا منه أن عامله الذي هو نائب عنه بدل منه إما بدل الكل إن قدر صيغة اسم الفاعل أو بدل اشتمال إن قدر مصدرا، وفائدته بيان جهة الاحتجاج بما فتح الله تعالى، فإن الاحتجاج به يتصور على وجوه شتى، كأنه قيل: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ بكونه في كتابه، أي يقولوا: إنه مذكور في كتابه الذي آمنتم به، وبما ذكر يظهر وجه الجمع بين قوله تعالى: بِهِ أي بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ واندفع ما قيل لا يصح جعله بدلا لوجوب اتحاد البدل والمبدل منه في الإعراب، وهاهنا ليس كذلك لكون الثاني ظرفا والأول مفعولا به بالواسطة، وقيل: المعنى بما عند ربكم فيكون الظرف حالا من ضمير بِهِ وفائدته التصريح بكون الاحتجاج بأمر ثابت عنده تعالى وإن كان ذلك مستفادا من كونه بما فتح الله تعالى، وقيل: عند ذكر ربكم، فالكلام على حذف مضاف، والمراد من الذكر «الكتاب» وجعل المحاجة بما فتح الله تعالى باعتبار أنه في الكتاب محاجة عنده توسعا وهذه الأقوال مبنية على أن المراد بالمحاجة في الدنيا وهو ظاهر لأنها دار المحاجة والتأويل في قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ وقيل: عند ربكم على ظاهره- والمحاجة يوم القيامة- واعترض بأن الإخفاء لا يدفع هذه المحاجة لأنه إما لأجل أن لا يطلع المؤمنون على ما يحتجون به- وهو حاصل لهم بالوحي- أو ليكون للمحتج عليهم طريق إلى الإنكار، وذا لا يمكن عنده تعالى يوم القيامة ولا يظن بأهل الكتاب أنهم يعتقدون أن إخفاء ما في الكتاب في الدنيا يدفع المحاجة بكونه فيه في العقبى لأنه اعتقاد منهم بأنه تعالى لا يعلم ما أنزل في كتابه وهم برآء منه، والقول بأن المراد لِيُحَاجُّوكُمْ يوم القيامة وعند المسائل، فيكون زائدا في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رؤوس الأشهاد في الموقف العظيم، فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك في الدنيا يزيد ذلك في الآخرة للفرق بين من اعترف وكتم، وبين من ثبت على الإنكار، أو بأن المحاجة بأنكم بلغتم وخالفتم- تندفع بالإخفاء- يرد عليه أن
300
الإخفاء حينئذ إنما يدفع الاحتجاج بإقرارهم- لا بما فتح الله عليهم على أن المدفوع في الوجه الأول زيادة التوبيخ والفضيحة- لا المحاجة- وقيل: عِنْدَ رَبِّكُمْ بتقدير- من عند ربكم- وهو معمول لقوله تعالى: بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وهو مما لا ينبغي أن يرتكب في فصيح الكلام، وجوز الدامغاني أن يكون عِنْدَ للزلفى أي لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ متقربين إلى الله تعالى- وهو بعيد أيضا- كقول بعض المتأخرين: إنه يمكن أن تجعل المحاجة به عند الرب عبارة عن المباهلة في تحقق ما يحدثونه، وعليه تكون المحاجة على مقتضى المفاعلة- وعندي- أن رجوع ضمير بِهِ لما فتح الله من حيث إنه محدث بِهِ وجعل القيد هو المقصود، أو للتحديث المفهوم من أَتُحَدِّثُونَهُمْ وحمل عِنْدَ رَبِّكُمْ على يوم القيامة، والتزام أن الإخفاء يدفع هذا الاحتجاج ليس بالبعيد- إلا أن أحدا لم يصرح به- ولعله أولى من بعض الوجوه فتدبر أَفَلا تَعْقِلُونَ عطف إما على أَتُحَدِّثُونَهُمْ- والفاء- لإفادة ترتب عدم عقلهم على تحديثهم، وإما على مقدر أي ألا تتأملون فلا تعقلون، والجملة مؤكدة لإنكار التحديث، وهو من تمام كلام اللائمين، ومفعوله إما ما ذكر أولا، أولا مفعول له- وهو أبلغ- وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى
: أَفَتَطْمَعُونَ والمعنى أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود وأن لا مطمع في إيمانهم، وهم على هذه الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة، ويبعده قوله تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ فإنه تجهيل لهم منه تعالى فيما حكي عنهم فيكون توسيط خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيل الفصل بين الشجرة ولحائها على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين تعسفا ما، وفي تعميمه للنبي صلّى الله عليه وسلّم سوء أدب- كما لا يخفى- والاستفهام فيه للإنكار مع التقريع لأن أهل الكتاب كانوا عالمين بإحاطة علمه تعالى والمقصود بيان شناعة فعلهم بأنهم يفعلون ما ذكر مع علمهم.
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وفيه إشارة إلى أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية أعظم وزرا- والواو- للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن- والضمير للموبخين- أي أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون ما ذكر، وقيل: الضمير للمنافقين فقط، أو لهم وللموبخين، أو لآبائهم المحرفين، والظاهر حمل ما في الموضعين على العموم ويدخل فيه الكفر الذي أسروه، والإيمان الذي أعلنوه، واقتصر بعض المفسرين عليهما، وقيل: العداوة والصداقة، وقيل: صفته صلى الله تعالى عليه وسلم التي في التوراة المنزلة والصفة التي أظهروها افتراء على الله تعالى، وقدم سبحانه الإسرار على الإعلان، إما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالبا، فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية، وإما للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، وإما للمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع الأشياء كان علمه بما يسرون أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما- في الحقيقة- على السوية، فإن علمه تعالى ليس بطريق حصول الصورة، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة ولا الكامنة، وعكس الأمر في قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:
٢٨٤] لأن الأصل فيما تتعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية، وقرأ ابن محيصن «أو لا تعلمون» - بالتاء- فيحتمل أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين أو خطابا لهم، ثم إنه تعالى أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالا لهم، ويكون ذلك من باب الالتفات.
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود أثر بيان شنائع الطوائف السالفة، وقيل: عطف على قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وعليه الجمع، وقيل: على وَإِذا لَقُوا واختار بعض المتأخرين أنه وهذا الذي عطف عليه اعتراض وقع في البين لبيان أصناف اليهود استطرادا لأولئك المحرفين، و «الأميون» جمع- أمي-
301
وهو- كما في المغرب- من لا يكتب ولا يقرأ منسوب إلى أمة العرب الذين كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه، أو إلى أم القرى لأن أهلها لا يكتبون غالبا، والمراد أنهم جهلة، والْكِتابَ التوراة- كما يقتضيه سباق النظم وسياقه- فاللام- فيه إما للعهد أو أنه من الأعلام الغالبة، وجعله مصدر كتب كتابا- واللام- للجنس بعيد، وقرأ ابن أبي عبلة أُمِّيُّونَ بالتخفيف إِلَّا أَمانِيَّ جمع- أمنية- وأصلها- أمنونة أفعولة وهو في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من- منى- إذا قدر، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ، والمروي عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أن- الأماني- هنا- الأكاذيب- أي إلا أكاذيب أخذوها تقليدا من شياطينهم المحرفين، وقيل: إلا ما هم عليه من أمانيهم أن الله تعالى يعفو عنهم ويرحمهم، ولا يؤاخذهم بخطاياهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وقيل إلا مواعيد مجردة سمعوها من أحبارهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة- واختاره أبو مسلم- والاستثناء على ذلك منقطع لأن ما هم عليه من الأباطيل، أو سمعوه من الأكاذيب ليس من الكتاب، وقيل: إلا ما يقرؤون قراءة عادية عن معرفة المعنى وتدبره، فالاستثناء حينئذ متصل بحسب الظاهر، وقيل: منقطع أيضا إذ ليس ما يتلى من جنس علم الكتاب، واعترض هذا الوجه بأنه لا يناسب تفسير الآتي بما في المغرب، وأجيب بأن معناه أنه لا يقرأ من الْكِتابَ ولا يعلم الخط، واما على سبيل الأخذ من الغير فكثيرا ما يقرؤون من غير علم بالمعاني، ولا بصور الحروف، وفيه تكلف إذ لا يقال للحافظ الأعمى: إنه أمي، نعم إذا فسر الأمي بمن لا يحسن الكتابة والقراءة على ما ذهب إليه جمع لا ينافي أن يكتب ويقرأ في الجملة واستدل على ذلك بما
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم صلح الحديبية أخذ الكتاب- وليس يحسن الكتب- فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» إلخ،
ومن فسر الأمي بما تقدم أول الحديث بأن كتب فيه بمعنى أمر بالكتابة، وأطال بعض شراح الحديث الكلام في هذا المقام- وليس هذا محله.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وابن جماز عن نافع، وهارون عن أبي عمرو و «أماني» بالتخفيف وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الاستثناء مفرغ والمستثنى محذوف أقيمت صفته مقامه، أي ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم- فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين- وقد يطلق الظن على ما يقابل العلم اليقيني عن دليل قاطع سواء قطع بغير دليل، أو بدليل غير صحيح أو لم يقطع، فلا ينافي نسبة الظن إليهم إن كانوا جازمين.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ- الويل- مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم: وال مصنوع- كما في البحر- ومثله ويح وويب وويس وويه وعول، ولا يثنى ولا يجمع ويقال ويلة ويجمع على ويلات وإذا أضيف فالأحسن فيه النصب- ولا يجوز غيره عند بعض- وإذا أفردته اختير- الرفع- ومعناه الفضيحة والحسرة وقال الخليل:
شدة الشر، وابن المفضل- الحزن- وغيرهما- الهلكة- وقال الأصمعي: هي كلمة تفجع وقد تكون ترحما ومنه- ويل أمه مسعر حرب-
وورد من طرق صححها الحفاظ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الويل واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» وفي بعض الروايات «إنه جبل فيها»
وإطلاقه على ذلك إما حقيقة شرعية، وإما مجاز لغوي من إطلاق لفظ الحل على المحل ولا يمكن أن يكون حقيقة لغوية لأن العرب تكلمت به في نظمها ونثرها قبل أن يجيء القرآن ولم تطلقه على ذلك وعلى كل حال هو هنا مبتدأ خبره لِلَّذِينَ فإن كان علما لما في الخبر فظاهر، وإلا فالذي سوغ الابتداء به كونه دعاء، وقد حول عن المصدر المنصوب للدلالة على الدوام والثبات، ومثله يجوز فيه ذلك لأنه غير مخبر عنه، وقيل: لتخصص النكرة فيه بالداعي كما تخصص سلام في- سلام عليك- بالمسلم فإن المعنى سلامي عليك وكذلك المعنى هاهنا دعائي عليهم بالهلك ثابت لهم- والكتابة معروفة.
302
وذكر الأيدي تأكيدا لدفع توهم المجاز، ويقال: أول من كتب بالقلم إدريس، وقيل: آدم عليهما السلام، والمراد ب الْكِتابَ المحرف، وقد روي أنهم كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صورة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبثوها في سفهائهم وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل وصاروا إذا سئلوا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون: ما هذا هو الموصوف عندنا في التوراة ويخرجون التوراة المبدلة ويقرؤونها ويقولون: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله، ويحتمل أن يكون المراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة وروّجوه على العامة، وقد قال بعض العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن بإشارة لا يعرفها إلا العالمون، ولو كان متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان، وقد وجد في التوراة ألفاظ إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام بتعريض هو عند الراسخين جلي، وعند العامة خفي، فعمد إلى ذلك أحبار من اليهود فأوّلوه، وكتبوا تأويلاتهم المحرفة بأيديهم ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إعظاما لشأنه وتمكينا له في قلوب أتباعهم الأميين، وثُمَّ للتراخي الرتبي، فإن نسبة المحرف والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحا أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل، والإشارة إما إلى الجميع، أو إلى الخصوص.
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي ليحصلوا- بما أشاروا إليه- غرضا من أغراض الدنيا الدنيئة، وهو- وإن جل- أقل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الدائم، وحرموه من الثواب المقيم، وهو علة للقول- كما في البحر- ولا أرى في الآية دليلا على المنع من أخذ الأجرة على كتابة المصاحف، ولا على كراهية بيعها، والأعمش تأول الآية واستدل بها على الكراهة- وطرف المنصف أعمى عن ذلك- نعم ذهب إلى الكراهة جمع «منهم» ابن عمر رضي الله تعالى عنهما- وبه قال بعض الأئمة- لكن لا أظنهم يستدلون بهذه الآية، وتمام البحث في محله.
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ- الفاء- لتفصيل ما أجمل في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ إلخ، حيث يدل على ثبوت الويل للموصوفين بما ذكر لأجل اتصافهم به بناء على التعليق بالوصف من غير دلالة على أن ثبوته لأجل مجموع ما ذكر أولا- بل كل واحد- فبين ذلك بقوله: (ويل لهم) إلخ مع ما فيه من التنصيص بالعلة، ولا يخفى ما في هذا الإجمال والتفصيل من المبالغة في الوعيد الزجر والتهويل.
و (من) تعليلية متعلقة ب وَيْلٌ أو بالاستقرار في الخبر، وما قيل: موصولة اسمية، والعائد محذوف، أي «كتبته» وقيل: مصدرية «والأول» أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف «والثاني» في الزجر عن التحريف و (ما) الثانية مثلها، ورجح بعضهم المصدرية في الموضعين- لفظا ومعنى- لعدم تقدير العائد، ولأن مكسوب العبد حقيقة فعله الذي يعاقب عليه ويثاب، وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن العبد كما يعاقب على نفس فعله، يعاقب على أثر فعله لإفضائه إلى حرام آخر- وهو هنا يفضي إلى إضلال الغير وأكل الحرام- وغاير بين الآيتين بأنه بين «في الأولى» استحقاقهم العقاب بنفس الفعل «وفي الثانية» استحقاقهم له بأثره، ولذا جاء- بالفاء- ولا يخفى أنه كلام خال عن التحقيق- كما لا يخفى على أرباب التدقيق- ومما ذكرنا ظهر فائدة ذكر- الويل- ثلاث مرات، وقيل: فائدته أن اليهود جنوا ثلاث جنايات. تغيير صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والافتراء على الله تعالى، وأخذ الرشوة.
فهددوا بكل جناية- بالويل- وكأنه جعل محط الفائدة في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ إلى آخر المعطوف كما
في خبر «لا يؤمّن الرجل قوما فيخص نفسه بالدعاء»
وهو- على بعده- لا يظهر عليه وجه إيراد- الفاء- في الثاني، ثم الظاهر أن مفعول الكسب خاص- وهو ما دل عليه سياق الآية- وقيل: المراد ب مِمَّا يَكْسِبُونَ جميع الأعمال السيئة ليشمل القول- ولا يخفى بعده- وعدم التعرض للقول لما أنه من مبادئ ترويج مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ والآية نزلت في
303
أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رئاستهم بإبقاء صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على حالها فغيروها، وقيل:
خاف ملوكهم على ملكهم- إذا آمن الناس- فرشوهم فحرفوا، والقول بأنها نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ولم يتبعوا كتابا، بل كتبوا بأيديهم كتابا وحللوا فيه ما اختاروا، وحرّموا ما اختاروا، وقالوا: هذا من عند الله غير مرضي، كالقول بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح كاتب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يغير القرآن فارتد وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً جملة حالية معطوفة على قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ عند فريق منهم، وعند آخرين على وَإِذْ قَتَلْتُمْ عطف قصة على قصة، واختار بعض المحققين أنها اعتراض لرد ما قالوا حين أوعدوا- على ما تقدم- بالويل- بل جميع الجمل عنده من قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ إلى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ إلخ، ذكر استطرادا بين القصتين المعطوفتين، فالضمير في قالُوا عائد على لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ- والمس- اتصال أحد الشيئين بآخر- على وجه الإحساس والإصابة- وذكر الراغب أنه كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء- وإن لم يوجد- كقوله:
وألمسه فلا أجده
والمراد من النَّارُ نار الآخرة، ومن «المعدودة» المحصورة القليلة، وكني- بالمعدودة- عن القليلة لما أن الأعراب لعدم علمهم بالحساب وقوانينه تصور القليل متيسر العدد والكثير متعسره، فقالوا: شيء معدود- أي قليل- وغير معدود- أي كثير- والقول بأن- القلة- تستفاد من أن الزمان- إذا كثر- لا يعد بالأيام، بل بالشهور والسنة والقرن يشكل بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ إلى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [البقرة: ١٨٤] وبقوله سبحانه: واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [البقرة: ٥١] وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، ثم ينادى أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، وفي رواية أنهم يعذبون سبعة أيام لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم، وهي سبعة آلاف سنة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهم زعموا أنهم وجدوا مكتوبا في التوراة إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، وأنهم يقطعون في كل يوم مسيرة سنة فيكملونها، وقد قالوا ذلك حين دخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وسمعه المسلمون فنزلت هذه الآية.
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً تبكيت لهم وتوبيخ- والعهد- مجاز عن خبره تعالى، أو وعده بعدم مساس النار لهم سوى- الأيام المعدودة- وسمي ذلك عَهْداً لأنه أوكد من العهود المؤكدة بالقسم والنذر، وفسره قتادة هنا بالوعد مستشهدا بقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ [التوبة: ٧٥] إلى قوله سبحانه: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ [التوبة: ٧٧].
«واعترض» بأنه لا وجه للتخصيص، فإن لَنْ تَمَسَّنَا إلخ فرع الوعد والوعيد لأن مساس النار وعيد، وأجيب بأنه إنما لم يتعرض للوعيد، لأن المقصود بالاستفهام الوعد- لا الوعيد- فإنه ثابت في حقهم. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتستدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟
ويؤول إلى هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟ والمعنى الأول أظهر. وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار- الذال- والباقون بإدغامه، وحذفت من اتخذ- همزة الوصل- لوقوعها في الدرج.
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ جواب شرط مقدر، أي إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف وقدره العلامة إن كنتم اتخذتم- إذ ليس المعنى على الاستقبال- وهو مبني على أن حرف الشرط لا يغير معنى- كان- وفيه خلاف معروف «فإن قلت» لا يصح جعل فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ جزاء لامتناع السببية والترتب لكون «لن» لمحض الاستقبال «قلت» ذلك ليس بلازم في- الفاء الفصيحة- كقوله:
304
- ولو سلم- فقد ترتب على اتخاذ العهد الحكم بأنه لا يخلف العهد فيما يستقبل من الزمان فقط، كما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣] كذا أفاده العلامة، والجواب الأول مبني على أن- الفاء الفصيحة- لا تنافي تقدير الشرط، وأنها تفيد كون مدخولها سببا عن المحذوف سواء ترتب عليه أو تأخر لتوقفه على أمر آخر بدليل أن قوله: فقد جئنا خراسانا علم عندهم في- الفصيحة- مع كونه بتقدير الشرط وعدم الترتب- كما في شرح المفتاح الشريفي- ومبنى الثاني على أن المراد حكمهم لا حكمه تعالى حين النزول، ولخفاء ذلك قال المولى عصام:- الأظهر- أنه دليل الجزاء وضع موضعه، أي إن كنتم اتخذتم عند الله عهدا فقد نجوتم لأنه لن يخلف الله عهده فافهم.
ومن الناس من لا يقدر محذوفا ويجعل- الفاء- سببية ليكون اتخاذ العهد مترتبا عليه عدم اخلاف الله تعالى عهده ويكون المنكر حينئذ المجموع فتفطن. وهذه الجملة- كما قال ابن عطية- اعتراضية بين أَتَّخَذْتُمْ والمعادل فلا موضع لها من الإعراب، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن عدم الاختلاف من قضية الألوهية والعهد مضاف إلى ضميره تعالى لذلك أيضا، أو لأن المراد به جميع عهوده لعمومه بالإضافة، فيدخل العهد المعهود مع التجافي عن التصريح بتحقق مضمون كلامهم، وإن كان معلقا على الاتخاذ المعلق بحبال العدم واستدل بالآية من ذهب إلى نفي الخلف في الوعد والوعيد بحمل العهد على الخبر الشامل لهما، وادعى بعضهم أن العهد ظاهر في الوعد بل حقيقة عرفية فيه فلا دليل فيها على نفي الخلف في الوعيد.
أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أَمْ يحتمل أن تكون متصلة للمعادلة بين شيئين بمعنى أي هذين واقع اتخاذكم العهد- أم قولكم على الله ما لا تعلمون- وخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير لأولئك المخاطبين لعلم المستفهم- وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم- بوقوع أحدهما، وهو قولهم بما لا يعلمون على التعيين فلا يكون الاستفهام على حقيقته، ويعلم من هذا أن الواقع بعد أَمْ المتصلة قد يكون جملة لأن التسوية قد تكون بين الحكمين- وبهذا صرح ابن الحاجب في الإيضاح، ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى- بل- والتقدير بل أتقولون، ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من التوبيخ بالإنكار على الاتخاذ إلى ما تفيد همزتها من التوبيخ على القول، وظاهر كلام صاحب المفتاح تعين الانقطاع حيث جعل علامة المنقطعة كون ما بعدها جملة، وإنما علق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه وتعالى ما لا يعلمون وقوعه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدم وقوعه المبالغة في التوبيخ فإن التوبيخ على الأدنى يستلزم التوبيخ على الأعلى بطريق الأولى، وقولهم المحكي- وإن لم يكن صريحا بالافتراء عليه جل شأنه- لكنه مستلزم له لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى.
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جواب عن قولهم المحكي وإبطال له على وجه أعم شامل لهم ولسائر الكفرة، كأنه قال: بل تمسكم وغيركم دهرا طويلا وزمانا مديدا- لا كما تزعمون- ويكون ثبوت الكلية كالبرهان على إبطال ذلك بجعله كبرى لصغرى سهلة الحصول فبلى داخلة على ما ذكر بعدها وإيجاز الاختصار أبلغ من إيجاز الحذف، وزعم بعضهم أنها داخلة على محذوف وأن المعنى على تمسكم أياما معدودة- وليس بشيء- وهي حرف جواب- كجير ونعم- إلا أنها لا تقع جوابا إلا لنفي متقدم سواء دخله استفهام أم لا، فتكون إيجابا له وهي بسيطة. وقيل: أصلها- بل- فزيدت عليها- الألف- والكسب جلب النفع- والسيئة- الفاحشة الموجبة للنار، قاله السدي، وعليه تفسير من فسرها بالكبيرة لأنها التي توجب النار- أي يستحق فاعلها النار إن لم يغفر له- وذهب كثير من السلف إلى أنها هنا- الكفر.. وتعليق- الكسب بالسيئة- على طريقة
305
التهكم، وقيل: إنهم بتحصيل السيئة استجلبوا نفعا قليلا فانيا، فبهذا الاعتبار أوقع عليه الكسب، والمراد- بالإحاطة- الاستيلاء والشمول وعموم الظاهر والباطن- والخطيئة- السيئة، وغلبت فيما يقصد بالعرض أي لا يكون مقصودا في نفسه بل يكون القصد إلى شيء آخر، لكن تولد منه ذلك الفعل كمن رمى صيدا فأصاب إنسانا، وشرب مسكرا فجنى جناية، قال بعض المحققين: ولذلك أضاف الإحاطة إليها إشارة إلى أن السيئات باعتبار وصف الإحاطة داخلة تحت القصد بالعرض لأنها بسبب نسيان التوبة، ولكونها راسخة فيه متمكنة حال الإحاطة أضافها إليه بخلاف حال الكسب فإنها متعلق القصد بالذات وغير حاصلة فيه فضلا عن الرسوخ، فلذا أضاف الكسب إلى سيئة ونكرها، وإضافة الأصحاب إلى النار على معنى الملازمة، لأن الصحبة وإن شملت القليل والكثير لكنها في العرف تخص بالكثرة والملازمة ولذا قالوا: لو حلف من لاقى زيدا أنه لم يصحبه لم يحنث، والمراد- بالخلود- الدوام، ولا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة لأن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط خطيئته به لكون قلبه ولسانه منزها عن الخطيئة، وهذا لا يتوقف على كون التصديق والإقرار حسنتين، بل على أن لا يكونا سيئتين فلا يرد البحث بأن الخصم يجعل العمل شرطا لكونهما حسنتين كما يجعل الاعتقاد شرطا لكون الأعمال حسنات فلا يتم عنده أن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر، ولا يحتاج إلى الدفع بأن المقصود أنه لا حجة له في الآية، وهذا يتم بمجرد كون الإحاطة ممنوعة في غير الكافر، فلو ثبت أن العمل داخل في الإيمان صارت الآية حجة- ودون إثباته خرط القتاد- ثم إن نفي الحجية بحمل الإحاطة على ما ذكر إنما يحتاج إليه إذا كانت السيئة والخطيئة بمعنى واحد- وهو مطلق الفاحشة- أما إذا فسرت السيئة بالكفر أو- الخطيئة- به حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن جرير عن أبي وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع، فنفي الحجية أظهر من نار على علم. ومن الناس من نفاها بحمل- الخلود- على أصل الوضع وهو اللبث الطويل- ليس بشيء- لأن فيه تهوين الخطب في مقام التهويل مع عدم ملائمته حمل الخلود في الجنة على الدوام، وكذا لا حجة في قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلخ بناء على ما زعمه الجبائي حيث قال: دلت الآية على أنه تعالى ما وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده بإخراج أهل الكبائر والمعاصي من النار بعد التعذيب، وإلا لما أنكر على اليهود بقوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ إلخ وقد ثبت أنه تعالى أوعد العصاة بالعذاب زجرا لهم عن المعاصي فقد ثبت أن يكون عذابهم دائما وإذا ثبت في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة إذ الوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذا كان قدر المعصية واحدا لأن ما أنكر الله عليهم جزمهم بقلة العذاب لانقطاعه مطلقا- على أن ذلك في حق الكفار لا العصاة كما لا يخفى- ومَنْ تحتمل أن تكون شرطية، وتحتمل أن تكون موصولة، والمسوغات لجواز دخول- الفاء- في الخبر إذا كان المبتدأ موصولا موجودة، ويحسن الموصولية مجيء الموصول في قسيمه وإيراد اسم الإشارة المنبئ عن استحضار المشار إليه بما له من الأوصاف للإشعار
بعليتها لصاحبية النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد متزلتهم في الكفر والخطايا، وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة الجانب المعنى في كلمة مَنْ بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم في تينك الحالتين، فإن كسب السيئة وإحاطة الخطيئة به في حالة الإفراد- وصاحبية النار في حالة الاجتماع- قاله بعض المحققين- ولا يخلو عن حسن- وقرأ نافع «خطيئاته» وبعض «خطياه» و «خطيته» و «خطياته» بالقلب والإدغام، واستحسنوا قراءة الجمع بأن الإحاطة لا تكون بشيء واحد، ووجهت قراءة الإفراد بأن- الخطيئة- وإن كانت مفردة لكنها لإضافتها متعددة، مع أن الشيء الواحد قد يحيط كالحلقة فلا تغفل.
306
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لما ذكر سبحانه أهل النار وما أعد لهم من الهلاك أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان وما أعد لهم من الخلود في الجنان، وقد جرت عادته جل شأنه على أن يشفع وعده بوعيده مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى، وقيل: إن في الجمع تربية الوعيد بذكر ما فات أهله من الثواب، وتربية الوعد بذكر ما نجا منه أهله من العقاب، وعطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه- إذ لا يعطف الجزء على الكل- ولا يدل على عدم اشتراطه به حتى يدل على أن صاحب الكبيرة غير خارج عن الإيمان، وتكون الآية حجة على الوعيدية- كما قاله المولى عصام- فإن قلت:
للمخالف أن يقول: العطف للتشريف لكون العمل أشق وأحمز من التصديق
وأفضل الأعمال أحمزها،
أجيب بأن الإيمان أشرف من العمل لكونه أساس جميع الحسنات إذ الأعمال ساقطة عن درجة الاعتبار عند عدمه ويخطر في البال أنه يمكن أن يكون لذكر العمل الصالح هنا مع الإيمان نكتة، وهو أن يكون الإيمان في مقابلة السيئة المفسرة بالكفر- عند بعض- والعمل الصالح في مقابلة الخطيئة المفسرة بما عداه والمراد من الَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومؤمنو الأمم قبلهم، قاله ابن عباس وغيره- وهو الظاهر- وقال ابن زيد: المراد بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته خاصة وذكر- الفاء- فيما سبق وتركها هنا إما لأن الوعيد من الكريم مظنة الخلف دون الوعد فكان الأول حريا بالتأكيد دون الثاني، وإما للإشارة إلى سبق الرحمة فإن النحاة قالوا: من دخل داري فأكرمه- يقتضي إكرام كل داخل لكن على خطر أن لا يكرم- وبدون- الفاء- يقتضي إكرامه البتة، وإما للإشارة إلى أن خلودهم من النار بسبب أفعالهم السيئة وعصيانهم وخلودهم في الجنة بمحض لطفه تعالى وكرمه، وإلا فالإيمان والعمل الصالح لا يفي بشكر ما حصل للعبد من النعم العاجلة- وإلى كل ذهب بعض- والقول بأن ترك- الفاء- هنا لمزيد الرغبة في ذكر ما لهم ليس بشيء وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ شروع في تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادي باستبعاد إيمان أخلافهم، وقيل: إنه نوع آخر من النعم التي خصهم الله تعالى بها، وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم- وهو الجنة- والموصل إلى النعمة نعمة، وهذا- الميثاق- ما أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، أو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، وقول مكي: إنه ميثاق أخذه الله تعالى عليهم وهم في أصلاب آبائهم كالذر لا يظهرهم وجهه هنا.
لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ على إرادة القول أي قلنا أو قائلين ليرتبط بما قبله وهو إخبار في معنى النهي كقوله تعالى:
لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: ٢٨٢] وكما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت، وإلى ذلك ذهب الفراء، ويرجحه أنه أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي كأنه سارع إلى ذلك فوقع منه حتى أخبر عنه بالحال أو الماضي أي ينبغي أن يكون كذلك فلا يرد أن حال المخبر عنه على خلافه وأنه قرأ ابن مسعود «لا تعبدوا» على النهي وأن قُولُوا عطف عليه فيحصل التناسب المعنوي بينهما في كونهما إنشاء، وإن كان يجوز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب، وقيل: تقديره أن لا تعبدوا، فلما حذف الناصب ارتفع الفعل، ولا يجب الرفع بعد الحذف في مثل ذلك خلافا لبعضهم- وإلى هذا ذهب الأخفش- ونظيره من نثر العرب مره يحفرها ومن نظمها.
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
ويؤيد هذا قراءة «أن لا تعبدوا» ويضعفه أن أن لا تحذف قياسا في مواضع ليس هذا منها، فلا ينبغي تخريج الآية عليه، وعلى تخريجها عليه فهو مصدر مؤول بدل من الميثاق أو مفعول به بحذف حرف الجر أي بأن لا أو على
307
أن لا، وقيل: إنه جواب قسم دل عليه الكلام، أي حلفناهم لا تعبدون، أو جواب الميثاق نفسه لأن له حكم القسم، وعليه يخلو الكلام عما مر في وجه رجحان الأول، وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب- بالتاء- حكاية لما خوطبوا به والباقون- بالياء- لأنهم غيب، وفي الآية حينئذ التفاتان في- لفظ الجلالة- ويعبدون.
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً متعلق بمضمر تقديره وتحسنون، أو أحسنوا، والجملة معطوفة على تعبدون وجوّز تعلقه ب إِحْساناً وهو يتعدى بالباء، وإلى أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: ١٠٠] وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: ٧٧] ومنع تقدم معمول المصدر عليه مطلقا ممنوع، ومن المعربين من قدر استوصوا ف «بالوالدين» متعلق به و «إحسانا» مفعوله، ومنهم من قدر ووصيناهم فإحسانا مفعول لأجله، والوالدان تثنية والد لأنه يطلق على الأب والأم أو تغليب بناء على أنه لا يقال إلا للأب كما ذهب إليه الحلبي، وقد دلت الآية على الحث ببر الوالدين وإكرامهما، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، وناهيك احتفالا بهما أن الله عز اسمه قرن ذلك بعبادته.
وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ عطف على «الوالدين» والْقُرْبى مصدر كالرجعى- والألف- فيه للتأنيث وهي قرابة الرحم والصلب. وَالْيَتامى وزنه فعالى- وألفه- للتأنيث، وهو جمع يتيم كنديم وندامى، ولا ينقاس، ويجمع على أيتام. واليتم أصل معناه الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة، وقال ثعلب: الغفلة، وسمي اليتيم يتيما لأنه يتغافل عن بره، وقال أبو عمرو: الإبطاء لإبطاء البر عنه، وهو في الآدميين من قبل الآباء- ولا يتم بعد بلوغ- وفي البهائم من قبل الأمهات، وفي الطيور من جهتهما. وحكى الماوردي أنه يقال في الآدميين لمن فقدت أمه أيضا- والأول هو المعروف وَالْمَساكِينِ جمع مسكين على وزن مفعيل مشتق من السكون، كأن الحاجة أسكنته- فالميم- زائدة كمحضر من الحضور، وروي تمسكن فلان- والأصح تسكن أي صار مسكينا- والفرق بينه وبين الفقير معروف- وسيأتي إن شاء الله تعالى- وقد جاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد فالأوكد، فبدأ ب بِالْوالِدَيْنِ إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما، ثم ب ذِي الْقُرْبى لأن صلة الأرحام مؤكدة، ولمشاركة بِالْوالِدَيْنِ في القرابة وكونهما منشأ لها وقد ورد في الأثر أن الله تعالى خاطب الرحم فقال: أنت الرحم وأنا الرحمن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ثم باليتامى لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب،
وقد جاء «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين»
وأشار صلّى الله عليه وسلّم إلى السبابة والوسطى وتأخرت درجة الْمَساكِينِ لأن المسكين يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام ويصلح معيشته مهما أمكن بخلاف اليتيم- فإنه لصغره لا ينتفع به- ويحتاج إلى من ينفعه، وأفرد ذِي الْقُرْبى - كما في البحر- لأنه أريد به الجنس، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة، وكأن فيه إشارة إلى أن ذوي القربى- وإن كثروا- كشيء واحد لا ينبغي أن يضجر من الإحسان إليهم وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي قولا حسنا- سماه به للمبالغة- وقيل: هو لغة في الحسن كالبخل والبخل والرشد والرشد، والعرب والعرب، والمراد قولوا لهم القول الطيب وجاوبوهم بأحسن ما يحبون- قاله أبو العالية- وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قولوا لهم لا إله إلا الله مروهم بها، وقال ابن جريج: أعلموهم بما في كتابكم من صفة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم- وقول أبي العالية في المرتبة العالية- والظاهر أن هذا الأمر من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل: ومن قال: إن المخاطب به الأمة وهو محكم أو منسوخ بآية السيف أو إن لناس مخصوص بصالحي المؤمنين إذ لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق لأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم فقد أبعد- وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب «حسنا» - بفتحتين- وعطاء وعيسى- بضمتين- وهي لغة الحجاز وأبو
308
طلحة بن مصرف «حسنى» على وزن فعلى، واختلف في وجهه فقيل: هو مصدر كرجعى، واعترضه أبو حيان بأنه غير مقيس لم يسمع فيه، وقيل: هو صفة كحبلى أي مقالة أو كلمة «حسنى» وفي الوصف بها وجهان «أحدهما» أن تكون باقية على أنها للتفضيل واستعمالها بغير الألف واللام والإضافة للمعرفة نادر وقد جاء ذلك في الشعر كقوله:
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة يوما كرام سراة الناس فادعينا
«وثانيهما» أن تجرد عن التفضيل فتكون بمعنى- حسنة- كما قالوا ذلك في «يوسف أحسن إخوته» وقرأ الجحدري «إحسانا» على أنه مصدر أحسن الذي همزته للصيرورة كما تقول: أعشبت الأرض إعشابا أي صارت ذا عشب وحينئذ نعت لمصدر محذوف أي قولا ذا حسن وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أراد سبحانه بهما افرض عليهم في ملتهم لأنه حكاية لما وقع في زمان موسى عليه السلام وكانت زكاة أموالهم- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قربانا تهبط إليها نار فتحملها- وكان ذلك علامة القبول- وما لا تفعل النار به كذلك كان غير متقبل، والقول بأن المراد بهما هذه الصلاة وهذه الزكاة المفروضتان علينا، والخطاب لمن بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أبناء اليهود لا غير، والأمر بهما كناية عن الأمر بالإسلام، أو للإيذان بأن الكفار مخاطبون بالفروع أيضا ليس بشيء كما لا يخفى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه. وثُمَّ للاستبعاد أو لحقيقة التراخي فيكون توبيخا لهم بالارتداد بعد الانقياد مدة مديدة وهو أشنع من العصيان من الأول، وقد ذكر بعض المحققين أنه إذا جعل ناصب الظرف خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بني إسرائيل جميعا بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكرهم كلهم حينئذ على نهج الغيبة، فإن الخطابات السابقة للأسلاف محكية بالقول المقدر قبل لا تعبدون كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت عليهم- وإن جعل خطابا لليهود المعاصرين- فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولي بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ، وقيل: الالتفات إنما يجيء على قراءة لا يعبدون بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب- فلا التفات- ومن الناس من جعل هذا الخطاب خاصا بالحاضرين في زمنه عليه الصلاة والسلام وما تقدم خاصا بمن تقدم، وجعل الالتفات على القراءتين لكنه بالمعنى الغير المصطلح عليه أن (١) كون الالتفات بين خطابين لاختلافهما لم يقل به أهل المعاني- لكنه وقع مثله في كلام بعض الأدباء- وما ذكرناه من التغليب أولى وأحرى خلافا لمن التفت عنه.
إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ، ومن الأخلاف من أسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه فالقلة في عدد الأشخاص، وقول ابن عطية: إنه يحتمل أن تكون في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم لا يقدم عليهم إلا القليل ممن لم يعط فهما في الألفاظ العربية، وروي عن أبي عمرو وغيره رفع قليل والكثير المشهور في أمثال ذلك النصب لأن ما قبله موجب، واختلفوا في تخريج الرفع فقيل: إن المرفوع تأكيد للضمير أو بدل منه، وجاز لأن تَوَلَّيْتُمْ في معنى النفي أي لم يفوا،
وقد خرج غير واحد قوله: صلّى الله عليه وسلّم فيما صح على الصحيح: «العالمون هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر»
وقول الشاعر:
وبالصريمة منهم منزل خلق عاف تغير إلا النوء والوتد
(١) والظاهر أنه تعليل لغير المصطلح عليه، وعليه المناسب الإتيان باللام أي لأن، ادارة.
309
على ذلك، وقول أبي حيان إنه ليس بشيء إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بنفي فيلزم جواز قام القوم إلا زيد بالرفع على التأويل والإبدال- ولم يجوزه النحويون- ليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إن إِلَّا صفة بمعنى غير ظهر إعرابها فيما بعدها، وقد عقد سيبويه لذلك بابا في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعدها وصفا بمنزلة غير ومثل، وذكر من أمثلة هذا الباب لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وقوله:
أينخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها
وخرج جمع جميع ما سلف على هذا، وفيه أن ذلك فيما نحن فيه لا يستقيم إلا على مذهب ابن عصفور حيث ذهب إلى أن الوصف ب إِلَّا يخالف الوصف بغيرها من حيث إنه يوصف بها النكرة والمعرفة، والظاهر والمضمر وأما على مذهب غيره- وهو ابن شاهين- بالنسبة إليه من أنه لا يوصف بها إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة- بلام الجنس- فلا، والمبرد يشترط في الوصف بها صلاحية البدل في موضعه وقيل: إنه مبتدأ خبره محذوف أي لم يقولوا- ولا يرد عليه شيء مما تقدم- إلا أن فيه كلاما سنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف: ١١] وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ جملة معترضة أي وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولي عن المواثيق، ويؤخذ كونه عادتهم من الاسمية الدالة على الثبوت، وقيل: حال مؤكدة- والتولي والإعراض شيء واحد- ويجوز فصل الحال المؤكدة- بالواو- عند المحققين وفرق بعضهم بين التولي والإعراض بأن الأول قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب، وقيل: إن التولي أن يرجع عوده إلى بدئه، والإعراض أن يترك المنهج ويأخذ في عرض الطريق والمتولي أقرب أمرا من المعرض لأنه متى عزم سهل عليه العود إلى سلوك المنهج والمعرض حيث ترك المنهج واحد في عرض الطريق يحتاج إلى طلب منهجه فيعسر عليه العود إليه. ومن الناس من جوز أن يكون معرضون على ظاهره، والجملة حال مقيدة أي لم يتول القليل وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عنهم ساخطون لهم فيكون وفي ذلك مزيد توبيخ لهم ومدحا للقليل- فهو بعيد- كالقول بأنها مقيدة ومتعلق التولي والإعراض مختلف أي توليتم على المضي في الميثاق وأعرضتم عن اتباع هذا النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على نحو ما سبق في لا تَعْبُدُونَ والمراد أن لا يتعرض بعضكم بعضا بالقتل والإجلاء وجعل قتل الرجل غيره قتل نفسه لاتصاله نسبا أو دينا، أو لأنه يوجبه قصاصا، ففي الآية مجاز، إما في ضمير- كم- حيث عبر به عمن يتصل به أو في تَسْفِكُونَ حيث أريد به ما هو سبب السفك. وقيل: معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم، أو لا تفعلون ما يرديكم ويصرفكم عن لذات الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم، وليس النفي في الحقيقة جلاء الأوطان بل البعد من رياض الجنان ولعل ما يساعده سياق النظم الكريم هو الأول. و «الدماء» جمع دم معروف وهو محذوف- اللام- وهي- ياء- عند بعض لقوله:
جرى الدميان بالخبر اليقين
وواو- عند آخرين لقولهم دموان ووزنه فعل أو فعل، وقد سمع مقصورا وكذا مشددا، وقرأ طلحة وشعيب «تسفكون» - بضم الفاء- وأبو نهيك- بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء مشددة- وابن أبي إسحاق كذلك إلا أنه سكن السين وخفف الفاء ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أي بالميثاق واعترفتم بلزومه خلفا بعد سلف فالإقرار ضد الجحد ويتعدى- بالباء- قيل ويحتمل أنه بمعنى إبقاء الشيء على حاله من غير اعتراف به- وليس بشيء- إذ لا يلائمه حينئذ وَأَنْتُمْ
310
تَشْهَدُونَ
حال مؤكدة رافعة احتمال أن يكون الإقرار ذكر أمر آخر لكنه يقتضيه، ولا يجوز العطف لكمال الاتصال ولا الاعتراض إذ ليس المعنى وأنتم عادتكم الشهادة بل المعنى على التقييد (١) وقيل: وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا، وضعف بأن يكون حينئذ استبعاد القتل والإجلاء منهم مع أن أخذ الميثاق والإقرار كان من أسلافهم لاتصالهم بهم نسبا ودينا بخلاف ما إذا اعتبر نسبة الإقرار إليهم على الحقيقة فإنه يكون بسبب إقرارهم وشهادتهم- وهو أبلغ في بيان قبيح صنيعهم- وادعى بعضهم أن «الأظهر» أن المراد أقررتم حال كونكم شاهدين على إقراركم بأن شهد كل أحد على إقرار غيره كما هو طريق الشهادة ولا يخفى انحطاط المبالغة حينئذ.
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ نزلت- كما في البحر- في بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير من اليهود، كان بنو قينقاع أعداء بني قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة، والنضير والأوس والخزرج إخوان، وبنو قريظة والنضير إخوان- ثم افترقوا- فصارت بنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانوا يقتتلون ويقع منهم ما قص الله تعالى، فعيرهم الله تعالى بذلك. وثُمَّ للاستبعاد في الوقوع- لا للتراخي في الزمان- لأنه الواقع في نفس الأمر- كما قيل به- وأَنْتُمْ مبتدأ، وهؤُلاءِ خبره على معنى أَنْتُمْ بعد ذلك المذكور من الميثاق والإقرار والشهادة هؤُلاءِ الناقضون، كقولك: أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا، وكان مقتضى الظاهر، ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ذلك التوكيد في الميثاق نقضتم العهد ف تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ إلخ أي صفتكم الآن غير الصفة التي كنتم عليها، لكن أدخل هؤُلاءِ وأوقع خبرا ليفيد أن الذي تغير هو الذات نفسها نعيا عليهم لشدة (٢) وكادت الميثاق ثم تساهلهم فيه وتغيير الذات فهم من وضع اسم الإشارة الموضوع للذات موضع الصفة لا من جعل ذات واحد في خطاب واحد مخاطبا وغائبا، وإلا لفهم ذلك من نحو بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: ٥٥] أيضا. وصح الحمل مع اعتبار التغير لأنه ادعائي- وفي الحقيقة واحد- وعدوا حضورا مشاهدين باعتبار تعلق العلم بما أسند إليهم من الأفعال المذكورة سابقا وغيبا باعتبار عدم تعلق العلم بهم لما سيحكى عنهم من الأفعال بعد، لا لأن المعاصي توجب الغيبة عن غير الحضور إذ المناسب حينئذ الغيبة في تَقْتُلُونَ وَتُخْرِجُونَ قاله الساليكوتي، وتَقْتُلُونَ إما حال والعامل فيه معنى الإشارة أو بيان كأنه لما قيل ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ قالوا كيف نحن فجيء ب تَقْتُلُونَ تفسيرا له، ويحتمل أن تجعل مفسرة لها من غير تقدير سؤال، وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أَنْتُمْ مبتدأ وتَقْتُلُونَ الخبر وهؤُلاءِ تخصيص للمخاطبين لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون فيكون إذ ذاك منصوبا بأعني وفيه أن النحاة نصوا على أن التخصيص لا يكون بأسماء الإشارة ولا بالنكرة والمستقر من لسان العرب أنه يكون بأيتها كاللهم اغفر لنا أيتها العصابة وبالمعرف- باللام- كنحن العرب أقرى الناس للضيف- أو الإضافة كنحن معاشر الأنبياء لا نورث- وقد يكون بالعلم- كبنا تميما نكشف الضبابا. وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم- وقد يجيء بعد ضمير المخاطب- كبك الله نرجو الفضل، وقيل: هؤُلاءِ تأكيد لغوي «لأنتم» فهو إما بدل منه أو عطف بيان عليه وجعله من التأكيد اللفظي بالمرادف توهم، والكلام على هذا خال عن تلك النكتة، وقيل: هؤلاء بمعنى الذين والجملة صلته
(١) والفرق بين الوجهين أن صرف الخطاب من المجاز إلى الحقيقة مبتدأ من قوله ثم أقررتم على الأول ومن ثم أنتم تشهدون على الثاني فافهم اهـ منه.
(٢) هكذا الأصل، وعبارة الشهاب هكذا ليفيد أن الذي تغير هو الذات بعينها نعيا عليهم بشدة وكأنه أخذ الميثاق ثم تساهلهم فيه اهـ ولعل في النسخة تحريفا، إدارة.
311
والمجموع هو الخبر، وهذا مبني على مذهب الكوفيين حيث جوزوا كون جميع أسماء الإشارة موصولة سواء كانت بعد «ما» أو لا والبصريون يخصونه إذا وقعت بعد «ما» الاستفهامية- وهو المصحح- على أن الكلام يصير حينئذ من قبيل:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة وهو ضعيف- كما قاله الشهاب- وقرأ الحسن «تقتّلون» على التكثير وفي تفسير المهدوي أنها قراءة أبي نهيك وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ عطف على ما قبله وضمير ديارهم للفريق وإيثار الغيبة مع جواز دياركم كما في الأول للاحتراز عن توهم كون المراد إخراجهم من ديار المخاطبين من حيث ديارهم لا ديار المخرجين تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ حال من فاعل تُخْرِجُونَ أو من مفعوله قيل: أو من كليهما لأنه لاشتماله على ضميرهما يبين هيئتهما، والمعنى على الأول تخرجون متظاهرين عليهم وعلى الثاني تخرجون فريقا متظاهرا عليهم، وعلى الثالث تخرجون واقعا التظاهر منهم عليهم والتظاهر- التعاون وأصله من- الظهر- كأن المتعاونين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه «والإثم» الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم، وقيل: ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب،
وفي الحديث «الإثم ما حاك في صدرك»
وهو متعلق بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم، وكونه هنا مجازا عما يوجبه من إطلاق المسبب على سببه كما سميت الخمر إثما في قوله:
شربت «الإثم» حتى ضل عقلي كذاك «الإثم» تذهب بالعقول
مما لا يدعو إليه داع، والعدوان تجاوز الحد في الظلم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تظاهرون» بتخفيف الظاء وأصله- بتاءين- حذفت ثانيتهما عند أبي حيان وأولاهما عند هاشم وقرأ باقي السبعة بالتشديد على ادغام- التاء في الظاء- وأبو حيوة «تظاهرون» - بضم التاء وكسر الهاء- ومجاهد وقتادة باختلاف عنهما «تظهّرون» - بفتح التاء والظاء والهاء مشددتين دون ألف- ورويت عن أبي عمرو أيضا وبعضهم «تتظاهرون» على الأصل.
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ أي تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر تفدوهم وعليه بعض قراءة الباقين إذ لا مفاعلة، وفرق جمع بين فادى وفدى بأن معنى الأول بادل أسيرا بأسير والثاني جمع الفداء ويعكر عليه قول العباس رضي الله تعالى عنه فاديت نفسي وفاديت عقيلا إذ من المعلوم أنه ما بادل أسيرا بأسير، وقيل: تُفادُوهُمْ بالعنف و «تفدوهم» بالصلح وقيل: تُفادُوهُمْ تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ومنه قوله:
قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك لا أرى لهم احتفالا
وقال أبو علي: معناه لغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا منهم شيئا، وأراه هنا كسابقة في غاية البعد، والقول بأن- معنى الآية وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى في أيدي الشياطين تتصدون لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم إلى البطون- أقرب كما لا يخفى، والأسارى- قيل: جمع أسير بمعنى مأسور وكأنهم حملوا أسيرا على كسلان فجمعوه جمعه كما حملوا كسلان عليه فقالوا كسلى كذا قال سيبويه، ووجه الشبه أن الأسير محبوس عن كثير من تصرفه للأسر والكسلان محبوس عن ذلك لعادته، وقيل: إنه مجموع كذا ابتداء من غير حمل كما قالوا في قديم قدامى، وسمع بفتح الهمزة وليست بالعالية خلافا لبعضهم حيث زعم أن الفتح هو الأصل والضم ليزداد قوة، وقيل: جمع
312
أسرى- وبه قرأ حمزة. وهو جمع أسير كجريح وجرحى فيكون أسارى جمع الجمع قاله المفضل، وقال أبو عمرو:
الأسرى من في اليد، والأسارى من في الوثاق- ولا أرى فرقا- بل المأخوذون على سبيل القهر والغلبة مطلقا أسرى وأسارى.
وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ حال من فاعل تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ أو مفعوله بعد اعتبار التقييد بالحال السابقة، وقوله تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ اعتراض بينهما لا معطوف على تَظاهَرُونَ لأن الإتيان لم يكن مقارنا للإخراج وقيد الإخراج بهذه الحال لإفادة أنه لم يكن عن استحقاق ومعصية موجبة له، وتخصيصه بالتقييد دون القتل للاهتمام بشأنه لكونه أشد منه وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: ١٩١] وقيل: لا بل لكونه أقل خطرا بالنسبة إلى القتل فكان مظنة التساهل، ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم وذلك مختص بصورة الإخراج إذ لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص وهو السر في تخصيص التظاهر فيما سبق، وقيل:
النكتة في إعادة تحريم الإخراج وقد أفاده- لا تخرجون أنفسكم- بأبلغ وجه، وفي تخصيص تحريم الإخراج بالإعادة دون القتل أنهم امتثلوا حكما في باب المخرج وهو الفداء وخالفوا حكما وهو الإخراج فجمع مع الفداء حرمة الإخراج ليتصل به «أفتؤمنون» إلخ أشد اتصال ويتضح كفرهم بالبعض وإيمانهم بالبعض كمال اتضاح حيث وقع في حق شخص واحد، والضمير للشأن والجملة بعده خبره وقيل: خبره مُحَرَّمٌ وإِخْراجُهُمْ نائب فاعل وهو مذهب الكوفيين وتبعهم المهدوي، وإنما ارتكبوه لأن الخبر المتحمل ضميرا مرفوعا لا يجوز تقديمه على المبتدأ فلا يجيزون قائم زيد على أن يكون قائم خبرا مقدما، والبصريون يجوزون ذلك ولا يجيزون هذا الوجه لأن ضمير الشأن لا يخبر عنه عندهم إلا بجملة مصرح بجزأيها، وقيل: إنه ضمير مبهم مبتدأ أيضا ومُحَرَّمٌ خبره وإِخْراجُهُمْ بدل منه مفسر له، وهذا بناء على جواز إبدال الظاهر من الضمير الذي لم يسبق ما يعود إليه، ومنهم من منعه وأجازه الكسائي، وقيل:
راجع إلى الإخراج المفهوم من تُخْرِجُونَ وإِخْراجُهُمْ عطف بيان له أو بدل منه أو من ضمير محرم، وضعف بأنه بعد عوده إلى الإخراج لا وجه لإبداله منه. ومن الغريب ما نقل عن الكوفيين أنه يحتمل أن يكون هو ضمير فصل، وقد تقدم مع الخبر والتقدير- وإخراجهم هو محرم عليكم- فلما قدم خبر المبتدأ عليه قدم هو معه ولا يجوزه البصريون- لأن وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة- لا يجوز عندهم وتوسطه بين المبتدأ والخبر أو بين ما هما أصله شرط عندهم أيضا ولابن عطية في هذا الضمير كلام يجب إضماره أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ عطف على تَقْتُلُونَ أو على محذوف أي أتفعلون ما ذكر فَتُؤْمِنُونَ إلخ والاستفهام للتهديد والتوبيخ على التفريق بين أحكام الله تعالى إذ العهد كان بثلاثة أشياء ترك القتل وترك الإخراج ومفاداة الأسارى فقتلوا وأخرجوا على خلاف العهد وفدوا بمقتضاه، وقيل: المواثيق أربعة فزيد ترك المظاهرة، وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء ما لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه العرب فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن، وروى محيي السنة عن السدي أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه فأعتقوه، ولعل كفرهم بما ارتكبوا لاعتقادهم عدم الحرمة مع دلالة صريح التوراة عليها لكن ما في الكشاف من أنه قيل لهم: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟! فقالوا: أمرنا بالفداء وحرم علينا القتال لكنا نستحي من حلفائنا يدل على أنهم لا ينكرون حرمة القتال فإطلاق الكفر حينئذ على فعل ما حرم إما لأنه كان في شرعهم كفرا أو أنه للتغليظ كما أطلق على ترك الصلاة ونحوه ذلك في شرعنا، والقول بأن المعنى
313
أتستعملون البعض وتتركون البعض فالكلام محمول على المجاز بهذا الاعتبار لا اعتبار به كالقول بأن المراد بالبعض المؤمن به نبوة موسى عليه السلام، والبعض الآخر نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم.
فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض، أو إلى ما فعلوه من القتل والاجلاء مع مفاداة- الأسارى- والجزاء المقابلة ويطلق في الخير والشر- والخزي- الهوان، والماضي- خزي- بالكسر، وقال ابن السكيت: معنى- خزي- وقع في بلية- وخزي- الرجل- خزاية- إذا استحى وهو- خزيان- وقوم- خزايا- وامرأة- خزيا- والمراد به هنا الفضيحة والعقوبة أو ضرب الجزية غابر الدهر أو غلبة العدو أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا وأذرعات.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان عادت بني قريظة القتل وعادة بني النضير الإخراج فلما غلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجلى بني النضير وقتل رجال قريظة وأسر نساءهم وأطفالهم وتنكير- الخزي- للإيذان بفظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغا لا يكنه كنهه، ومن هنا لم يخصه بعضهم ببعض الوجوه، وادعى أن الأظهر ذلك وجعل الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض أي بعض كان ولذلك أفردها، وحينئذ يتناول الكفرة بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونظيره من يفعل جميع ذلك، والدُّنْيا مأخوذة من دنا يدنو وياؤها منقلبة عن- واو- ولا يحذف منها- الألف واللام- إلا قليلا، وخصه أبو حيان في الشعر، وما نافية ومِنْ إن جعلت موصولة فلا محل ليفعل من الإعراب، وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتها، ومِنْكُمْ حال من فاعل- يفعل- وإِلَّا خِزْيٌ استثناء مفرغ وقع خبرا للمبتدأ ولا يجوز النصب في مثل ذلك على المشهور. ونقل عن يونس إجازته في الخبر بعد إِلَّا كائنا ما كان، وقال بعضهم: إن كان مَا بعد إلا هو الأول في المعنى أو منزل منزلته لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور، وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلا منزلة الأول، وإن كان وصفا أجاز فيه الفراء النصب- ومنعه البصريون- وحكي عنهم أنهم لا يجوزون النصب في غير المصادر إلا أن يعرف المعنى فيضمر ناصب حينئذ وتحقيقه في محله.
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ أي يصيرون إليه فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشد العذاب، وقد يراد بالرد الرجوع إلى ما كانوا فيه كما في قوله تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ [القصص: ١٣] وكأنهم كانوا في الدنيا، أو في القبور في أشد العذاب أيضا فردوا إليه، والمراد به الخلود في النار وأشديته من حيث إنه لا انقضاء له، أو المراد أشد جميع أنواع العذاب ولكن بالنسبة إلى عذاب من لم يفعل هذا العصيان لأن عصيانهم أشد من عصيان هؤلاء وجزاء سيئة سيئة مثلها ويدل على ما قررناه قوله تعالى: مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ فلا يرد ما أورده الإمام الرازي أنه كيف يكون عذاب اليهود أشد من الدهرية المنكرين للصانع ولا يفيد ما قيل لأنهم كفروا بعد معرفتهم أنه كتاب الله تعالى وإقرارهم وشهادتهم إذ الكافر الموحد كيف يقال إنه أشد عذابا من المشرك؟! أو النافي للصانع وإن كان كفره عن علم ومعرفة. وضمير يُرَدُّونَ راجع إلى مِنْ وأوثر صيغة الجمع نظرا إلى معناها بعد ما أوثر الإفراد نظرا إلى لفظها لما أن الرد إنما يكون بالاجتماع وغير السبك حيث لم يقل مثلا- وأشد العذاب يوم القيامة- للإيذان بكمال التنافي بين جزاءي النشأتين، وتقديم- اليوم- على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال من أول الأمر، وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما، وعاصم في رواية المفضل- تردون- على الخطاب، والجمهور على الغيبة، ووجه ذلك أن يُرَدُّونَ راجع إلى من يفعل فمن قرأ بصيغة الغيبة نظر إلى صيغة مِنْ ومن قرأ بصيغة الخطاب نظر إلى دخوله في مِنْكُمْ لا أن الضمير حينئذ راجع إلى «كم» كما وهم وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ اعتراض وتذييل
314
لتأكيد الوعيد المستفاد مما قبله أي- إنه بالمرصاد لا يغفل عما تعملون من القبائح- التي من جملتها هذا المنكر والمخاطب به من كان مخاطبا بالآية قبل، وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم تعنون بهذا يا أمة محمد وبما يجري مجراه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر- «يعملون» - بالياء على أن الضمير لمن والباقون بالتاء من فوق أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ الموعودون (١) به يوم القيامة أو مطلق الْعَذابُ دنيويا كان أو أخرويا.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بدفع الخزي إلى آخر الدنيا أو بدفع الجزية في الدنيا، والتعذيب في العقبى، وعلى الاحتمال الأول في الأمرين يستفاد نفي دفع العذاب من نفي تخفيفه بأبلغ وجه وآكده، ورجحه بعضهم بأن المقام على الثاني يستدعي تقديم نفي الدفع على نفي التخفيف، وتقديم المسند إليه لرعاية الفاصلة والتقوى لا للحصر إذ ليس المقام مقامه، ولذا لم يقل فلا عنهم يخفف العذاب، والجملة معطوفة على الصلة. ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانا، وجوز أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ خبره، وهذه الجملة خبر بعد خبر، والفاء لما أن الموصول إذا كانت صلته فعلا كان فيها معنى الشرط، وفيه أن معنى الشرطية لا يسري إلى المبتدأ الواقعة خبرا عنه، وجوز أيضا أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ مبتدأ ثان، وهذه الجملة خبر الثاني، والمجموع خبر الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأن الذين هم أولئك، ولا يخفى ما فيه هذا «ومن باب الإشارة» في هذه الآيات وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ بميلكم إلى هوى النفس وطباعها ومتاركتكم حياتكم الحقيقية لأجل تحصيل لذاتكم الدنية ومآربكم الدنيوية وَلا تُخْرِجُونَ ذواتكم من مقارّكم الروحانية، ورياضتكم القدسية ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بقبولكم لذلك وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عليه باستعداداتكم الأولية وعقولكم الفطرية ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ الساقطون عن الفطرة المحتجبون عن نور الاستعداد تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وتهلكونها بغوايتكم ومتابعتكم الهوى وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ من أوطانهم القديمة بإغوائهم وإضلالهم وتحريضهم في ارتكاب المعاصي تتعاونون عليهم بارتكاب الفواحش ليروكم فيتبعوكم فيها وبإلزامكم إياهم رذائل القوتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى في قيد ما ارتكبوه ووثاق شين ما فعلوه قد أخذتهم الندامة وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار تفادوهم بكلمات الحكمة والموعظة الدالة على أن اللذات المستعلية هي العقلية والروحية وأن اتباع النفس مذموم رديء فيتعظوا بذلك ويتخلصوا من هاتيك القيود سويعة أَفَتُؤْمِنُونَ ببعض كتاب العقل والشرع قولا وإقرارا وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فعلا وعملا فلا تنتهون عما نهاكم عنه فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا ذلة وافتضاح في الحياة الدنيا ويوم مفارقة الروح البدن يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وهو تعذيبهم بالهيئات المظلمة الراسخة في نفوسهم واحترافهم بنيرانها وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عن أفعالكم أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم، وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به، والإيتاء- الإعطاء، والْكِتابَ التوراة في قول الجمهور وهو مفعول ثان- لآتينا- وعند السهيلي مفعول أول، والمراد بإتيانها له إنزالها عليه.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة نزلت جملة واحدة فأمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق فبعث بكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها فخففها الله
(١) قوله: الموعودون به كذا بخط مؤلفه وتأمل اهـ مصححه.
315
تعالى لموسى عليه السلام فحملها،
وقيل، يحتمل أن يكون- آتينا- إلخ أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه، والكلام على حذف مضاف أي علم- الكتاب- أو فهمه وليس بالظاهر وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يقال- قفاه- إذا اتبعه- وقفاه- به إذا أتبعه إياه من- القفا- وأصل هذه الياء واو لأنها متى وقعت رابعة أبدلت كما تقول عريت من العرو أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [المؤمنون: ٤٤] وكانوا إلى زمن عيسى عليه السلام أربعة آلاف، وقيل: سبعين ألفا وكلهم على شريعته عليه السلام منهم يوشع.
وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير وخزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام وقرأ الحسن. ويحيى بن يعمر- بالرسل- بتسكين السين، وهو لغة أهل الحجاز والتحريك لغة تميم وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الحجج الواضحة الدالة على نبوته فتشمل كل معجزة- أوتيها- عليه السلام وهو الظاهر، وقيل: الإنجيل، وعيسى أصله بالعبرانية أيشوع بهمزة ممالة بين بين، أو مكسورة- ومعناه السيد- وقيل: المبارك فعرب، والنسبة إليه عيسى وعيسوي وجمعه عيسون بفتح السين- وقد تضم- وأفرده عن الرسل عليه السلام لتميزه عنهم لكونه من أولي العزم وصاحب كتاب، وقيل: لأنه ليس متبعا لشريعة موسى عليه السلام حيث نسخ كثيرا من شريعته. وأضافه إلى أمه ردا على اليهود إذ زعموا أن له أبا، ومريم بالعبرية الخادم وسميت أم عيسى به لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس، وقيل: العابدة، وبالعربية من النساء من تحب محادثة الرجال فهي كالزير من الرجال، وهو الذي يحب محادثة النساء، قيل: ولا يناسب مريم أن يكون عربيا لأنها كانت برية عن محبة محادثة الرجال اللهم إلا أن يقال سميت بذلك تمليحا كما يسمى الأسود كافورا، وقال بعض المحققين: لا مانع من تسميتها بذلك بناء على أن شأن من تخدم من النساء ذلك، وفي القاموس هي التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر- وعليه لا بأس بالتسمية كما ذكره المولى عصام- والأولى عندي أن التسمية وقعت بالعبري لا بالعربي بل يكاد يتعين ذلك كما لا يخفى على المنصف وعن الأزهري المريم المرأة التي لا تحب مجالسة الرجال وكأنه قيل لها ذلك تشبيها لها بمريم البتول ووزنه عربيا مفعل لا فعيلا (١) لأنه لم يثبت في الأبنية على المشهور، وأثبته الصاغاني في الذيل، وقال: إنه مما فات سيبويه، ومنه عثير للغبار، وضهيد- بالمهملة والمعجمة- للصلب واسم موضع، ومدين على القول بأصالة ميمه، وضهيا بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض أو لا ثدي لها من المضاهاة كأنها أطلق عليها ذلك لمشابهتها الرجل وابن جني يقول: إن ضهيد وعثير مصنوعان فلا دلالة فيهما على إثبات فعيل، وذكر الساليكوتي أن عثير بمعنى الغبار- بكسر العين- وإذا كان مفعلا فهو أيضا على خلاف القياس إذ القياس إعلاله بنقل حركة الياء إلى الراء وقلبها ألفا نحو مباع لكنه شذ كما شذ مدين، ومزيد، وإذا كان من رام يريم إذا فارق وبرح فالقياس كسر يائه أيضا وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي قويناه بجبريل عليه السلام وإطلاق بِرُوحِ الْقُدُسِ عليه شائع فقد قال سبحانه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: ١٠٢]
وقال صلّى الله عليه وسلّم لحسان رضي الله تعالى عنه «اهجهم وروح القدس معك» ومرة قال له: «وجبريل معك» وقال حسان:
وجبريل وروح القدس فينا «وروح القدس» ليس له كفاء
والْقُدُسِ الطهارة والبركة، أو- التقديس- ومعناه التطهير. والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص. وهي معنوية بمعنى- اللام- فإذا أضيف العلم كذلك يكون مؤولا بواحد من المسمين به.
(١) قوله: لا فعيلا كذا بخطه اهـ مصححه.
316
وقال مجاهد والربيع: الْقُدُسِ من أسماء الله تعالى- كالقدوس- وزعم بعضهم أن إطلاق الروح على جبريل مجاز لأنه الريح المتردد في مخارق الإنسان- ومعلوم أن جبريل ليس كذلك- لكنه أطلق عليه على سبيل التشبيه من حيث إن- الروح- سبب الحياة الجسمانية، وجبريل سبب الحياة المعنوية بالعلوم، وكأن هذا الزعم نشأ من كثافة روح الزاعم وعدم تغذيها بشيء من العلوم، وخص عيسى عليه السلام بذكر التأييد بِرُوحِ الْقُدُسِ لأنه تعالى خصه به من وقت صباه إلى حال كبره، كما قال تعالى: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [المائدة:
١١٠] ولأنه حفظه حتى لم يدن منه الشيطان، ولأنه بالغ اثنا عشر ألف يهودي لقتله، فدخل عيسى بيتا فرفعه عليه السلام مكانا عليا. وقيل:- الروح- هنا اسم الله تعالى الأعظم الذي كان يحيي به الموتى- وروي ذلك كالأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقال ابن زيد: الإنجيل- كما جاء في شأن القرآن- قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وذلك لأنه سبب للحياة الأبدية والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش الذي هو سبب الحياة الدنيوية، وقيل: روح عيسى عليه السلام نفسه، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته عليه تعالى- ولذلك أضافها إلى نفسه- أو لأنه لم يضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث، بل حصل من نفخ جبريل عليه السلام في درع أمه فدخلت النفخة في جوفها، وقرأ ابن كثير «القدس» - بسكون الدال- حيث وقع، وأبو حيوة «القدوس» بواو.
أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ مسبب عن قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء، وقد أدخلت- الهمزة- بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا، والتعجيب من شأنهم على معنى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول- فعكستم بأن كذبتم- ويحتمل أن يكون ابتداء كلام- والفاء- للعطف على مقدر كأنه قيل: أفعلتم ما فعلتم- فكلما جاءكم- ثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد- الفاء- فيكون العطف للتفسير، وأن يكون غيره مثل «أكفرتم النعمة واتبعتم الهوى» فيكون لحقيقة التعقيب، وضعف هذا الاحتمال بما ذكره الرضي أنه لو كان كذلك لجاز وقوع- الهمزة- في الكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفا عليه- ولم تجئ إلا مبنية على كلام متقدم، وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة- بالواو أو الفاء، أو ثم- في محلها الأصلي، أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية، وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع- على هذا- وفي البعض- على ذلك- بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام- والقلب يميل إليه- قيل: ولا يلزم بطلان صدارة- الهمزة- إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه، وتعلق معناها بمضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول، أو لوقوعه بعده متراخيا أو غير متراخ، وهذا مراد من قال: إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد اعتبار عطفه، ولم يرد أنها صلة وتَهْوى من- هوي- بالكسر إذا أحب، ومصدره- هوى- بالقصر، وأما- هوى- بالفتح فبمعنى سقط، ومصدره- هوي- بالضم وأصله فعول فأعل وقال المرزوقي: هوى- انقض انقضاض النجم والطائر، والأصمعي يقول: هوت العقاب إذا انقضت لغير الصيد.
وأهوت إذا انقضت للصيد، وحكى بعضهم أنه يقال: هوى يهوي هويا- بفتح الهاء- إذا كان القصد من أعلى إلى أسفل، وهوى يهوي هويا بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى- وما ذكرناه أولا هو المشهور- والهوي- يكون في الحق وغيره، وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر، ومنه هذه الآية. وعبر عن المحبة بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر، ومتعلق اسْتَكْبَرْتُمْ محذوف أي
317
عن الإيمان بما جاء به مثلا، واستفعل هنا بمعنى تفعل.
فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ الظاهر أنه عطف على اسْتَكْبَرْتُمْ والفاء للسببية إن كان التكذيب والقتل مرتبين على الاستكبار، وللتفصيل إن كانا نوعين منه، وجوز الراغب أن يكون عطفا على وَأَيَّدْناهُ ويكون أَفَكُلَّما مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار، وقدم فَرِيقاً في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، وثم محذوف أي فَرِيقاً منهم، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول، ونسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية واستحضارا لصورتها لفظاعتها واستعظامها، أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض. والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة سواء ترتب عليه أولا، وقيل: لا حاجة إلى التعميم لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع
في الصحيح بلفظ «وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم»
وفيه أنه لم يتحقق منهم القتل زمان نزول الآية بل مباشرة الأسباب فلا بد من التعميم.
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ عطف على اسْتَكْبَرْتُمْ أو على كَذَّبْتُمْ فتكون تفسيرا للاستكبار، وعلى التقديرين فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عن مخاطبتهم وإبعادا لهم عن عز الحضور، والقائلون هم الموجودون في عصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والغلف- جمع أغلف كأحمر وحمر وهو الذي لا يفقه، قيل وأصله ذو الغلفة الذي لم يختن، أو جمع غلاف ويجمع على غلف بضمتين أيضا. وبه قرأ ابن عباس وغيره، وأرادوا على الأول قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن نفوذ ما جئت به فيها، وهذا كقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥] قصدوا به إقناط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الإجابة وقطع طمعه عنهم بالكلية، وقيل: مغشاة بعلوم من التوراة نحفظها أن يصل إليها ما تأتي به، أو بسلامة من الفطرة كذلك، وعلى الثاني أنها أوعية العلم فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعته- قاله ابن عباس. وقتادة والسدي- أو مملوءة علما فلا تسع بعد شيئا فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، روي ذلك عن ابن عباس أيضا، وقيل: أرادوا أنها أوعية العلم فكيف يحل لنا اتباع الأمي ولا يخفى بعده.
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ رد لما قالوه، وتكذيب لهم فيما زعموه، والمعنى أنها خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الموصل إلى الحق لكن الله تعالى أبعدهم، وأبطل استعدادهم الخلقي للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقا وصدقا بل لأنه سبحانه طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم. أو أن الله تعالى أقصاهم عن رحمته فأنى لهم ادعاء العلم الذي هو أجل آثارها، ويعلم من هذه الوجوه كيفية الرد على ما قيل قبل من الوجوه فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ الفاء لسببية اللعن لعدم الايمان، وقليلا- نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب «ما» مزيدة لتأكيد معنى القلة لا نافية لأن ما في حيزها لا يتقدمها ولأنه وإن كان بمعنى- لا يؤمنون قليلا فضلا عن الكثير- لكن ربما يتوهم لا سيما مع التقديم أنهم لا يؤمنون قليلا بل كثيرا، ولا مصدرية لاقتضائها رفع القليل بأن يكون خبرا، والمصدر المعرف بالإضافة مبتدأ، والتقدير فإيمانهم قليل، وجوز بعضهم- كونها نافية بناء على مذهب الكوفيين من جواز تقدم ما في حيزها عليها ولم يبال بالتوهم وآخرون كونها مصدرية، والمصدر فاعل «قليلا» وكانوا مقدرة في نظم الكلام
318
فتكون على طرز كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [الذاريات: ١٧]، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وجوز أيضا انتصاب قليلا على الحال إما من ضمير الإيمان أو من فاعل يُؤْمِنُونَ والتقدير فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلته، وهو المروي عن سيبويه أو «فيؤمنون» حال كونهم جمعا قليلا أي المؤمن منهم قليل، وهو المروي عن ابن عباس وطلحة وقتادة، ولذا جوز كونه نعتا للزمان أي زمانا قليلا وهو زمان الاستفتاح أو بلوغ الروح التراقي، أو ما قالوا آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران: ٧٢] وأولى الوجوه أولها، والظاهر أن المراد بالإيمان المعنى اللغوي، والقلة مقابل الكثرة، وقال الزمخشري: يجوز أن تكون بمعنى العدم، وكأنه أخذه من كلام الواقدي لا قليلا ولا كثيرا واعترضه في البحر بأن القلة بمعنى النفي، وإن صحت لكن في غير هذا التركيب لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير قمت قليلا أي قياما قليلا، ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت قليلا صفة لمصدره يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا، وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم- أقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد- فحملها هنا على ذلك ليس بصحيح، وليت شعري أي معنى لقولنا يُؤْمِنُونَ إيمانا معدوما، وما نقل الكسائي عن العرب أنهم يقولون: مررنا بأرض قليلا ما تنبت ويريدون لا تنبت شيئا فإنما ذلك لأن قليلا حال من الأرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية والتقدير قليلا إنباتها فلا مانع فيه من حمل القلة على العدم- وأين ما نحن فيه- من ذاك اللهم إلا على بعض الوجوه المرجوحة لكن الزمخشري غير قائل به، ويمكن أن يقال: إن ذلك على طريق الكناية فإن قلة الشيء تستتبع عدمه في أكثر الأوقات لا على أن لفظ القلة مستعمل بمعنى العدم فإنه هنا قول بارد جدا ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة.
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو القرآن وتنكيره للتعظيم ووصفه بما عنده للتشريف والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه ويتبع لأنه من خالقهم وإلههم الناظر في مصالحهم، والجملة عطف على قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أي وكذبوا لما جاءهم إلخ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من كتابهم أي نازل حسبما نعت أو مطابق له، ومُصَدِّقٌ صفة ثانية لكتاب وقدمت الأولى عليها لأن الوصف بكينونته من عنده تعالى آكد ووصفه بالتصديق ناشىء عنها وجعله مصدقا ل «كتابهم» لا مصدقا به إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم لكونه مشتملا على الإخبار عنه محتاجا في صدقه إليه وإلى أنه بإعجازه مستغن عن تصديق الغير، وفي مصحف أبيّ «مصدقا» بالنصب، وبه قرأ ابن أبي عبلة، وهو حينئذ حال من الضمير المستقر في الظرف، أو من كتاب لتخصيصه بالوصف المقرب له من المعرفة، واحتمال أن الظرف لغو متعلق ب جاءَهُمْ بعيد- فلا يضر- على أن سيبويه جوّز مجيء الحال من النكرة بلا شرط وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة- والمعنى يطلبون من الله تعالى أن ينصرهم به على المشركين، كما روى السدي أنهم كانوا إذا اشتد الحرب بينهم وبين المشركين أخرجوا التوراة ووضعوا أيديهم على موضع ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقالوا: اللهم إنا نسألك بحق نبيك الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان أن تنصرنا اليوم على عدونا فينصرون- فالسين- للطلب- والفتح- متضمن معنى النصر بواسطة عَلَى أو يفتحون عليهم من قولهم: فتح عليه إذا علمه ووقفه كما في قوله تعالى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٧٦] أي يعرفون المشركين أن نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه- فالسين- زائدة للمبالغة، كأنهم فتحوا بعد طلبه من أنفسهم- والشيء بعد الطلب أبلغ- وهو من باب التجريد، جرّدوا من أنفسهم أشخاصا وسألوهم
319
الفتح كقولهم: استعجل كأنه طلب العجلة من نفسه، ويؤول المعنى إلى يا نفس عرّفي المشركين أن نبيا يبعث منهم، وقيل: يَسْتَفْتِحُونَ بمعنى يستخبرون عنه صلى الله تعالى عليه وسلم، هل ولد مولود صفته كذا وكذا؟ نقله الراغب وغيره، وما قيل: إنه لا يتعدى ب عَلَى لا يسمع بمجرد التشهي.
فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ كنى عن الكتاب المتقدم ب ما عَرَفُوا لأن معرفة من أنزل عليه معرفة له، والاستفتاح به استفتاح به، وإيراد الموصول دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم، ويحتمل أن يراد به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما قد يعبر بها عن صفات من يعقل، وبعضهم فسره بالحق إشارة إلى وجه التعبير عنه عليه الصلاة والسلام ب ما وهو أن المراد به الحق- لا خصوصية ذاته المطهرة- وعرفانهم ذلك حصل بدلالة المعجزات والموافقة لما نعت في كتابهم- فإنه كالصريح عند الراسخين- فلا يرد أن نعت الرسول في التوراة إن كان مذكورا على التعيين فكيف ينكرونه فإنه مذكور بالتواتر- وإلا فلا عرفان للاشتباه- على أن الإيراد في غاية السقوط، لأن الآية مساقة على حد قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤] أي جحدوه مع علمهم به- وهذا أبلغ في ذمهم- وكَفَرُوا جواب ل «ما» الأولى ول «ما» الثانية تكرير لها لطول العهد كما في قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران: ١٨٨] وإلى ذلك ذهب المبرد، وقال الفراء: ل «ما» الثانية مع جوابها جواب الأولى كقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ [البقرة: ٣٨] إلخ، وعلى الوجهين يكون قوله سبحانه: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ جملة حالية بتقدير- قد- مقررة، واختار الزجاج والأخفش أن جواب الأولى محذوف- أي كذبوا به مثلا- وعليه يكون وَكانُوا مِنْ قَبْلُ إلخ مع ما عطف عليه من قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ من الشرط، والجزاء جملة معطوفة على «لما جاءهم» بعد تمامها، تدل الأولى على معاملتهم مع الكتاب المصدق، والثانية مع الرسول المستفتح به، وارتضاه بعض المحققين- لما- في الأول من لزوم التأكيد- والتأسيس أولى منه- واستعمال الفاء للتراخي الرتبي فإن مرتبة المؤكد بعد مرتبة المؤكد، ولما- في الثاني من دخول الفاء في جواب «لما» مع أنه ماض وهو قليل جدا حتى لم يجوزه البصريون ولو جوز وقوعها زائدة فَلَمَّا لا تجاب بمثلها لا يقال- لما جاء زيد، لما قعد عمرو أكرمتك- بل هو كما ترى تركيب معقود في لسانهم مع خلو الوجهين عن فائدة عظيمة وهو بيان سوء معاملتهم مع الرسول واستلزامهما جعل وَكانُوا حالا، واختار أبو البقاء أن كَفَرُوا جواب- لما- الأولى، والثانية ولا حذف لأن مقتضاهما واحد وليس بشيء كجعل فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ جوابا للأولى وما بينهما اعتراض واللام في الكافرين للعهد أي عليهم ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه، وجوز كونها للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا، واعترض بأن دلالة العام متساوية فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء، والجواب أن المراد دخولا قصديا لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم ويكون ذلك من الكناية الإيمائية ويصار إليها إذا كان الموصوف مبالغا في ذلك الوصف ومنهمكا فيه حتى إذا ذكر خطر ذلك الوصف بالبال كقولهم لمن يقتني رذيلة ويصر عليها- أنا إذا نظرتك خطر ببالي سبابك وسباب كل من هو من أبناء جنسك- فاليهود لما بالغوا في الكفر والعناد وكتمان أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونعى الله تعالى عليهم ذلك صار الكفر كأنه صفة غير مفارقة لذكرهم وكان هذا الكلام لازما لذكرهم ورديفه وأنهم أولى الناس دخولا فيه لكونهم تسببوا استجلاب هذا القول في غيرهم وجعل السكاكي من هذا القبيل قوله:
320
فإنه في إفادة كرم بني حنبل كما ترى لا خفاء فيه بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي باعوا، فالأنفس بمنزلة المثمن، والكفر بمنزلة الثمن لأن أنفسهم الخبيثة لا تشترى بل تباع وهو على الاستعارة أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه، وقيل: هو بمعناه المشهور لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه فكأنه اشترى نفسه بها فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم وخلصوها فذمهم الله تعالى عليه، واعترض بأنه كيف يدعي أنهم ظنوا ذلك مع قوله تعالى:
فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فإذا علموا مخالفة الحق كيف يظنون نجاتهم بما فعلوا وإرادة العقاب الدنيوي كترك الرياسة غير صحيح لأن لا يشترى به الأنفس؟ ويمكن الجواب بأن المراد أنهم ظنوا على ما هو ظاهر حالهم من التصلب في اليهودية والخوف فيما يأتون ويذرون وادعاء الحقية فيه فلا ينافي عدم ظنهم في الواقع على ما تدل عليه الآية، والمراد بما أنزل الله الكتاب المصدق، وفي تبديل المجيء بالإنزال المشعر بأنه من العالم العلوي مع الإسناد إليه تعالى إيذان بعلو شأنه وعظمه الموجب للإيمان به، وقيل: يحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل وأن يراد الجميع، والكفر ببعضها كفر بكلها، واختلف في ما الواقعة بعد بئس ألها محل من الإعراب أم لا فذهب الفراء إلى أنها لا محل لها وأنها مع بئس شيء واحد كحبذا، وذهب الجمهور إلى أن لها محلا، واختلف أهو نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى الأول على أنها تمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بها، والتقدير بئس هو شيئا اشتروا به، وأَنْ يَكْفُرُوا هو المخصوص بالذمّ والتعبير بصيغة المضارع لإفادة الاستمرار على الكفر فإنه الموجب للعذاب المهين، ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص محذوفا، واشْتَرَوْا صفة له، والتقدير بئس شيء اشتروا به، وأَنْ يَكْفُرُوا بدل من المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف، وذهب الكسائي إلى النصب على التمييز أيضا إلا أنه قدر بعدها ما أخرى موصولة هي المخصوص بالذم، واشْتَرَوْا صلتها، والتقدير بئس شيئا الذي اشتروا، وذهب سيبويه إلى الثاني على أنها فاعل بئس وهي معرفة تامة، والمخصوص محذوف أي شيء اشْتَرَوْا، وعزى هذا إلى الكسائي أيضا، وقيل: موصولة وهو أحد قولي الفارسي وعزاه ابن عطية إلى سيبويه وهو وهم، ونقل المهدوي عن الكسائي أن ما مصدرية والمتحصل فاعل بئس واعترض بأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير، ولك على هذا التقدير أن لا تجعل ذلك فاعلا بل تجعله المخصوص والفاعل مضمر والتمييز محذوف لفهم المعنى، والتقدير- بئس اشتراء اشتراؤهم- فلا يلزم الاعتراض، نعم يرد عود ضمير به على ما والمصدرية لا يعود عليها الضمير لأنها حرف عند غير الأخفش فافهم بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ- البغي- في الأصل الظلم والفساد من قولهم- بغى- الجرح فسد قاله الأصمعي، وقيل أصله الطلب، وتختلف أنواعه ففي طلب زوال النعمة حسد، والتجاوز على الغير ظلم، والزنا فجور، والمراد به هنا بمعونة المقام طلب ما ليس لهم فيؤول إلى الحسد، وإلى ذلك ذهب قتادة وأبو العالية والسدي، وقيل: الظلم وانتصابه على أنه مفعول له ليكفرون فيفيد أن كفرهم كان لمجرد العناد الذي هو نتيجة الحسد لا للجهل وهو أبلغ في الذم لأن الجاهل قد يعذر، وذهب الزمخشري إلى أنه علة اشْتَرَوْا ورد بأنه يستلزم الفصل بالأجنبي وهو المخصوص بالذم وهو وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعله لكن لا خفاء في أنه أجنبي بالنسبة إلى الفعل الذي وصف به تمييز الفاعل، والقول بأن المعنى- على ذم ما باعوا به أنفسهم حسدا وهو الكفر لا على ذم ما باعوا به أنفسهم وهو الكفر حسدا- تحكم، نعم قد يقال: إنما يلزم الفصل بأجنبي إذا كان المخصوص مبتدأ خبره بئسما أما لو كان خبر مبتدأ محذوف- وهو المختار- فلا لأن الجملة حينئذ جواب للسؤال عن فاعل «بئس» فيكون الفصل بين المعلول وعلته بما هو بيان للمعلول ولا امتناع فيه، وجعله بعضهم علة ل اشْتَرَوْا محذوفا فرارا من الفصل، ومنهم من أعربه حالا ومفعولا
321
مطلقا لمقدر أي بغوا بغيا، وأَنْ يُنَزِّلَ إما مفعول من أجله للبغي أي حسدا لأجل تنزيل الله، وإما على إسقاط الخافض المتعلق بالبغي أي حسدا على أَنْ يُنَزِّلَ والقول بأنه في موضع خفض على أنه بدل اشتمال من ما في قوله: بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بعيدا جدا، وربما يقرب منه ما قيل: إنه في موضع المفعول الثاني، والبغي بمعنى طلب الشخص ما ليس له يتعدى إليه بنفسه تارة، وباللام أخرى، والمفعول الأول هاهنا أعني محمدا عليه الصلاة والسلام محذوف لتعينه وللدلالة على أن الحسد مذموم في نفسه كائنا ما كان المحسود- كما لا يخفى- وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو ويعقوب «ينزل» بالتخفيف مِنْ فَضْلِهِ أراد به الوحي، ومِنْ لابتداء الغاية صفة لموصوف محذوف أي شيئا كائنا مِنْ فَضْلِهِ وجوّز أبو البقاء أن تكون زائدة على مذهب الأخفش عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي على من يختاره للرسالة، وفي البحر أن المراد به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب ومن ولد إسماعيل- ولم يكن من ولده نبي سواه عليه الصلاة والسلام وإضافة- العباد- إلى ضميره تعالى للتشريف، ومِنْ إما موصولة أو موصوفة.
فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ تفريع على ما تقدم، أي فرجعوا متلبسين بِغَضَبٍ كائن عَلى غَضَبٍ مستحقين له حسبما اقترفوا من الكفر والحسد. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغضب «الأول» لعبادة العجل «والثاني» لكفرهم به صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال قتادة: «الأول» كفرهم بالإنجيل «والثاني» كفرهم بالقرآن، وقيل: هما الكفر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، أو قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] ويَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: ٦٤] وغير ذلك من أنواع كفرهم، وكفرهم الأخير بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى أن- فاء العطف- يقتضي صيرورتهم أحقاء بترادف الغضب لأجل ما تقدم، وقولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مثلا غير مذكور فيما سبق، ويحتمل أن يراد بقوله سبحانه: بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وفيه إيذان بتشديد الحال عليهم جدا كما في قوله:
إذا الله لم يسق إلا الكراما فيسقي وجوه بني حنبل
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ولكنه رمح «وثان وثالث»
ومن الناس من زعم أن- الفاء فصيحة- والمعنى فإذا كفروا وحسدوا على ما ذكر فَباؤُ إلخ، وليس بشيء.
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ- اللام- في «الكافرين» للعهد، والإظهار في موضع الإضمار للإيذان بعلية كفرهم لما حاق بهم ويحتمل أن تكون للعموم فيدخل المعهودون فيه على طرز ما مر. والمهين- المذل، وأصله مهون فأعل، وإسناده إلى العذاب مجاز من الإسناد إلى السبب- والوصف به للتقييد- والاختصاص الذي يفهمه تقديم الخبر بالنسبة إليه، فغير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير- لا للإهانة والإذلال- ولذا لم يوصف عذاب غيرهم به في القرآن فلا تمسك للخوارج بأنه خص العذاب ب «الكافرين» فيكون الفاسق كافرا لأنه معذب ولا للمرجئة أيضا.
322
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ظرف ل قالُوا والجملة عطف على قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ولا غرض يتعلق بالقائل، فلذا بني الفعل لما لم يسم فاعله، والظاهر أنه من جانب المؤمنين.
آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الجمهور على أنه القرآن، وقيل: سائر ما أنزل من الكتب الإلهية إجراء لما على العموم «ومع هذا» جلّ الغرض الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم منه إشعارا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما في حيز الصلة وموافقته له في المضمون، وتنبيها على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيمانا بما أنزل الله قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها، وحذف الفاعل للعلم به إذ من المعلوم أنه لا ينزل الكتب إلا هو سبحانه، ولجريان ذكره في الخطاب ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل- وهو الظاهر- وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيا وحسدا على نزوله على من ليس منهم- وإما أنفسهم- ومعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن- ودسائس اليهود مشهورة- أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ عطف على قالوا: والتعبير بالمضارع لحكاية الحال استغرابا للكفر بالشيء بعد العلم بحقيته أو للتنبيه على أن كفرهم مستمر إلى زمن الإخبار،
323
وقيل: استئناف- وعليه ابن الأنباري- ويجوز أن يكون حالا إما على مذهب من يجوز وقوع المضارع المثبت حالا مع الواو، وإما على تقدير مبتدأ أي وهم يكفرون، والتقييد بالحال حينئذ لإفادة بيان شناعة حالهم بأنهم متناقضون في إيمانهم لأن كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان به- وهذا أدخل في رد مقالتهم- ولهذا اختار هذا الوجه بعض الوجوه- ووراء- في الأصل مصدر لاشتقاق المواراة والتواري منه، والمزيد فرع المجرد إلا أنه لم يستعمل فعله المجرد أصلا ثم جعل ظرف مكان ويضاف إلى الفاعل فيراد به المفعول وإلى المفعول فيراد به الفاعل أعني الساتر، ولصدقه على الضدين- الخلف، والأمام- عد من الأضداد وليس موضوعا لهما، وفي الموازنة للأموي تصريح بأنه ليس منها وإنما هو من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء- خلفا كان أو قداما- إذا لم تره فأما إذا رأيته فلا يكون وراءك. والمراد هنا بما بعده قاله قتادة- أو بما سواه- وبه فسر وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤] وأريد به القرآن كما عليه الجمهور. وقال الواحدي هو والإنجيل، واحتمال أن يراد بما وراءه باطن معاني ما أنزل عليهم التي هي وراء ألفاظها، وفيه إشعار بأن إيمانهم بظاهر اللفظ ليس بشيء إلا أن يراد بذلك الباطن القرآن ولا يخفى بعده.
وَهُوَ الْحَقُّ الضمير عائد لما وراءه حال منه، وقيل: من فاعل يكفرون والجملة الحالية المقترنة بالواو لا يلزم أن يعود منها ضمير إلى ذي الحال- كجاء زيد والشمس طالعة- وعلى فرض اللزوم ينزل وجود الضمير فيما هو من تتمتها منزلة وجوده فيها، والمعنى وهم مقارنون لحقيته أي عالمون بها وهو أبلغ في الذم من كفرهم بما هو حق في نفسه، والأول أولى لظهوره ولا تفوت تلك الأبلغية عليه أيضا إذ تعريف الحق للإشارة إلى أن المحكوم عليه مسلم الاتصاف به معروفة من قبيل- والدك العبد- فيفيد أن كفرهم به كان لمجرد العناد، وقيل: التعريف لزيادة التوبيخ والتجهيل بمعنى أنه خاصة الحق الذي يقارن تصديق كتابهم ولولا الحال أعني مُصَدِّقاً لم يستقم الحصر لأنه في مقابلة كتابهم وهو حق أيضا، وفيه أنه لا يستقيم ولو لوحظ الحال بناء على تخصيص ذي الضمير بالقرآن لأن الإنجيل حق مصدق للتوراة أيضا، نعم لو أريد بالحق الثابت المقابل للمنسوخ لاستقام الحصر مطلقا إلا أنه بعيد مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ حال مؤكدة لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا، فالتصديق لازم لا ينتقل، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه، ولهذا تضمنت رد قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها، واحتمال أن يراد مما معهم التوراة والإنجيل كما في البحر لأنهما أنزلا على بني إسرائيل وكلاهما غير مخالف للقرآن مخالف لما يقتضيه الذوق سباقا وسياقا.
قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ؟ أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول ذلك تبكيتا لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوّغه، ويحتمل أن يكون أمرا لمن يريد جدالهم كائنا من كان والفاء جواب شرط مقدر أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «فلم» إلخ، و «ما» استفهامية حذفت ألفها لأجل- لام- الجر ويقف البزي في مثل ذلك بالهاء وغيره بغيرها، وإيراد صيغة المضارع مع الظرف الدال على المضي للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية، وقيل: لحكاية تلك الحال، والمراد بالقتل معناه الحقيقي وإسناده إلى الأخلاف المعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن صدوره من الأسلاف مجاز للملابسة بين الفاعل الحقيقي وما أسند إليه، وهذا كما يقال لأهل قبيلة- أنتم قتلتم زيدا- إذا كان القاتل آباءهم، وقيل: القتل مجاز عن الرضا أو العزم عليه، ولا يخفى أن الاعتراض على الوجه الأول أقوى تبكيتا منه على الآخرين فتدبر، وفي إضافة أَنْبِياءَ إلى الاسم الكريم تشريف عظيم وإيذان بأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله تعالى أن يعظم وينصر لا أن يقتل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهويل أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فلم تقتلونهم وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما
324
حذف ثقة بما أثبت في الأخرى على طريق الاحتباك، وقيل: إن المذكور قبل جواب لهذا الشرط بناء على جواز تقديمه وهو رأي الكوفيين وأبى زيد، واختاره في البحر، وقال الزجاج: إِنْ هنا نافية ولا يخفى بعده.
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ داخل تحت الأمر فهو من تمام التبكيت والتوبيخ وكذا ما يأتي بعد لا تكرير لما قص من قبل، والمراد بِالْبَيِّناتِ الدلائل الدالة على صدقه عليه السلام في دعوته والمعجزات المؤيدة لنبوته كالعصا، واليد، وانفلاق البحر مثلا، وقيل: الأظهر أن يراد بها الدلائل الدالة على الوحدانية فإنه أدخل في التقريع بما بعد، وعندي الحمل على العموم بحيث يشمل ذلك أيضا أولى وأظهر ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي الذي صنعه لكم السامري من حليكم إلها مِنْ بَعْدِهِ أي بعد مجيء موسى عليه السلام بها ومن عد التوراة وانفجار الماء منها لم يرد الجميع بل الجنس لأن ذلك كان بعد قصة العجل وكلمة ثُمَّ على هذا للاستبعاد لئلا يلغو القيد. وقد يقال:
الضمير لمتقدم معنى وهو الذهاب إلى الطور فكلمة ثُمَّ على حقيقتها، وعد ما ذكرنا من البينات حينئذ ظاهر، ويشير هذا العطف على (١) أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات وذلك أعظم ذنبا وأكثر شناعة لحالهم، والتزم بعضهم- رجوع الضمير إلى البينات بحذف المضاف أي من بعد تدبر الآيات ليظهر ذلك، وعود الضمير إلى العجل، والمراد بعد وجوده أي عبدتم الحادث الذي حدث بمحضركم ليكون فيه التوبيخ العظيم- لا يخفى ما فيه من البعد العظيم المستغنى عنه بما أشرنا إليه وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ أي واضعون الشيء في غير محله اللائق به أو مخلون بآيات الله تعالى، والجملة حال مؤكدة للتوبيخ والتهديد وهي جارية مجرى القرينة على إرادة العبادة من الاتخاذ، وفيها تعريض بأنهم صرفوا العبادة عن موضعها الأصلي إلى غير موضعها وإيهام المبالغة من حيث إن إطلاق الظلم يشعر بأن عبادة العجل كل الظلم وأن من ارتكبها لم يترك شيئا من الظلم واختار بعضهم كونها اعتراضا لتأكيد الجملة بتمامها دون تعرض لبيان الهيئة الذي تقتضيه الحالية أي وأنتم قوم عادتكم الظلم واستمر منكم، ومنه عبادة العجل، والذي دعاه إلى ذلك زعم أنه يلزم على الحالية أن يكون تكرارا محضا فإن عبادة العجل لا تكون إلا ظلما بخلافه على هذا فإنه يكون بيانا لرذيلة لهم تقتضي ذلك، وفيه غفلة عما ذكرنا، وإذا حمل الاتخاذ على الحقيقة نحو- اتخذت خاتما- تكون الحالية أولى بلا شبهة لأن الاتخاذ لا يتعين كونه ظلما إلا إذا قيد بعبادته كما لا يخفى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي قلنا لهم خذوا ما أمرتكم به في التوراة بجد وعدم فتور وَاسْمَعُوا- أي سماع تقبل وطاعة إذ لا فائدة في الأمر بالمطلق بعد الأمر بالأخذ بقوة بخلافه على تقدير التقييد فإنه يؤكده ويقرره لاقتضائه كمال إبائهم عن قبول ما آتاهم إياه ولذا رفع الجبل عليهم وكثيرا ما يراد من السماع القبول ومن ذلك سمع الله لمن حمده وقوله:
دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله «يسمع» ما أقول
قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي سمعنا قولك خُذُوا وَاسْمَعُوا وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة، وليس هذا جوابا ل اسْمَعُوا باعتبار تضمنه أمرين لأنه يبقى خذوا بلا جواب، وذهب الجم إلى ذلك وأوردوا هنا سؤالا وجوابا، حاصل الأول أن السماع في الأمر إن كان على ظاهره فقولهم سمعنا طاعة وعصينا مناقض وإن كان القبول فإن كان في الجواب كذلك كذب وتناقض وإلا لم يكن له تعلق بالسؤال، وزبدة الجواب أن السماع هناك مقيد والأمر مشتمل على أمرين سماع قوله وقبوله بالعمل فقالوا نمتثل أحدهما دون الآخر، ومرجعه إلى القول
(١) كذا في الأصل ولعلها إلى
325
بالموجب، ونظيره يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة: ٦١] وقيل: المعنى قالوا بلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا، أو سمعنا أحكاما قبل وعصينا فنخاف أن نعصي بعد سماع قولك هذا، وقيل: سَمِعْنا جواب اسْمَعُوا وَعَصَيْنا جواب خُذُوا وقال أبو منصور: إن قولهم عصينا ليس على أثر قولهم سَمِعْنا بل بعد زمان كما في قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فلا حاجة إلى الدفع بما ذكر، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى جميع ذلك بعد ما سمعت كما لا يخفى.
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ عطف على قالُوا أو مستأنف أو حال بتقدير قد أو بدونه. والعامل قالُوا والإشراب- مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، ومنه بياض مشرب بحمرة، والكلام على حذف مضاف أي حب العجل، وجوز أن يكون العجل مجازا عن صورته فلا يحتاج إلى الحذف، وذكر- القلوب- لبيان مكان الإشراب، وذكر المحل المتعين يفيد مبالغة في الإثبات والمعنى داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما داخل الصبغ الثوب وأنشدوا:
إذا ما القلب «أشرب» حب شيء فلا تأمل له عنه انصرافا
وقيل:- أشربوا- من أشربت البعير إذا شددت في عنقه حبلا كأن العجل شد في قلوبهم لشغفهم به وقيل: من الشراب ومن عادتهم أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض استعاروا له اسم الشراب إذ هو أبلغ منساغ في البدن، ولذا قال الأطباء: الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن، وقال الشاعر:
تغلغل حيث لم يبلغ «شراب» ولا حزن ولم يبلغ سرور
وقيل: من الشرب حقيقة، وذلك أن السدي نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم اشربوا فشربوا جميعهم فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه، ولا يخفى أن قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمُ يبعد هذا القول جدا على أن ما قص الله تعالى لنا في كتابه عما فعل موسى عليه السلام بالعجل يبعد ظاهر هذه الرواية أيضا، وبناء- أشربوا- للمفعول يدل على أن ذلك فعل بهم ولا فاعل سواه تعالى. وقالت المعتزلة: هو على حد قول القائل- أنسيت كذا- ولم يرد أن غيره فعل ذلك به وإنما المراد نسيت وأن الفاعل من زين ذلك عندهم ودعاهم إليه كالسامري بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم لأنهم كانوا مجسمة يجوزون أن يكون جسم من الأجسام إلها أو حلولية يجوزون حلوله فيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم، وثعبان العصا كان لا يبقى زمانا ممتدا ولا يبعد من أولئك أن يعتقدوا عجلا صنعوه على هيئة البهائم إلها وإن شاهدوا ما شاهدوا من موسى عليه السلام لما ترى من عبدة الأصنام الذين كان أكثرهم أعقل من كثير من بني إسرائيل، وقيل:
الباء بمعنى مع أي مصحوبا بكفرهم فيكون ذلك كفرا على كفر.
قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أي بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون، وإسناد الأمر إلى الإيمان وإضافته إلى ضميرهم للتهكم كما في قوله تعالى: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود: ٨٧] والمخصوص بالذم محذوف- أي قتل الأنبياء- وكذا وكذا، وجوّز أن يكون المخصوص مخصوصا بقولهم: عصينا أمرك، وأراه على القرب بعيدا.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال لها، وجواب الشرط ما فهم من قوله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ إلى آخر الآيات المذكورة في رد دعواهم الإيمان، أو الجملة الانشائية السابقة- إما بتأويل أو بلا تأويل- وتقرير ذلك إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ما رخص لكم إيمانكم بالقبائح التي فعلكم، بل منع عنها فتناقضتم في دعواكم له فتكون باطلا، أو إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بها ف بِئْسَما أمركم به إِيمانُكُمْ بها أو فقد أمركم إيمانكم بالباطل، لكن
326
الإيمان بها لا يأمر به فإذن لستم بمؤمنين، والملازمة بين الشرط والجزاء «على الأول» بالنظر إلى نفس الأمر، وإبطال الدعوى بلزوم التناقض «وعلى الثاني» تكون الملازمة بالنظر إلى حالهم من تعاطي القبائح مع ادعائهم الإيمان، والمؤمن من شأنه أن لا يتعاطى إلا ما يرخصه إيمانه، وإبطال التالي بالنظر إلى نفس الأمر- واستظهر بعضهم في هذا- ونظائره كون الجزاء معرفة السابق أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تعرفون أنه بئس المأمور به، وقيل: إِنْ نافية، وقيل: للتشكيك- وإليه يشير كلام الكشاف- وفيه أن المقصد إبطال دعوتهم بإبراز إيمانهم القطعي العدم منزلة ما لا قطع بعدمه للتبكيت والإلزام- لا للتشكيك- على أنه لم يعهد استعمال إِنْ لتشكيك السامع- كما نص عليه بعض المحققين- وقرأ الحسن ومسلم بن جندب- بهو إيمانكم- بضم الهاء ووصلها بواو قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ رد لدعوى أخرى لهم بعد رد دعوى- الإيمان بما أنزل عليهم- ولاختلاف الغرض لم يعطف أحدهما على الآخر مع ظهور المناسبة المصححة للذكر، والآية نزلت- فيما حكاه ابن الجوزي- عند ما قالت اليهود: إن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع: سبب نزولها قولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ [البقرة: ١١١] إلخ ونَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ [المائدة: ١٨] إلخ ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ [البقرة: ٨٠، آل عمران: ٢٤] إلخ، وروي مثله عن قتادة. والضمير في قُلْ إما للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لمن يبغي إقامة الحجة عليهم، والمراد من الدَّارُ الْآخِرَةُ الجنة- وهو الشائع- واستحسن في البحر تقدير مضاف أي نعيم الدَّارُ الْآخِرَةُ.
عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه، وقيل: المراد- بالعندية- المكانة والمرتبة والشرف، وحملها- على عندية المكان- كما قيل به- احتمالا- بعيد خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ أي مخصوصة بكم كما تزعمون- والخالص- الذي لا يشوبه شيء، أو ما زال عنه شوبه، ونصب خالِصَةً على الحال من الدَّارُ الذي هو اسم كان ولَكُمُ خبرها قدم للاهتمام- أو لإفادة الحصر- وما بعده للتأكيد، هذا إن جوّز مجيء الحال من اسم كان وهو الأصح، ومن لم يجوّز بناء على أنه ليس بفاعل جعلها حالا من الضمير المستكن في الخبر، وقيل: خالِصَةً هو الخبر ولَكُمُ ظرف لغو لكان أو ل خالِصَةً ولا يخفى بعده- فإنه تقييد للحكم قبل مجيئه- ولا وجه لتقديم متعلق الخبر على الاسم مع لزوم توسط الظرف بين الاسم والخبر، وأبعد المهدوي، وابن عطية أيضا فجعلا خالِصَةً حالا وعِنْدَ اللَّهِ هو الخبر، مع أن الكلام لا يستقل به وحده. ودُونِ هنا للاختصاص وقطع الشركة، يقال: هذا لي دونك، وأنت تريد لا حق لك فيه معي ولا نصيب، وهو متعلق ب خالِصَةً والمراد ب النَّاسِ الجنس وهو الظاهر، وقيل: المراد بهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون، وقيل: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحده- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- قالوا: ويطلق النَّاسِ ويراد به الرجل الواحد، ولعله لا يكون إلا مجازا بتنزيل الواحد منزلة الجماعة فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الجنة خالِصَةً لكم، فإن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار، وأحب أن يخلص من المقام في دار الأكدار، كما
روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له الحسن: ما هذا بزي المحاربين، فقال: يا بني- لا يبالي أبوك سقط على الموت، أم سقط عليه الموت-
وكان عبد الله بن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم:
يا حبذا الجنة واقترابها... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
وقال عمار بصفين: غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه. وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة.
وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال: «يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل»
ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الاشتياق إلى دار النعيم ولقاء الكريم غير منهي عنه، إنما
327
المنهي عنه تمنيه لأجل ضر أصابه- فإنه آثر الجزع وعدم الرضا بالقضاء-
وفي الخبر «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وإن كان ولا بد فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي»
والمراد- بالتمني- قول الشخص: ليت كذا، وليت من أعمال القلب أو الاشتهاء بالقلب ومحبة الحصول مع القول، فمعنى الآية سلوا الموت باللسان- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو اشتهوه بقلوبكم وسلوه بألسنتكم- قاله قوم- وعلى التقديرين- الأمر بالتمني حقيقة، واحتمال أن يكون المراد- تعرضوا للموت ولا تحترزوا عنه كالمتمني فحاربوا من يخالفكم ولا تكونوا من أهل الجزية والصغار، أو كونوا على وجه يكون المتمنون للموت المشتهون للجنة عليه من العمل الصالح- مما لا تساعده الآثار،
فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا «لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه»
وأخرج البيهقي عنه مرفوعا «لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه»
والبخاري مرفوعا عنه أيضا «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا»
وقرأ ابن أبي إسحاق فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ- بكسر الواو- وحكى الحسن بن إبراهيم عن أبي عمرو- فتحها- وروي عنه أيضا اختلاس ضمتها وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً الظاهر أنه جملة مستأنفة معترضة غير داخلة تحت الأمر سيقت من جهته تعالى لبيان ما يكون منهم من الإحجام الدال على كذبهم في دعواهم، والمراد لن يتمنوه ما عاشوا، وهذا خاص بالمعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن نافع رضي الله تعالى عنه قال: خاصمنا يهودي وقال: إن في كتابكم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إلخ، فأنا أتمنى الموت، فما لي لا أموت، فسمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فغضب، فدخل بيته وسل سيفه وخرج، فلما رآه اليهودي فرّ منه، وقال ابن عمر: أما والله لو أدركته لضربت عنقه، توهم هذا الكلب اللعين الجاهل أن هذا لكل يهودي أو لليهود في كل وقت لا إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندون ويجحدون نبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن عرفوا، وكانت المحاجة معهم باللسان دون السيف. ويؤيد هذا ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفا «لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات» وهذه الجملة إخبار بالغيب ومعجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيها دليل على اعترافهم بنبوّته صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهم لو لم يتيقنوا ذلك ما امتنعوا من التمني، وقيل: لا دليل، بل الامتناع كان بصرف الصرفة كما قيل في عدم معارضة القرآن، والقول بأنه كيف يكون ذلك معجزة مع أنه لا يمكن أن يعلم أنه لم يتمن أحد، والتمني أمر قلبي لا يطلع عليه، مجاب عنه بأنا لا نسلم أن المراد بالتمني هنا الأمر القلبي، بل هو أن يقول: ليت كذا ونحوه كما مر آنفا، ولو سلم أنه أمر قلبي فهذا مذكور على طريق المحاجة وإظهار المعجزة فلا يدفع إلا بالإظهار والتلفظ كما إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق إن شئت أو أحببت، فإنه يعلق بالإخبار لا بالإضمار، فحيث ثبت عدم تلفظهم بالإخبار، وبأنه لو وقع لنقل واشتهر لتوفر الدواعي إلى نقله لأنه أمر عظيم يدور عليه أمر عظيم يدور عليه أمر النبوّة، فإنه بتقدير عدمه يظهر صدقه، وبتقدير حصوله يبطل القول بنبوته ثبت كونه معجزة أيده بها ربه، ومن حمل التمني على المجاز لا يرد عنده هذا السؤال، ولا يحتاج إلى هذا الجواب، وقد علمت ما فيه. وذهب جمهور المفسرين إلى عموم حكم الآية لجميع اليهود في جميع الأعصار، ولست ممن يقول بذلك وإن ارتضاه الجم الغفير، وقالوا: إنه المشهور الموافق لظاهر النظم الكريم، اللهم إلا أن يكون ذلك بالنسبة إلى جميع اليهود المعتقدين نبوّته صلى الله تعالى عليه وسلم الجاحدين لها في جميع الأعصار- لا بالنسبة إلى اليهود مطلقا في جميعها- ومع هذا لي فيه نظر بعد بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار كالكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والقرآن، وقتل الأنبياء، و «ما» موصولة، والعائد محذوف أو مصدرية ولا حذف، واليد كناية عن نفس الشخص، ويكنى بها عن القدرة أيضا لما أنها من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه، ومدار أكثر منافعه، ولا يجعل الإسناد مجازيا واليد على حقيقتها فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم كتحريف التوراة ليشمل ما قدموا بسائر
328
الأعضاء، وهو أبلغ في الذم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تذييل للتهديد والتنبيه على أنهم ظالمون في ادعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم، والمراد- بالعلم- إما ظاهر معناه، أو أنه كني به عن المجازاة- وأل- إما للعهد وإيثار الإظهار على الإضمار للذم، وإما للجنس فيدخل المعهودون فيه على طرز ما تقدم.
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وتجد- من وجد بعقله بمعنى علم المتعدية إلى مفعولين، والضمير مفعول أول، وأَحْرَصَ مفعول ثان، واحتمال أنها من وجد بمعنى لقي وأصاب فتتعدى إلى واحد، وأَحْرَصَ حال لا يتأتى على مذهب من يقول إن إضافة أفعل محضة كما سيأتي، والضمير عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت، وقيل: على جميعهم، وقيل: على علماء بني إسرائيل وأل- في الناس للجنس، وهو الظاهر، وقيل: للعهد، والمراد جماعة عرفوا بغلبة الحرص عليهم، وتنكير حَياةٍ لأنه أريد بها فرد نوعي، وهي الحياة المتطاولة، فالتنوين للتعظيم، ويجوز أن يكون للتحقير، فإن الحياة الحقيقية هي الأخروية وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت: ٦٤] ويجوز أن يكون التنكير للإبهام، بل قيل: إنه الأوجه أي على حياة مبهمة غير معلومة المقدار، ومنه يعلم حرصهم على الحياة المتطاولة من باب الأولى وجوز أبو حيان أن يكون الكلام على حذف مضاف أو صفة أي طول حياة أو حياة طويلة، وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى ذلك، والجملة إما حال من فاعل «قل» - وعليه الزجاج- وإما معترضة لتأكيد عدم تمنيهم الموت، وقرأ أبيّ- على الحياة- بالألف واللام وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا هم المجوس ووصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة وكانت تحيتهم إذا عطس العاطس عش ألف سنة، وقيل: مشركو العرب الذين عبدوا الأصنام وهذا من الحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين إلخ. بناء على ما ذهب إليه ابن السراج، وعبد القاهر والجزولي وأبو علي من أن إضافة أفعل المضاف إذا أريد الزيادة على ما أضيف إليه لفظية لأن المعنى على إثبات مِنَ الابتدائية، والجار والمجرور في محل نصب مفعولة، وسيبويه يجعلها معنوية بتقدير اللام، والمرد بالناس على هذا التقدير ما عدا اليهود لما تقرر أن المجرور- بمن- مفضول عليه بجميع أجزائه أو الأعم ولا يلزم تفضيل الشيء على نفسه لأن أفعل ذو جهتين ثبوت أصل المعنى والزيادة فكونه من جملتهم بالجهة الأولى دون الثانية وجيء- بمن- في الثانية لأن من شرط أفعل المراد به الزيادة على المضافة إليه أن يضاف إلى ما هو بعضه لأنه موضوع لأن يكون جزءا من جملة معينة بعده مجتمعة منه ومن أمثاله، ولا شك أن اليهود غير داخلين في الذين أشركوا فإن الشائع في القرآن ذكرهما متقابلين، ويجوز أن يكون ذلك من باب الحذف أي- وأحرص من الذين- وهو قول مقاتل ووجه الآية على مذهب سيبويه، وعلى التقديرين ذكر- المشركين- تخصيص بعد التعميم على الوجه الظاهر في- اللام- لإفادة المبالغة في حرصهم والزيادة في توبيخهم وتقريعهم حيث كانوا مع كونهم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا، أحرص ممن لا يرجو ذلك، ولا يؤمن ببعث، ولا يعرف إلا الحياة العاجلة، وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العذاب، ومن توقع شرا كان أنفر الناس عنه، وأحرصهم على أسباب التباعد منه. ومن الناس من جوز كون مِنَ الَّذِينَ صفة لمحذوف معطوف على الضمير المنصوب في لَتَجِدَنَّهُمْ والكلام على التقديم والتأخير، أي لَتَجِدَنَّهُمْ وطائفة من- الذين أشركوا أحرص الناس- ولا أظن يقدم على مثل ذلك في كتاب الله تعالى من له أدنى ذوق، لأنه- وإن كان معنى صحيحا في نفسه- إلا أن التركيب ينبو عنه، والفصاحة تأباه، ولا ضرورة تدعو إليه لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة، نعم يحتمل أن يكون هناك محذوف- هو مبتدأ- والمذكور صفته، أو المذكور خبر مبتدأ محذوف صفته.
329
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ وحذف موصوف الجملة فيما إذا كان بعضا من سابقه المجرور ب مِنَ أو- في- جائز في السعة، وفي غيره مختص بالضرورة نحو أنا ابن نجلا وطلاع الثنايا. وحينئذ يراد ب الَّذِينَ أَشْرَكُوا اليهود لأنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] ووضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالشرك، وجوّز بعضهم أن يراد بذلك الجنس، ويراد بمن يَوَدُّ أَحَدُهُمْ اليهود، والمراد كل واحد منهم- وهو بعيد- وجملة يَوَدُّ إلخ، على الوجهين الأولين مستأنفة، كأنه قيل: ما شدة حرصهم، وقيل: حال من الَّذِينَ أو من ضمير أَشْرَكُوا أو من الضمير المنصوب في لَتَجِدَنَّهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ جواب لَوْ محذوف- أي لسر بذلك- وكذا مفعول
يَوَدُّ أي طول الحياة، وحذف لدلالة لَوْ يُعَمَّرُ عليه كما حذف الجواب لدلالة يَوَدُّ عليه، وهذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان، وذهب بعض الكوفيين- في مثل ذلك- إلى أن لَوْ مصدرية بمعنى- أن- فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هو مفعول يَوَدُّ كأنه قال: «يود أحدهم» تعمير ألف سنة، وقيل: لَوْ بمعنى ليت ولا يحتاج إلى جواب والجملة محكية ب يَوَدُّ في موضع المفعول، وهو- وإن لم يكن قولا ولا في معناه- لكنه فعل قلبي يصدر عنه الأقوال فعومل معاملتها، وكان أصله- لو أعمر- إلا أنه أورد بلفظ الغيبة لأجل مناسبة يَوَدُّ فإنه غائب، كما يقال: حلف ليفعلن- مقام لأفعلن- وهذا بخلاف ما لو أتى بصريح القول، فإنه لا يجوز قال: ليفعلن، وإذا قلنا: إن لَوْ التي للتمني مصدرية لا يحتاج إلى اعتبار الحكاية، وابن مالك رضي الله تعالى عنه موضوعا له- كليت- ونحو لو تأتيني فتحدثني- بالنصب- أصله وددت لو تأتيني إلخ، فحذف فعل التمني لدلالة لَوْ عليه، وقيل: هي لَوْ الشرطية أشربت معنى التمني، ومعنى أَلْفَ سَنَةٍ الكثرة ليشمل من يَوَدُّ أن لا يموت أبدا، ويحتمل أن يراد أَلْفَ سَنَةٍ حقيقة- والألف- العدد المعلوم من الألفة، إذ هو مؤلف من أنواع الأعداد بناء على متعارف الناس، وإن كان الصحيح أن العدد مركب من الوحدات التي تحته- لا الإعداد- وأصل سَنَةٍ سنوة، لقولهم: سنوات، وقيل: سنهة- كجبهة- لقولهم: سانهته، وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون، وسمع أيضا في الجمع سنهات وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ما حجازية أو تميمية، وهو ضمير عائد إلى أَحَدُهُمْ اسمها- أو مبتدأ- وبِمُزَحْزِحِهِ خبرها أو خبره- والباء- زائدة، وأَنْ يُعَمَّرَ فاعل «مزحزحه» والمعنى- ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره- وفيه إشارة إلى ثبوت من- يزحزحه التعمير- وهو مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الكهف: ٨٨، سبأ: ٣٧] ولا يجوز عند المحققين أن يكون الضمير المرفوع للشأن لأن مفسره جملة، ولا تدخل- الباء- في خبر ما وليس إلا إذا كان مفردا عند غير الفراء، وأجاز ذلك أبو علي، وهو ميل منه إلى مذهب الكوفيين من أن مفسر ضمير الشأن يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادا معنويا نحو ما هو بقائم زيد نعم جوّزوا أن يكون لما دل عليه يُعَمَّرُ وأَنْ يُعَمَّرَ بدل منه، أي ما تعميره بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ اعترض بأن فيه ضعفا للفصل بين البدل والمبدل منه، وللإبدال من غير حاجة إليه، وأجاب بعض المحققين أنه لما كان لفظ- التعمير- غير مذكور، بل ضميره حسن الإبدال ولو كان التعمير مذكورا بلفظه لكان الثاني تأكيدا- لا بدلا- ولكونه في الحقيقة تكريرا يفيد فائدته من تقرير المحكوم عليه اعتناء بشأن الحكم بناء على شدة حرصه على التعمير- ووداده إياه- جاز الفصل بينه وبين المبدل منه بالخبر، كما في التأكيد في قوله تعالى: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [هود: ١٩، يوسف: ٣٧، فصلت: ٧] وقيل: هو ضمير مبهم يفسره البدل فهو راجع إليه لا إلى شيء متقدم مفهوم من الفعل، والتفسير بعد الإبهام ليكون أوقع في نفس السامع، ويستقر في ذهنه كونه محكوما عليه بذلك الحكم والفصل بالظرف بينه وبين مفسره جائز- كما يفهمه كلام الرضيّ في بحث أفعال المدح والذم- واحتمال أن يكون هُوَ ضمير فصل قدم مع الخبر بعيد- والزحزحة- التبعيد، وهو مضاعف من زح يزح زحا، ككبكب من كب- وفيه مبالغة- لكنها متوجهة إلى النفي
330
على حد ما قيل: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] فيؤول- إلى أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير- التعمير، وصح ذلك مع أن التعمير يفيد رفع العذاب مدة البقاء، لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل، لكنهم لاقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث الشدة فلم يؤثر في إزالته أدنى تأثير بل زاد فيه حيث استوجبوا بمقابلة أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] عذاب الأبد وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي عالم بخفيات أعمالهم- فهو مجازيهم لا محالة- وحمل- البصر- على- العلم- هنا وإن كان بمعنى الرؤية صفة لله تعالى أيضا لأن بعض الأعمال لا يصح أن يرى- على ما ذهب إليه بعض المحققين- وفي هذه الجملة من التهديد والوعيد ما هو ظاهر، و «ما» إما موصولة أو مصدرية، وأتى بصيغة المضارع لتواخي الفواصل، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب «تعلمون» - بالتاء- على
سبيل الالتفات قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
أخرج ابن أبي شيبة في مسنده، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الشعبي، أنه دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدراس اليهود يوما فسألهم عن جبريل، فقالوا: ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وميكائيل صاحب الخصب والسلام. فقال: ما منزلتهما من الله تعالى؟ قالوا:
جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره- وبينهما عداوة- فقال: لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين، ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدوا لأحدهما فهو عدو لله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لقد وافقك ربك يا عمر» قال عمر: لقد رأيتني بعد ذلك أصلب من الحجر،
وقيل: نزلت في عبد الله بن صوريا- كان يهوديا من أحبار فدك- سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمن ينزل عليه فقال: «جبريل» فقال: ذاك عدونا عادانا مرارا، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر، فبعثنا من يقتله فرآه ببابل، فدفع عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه، وإلا فبم تقتلونه؟ وصدقه الرجل المبعوث ورجع إلينا، وكبر بختنصر وقوي وغزانا، وخرّب بيت المقدس، روى ذلك بعض الحفاظ، وقال العراقي: لم أقف له على سند، فلعل الأول أقوى منه- وإن أوهم صنيع بعضهم العكس- ولِجِبْرِيلَ علم ملك كان ينزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالقرآن، وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله وجعله مركبا تركيب مزج من مضاف ومضاف إليه، فمنعه من الصرف للعلمية، والتركيب ليس بشيء لأن ما يركب هذا التركيب يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف. فكونه لم يسمع فيه الإضافة أو البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة، أفصحها وأشهرها لِجِبْرِيلَ كقنديل، وهي قراءة أبي عمرو. ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم. وهي لغة الحجاز، قال ورقة بن نوفل:
«وجبريل» يأتيه وميكال معهما من الله وحي يشرح الصدر منزل
الثانية كذلك إلا أنها- بفتح الجيم- وهي قراءة ابن كثير والحسن وابن محيصن. قال الفراء: لا أحبها لأنه ليس في الكلام فعليل- وليس بشيء- لأن الأعجمي إذا عربوه قد يلحقونه بأوزانهم- كلجام- وقد لا يلحقونه كإبريسم- وجبريل من هذا القبيل، مع أنه سمع- سموأل- لطائر، الثالث «جبرئيل» كسلسبيل، وبها قرأ حمزة والكسائي وحماد عن أبي بكر عن عاصم، وهي لغة قيس وتميم وكثير من أهل نجد، وحكاها الفراء واختارها الزجاج، وقال: هي أجود اللغات، وقال حسان:
شهدنا فما يلقى لنا من كتيبة مدى الدهر إلا «جبرئيل» أمامها
«الرابعة» كذلك إلا أنها بدون- ياء بعد الهمزة- وهي رواية يحيى بن آدم، عن أبي بكر، عن عاصم، وتروى عن
331
يحيى بن يعمر «الخامسة» كذلك إلا أن- اللام مشددة- وهي قراءة أبان عن عاصم، ويحيى بن يعمر أيضا «السادسة» «جبرائل» - بألف وهمزة بعدها مكسورة بدون ياء- وبها قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعكرمة «السابعة» مثلها مع زيادة- ياء بعد الهمزة- «الثامنة» «جبراييل» بياءين بعد الألف، وبها قرأ الأعمش وابن يعمر، ورواها الكسائي عن عاصم «التاسعة» «جبرال» «العاشرة» «جبريل» - بالياء والقصر- وهي قراءة طلحة بن مصرف «الحادية عشرة» «جبرين» - بفتح الجيم والنون- «الثانية عشرة» كذلك إلا أنها- بكسر الجيم- وهي لغة أسد «الثالثة عشرة» «جبراين» قال أبو جعفر النحاس: جمع لِجِبْرِيلَ جمع تكسير على- جبارين- على اللغة العالية، واشتهر أن معناه عبد الله، على أن- جبر- هو الله تعالى- وإيل- هو العبد، قيل: عكسه، ورده بعضهم بأن المعهود في الكلام العجمي تقديم المضاف إليه على المضاف، وفيه تأمل.
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ جواب الشرط إما نيابة أو حقيقة والمعنى من عاداه منهم فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي لأنه نزل كتابا مصدقا للكتب المتقدمة، أو فالسبب في عداوته أنه نزل عليك، وليس المبتدأ على هذا الأخير محذوفا، وأنه- نزله- خبره حتى يرد أن الموضع للمفتوحة بل أن- الفاء- داخلة على السبب، ووقع جزاء باعتبار الإعلام والاخبار بسببيته لما قبله فيؤول المعنى إلى من عاداه فأعلمكم بأن سبب عداوته كذا فهو كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته أي فأخبرك بأن سبب عداوتك أنك آذيته، وقيل: الجزاء محذوف بحيث لا يكون المذكور نائبا وعنه يقدر مؤخرا عنه ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة والمعنى من عاداه- لأنه نزله على قلبك- فليمت غيظا، أو فهو عدوّ لي وأنا عدوه والقرينة على حذف الثاني الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم، واحتمال أن يكون مَنْ كانَ عَدُوًّا إلخ استفهاما للاستبعاد، أو التهديد ويكون فإنه تعليل العداوة وتقييدا لها أو تعليل الأمر بالقول مما لا ينبغي أن يرتكب في القرآن العظيم، والضمير الأول البارز لجبريل، والثاني للقرآن كما يشير إليه الأحوال لأنها كلها من صفات القرآن ظاهرا، وقيل: الأول لله تعالى والثاني لجبريل أي- فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك- وفي كل من الوجهين إضمار يعود على ما يدل عليه السياق، وفي ذلك من فخامة الشأن ما لا يخفى، ولم يقل سبحانه عليك كما في قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: ٢] بل قال:
عَلى قَلْبِكَ لأنه القابل الأول للوحي إن أريد به الروح، ومحل الفهم والحفظ إن أريد به العضو بناء على نفي الحواس الباطنة، وقيل: كني بالقلب عن الجملة الإنسانية كما يكنى ببعض الشيء عن كله، وقيل: معنى نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ جعل قَلْبِكَ متصفا بأخلاق القرآن ومتأدبا بآدابه كما
في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها «كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه»
وكان الظاهر أن يقول على قلبي لأن القائل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لكنه حكى ما قال الله تعالى له وجعل القائل كأنه الله تعالى لأنه سفير محض بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة أو باختياره، أو بتيسيره وتسهيله، وأصل معنى- الاذن- في الشيء الاعلام بإجازته والرخصة فيه فالمعاني المذكورة كلها مجازية، والعلاقة ظاهرة، والمنتخب- كما في المنتخب- المعنى الأول والمعتزلة- لما لم يقولوا بالكلام النفسي وإسناد الاذن إليه تعالى باعتبار الكلام اللفظي يحتاج إلى تكلف- اقتصر الزمخشري على الوجه الأخير، والقول: إن الاذن بمعنى الأمر إن أريد بالتنزيل معناه الظاهر، وبمعنى التيسير إن أريد به التحفيظ والتفهيم مما لا وجه له.
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإلهية التي معظمها التوراة وانتصاب مُصَدِّقاً على الحال من الضمير المنصوب في نَزَّلَهُ إن كان عائدا للقرآن وإن كان لجبريل فيحتمل وجهين، أحدهما أن يكون حالا من المحذوف
332
لفهم المعنى كما أشرنا إليه، والثاني أن يكون حالا من جبريل، والهاء إما للقرآن أو لجبريل فإنه مصدق أيضا لما بين يديه من الرسل والكتب وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ معطوفان على مُصَدِّقاً فهما حالان مثله، والتأويل غير خفي، وخص المؤمنين- بالذكر لأنه على غيرهم عمى، وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند الله تعالى، قيل: وتعلقت الباطنية بهذه الآية وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ورد عليهم بأنه معجزة ظاهرة وباطنة وإن الله تعالى سماه قرآنا وكتابا وعربيا، وإن جبريل نزل به والملهم لا يحتاج إليه.
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ- العدو- للشخص ضد الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع، وقد يؤنث ويثنى ويجمع، وهو الذي يريد إنزال المضار به، وهذا المعنى لا يصح إلا فينا دونه تعالى فعداوة الله هنا مجاز إما عن مخالفته تعالى وعدم القيام بطاعته لما أن ذلك لازم للعداوة، وإما عن عداوة أوليائه، وأما عداوتهم لجبريل والرسل عليهم السلام فصحيحة لأن الإضرار جار عليهم غاية ما في الباب أن عداوتهم لا تؤثر لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم، وصدر الكلام على الاحتمال الأخير بذكره لتفخيم شأن أولئك الأولياء حيث جعل عداوتهم عداوته تعالى، وأفرد الملكان بالذكر تشريفا لهما وتفضيلا كأنهما من جنس آخر تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فان «المسك» بعض دم الغزال
وقيل: لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما، وقيل: للتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى، وإن من عادى أحدهم فكأنما عادى الجميع لأن الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد وإن اختلف بحسب التوهم والاعتقاد، ولهذا أحب اليهود ميكائيل وأبغضوا جبريل، واستدل بعضهم بتقديم جبريل على ميكائيل على أنه أفضل منه وهو المشهور، واستدلوا عليه أيضا بأنه ينزل بالوحي والعلم وهو مادة الأرواح، وميكائيل بالخصب والأمطار وهي مادة الأبدان، وغذاء الأرواح أفضل من غذاء الأشباح، واعترض بأن التقديم في الذكر لا يدل على التفضيل إذ يحتمل أن يكون ذلك للترقي أو لنكتة أخرى كما قدمت الملائكة على الرسل وليسوا أفضل منهم عندنا، وكذا نزوله بالوحي ليس قطعيا بالأفضلية إذ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل فلا بد في التفضيل من نص جلي واضح، وأنا أقول بالأفضلية وليس عندي أقوى دليلا من مزيد صحبته لحبيب الحق بالاتفاق وسيد الخلق على الإطلاق صلّى الله عليه وسلّم وكثرة نصرته وحبه له ولأمته، ولا أرى شيئا يقابل ذلك وقد أثنى الله تعالى عليه عليه السلام بما لم يثن به على ميكائيل بل ولا على إسرافيل وعزرائيل وسائر الملائكة أجمعين،
وأخرج الطبراني- لكن بسند ضعيف- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أخبركم بأفضل الملائكة؟
جبرائيل»

وأخرج أبو الشيخ عن موسى بن عائشة قال: «بلغني أن جبريل إمام أهل السماء»
ومن شرطية والجواب، قيل:
محذوف وتقديره فهو كافر مجزي بأشد العذاب، وقيل: فإن الله إلخ على نمط ما علمت، وأتى باسم الله ظاهرا ولم يقل فانه عدو دفعا لانفهام غير المقصود أو التعظيم والتفخيم، والعرب إذا فخمت شيئا كررته بالاسم الذي تقدم له، ومنه لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ [الحج: ٦٠]. وقوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء وأل في الكافرين للعهد وإيثار الاسمية للدلالة على التحقيق والثبات، ووضع المظهر موضع المضمر للايذان بأن
333
عداوة المذكورين كفر وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الاخبار به وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور، وقيل: يحتمل أنه تعالى عدل عن الضمير لعلمه أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله تعالى للمآل- وهو احتمال أبعد من العيوق- ويحتمل أن تكون- أل للجنس كما تقدم، ومن الناس من روى أن عمر رضي الله تعالى عنه نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله ذاك عدونا يعني جبريل فنزلت على لسان عمر وهو خبر ضعيف كما نص عليه ابن عطية، والكلام في منع صرف ميكائيل كالكلام في جبريل، واشتهر أن معناه عبيد الله وقيل: عبد الله وفيه لغات، الأولى «ميكال» كمفعال، وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة الحجاز، الثانية كذلك إلا أن بعد الألف همزة، وقرأ بها نافع. وابن شنبوذ لقنبل، الثالثة كذلك إلا أنه بياء بعد الهمزة، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر. وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي، الرابعة «ميكئيل» كميكفيل، وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة كذلك إلا أنه لا ياء بعد الهمزة وقرىء بها، السادسة «ميكاييل» بياءين بعد الألف أولهما مكسورة، وبها قرأ الأعمش.
ولساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذين الملكين- بل وفي أخويهما إسرافيل وعزرائيل عليهما السلام أيضا- كلام مبسوط، والمشهور أن جبرائيل هو العقل الفعال، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق الخلائق، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات، وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها بعضها بالوسائط التي هي أعوانه وبعضها بنفسه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ نزلت بسبب ابن صوريا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آيات فنتبعك، وجعلت عطفا على قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا إلخ عطف القصة على القصة وَما يَكْفُرُ عطف على جواب القسم فإنه كما يصدر باللام يصدر بحرف النفي، و «الآيات» القرآن والمعجزات والاخبار عما خفي وأخفي في الكتب السابقة أو الشرائع والفرائض، أو مجموع ما تقدم كله والظاهر الإطلاق، والْفاسِقُونَ المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود فإن من ليس على تلك الصفات من الكفرة لا يجترىء على الكفر بمثل هاتيك البينات، قال الحسن إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره فإذا قيل: هو فاسق في الشرب فمعناه هو أكثر ارتكابا له وإذا قيل: هو فاسق في الزنا يكون معناه هو أشد ارتكابا له، وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، واللام إما للعهد لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود، وإما للجنس وهم داخلون كما مر غير مرة أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نزلت في مالك بن الصيف قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولا ميثاق، وقيل: في اليهود عاهدوا إن خرج لنؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب فلما بعث كفروا به، وقال عطاء: في اليهود عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير، والهمزة للإنكار بمعنى ما كان ينبغي، وفيه إعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها حتى صار سجية لهم وعادة، وفي ذلك تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وإشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكترث بأمرهم وأن لا يصعب عليه مخالفتهم، والواو للعطف على محذوف أي كفروا بالآيات وكلما عاهدوا، وهو من عطف الفعلية على الفعلية لأن كُلَّما ظرف نَبَذَهُ والقرينة على ذلك المحذوف قوله تعالى: وَما يَكْفُرُ بِها إلخ، وبعضهم يقدر المعطوف مأخوذا من الكلام السابق ويقول بتوسط الهمزة بين المعطوف والمعطوف عليه لغرض يتعلق بالمعطوف خاصة، والتقدير عنده نقضوا هذا العهد وذلك العهد
334
أَوَكُلَّما عاهَدُوا وفيه مع ارتكاب ما لا ضرورة تدعو إليه أن الجمل المذكورة بقربه ليس فيها ذكر نقض العهد، وقال الأخفش: هي زائدة، والكسائي هي- أو- الساكنة حركت واوها بالفتح وهي بمعنى بل ولا يخفى ضعف القولين، نعم قرأ ابن السماك العدوي وغيره أَوَبالإسكان وحينئذ لا بأس بأن يقال: إنها إضرابية بناء على رأي الكوفيين وأنشدوا:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها «أو» أنت في العين أملح
والعطف- على هذا- على صلة الموصول الذي هو- اللام- في الْفاسِقُونَ ميلا إلى جانب المعنى وإن كان فيه مسخ- اللام- الموصولة، كأنه قيل: إلا الذين فسقوا بل كُلَّما عاهَدُوا والقرينة على ذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ إلخ، وفيه ترق إلى الأغلظ فالأغلظ، ولك أن لا تميل مع المعنى بل تعطف على الصلة- وأل- تدخل على الفعل بالتبعية في السعة كثيرا كقوله تعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا [الحديد: ١٨] لاغتفارهم في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل. ومن الناس من جوّز هذا العطف باحتماليه على القراءة الأولى أيضا- ولم يحتج إلى ذلك المحذوف- وقرأ الحسن وأبو رجاء «عوهدوا» وانتصاب عَهْداً على أنه مصدر على غير الصدر أي- معاهدة- ويؤيده أنه قرىء «عهدوا» أو على أنه مفعول به بتضمين عاهَدُوا معنى أعطوا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي نقضه وترك العمل به، وأصل- النبذ- طرح ما لا يعتد به- كالنعل البالية- لكنه غلب فيما من شأنه أن ينسى لعدم الاعتداد به، ونسبة- النبذ- إلى- العهد- مجاز- والنبذ- حقيقة إنما هو في المتجسدات نحو فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [القصص: ٤٠، الذاريات: ٤٠]- والفريق- اسم جنس لا واحد له يقع على القليل والكثير، وإنما قال: فَرِيقٌ لأن منهم من لم ينبذه. وقرأ عبد الله «نقضه» قال في البحر: وهي قراءة تخالف سواد المصحف- فالأولى حملها على التفسير- وليس بالقوى إذ لا يظهر للتفسير دون ذكر المفسر خلال القراءة وجه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يحتمل أن يراد- بالأكثر النباذون- وأن يراد من عداهم «فعلى الأول» يكون ذلك ردا لما يتوهم أن- الفريق- هم الأقلون بناء على أن المتبادر منه القليل «وعلى الثاني» رد لما يتوهم أن من لم ينبذ جهارا يؤمنون به سرا، والعطف على التقديرين من عطف الجمل، ويحتمل أن يكون من عطف المفردات بأن يكون أكثرهم معطوفا على فَرِيقٌ وجملة لا يُؤْمِنُونَ حال من أَكْثَرُهُمْ والعامل فيها نَبَذَهُ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ ظرف ل «نبذ» والجملة عطف على سابقتها داخلة تحت الإنكار، والضمير لبني إسرائيل لا لعلمائهم فقط، والرسول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والتكثير للتفخيم، وقيل: عيسى عليه السلام، وجعله مصدرا بمعنى الرسالة كما في قوله:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلى ولا أرسلتهم برسول
خلاف الظاهر مِنْ عِنْدِ اللَّهِ متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدر الرسول على قدر المرسل مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي من التوراة من حيث إنه صلى الله تعالى عليه وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها، أو أخبر بأنها كلام الله تعالى المنزل على نبيه موسى عليه السلام، أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين، وأخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها، وحمل بعضهم «ما» على العموم لتشمل جميع الكتب الإلهية التي نزلت قبل، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي التوراة وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله تعالى عليه وسلم لا الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام- كما توهمه بعضهم من اللحاق- لأن- النبذ- عند مجيء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يتصور منهم، وإفراد هذا- النبذ- بالذكر مع اندراجه في قوله تعالى: أَوَكُلَّما
335
عاهَدُوا
إلخ، لأنه معظم جناياتهم، ولأنه تمهيد لما يأتي بعد. والمراد- بالإيتاء- إما إيتاء علمها فالموصول عبارة عن علمائهم، وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل، ولم يقل: فريق منهم إيذانا بكمال التنافي بين ما ثبت لهم في حيز الصلة وبين ما صدر عنهم من النبذ كِتابَ اللَّهِ مفعول نَبَذَ والمراد به التوراة لما روي عن السدي أنه قال:
لما جاءهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن، فهذا قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ إلخ، ويؤيده أن النبذ يقتضي سابقة الأخذ في الجملة- وهو متحقق بالنسبة إليها- وأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، وأن مذمتهم في أنهم نبذوا الكتاب الذي أوتوه واعترفوا بحقيته أشد فإنه يفيد أنه كان مجرد مكابرة وعناد، ومعنى نبذهم لها اطراح أحكامها، أو ما فيها من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: القرآن، وأيده أبو حيان بأن الكلام مع الرسول فيصير المعنى أنه يصدق ما بأيديهم من التوراة، وهم بالعكس يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولا يؤمنون به بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول، وقيل: الإنجيل- وليس بشيء- وأضاف الكتاب إلى الاسم الكريم تعظيما له وتهويلا لما اجترءوا عليه من الكفر به.
وَراءَ ظُهُورِهِمْ جمع- ظهر- وهو معروف، ويجمع أيضا على- ظهران- وقد شبه تركهم كتاب الله تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر، والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة، ثم استعمل هاهنا ما كان مستعملا هناك- وهو النبذ وراء الظهر- والعرب كثيرا ما تستعمل ذلك في هذا المعنى، ومنه قوله:
تميم بن مر لا تكونن حاجتي بظهر- ولا يعيى عليك جوابها
ويقولون أيضا: جعل هذا الأمر دبر أذنه ويريدون ما تقدم كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ جملة حالية، أي نبذوه مشبهين بمن لا يعلم أنه كتاب الله تعالى أو لا يعلمه أصلا أو لا يعلمونه على وجه الإتقان، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا على تقدير أن يراد الأحبار، وفيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون وفي الوجهين الأولين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة، ومن فسر كتاب الله تعالى بالقرآن جعل متعلق العلم أنه كتاب الله أي كأنهم لا يعلمون أن القرآن كتاب الله تعالى مع ثبوت ذلك عندهم وتحققه لديهم، وفيه إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغيا وحسدا، وجعل المتعلق- أنه نبي صادق- بعيد، وقد دل الآيتان قوله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا إلخ، وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ إلخ بناء على احتمال أن يكون الأكثر غير النابذين، على أن جلّ اليهود أربع فرق، ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون المشار إليهم ب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدي الحدود، وهم المعنيون بقوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ منهم وفرقة لم يجاهروا، ولكن نبذوا لجهلهم- وهم الأكثرون- وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها سرا، وهم المتجاهلون وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عطف على «نبذ» والضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب- على ما تقدم عن السدي، وقيل: عطف على مجموع ما قبله عطف القصة على- القصة، والضمير للذين تقدموا من اليهود، أو الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام، أو الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، أو ما يتناول الكل لأن ذاك غير ظاهر إذ يقتضي الدخول في حيز ل ما واتباعهم هذا ليس مترتبا على مجيء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه أن ما علمت من قول السدي يفتح باب الظهور، اللهم إلا أن يكون المبني غيره، وقيل: عطف على اشربوا وهو في غاية البعد، بل لا يقدم عليه من جرع جرعة من الإنصاف، والمراد- بالاتباع- التوغل والإقبال على الشيء بالكلية، وقيل: الاقتداء، وما موصولة وتَتْلُوا صلتها، ومعناه تتبع أو تقرأ- وهو حكاية حال ماضية، والأصل-
336
تلت- وقول الكوفيين إن المعنى ما كانت تَتْلُوا محمول على ذلك- لا أن كان هناك مقدرة- والمتبادر من الشياطين مردة الجن وهو قول الأكثرين، وقيل: المراد بهم شياطين الإنس، وهو قول المتكلمين من المعتزلة وقرأ الحسن والضحاك- الشياطون- على حد ما رواه الأصمعي عن العرب- بستان فلان حوله بساتون- وهو من الشذوذ بمكان حتى قيل: إنه لحن عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ متعلق ب تَتْلُوا وفي الكلام مضاف محذوف أي عهد ملكه وزمانه، أو الملك مجاز عن العهد، وعلى التقديرين عَلى بمعنى- في- كما أن- في- بمعنى على في قوله تعالى:
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: ٧١] وقد صرح في التسهيل بمجيئها للظرفية ومثل له بهذه الآية لأن الملك وكذا العهد لا يصلح كونه مقروءا عليه، ومن الأصحاب من أنكر مجيء- على- بمعنى- في- وجعل هذا من تضمين تتلو معنى تتقول، أو الملك عبارة عن الكرسي لأنه كان من آلات ملكه، فالكلام على حد قرأت على المنبر، والمراد بما يتلونه السحر،
فقد أخرج سفيان بن عيينة وابن جرير والحاكم، وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة كذب عليها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين فأطلع الله تعالى على ذلك سليمان بن داود فأخذها وقذفها تحت الكرسي فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا نعم فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر»
وقيل: روي أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه خوفا على أنه إذا هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أو هموهم أنها من علم سليمان،
ولا يخفى ضعف هذه الرواية، وسليمان- كما في البحر- اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره من الأعجمية في أن آخره ألف ونون- هامان، وماهان. وشامان- وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان لأن زيادتهما موقوفة على الاشتقاق والتصريف، وهما لا يدخلان الأسماء الأعجمية وكثير من الناس اليوم على خلافه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ اعتراض لتبرئة سليمان عليه السلام عما نسبوه إليه، فقد أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال: قال اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح، وعبر سبحانه عن السحر بالكفر بطريق الكناية رعاية لمناسبة لكِنَّ الاستدراكية في قوله تعالى:
وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فإن كَفَرُوا معها مستعمل في معناه الحقيقي وجملة يعلمون حال من الضمير، وقيل: من الشياطين، ورد بأن لكن لا تعمل في الحال، وأجيب بأن فيها رائحة الفعل وقيل بدل من كفروا، وقيل استئناف والضمير- للشياطين- أو- للذين اتبعوا- والسِّحْرَ في الأصل مصدر سحر يسحر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدق ويخفى وهو من المصادر الشاذة، ويستعمل بما لطف وخفي سببه، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق- وليس به- إذ يجري فيه التعلم ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بارتكاب القبائح، قولا كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدح الشيطان وتسخيره، وعملا كعبادة الكواكب، والتزام الجناية وسائر الفسوق، واعتقادا كاستحسان ما يوجب التقرب إليه ومحبته إياه وذلك لا يستتب إلا بمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط التضام والتعاون فكما أن الملائكة لا تعاون إلا أخيار الناس المشبهين بهم في المواظبة على العبادة والتقرب إلى الله تعالى بالقول والفعل كذلك الشياطين لا تعاون إلا الأشرار المشبهين بهم في الخباثة والنجاسة قولا وفعلا واعتقادا، وبهذا يتميز الساحر عن النبي والولي، فلا يرد ما قال المعتزلة: من أنه لو أمكن للإنسان من جهة الشيطان ظهور الخوارق والإخبار عن المغيبات لاشتبه طريق النبوة بطريق السحر، وأما ما يتعجب منه- كما يفعله
337
أصحاب الحيل بمعونة الآلات المركبة على النسبة الهندسية تارة، وعلى صيرورة الخلاء ملاء أخرى، وبمعونة الأدوية كالنارنجيات أو يريه صاحب خفة اليد- فتسميته سحرا على التجوز وهو مذموم أيضا عند البعض، وصرح النووي في الروضة بحرمته، وفسره الجمهور بأنه خارق للعادة يظهر من نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة والجمهور على أن له حقيقة وأنه قد يبلغ الساحر إلى حيث يطير في الهواء ويمشي على الماء ويقتل النفس ويقلب الإنسان حمارا، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى ولم تجر سنته بتمكين الساحر من فلق البحر وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وغير ذلك من آيات الرسل عليهم السلام، والمعتزلة، وأبو جعفر الأستراباذي من أصحابنا على أنه لا حقيقة له، وإنما هو تخييل، وأكفر المعتزلة من قال ببلوغ الساحر إلى حيث ما ذكرنا زعما منهم أن بذلك انسداد طريق النبوة وليس كما زعموا على ما لا يخفى، ومن المحققين من فرق بين السحر والمعجزة باقتران المعجزة بالتحدي بخلافه فإنه لا يمكن ظهوره على يد مدعي نبوة كاذبا كما جرت به عادة الله تعالى المستمرة صونا لهذا المنصب الجليل عن أن يتسور حماه الكذابون وقد شاع أن العمل به كفر حتى قال العلامة التفتازاني: لا يروى خلاف في ذلك، وعده نوعا من الكبائر مغاير الإشراك لا ينافي ذلك لأن الكفر أعم والإشراك نوع منه، وفيه بحث: أما أولا فلأن الشيخ أبا منصور ذهب إلى أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا، ولعل ما ذهب إليه العلامة مبني على التفسير أولا فإنه عليه مما لا يمترى في كفر فاعله، وأما ثانيا فلأن المراد من الإشراك فيما عدا الكبائر مطلق الكفر وإلا تخرج أنواع الكفر منها، ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث وما ليس بكفر، وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب، ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة موسى قبلت توبتهم كذا في المدارك، ولعله إلى الأصول أقرب، والمشهور عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر ولا يقبل قوله أترك السحر وأتوب عنه فإن أقرّ بأني كنت أسحر مدة وقد تركت منذ زمان قبل منه ولم يقتل، واحتج بما روي أن جارية لحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها سحرتها فأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها، وإنكار عثمان رضي الله تعالى عنه إنما كان لقتلها بغير إذنه. وبما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلوا ثلاث سواحر، والشافعية نظروا في هذا الاحتجاج واعترضوا على القول بالقتل مطلقا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم
يقتل اليهودي الذي سحره، فالمؤمن مثله
لقوله عليه السلام: «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»
وتحقيقه في الفروع، واختلف في تعليمه وتعلمه فقيل: كفر لهذه الآية إذ فيها ترتيب الحكم على الوصف المناسب وهو مشعر بالعلية، وأجيب بأنا لا نسلم أن فيها ذلك لأن المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون السحر، وقيل:
إنهما حرامان- وبه قطع الجمهور- وقيل: مكروهان- وإليه ذهب البعض- وقيل: مباحان، والتعليم المساق للذم هنا محمول على التعليم للإغواء والإضلال، وإليه مال الإمام الرازي قائلا: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:
٩] ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به، فيفتي به في وجوب القصاص انتهى. والحق عندي الحرمة تبعا للجمهور إلا لداع شرعي، وفيما قاله رحمه الله تعالى نظر «أما أولا» فلأنا لا ندعي أنه قبيح لذاته، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه، فتحريمه من باب سد الذرائع- وكم من أمر حرم لذلك-
وفي الحديث «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
338
«وأما ثانيا» فلأن توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوع، ألا ترى أن أكثر العلماء أو كلهم- إلا النادر- عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر- وكفى فارقا بينهما ما تقدم، ولو كان تعلمه واجبا لذلك لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول مع أنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك، أفتراهم أخلوا بهذا الواجب وأتى به هذا القائل، أو أنه أخل به كما أخلوا «وأما ثالثا» فلأن ما نقل عن بعضهم غير صحيح، لأن إفتاء المفتي بوجوب القود أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه- على ما ذكره العلامة ابن حجر- إن شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالبا قتل الساحر. وإلا فلا- هذا وقد أطلق بعض العلماء السِّحْرَ على المشي بين الناس بالنميمة لأن فيها قلب الصديق عدوا والعدو صديقا، كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذاب لما فيه من الاستمالة، ويسمى سحرا حلالا، ومنه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا»
والقول بأنه مخرج مخرج الذم للفصاحة والبلاغة بعيد- وإن ذهب إليه عامر الشعبي راوي الحديث- وظاهر قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ إلخ أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم، وقيل: يدلونهم على تلك الكتب، فأطلق على تلك الدلالة تعليما إطلاقا للسبب على المسبب، وقيل:
المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق تضر وتنفع، وأن سليمان عليه السلام إنما تم له ما تم بذلك- والإطلاق عليه هو الإطلاق- وقيل: يُعَلِّمُونَ بمعنى يُعَلِّمُونَ من الإعلام وهو الإخبار، أي يخبرونهم بما أو بمن يتعلمون به أو منه السِّحْرَ وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو «لكنّ» بالتشديد. وابن عامر وحمزة والكسائي- بالتخفيف وارتفاع ما بعدها بالابتداء والخبر- وهل يجوز إعمالها إذا خففت؟ فيه خلاف، والجمع على المنع- وهو الصحيح- وعن يونس والأخفش الجواز، والصحيح أنها بسيطة «ومنهم» من زعم أنها مركبة من «لا» النافية- وكاف الخطاب- «وأن» المؤكدة المحذوفة الهمزة للاستثقال، وهو إلى الفساد أقرب وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ المراد الجنس، وهو عطف على السِّحْرَ وهما واحد إلا أنه نزل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات كما في قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام
البيت، وفائدة العطف التنصيص بأنهم- يعلمون- ما هو جامع بين كونه سحرا وبين كونه منزلا عَلَى الْمَلَكَيْنِ للابتلاء، فيفيد ذمهم بارتكابهم النهي بوجهين، وقد يراد بالموصول المعهود- وهو نوع آخر أقوى- فيكون من عطف الخاص على العام إشارة إلى كماله، وقال مجاهد: هو دون السِّحْرَ وهو- ما يفرّق به بين المرء وزوجه- لا غير والمشهور الأول، وجوز العطف على ما تَتْلُوا فكأنه قيل: اتبعوا السحر المدوّن في الكتب وغيره، وهذان الملكان أنزلا لتعليم السِّحْرَ ابتلاء من الله تعالى للناس، فمن تعلم وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وتمييزا بينه وبين المعجزة حيث إنه كثر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة أمورا غريبة وقع الشك بها في النبوة، فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر حتى يزيلا الشبه ويميطا الأذى عن الطريق، قيل: كان ذلك في زمن إدريس عليه السلام، وأما ما
روي أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله تعالى به، وقالوا له تعالى: لو كنا مكانهم ما عصيناك، فقال: اختاروا ملكين منكم، فاختاروهما، فهبطا إلى الأرض ومثلا بشرين، وألقى الله تعالى عليهما الشبق، وحكما بين الناس، فافتتنا بامرأة يقال لها زهرة، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنما، أو يشربا خمرا، أو يقتلا نفسا ففعلا، ثم تعلمت منهما ما صعدت به إلى السماء، فصعدت ومسخت هذا- النجم- وأرادا العروج فلم يمكنهما فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة- فاختارا عذاب الدنيا- فهما الآن يعذبان فيها،
إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفا وعشرين، فقد أنكره جماعة منهم القاضي عياض، وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شيء- لا سقيم ولا صحيح- عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وليس هو شيئا يؤخذ بالقياس- وذكر في البحر أن جميع ذلك لا يصح منه شيء، ولم يصح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يلعن الزهرة، ولا ابن عمر رضي الله تعالى
339
عنهما خلافا لمن رواه، وقال الإمام الرازي بعد أن ذكر الرواية في ذلك: إن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة، ونص الشهاب العراقي، على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر بالله تعالى العظيم، فإن الملائكة معصومون لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: ٦] لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: ١٩، ٢٠] والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السماوات والأرض، والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول. واعترض الإمام السيوطي على من أنكر القصة بأن الإمام أحمد. وابن حبان. والبيهقي، وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على عليّ. وابن عباس. وابن عمر. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرجيها، وذهب بعض المحققين أن ما روي مروي حكاية لما قاله اليهود- وهو باطل في نفسه- وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية، ولا يردّ ما قاله الإمام السيوطي عليه، إنما يردّ على المنكرين بالكلية، ولعل ذلك من باب الرموز والإشارات فيراد من الملكين العقل النظري والعقل العملي اللذان هما من عالم القدس، ومن المرأة المسماة بالزهرة- النفس الناطقة- ومن تعرضهما لها تعليمهما لها ما يسعدها، ومن حملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما، ومن صعودها إلى السماء بما تعلمت منهما عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصاحها لنصحهما، ومن بقائهما معذبين بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد وحرمانهما عن العروج إلى سماء الحضرة، لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها، ومن الأكابر من قال في حل هذا الرمز: إن الروح والعقل اللذين هما من عالم المجردات قد نزلا من سماء التجرد إلى أرض التعلق، فعشقا البدن الذي هو كالزهرة في غاية الحسن والجمال لتوقف كمالهما عليه، فاكتسبا بتوسطه المعاصي والشرك وتحصيل اللذات الحسية الدنية، ثم صعد إلى السماء بأن وصل بحسن تدبيرهما إلى الكمال اللائق به، ثم مسخ بأن انقطع التعلق وتفرقت العناصر، وهما بقيا معذبين بعذاب الحرمان عن الاتصال بعالم القدس متألمين بالآلام الروحانية منكوسي الحال حيث غلب التعلق على التجرد وانعكس القرب بالبعد، وقيل: المقصود من ذلك الإشارة إلى أن من كان ملكا إن اتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة، ومن كان امرأة ذات شهوة إذا كسرت شهوتها، وغلبت عليها صعدت إلى درج الملك واتصلت إلى سماء المنازل والمراتب، وكتب بعضهم لحله.
مل وأيم الله نفسي نفسي وطال في مكث حياتي حبسي
أصبح في مضاجعي وأمسي أمسي كيومي وكيومي أمسي
يا حبذا يوم نزولي رمسي مبدأ سعدي وانتهاء نحسي
وكل جنس لا حق بالجنس من جوهر يرقى بدار الأنس
وعرض يبقى بدار الحس هذا ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططا وقال غلطا، وفتح بابا من السحر يضحك الموتى، ويبكي الأحياء، وينكس راية الإسلام، ويرفع رؤوس الكفرة الطغام كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين، وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود والضحاك- «الملكين» - بكسر اللام، حمل بعضهم قراءة الفتح على ذلك فقال هما رجلان إلا أنهما سميا ملكين باعتبار صلاحهما، ويؤيده ما قيل: إنهما داود وسليمان، ويرده قول الحسن إنهما علجان كانا ببابل العراق، وبعضهم يقول: إنهما من الملائكة ظهرا في صورة الملوك- وفيه حمل الكسر على الفتح على عكس ما تقدم والإنزال- إما على ظاهره أو بمعنى
340
القذف في قلوبهما «ببابل» الباء بمعنى في وهي متعلقة- بأنزل- أو بمحذوف وقع حالا من الْمَلَكَيْنِ أو من الضمير في أُنْزِلَ وهي كما قال ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما: بلد في سواد الكوفة، وقيل:
بابل العراق، وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين، وقيل: جبل دماوند، وقيل: بلد بالمغرب- والمشهور اليوم الثاني- وعند البعض هو الأول، قيل وسميت بابل لتبلبل الألسنة فيها عند سقوط صرح نمرود، وأخرج الدينوري في المجالسة وابن عساكر من طريق نعيم ابن سالم- وهو متهم- عن أنس بن مالك قال: لما حشر الله تعالى الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية فجمعتهم إلى بابل فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له إذ نادى مناد من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو فكان أول من تكلم بالعربية فلم يزل المنادي ينادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن فسميت بابل وكان اللسان يومئذ بابليا، وعندي في القولين تردد يلف عدم قبول، والذي أميل إليه أن بابل اسم أعجمي كما نص عليه أبو حيان لا عربي كما يشير إليه كلام الأخفش، وأنه في الأصل اسم للنهر الكبير في بعض اللغات الأعجمية القديمة وقد أطلق على تلك الأرض لقرب الفرات منها، ولعل ذلك من قبيل تسمية بغداد دار السلام بناء على أن السلام اسم لدجلة، وقد رأيت لذلك تفصيلا لا أدريه اليوم في أي كتاب.
وأظنه قريبا مما ذكرته فليحفظ، ومنع بعضهم الصلاة بأرض بابل احتجاجا بما
أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن حبيبي صلّى الله عليه وسلّم نهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة،
وقال الخطابي: في إسناد هذا الحديث مقال، ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة بها، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه عن أن يتخذها وطنا ومقاما فإذا أقام بها كانت صلاته فيها وهذا من باب التعليق في علم البيان، أو لعل النهي له خاصة ألا ترى قال: نهاني، ومثله
حديث آخر نهاني أقرأ ساجدا أو راكعا ولا أقول نهاكم،
وكان ذلك إنذارا منه بما لقي من المحنة في تلك الناحية هارُوتَ وَمارُوتَ عطف بيان- للملكين- وهما اسمان أعجميان لهما منعا من الصرف للعلمية والعجمة وقيل: عربيان من الهرت والمرت بمعنى الكسر وكان اسمهما قبل عزا وعزايا فلما قارفا الذنب سميا بذلك، ويشكل عليه منعهما من الصرف، وليس إلا العلمية، وتكلف له بعضهم بأنه يحتمل أن يقال: إنهما معدولان من الهارت والمارت، وانحصار العدل في الأوزان المحفوظة غير مسلم، وهو كما ترى، وقرأ الحسن والزهري برفعهما على أن التقدير هما هاروت وماروت، ومما يقضي منه العجب ما قاله الإمام القرطبي: إن هاروت وماروت بدل من الشياطين على قراءة التشديد، وما في وَما أُنْزِلَ نافية، والمراد من الملكين جبرائيل وميكائيل لأن اليهود زعموا أن الله تعالى أنزلهما بالسحر، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ هارُوتَ وَمارُوتَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ وعليه فالبدل إما بدل بعض من كل، ونص عليهما بالذكر لتمردهما، ولكونهما رأسا في التعليم، أو بدل كل من كل إما بناء على أن الجمع يطلق على الاثنين أو على أنهما عبارتان عن قبيلتين من الشياطين لم يكن غيرهما بهذه الصفة، وأعجب من قوله هذا قوله: وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها، ولا تلتفت إلى ما سواه، ولا يخفى لدى كل منصف أنه لا ينبغي لمؤمن حمل كلام الله تعالى- وهو في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة- على ما هو أدنى من ذلك وما هو إلا مسخ لكتاب الله تعالى عز شأنه وإهباط له عن شأوه ومفاسد قلة البضاعة لا تحصى، وقيل إنهما بدل من الناس أي يُعَلِّمُونَ النَّاسَ خصوصا هارُوتَ وَمارُوتَ والنفي هو النفي.
341
وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ أي ما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له: إنما نحن ابتلاء من الله عز وجل فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى ثبت على الإيمان فَلا تَكْفُرْ باعتقاده وجواز العمل به، وقيل: فلا تتعلم معتقدا أنه حق حتى تكفر، وهو مبني- على رأي الاعتزال- من أن السحر تمويه وتخييل ومن اعتقد حقيته يكفر، ومِنْ مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق، وإفراد- الفتنة- مع تعدد المخبر عنه لكونها مصدرا، والحمل مواطأة للمبالغة، والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه، وحَتَّى للغاية، وقيل بمعنى إلا، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير يُعَلِّمُونَ والظاهر أن القول مرة واحدة والقول: بأنه ثلاث أو سبع أو تسع لا ثبت له، واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما فقال مجاهد: إنهما لا يصل إليهما أحد من الناس وإنما يختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافة واحدة فيتعلمان منهما، وقيل وهو الظاهر: إنهما كان يباشران التعليم بأنفسهما في وقت من الأوقات، والأقرب أنهما ليسا إذ ذاك على الصورة الملكية، وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به قالت: كان لي زوج غاب عني فدخلت على عجوز فشكوت إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك أجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي به، إلى أن قالت: فذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب إلى السماء وغاب عني حتى ما أراه، فجئتهما وذكرت لهما، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي فلن تريدي شيئا إلا كان- الخبر بطوله- فهو ونظائره- مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب- مما لا يعول عليه ذوو الألباب، والإقدام على تكذيب مثل هذه الامرأة الدوجندية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي
لم يصح فيها شيء عن رسول رب البرية صلى الله تعالى عليه وسلم، ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام، واستدل بالآية من جوّز تعلم السحر، ووجهه أن فيها دلالة على وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم، والتعلم مطاوع له، بل هما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار كالايجاب والوجوب، ولا يخفى أنه لا دليل فيها على الجواز مطلقا لأن ذلك التعليم كان للابتلاء والتمييز كما قدمنا، وقد ذكر القائلون بالتحريم: أن تعلم السحر إذا فرض فشوّه في صقع، وأريد تبيين فساده لهم ليرجعوا إلى الحق غير حرام كما لا يحرم تعلم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبه- وإن كان أغلب أحواله التحريم- وهذا لا ينافي إطلاق القول به، ومن قال: إن هاروت وماروت من الشياطين قال: إن معنى الآية ما يعلمان السحر أحدا حتى ينصحاه ويقولا: إنا مفتونان باعتقاد جوازه والعمل به فلا تكن مثلنا في ذلك فتكفر، وحينئذ لا استدلال أصلا، وما ذكرنا أن القول على سبيل النصح في هذا الوجه هو الظاهر، وحكى المهدوي أنه على سبيل الاستهزاء لا النصيحة وهو الأنسب بحال الشياطين، وقرأ طلحة بن مصرف- يعلمان- بالتخفيف من الإعلام وعليها حمل بعضهم قراءة التشديد، وقرأ أبيّ بإظهار الفاعل فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما عطف على الجملة المنفية لأنها في قوة المثبتة كأنه قال: يعلمانهم بعد ذلك القول فيتعلمون، وليس عطفا على المنفي بدون هذا الاعتبار كما توهمه أبو علي من كلام الزجاج، وعطفه بعضهم على يُعَلِّمانِ محذوفا، وبعضهم على يَأْتُونَ كذلك، والضمير المرفوع لما دل عليه أَحَدٍ وهو الناس أو- لأحد- حملا له على المعنى كما في قوله تعالى فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٧] وحكى المهدوي جواز العطف على يُعَلِّمُونَ النَّاسَ فمرجع
342
الضمير حينئذ ظاهر، وقيل: في الكلام مبتدأ محذوف أي فهم يتعلمون فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من عطف الاسمية على الفعلية- ونسب ذلك إلى سيبويه- وليس بالجيد، وضمير مِنْهُما عائد على الملكين، ومن النَّاسَ من جعله عائدا إلى السحر والكفر أو الفتنة والسحر، وعطف يَتَعَلَّمُونَ على يُعَلِّمُونَ وحمل ما يعلمان على النفي، وحَتَّى يَقُولا على التأكيد له أي لا يعلمان السحر لأحد بل ينهيانه حَتَّى يَقُولا إلخ فهو كقولك:
ما أمرته بكذا حتى قلت له إن فعلت نالك كذا وكذا، وجعل- ما أنزل- أيضا نفيا معطوفا على- ما كفر- وهو كما ترى ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أي الذي أو شيئا يفرقون به وهو السحر المزيل بطريق السببية الألفة والمحبة بين الزوجين الموقع للبغضاء والشحناء الموجبتين للتفريق بينهما وقيل: المراد ما يفرق لكونه كفرا لأنه إذا تعلم كفر فبانت زوجته أو إذا تعلم عمل فتراه الناس فيعتقدون أنه حق فيكفرون فتبين أزواجهم، والمرء- الرجل، والأفصح فتح الميم مطلقا، وحكي الضم مطلقا، وحكي الإتباع لحركة الاعراب، ومؤنثه المرأة، وقد جاء جمعه بالواو والنون فقالوا: المرءون، والزوج امرأة الرجل، وقيل: المراد به هنا القريب والأخ الملائم، ومنه مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: ٥، ق: ٧] واحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: ٢٢] وقرأ الحسن والزهري وقتادة «المر» بغير همز مخففا، وابن أبي إسحاق- «المرء» - بضم الميم مع الهمز، والأشهب بالكسر والهمز، ورويت عن الحسن، وقرأ الزهري أيضا- «المر» - بالفتح وإسقاط الهمزة وتشديد الراء وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ الضمير للسحرة الذين عاد إليهم ضمير فَيَتَعَلَّمُونَ وقيل: لليهود الذين عاد إليهم ضمير وَاتَّبَعُوا وقيل- للشياطين- وضمير به عائد لما، ومِنْ زائدة لاستغراق النفي كأنه قيل: وما يضرون به أحدا، وقرأ الأعمش- بضاري- محذوف النون، وخرج على أنها حذفت تخفيفا وإن كان اسم الفاعل ليس صلة- لأل- فقد نص ابن مالك على عدم الاشتراط لقوله:
ولسنا إذا تأتون سلمى بمدعي لكم غير أنا إن نسالم نسالم
وقولهم: قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا، وقيل: إنها حذفت للإضافة إلى محذوف مقدر لفظا على حد قوله: يا تيم تيم عدي في أحد الوجوه، وقيل: للاضافة إلى أَحَدٍ على جعل الجار جزءا منه والفصل بالظرف مسموع كما في قوله:
هما أخوا في الحرب من لا أخا له وإن خاف يوما كبوة فدعاهما
واختار ذلك الزمخشري، وفيه أن جعل الجار جزء من المجرور ليس بشيء لأنه مؤثر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر فيه، وأيضا الفصل بين المتضايفين بالظرف وإن سمع من ضرائر الشعر كما صرح به أبو حيان ولظن تعين هذا مخرجا قال ابن جني: إن هذه القراءة أبعد الشواذ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ استثناء مفرغ من الأحوال والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير- ضارين- أو من مفعوله المعتمد على النفي أو الضمير المجرور في بِهِ أو المصدر المفهوم من الوصف، والمراد من الإذن هنا التخلية بين المسحور وضرر السحر- قاله الحسن- وفيه دليل على أن فيه ضررا مودعا إذا شاء الله تعالى حال بينه وبينه، وإذا شاء خلاه وما أودعه فيه، وهذا مذهب السلف في سائر الأسباب والمسببات، وقيل: الإذن بمعنى الأمر ويتجوز به عن التكوين بعلاقة ترتب الوجود على كل منهما في الجملة، والقرينة عدم كون القبائح مأمورا بها ففيه نفي كون الأسباب مؤثرة بنفسها بل بجعله إياها أسبابا إما عادية أو حقيقية، وقيل: إنه هنا بمعنى العلم، وليس فيه إشارة إلى نفي التأثير بالذات كالوجهين الأولين.
وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ لأنهم يقصدون به العمل قصدا جازما وقصد المعصية كذلك معصية أو لأن العلم يدعو إلى العمل ويجر إليه لا سيما عمل الشر الذي هو هوى النفس، فصيغة المضارع للحال على الأول وللاستقبال
343
على الثاني وَلا يَنْفَعُهُمْ عطف على ما قبله للإيذان بأنه شر بحت وضرر محض لا كبعض المضار المشوبة بنفع وضرر لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار بأكاذيب السحرة ولا إماطة الأذى عن الطريق حتى يكون فيه نفع في الجملة، وفي الإتيان ب لا إشارة إلى أنه غير نافع في الدارين لأنه لا تعلق به بانتظام المعاش ولا المعاد وفي الحكم بأنه ضار غير نافع تحذير بليغ- لمن ألقى السمع وهو شهيد- عن تعاطيه وتحريض على التحرز عنه، وجوز بعضهم أن يكون لا يَنْفَعُهُمْ على إضمار هو فيكون في موضع رفع وتكون الواو للحال ولا يخفى ضعفه وَلَقَدْ عَلِمُوا متعلق بقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ إلخ، وقصة السحر مستطردة في البين فالضمير لأولئك اليهود، وقيل: الضمير لليهود الذين كانوا على عهد سليمان عليه السلام، وقيل: للملكين لأنهما كانا يقولان فَلا تَكْفُرْ وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك لَمَنِ اشْتَراهُ أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ، وعلى المضارع ودخولها على الماضي مع قد كثير وبدونه ممتنع، وعلى خبر المبتدأ إذا تقدم عليه، وعلى معمول الخبر إذا وقع موقع المبتدأ والكوفيون يجعلونها في الجميع جواب القسم المقدر وليس في الوجود عندهم لام ابتداء كما يشير إليه كلام الرضيّ، وقد علقت هنا- علم- عن العمل سواء كانت متعدية لمفعول أو مفعولين- فمن- موصولة مبتدأ واشْتَراهُ صلتها وقوله تعالى: ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ جملة ابتدائية خبرها، ومن- مزيدة في المبتدأ، وفِي الْآخِرَةِ متعلق بما تعلق به الخبر أو حال من الضمير فيه أو من مرجعه، والخلاق- النصيب- قاله مجاهد- أو القوام- قاله ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما، أو القدر- قاله قتادة- ومنه قوله:
فما لك بيت لدى الشامخات وما لك في غالب من «خلاق»
قال الزجاج: وأكثر ما يستعمل في الخير، ويكون للشر على قلة، وذهب أبو البقاء تبعا للفراء إلى أن اللام موطئة للقسم، ومِنْ شرطية مبتدأ واشْتَراهُ خبرها وما لَهُ إلخ جواب القسم، وجواب الشرط محذوف دل هو عليه لأنه إذا اجتمع قسم وشرط يجاب سابقهما غالبا، وفيه ما فيه لأنه نقل عن الزجاج ردّ من قال بشرطية مِنْ هنا بأنه ليس موضع شرط، ووجهه أبو حيان بأن الفعل ماض لفظا ومعنى لأن الاشتراء قد وقع فجعله شرطا لا يصح لأن فعل الشرط إذا كان ماضيا لفظا فلا بد أن يكون مستقبلا معنى، وقد ذكر الرضيّ في- لزيد قائم- أن الأولى كون اللام فيه لام الابتداء مفيدة للتأكيد ولا يقدر القسم كما فعله الكوفية لأن الأصل عدم التقدير، والتأكيد المطلوب من القسم حاصل من اللام، والقول بأن اللام تأكيد للأولى أو زائدة مما لا يكاد يصح، أما الأول فلأن بناء الكلمة إذا كان على حرف واحد لا يكرر وحده بل مع عماده إلا في ضرورة الشعر على ما ارتضاه الرضيّ، وأما الثاني فلأن المعهود زيادة اللام الجارة وهي مكسورة في الاسم الظاهر.
وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ اللام فيه لام ابتداء أيضا، والمشهور أنها جواب القسم، والجملة معطوفة على القسمية الأولى، وما نكرة مميزة للضمير المبهم في- بئس- والمخصوص بالذم محذوف، و «شروا» يحتمل المعنيين والظاهر هو الظاهر- أي والله لبئس شيئا شروا به حظوظ أنفسهم- أي باعوها أو شروها في زعمهم ذلك الشراء، وفي البحر بئسما باعوا أنفسهم السحر أو الكفر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي مذمومية الشراء المذكور لامتنعوا عنه، ولا تنافي بين إثبات العلم لهم أولا ونفيه عنهم ثانيا إما لأن المثبت لهم هو العقل الغريزي والمنفي عنهم هو الكسب الذي هو من جملة التكليف، أو لأن الأول هو العلم بالجملة والثاني هو العلم بالتفصيل، فقد يعلم الإنسان مثلا قبح الشيء ثم لا يعلم أن فعله قبيح فكأنهم علموا أن شراء النفس بالسحر مذموم لكن لم يتفكروا في أن ما يفعلونه هو من جملة ذلك القبيح أو لأنهم علموا العقاب ولم يعلموا حقيقته وشدته، وإما لأن الكلام مخرج على تنزيل العالم
344
بالشيء منزلة الجاهل ووجود الشيء منزلة عدمه لعدم ثمرته حيث إنهم لم يعملوا بعلمهم، أو على تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بناء على أن قوله تعالى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ معناه لو كان لهم علم بذلك الشراء لامتنعوا منه أي ليس لهم علم فلا يمتنعون، وهذا هو الخبر الملقى إليهم، واعتراض العلامة بأن هذا الخبر لو فرض كونه ملقى إليهم فلا معنى لكونهم عالمين بمضمونه كيف وقد تحقق في وَلَقَدْ عَلِمُوا نقيضه وهو أن لهم علما به وبعد اللتيا والتي لا معنى لتنزيلهم منزلة الجاهل بأن ليس لهم علم بأن من اشتراه- ما له في الآخرة من خلاق- بل إن كان فلا بد أن ينزلوا منزلة الجاهل بأن لهم علما بذلك يجاب عنه: أما أولا فبأن الخطاب صريحا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريضا لهم ولذا أكد، وأما ثانيا فبأن المستفاد من وَلَقَدْ عَلِمُوا ثبوت العلم لهم حقيقة والمستفاد من الخبر الملقى لهم نفي العلم عنهم تنزيلا ولا منافاة بينهما، وأما ثالثا فبأن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان عالما بأنه بمنزلة الجاهل في عدم ترتب ثمرة علمه، ومقتضى هذا العلم أن يمتنع عن ذلك العمل ففيما نحن فيه كانوا عالمين فيه بأن ليس لهم علم وأنهم بمنزلة الجاهل في ذلك الشراء، ومقتضى هذا العلم أن يمتنعوا عنه وإذا لم يمتنعوا كانوا بمنزلة الجاهل في عدم جريهم على مقتضى هذا العلم فألقى الخبر إليهم بأن ليس لهم علم مع علمهم به كذا قيل، ولا يخفى ما فيه من شدة التكلف، وأجاب بعضهم عما يتراءى من التنافي بأن مفعول يُعَلِّمُونَ ما دل عليه ل لَبِئْسَ ما شَرَوْا إلخ أعني مذمومية الشراء، ومفعول عَلِمُوا أنه لا نصيب لهم في الآخرة، والعلم بأنه لا نصيب لهم في الآخرة لا ينافي نفي العلم بمذمومية الشراء بأن يعتقدوا إباحته- فلا حاجة حينئذ إلى جميع ما سبق- وفيه أن العلم بكون الشراء المذكور موجبا للحرمان في الآخرة بدون العلم بكونه مذموما غاية المذمومية- مما لا يكاد يعقل عند أرباب العقول- والقول بأن مفعول عَلِمُوا محذوف، أي لقد علموا أنه يضرهم ولا ينفعهم، ولَمَنِ اشْتَراهُ مرتبط بأول القصة، وضمير لَبِئْسَ ما شَرَوْا لَمَنِ اشْتَراهُ ركيك جدا، وبئسما يشتري، ودفع التنافي بأنه أثبت «أولا» العلم بسوء ما شروه بالكتاب بحسب الآخرة، ثم ذم بالسوء مطلقا في الدين والدنيا، لأن «بئس» للذم العام، فالمنفي- العلم بالسوء المطلق- يعني لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ضرره في الدين والدنيا لامتنعوا، إنما غرهم توهم النفع العاجل، أو بأن المثبت أولا العلم بأن «ما شروه» ما لهم في الآخرة نصيب منه، لا أنهم شَرَوْا أنفسهم به وأخرجوها من أيديهم بالكلية، بل كانوا يظنون أن آباءهم الأنبياء يشفعونهم في الآخرة والعلم المنفي هو هذا العلم لا يخفى ما فيه «أما أولا» فلأن عموم الذم في «بئس» وإن قيل به لكنه بالنسبة إلى إفراد الفاعل في نفسها من دون تعرض للأزمنة والأمكنة- والتزام ذلك لا يخلو عن كدر- «وأما ثانيا» فلأن تخصيص النصيب- بمنه- مع كونه نكرة مقرونة ب مِنْ في سياق النفي المساق للتهويل مما لا يدعو إليه إلا ضيق العطن، والجواب- بإرجاع ضمير عَلِمُوا لِلنَّاسِ أو الشَّياطِينُ واشْتَرَوْا لليهود- ارتكاب للتفكيك من غير ضرورة تدعو إليه، ولا قرينة واضحة تدل عليه، وبعد كل
حساب- الأولى عندي في الجواب- كون الكلام مخرجا على التنزيل، ولا ريب في كثرة وجود ذلك في الكتاب الجليل، والأجوبة التي ذكرت من قبل- مع جريان الكلام فيها على مقتضى الظاهر- لا تخلو في الباطن عن شيء فتدبر.
345
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا أي بالرسول، أو بما أنزل إليه من الآيات، أو بالتوراة وَاتَّقَوْا أي المعاصي التي حكيت عنهم لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب لَوْ الشرطية، وأصله- لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم- فحذف الفعل، وغير السبك إلى ما ترى ليتوسل بذلك مع معونة المقام إلى الإشارة إلى ثبات المثوبة، وثبات نسبة الخيرية إليها مع الجزم بخيريتها لأن الجملة إذا أفادت ثبات المثوبة كان الحكم بمنزلة التعليق بالمشتق، كأنه قيل:
لَمَثُوبَةٌ دائمة خَيْرٌ لدوامها وثباتها، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه، ولم يقل: لمثوبة الله، مع أنه أخصر ليشعر التنكير بالتقليل، فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب الله تعالى في الآخرة الدائمة خير من ثواب كثير في الدنيا الفانية، فكيف وثواب الله تعالى كثير دائم، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى، وببيان الأصل انحل إشكالان «لفظي» وهو أن جواب «لو» إنما يكون فعلية ماضوية «ومعنوي» وهو أن خيرية- المثوبة:
ثابتة لا تعلق لها بإيمانهم وعدمه، ولهذين الإشكالين قال الأخفش واختاره جمع: لسلامته من وقوع الجملة الابتدائية في الظاهر جوابا ل لَوْ ولم يعهد ذلك في لسان العرب- كما في البحر- أن- اللام- جواب قسم محذوف والتقدير- ولو أنهم آمنوا واتقوا لكان خيرا لهم ولمثوبة عند الله خير- وبعضهم التزم التمني- ولكن من جهة العباد لا من جهته تعالى- خلافا لمن اعتزل دفعا لهما إذ لا جواب لها حينئذ، ويكون الكلام مستأنفا، كأنه لما تمنى لهم ذلك قيل: ما هذا التحسر والتمني؟ فأجيب بأن هؤلاء المبتذلين حرموا ما شيء قليل منه خير من الدنيا وما فيها، وفي ذلك تحريض وحث على الإيمان، وذهب أبو حيان إلى أن خَيْرٌ هنا للتفضيل لا للأفضلية على حد:
فخير كما لشركما فداء
والمثوبة مفعلة- بضم العين- من الثواب، فنقلت- الضمة- إلى ما قبلها، فهو مصدر ميمي، وقيل: مفعولة وأصلها «مثووبة» فنقلت- ضمة الواو- إلى ما قبلها، وحذفت لالتقاء الساكنين، فهي من المصادر التي جاءت على مفعولة كمصدوقة- كما نقله الواحدي- ويقال: «مثوبة» - بسكون الثاء وفتح الواو- وكان من حقها أن تعلّ، فيقال:
«مثابة» - كمقامة- إلا أنهم صححوها كما صححوا في الأعلام مكوزة وبها قرأ قتادة وأبو السماك والمراد بها الجزاء والأجر، وسمي بذلك لأن المحسن يثوب إليه، والقول بأن المراد بها الرجعة إليه تعالى بعيد لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ المفعول محذوف بقرينة السابق، أي إن ثواب الله تعالى خَيْرٌ وكلمة لَوْ إما للشرط، والجزاء محذوف أي آمَنُوا وإما للتمني ولا حذف، ونفي العلم على التقديرين بنفي ثمرته الذي هو العمل، أو لترك التدبر، هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» وَاتَّبَعُوا أي اليهود وهي القوى الروحانية ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ وهم من الانس المتمردون الأشرار، ومن الجن الأوهام والتخيلات المحجوبة عن نور الروح المتمردة عن طاعة القلب العاصية لأمر العقل والشرع، والنفوس الأرضية المظلمة القوية على عهد مُلْكِ سُلَيْمانَ الروح الذي هو خليفة الله تعالى في أرضه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ بملاحظة السوي واتباع الهوى، وإسناد التأثير إلى الأغيار وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا وستروا مؤثرية الله تعالى وظهوره الذي محا ظلمة العدم. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ والشبه الصادة عن السير والسلوك إلى ملك الملوك وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وهما العقل النظري والعقل العملي النازلان من سماء القدس إلى أرض الطبيعة المنكوسان في بئرها لتوجههما إليها باستجذاب النفس إياهما بِبابِلَ الصدر المعذبان بضيق المكان بين أبخرة حب الجاه، ومواد الغضب وأدخنة نيران الشهوات المبتليان بأنواع المتخيلات، والموهومات الباطلة من الحيل والشعوذة والطلسمات والنيرنجات وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا له إِنَّما نَحْنُ امتحان وابتلاء من الله تعالى فَلا تَكْفُرْ وذلك لقوة النورية وبقية الملكوتية فيهما، فإن العقل دائما ينبه صاحبه- إذا صحا عن سكرته وهب من
347
نومته- عن الكفر والاحتجاب فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ القلب والنفس، أو بين الروح والنفس بتكدير القلب وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ بزيادة الاحتجاب وغلبة هوى النفس وَلا يَنْفَعُهُمْ كسائر العلوم في رفع الحجاب وتخلية النفس وتزكيتها وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في مقام الفناء والرجوع إلى الحق سبحانه من نصيب لإقباله على العالم السفلي وبعده عن العالم العلوي بتكدر جوهر قلبه، وانهماكه برؤية الأغيار وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا برؤية الأفعال من الله تعالى واتقوا الشرك بإثبات ما سواه لأثيبوا بمثوبة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تعالى دائمة، ولرجعوا إليه، وذلك خَيْرٌ لهم لَوْ كانُوا من ذوي العلم والعرفان والبصيرة والإيقان.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا الرعي حفظ الغير لمصلحته سواء كان الغير عاقلا أو لا، وسبب نزول الآية- كما أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- أن اليهود كانوا يقولون ذلك سرا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو سب قبيح بلسانهم، فلما سمعوا أصحابه عليه الصلاة والسلام يقولون: أعلنوا بها، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه سمعها منهم، فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأضربن عنقه، قالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية ونهي المؤمنون سدا للباب، وقطعا للألسنة وإبعادا عن المشابهة. وأخرج عبيد وابن جرير والنحاس عن عطاء قال: كانت راعِنا لغة الأنصار في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عنها في الإسلام، ولعل المراد أنهم يكثرونها في كلامهم واستعملها اليهود سبا فنهوا عنها. وأما دعوى أنها لغة مختصة بهم فغير ظاهر لأنها محفوظة في لغة جميع العرب منذ كانوا، وقيل: ومعنى هذه الكلمة عند اليهود لعنهم الله تعالى اسمع- لا سمعت- وقيل: أرادوا نسبته صلى الله تعالى عليه وسلم وحاشاه إلى الرعن، فجعلوه مشتقا من الرعونة وهي الجهل والحمق، وكانوا إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا: راعنا، أي يا أحمق- فالألف حينئذ لمد الصوت- وحرف النداء محذوف- وقد ذكر الفراء أن أصل يا زيد يا زيدا- بالألف- ليكون المنادى بين صوتين، ثم اكتفي بيا ونوي الألف، ويحتمل أنهم أرادوا به المصدر، أي- رعنت رعونة- أو أرادوا صرت راعنا وإسقاط- التنوين- على اعتبار الوقف، وقد قرأ الحسن وابن أبي ليلى، وأبو حيوة وابن محيصن- بالتنوين- وجعله الكثير صفة لمصدر محذوف، أي قولا: راعِنا وصيغة فاعل حينئذ للنسبة- كلابن وتامر- ووصف القول به للمبالغة كما يقال:
كلمة حمقاء، وقرأ عبد الله وأبيّ «راعونا» على إسناد الفعل لضمير الجمع للتوقير- كما أثبته الفارسي- وذكر أن في مصحف عبد الله «ارعونا» وذهب بعض العلماء أن سبب النهي أن لفظ المفاعلة يقتضي الاشتراك في الغالب- فيكون المعنى عليه- ليقع منك رعي لنا، ومنا رعي لك، وهو مخل بتعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يخفى بعده عن سبب النزول بمراحل وَقُولُوا انْظُرْنا أي انتظرنا وتأن علينا، أو انظر إلينا، ليكون ذلك أقوى في الإفهام والتعريف، وكان الأصل أن يتعدى الفعل بإلى، لكنه توسع فيه فتعدى بنفسه على حد قوله:
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ن كما ينظر «الأراك.. الظباء»
وقيل: هو من نظر البصيرة، والمراد به التفكر والتدبر فيما يصلح حال المنظور في أمره والمعنى تفكر في أمرنا وخير الأمور عندي أوسطها إلا أنه ينبغي أن يقيد نظر العين بالمقترن بتدبير الحال لتقوم هذه الكلمة مقام الأولى خالية من التدليس، وبدأ بالنهي لأنه من باب التروك فهو أسهل ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس قبل بالنهي، وقرأ أبيّ والأعمش- أنظرنا- بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار ومعناه أمهلنا حتى نتلقى عنك ونحفظ ما نسمعه منك، وهذه القراءة تشهد للمعنى الأول على قراءة الجمهور إلا أنها على شذوذها لا تأبى ما اخترناه
348
وَاسْمَعُوا أي ما أمرتكم به ونهيتكم عنه بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتكم عنه ولا تتركوا ما أمرتكم به أو هو أمر بحسن الاستماع بأن يكون بإحضار القلب وتفريغه عن الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة ففيه تنبيه على التقصير في السماع حتى ارتكبوا ما تسبب للمحذور، والمراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضا لليهود حيث قالوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا [البقرة: ٩٣] وإذا كان المراد سماع هذا الأمر والنهي يكون تأكيدا لما تقدم.
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ اللام للعهد فالمراد بالكافرين اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم المعلوم مما سبق بقرينة السياق ووضع المظهر موضع المضمر إيذانا بأن التهاون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر يوجب أليم العذاب، وفيه من تأكيد النهي ما فيه، وجعلها للجنس- فيدخل اليهود كما اختاره أبو حيان- ليس بظاهر على ما قيل: لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلا.
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ الودّ محبة الشيء وتمني كونه، ويذكر ويراد كل واحد منهما قصدا والآخر تبعا، والفارق كون مفعوله جملة إذا استعمل في التمني ومفردا إذا استعمل في المحبة فتقول على الأول: وددت لو تفعل كذا، وعلى الثاني وددت الرجل، ونفيه كناية عن الكراهة وأتى ب ما للإشارة إلى أن أولئك متلبسون بها ومِنْ للتبيين، وقيل: للتبعيض وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق إلا أن كفرهم يمنعهم وإن الكفر شر كله لأنه الذي يورث الحسد ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه كما أن الإيمان خير كله لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى، ولَا صلة لتأكيد النفي وزيدت له هنا دون قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: ١] لما أن مبنى النفي الحسد، واليهود بهذا الداء أشهر لا سيما وقد تقدم ما يفيد ابتلاءهم به فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها ولم يكن ذلك في لَمْ يَكُنِ وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه فأكذبهم الله تعالى بذلك، وقيل: نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير وفصلت عما قبل، وإن اشتركا في بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين لاختلاف الغرضين فإن الأول لتأديب المؤمنين وهذا لتكذيب أولئك الكافرين، ولأجل هذا الاختلاف فصل السابق عن سابقه، ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها، والقول: بأن ذلك من حيث إن القول المنهي عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحي المعبر عنه بالخير فيها فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له- إلى ما حكي عنهم لوقوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير- مساق على سبيل الترجي وأظنه إلى التمني أقرب، وقرىء «ولا المشركون» بالرفع عطفا على الذين كفروا أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ في موضع النصب على أنه مفعول يَوَدُّ وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد، وذكر التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل الخيرات على التعاقب وتجددها لا سيما إذا أريد مِنْ خَيْرٍ في قوله تعالى: مِنْ خَيْرٍ الوحي وهو قائم مقام الفاعل، ومِنْ صلة وزيادة خير، والنفي الأول منسحب عليها. ولذا ساغت زيادتها عند الجمهور ولا حاجة إلى ما قيل: إن التقدير يود أن لا ينزل خير، وذهب قوم إلى أنها للتبعيض وعليه يكون عليكم قائما ذلك المقام، والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة أو ما اختص به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المزايا أو عام في أنواع الخير كلها لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على المؤمنين عداوة وحسدا وخوفا من فوات الدراسة وزوال الرياسة، وأظهر الأقوال كما في البحر الأخير ولا يأباه ما سيأتي لما سيأتي.
مِنْ رَبِّكُمْ في موضع الصفة للخير، ومِنْ ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية التنزيل والإضافة إلى
349
ضمير المخاطبين لتشريفهم وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له، والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها اعتناء به وتعظيما لشأنه ومعنى اختصاص ذلك على القول الأول ظاهر ولذا اختاره من اختاره، وعلى الأخير انفراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه وعدم شركة أولئك الكارهين فيه وعروّهم عن ترتب آثاره، وقيل: المراد من الآية دفع الاعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لا يعترض عليه إذا عم، وفي إقامة لفظ- الله- مقام ضمير ربكم تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية، والباء داخلة على المقصور أي يؤتي رحمته، ومِنْ مفعول، وقيل: الفعل لازم، ومِنْ فاعل وعلى التقديرين العائد محذوف وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تذييل لما سبق وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا، ويود عدم إصابة خير له، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل: وإذا جعل الفضل عاما وقيل: بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيها على أحد الأقوال. كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته، وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم.
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نزلت لما قال المشركون، أو اليهود: ألا ترون إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة والسلام يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا- والنسخ- في اللغة إزالة الصورة- أو ما في حكمها- عن الشيء، وإثبات مثل ذلك في غيره سواء كان في الإعراض أو في الأعيان- ومن استعماله في المجموع التناسخ- وقد استعمل لكل واحد منهما مجازا- وهو أولى من الاشتراك- ولذا رغب فيه الراغب، فمن الأول نسخت الريح الأثر أي أزالته، ومن الثاني نسخت الكتاب إذا أثبت ما فيه في موضع آخر، ونسخ الآية- على ما ارتضاه بعض الأصوليين- بيان انتهاء التعبد بقراءتها كآية «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم» أو الحكم المستفاد منها كآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: ٢٤٠] أو بهما جميعا كآية «عشر رضعات معلومات يحرمن» وفيه رفع التأبيد المستفاد من إطلاقها، ولذا عرفه بعضهم برفع الحكم الشرعي، فهو بيان بالنسبة إلى الشارع، ورفع بالنسبة إلينا، وخرج بقيد التعبد الغاية، فإنها بيان لانتهاء مدة نفس الحكم- لا للتعبد به- واختص التعريف بالأحكام إذ لا تعبد في الأخبار أنفسها، وإنساؤها إذهابها عن القلوب بأن لا تبقى في الحفظ- وقد وقع هذا- فإن بعض الصحابة أراد قراءة بعض ما حفظه فلم يجده في صدره،
فسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: «نسخ البارحة من الصدور»
وروى مسلم عن أبي موسى: إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتها غير أني حفظت منها
«لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب»
وكنا نقرأ بسورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة» وهل يكون ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما كان لغيره أو لا؟ فيه خلاف، والذاهبون إلى الأول استدلوا بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: ٦] وهو مذهب الحسن، واستدل الذاهبون إلى الثاني بقوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: ٨٦] فإنه يدل على أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إليه صلى الله تعالى عليه
350
وسلم- وهذا قول الزجاج- وليس بالقوي لجواز حمل الذي على ما لا يجوز عليه ذلك من أنواع الوحي، وقال أبو علي: المراد لم نذهب بالجميع، وعلى التقديرين لا ينافي الاستثناء، وسبحان من لا ينسى، وفسر بعضهم- النسخ- بإزالة الحكم سواء ثبت اللفظ أو لا- والإنساء- بإزالة اللفظ ثبت حكمه أو لا، وفسر بعض آخر «الأول» بالإذهاب إلى بدل للحكم السابق «والثاني» بالإذهاب لا إلى بدل، وأورد على كلا الوجهين أن تخصيص- النسخ- بهذا المعنى مخالف للغة والاصطلاح، وأن- الإنساء حقيقة في الإذهاب عن القلوب، والحمل على المجاز- بدون تعذر الحقيقة- تعسف، ولعل ما يتمسك به لصحة هذين التفسيرين من الرواية عن بعض الأكابر لم يثبت، وما شرطية جازمة ل نَنْسَخْ منتصبة به على المفعولية، ولا تنافي بين كونها عاملة ومعمولة لاختلاف الجهة، فبتضمنها الشرط عاملة، وبكونها اسما معمولة- ويقدر لنفسها جازم- وإلا لزم توارد العاملين على معمول واحد، وتدل على جواز وقوع ما بعدها، إذ الأصل فيها أن تدخل على الأمور المحتملة، واتفقت أهل الشرائع على جواز النسخ ووقوعه وخالفت اليهود غير العيسوية في جوازه وقالوا: يمتنع عقلا، وأبو مسلم الأصفهاني في وقوعه فقال: إنه وإن جاز عقلا لكنه لم يقع- وتحقيق ذلك في الأصول، ومِنْ آيَةٍ في موضع النصب على التمييز والمميز ما أي أي شيء نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ واحتمال زيادة مِنْ وجعل آيَةٍ حالا- ليس بشيء- كاحتمال كون ما مصدرية شرطية وآيَةٍ مفعولا به أي أي نسخ «ننسخ آية» بل هذا الاحتمال أدهى وأمر- كما لا يخفى- والضمير المنصوب عائد إلى آيَةٍ على حد: عندي درهم ونصفه، لأن المنسوخ غير المنسي، وتخصيص- الآية- بالذكر باعتبار الغالب، وإلا فالحكم غير مختص بها، بل جار فيما دونها أيضا على ما قيل. وقرأ طائفة وابن عامر من السبعة «ننسخ» من باب الإفعال- والهمزة- كما قال أبو علي: للوجدان على صفة نحو أحمدته- أي وجدته محمودا- فالمعنى ما نجده منسوخا وليس نجده كذلك إلا بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى- وإن اختلفا في اللفظ- وجوّز ابن عطية كون- الهمزة- للتعدية، فالفعل حينئذ متعد إلى مفعولين، والتقدير ما ننسخك مِنْ آيَةٍ أي ما نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخها الله تعالى أباح لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم تركها بذلك النسخ فسمى تلك الإباحة إنساخا، وجعل بعضهم- الإنساخ- عبارة عن الأمر بالنسخ والمأمور هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو جبرائيل عليه السلام، واحتمال أن يكون من نسخ الكتاب، أي ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، والضميران الآتيان بعد عائدان على ما عاد إليه ضمير نُنْسِها ناشىء عن الذهول عن قاعدة أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وقرأ عمر وابن عباس والنخعي وأبو عمرو وابن كثير وكثير «ننسأها» - بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة- وطائفة كذلك إلا أنه- بالألف من غير همز- ولم يحذفها للجازم لأن أصلها- الهمزة- من- نسأ- بمعنى أخر، والمعنى في المشهور نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها أو نبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها، وهو معنى نُنْسِها
فتتحد القراءتان، وقيل: ولعله ألطف: إن المعنى نؤخر إنزالها، وهو في شأن الناسخة حيث أخر ذلك مدة بقاء المنسوخة فالمأتية حينئذ عبارة عن المنسوخة كما أنه حين النسخ عبارة عن الناسخة فمعنى الآية عليه أن رفع المنسوخة بإنزال الناسخة وتأخير الناسخة بإنزال المنسوخة كل منهما يتضمن المصلحة في وقته، وقرأ الضحاك وأبو الرجاء «ننسها» على صيغة المعلوم للمتكلم مع الغير من التنسية، والمفعول الأول محذوف يقال
: أنسانيه الله تعالى ونسانيه تنسية بمعنى أي ننس أحدا إياها، وقرأ الحسن وابن يعمر- «تنسها» - بفتح التاء من النسيان «ونسيت» إلى سعد بن أبي وقاص، وفرقة كذلك إلا أنهم همزوا، وأبو حيوة كذلك إلا أنه ضم التاء على أنه من الإنساء، وقرأ معبد مثله، ولم يهمز، وقرأ أبيّ- «ننسك» - بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز وبكاف الخطاب. وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة- «ننسكها» - بإظهار المفعولين، وقرأ الأعمش- «ما ننسك من آية أو
351
ننسخها نجىء بمثلها» - ومناسبة الآية لما قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ حيث أقر الصحابة رضي الله تعالى عنهم مدة على قول راعِنا وإقراره صلى الله تعالى عليه وسلم على الشيء منزل منزلة الأمر به والاذن فيه، ثم إنهم نهوا عن ذلك فكان مظنة لما يحاكى ما حكى في سبب النزول، أو لأنه تعالى لما ذكر أنه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ كاد ترفع الطغام رؤوسها وتقول: إن من الفضل عدم النسخ لأن النفوس إذا داومت على شيء سهل عليها فأتى سبحانه بما ينكس رؤوسهم ويكسر ناموسهم ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم وجوده العميم، أو لأنه تعالى لما أشار إلى حقية الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا عقبه بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاعنين فيه فليتدبر.
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أي بشيء هو خير للعباد منها أَوْ مِثْلِها حكما كان ذلك أو عدمه وحيا متلوا أو غيره، والخيرية أعم من أن تكون في النفع فقط أو في الثواب فقط أو في كليهما، والمثلية خاصة بالثواب على ما أشار إليه بعض المحققين، وفصله بأن الناسخ إذا كان ناسخا للحكم سواء كان ناسخا للتلاوة أو لا لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة خلا عنها الحكم السابق لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح، وتبدلها منوط بتبدلها بحسب الأوقات فيكون الناسخ خيرا منه في النفع سواء كان خيرا منه في الثواب أو مثلا له أو لا ثواب فيه أصلا كما إذا كان الناسخ مشتملا على الإباحة أو عدم الحكم وإذا كان ناسخا للتلاوة فقط لا يتصور الخيرية في النفع لعدم تبدل الحكم السابق والمصلحة فهو إما خير منه في الثواب أو مثل له، وكذا الحال في الإنساء فإن المنسي إذا كان مشتملا على حكم يكون المأتي به خيرا في النفع سواء كان النفع لخلوه عن الحكم مطلقا أو لخلوه عن ذلك الحكم واشتماله على حكم يتضمن مصلحة خلا عنها الحكم المنسي مع جواز خيريته في الثواب ومماثلته أيام خلوه عنه، وإذا لم يكن مشتملا على حكم فالمأتيّ به بعده إما خير في الثواب أو مثل له، والحاصل أن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير تبدل الحكم تتبدل المصلحة فيكون خيرا منه، وعلى تقدير عدم تبدله المصلحة الأولى باقية على حالها انتهى، ثم لا يخفى أن ما تقدم من التعميم مبني على جواز النسخ بلا بدل وجواز نسخ الكتاب بالسنة- وهو المذهب المنصور- ومن الناس من منع ذلك ومنع النسخ ببدل أثقل أيضا، واحتج بظاهر الآية، أما على الأول فلأنه لا يتصور كون المأتيّ به خيرا أو مثلا إلا في بدل، وأما على الثاني فلأن الناسخ هو المأتيّ به بدلا وهو خير أو مثل، ويكون الآتي به هو الله تعالى، والسنة ليست خيرا ولا مثل القرآن ولا مما أتى به سبحانه وتعالى، وأما على الثالث فلأن الأثقل ليس بخير من الأخف ولا مثلا له، ورد ذلك- أما الأول، والثالث- فلأنا لا نسلم أن كون المأتيّ به خيرا أو مثلا لا يتصور إلا في بدل وأن الأثقل لا يكون خيرا من الأخف إذ الأحكام إنما شرعت والآيات إنما نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا منه تعالى ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كالدواء الذي تعالج به الأدواء فإن النافع في عصر قد يضر في غيره والمزيل علة شخص قد يزيل علة سواه فإذن قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح في انتظام المعاش وأنظم في إصلاح المعاد والله تعالى لطيف حكيم، ولا يرد أن المتبادر من نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها بآية خير منها وأن عدم الحكم ليس بمأتيّ به لما أن الخلاف في جواز النسخ بلا بدل ليس في إتيان اللفظ بدل الآية الأولى بل في الحكم كما لا يخفى على من راجع الأصول- وأما الثاني- فلأنا لا نسلم حصر الناسخ بما ذكر إذ يجوز أن يعرف النسخ بغير المأتيّ به فإن مضمون الآية ليس إلا أن نسخ الآية يستلزم الإتيان بما هو خير منها أو مثل لها، ولا يلزم منه أن يكون ذلك هو الناسخ فيجوز أن يكون أمرا مغايرا يحصل بعد حصول النسخ وإذا جاز ذلك فيجوز أن يكون الناسخ سنة والمأتيّ به الذي هو خير أو مثل آية أخرى، وأيضا السنة مما أتى به الله سبحانه لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: ٣، ٤] وليس المراد بالخيرية والمماثلة في اللفظ حتى لا تكون
352
السنة كذلك بل في النفع والثواب فيجوز أن يكون ما اشتملت عليه السنة خيرا في ذلك، واحتجت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن فإن التغير المستفاد من النسخ، والتفاوت المستفاد من الخيرية في وقت دون آخر من روادف الحدث وتوابعه فلا يتحقق بدونه، وأجيب بأن التغير والتفاوت من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسي القديم وهي الأفعال في الأمر والنهي والنسب الخبرية في الخبر وذلك يستدعيهما في تعلقاته دون ذاته، وأجاب الإمام الرازي بأن الموصوف بهما الكلام اللفظي، والقديم عندنا الكلام النفسي، واعترض بأنه مخالف لما اتفقت عليه آراء الأشاعرة من أن الحكم قديم والنسخ لا يجري إلا في
الأحكام، وقرأ أبو عمرو- نات- بقلب الهمزة ألفا.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الاستفهام قيل: للتقرير، وقيل: للإنكار، والخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وأريد بطريق الكناية هو وأمته المسلمون وإنما أفرده لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلمهم، ومبدأ علمهم، ولإفادة المبالغة مع الاختصار، وقيل: لكل واقف عليه على حد «بشر المشائين» وقيل لمنكري النسخ، والمراد الاستشهاد بعلم المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما هو خير أو مماثل لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته عز وجل على جميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا، والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة، ولأنه الاسم العلم الجامع لسائر الصفات، ففي ضمنه صفة القدرة فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم، وكذا الحال في قوله عز شأنه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قد علمت أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي- إيجادا وإعداما، وأمرا ونهيا- حسبما تقتضيه مشيئته، لا معارض لأمره، ولا معقب لحكمه، فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شيء من الأشياء؟ فيكون الكلام على هذا كالدليل لما قبله في إفادة البيان، فيكون منزلا منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح، فلذا ترك العطف وجوّز أن يكون تكريرا للأول وإعادة للاستشهاد على ما ذكر، وإنما لم تعطف أَنَّ مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعارا باستقلال العلم بكل منهما وكفاية في الوقوف على ما هو المقصود، وخص السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- بالملك- لأنهما من أعظم المخلوقات الظاهرة، ولأن كل مخلوق لا يخلو عن أن يكون في إحدى هاتين الجهتين فكان في الاستيلاء عليهما إشارة إلى الاستيلاء على ما اشتملا عليه، وبدأ سبحانه بالتقرير على وصف القدرة لأنه منشئا لوصف الاستيلاء والسلطان، ولم يقل جل شأنه: إن الله ملك إلخ قصدا إلى تقوي الحكم بتكرير الإسناد وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ عطف على الجملة الواقعة خبرا ل أَنَّ داخل معها حيث دخلت، وفيه إشارة إلى تناول الخطاب فيما قبل للأمة أيضا، ومِنْ الثانية صلة فلا تتعلق بشيء، و «من» الأولى لابتداء الغاية وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من مدخول مِنْ الثانية- وهو في الأصل صفة له- فلما قدم انتصب على الحالية «وفي البحر» انها متعلقة بما تعلق به لَكُمْ وهو في موضع الخبر ويجوز في ما أن تكون تميمية وأن تكون حجازية على رأي من يجيز تقدم خبرها إذا كان ظرفا أو مجرورا- والولي- المالك، والنصير- المعين، والفرق بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصرة أو قد يقدر ولا يفعل، والمعين قد يكون مالكا وقد لا يكون- بل يكون أجنبيا- والمراد من الآية الاستشهاد على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله، فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصوله البتة، وإنما الذي يستدعيه كونه تعالى مع ذلك وليا نصيرا لهم، فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره لا ولي ولا نصير له سواه يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض أمره إليه تعالى، ولا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره أصلا.
353
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ جوّز في أَمْ هذه أن تكون متصلة، وأن تكون منقطعة، فإن قدر «تعلمون» قبل تُرِيدُونَ بناء على دلالة السياق وهو أَلَمْ تَعْلَمْ والسياق هو الاقتراح فإنه لا يكون إلا عند التعنت- والعلم- بخلافه كانت متصلة، كأنه قيل: أي الأمرين من عدم العلم بما تقدم، أو العلم مع الاقتراح واقع، والاستفهام حينئذ للإنكار بمعنى لا ينبغي أن يكون شيء منهما، وإن لم يقدر كانت منقطعة للاضراب عن عدم علمهم بالسابق إلى الاستفهام عن اقتراحهم كاقتراح اليهود إنكارا عليهم بأنه لا ينبغي أن يقع أيضا، وقطع بعضهم بالقطع بناء على دخول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الخطاب أو لا، وعدم دخوله فيه هنا لأنه مقترح عليه لا مقترح- وذلك مخل بالاتصال- وأجيب بأنه غير مخل به لحصوله بالنسبة إلى المقصد، وإرادة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الأول
كانت لمجرد التصوير والانتقال لما قدمنا أنهم بطريق الكناية، والمراد- على التقديرين- توصيته المسلمين بالثقة برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وترك الاقتراح بعد رد طعن المشركين أو اليهود في- النسخ- فكأنه قيل: لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها- فضلا عن السؤال- يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك، ولم يقل سبحانه: كما سأل أمة موسى عليه السلام أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره- ولا يقتضي سابقية وقوع الاقتراح منهم- ولا يتوقف مضمون الآية عليه إذ التوصية لا تقتضي سابقية الوقوع، كيف وهو كفر- كما يدل عليه ما بعد- ولا يكاد يقع من المؤمن، ومما ذكرنا يظهر وجه ذكر هذه الآية بعد قوله تعالى: ما نَنْسَخْ فإن المقصد من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها، وأما بيانه بأنه لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ فلذا أردفت آية النسخ بذلك فأراه إلى التمني أقرب،
وقد ذكر بعض المفسرين أنهم اقترحوا على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم. فلا أدري أتعبدون العجل أم لا؟»
وهو مع الحاجة إليه يستدعي أن المخاطب في الآيات هم المؤمنون، والسباق والسياق والتذييل تشهد له، وعليه يترجح الاتصال- لما نقل عن الرضيّ- أن الفعليتين إذا اشتركتا في الفاعل نحو أقمت أم قعدت؟ - فأم- متصلة، وزعم قوم أن المخاطب بها اليهود، وأن الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزل عليهم كتاب من السماء جملة- كما نزلت التوراة على موسى عليه السلام- وخاطبهم بذلك بعد رد طعنهم تهديدا لهم، وحينئذ يكون المضارع الآتي بمعنى الماضي، إلا أنه عبر به عنه إحضارا للصورة الشنيعة، واختار هذا الإمام الرازي وقال: إنه الأصح، لأن هذه سورة من أول قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: ٤٠] حكاية عن اليهود ومحاجة معهم، ولأنه جرى ذكرهم وما جرى ذكر غيرهم، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون متبدلا به الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ ولا يخفى ما فيه، وكأنه رحمه الله تعالى نسي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وقيل: إن المخاطب أهل مكة، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد روي عنه أن الآية نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش قالوا: يا محمد، اجعل لنا الصفا ذهبا ووسع لنا أرض مكة، وفجر لنا الأنهار خلالها تفجيرا ونؤمن لك، وحكي في سبب النزول غير ذلك، ولا مانع- كما في البحر- من جعل الكل أسبابا، وعلى الخلاف في المخاطبين يجيء الكلام في رَسُولَكُمْ فإن كانوا المؤمنين فالإضافة على ما في نفس الأمر وما أقروا به من رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كانوا غيرهم فهي على ما في نفس الأمر دون الإقرار، وما مصدرية، والمشهور أن المجرور نعت لمصدر محذوف-
354
أي سؤالا كما- ورأى سيبويه أنه في موضع نصب على الحال، والتقدير عنده أن تسألوه أي السؤال كَما وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة في موضع المفعول به ل تَسْئَلُوا أي كالأشياء التي سئلها مُوسى عليه السلام قَبْلُ وهو الأنسب لأن الإنكار عليهم إنما هو لفساد المقترحات، وكونها في العاقبة وبالا عليهم- وفيه نظر- لأن المشبه أَنْ تَسْئَلُوا وهو مصدر، فالظاهر أن المشبه به كذلك، وقبح السؤال إنما هو لقبح المسئول عنه، بل قد يكون السؤال نفسه قبيحا في بعض الحالات مع أن المصدرية لا تحتاج إلى تقدير رابط- فهو أولى- ومِنْ قَبْلُ متعلق ب سُئِلَ وجيء به للتأكيد. وقرأ الحسن. وأبو السمال «سيل» - بسين مكسورة وياء- وأبو جعفر والزهري- بإشمام السين الضم وياء- وبعضهم بتسهيل- الهمزة- بين بين- وضم السين.
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله: أَمْ تُرِيدُونَ إلخ معطوفة عليه، فهي تذييل له باعتبار أن المقترحين الشاكين من جملة- الضالين الطريق المستقيم المتبدلين- وسَواءَ بمعنى وسط أو مستوي، والإضافة من باب إضافة الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصاف كأنه نفس- السواء- على منهاج حصول الصورة في الصورة الحاصلة- والفاء- رابطة وما بعدها لا يصح أن يكون جزاء الشرط لأن ضلال الطريق المستقيم متقدم على- الاستبدال- والارتداد لا يترتب عليه، ولأن الجزاء إذا كان ماضيا مع قد كان باقيا على مضيه لأن قد للتحقيق، وما تأكد ورسخ لا ينقلب، ولا يترتب الماضي على المستقبل، ولأن كون الشرط مضارعا والجزاء ماضيا صورة ضعيف لم يأت في الكتاب العزيز- على ما صرح به الرضيّ وغيره- فلا بد من التقدير بأن يقال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فالسبب فيه أنه تركه، ويؤول المعنى إلى أن ضلال الطريق المستقيم- وهو الكفر الصريح في الآيات- سبب للتبديل والارتداد، وفسر بعضهم- التبدل- المذكور بترك الثقة بالآيات باعتبار كونه لازما له فيكون كناية عنه، وحاصل الآية حينئذ ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خير محض، وحق بحت واقترح غيرها فقد عدل وجار من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى، وتاه في تيه الهوى، وتردى في مهاوي الردى، واختار ما في النظم الكريم إيذانا من أول الأمر على أبلغ وجه بأن ذلك كفر وارتداد، ولعل ما أشرنا إليه أولى كما لا يخفى على المتدبر، وقرىء وَمَنْ يُبَدِّلْ من- أبدل- وإدغام- الدال في الضاد- والإظهار قراءتان مشهورتان.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم طائفة من أحبار اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق لما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم، رواه الواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وروي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا ذلك لحذيفة رضي الله تعالى عنه من حديث طويل، وذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث لَوْ يَرُدُّونَكُمْ حكاية لودادتهم، وقد تقدم الكلام على لَوْ هذه فأغنى عن الإعادة مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً أي مرتدين، وهو حال من ضمير المخاطبين يفيد مقارنة الكفر بالرد فيؤذن بأن الكفر يحصل بمجرد الارتداد مع قطع النظر إلى ما يرد إليه، ولذا لم يقل- لو يردونكم- إلى الكفر، وجوز أن يكون حالا من فاعل وَدَّ واختار بعضهم أنه مفعول ثان- ليردونكم- على تضمين الرد معنى التصيير إذ منهم من لم يكفر حتى يرد إليه فيحتاج إلى التغليب كما في لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: ٨٨، ابراهيم: ١٣] على أن في ذلك يكون الكفر المفروض بطريق القسر وهو أدخل في الشناعة، وفي قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مع أن الظاهر- عن- لأن الرد يستعمل بها تنصيص بحصول الإيمان لهم، وقيل: أورد متوسطا
355
لإظهار كمال فظاعة ما أرادوه وغاية بعده عن الوقوع إما لزيادة قبحه الصاد للعاقل عن مباشرته، وإما لممانعة الإيمان له كأنه قيل: من بعد إيمانكم الراسخ، وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى حَسَداً علة- لودّ- لا- ليردونكم- لأنهم يودون ارتدادهم مطلقا لا ارتدادهم المعلل بالحسد، وجوزوا أن يكون مصدرا منصوبا على الحال أي حاسدين ولم يجمع لأنه مصدر، وفيه ضعف لأن جعل المصدر حالا- كما قال أبو حيان- لا ينقاس. وقيل: يجوز أن يكون منصوبا على المصدر والعامل فيه محذوف يدل عليه المعنى أي حسدوكم حسدا وهو كما ترى مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ متعلق بمحذوف وقع صفة إما للحسد أي حسدا كائنا من أصل نفوسهم فكأنه ذاتي لها، وفيه إشارة إلى أنه بلغ مبلغا متناهيا، وهذا يؤكد أمر التنوين إذا جعل للتكثير أو التعظيم، وإما للوداد المفهوم من وَدَّ أي ودادا كائنا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وتشهيهم لا من قبل التدبر والميل إلى الحق، وجعله ظرفا لغوا معمولا- لود- أو حَسَداً كما نقل عن مكي يبعده أنهما لا يستعملان بكلمة مِنْ كما قاله ابن الشجري مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بالنعوت المذكورة في التوراة والمعجزات وهذا كالدليل على تخصيص الكثير بالأحبار لأن التبين بذلك إنما كان لهم لا للجهال، ولعل من قال: إن الودادة من عوامهم أيضا لئلا يبطل دينهم الذي ورثوه وتبطل رياسة أحبارهم الذين اعتقدوهم واتخذوهم رؤساء، فالمراد من الكثير جميعهم من كفارهم ومنافقيهم ويكون ذكره لإخراج من آمن منهم سرا وعلانية يدعي أن التبين حصل للجميع أيضا إلا أن أسبابه مختلفة متفاوتة وهذا هو الذي يغلب على الظن فإن من شاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد منه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق إلا أن الحظوظ النفسانية والشهوات الدنية والتسويلات الشيطانية حجبت من حجبت عن الإيمان وقيدت من قيدت في قيد الخذلان فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح ترك التثريب والتأنيث وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح، ولعله مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا أو من تصفحت الورقة إذا تجاوزت عما فيها. وآثر العفو على الصبر على اذاهم إيذانا بتمكين المؤمنين ترهيبا للكافرين.
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هو واحد الأوامر والمراد به الأمر بالقتال بقوله سبحانه قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: ٢٩] أو الأمر بقتل قريظة وإجلاء بني النضير، وقيل: واحد الأمور، والمراد به القيامة. أو المجازاة يومها أو قوة الرسالة وكثرة الأمة، ومن الناس من فسر الصفح بالإعراض عنهم وترك مخالطتهم وجعل غاية العفو إتيان آية القتال وغاية الإعراض إتيان الله تعالى أمره، وفسره بإسلام من أسلم منهم- كما قاله الكلبي- وليس بشيء لأنه يستلزم أن يحمل الأمر على واحد الأوامر وواحد الأمور، وهو عند المحققين واقع بين الحقيقة والمجاز، وعن قتادة والسدي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم إن الآية منسوخة بآية السيف واستشكل ذلك بأن النسخ لكونه بيانا لمدة الانتهاء بالنسبة إلى الشارع ودفعا للتأييد الظاهري من الإطلاق بالنسبة إلينا يقتضي أن يكون الحكم المنسوخ خاليا عن التوقيت والتأبيد فإنه لو كان مؤقتا كان الناسخ بيانا له بالنسبة إلينا أيضا ولو كان مؤبدا كان بدءا لا بيانا بالنسبة إلى الشارع، والأمر هاهنا مؤقت بالغاية وكونها غير معلومة يقتضي أن تكون آية القتال بيانا لإجماله وبذلك تبين ضعف ما أجاب به الإمام الرازي وتبعه فيه كثيرون من أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج الوارد من أن يكون ناسخا ويحل محل فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إلى أن أنسخه لكم فليس هذا مثل قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧] وأما تأييد الطيبي له بحكم التوراة والإنجيل لأنه ذكر فيهما انتهاء مدة الحكم بهما بإرسال النبي الأمي بنحو قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: ١٥٧] وكان ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم نسخا فيرد عليه ما في التلويح من
356
أن الواقع فيهما البشارة بشرع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإيجاب الرجوع إليه، وذلك لا يقتضي توقيت الأحكام لاحتمال أن يكون الرجوع إليه باعتبار كونه مفسرا أو مقررا أو مبدلا للبعض دون البعض فمن أين يلزم التوقيت بل هي مطلقة يفهم منها التأبيد فتبديلها يكون نسخا وأجيب عن الاستشكال بأنه لا يبعد أن يقال: إن القائلين بالنسخ أرادوا به البيان مجازا أو يقال: لعلهم فسروا الغاية بإماتتهم أو بقيام الساعة، والتأبيد إنما ينافي إطلاق الحكم إذا كان غاية للوجوب، وأما إذا كان غاية للواجب فلا، ويجري فيه النسخ عند الجمهور قاله مولانا الساليكوتي: إلا أن الظاهر لا يساعده فتدبر.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما فهم من سابقه، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ووعد للمؤمنين بالنصرة والتمكين، ويحتمل على بعد أن يكون ذكرا لموجب قبول أمره بالعفو والصفح وتهديدا لمن يخالف أمره وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ عطف على فاعفوا كأنه سبحانه أمرهم بالمخالقة (١) والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية لأنها تدفع عنهم ما يكرهون. وقول الطبري: إنهم أمروا هنا بالصلاة والزكاة ليحبط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود راعِنا منحط عن درجة الاعتبار.
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي أي خير كان، وفي ذلك توكيد للأمر بالعفو والصفح، والصلاة والزكاة، وترغيب إليه، واللام نفعية، وتخصيص الخير بالصلاة، والصدقة خلاف الظاهر، وقرىء تقدموا من قدم من السفر، وأقدمه غيره جعله قادما، وهي قريب من الأولى لا من الاقدام ضد الاحجام.
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي تجدوا ثوابه لديه سبحانه فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الظاهر أن المراد تجدوه في علم الله تعالى، والله تعالى عالم به إلا أنه بالغ في كمال علمه فجعل ثبوته في علمه بمنزلة ثبوت نفسه عنده وقد أكد تلك المبالغة بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ حيث جعل جميع ما يعملون مبصرا له تعالى فعبر عن علمه تعالى بالبصر مع أن قليلا مما يعملون من المبصرات، وكأنه لهذا فسر الزمخشري البصير بالعالم، وأما قول العلامة إنه إشارة إلى نفي الصفات، وأنه ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى إلا تعلق ذاته بالمعلومات ففيه أن التفسير لا يفيد إلا أن المراد من البصير هاهنا العالم ولا دلالة على كونه نفس الذات أو زائدا عليه ولا على أن ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى سوى التعلق المذكور، وقرئ- «يعلمون» - بالياء والضمير حينئذ كناية عن كثير، أو عن أهل الكتاب فيكون تذييلا لقوله تعالى فَاعْفُوا إلخ مؤكدا لمضمون الغاية، والمناسب أن يكون وعيدا لأولئك ليكون تسلية، وتوطينا للمؤمنين بالعفو والصفح، وإزالة لاستبطاء إتيان الأمر، وجوز أن يكون كناية عن المؤمنين المخاطبين بالخطابات المتقدمة، والكلام وعيد للمؤمنين، ويستفاد من الالتفات الواقع من صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة، وهو النكتة الخاصة بهذا الالتفات ولا يخفى أنه كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى عطف على وَدَّ وما بينهما أعني فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إما اعتراض بالفاء أو عطف على وَدَّ أيضا، وعطف الإنشاء على الاخبار فيما لا محل له من الإعراب بما سوى الواو جائز، والضمير- لأهل الكتاب- لا- لكثير منهم- كما يتبادر من العطف، والمراد بهم اليهود والنصارى جميعا، وكأن أصل الكلام- قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى- فلف بين هذين المقولين، وجعلا مقولا واحدا اختصارا وثقة بفهم السامع أن ليس المقصد أن كل واحد من الفريقين يقول هذا القول المردد، وللعلم
(١) المخالقة بالخاء المعجمة والقاف مفاعلة من الخلق الحسن.
357
بتضليل كل واحد منهما صاحبه بل المقصد تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم فكلمة أَوْ كما في مغني اللبيب للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غبار- وهود- جمع هائد كعوذ (١) جمع عائذ، وقيل: مصدر يستوي فيه الواحد وغيره، وقيل: إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف، وعلى القول بالجمعية يكون اسم كانَ مفردا عائدا علي مَنْ باعتبار لفظها، وجمع الخبر باعتبار معناها، وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه، ومنه قوله: وأيقظ من كان منكم نياما وقرأ أبيّ- يهوديا، أو نصرانيا- فحمل الخبر والاسم معا على اللفظ.
تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى- كالأضحوكة والأعجوبة- والجملة معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم، وتِلْكَ إشارة إلى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلخ وجمع الخبر مع أن ما أشير إليه أمنية واحدة ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم وتكررها فيها، وقيل: إشعارا بأنها بلغت كل مبلغ لأن الجمع يفيد زيادة الآحاد فيستعمل لمطلق الزيادة وهذا من بديع المجاز ونفائس البيان وقيل: لا حاجة إلى هذا كله بل الجمع لأن تِلْكَ محتوية على أمان- أن لا يدخل الجنة إلا اليهود، وأن لا يدخل الجنة إلا النصارى- وحرمان المسلمين منها، وأيضا فقائله متعدد وهو باعتبار كل قائل أمنية وباعتبار الجميع أمان كثيرة، ومن الناس من جعلها إشارة إلى أن- لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأن يردوهم كفارا، وأن لا يدخل الجنة غيرهم- وعليه يكون أمانيهم تغليبا لأن الأولين من قبيل المتمنيات حقيقة والثالث دعوى باطلة، وجوز أيضا أن تكون إشارة إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم فإن جعل الأماني بمعنى الأكاذيب، فإطلاق الأمنية على دعواهم على سبيل الحقيقة، وإن جعل بمعنى المتمنيات فعلى الاستعارة تشبيها بالمتمنى في الاستحالة، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد لا سيما أولهما لأن كل جملة ذكر فيها- ودّهم- لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد جدا أن يشار إليها.
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي على ما ادعيتموه من اختصاصكم بدخول الجنة فهو متصل معنى بقوله تعالى: قالُوا لَنْ يَدْخُلَ إلخ على أنه جواب له لا غير، وهاتُوا بمعنى أحضروا والهاء أصلية لا بدل من همزة- آتوا- ولا للتنبيه وهي فعل أمر خلافا لمن زعم أنها اسم فعل أو صوت بمنزلة- ها- وفي مجيء الماضي والمضارع والمصدر من هذه المادة خلاف وأثبت أبو حيان- هاتى يهاتي مهاتاة- والبرهان الدليل على صحة الدعوى، قيل: هو مأخوذ من البرة وهو القطع فتكون النون زائدة، وقيل: من البرهنة وهو البيان فتكون النون أصلية لفقدان فعلن ووجود فعلل ويبنى على هذا الاشتقاق الخلاف في- برهان- إذا سمي به هل ينصرف أو لا؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ومتعلق الصدق دعواهم السابقة لا- الإيمان- ولا- الأماني- كما قيل، وأفهم التعليق أنه لا بد من البرهان للصادق ليثبت دعواه، وعلل بأن كل قول لا دليل عليه غير ثابت عند الخصم فلا يعتد به، ولذا قيل: من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه، وليس في الآية دليل على منع التقليد فإن دليل المقلد دليله كما لا يخفى، وتفسير الصدق هنا بالصلاح مما لا يدعو إليه سوى فساد الذهن بَلى رد لقولهم الذي زعموه وإثبات لما تضمنه من نفي دخول غيرهم الجنة. والقول بأنه رد لما أشار إليه قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ من نفي أن يكون لهم برهان مما لا وجه له ولا برهان عليه مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي انقاد لما قضى الله تعالى وقدر، أو أخلص له نفسه أو قصده فلم يشرك به تعالى غيره، أو لم يقصد سواه فالوجه إما مستعار للذات وتخصيصه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء ومعدن
(١) قوله: عوذ هي حديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل اهـ منه.
358
الحواس. وإما مجاز عن القصد لأن القاصد للشيء مواجه له وَهُوَ مُحْسِنٌ حال من ضمير أَسْلَمَ أي والحال انه محسن في جميع أعماله، وإذا أريد بما تقدم الشرك يؤول المعنى إلى «آمن وعمل الصالحات» وقد فسر النبي صلّى الله عليه وسلّم الإحسان
بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
فَلَهُ أَجْرُهُ أي الذي وعد له على ذلك لا الذي يستوجبه كما قاله الزمخشري رعاية لمذهب الاعتزال، والتعبير عما وعد بالأجر إيذانا بقوة ارتباطه بالعمل عِنْدَ رَبِّهِ حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار، والعندية للتشريف، والمراد عدم الضياع والنقصان، وأتى- بالرب- مضافا إلى ضمير مَنْ أَسْلَمَ إظهارا لمزيد اللطف به وتقريرا لمضمون الجملة، والجملة جواب مَنْ إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط، وعلى التقديرين يكون الرد بَلى وحده وما بعده كلام مستأنف كأنه قيل إذا بطل ما زعموه فما الحق في ذلك، وجوز أن تكون مَنْ موصولة فاعل ليدخلها محذوفا، وبَلى مع ما بعدها رد لقولهم، ويكون فَلَهُ أَجْرُهُ معطوفا على ذلك المحذوف عطف الاسمية على الفعلية لأن المراد بالأولى التجدد، وبالثانية الثبوت، وقد نص السكاكي بأن الجملتين إذا اختلفتا تجددا وثبوتا يراعى جانب المعنى فيتعاطفان وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تقدم مثله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ، ويجوز في مثل هذا العكس إلا أن الأفصح أن يبدأ بالحمل على اللفظ ثم بالحمل على المعنى لتقدم اللفظ عليه في الإفهام.
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ المراد يهود المدينة ووفد نصارى نجران تماروا عند رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وتسابوا وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوة عيسى عليه السلام وأنكر النصارى التوراة ونبوة موسى عليه السلام. فأل في الموضعين للعهد. وقيل: المراد عامة اليهود وعامة النصارى وهو من الإخبار عن الأمم السالفة، وفيه تقريع لمن بحضرته صلى الله تعالى عليه وسلم وتسلية له عليه الصلاة والسلام إذ كذبوا بالرسل والكتب قبله فأل في الموضعين للجنس، والأول هو المروي في أسباب النزول، وعليه يحتمل أن يكون القائل كل واحد من آحاد الطائفتين وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد بذلك رجلين رجل من اليهود يقال له نافع بن حرملة ورجل من نصارى نجران ونسبة ذلك للجميع حيث وقع من بعضهم وهي طريقة معروفة عند العرب في نظمها ونثرها. وهذا بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم، وعَلى شَيْءٍ خبر ليس، وهو عند بعض من باب حذف الصفة أي شيء يعتد به في الدين لأنه من المعلوم أن كلّا منهما على شيء، والأولى عدم اعتبار الحذف، وفي ذلك مبالغة عظيمة لأن الشيء- كما يشير إليه كلام سيبويه- ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فإذا نفي مطلقا كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد بما هم عليه وصار كقولهم- أقل من لا شيء- وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ حال من الفريقين بجعلهما فاعل فعل واحد لئلا يلزم إعمال عاملين في معمول واحد أي قالوا ذلك وهم عالمون بما في كتبهم الناطقة بخلاف ما يقولون، وفي ذلك توبيخ لهم وإرشاد للمؤمنين إلى أن من كان عالما بالقرآن لا ينبغي أن يقول خلاف ما تضمنه، والمراد من الْكِتابَ الجنس فيصدق على التوراة والإنجيل، وقيل: المراد به التوراة لأن النصارى تمتثلها أيضا.
كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهم مشركو العرب في قول الجمهور، وقيل: مشركو قريش، وقيل: هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى، وأما القول بأنهم اليهود وأعيد قولهم مثل قول النصارى ونفي عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فالظاهر أنه قول الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ والكاف من كَذلِكَ في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب قالَ مقدم عليه أي قولا مثل قول اليهود والنصارى قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ويكون مِثْلَ قَوْلِهِمْ
359
على هذا منصوبا ب يَعْلَمُونَ والقول بمعنى الاعتقاد، أو يقال على أنه مفعول به أو بدل من محل الكاف، وقيل:
كَذلِكَ مفعول به ومِثْلَ مفعول مطلق، والمقصود تشبيه المقول بالمقول في المؤدي والمحصول، وتشبيه القول بالقول في الصدور عن مجرد التشهي والهوى والعصبية، وجوزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي قاله، ومِثْلَ صفة مصدر محذوف، أو مفعول يَعْلَمُونَ ولا يجوز أن يكون مفعول قالَ لأنه قد استوفى مفعوله، واعترض هذا بأن حذف العائد- على المبتدأ الذي لو قدر خلو الفعل عن الضمير لنصبه- مما خصه الكثير بالضرورة ومثلوا له بقوله:
وخالد يحمد ساداتنا... بالحق «لا تحمد» بالباطل
وقيل: عليه وعلى ما قبله أن استعمال الكاف اسما وإن جوزه الأخفش إلا أن جماعة خصوه بضرورة الشعر مع أنه قد يؤول ما ورد منه فيه على أنه لا يخفى ما في توجيه التشبيهين دفعا لتوهم اللغوية من التكلف والخروج عن الظاهر، ولعل الأولى أن يجعل مِثْلَ قَوْلِهِمْ إعادة لقوله تعالى: كَذلِكَ للتأكيد والتقرير كما في قوله تعالى:
جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ [يوسف: ٧٥] وبه قال بعض المحققين، وقد يقال: إن كذلك ليست للتشبيه هنا بل لإفادة أن هذا الأمر عظيم مقرر، وقد نقل الوزير عاصم بن أيوب في شرح قول زهير:
«كذلك» خيمهم ولكل قوم... إذا مستهم الضراء خيم
عن الإمام الجرجاني ان كَذلِكَ تأتي للتثبيت إما لخبر مقدم وإما لخبر متأخر وهي نقيض كلا لأن كلا تنفي، وكذلك تثبت ومثله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الحجر: ١٢] وفي شرح المفتاح الشريفي انه ليس المقصود من التشبيهات هي المعاني الوضعية فقط إذ تشبيهات البلغاء قلما تخلو من مجازات وكنايات فنقول: إنا رأيناهم يستعملون كذا وكذا للاستمرار تارة نحو عدل زيد في قضية فلان كذا وهكذا أي عدل مستمر، وقال الحماسي:
«هكذا» يذهب الزمان ويفنى ال... علم فيه ويدرس الأثر
نص عليه التبريزي في شرح الحماسة وله شواهد كثيرة، وقال في شرح قول أبي تمام:
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر إنه للتهويل والتعظيم وهو في صدر القصيدة لم يسبق ما يشبه به، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى، وإنما جعل قول أولئك مشبها به لأنه أقبح إذ الباطل من العالم أقبح منه من الجاهل، وبعضهم يجعل التشبيه على حد إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: ٢٧٥] وفيه من المبالغة والتوبيخ على التشبه بالجهال ما لا يخفى وإنما وبخوا، وقد صدقوا إذ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء لأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما قصد كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه على أنه لا يصح الحكم بأن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء يعتد به لأن المتبادر منه أن لا يكون كذلك في حد ذاته وما لا ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل فيكون شيئا معتدا به في حد ذاته وإن يكن شيئا بالنسبة إليهم لأنه لا انتفاع بما لم ينسخ مع الكفر بالناسخ.
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي بين اليهود والنصارى لا بين الطوائف الثلاثة لأن مساق النظم لبيان حال تينك الطائفتين والتعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم والحكم الفصل والقضاء وهو يستدعي جارين فيقال: حكم القاضي في هذه الحادثة بكذا، وقد حذف هنا أحدهما اختصارا وتفخيما لشأنه أي بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العذاب، والمتبادر من الحكم بين فريقين أن يحكم لأحدهما بحق دون الآخر فكأن استعماله بما ذكر مجاز، وقال الحسن: المراد بالحكم بين هذين الفريقين تكذيبهم وإدخالهم النار وفي
360
ذلك تشريك في حكم واحد وهو بعيد عن حقيقة الحكم، ويَوْمَ متعلق ب يَحْكُمُ وكذا ما بعده ولا ضير لاختلاف المعنى، وفيه متعلق ب يَخْتَلِفُونَ لا ب كانُوا وقدم عليه للمحافظة على رؤوس الآي.
«ومن باب الإشارة في الآيات» ما ننسخ من آية أي ما نزيل من صفاتك شيئا عن ديوان قلبك أو نخفيه بإشراق أنوارنا عليه إلا ونرغم فيه من صفاتنا التي لا تظن قابليتك لما يشاركها في الاسم والتي تظن وجود ما لا يشاركها فيك أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل العوالم على اختلافها ظاهر شؤون ذاته ومظهر أسمائه وصفاته فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رسول العقل من اللذات الدنية والشهوات الدنيوية كَما سُئِلَ مُوسى القلب مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الظلمة بالنور فقد ضل الطريق المستقيم وقالت اليهود لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات وجنة القلب إلا من كان نصرانيا، ولهذا قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ أي غاية مطالبهم التي وقفوا على حدها واحتجبوا بها عما فوقها قُلْ هاتُوا دليلكم الدال على نفي دخول غيركم إِنْ كُنْتُمْ صادقين في دعواكم بل الدليل دل على نقيض مدعاكم فإن مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ وخلص ذاته من جميع لوازمها وعوارضها لله تعالى بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي وهو مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء مشاهد ربه في أعماله راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة للوجود الحقاني فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ما ذكرتم من الجنة وأصفى لاختصاصه بمقام العندية التي حجبتم عنها ولهم زيادة على ذلك هي عدم خوفهم من احتجاب الذات وعدم حزنهم على ما فاتهم من جنة الأفعال والصفات التي حجبتم بالوقوف عندها وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ لاحتجابهم بالباطن عن الظاهر وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ لاحتجابهم عن الباطن بالظاهر وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب ورؤية حقية كل مذهب في مرتبته كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ المراتب مِثْلَ قَوْلِهِمْ فخطأ كل فرقة منهم الفرقة الأخرى ولم يميزوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ولم يعرفوا وجه الحق في كل مرتبة من مراتب الوجود فالله تعالى الجامع لجميع الصفات على اختلاف مراتبها وتفاوت درجاتها يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بالحق في اختلافاتهم يوم قيام القيامة الكبرى وظهور الوحدة الذاتية وتجلي الرب بصور المعتقدات حتى ينكرونه فلا يسجد له إلا من لم يقيده سبحانه حتى بقيد الإطلاق وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ نزلت في طيطوس بن إسيانوس الرومي وأصحابه وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير وبقي خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في مشركي العرب منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام، وعلى الأول تكون الآية معطوفة على قوله تعالى: وَقالَتِ النَّصارى عطف قصة على قصة تقريرا لقبائحهم، وعلى الثاني تكون اعتراضا بأكثر من جملة بين المعطوف أعني قالوا اتخذوا المعطوف عليه أعني قالت اليهود لبيان حال المشركين الذين جرى ذكرهم بيانا لكمال شناعة أهل الكتاب فإن المشركين الذين يضاهونهم إذا كانوا أظلم الكفرة، وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد وخصوص السبب لا يمنعه، و «أظلم» أفعل تفضيل خبر عن- من- ولا يراد بالاستفهام حقيقته وإنما هو بمعنى النفي فيؤول إلى الخبر أي لا أحد أظلم من ذلك واستشكل بأن هذا التركيب قد تقرر في القرآن وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها
361
[الكهف: ٥٧] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الإنعام: ٢١، ٩٣، ١٤٤، الأعراف: ٣٧، يونس: ١٧] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ [الإنعام: ١٥٧، الزمر: ٣٢] إلى غير ذلك فإذا كان المعنى على هذا لزم التناقض وأجيب بالتخصيص إما بما يفهم من نفس الصلات أو بالنسبة إلى من جاء بعد من ذلك النوع ويؤول معناه إلى السبق في المانعية أو الافترائية مثلا، واعترض بأن ذلك بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى، فالأولى أن يجاب بأن ذلك لا يدل على نفي التسوية في الأظلمية وقصارى ما يفهم
من الآيات أظلمية أولئك المذكورين فيها ممن عداهم كما أنك إذا قلت لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد لا يدل على أكثر من نفي أن يكون أحد أفقه منهم وأما أنه يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر فلا، ولا يرد أن من منع مساجد الله مثلا ولم يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأن هذه الآيات إنما هي في الكفار وهم متساوون فيها إذ الكفر شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به وإنما تمكن بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة قاله أبو حيان، ولا يخفى ما فيه. وقد قال غير واحد إن قولك: من أظلم ممن فعل كذا إنكار لأن يكون أحد أظلم منه أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها إلا أن العرف الفاشي والاستعمال المطرد يشهد له فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل فلعل الأولى الرجوع إلى أحد الجوابين مع ملاحظة الحيثية وإن جعلت ذلك الكلام مخرجا مخرج المبالغة في التهديد والزجر مع قطع النظر عن نفي المساواة أو الزيادة في نفس الأمر كما قيل به محكما العرف أيضا زال الاشكال وارتفع القيل والقال فتدبر أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مفعول ثان لمنع أو مفعول من أجله بمعنى منعها كراهية أَنْ يُذْكَرَ أو بدل اشتمال من مساجد والمفعول الثاني إذن مقدر أي عمارتها أو العبادة فيها أو نحوه أو الناس مساجد الله تعالى أو لا تقدير والفعل متعد لواحد وكني بذكر اسم الله تعالى عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية المأذون بفعلها فيها.
وَسَعى فِي خَرابِها أي هدمها وتعطيلها، وقال الواحدي: إنه عطف تفسير لأن عمارتها بالعبادة فيها أُولئِكَ الظالمون المانعون الساعون في خرابها.
ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ- اللام- في لَهُمْ إما للاختصاص- على وجه اللياقة- كما في الجل للفرس، والمراد من- الخوف- الخوف من الله تعالى، وإما للاستحقاق كما في- الجنة للمؤمن- والمراد من- الخوف- الخوف من المؤمنين، وإما لمجرد الارتباط بالحصول، أي ما كانَ لَهُمْ في علم الله تعالى وقضائه أَنْ يَدْخُلُوها فيما سيجيء إِلَّا خائِفِينَ والجملة «على الأول» مستأنفة جواب لسؤال نشأ من قوله تعالى: وَسَعى فِي خَرابِها كأنه قيل: فما اللائق بهم؟ والمراد من- الظلم- حينئذ وضع الشيء في غير موضعه.
«وعلى الثاني» جواب سؤال ناشىء من قوله سبحانه: مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ كأنه قيل: فما كان حقهم؟
والمراد من- الظلم- التصرف في حق الغير «وعلى الثالث» اعتراض بين كلامين متصلين معنى، وفيه وعد المؤمنين بالنصرة وتخليص- المساجد- عن الكفار- وللاهتمام بذلك وسطه- وقد أنجز الله تعالى وعده والحمد لله فقد روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة، وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا انتهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة ولا نقض باستيلاء الأقرع، وبقاء بيت المقدس في أيدي النصارى أكثر من مائة سنة إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين لأن الإنجاز يستدعي تحقيقه في وقت ما، ولا دلالة فيه على التكرار، وقيل: النفي بمعنى النهي- ومعناه على طريق الكناية- النهي عن التخلية والتمكين من دخولهم المساجد، وذلك يستلزم
362
- أن لا يدخلوها إلا خائفين- من المؤمنين، فذكر اللازم وأريد الملزوم، ولا يخفى أن النهي عن التخلية والتمكين المذكور في وقت قوة الكفار ومنعهم المساجد لا فائدة فيه سوى الاشعار بوعد المؤمنين بالنصرة والاستخلاص منهم، فالحمل عليه من أول الأمر أولى، واختلف الأئمة في دخول الكفار المسجد، فجوّزه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مطلقا للآية- فإنها تفيد دخولهم بخشية وخشوع- ولأن وفد ثقيف قدموا عليه عليه الصلاة والسلام فأنزلهم المسجد،
ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن»
والنهي محمول على التنزيه أو الدخول للحرم بقصد الحج، ومنعه مالك رضي الله تعالى عنه مطلقا لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: ٢٨] والمساجد يجب تطهيرها عن النجاسات، ولذا يمنع الجنب عن الدخول- وجوّزه لحاجة- وفرق الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بين المسجد الحرام وغيره وقال: الحديث منسوخ بالآية، وقرأ عبد الله «إلا خيفا» وهو مثل لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي عظيم بقتل أبطالهم وأقيالهم، وكسر أصنامهم، وتسفيه أحلامهم، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم، ومسقط رؤوسهم، أو بضرب الجزية على أهل الذمة منهم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب النار لما أن سببه أيضا، وهو ما حكي من ظلمهم- كذلك في العظم- وتقديم الظرف في الموضعين للتشويق لما يذكر بعده.
«ومن باب الإشارة في الآية» ومن أبخس حظا وأنقص حقا «ممن منع» مواضع السجود لله تعالى وهي القلوب التي يعرف فيها فيسجد له بالفناء الذاتي أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الخاص الذي هو الاسم الأعظم، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب- وهو التجلي بالذات مع جميع الصفات- أو اسمه المخصوص بكل واحد منها، أي الكمال اللائق باستعداده المقتضي له وَسَعى فِي خَرابِها بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، ومنع أهلها بتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس، ودواعي الشيطان والوهم أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها ويصلوا إليها إِلَّا خائِفِينَ منكسرين لظهور تجلي الحق فيها لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وافتضاح وذلة بظهور بطلان ما هم عليه وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو احتجابهم عن الحق سبحانه وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي الناحيتان المعلومتان المجاورتان لنقطة تطلع منها الشمس وتغرب، وكنى بمالكيتهما عن مالكية كل الأرض، وقال بعضهم: إذا كانت الأرض كروية يكون كل مشرق بالنسبة مغربا بالنسبة- والأرض كلها كذلك- فلا حاجة إلى التزام الكناية، وفيه بعد فَأَيْنَما تُوَلُّوا أي ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة، وقرأ الحسن تُوَلُّوا على الغيبة فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها، فإذا مكان- التولية- لا يختص بمسجد دون مسجد ولا مكان دون آخر فَأَيْنَما ظرف لازم الظرفية متضمن لمعنى الشرط وليس مفعولا ل تُوَلُّوا- والتولية- بمعنى الصرف منزل منزلة اللازم، وثم اسم إشارة للمكان البعيد خاصة- مبني على الفتح- ولا يتصرف فيه يغير- من- وقد وهم من أعربه مفعولا به في قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً [الإنسان: ٢٠] وهو خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر، والجملة جواب الشرط- والوجه- الجهة- كالوزن والزنة- واختصاص الإضافة باعتبار كونها مأمورا بها، وفيها رضاه سبحانه، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل ومجاهد وقتادة، وقيل: الوجه بمعنى الذات مثله في قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] إلا أنه جعل هنا كناية عن عمله واطلاعه مما يفعل هناك، وقال أبو منصور: بمعنى الجاه، ويؤول إلى الجلال والعظمة، والجملة- على هذا- اعتراض لتسلية قلوب المؤمنين بحل الذكر والصلاة في جميع الأرض- لا في المساجد خاصة-
وفي الحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
ولعل غيره عليه الصلاة والسلام لم تبح له الصلاة في غير البيع والكنائس، وصلاة عيسى عليه السلام- في أسفاره- في غيرها كانت عن
363
ضرورة- فلا حاجة إلى القول باختصاص المجموع- وجوّز أن تكون «أينما» مفعول تُوَلُّوا بمعنى الجهة، فقد شاع في الاستعمال «أينما» توجهوا، بمعنى أي جهة توجهوا- بناء على ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما- أن الآية نزلت في صلاة المسافر (١) والتطوع على الراحلة، وعلى ما روي عن جابر أنها نزلت في قوم عميت عليهم- القبلة- في غزوة كانت فيها معهم، فصلوا إلى الجنوب والشمال، فلما أصبحوا تبين خطؤهم، ويحتمل- على هاتين الروايتين- أن تكون «أينما» كما في الوجه الأول أيضا، ويكون المعنى في أي مكان فعلتم أي- تولية- لأن حذف المفعول به يفيد العموم، واقتصر عليه بعضهم مدعيا أن ما تقدم لم يقل به أحد من أهل العربية، ومن الناس من قال: الآية توطئة لنسخ القبلة، وتنزيه للمعبود أن يكون في حين وجهة، وإلا لكانت أحق بالاستقبال، وهي محمولة على العموم غير مختصة بحال السفر أو حال التحري، والمراد ب «أينما» أي جهة، وبالوجه الذات. ووجه الارتباط حينئذ أنه لما جرى ذكر- المساجد- سابقا أورد بعدها تقريبا حكم- القبلة- على سبيل الاعتراض، وادعى بعضهم أن هذا أصح الأقوال، وفيه تأمل إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ أي محيط بالأشياء ملكا أو رحمة، فلهذا- وسع- عليكم- القبلة- ولم يضيق عليكم عَلِيمٌ بمصالح العباد وأعمالهم في الأماكن، والجملة على الأول تذييل لمجموع وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ إلخ وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه فَأَيْنَما تُوَلُّوا إلخ، ومن الغريب جعل ذلك تهديدا.. لمن منع مساجد الله- وجعل الخطاب المتقدم لهم أيضا، فيؤول المعنى إلى أنه لا مهرب من الله تعالى لمن طغى، ولا مفر لمن بغى، لأن فلك سلطانه حدد الجهات، وسلطان علمه أحاط بالأفلاك الدائرات.
أين المفر ولا مفر لهارب وله البسيطان الثرى والماء
ومن باب الإشارة أن المشرق عبارة عن عالم النور والظهور وهو جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه، والمغرب عالم الأسرار والخفاء وهو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة باطنه، أو المشرق عبارة عن إشراقه سبحانه على القلوب بظهور أنواره فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة الشهود، والمغرب عبارة عن الغروب بتستره واحتجابه واختفائه بصفة جلاله حالة البقاء بعد الفناء ولله تعالى كل ذلك فأي جهة يتوجه المرء من الظاهر والباطن فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ المتحلي بجميع الصفات المتجلي بما شاء منزها عن الجهات وقد قال قائل القوم:
وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا
إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ لا يخرج شيء عن إحاطته عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شيء من أحوال خليقته ومظاهر صفته.
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نزلت في اليهود حيث- قالوا عزيز ابن الله- وفي نصارى نجران حين قالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وفي مشركي العرب حيث قالوا- الملائكة بنات الله- فالضمير لما سبق ذكره من النصارى واليهود والمشركين الذين لا يعلمون، وعطفه على قالَتِ الْيَهُودُ وقال أبو البقاء على وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وجوز أن يكون عطفا على منع أو على مفهوم- من أظلم- دون لفظه للاختلاف إنشائية وخبرية. والتقدير ظلموا ظلما شديدا بالمنع، وقالوا: وإن جعل من عطف القصة على القصة لم يحتج إلى تأويل، والاستئناف حينئذ بياني كأنه قيل بعد ما عدد من قبائحهم هل انقطع خيط إسهابهم في الافتراء على الله تعالى أم امتد؟ فقيل: بل امتد فإنهم قالوا ما هو أشنع وأفظع، والاتخاذ- إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد. وإما بمعنى التصيير، والمفعول الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولدا، وقرأ ابن عباس، وابن عامر. وغيرهما- قالوا- بغير واو على الاستئناف أو
(١) بالمعنى اللغوي أي الخارج عن العمران اهـ منه.
364
ملحوظا فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير، والربط به عن الواو كما في البحر سُبْحانَهُ تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا: بأبلغ صيغة ومتعلق- سبحان- محذوف كما ترى لدلالة الكلام عليه.
بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إبطال لما زعموه وإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من التشبيه بالمحدثات في التناسل والتوالد، والحاجة إلى الولد في القيام بما يحتاج الوالد إليه، وسرعة الفناء لأنه لازم للتركيب اللازم للحاجة، وكل محقق قريب سريع، ولأن الحكمة في التوالد هو أن يبقى النوع محفوظا بتوارد الأمثال فيما لا سبيل إلى بقاء الشخص بعينه مدة بقاء الدهر. وكل ذلك يمتنع على الله تعالى فإنه الأبدي الدائم والغني المطلق المنزه عن مشابهة المخلوقات. واللام في لَهُ قيل للملك، وقيل: إنها كالتي في قولك لزيد- ضرب- تفيد نسبة الأثر إلى المؤثر، وقيل: للاختصاص بأي وجه كان، وهو الأظهر، والمعنى ليس الأمر كما افتروا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها ما زعموه ولدا، والخالق لكل موجود لا حاجة له إلى الولد إذ هو يوجد ما يشاء منزها عن الاحتياج إلى التوالد كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي كل ما فيهما كائنا ما كان جميعا منقادون له لا يستعصي شيء منهم على مشيئته وتكوينه إيجادا وإعداما وتغيرا من حال إلى حال، وهذا يستلزم الحدوث والإمكان المنافي للوجوب الذاتي فكل من كان متصفا بهذه الصفة لا يكون والدا لأن من حق الولد أن يشارك والده في الجنس لكونه بعضا منه، وإن لم يماثله، وكان الظاهر كلمة من مع قانِتُونَ كيلا يلزم اعتبار التغليب فيه، ويكون موافقا لسوق الكلام فإن الكلام في العزير والمسيح والملائكة وهم عقلاء إلا أنه جاء بكلمة ما المختصة بغير أولي العلم كما قاله بعضهم: محتجا بقصة الزبعرى مخالفا لما عليه الرضيّ من أنها في الغالب لما يعلم، ولما عليه الأكثرون من عمومها كما في التلويح، واعتبر التغليب في قانِتُونَ إشارة إلى أن هؤلاء الذين جعلوهم ولد الله تعالى سبحانه وتعالى في جنب عظمته جمادات مستوية الأقدام معها في عدم الصلاحية لاتخاذ الولد، وقيل: أتى بما في الأول لأنه إشارة إلى مقام الألوهية، والعقلاء فيه بمنزلة الجمادات، وبجمع العقلاء في الثاني لأنه إشارة إلى مقام العبودية، والجمادات فيه بمنزلة العقلاء.
ويحتمل أن يقدر المضاف إليه كل ما جعلوه ولدا لدلالة المقول لا عاما لدلالة مبطلة، ويراد بالقنوت الانقياد لأمر التكليف كما أنه على العموم الانقياد لأمر التكوين، وحينئذ لا تغليب في قانِتُونَ وتكون الجملة إلزاما بأن ما زعموه ولدا مطيع لله تعالى مقر بعبوديته بعد إقامة الحجة عليهم بما سبق، وترك العطف للتنبيه على استقلال كل منهما في الدلالة على الفساد واختلافهما في كون أحدهما حجة والآخر إلزاما، وعلى الأول يكون الأخير مقررا لما قبله، وذكر الجصاص أن في هذه الآية دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده لأنه نفي الولد بإثبات الملك باعتبار أن اللام له فمتى ملك ولده عتق عليه، وقد حكم صلى الله تعالى عليه وسلم بمثل ذلك في الوالد إذا ملكه ولده ولا يخفى أن هذا بعيد عما قصد بالآية لا سيما إذا كان الأظهر الاختصاص كما علمت بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما فهو فعيل من أفعل وكان الأصمعي ينكر فعيلا بمعنى مفعل، وقال ابن بري: قد جاء كثيرا نحو مسخن وسخين. ومقعد وقعيد. وموصى ووصي. ومحكم وحكيم. ومبرم وبريم. ومونق وأنيق في أخوات له، ومن ذلك السميع في بيت عمرو بن معديكرب السابق. والاستشهاد بناء على الظاهر المتبادر على ما هو الأليق بمباحث العربية فلا يرد ما قيل في البيت لأنه على خلافه كما لا يخفى على المنصف، وقيل: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف أي بديع سماواته. وأنت تعلم أنه قد تقرر أن الصفة إذا أضيفت إلى الفاعل يكون فيها ضمير يعود إلى الموصوف فلا تصح الإضافة إلا إذا صح اتصاف الموصوف بها نحو- حسن الوجه- حيث يصح اتصاف الرجل بالحسن لحسن وجهه بخلاف حسن الجارية وإنما صح زيد كثير الإخوان لاتصافه بأنه متقوّ بهم. وفيما نحن فيه-
365
وإن امتنع اتصافه بالصفة المذكورة- لكن يصح اتصافه بما دلت عليه وهو كونه مبدعا لهما. وهذا يقتضي أن يكون الأولى بقاء المبدع على ظاهره وهو الذي عليه أساطين أهل اللغة، والإبداع اختراع الشيء لا عن مادة ولا في زمان، ويستعمل ذلك في إيجاده تعالى للمبادىء- كما قاله الراغب وهو غير الصنع إذ هو تركيب الصورة بالعنصر ويستعمل في إيجاد الأجسام وغير التكوين فإنه ما يكون بتغير وفي زمان غالبا وإذا أريد من السماوات والأرض جميع ما سواه تعالى من المبدعات والمصنوعات والمكونات لاحتوائها على عالم الملك والملكوت فبعد اعتبار التغليب يصح إطلاق كل من الثلاثة إلا أن لفظ الإبداع أليق لأنه يدل على كمال قدرته تعالى، والقول بتعين حمل الإبداع على التكوين من مادة أو أجزاء لأن إيجاد السماوات من شيء كما يشير إليه قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: ١١] ناشىء من الغفلة عما ذكرنا، والآية حجة أخرى لإبطال تلك المقالة الشنعاء، وتقريرها أنه تعالى مبدع لكل ما سواه فاعل على الإطلاق، ولا شيء من الوالد كذلك ضرورة انفعاله بانفصال مادة الولد عنه فالله تعالى ليس بوالد، وقرأ المنصور بَدِيعُ بالنصب على المدح، وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في لَهُ على رأي من يجوز ذلك وَإِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا بقرينة قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً [يس: ٨٣] وجاء القضاء على وجوه ترجع كلها إلى إتمام الشيء قولا أو فعلا وإطلاقه على الإرادة مجاز من استعمال اللفظ المسبب في السبب فإن الإيجاد الذي هو إتمام الشيء مسبب عن تعلق الإرادة لأنه يوجبه، وساوى ابن السيد بينه وبين القدر، والمشهور التفرقة بينهما بجعل القدر تقديرا لأمور قبل أن تقع، والقضاء إنفاذ ذلك القدر وخروجه من العدم إلى حد الفعل، وصحح ذلك الجمهور لأنه قد جاء
في الحديث «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مر بكهف مائل للسقوط فأسرع المشي حتى جاوزه فقيل: له أتفر من قضاء الله تعالى؟ فقال: أفر من قضائه تعالى إلى قدره»
ففرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين القضاء والقدر.
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الظاهر أن الفعلين من- كان- التامة لعدم ذكر الخبر مع أنها الأصل أي أحدث فيحدث، وهي تدل على معنى الناقصة لأن الوجود المطلق أعم من وجوده في نفسه أو في غيره والأمر محمول (١) على حقيقته كما ذهب إليه محققو ساداتنا الحنفية والله تعالى قد أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بهذه الكلمة وإن لم يمتنع تكوينها بغيرها، والمراد الكلام الأزلي لأنه يستحيل قيام اللفظ المرتب بذاته تعالى ولأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر فيتسلسل وتأخره عن الإرادة وتقدمه على وجود الكون باعتبار التعلق، ولما لم يشتمل خطاب التكوين على الفهم واشتمل على أعظم الفوائد جاز تعلقه بالمعدوم، وذهب المعتزلة وكثير من أهل السنة إلى أنه ليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال، وإنما هو تمثيل لحصول ما تعلق به الإرادة بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف فهناك استعارة تمثيلية حيث شبهت هيئة حصول المراد بعد تعلق الإرادة بلا مهلة، وامتناع بطاعة المأمور المطيع عقيب أمر المطاع بلا توقف وإباء تصويرا لحال الغائب بصورة الشاهد ثم استعمل الكلام الموضوع للمشبه في المشبه به من غير اعتبار استعارة في مفرداته وكان أصل الكلام إذا قضى أمرا فيحصل عقيبه دفعة فكأنما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ثم حذف المشبه، واستعمل المشبه به مقامه، وبعضهم يجعل في الكلام استعارة تحقيقية تصريحية مبنية على تشبيه حال يقال، ولعل الذي دعا هؤلاء إلى العدول عن الظاهر زعم امتناعه لوجوه ذكرها بعض أئمتهم «الأول» أن قوله تعالى:
كُنْ إما أن يكون قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لتأخر النون ولتقدم الكاف، والمسبوق محدث لا محالة،
(١) كأن مرادهم أن مدلول اللفظ موجود حقيقة، وإلا فهذا الأمر تنجيزي وهو مجاز أيضا فافهم اهـ منه. [.....]
366
وكذا المتقدم عليه بزمان مقدر أيضا، ولأن إِذا للاستقبال فالقضاء محدث وكُنْ مرتب عليه بفاء التعقيب، والمتأخر عن المحدث محدث، ولا جائز أن يكون محدثا وإلا لدار أو تسلسل، «الثاني» إما أن يخاطب المخلوق يكن قبل دخوله في الوجود، وخطاب المعدوم سفه، وإما بعد دخوله ولا فائدة فيه.
«الثالث» المخلوق قد يكون جمادا وتكليفه لا يليق بالحكمة «الرابع» إذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله كُنْ فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إليها وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه ب كُنْ فيلزم عجزه بالنظر إلى ذاته «الخامس» أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها فكذا إذا تكلم بها غيرنا.
«السادس» المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين أو أحدهما وهو خلاف المفروض انتهى.
وأنت إذا تأملت ما ذكرنا ظهر لك اندفاع جميع هذه الوجوه، ويا عجبا لمن يقول بالكلام النفسي ويجعل هذا دالا عليه كيف تروعه هذه القعاقع أم كيف تغره هذه الفقاقع؟! نعم لو ذهب ذاهب إلى هذا القول لما فيه من مزيد إثبات العظمة لله تعالى ما ليس في الأول لا لأن الأول باطل في نفسه كان حريا بالقبول- ولعلي أقول به- والآية مسوقة لبيان كيفية الإبداع ومعطوفة على قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مشتملة على تقرير معنى الإبداع وفيها تلويح بحجة أخرى لإبطال ذلك الهذيان بأن اتخاذ الولد من الوالد إنما يكون بعد قصده بأطوار ومهلة لما أن ذلك لا يمكن إلا بعد انفصال مادته عنه وصيرورته حيوانا، وفعله تعالى بعد إرادته أو تعلق قوله مستغن عن المهلة فلا يكون اتخاذ الولد فعله تعالى، وكأن السبب في هذه الضلالة أنه ورد إطلاق الأب على الله تعالى في الشرائع المتقدمة باعتبار أنه السبب الأول وكثر هذا الإطلاق في إنجيل يوحنا ثم ظنت الجهلة أن المراد به معنى الولادة فاعتقدوا ذلك تقليدا وكفروا، ولم يجوز العلماء اليوم إطلاق ذلك عليه تعالى مجازا قطعا لمادة الفساد، وقرأ ابن عامر فَيَكُونُ بالنصب، وقد أشكلت على النحاة حتى تجرأ أحمد بن موسى فحكم بخطئها وهو سوء أدب بل من أقبح الخطأ ووجهها أن تكون حينئذ جواب الأمر حملا على صورة اللفظ وإن كان معناه الخبر إذ ليس معناه تعليق مدلول مدخول الفاء بمدلول صيغة الأمر الذي يقتضيه سببية ما قبل الفاء لما بعدها اللازمة لجواب الأمر بالفاء إذ لا معنى لقولنا ليكن منك كون فكون، وقيل: الداعي إلى الحمل على اللفظ أن الأمر ليس حقيقيا فلا ينصب جوابه وإن من شرط ذلك أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو- ائتني فأكرمك- إذ تقديره إن تأتني أكرمك وهنا لا يصح- إن يكن يكن- وإلا لزم كون الشيء سببا لنفسه، وأجيب بأن المراد إن يكن في علم الله تعالى وإرادته يكن في الخارج فهو على حد «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» وبأن كون الأمر غير الحقيقي لا ينصب في جوابه ممنوع فإن كان بلفظ فظاهر ولكنه مجاز عن سرعة التكوين وإن لم يعتبر فهو مجاز عن إرادة سرعته فيؤول إلى أن يراد سرعة وجود شيء يوجد في الحال فلا محذور للتغاير الظاهر ولا يخفى ما فيه، ووجه الرفع الاستئناف أي فهو يكون وهو مذهب سيبويه، وذهب الزجاج إلى عطفه على يَقُولُ وعلى التقديرين لا يكون فَيَكُونُ
داخلا في المقول ومن تتمته ليوجه العدول عن الخطاب بأنه من باب الالتفات تحقيرا لشأن الأمر في سهولة تكونه ووجهه به غير واحد على تقدير الدخول.
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ عطف على قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ووجه الارتباط أن «الأول» كان قدحا في التوحيد وهذا قدح في النبوة، والمراد من الموصول جهلة المشركين، وقد روي ذلك عن قتادة والسدي والحسن وجماعة، وعليه أكثر المفسرين ويدل عليه قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء:
٩٠] وقالوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: ٥] وقالوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان:
367
٢١] وقيل: المراد به اليهود الذي كانوا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بدليل ما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رافع بن خزيمة من اليهود قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن كنت رسولا من عند الله تعالى فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله تعالى هذه الآية،
وقوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النساء: ١٥٣] وقال مجاهد: المراد به النصارى ورجحه الطبري بأنهم المذكورون في الآية، وهو كما ترى، ونفي العلم على الأول عنهم على حقيقته لأنهم لم يكن لهم كتاب ولا هم أتباع نبوة، وعلى الأخيرين لتجاهلهم أو لعدم علمهم بمقتضاه لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلا يكلمنا بأنك رسوله إما بالذات كما يكلم الملائكة أو بإنزال الوحي إلينا، وهو استكبار منهم بعد أنفسهم الخبيثة كالملائكة والأنبياء المقدسين عليهم الصلاة والسلام أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي حجة على صدقك وهو جحود منهم قاتلهم الله تعالى لما آتاهم من الآيات البينات، والحجج الباهرات التي تخر لها صم الجبال، وقيل: المراد إتيان آية مقترحة، وفيه أن تخصيص النكرة خلاف الظاهر كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جواب لشبهتهم يعني أنهم يسألون عن تعنت واستكبار مثل الأمم السابقة والسائل المتعنت لا يستحق إجابة مسألته مِثْلَ قَوْلِهِمْ هذا الباطل الشنيع فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ١٥٣] هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً [المائدة: ١١٢] اجْعَلْ لَنا إِلهاً [الأعراف: ١٣٨] وقد تقدم الكلام على هذين التشبيهين، ولبعضهم هنا زيادة على ما مر احتمال تعلق كَذلِكَ ب تَأْتِينا وحينئذ يكون الوقف عليه لا على آيَةٌ أو جعل مِثْلَ قَوْلِهِمْ متعلقا ب تَشابَهَتْ وحينئذ يكون الوقف على مِنْ قَبْلِهِمْ وأنت تعلم أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الكريم على مثل هذه الاحتمالات الباردة تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد، وقيل: في التعنت والاقتراح، والجملة مقررة لما قبلها، وقرأ أبو حيوة وابن أبي إسحاق بتشديد الشين قال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز لأنه فعل ماض والتاءان المزيدتان إنما يجيئان في المضارع فيدغم أما الماضي فلا، وفي غرائب التفسير أنهم أجمعوا على خطئه، ووجه ذلك الراغب بأنه حمل الماضي على المضارع فزيد فيه ما يزاد فيه ولا يخفى أنه بهذا القدر لا يندفع الاشكال، وقال ابن سهمي في الشواذ: إن العرب قد تزيد على أول تفعل في الماضي تاء فتقول تتفعل وأنشد تتقطعت بي دونك الأسباب وهو قول غير مرضي ولا مقبول فالصواب عدم صحة نسبة هذه القراءة إلى هذين الإمامين وقد أشرنا إلى نحو ذلك فيما تقدم قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أي نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها فهو على حد سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يعلمون الحقائق علما ذا وثاقة لا يعتريهم شبهة ولا عناد وهؤلاء ليسوا كذلك فلهذا تعنتوا واستكبروا وقالوا ما قالوا، والجملة على هذا معللة لقوله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما صرح به بعض المحققين، ويحتمل أن يراد من الإتيان طلب الحق واليقين والآية- رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين مكان الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة، والمعنى أنهم اقترحوا آيَةٌ فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض سبحانه لرد قولهم لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ إيذانا بأنه منهم أشبه شيء بكلام الأحمق وجواب الأحمق السكوت إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي متلبسا مؤيدا به فالظرف مستقر، وقيل: لغو متعلق بأرسلنا أو بما بعده، وفسر الحق بالقرآن أو بالإسلام وبقاؤه على عمومه أولى بَشِيراً وَنَذِيراً حالان من الكاف، وقيل: من الحق والآية اعتراض لتسلية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان يهتم ويضيق صدره لإصرارهم على الكفر والمراد إِنَّا أَرْسَلْناكَ لأن تبشر من أطاع وتنذر من عصى لا لتجبر على الإيمان فما عليك إن أصروا أو كابروا؟ والتأكيد لإقامة غير المنكر مقام المنكر بما لاح عليه من أمارة الإنكار والقصر إفرادي.
368
وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ تذييل معطوف على ما قبله، أو اعتراض أو حال أي أرسلناك غير- مسؤول عن أصحاب الجحيم- مات لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت ما أرسلت به وألزمت الحجة عليهم؟! وقرأ أبيّ وما بدل ولا وابن مسعود «ولن» بدل «ذلك» وقرأ نافع ويعقوب لا تسأل- على صيغة النهي إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كما تقول كيف حال فلان وقد وقع في مكروه فيقال لك لا تسأل عنه أي إنه لغاية فظاعة ما حل به لا يقدر المخبر على
إجرائه على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمعه، والجملة على هذا اعتراض أو عطف على مقدر أي فبلغ، والنهي مجازي، ومن الناس من جعله حقيقة، والمقصود منه بالذات نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن السؤال عن حال أبويه على ما
روي- أنه عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما فذهب فدعا لهما وتمنى أن يعرف حالهما في الآخرة وقال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت-
ولا يخفى بعد هذه الرواية لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم- كما في المنتخب- عالم بما آل إليه أمرهما، وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أنه لم يقف عليها، وقال الإمام السيوطي: لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد فلا يعول عليه، والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السابقة عليها والتالية لها لا في أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولتعارض الأحاديث في هذا الباب وضعفها قال السخاوي: الذي ندين الله تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما والذي أدين الله تعالى به أنا أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر، وعليه يحمل كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن صح بل أكاد أقول:
إنهما أفضل من عليّ القارئ وأضرابه. والجحيم- النار بعينها إذا شب وقودها. ويقال: جحمت النار تجحم جحما إذا اضطربت.
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ بيان لكمال شدة شكيمتي هاتين الطائفتين إثر بيان ما يعمهما، والمشركين مما تقدم ولا بين المعطوفين لتأكيد النفي وللاشعار بأن رضا كل منهما مباين لرضا الأخرى، والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله تعالى عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة والسلام، ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان، وهو الاتباع لملتهم التي جاء بنسخها فكيف يتصور اتباعهم لملته صلى الله تعالى عليه وسلم، واحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى الله تعالى عليه وسلم على إيمانهم على ما
روي أنه كان يلاطف كل فريق رجاء أن يسلموا فنزلت،
والملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال الراغب، ومنه طريق ملول- أي مسلوك معلوم- كما نقله الأزهري ثم نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يختلف الأنبياء عليهم السلام فيها، وقد تطلق على الباطل كالكفر ملة واحدة، ولا تضاف إليه سبحانه فلا يقال ملة الله، ولا إلى آحاد الأمة، والدين يرادفها صدقا لكنه باعتبار قبول المأمورين لأنه في الأصل الطاعة والانقياد ولاتحاد ما صدقهما قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الإنعام: ١٦١] وقد يطلق الدين على الفروع تجوزا، ويضاف إلى الله تعالى وإلى الآحاد وإلى طوائف مخصوصة نظرا إلى الأصل على أن تغاير الاعتبار كاف في صحة الإضافة، ويقع على الباطل أيضا، وأما الشريعة فهي المورد في الأصل، وجعلت اسما للأحكام الجزئية المتعلقة بالمعاش والمعاد سواء كانت منصوصة من الشارع أو لا لكنها راجعة إليه. والنسخ والتبديل يقع فيها، وتطلق على الأصول الكلية تجوزا قاله بعض المحققين: ووحدت الملة، وإن كان لهم ملتان للإيجاز أو لأنهما يجمعهما الكفر، وهو ملة واحدة، ثم إن هذا ليس ابتداء كلام منه تعالى بعدم رضاهم بل هو حكاية لمعنى كلام قالوه بطريق التكلم ليطابقه قوله سبحانه.
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فإنه على طريقة الجواب لمقالتهم ولعلهم ما قالوا ذلك إلا لزعمهم أن دينهم
369
حق وغيره باطل فأجيبوا بالقصر القلبي- أي دين الله تعالى هو الحق ودينكم هو الباطل، وهُدَى اللَّهِ تعالى الذي هو الإسلام هو الهدى وما يدعون إليه ليس بهدى بل هوى- على أبلغ وجه لإضافة الهدى إليه تعالى وتأكيده إِنَّ وإعادة الهدى في الخبر على حد شعري شعري، وجعله نفس الْهُدى المصدري وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخبر، ويحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم، والأمر بهذا القول لهم لا يجب أن يكون جوابا لعين تلك العبارة بل جواب ورد لما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية أو النصرانية وأن الاهتداء فيهما وقيل: يصح أن يكون لإقناطهم عما يتمنونه ويطمعونه وليس بجواب وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل- بالملة- وكان الظاهر- ولئن اتبعتها- إلا أنه غير النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذانا بأنهم غيروا ما شرعه الله سبحانه تغييرا أخرجوه به عن موضوعه، وفي صيغة الجمع إشارة إلى كثرة الاختلاف بينهم وأن بعضهم يكفر بعضا.
بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي المعلوم وهو الوحي أو الدين لأنه الذي يتصف بالمجيء دون العلم نفسه ولك أن تفسر المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ جواب للقسم الدال عليه اللام الموطئة ولو أجيب به الشرط هنا لوجبت الفاء، وقيل: إنه جواب له ويحتاج إلى تقدير القسم مؤخرا عن الشرط وتأويل الجملة الاسمية بالفعلية الاستقبالية أي ما يكون لك وهو تعسف إذ لم يقل أحد من النحاة بتقدير القسم مؤخرا مع اللام الموطئة، وتأويل الاسمية بالفعلية لا دليل عليه، وقيل: إنه جواب لكلا الأمرين القسم الدال عليه اللام، وإن الشرطية لأحدهما لفظا وللآخر معنى وهو كما ترى، والخطاب أيضا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقييد الشرط بما قيد للدلالة على أن متابعة أهوائهم محال لأنه خلاف ما علم صحته فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي ولا نصير يدفع عنه العذاب، وفيه أيضا من المبالغة في الاقناط ما لا يخفى، وقيل: الخطاب هناك وهنا وإن كان ظاهرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلا أن المقصود منه أمته، وأنت تعلم مما ذكرنا أنه لا يحتاج إلى التزام ذلك الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اعتراض لبيان حال مؤمني أهل الكتاب بعد ذكر أحوال كفرتهم ولم يعطف تنبيها على كمال التباين بين الفريقين والآية نازلة فيهم وهم المقصودون منها سواء أريد بالموصول الجنس أو العهد على ما قيل: إنهم الأربعون الذين قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب اثنان وثلاثون منهم من اليمن وثمانية من علماء الشام يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرؤونه حق قراءته وهي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى وحق الأمر والنهي، والجملة حال مقدرة أي آتيناهم الكتاب مقدرا تلاوتهم لأنهم لم يكونوا تالين وقت الإيتاء وهذه الحال مخصصة لأنه ليس كل من أوتيه يتلوه، وحَقَّ منصوب على المصدرية لإضافته إلى المصدر، وجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف وأن يكون حالا أي محقين والخبر قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ويحتمل أن يكون يَتْلُونَهُ خبرا لا حالا، أُولئِكَ إلخ خبرا بعد خبر أو جملة مستأنفة، وعلى أول الاحتمالين يكون الموصول للجنس، وعلى ثانيهما يكون للعهد أي مؤمنو أهل الكتاب، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للحصر والتعريض، والضمير للكتاب أي- أولئك يؤمنون بكتابهم- دون المحرفين فإنهم غير مؤمنين به، ومن هنا يظهر فائدة الاخبار على الوجه الأخير، ولك أن تقول محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح بقرينة ما يأتي، ومن الناس من حمل الموصول على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإليه ذهب عكرمة وقتادة، فالمراد من الْكِتابَ حينئذ القرآن، ومنهم من حمله على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وإليه ذهب ابن كيسان، فالمراد من الْكِتابَ حينئذ الجنس ليشمل الكتب المتفرقة، ومنهم من قال بما قلنا إلا أنه جوز عود ضمير بِهِ إلى الْهُدى أو إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو إلى الله
370
تعالى، وعلى التقديرين يكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة أو من التكلم إليها. ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من البعد البعيد.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي الكتاب بسبب التحريف والكفر بما يصدقه، واحتمالات نظير هذا الضمير مقولة فيه أيضا فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ من جهة أنهم اشتروا الكفر بالإيمان، وقيل: بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح، وللإيذان بأن ذلك فذلكة القصة والمقصود منها- وقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة «أولا» بلفظ القبول متقدمة على- العدل- «وهنا» بلفظ- النفع- متأخرة عنه، ولعله- كما قيل- إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه، وأعطى المقدم وجودا تقدمه ذكرا، والمتأخر وجودا تأخره ذكرا، وقيل: إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة، وما هنا لتذكير- نعمة بها فضلهم على العالمين- وهي نعمة الإيمان بنبي زمانهم، وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين- لا المفضولين- وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها- كما اتقوا بمتابعة موسى عليه السلام.
371
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ في متعلق إِذِ احتمالات تقدمت الإشارة إليها في نظير الآية، واختار أبو حيان تعلقها ب قالَ الآتي، وبعضهم بمضمر مؤخر، أي كان كيت وكيت «والمشهور» تعلقها بمضمر مقدم تقديره- اذكر- أو- اذكروا- وقت كذا، والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة، والجامع الاتحاد في المقصد فإن المقصد من- تذكيرهم وتخويفهم- تحريضهم على قبول دينه صلّى الله عليه وسلّم، واتباع الحق، وترك التعصب، وحب الرياسة، كذلك المقصد من قصة إِبْراهِيمَ عليه السلام وشرح أحواله، الدعوة إلى ملة الإسلام وترك التعصب في الدين، وذلك لأنه إذا علم أنه نال- الإمامة- بالانقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في الظَّالِمِينَ وأن الكعبة كانت مطافا ومعبدا في وقته مأمورا هو بتطهيره، وأنه كان يحج البيت داعيا مبتهلا- كما هو دين النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم- وأن نبينا عليه الصلاة والسلام من دعوته، وأنه دعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام، كان الواجب على من يعترف بفضله وأنه من أولاده، ويزعم اتباع ملته، ويباهي بأنه من ساكن حرمه وحامي بيته، أن يكون حاله مثل ذلك، وذهب عصام الملة والدين إلى جواز العطف على نِعْمَتِيَ أي اذْكُرُوا وقت- ابتلاء إبراهيم- فإن فيه ما ينفعكم ويرد اعتقادكم الفاسد أن آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة، لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في- الظلمة- ويدفع عنكم حب الرياسة المانع عن متابعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه يعلم منه أنه لا ينال الرياسة الظَّالِمِينَ واعترض بأنه خروج عن طريق البلاغة مع لزوم تخصيص الخطاب بأهل الكتاب وتخلل اتَّقُوا بين المعطوفين- والابتلاء- في الأصل الاختبار- كما قدمنا- والمراد به هنا التكليف. أو المعاملة معاملة الاختبار مجازا، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى- لكونه عالم السر والخفيات- وإِبْراهِيمَ علم أعجمي، قيل: معناه قبل النقل- أب رحيم- وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره، والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه السلام، وإيذان بأن ذلك- الابتلاء- تربية له وترشيح لأمر خطير، والكلمات- جمع- كلمة- وأصل معناها- اللفظ المفرد- وتستعمل في الجمل المفيدة، وتطلق على معاني ذلك- لما بين اللفظ والمعنى من شدة الاتصال- واختلف فيها.
فقال طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها العشرة التي من الفطرة، المضمضة والاستنشاق وقص الشارب وإعفاء اللحية والفرق ونتف الإبط وتقليم الأظفار وحلق العانة والاستطابة والختان، وقال عكرمة رواية عنه أيضا: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم، ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام، عشر منها في سورة براءة، التَّائِبُونَ [التوبة: ١١٢] إلخ، وعشر في الأحزاب [٢٥] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلخ، وعشر في المؤمنين وسَأَلَ سائِلٌ إلى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [المعارج: ١- ٢٤] وفي رواية الحاكم في مستدركه أنها ثلاثون، وعد السور الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة، فالذي في براءة، التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع، والسجود. والأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر. والحفظ لحدود الله تعالى. والإيمان المستفاد من وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أو من إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[التوبة: ١١١] في الأحزاب، الإسلام. والإيمان. والقنوت.
372
والصدق. والصبر. والخشوع. والتصدق. والصيام. والحفظ للفروج والذكر، والذي في المؤمنين الإيمان والخشوع والاعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج- إلا على الأزواج أو الإماء ثلاثة- والرعاية للعهد. والأمانة اثنين والمحافظة على الصلاة، وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض الخصال بعد جمع العشرات المذكورة. كالإيمان.
والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعدادا- إنما ينافي تغايرها ذاتا- ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند الشافعية باعتبار تكررها في كل سورة، وما في رواية عكرمة مبني على اعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات، وعده العاشرة البشارة للمؤمنين في براءة، وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة عليها واحدا وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: ٢٤] غير- الفاعلين للزكاة- لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب، وما روي أنها أربعون وبينت بما في السور الأربع مبني على الاعتبار الأول أيضا- فلا إشكال- وقيل: ابتلاه الله تعالى بعدة أشياء بالكوكب والقمرين والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة من كوثى إلى الشام. وروي ذلك عن الحسن، وقيل: هي ما تضمنته الآيات بعد من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع قواعده، والإسلام. «وقيل، وقيل..» إلى ثلاثة عشر قولا، وقرأ ابن عامر وابن الزبير وغيرهما «إبراهام» وأبو بكرة «إبراهم» - بكسر الهاء وحذف الياء- وقرأ ابن عباس. وأبو الشعثاء وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم برفع إِبْراهِيمَ ونصب رَبُّهُ- فالابتلاء- بمعنى الاختبار حقيقة لصحته من العبد. والمراد دعا رَبُّهُ بِكَلِماتٍ مثل رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الأعراف: ١٤٣] واجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: ٣٥] ليرى هل يجيبه؟ ولا حاجة إلى الحمل على المجاز. وأما ما قيل: إنه- وإن صح من العبد- لا يصح- أو لا يحسن تعليقه بالرب- فوجهه غير ظاهر سوى ذكر لفظ- الابتلاء- ويجوز أن يكون ذلك في مقام الأنس، ومقام الخلة غير خفي فَأَتَمَّهُنَّ الضمير المنصوب- للكلمات- لا غير. والمرفوع المستكن يحتمل أن يعود- لإبراهيم- وأن يعود- لربه- على كل من قراءتي- الرفع والنصب- فهناك أربعة احتمالات «الأول» عوده على إِبْراهِيمَ منصوبا، ومعنى فَأَتَمَّهُنَّ حينئذ أتى بهن على الوجه الأتم وأداهن كما يليق «الثاني» عوده على رَبُّهُ مرفوعا، والمعنى حينئذ يسر له العمل بهن وقواه على- إتمامهن- أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنّة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين «والثالث» عوده على إِبْراهِيمَ مرفوعا- والمعنى عليه- أتم إبراهيم الكلمات المدعو بها بأن راعى شروط الإجابة فيها، ولم يأت بعدها بما يضيعها «الرابع» عوده إلى رَبُّهُ منصوبا- والمعنى عليه- فأعطى سبحانه إِبْراهِيمَ جميع ما دعاه. وأظهر الاحتمالات الأول والرابع، إِذِ التمدح غير ظاهر في الثاني- مع ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته- والاستعمال المألوف غير متبع في الثالث، لأن الفعل الواقع في مقابلة الاختبار يجب أن يكون فعل المختبر اسم مفعول.
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً استئناف بياني إن أضمر ناصب إِذِ كأنه قيل: فماذا كان بعد؟ فأجيب بذلك، أو بيان- لابتلى- بناء على رأي من جعل- الكلمات- عبارة عما ذكر أثره- وبعضهم يجعل ذلك من بيان الكلي بجزئي من جزئياته وإذا نصبت إِذِ بيقال كما ذهب إليه أبو حيان يكون المجموع جملة معطوفة على ما قبلها على الوجه الذي مرّ تفصيله، وقيل: مستطردة أو معترضة، ليقع قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [الإنعام: ١٤٤] إن جعل خطابا لليهود موقعه، ويلائم قوله سبحانه: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١٣٥] و «جاعل» من- جعل- بمعنى صير المتعدي إلى مفعولين، ولِلنَّاسِ إما متعلق بجاعل أي لأجلهم، وإما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي إماما كائنا لهم- والإمام- اسم للقدوة الذي يؤتم به. «ومنه» قيل لخيط البناء: إمام، وهو مفرد على فعال، وجعله بعضهم اسم آلة لأن فعالا من صيغها- كالإزار- واعترض بأن- الإمام- ما يؤتم به، والإزار ما يؤتزر
373
به- فهما مفعولان- ومفعول الفعل ليس بآلة لأنها الواسطة بين الفاعل والمفعول في وصول أثره إليه، ولو كان المفعول آلة لكان الفاعل كذلك- وليس فليس- ويكون جمع- آم- اسم فاعل من- أم يؤم- كجائع وجياع، وقائم وقيام، وهو بحسب المفهوم وإن كان شاملا للنبي والخليفة وإمام الصلاة، بل كل من يقتدى به في شيء ولو باطلا كما يشير إليه قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص: ٤١] إلا أن المراد به هاهنا النبي المقتدى به، فإن من عداه لكونه مأموم النبي ليست إمامته كإمامته، وهذه الإمامة إما مؤبدة- كما هو مقتضى تعريف الناس- وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار ولا يضر مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته ومأمورا باتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم اتفاق الشرائع التي بعده في الكل، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده التي هي أبعاضه على التناوب، وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ- ولو بعضه- لا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم يشع ذلك فالمراد من «الناس» حينئذ أمته الذين اتبعوه، ولك أن تلتزم القول بتأبيد إمامة كل نبي- ولكن في عقائد التوحيد- وهي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلا كما يشير إليه قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الإنعام: ٩٠] وعدم الشيوع غير مسلم، ولئن سلم لا يضر، والامتنان على إبراهيم عليه السلام بذلك دون غيره لخصوصية اقتضت ذلك لا تكاد تخفى فتدبر.
ثم لا يخفى أن ظاهر الآية يشير إلى أن الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى جعل القيام بتلك الكلمات سببا لجعله إماما، وقيل: إنه كان بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي، وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق وأنت تعلم أن ذبح الولد والهجرة والنار إن كانت من- الكلمات- يشكل الأمر لأن هذه كانت بعد النبوة بلا شبهة، وكذا الختان أيضا بناء على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام حين ختن نفسه كان عمره مائة وعشرين فحينئذ يحتاج إلى أن يكون- إتمام الكلمات- سبب الإمامة باعتبار عمومها للناس واستجابة دعائه في حق بعض ذريته، ونقل الرازي عن القاضي أنه على هذا يكون المراد من قوله تعالى: فَأَتَمَّهُنَّ أنه سبحانه وتعالى علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة ولا يخفى أن الفاء يأبى عن الحمل على هذا المعنى.
قالَ استئناف بياني والضمير لإبراهيم عليه السلام وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف يقال سأكرمك فتقول وزيدا وجعله على معنى ماذا يكون مِنْ ذُرِّيَّتِي بعيد. وذهب أبو حيان إلى أنه متعلق بمحذوف أي- اجعل من ذريتي- إماما لأنه عليه السلام فهم من إِنِّي جاعِلُكَ الاختصاص به، واختاره بعضهم واعترضوا على ما تقدم بأن الجار والمجرور لا يصلح مضافا إليه فكيف يعطف عليه وبأن العطف على الضمير كيف يصح بدون إعادة الجار وبأنه كيف يكون المعطوف مقول قائل آخر، ودفع الأولان بأن الإضافة اللفظية في تقدير الانفصال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي في معنى بعض ذُرِّيَّتِي فكأنه قال: وجاعل بعض ذُرِّيَّتِي وهو صحيح على أن العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وإن أباه أكثر النحاة إلا أن المحققين من علماء العربية وأئمة الدين على جوازه حتى قال صاحب العباب: إنه وارد في القراءات السبع المتواترة فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ودفع «الثالث» بأنه من قبيل عطف التلقين فهو خبر في معنى الطلب وكأن أصله واجعل بعض ذُرِّيَّتِي كما قدره المعترض لكنه عدل عنه إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر ونظير هذا العطف ما
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «اللهم ارحم المحلقين قالوا:
374
والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين».
وقد ذكر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف وأنه وقع في الاستثناء كما
في الحديث «إن الله تعالى حرم شجر الحرم قالوا إلا الإذخر يا رسول الله»
واعترض أيضا بأن العطف المذكور يستدعي أن تكون إمامة- ذريته- عامة لجميع الناس عموم إمامته عليه السلام على ما قيل. وليس كذلك وأجيب بأنه يكفي في العطف الاشتراك في أصل المعنى، وقيل: يكفي قبولها في حق نبينا عليه الصلاة والسلام- والذرية- نسل الرجل وأصلها الأولاد الصغار ثم عمت الكبار والصغار الواحد وغيره، وقيل: إنها تشمل الآباء لقوله تعالى: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: ٤١] يعني نوحا وأبناءه والصحيح خلافه، وفيها ثلاث لغات- ضم الذال وفتحها وكسرها- وبها قرىء وهي إما فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع في الأول واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الأولى- ذريوية- فقلبت الواو ياء لما سبق فصارت- ذريية- كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية، أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذرئية فقلبت الهمزة ياء وأدغمت، أو فعلية من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء هربا من ثقل التكرير كما قالوا في تظننت تظنيت، وفي تقضضت تقضيت، أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام، أو فعلية منه على صيغة النسبة قالوا: وهو الأظهر لكثرة مجيئها كحرية ودرية، وعدم احتياجها إلى الاعلال وإنما ضمت ذاله لأن الابنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر: دهري.
قالَ استئناف بياني أيضا، والضمير لله عز اسمه لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ إجابة لما راعى الأدب في طلبه من جعل بعض ذريته نبيا كما جعل مع تعيين جنس البعض الذي أبهم في دعائه عليه السلام بأبلغ وجه وآكده حيث نفى الحكم عن أحد الضدين مع الاشعار إلى دليل نفيه عنه ليكون دليلا على الثبوت للآخر فالمتبادر من العهد الإمامة، وليست هي هنا إلا النبوة. وعبر عنها «به» للإشارة إلى أنها أمانة الله تعالى وعهده الذي لا يقوم به إلا من شاء الله تعالى من عباده، وآثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء من ذريته عليهم السلام ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامته تنال كلّا منهم في وقته المقدر له، ولا يعود من ذلك نقص في رتبة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه جار مجرى التغليب على أن مثل ذلك لو كان يحط من قدرها لما خوطب صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل: ١٢٣] والمتبادر من- الظلم- الكفر لأنه الفرد الكامل من أفراده، ويؤيده قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: ٢٥٤] فليس في الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر قبل البعثة ولا على أن الفاسق لا يصلح للخلافة، نعم فيها قطع أطماع الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة، وسد أبواب آمالهم الفارغة عن نيلها، واستدل بها بعض الشيعة على نفي إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم حيث أنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك وإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة، وأجيب بأن غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لا تناله، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم، واعترض بأن مِنْ تبعيضية فسؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة إما للبعض العادل من ذريته مدة عمره أو الظالم حال الامامة سواء كان عادلا في باقي العمر أم لا، أو العادل في البعض الظالم في البعض الآخر أو الأعم، فعلى الأول يلزم عدم مطابقة الجواب، وعلى الثاني جهل الخليل، وحاشاه وعلى الثالث المطلوب وحياه، وعلى الرابع إما المطلوب أو الفساد وأنت خبير بأن مبنى الاستدلال حمل العهد على الأعم من النبوة والإمامة التي
375
يدعونها- ودون إثباته خرط القتاد- وتصريح البعض كالجصاص لا يبنى عليه إلزام الكل، وعلى تقدير التنزل يجاب بأنا نختار أن سؤال الإمامة بالمعنى الأعم للبعض المبهم من غير إحضار الاتصاف بالعدالة والظلم حال السؤال، والآية إجابة لدعائه مع زيادة على ما أشرنا إليه، وكذا إذا اختير الشق الأول بل الزيادة عليه زيادة، ويمكن الجواب باختيار الشق الثالث أيضا بأن نقول: هو على قسمين، أحدهما من يكون ظالما قبل الإمامة ومتصفا بالعدالة وقتها اتصافا مطلقا بأن صار تائبا من المظالم السابقة فيكون حال الإمامة متصفا بالعدالة المطلقة، والثاني من يكون ظالما قبل الإمامة ومحترزا عن الظلم حالها لكن غير متصف بالعدالة المطلقة لعدم التوبة، ويجوز أن يكون السؤال شاملا لهذا القسم ولا بأس به إذ أمن الرعية من الفساد الذي هو المطلوب يحصل به فالجواب بنفي حصول الإمامة لهذا القسم والشيخان وعثمان رضي الله تعالى عنهم ليسوا منه بل هم في أعلى مراتب القسم الأول متصفون بالتوبة الصادقة، والعدالة المطلقة، والإيمان الراسخ، والإمام لا بد أن يكون وقت الإمامة كذلك، ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم في لغة وعرف وشرع إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة، وفي غيره مجاز، ولا يكون المجاز أيضا مطردا بل حيث يكون متعارفا وإلا لجاز صبي لشيخ ونائم لمستيقظ وغني لفقير. وجائع لشبعان وحي لميت وبالعكس، وأيضا لو اطرد ذلك يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة أن يحنث ولا قائل به، هذا ومن أصحابنا من جعل الآية دليلا على عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصح للخلافة، ومبنى ذلك حمل العهد على الإمامة وجعلها شاملة للنبوة والخلافة، وحمل الظالم على من ارتكب معصية مسقطة للعدالة بناء على أن الظلم خلاف العدل، ووجه الاستدلال حينئذ أن الآية دلت على أن نيل الامامة
لا يجامع الظلم السابق فإذا تحقق النيل كما في الأنبياء علم عدم اتصافهم حال النيل بالظلم السابق وذلك إما بأن لا يصدر منهم ما يوجب ذلك أو بزواله بعد حصوله بالتوبة ولا قائل بالثاني إذ الخلاف إنما هو في أن صدور الكبيرة هل يجوز قبل البعثة أم لا؟ فيتعين الثاني وهو العصمة، أو المراد بها هاهنا عدم صدور الذنب لا الملكة وكذا إذا تحقق الاتصاف بالظلم كما في الفاسق علم عدم حصول الإمامة بعد ما دام اتصافه بذلك واستفادة عدم صلاحية الفاسق للإمامة على ما قررنا من منطوق الآية وجعلها من دلالة النص أو القياس المحوج إلى القول بالمساواة ولا أقل، أو التزام جامع، وهما مناط العيوق وإنما يدعو اليه حمل الإمامة على النبوة، وقد علمت أن المبني الحمل على الأعم وكان الظاهر أن الظلم الطارئ والفسق العارض يمنع عن الإمامة بقاء كما منع عنها ابتداء لأن المنافاة بين الوصفين متحققة في كل آن- وبه قال بعض السلف- إلا أن الجمهور على خلافه مدعين أن المنافاة في الابتداء لا تقتضي المنافاة في البقاء لأن الدفع أسهل من الرفع، واستشهدوا له بأنه لو قال لامرأة مجهولة النسب يولد مثلها لمثله: هذه بنتي لم يجز له نكاحها ولو قال لزوجته الموصوفة بذلك لم يرتفع النكاح لكن إن أصر عليه يفرق القاضي بينهما وهذا الذي قالوه إنما يسلم فيما إذا لم يصل الظلم إلى حد الكفر أما إذا وصل إليه فإنه ينافي الإمامة بقاء أيضا بلا ريب وينعزل به الخليفة قطعا، ومن الناس من استدل بالآية على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده وأيد ذلك بما روي عن الحسن أنه قال: إن الله تعالى لم يجعل للظالم عهدا وهو كما ترى، وقرأ أبو الرجاء وقتادة والأعمش- الظالمون- بالرفع على أن عَهْدِي مفعول مقدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ عطف على وَإِذِ ابْتَلى وَالْبَيْتِ من الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا مَثابَةً لِلنَّاسِ أي مجمعا لهم قاله الخليل. وقتادة- أو معاذا وملجأ- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم- قاله مجاهد. وجبير- أو مرجعا يحق أن يرجع ويلجأ إليه- قاله بعض المحققين- أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره- قاله عطاء- وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان كما في مقام ومقامة وهي
376
لتأنيث البقعة- وهو قول الفراء. والزجاج- وقال الأخفش: إن- التاء فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة، وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي، أو ظرف مكان، واللام في الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الاستغراق العرفي، وقرأ الأعمش، وطلحة مثابات على الجمع لأنه مثابة كل واحد من الناس لا يختص به أحد منهم سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج: ٢٥] فهو وإن كان واحدا بالذات إلا أنه متعدد باعتبار الإضافات، وقيل: إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة تعدد المحل أو باعتبار أن كل جزء منه مثابة، واختار بعضهم ذلك زعما منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة بالمملوكين ولم يعرف، وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم وَأَمْناً عطف على مَثابَةً وهو مصدر وصف به للمبالغة، والمراد موضع أمن إما لسكانه من الخطف أو لحجاجه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح، أو للجاني الملتجئ إليه من القتل- وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه- إذ عنده لا يستوفى قصاص النفس في الحرم لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجب عليه الحد والتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه، وعند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لا يستوفى من المتلجئ قصاص مطلقا ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل- أمنا- مفعولا ثانيا لمحذوف على معنى الأمر أي- واجعلوه أمنا- كما جعلناه مثابة وهو بعيد عن الظاهر النظم، ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل اكتفاء به أو إشارة إلى
العموم أي أنه أمن لكل شيء كائنا ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى عطف على جعلنا أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه السلام وأولاده كما قيل، أو عطف على اذكر المقدر عاملا ل إِذْ، أو معطوف على مضمر تقديره ثوبوا إليه وَاتَّخِذُوا وهو معترض باعتبار نيابته عن ذلك بين جعلنا وعهدنا ولم يعتبر الاعتراض من دون عطف مع أنه لا يحتاج إليه ليكون الارتباط مع الجملة السابقة أظهر، والخطاب على هذين الوجهين لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو صلى الله تعالى عليه وسلم رأس المخاطبين. ومِنْ إما للتبعيض أو بمعنى- في- أو زائدة- على مذهب الأخفش- والأظهر الأول، وقال القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقا وأعطاني الله تعالى من فلان أخا صالحا، دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه، والمقام- مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وفيه أثر قدميه قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم، وأخرجه البخاري- وهو قول جمهور المفسرين- وروي عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل عليه السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله الأخرى فيه أيضا، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء البيت، وهو موضعه اليوم- فالمقام- في أحد المعنيين حقيقة لغوية وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما- كذا قالوا- إلا أنه استشكل تعيين الموضع بما هو الموضع اليوم لما في فتح الباري من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبد الرزاق بسند قوي، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي حوله فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان المحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أو عمر رضي الله تعالى عنه، وأيضا كيف يمكن رفع البناء حين القيام
377
عليه حال كونه في موضعه اليوم؟! وهو بعيد من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعا، وأيضا المشهور أن دعوة الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فإنه صعده بعد الفراغ من عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان الوقوف عليه فوق الجبل- كما يشير إليه كلام روضة الأحباب، وبه يحصل الجمع- أشكل التعيين بما هو اليوم وغاية التوجيه أن يقال لا شك أنه عليه السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين، وكذا حين الدعوة لم يكن عند البيت بل فوق أبي قبيس فلا بد من صرف عباراتهم عن ظاهرها بأن يقال الموضع الذي كان ذلك الحجر في أثناء زمان قيامه عليه واشتغاله بالدعوة، أو رفع البناء لا حالة القيام عليه، ووقع في بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم عليه السلام، وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه، وأن الحجر بعد إبراهيم كان موضوعا في جوف الكعبة، ولعل هذا هو الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل، وما وقع في الفتح من أنه كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم- كذا ذكره بعض المحققين فليفهم- وسبب النزول ما
أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا عمر هذا مقام إبراهيم فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى فقال: لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية»
والأمر فيها للاستحباب إذ المتبادر- من- المصلى- موضع الصلاة مطلقا، وقيل: المراد به الأمر بركعتي الطواف لما
أخرجه مسلم عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، وقرأ الآية»
فالأمر للوجوب على بعض الأقوال، ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد بصلاة مخصوصة من غير دليل، وقراءته عليه الصلاة والسلام الآية حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله، وابن عباس وعطاء إلى أنه مواقف الحج كلها، والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار، ومعنى- اتخاذها مصلى- أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى عندها، والذي عليه الجمهور، هو ما قدمناه أولا، وهو الموافق لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على أنه فعل ماض، وهو حينئذ معطوف على جَعَلْنَا أي- واتخذ الناس- من مكان إبراهيم الذي عرف به وأسكن ذريته عنده- وهو الكعبة قبلة يصلون إليها. فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا- المصلى- بمعنى القبلة مجاز عن المحل الذي يتوجه إليه في الصلاة بعلاقة القرب والمجاورة وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي وصينا أو أمرنا أو أوحينا أو قلنا، والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى ب إِلى يكون بمعنى التوصية، ويتجوز به عن الأمر، وإسماعيل علم أعجمي قيل: معناه بالعربية مطيع الله، وحكي أن إبراهيم عليه السلام كان يدعو أن يرزقه الله تعالى ولدا، ويقول:- اسمع إيل- أي استجب دعائي يا الله فلما رزقه الله تعالى ذلك سماه بتلك الجملة، وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ أي بأن طَهِّرا على أن أَنْ مصدرية وصلت بفعل الأمر بيانا للموصى المأمور به، وسيبويه. وأبو علي جوزا كون صلة الحروف المصدرية أمرا أو نهيا والجمهور منعوا ذلك مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر، وبأنه يجب في الموصول الاسمي كون صلته خبرية. والموصول الحرفي مثله، قدروا هنا- قلنا- ليكون مدخول الحرف المصدري خبرا، ويردّ عليهم أولا أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي اتحاد معناهما ضرورة عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه، وثانيا أن وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك، وثالثا أن تقدير- قلنا- يفضي إلى أن يكون المأمور به القول، وليس كذلك، وجوز أن تكون أَنْ هذه مفسرة لتقدم ما
378
يتضمن معنى القول دون حروفه، وهو العهد، ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسرا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئا هو أَنْ طَهِّرا والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعا كالحائض وخص مجاهد وابن عطاء ومقاتل وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان، وذكروا أن البيت كان عامرا على عهد نوح عليه السلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد فعبدت من دون الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها، وقيل: المراد بخّراه ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه، وقيل: أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسماعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الحج: ٢٦] وكان إسماعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب، وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي، وتمام البناء بمباشرته كما ينبىء عنه إيراده إثر حكاية جعله مَثابَةً وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ك ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف: ٧٣، هود: ٦٤، الشمس: ١٣] لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علوا كبيرا لِلطَّائِفِينَ أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له، والطائف- اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله، والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد- وإليه ذهب عطاء وغيره- وقال ابن جبير: والمراد الغرباء الوافدون مكة حجاجا وزوارا.
وَالْعاكِفِينَ وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير، وقال عطاء: هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب، وقال مجاهد: المجاورون له من الغرباء، وقيل: هم المعتكفون فيه وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وهم المصلون جمع راكع وساجد، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرا ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع اختصاره إيذانا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود. وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيئة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيئات وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدّ ولين وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: ٣٧] أي اجعل هذا المكان القفر بلدا إلخ فالمدعو به البلدية مع الأمن، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم [٣٥] رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ولعل السؤال متكرر، وما في تلك السورة كان بعد، والأمن المسئول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه. وإما غيره بأن يكون المسئول أولا مجرد الأمن المصحح للسكنى، وثانيا الأمن المعهود، ولك أن تجعل هَذَا الْبَلَدَ في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ فتطابق الدعوتان حينئذ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدا والمطلوب كونه آمنا على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلدا كاملا في الأمن كأنه قيل اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك كان هذا اليوم يوما حارا، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١، القارعة: ٧] وإما على الاتساع والإسناد المجازي، والأصل آمنا أهله فأسند ما للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك، وهل الدعاء بأن يجعله آمنا
379
من الجبابرة والمتغلبين، أو من أن يعود حرمه حلالا، أو من أن يخلو من أهله. أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجدب، أو من دخول الدجال، أو من دخول أصحاب الفيل؟؟ أقوال، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه- كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج الثقفي، والقرامطة وغيرهم- وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان غرضه شيئا آخر لا يجدي نفعا كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل:
إذا مت عطشانا فلا نزل القطر
وكان النداء بلفظ الرب مضافا لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته، وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر.
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ أي من أنواعها بأن تجعل قريبا منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجيء إليه من الأقطار الشاسعة- وقد حصل كلاهما- حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روي أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين، وقيل: من الأردن وطاف بها حول البيت سبعا فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف، وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله، وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع، وجمع القلة إظهارا للقناعة، وقد أشرنا إلى أنه كثيرا ما يقوم مقام جمع الكثرة، ومِنَ للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس.
مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من أَهْلَهُ بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به قالَ أي الله تعالى.
وَمَنْ كَفَرَ عطف على مَنْ آمَنَ أي- وارزق من كفر أيضا- فالطلب بمعنى الخبر على عكس ومِنْ ذُرِّيَّتِي وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيم عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه السلام لما سمع لا يَنالُ إلخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضيا عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل، وبما ذكرنا اندفع ما في البحر من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير قال إبراهيم: وَارْزُقْ فينافيه ما بعد، ولك أن تجعل العطف على محذوف أي- ارزق من آمن ومن كفر- بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون مِنَ مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا على الأول معطوف على كَفَرَ وعلى «الثاني» خبر للمبتدأ- والفاء- لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير- أنا- لأن ابن الحاجب نص على أن المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحسانا، وإلى عدم التقدير ذهب المبرد، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء، ثم الكفر وإن لم يكن سببا للتمتع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار- وقليلا- صفة لمحذوف أي متاعا أو زمانا قَلِيلًا وقرأ ابن عامر فَأُمَتِّعُهُ مخففا على الخبر، وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة، وقرأ أبيّ- فنمتعه- بالنون، وابن عباس ومجاهد فَأُمَتِّعُهُ على صيغة الأمر، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في قالَ عائدا إلى إبراهيم، وحسن إعادة قالَ طول الكلام وأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه
380
أخذ في كلام آخر وكونه عائدا إليه تعالى- أي قال الله: فَأُمَتِّعُهُ يا قادر يا رازق خطابا لنفسه على طريق التجريد- بعيد جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادرا من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلا مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبكلا المعنيين قال بعض، ويؤيد الأول قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا
[الطور: ١٣] ويُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: ٤٨] وفَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: ٤١] ويؤيد الثاني قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧١] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] الآية وإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨] والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به وقوعا محققا حتى كأنه مربوط به، قيل: إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضا كأنه شبه حال الكافر الذي أدرّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلا إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهرا حمل ثُمَّ على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر- اضطره- بكسر الهمزة، ويزيد بن أبي حبيب- اضطره- بضم الطاء وأبيّ- نضطره- بالنون، وابن عباس. ومجاهد على صيغة الأمر، وابن محيصن- أطره- بإدغام الضاد في الطاء خبرا- قال الزمخشري- وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس، وفيه أن هذه الحروف أدغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في نَغْفِرْ لَكُمْ [البقرة: ٢٨٤، الأعراف: ١٦١] والضاد في الشين في- لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ- والشين في السين في الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء: ٤٢] والكسائي الفاء في الباء في نَخْسِفْ بِهِمُ [سبأ: ٩] ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا- مضطجع ومطجع- إلا أن عدم الإدغام أكثر، وأصل اضطر على هذا على ما قيل: اضتر فأبدلت التاء طاء، ثم وقع الإدغام وَبِئْسَ الْمَصِيرُ المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي- وبئس المصير النار- إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدرا على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ عطف على وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وإذ للمضي وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارا لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات، ولعله مجاز من المقابل للقيام، ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء بمعنى أدامك الله تعالى وثبتك، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليا مرتفعا، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيئته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيئة الارتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيئة صار البناء عليه سببا للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك يَرْفَعُ بمعنى يبنى عليها، وقيل: الْقَواعِدَ ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها، ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس، وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ الْقَواعِدَ عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول، وقيل: الرفع بمعنى الرفعة والشرف، والْقَواعِدَ بمعناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية- وفيه بعد- إذ لا يظهر حينئذ فائدة لذكر الْقَواعِدَ. ومِنَ ابتدائية
381
متعلقة ب يَرْفَعُ أو حال من الْقَواعِدَ ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الاعتناء الدال على التفخيم ما لا يخفى.
وَإِسْماعِيلُ عطف على إِبْراهِيمُ، وفي تأخيره عن المفعول المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخليته في رفع البناء، والعمل دون مدخلية إبراهيم عليه السلام، وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة، وقيل: كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب، وأبعد بعضهم فزعم أن إِسْماعِيلُ مبتدأ وخبره محذوف أي يقول: ربنا، وهذا ميل إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام هو المتفرد بالبناء ولا مدخلية لإسماعيل فيه أصلا بناء على ما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلا صغيرا،
والصحيح أن الأثر غير صحيح، هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان باباه، وكم مرة حجه آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على بنائه، ومن أين أتي بالحجر الأسود؟؟؟ أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم، ولا الحديث الصحيح، وبعضها يناقض بعضا، وذلك على عادتهم في نقل ما دب ودرج، ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم، ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند واستقبلته الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في زمن طوفان نوح عليه السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في زمن إبراهيم فزارها. ورفع قواعدها وجعل بأبيها بابا واحدا ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود، وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم اسود بملامسة النساء الحيض، وهذا الخبر وأمثاله إن صح- عند أهل الله تعالى- إشارات ورموز لمن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: ٣٧] فنزولها في زمن آدم عليه السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد، وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين، والاعتدال من عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة، والملكات الفاضلة، والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب، وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكينه واستقامته فيه، ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب، وبقاؤه في السماء إشارة إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته، ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الإنعام: ٧٩] والحجر الأسود إشارة إلى الروح التي هي أمر الله عز شأنه ويمينه، وموضع سره، وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره، ولهذا قيل: خبئت أي احتجبت بالبدن، واسوداده بملامسة الحيض إشارة إلى تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب، واستيلائها عليه، وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه.
ولو ترك القطا ليلا لناما
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان رَبَّنا وبه قرأ أبيّ والجملة حال من فاعل يَرْفَعُ وقيل: معطوفة على ما قبله بجعل القول متعلقا ل إِذْ والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبا، وإلا لم يطلب، وفي اختيار صيغة التفعل اعتراف بالقصور
382
لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول، وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه، ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم، وليس الثواب مما يخطر لهم ببال، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تعليل لاستدعاء التقبل، والمراد السميع لدعائنا، والعليم بنياتنا، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول، وتأكيد الجملة لاظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولا.
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك- فمسلمين- إما من استسلم إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما، والأول أولى نظرا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه «مسلمين» بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر (١) وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية، وقد قيل به هنا، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا عطف على الضمير المنصوب في اجْعَلْنا وهو في محل المفعول الأول وأُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ في موضع المفعول الثاني معطوف على مُسْلِمَيْنِ لَكَ ولو اعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا- الذرية- بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: ٦] ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر، وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ [الصافات: ١١٣] أو من قوله عز شأنه: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ باعتبار السياق ان في- ذريتهما- ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء، والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع، واستدل على ذلك بقوله تعالى: وَابْعَثْ إلخ، ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما لا يدل، وجوز أبو البقاء أن يكون أُمَّةً المفعول الأول وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها- ومسلمة- المفعول الثاني وكان الأصل- واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك- فالواو داخلة في الأصل على أُمَّةً وقد فصل بينهما بالجار والمجرور، ومِنْ عند بعضهم على هذا بيانية على حد وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور: ٥٥] ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون مِنْ للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره، ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر وَأَرِنا مَناسِكَنا قال قتادة: معالم الحج، وقال عطاء. وابن جريج: مواضع الذبح، وقيل: أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العادة، وأَرِنا من رأى البصرية ولهمزة الافعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية بمعنى عرف لا علم، وإلا لتعدت إلى ثلاثة، وأنكر ابن الحاجب وتبعه أبو حيان
(١) بفتح الجيم اسم أم إسماعيل اهـ منه.
383
ثبوت رأى بمعنى عرف، وذكره الزمخشري في المفصل، والراغب في مفرداته وهما من الثقات فلا عبرة بإنكارهما، وقرأ ابن مسعود- وأرهم مناسكهم- باعادة الضمير إلى الذرية، وقرأ ابن كثير ويعقوب- وأرنا- بسكون الراء وقد شبه فيه المنفصل بالمتصل فعومل معاملة فَخُذْ [البقرة: ٢٦٠، الأعراف: ١٤٤، يوسف: ٧٨] في إسكانه للتخفيف، وقد استعملته العرب كذلك ومنه قوله:
أرنا إداوة عبد الله نملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
وقول الزمخشري: إن هذه القراءة قد استرذلت لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف مما لا ينبغي لأن القراءة من المتواترات ومثلها أيضا موجود في كلام العرب العرباء وَتُبْ عَلَيْنا أي وفقنا للتوبة أو اقبلها منا والتوبة تختلف باختلاف التائبين فتوبة سائر المسلمين الندم والعزم على عدم العود ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة، فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير، وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفا لمن هو من أهلها ممن يصح صدور الذنب المخل بمرتبة النبوة منه، وإن قيل: إن الطلب للذرية فقط وارتكب التجوز في النسبة إجراء للولد مجرى النفس بعلاقة البعضية ليكون أقرب إلى الإباحة، أو في الطرف حيث عبر عن الفرع باسم الأصل، أو قيل: بحذف المضاف- أي على عصاتنا- زال الاشكال كما إذا قلنا: إن ذلك عما فرط منهما من الصغائر سهوا، والقول بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة، وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم الناس ان تلك المواضع مواضع التنصل، وطلب التوبة من الذنوب بعيد جدا، وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعا- كما لا يخفى- وقرأ عبد الله «وتب عليهم» بضمير جمع الغيبة أيضا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة، وتقديم التوبة للمجاورة، وتأخير الرحمة لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي أرسل في- الأمة المسلمة- وقيل: في- الذرية- وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد رَسُولًا مِنْهُمْ أي من أنفسهم، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به وأشرف، وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام- لا من ذريتهما- فهو المجاب به دعوتهما، كما
روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «سأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني»
وأراد صلى الله تعالى عليه وسلم إثر دعوته، أو مدعوه، أو عين دعوته- على المبالغة- ولما كان إسماعيل عليه السلام شريكا في الدعوة كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعوة إسماعيل أيضا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته، وكونه أصلا في الدعاء، ووهم من قال: إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسماعيل عليهما الصلاة والسلام. وقرأ أبيّ «وابعث فيهم في آخرهم رسولا» وهذا يؤيد أن المراد به نبينا صلّى الله عليه وسلّم، «وفي الأثر» أنه لما دعي إبراهيم قيل له: قد استجيب لك، وهو يكون في آخر الزمان.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ أي يقرأ عليهم ما توحي إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما، وقيل:
خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة، والجملة صفة رَسُولًا وقيل: في موضع الحال منه.
384
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه، ويوقفهم على حقائقه وأسراره.
«والظاهر» أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون- الرسول- صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن، وكونه بخصوصه كان مدعوا به غير بين ولا مبين.
وَالْحِكْمَةَ أي وضع الأشياء مواضعها، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا، أو الفقه في الدين، أو السنة المبينة- للكتاب- أو- الكتاب- نفسه، وكرر للتأكيد اعتناء بشأنه، وقد يقال: المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه، ويكون- تعليم الكتاب- عبارة عن تفهيم ألفاظه، وبيان كيفية أدائه، وتعليم الْحِكْمَةَ الإيقاف على ما أودع فيه، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام فتشمل الْحِكْمَةَ النظرية والعملية، قالوا:
وبينها وبين ما في الْكِتابَ عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس- علما وعملا- غير مذكور في الْكِتابَ وأنت تعلم أنت هذا القول بعد سماع قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الإنعام: ٣٨] وقوله تعالى سبحانه: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩] مما لا ينبغي الاقدام عليه، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في الْكِتابَ الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي. وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية- ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته- والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهارتهم أو يشهد لهم- بالتزكية والعدالة- بعيد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي الغالب المحكم لما يريد، فلك أن تخصص واحدا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص، وحمل الْعَزِيزُ هنا على من لا مثل له- كما قاله ابن عباس- أو المنتقم- كما قاله الكلبي- والْحَكِيمُ على العالم- كما قيل- لا يخلو عن بعد.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء- من يرغب عن ملته- وهي الحق الواضح غاية الوضوح، أي لا يرغب عن ذلك أحد إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي جعلها مهانة ذليلة. وأصل- السفه- الخفة، ومنه زمام سفيه- أي خفيف- وسفه- بالكسر- كما قال المبرد. وثعلب: متعد بنفسه، ونَفْسَهُ مفعول به، وأما سَفِهَ بالضم فلازم، ويشهد له ما جاء
في الحديث «الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس»
وقيل: إنه لازم أيضا، وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه، أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره، وهو قول الزجاج، أو أهلكها، وهو قول أبي عبيدة وقيل: إن النصب بنزع الخافض- أي في نفسه- فلا ينافي اللزوم- وهو قول لبعض البصريين- وقيل: على التمييز كما في قول النابغة الذبياني:
ونأخذ بعده بذناب عيش أجبّ الظهر ليس له سنام
وقيل: على التشبيه بالمفعول به، واعترض الجميع أبو حيان قائلا: إن التضمين والنصب بنزع الخافض لا ينقاسان. وإن التشبيه بالمفعول به مخصوص عند الجمهور بالصفة- كما قيل به في البيت- وإن البصريين منعوا مجيء التمييز معرفة، فالحق الذي لا ينبغي أن يتعدى القول بالتعدي. ومَنْ إما موصولة أو موصوفة في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في يَرْغَبُ لأنه استثناء من غير موجب، وسبب نزول الآية ما
روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر، فنزلت وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا
أي اخترناه بالرسالة بتلك الملة، واجتبيناه من بين سائر الخلق، وأصله اتخاذ
385
صفوة الشيء أي خالصه وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح، والجملة معطوفة على ما قبلها، وذلك من حيث المعنى دليل مبين لكون- الراغب عن ملة إبراهيم سفيها- إذ الاصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية- والصلاح- جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغير- السفيه- سوى خير الدارين، وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالا مقررة لجهة الإنكار- واللام لام الابتداء- أي أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب عكس ذلك، وهو الظاهر لفظا لعدم الاحتياج إلى تقدير القسم- وارتضاه الرضيّ- ويحتمل أن يكون عطفا على ما قبله، أو اعتراضا بين المعطوفين- واللام- جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن الأصل في الجمل الاستقلال ولإفادة زيادة التأكيد المطلوب في المقام والاشعار بأن المدعى لا يحتاج إلى البيان، والمقصود مدحه عليه السلام وإيراد الجملة الأولى ماضوية لمضيها من وقت الاخبار، والثانية اسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة، والتأكيد «بأن، واللام» لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها، وكلمة فِي متعلقة ب الصَّالِحِينَ على أن- أل- فيه للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم ب اصْطَفَيْناهُ وفي الآية تقديم وتأخير، أو بمحذوف حالا من المستكن في الوصف بعيد.
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ظرف- لاصطفيناه- والمتوسط المعطوف ليس بأجنبي لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل اعتراضا أو حالا مقدرة كما قيل به، أو تعليل له، أو منصوب ب «اذكر» كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والانقياد إلى ما أمر به وإخلاص سره حين دعاه ربه، وجوز جعله ظرفا ل قالَ وليس الأمر وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله الدلائل المؤيدة إلى المعرفة، واستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويرا لسرعة الانتقال بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى استدلاله عليه السلام بالكوكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه كلام الحسن وابن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، ومن ذهب إلى أنه بعد النبوة قال: المراد الأمر بالطاعة والإذعان لجزئيات الأحكام والاستقامة والثبات على التوحيد على حد فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: ١٩] ولا يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور الوحي والاستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل الإسلام على العمل بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة- كما قيل به- وفي الالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه السلام إظهار لمزيد اللطف به والاعتناء بتربيته، وإضافة الرب في الجواب إلى الْعالَمِينَ للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه فقط كما هو المأمور به ظاهرا.
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ مدح له عليه السلام بتكميله غيره إثر مدحه بكماله في نفسه، وفيه توكيد لوجود الرغبة في ملته، والتوصية التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة سواء كان حالة الاحتضار أو لا وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة الاحتضار وأصلها الوصل من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات، ويقال: وصاه إذا وصله، وفصاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الوصي، والضمير في بِها إما للملة أو لقوله أَسْلَمْتُ على تأويل الكلمة أو الجملة، ويرجح الأول كون المرجح مذكورا صريحا وكذا ترك المضمر إلى المظهر، وعطف يَعْقُوبُ عليه فإن ذلك يدل على أنه شروع في كلام آخر لبيان
386
تواصي الأنبياء باستمساك الدين الحق الجامع لجميع أحكام الأصول والفروع ليتوارثوا الملة القويمة والشرع المستقيم نسلا بعد نسل، وذكر يعقوب الدين في توصيته لبنيه- وهو والملة- أخوان ولو كان الضمير للثاني لكان الإسلام بدله، ويؤيد الثاني كون الموصى به مطابقا في اللفظ ل أَسْلَمْتُ وقرب المعطوف عليه لأنه حينئذ يكون معطوفا على قالَ أَسْلَمْتُ أي ما اكتفى بالامتثال بل ضم توصية بنيه بالإسلام بخلاف التقدير الأول فإنه معطوف على- من يرغب- لأنه كما أشرنا إليه في معنى النفي، وخص البنين لأنه عليهم أشفق وهم بقبول وصيته أجدر ولأن النفع بهم أكثر، وقرأ نافع وابن عامر- أوصى- ولا دلالة فيها على التكثير كالأولى الدالة عليه لصيغة التفعيل.
وَيَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، ورفعه على الابتداء وحذف الخبر أي- يعقوب- كذلك، والجملة معطوفة على الجملة الفعلية، وجعله فاعلا- لوصى- مضمرا بعيد، وقرىء بالنصب فيكون عطفا على بَنِيهِ والمراد بهم أبناء الصلب وهو عليه الصلاة والسلام كان نافلة، وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا- كانا توأمين- فتقدم عيص، وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه كذا روي عن ابن عباس ولا أظن صحته يا بَنِيَّ على إضمار القول عند البصريين، ويقدر بصيغة الإفراد على تقدير نصب يعقوب أي قال، أو قائلا وبصيغة التثنية على تقدير الرفع ووقوع الجملة بعد القول مشروط بأن يكون المقصود مجرد الحكاية، والكلام المحكي مشترك بين إبراهيم ويعقوب، وإن كان المخاطبون في الحالين متغايرين، وذهب الكوفيون إلى عدم الإضمار لأن التوصية لاشتمالها على معنى القول بل هي القول المخصوص كان حكمها حكمه فيجوز وقوع الجملة في حيز مفعولها، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن يا بني ولا حاجة حينئذ إلى تقدير القول عند البصريين بل لا يجوز ذلك عندهم على ما يشير إليه كلام بعض المحققين، وبنو إبراهيم على ما في الإتقان اثنا عشر، وهم إسماعيل وإسحاق ومدين وزمزان وسرح. ونقش. ونقشان.
وأميم. وكيسان. وسورج. ولوطان، نافس. وبنو يعقوب أيضا كذلك وهم. يوسف. وروبيل. وشمعون. ولاوي. ويهوذا.
وداني. ونفتالي. وكاد. واسبر. وإيساجر. ورايكون وبنيامين إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي جعل لكم الدين الذي هو صفوة الأديان بأن شرعه لكم ووفقكم للأخذ به، والمراد به دين الإسلام الذي به الإخلاص لله تعالى، والانقياد له، وليس المراد ما يتراءى من أن الله تعالى جعله صفوة الأديان لكم لأن هذا الدين صفوة في نفسه لا اختصاص له بأحد، وليس عند الله تعالى غيره، ومن هنا يعلم أن الإسلام يطلق على غير ديننا لكن العرف خصصه به، وزعم بعضهم عدم الإطلاق وألف في ذلك رسالة تكلف بها غاية التكلف.
فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت، والمفهوم من الآية ظاهرا النهي عن الموت على خلاف تلك الحال، وليس بمقصود لأنه غير مقدور وإنما المقدور قيده فيعود النهي إليه كما جمعت لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يستتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال فأما أن يقال استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني فيكون مجازا، أو يقال استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه فيكون كناية، وقال الفاضل اليمني: إن هذا كناية بنفي الذات عن نفي الحال على عكس ما قيل في قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة: ٢٨] من أنه كناية بنفي الحال عن نفي الذات، وفيه أن نفي الذات إنما يصير كناية عن نفي جميع الصفات لا عن صفة معينة فافهم، والمراد من الأمر الذي يشير إليه ذلك النهي الثبات على الإسلام لأنه اللازم له، والمقصود من التوصية، ولأن أصل الإسلام كان حاصلا لهم، وإنما أدخل حرف النفي على الفعل مع أنه ليس منهيا عنه للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية الحذر، وذكر بعضهم أن الإسلام المأمور به هنا ما يكون بالقلب دون العمل بالجوارح لأن ذلك مما لا يكاد يمكن عند الموت
387
ولهذا
ورد في الحديث «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان»
ولا يخفى ما فيه أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ الخطاب لجنس اليهود أو الموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم على ما يشير إليه سبب النزول
فقد ذكر الواحدي أن الآية نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودية؟
وأَمْ إما منقطعة بمعنى بل، وهمزة الإنكار، ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول وهو بيان التوصية إلى توبيخ اليهود على ادعائهم اليهودية على يعقوب وأبنائه، وفائدته الانتقال من جملة إلى أخرى أهم منها أي ما كنتم حاضرين حين احتضاره عليه الصلاة والسلام وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟ ولك أن تجعل الاستفهام للتقرير أي كانت أوائلكم حاضرين حين وصى بنيه عليه الصلاة والسلام بالإسلام والتوحيد وأنتم عالمون بذلك فما لكم تدعون عليه خلاف ما تعلمون؟! فيكون قد نزل عليهم بشهادة أوائلهم منزلة الشهادة فخوطبوا بما خوطبوا، وإما متصلة وفي الكلام حذف- والتقدير أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين- وليس الاستفهام على هذا على حقيقته للعلم بتحقق الأول وانتفاء الثاني بل هو للإلزام والتبكيت أي أي الأمرين كان فمدعاكم باطل، أما على الأول فلأنه رجم بالغيب، وأما على الثاني فلأنه خلاف المشهور، واعترض أبو حيان على هذا الوجه بأنا لا نعلم أحدا أجاز حذف الجملة المعطوف عليها في أَمْ المتصلة وإنما سمع حذف أَمْ مع المعطوف لأن الثواني تحتمل ما لا تحتمل الأوائل، وقيل: الخطاب للمؤمنين ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول والأخذ فيما هو الأهم وهو التحريض على اتباعه صلّى الله عليه وسلّم بإثبات بعض معجزاته وهو الإخبار عن أحوال الأنبياء السابقين من غير سماع من أحد ولا قراءة من كتاب كأنه تعالى بعد ذكر ما تقدم التفت إلى مؤمني الأمة أما شهدتم ما جرى وأ ما علمتم ذلك بالوحي وإخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعليكم باتباعه إلا أنه اكتفى بذكر مقاولة يعقوب وبنيه ليعلم عدم حضورهم حين توصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى، ولا يخفى أن هذا القائل لم يعتبر سبب النزول ولعله لما فيه من الضعف حتى قال الإمام السيوطي: لم أقف عليه، والشهداء- جمع شهيد أو شاهد بمعنى حاضر، وحضر من باب قعد، وقرىء حَضَرَ بالكسر ومضارعه أيضا- يحضر- بالضم وهي لغة شاذة، وقيل: إنها على التداخل إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إِذْ حَضَرَ بدل اشتمال وكلاهما مقصودان كما هو المقرر في إبدال الجمل إلا أن في البدل زيادة بيان ليست في المبدل منه ولو تعلقت إِذْ هنا ب قالُوا لم ينتظم الكلام.
ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ف ما في محل رفع والعائد محذوف، وكونه في محل نصب على المفعولية مفوت للتقوى المناسب للمقام ويسأل بها عن كل شيء فإذا عرف خص العقلاء ب مِنْ إذا سئل عن تعينه فيجاب بما يفيده، وإذا سأل عن وصفه قيل ما زيد أكاتب أم شاعر، وفي السؤال عن حالهم بعد موته دليل على أن الغرض حثهم على ما كانوا عليه حال حياته من التوحيد والإسلام، وأخذ الميثاق منهم عليه فليس الاستفهام حقيقيا وكان هذا بعد أن دخل عليه السلام مصر ورأى فيها من يعبد النار فخاف على ولده فحثهم على ما حثهم قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ عن حكاية السؤال وفي إضافة الإله إلى المتعدد إشارة إلى الاتفاق على وجوده وألوهيته وقدم إِسْماعِيلَ في الذكر على إِسْحاقَ لكونه أسنّ منه وعده من آباء يعقوب مع أنه عمه تغليبا للأكثر على الأقل أو لأنه شبه العم بالأب لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة فأطلق عليه لفظه، ويؤيده ما أخرجه الشيخان «عم الرجل صنو أبيه» وحينئذ يكون المراد- بآبائك- ما يطلق عليه اللفظ كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، والآية على حد ما
أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام «احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي»
وقرأ الحسن- أبيك- وهو إما مفرد
388
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف نسق عليه وإِبْراهِيمَ وحده عطف بيان، أو جمع وسقطت نونه للاضافة كما في قوله:
فلما «تبينّ» أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا
إِلهاً واحِداً بدل من إِلهَ آبائِكَ والنكرة تبدل من المعرفة بشرط أن توصف كما في قوله تعالى:
بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق: ١٦] والبصريون لا يشترطون فيها ذلك، وفائدة الإبدال دفع توهم التعدد الناشئ من ذكر الإله مرتين، أو نصب على المدح أو الحال الموطئة كما في البحر وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مذعنون مقرون بالعبودية، وقيل: خاضعون منقادون مستسلمون لنهيه وأمره قولا وعقدا، وقيل: داخلون في الإسلام ثابتون عليه، والجملة حال من الفاعل، أو المفعول، أو منهما لوجود ضميريهما، أو اعتراضية محققة لمضمون ما سبق في آخر الكلام- بلا كلام- وقال أبو حيان: الأبلغ أن تكون معطوفة على نَعْبُدُ فيكونوا قد أجابوا بشيئين وهو من باب الجواب المربي عن السؤال تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ الإشارة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأولاده والأمة- أتت بمعان، والمراد بها هنا الجماعة من أمّ بمعنى قصد، وسميت كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان بذلك لأنهم يؤم بعضهم بعضا ويقصده، والخلو- المضي وأصله الانفراد.
لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ استئناف، أو بدل من قوله تعالى: خَلَتْ لأنها بمعنى لا تشاركونهم وهي كغير الوافية وهذه وافية بتمام المراد، أو الأولى صفة أخرى- لأمة- أو حال من ضمير خَلَتْ والثانية جملة مبتدأة، إذ لا رابط فيها ولا مقارنة في الزمان، وفي الكلام مضاف محذوف بقرينة المقام، أي لكل أجر عمله، وتقديم المسند لقصر المسند إليه على المسند، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم، كما
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا معشر قريش، إن أولى الناس بالنبي المتقون، فكونوا بسبيل من ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا فأصد عنكم بوجهي»
ولك أن تحمل الجملة الأولى على معنى- لها ما كسبته- لا يتخطاها إلى غيرها، والثانية على معنى ولكم ما كسبتموه- لا ما كسبه غيرهم- فيختلف القصران لاقتضاء المقام ذلك.
وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ إن أجري- السؤال- على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها وإن أريد به مسببه- أعني الجزاء- فهو تذييل لتتميم ما قبله، والجملة مستأنفة أو معترضة، والمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم من الانتفاع بحسنات من مضى منهم، وإنما أطلق- العمل- لإثبات الحكم بالطريق البرهاني في ضمن قضية كلية، وحمل الزمخشري الآية على معنى- لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم- واعترض بأنه مما لا يليق بشأن التنزيل، كيف لا وهم منزهون عن كسب السيئات، فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفائه، وأنت تعلم أنه إذا كان المقصود سوق ذلك بطريق كلي برهاني لا يتوهم ما ذكر.
هذا ومن الغريب حمل الإشارة على كل من إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وأن المعنى كل واحد منهم أُمَّةٌ أي بمنزلتها في الشرف والبهاء قَدْ خَلَتْ أي مضت، ولستم مأمورين بمتابعتهم لَها ما كَسَبَتْ وهو ما أمرها الله تعالى به وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ مما يأمركم به سبحانه وتعالى، ولا ينفعكم مكتسبهم لأنه ليس مقبولا منكم لأنه ليس في حقكم، إنما ينفعكم ما يجب عليكم كسبه وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ هل عملتم به؟ وإنما تسألون
389
عما كان يعمل نبيكم الذي أمرتم بمتابعته، فإن أعماله ما هو كسبكم المسئول عنه، فدعوا (١) أن هذا ما أمر به إبراهيم أو غيره، وتمسكوا بما أمر به نبيكم، واعتبروا إضافة العمل إليه دونهم، ولا يخفى أنه لو كانت هذه الآيات كلام هذا المفسر لأمكن حملها على هذا التفسير الذي لا فرع ولا أصل له، لكنها كلام رب العالمين الذي يجل عن الحمل على مثل ذلك.
«ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات السابقة إلى هنا» وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي بمراتب الروحانيات كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات التي يعبر بها على تلك المراتب.
كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها فَأَتَمَّهُنَّ بالسلوك إلى الله تعالى وفي الله تعالى حتى الفناء فيه قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً بالبقاء بعد الفناء، والرجوع إلى الخلق من الحق، تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي، ويقتدون بك فيهتدون قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فلا يكونون خلفائي مع ظلمهم وظلمتهم برؤية الأغيار ومجاوزة الحدود وَإِذْ جَعَلْنَا بيت القلب مرجعا للناس، ومحل أمن وسلامة لهم إذا وصلوا إليه وسكنوا فيه من شر غوائل صفات النفس، وفتك قتال القوى الطبيعية وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم والخيال وإغوائهم. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ الذي هو مقام الروح والخلة موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والخلة الذوقية وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس، ونجاسات وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم، والواصلين إلى مقامه بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال، والخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات وكمال مرتبة الرضا، الغائبين في الوحدة، الفانين فيها وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا الصدر الذي هو حريم القلب بلدا آمِناً من استيلاء صفات النفس، واغتيال العدو اللعين، وتخطف جن القوى البدنية وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ثمرات معارف الروح من وحد الله تعالى منهم وعلم المعاد إليه، قال: ومن احتجب أيضا من الذين يسكنون الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام العين لاحتجابهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا من المعاني العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على حسب استعدادهم ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ نار الحرمان والحجاب وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم لتعذيبهم بنقصانهم وعدم تكميل نشأتهم وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ على الكيفية التي ذكرناها قبل وَإِسْماعِيلُ كذلك قائلين رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا مجاهداتنا ومساعينا في السلوك إليك بامداد التوفيق إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لهواجس خواطرنا فيك الْعَلِيمُ بنياتنا وأسرارنا رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ لا تكلنا إلى أنفسنا وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا المنتمين إلينا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا طرق الوصول إلى نفي ما سواك وَتُبْ عَلَيْنا لنفنى فيك عن أنفسنا وفنائنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الموفق للرجوع إليك الرَّحِيمُ بمن عول دون السوي عليك رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهو الحقيقة المحمدية يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ الدالة عليك وَيُعَلِّمُهُمُ كتاب العقل الجامع لصفاتك وَالْحِكْمَةَ الدالة على نفي غيرك وَيُزَكِّيهِمْ ويطهرهم عن دنس الشرك إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب، فأنى يظهر سواك المحكم لما ظهرت فيه فلا يرى إلا إياك وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ وهي التوحيد الصرف، إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية، وبقي في ظلمة نفسه وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فكان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية في عالم الملك، وأنه في عالم الملكوت من أهل الاستقامة، الصالح لتدبير النظام وتكميل النوع
(١) هكذا ولعل كلمة أن هذا زائدة: تنبيه
390
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي وحّد وأسلم لله تعالى ذاتك قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وفنيت فيه وَوَصَّى بكلمة التوحيد إِبْراهِيمُ بَنِيهِ السالكين على يده وكذلك يعقوب يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ دينه الذي لا دين غيره عنده فَلا تَمُوتُنَّ بالموت الطبيعي وموت الجهل، بل كونوا ميتين بأنفسكم، أحياء بالله أبدا، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة، فكونوا على بصيرة في أمركم، واطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ومن دق باب الكريم ولجّ ولج.
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا الضمير الغائب لأهل الكتاب، والجملة عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة، والمراد منها رد دعوتهم إلى دينهم الباطل إثر رد ادعائهم اليهودية على يعقوب عليه السلام، وأَوْ لتنويع المقال- لا للتخيير- بدليل أن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر، أي قال اليهود للمؤمنين كُونُوا هُوداً وقالت النصارى لهم كونوا نَصارى وتَهْتَدُوا جواب الأمر، أي إن كنتم كذلك تَهْتَدُوا. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رؤوس يهود المدينة، كعب بن الأشرف. ومالك بن الصيف. ووهب بن يهوذا. وأبي ياسر بن أخطب. وفي نصارى أهل نجران، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كُونُوا على ديننا، فلا دين إلا ذلك،
في رواية ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عنه أن عبد الله بن صوريا الأعور قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله تعالى فيهم الآية
قُلْ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي قل لأولئك القائلين على سبيل الرد عليهم، وتبيين ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي لا نكون كما تقولون، بل نكون مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي أهل- ملته- أو بل نتبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «والأول» يقتضيه رعاية جانب لفظ ما تقدم- وإن احتاج إلى حذف المضاف «والثاني» يقتضيه الميل إلى جانب المعنى إذ يؤول الأول إلى اتبعوا ملة اليهود أو النصارى مع عدم الاحتياج إلى التقدير، وجوّز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم ملته، أو كونوا أهل ملته، وقيل: الأظهر بل نؤتى ملة إبراهيم- ولم يظهر لي وجهه- وقرىء بَلْ مِلَّةَ بالرفع، أي بل ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن ملته أي أهلها، وقيل: بل الهداية أو تهدى ملة إبراهيم وهو كما ترى حَنِيفاً أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ويوصف به المتدين والدين، وهو حال إما من المضاف بتأويل الدين أو تشبيها له بفعيل بمعنى مفعول كما في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ٥٦] وهذا على قراءة النصب وتقدير «نتبع» ظاهر، وأما على تقدير تكون عليها فلأن ملة فاعل الفعل المستفاد من الإضافة أي تكون ملة ثبتت لإبراهيم، وعلى قراءة الرفع تكون الحال مؤكدة لوقوعها بعد جملة اسمية جزآها جامدان معرفتان مقررة لمضمونها لاشتهار ملته عليه الصلاة والسلام بذلك فالنظم على حد- أنا حاتم جوادا- أو من المضاف إليه بناء على ما ارتضوه من أنه يجوز مجيء الحال منه في ثلاث صور: إذا كان المضاف مشتقا عاملا، أو جزءا، أو بمنزلة الجزء في صحة حذفه كما هنا فإنه يصح- اتبعوا إبراهيم- بمعنى اتبعوا ملته، وقيل: إن الذي سوغ وقوع الحال من المضاف إليه كونه مفعولا لمعنى الفعل المستفاد من الإضافة أو اللام- وإليه يشير كلام أبي البقاء- ولعله أولى لاطراده في التقدير الأول، وقيل: هو منصوب بتقدير أعني وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف على حنيفا على طبق حُنَفاءَ
391
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ
[الحج: ٣١] فهو حال من المضاف إليه لا من المضاف إلا أن يقدر- وما كان دين المشركين- وهو تكلف، والمقصود التعريض بأهل الكتاب والعرب الذين يدعون اتباعه ويدينون بشرائع مخصوصة به من حج البيت والختان وغيرهما فإن في كل طائفة منهم شركاء فاليهود قالوا- عزير ابن الله- والنصارى- المسيح ابن الله- والعرب عبدوا الأصنام وقالوا الملائكة بنات الله قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ خطاب للمؤمنين لا للكافرين- كما قيل- لما فيه من الكلف والتكلف وبيان للاتباع المأمور به فهو بمنزلة بدل البعض من قوله سبحانه: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لأن الاتباع يشمل الاعتقاد والعمل وهذا بيان الاعتقاد أو بدل الاشتمال لما فيه من التفصيل الذي ليس في الأول، وقيل: استئناف كأنهم سألوا كيف الاتباع؟ فأجيبوا، بذلك وأمر أولا بصيغة الإفراد، وثانيا بصيغة الجمع إشارة إلى أنه يكفي في الجواب قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم من جانب كل المؤمنين بخلاف الاتباع فإنه لا بد فيه من قول كل واحد لأنه شرط الإيمان أو شطره قاله بعض المحققين، والقول بأنه بمنزلة البيان والتأكيد للقول الأول- ولذا ترك العطف- لا يخلو عن شيء وقدم الإيمان بالله سبحانه لأنه أول الواجبات ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرعيات.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي القرآن وهو وإن كان في الترتيب النزولي مؤخرا عن غيره لكنه في الترتيب الإيماني مقدم عليه لأنه سبب الإيمان بغيره لكونه مصدقا له ولذا قدمه.
وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ يعني الصحف وهي وإن نزلت على إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكن لما كان ما عطف عليه متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها صح نسبة نزولها إليهم أيضا كما صحح تعبدنا بتفاصيل القرآن ودخولنا تحت أحكامه نسبة نزوله إلينا، والْأَسْباطِ جمع سبط كأحمال وحمل وهم أولاد إسرائيل، وقيل: هم أولاد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل مأخوذ من السبط وهو شجرة كثيرة الأغصان فكأنهم سموا بذلك لكثرتهم، وقيل: من السبوطة وهي الاسترسال، وقيل: إنه مقلوب البسط، وقيل: للحسنين سبطا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لانتشار ذريتهم ثم قيل لكل ابن بنت: سبط، وكذا قيل له: حفيد أيضا، واختلف الناس في الأسباط أولاد يعقوب هل كانوا كلهم أنبياء أم لا؟ والذي صح عندي الثاني وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه- وإليه ذهب الإمام السيوطي- وألف فيه لأن ما وقع منهم مع يوسف عليه الصلاة والسلام ينافي النبوة قطعا وكونه قبل البلوغ غير مسلم لأن فيه أفعالا لا يقدر عليها إلا البالغون، وعلى تقدير التسليم لا يجدي نفعا على ما هو القول الصحيح في شأن الأنبياء وكم كبيرة تضمن ذلك الفعل وليس في القرآن ما يدل على نبوتهم، والآية قد علمت ما ذكرنا فيها فاحفظ ذلك هديت.
وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى أي التوراة والإنجيل، ولكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك، والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق، ولأن أمرهما أيضا بالنسبة إلى مُوسى وَعِيسى أنهما منزلان عليهما حقيقة، لا باعتبار التعبد فقط كما في المنزل على إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ولم يعد الموصول لذلك في عِيسى لعدم مخالفة شريعته لشريعة مُوسى إلا في النزر، ولذلك الاهتمام عبر- بالإيتاء- دون- الإنزال- لأنه أبلغ لكونه المقصود منه، ولما فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض، ولهذا يقال: أنزلت الدلو في البئر، ولا تقول: آتيتها إياها.
ولك أن تقول: المراد بالموصول هنا ما هو أعم من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيدي هذين النبيين الجليلين حسبما فصل في التنزيل الجليل، وإيثار- الإيتاء- لهذا التعميم، وتخصيص النبيين بالذكر لما أن الكلام مع- اليهود والنصارى..
392
وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ وهي الكتب التي خصت من خصته منهم، أو ما يشمل ذلك والمعجزات، وهو تعميم بعد التخصيص كيلا يخرج من الإيمان أحد من الأنبياء مِنْ رَبِّهِمْ متعلق ب أُوتِيَ قبله، والضمير- للنبيين- خاصة، وقيل: ل مُوسى وَعِيسى أيضا، ويكون ما أُوتِيَ تكريرا للأولى، والجار متعلقا بها، وهو- على التقديرين- ظرف لغو، وجوّز أن يكون في موضع الحال من العائد المحذوف، واحتمال أن يكون ما مبتدأ والجار خبره بعيد لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي كما فرق أهل الكتاب، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض- بل نؤمن بهم جميعا- وإنما اعتبر عدم التفريق بينهم، مع أن الكلام فيما أوتوه لاستلزام ذلك- عدم التفريق- فيه بين- ما أوتوه- وأَحَدٍ أصله- وحد- بمعنى- واحد- وحيث وقع في سياق النفي عم واستوى فيه- الواحد والكثير- وصح إرادة كل منهما- وقد أريد به هنا الجماعة- ولهذا ساغ أن يضاف إليه بَيْنَ ويفيد عموم الجماعات- كذا قاله بعض المحققين- وهو مخالف لما هو المشهور عند أرباب العربية من أن الموضوع في النفي العام أو المستعمل مع كل في الإثبات- همزته- أصلية بخلاف ما استعمل في الإثبات بدون كل فإن- همزته- منقلبة عن- واو- ومن هنا قال العلامة التفتازاني: إن أَحَدٍ في معنى الجماعة بحسب الوضع لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة- كل- أو مع النفي، نص على ذلك أبو عليّ وغيره من أئمة العربية، وهذا غير- الأحد- الذي هو أول العدد في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:
١] وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي- على ما سبق- إلى كثير من الأوهام، ألا ترى أنه لا يستقيم لا نُفَرِّقُ بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف أي رسول ورسول، ولَسْتُنَّ- كَأَحَدٍ- مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: ٣٢] ليس في معنى- كامرأة منهن- انتهى. وأنت- بعد التأمل- تعلم أن ما ذكره العلامة لا يرد على ذلك البعض، وإنما ترد عليه المخالفة في الأصالة وعدمها فقط- ولعل الأمر فيها سهل- على أن دعوى عدم تلك الاستقامة إلا بذلك التقدير غير مجمع عليه، فقد ذكر في الانتصاف أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا عموما شموليا حتى ينزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله- الآحاد- مطابقة، لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات، وجعل هذا التعدد والعموم وضعا هو المسوّغ لدخول بَيْنَ عليها هنا، ومن الناس من جوّز كون أَحَدٍ في الآية بمعنى واحد، وعمومه بدلي، وصحة دخول بَيْنَ عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وغيره، وفيه من الدلالة على تحقق التفريق بين كل فرد فرد منهم، وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال: لا نُفَرِّقُ بينهم- ولا يخفى ما فيه- والجملة حال من الضمير في آمَنَّا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي خاضعون لله تعالى بالطاعة، مذعنون بالعبودية، وقيل: منقادون لأمره ونهيه، ومن جعل الضمير المجرور لما تقدم ذكره من الأنبياء فقد أبعد، والجملة حال أخرى، أو عطف على آمَنَّا.
393
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا متعلق بقوله سبحانه: قُولُوا آمَنَّا إلخ، أو بقوله عز شأنه: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إلخ، وإن- لمجرد الفرض والكلام من باب الاستدراج، وإرخاء العنان مع الخصم حيث يراد تبكيته، وهو مما تتراكض فيه خيول المناظرين- فلا بأس بحمل كلام الله تعالى عليه- يعني نحن لا نقول: إننا على الحق وأنتم على الباطل، ولكن إن حصلتم شيئا مساويا لما نحن عليه مما يجب الإيمان أو التدين به فقد اهتديتم ومقصودنا هدايتكم كيفما كانت، والخصم إذا نظر بعين الإنصاف في هذا الكلام وتفكر فيه علم أن الحق ما عليه المسلمون لا غير، إذ لا مثل لما آمنوا به، وهو ذاته تعالى وكتبه المنزلة على أنبيائه- ولا دين كدينهم- ف آمَنُوا متعدية- بالباء- ومثل- على ظاهرها، وقيل: آمَنُوا جار مجرى اللازم- والباء- إما للاستعانة والآلة والمعنى إن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم قولا واعتقادا فَقَدِ اهْتَدَوْا أو فإن تحروا- الإيمان- بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق، كما قيل: الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، والمقام مقام تعيين الدين الحق لا مقام تعيين شخص الطريق الموصل إليه ليأتي هذا التوجيه، وإما زائدة للتأكيد وما مصدرية وضمير بِهِ لله، أو لقوله سبحانه: آمَنَّا بِاللَّهِ إلخ بتأويل المذكور، أو للقرآن، أو لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والمعنى فَإِنْ آمَنُوا بما ذكر مثل إيمانكم به، وإما للملابسة، أي فآمنوا متلبسين بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ متلبسين به، أو فإن آمنوا إيمانا متلبسا بمثل ما آمنتم إيمانا متلبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم السلام، وقيل: المثل مقحم كما في قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف: ١٠] أي عليه، ويشهد له قراءة أبي «بالذي آمنتم به» وقراءة ابن عباس «بما آمنتم به» وكان رضي الله تعالى عنه يقول: اقرؤوا ذلك فليس لله تعالى مثل، ولعل ذلك محمول على التفسير لا على أنه أنكر القراءة المتواترة- وخفي عليه معناها- ومن الناس من قال: يمكن الاستغناء عن جميع ذلك بأن يقال: فإن آمن اليهود بمثل ما آمنتم كمؤمنيهم قبل التحريف، فإنهم آمنوا بمثل ما آمن المؤمنون. فإن فيما أوتي به النبيون في زمن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما أنزل إليه- ولم يكن ذلك قبله- إلا أن هذا التوجيه يقتضي إبقاء صيغة الماضي على معناها كما في قولهم: إن أكرمتني فقد أكرمتك، فتأمل انتهى.
وأنت تعلم أن المؤمن به لا يتصور فيه التعدد وإبقاء الكلام على ظاهره، والاستغناء عن جميع ما ذكر يستدعي وجود ذلك التعدد المحال، فماذا عسى ينفع هذا سوى تكثير القيل والقال، وتوسيع دائرة النزاع والجدال، فتدبر.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان المأمور به، أو عن قولكم في جواب قولهم.
فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي مخالفة لله تعالى- قاله ابن عباس- أو منازعة ومحاربة- قاله ابن زيد- أو عداوة- قاله الحسن- واختلف في اشتقاق- الشقاق- فقيل: من الشق أي الجانب، وقيل: من المشقة، وقيل: مأخوذ من قولهم: شق العصا إذا أظهر العداوة- والتنوين للتفخيم- والجملة جواب الشرط إما على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليهم عن الإيمان، وأوثرت الاسمية للدلالة على ثباتهم واستقرارهم على ذلك، وإما بتأويل فاعلموا.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وتفريح للمؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز على أبلغ وجه للسين الدالة على تحقق الوقوع البتة، أو للتذييل الآتي حيث إن السين في المشهور لا تدل على أكثر من التنفيس عقب ذكر ما يؤدي إلى الجدال والقتال، والمراد سيكفيك كيدهم وشقاقهم لأن الكفاية لا تتعلق
394
بالأعيان بل بالأفعال، وتلوين الخطاب بتجريده للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه سبحانه أنجز وعده الكريم بما هو كفاية للكل من قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير لما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الأصل والعمدة في ذلك وهو سلك حبات أفئدة المؤمنين ومطمح نظر كيد الكافرين، وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المشاق ومقاساة الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصرة في حقه أتم وأكمل وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له أي هُوَ السَّمِيعُ لما تدعو به الْعَلِيمُ بما في نيتك من إظهار دينه فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة بمعنى- يسمع- ما يبدون- ويعلم- ما يخفون مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه، وفيه أيضا تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة بالكسر فعلة من- صبغ- كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها- الصبغ- عبر بها عن التطهير بالإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لأنه ظهر أثره عليهم ظهور- الصبغ- على- المصبوغ- وتداخل في قلوبهم تداخله فيه وصار حلية لهم فهناك استعارة تحقيقية تصريحية والقرينة الإضافة والجامع ما ذكر، وقيل: للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا- يصبغون- أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية يزعمون أنه الماء الذي ولد فيه عيسى عليه الصلاة والسلام ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالختان لغيرهم، وقيل: هو ماء يقدس بما يتلى من الإنجيل ثم تغسل به الحاملات، ويرد على هذا الوجه أن الكلام عام لليهود غير مختص بالنصارى اللهم إلا أن يعتبر أن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة ونصبها على أنها مصدر مؤكد لقوله تعالى: آمَنَّا وهي من المصادر المؤكدة لأنفسها فلا ينافي كونها للنوع والعامل فيها- صبغنا- كأنه قيل- صبغنا الله صبغته- وقدر المصدر مضافا إلى الفاعل لتحقق شرط وجوب حذف عامله من كونه مؤكدا لمضمون الجملة إذ لو قدر منكرا لكان مؤكدا لمضمون أحد جزئيه أعني الفعل فقط نحو ضربت ضربا، وقيل: إنها منصوبة بفعل الإغراء أي الزموا- صبغة الله- لا عليكم وإلا لوجب ذكره- كما قيل- وإليه ذهب الواحدي، ولا يجب حينئذ إضمار العامل لأنه مختص في الإغراء بصورتي التكرار أو العطف كالعهد العهد وكالأهل والولد وذهب الأخفش والزجاج والكسائي. وغيرهم إلى أنها بدل من ملة إبراهيم وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار، وقوله تعالى: صِبْغَةَ تمييز منقول من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجها- والتقدير- ومن صبغته أحسن من صبغة الله تعالى- كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو، والتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغة أَحْسَنُ من صبغته تعالى على معنى أنه أَحْسَنُ مِنَ كل صِبْغَةَ وحيث كان مدار التفضيل على تعميم- الحسن- للحقيقي والفرضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم أن يكون في صِبْغَةَ غيره تعالى حسن في الجملة، والجملة معترضة مقررة لما في صبغة الله تعالى من التبجح والابتهاج أو جارية مجرى التعليل للإغراء وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ أي موحدون أو مطيعون متبعون ملة إبراهيم أو خاضعون مستكنون في اتباع تلك الملة، وتقديم الجار لإفادة اختصاص العبادة له تعالى، وتقديم المسند إليه لإفادة قصر ذلك الاختصاص عليهم، وعدم تجاوزه إلى أهل الكتاب فيكون تعريضا لهم بالشرك أو عدم الانقياد له تعالى باتباع ملة إبراهيم، والجملة عطف على آمَنَّا وذلك يقتضي دخول صبغة الله في مفعول قُولُوا لئلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي، وإيثار الجملة الاسمية للإشعار بالدوام، ولمن نصب صِبْغَةَ على الإغراء أو البدل أن يضمر قُولُوا قبل هذه الجملة معطوفا على الزموا على تقدير الإغراء، وإضمار القول سائغ شائع، والقرينة- السياق- لأن ما قبله مقول المؤمنين وأن يضمر اتبعوا في بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لا نتبع ويكون قُولُوا آمَنَّا بدلا من اتبعوا بدل البعض لأن الإيمان داخل
في اتباع ملة إبراهيم فلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا بين البدل والمبدل منه بالأجنبي وما قيل: إنه يلزم الفصل ببدل الفعل بين المفعول، والمبدل منه ففيه أن قُولُوا ليس بدلا من الفعل
395
فقط بل الجملة بدل من الجملة فلا محذور، وأما القول- بأنه يمكن أن تجعل هذه الجملة حالا من لفظة الله في قوله سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي صبغته بتطهير القلب أو الإرشاد أو حفظ الفطرة أحسن الإصباغ حال إخلاص العبادة له- فليس بشيء كما لا يخفى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا تجريد الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أن المأمور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام، والهمزة للإنكار، وقرأ زيد، الحسن، وغيرهما بإدغام النون أي تجادلونا.
فِي اللَّهِ أي في دينه وتدعون أن دينه الحق اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما، وقيل: المراد في شأن الله تعالى واصطفائه نبيا من العرب دونكم بناء على أن الخطاب لأهل الكتاب وسوق النظم يقتضي أن تفسر المحاجة بما يختص بهم، والمحاجة في الدين ليست كذلك والقرينة على التقييد قوله سبحانه قيل:
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وبعد وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً حيث إنه تعريض بكتمان أهل الكتاب شهادة الله سبحانه بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وما روي في سبب النزول أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت، ولا يخفى عليك أن المحاجة في الدين على ما ذكرنا مختصة بهم على أن ظاهر السوق يقتضي ذمهم بما صار ديدنا لهم وشنشنة فيهم حتى عرفوا فيه، ومشركو العرب وإن حاجوا في الدين أيضا لكنهم لم يصلوا فيه إلى رتبة أهل الكتاب لما أنهم أميون عارون عن سائر العلوم جاهلون بوظائف البحث بالكلية نظرا إلى أولئك القائمين على ساق الجدال وإن القرينتين السابقة واللاحقة على التقييد في غاية الخفاء وأن ما روي في سبب النزول ليس مذكورا في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المعتبرة كما نص على ذلك الإمام السيوطي وكفى به حجة في هذا الشأن.
وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ جملة حالية أي أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى مالك أمرنا وأمركم وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ عطف على ما قبله أي لنا جزاء أعمالنا الحسنة الموافقة لأمره ولكم جزاء أعمالكم السيئة المخالفة لحكمه وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهه فأنى لكم المحاجة ودعوى حقية ما أنتم عليه والقطع بدخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه. والجملة حالية كالتي قبلها، وذهب بعض المحققين أن هذه الجملة كجملتي وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به مقول على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى لا عطف، وتحريره أن وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مناسب- لآمنا- أي نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه وقوله تعالى:
وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ ملائم لقوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ لأنها بمعنى دين الله فالمصدر كالفذلكة لما سبق، وهذه الآية موافقة لما قبلها، ولعل الذوق السليم لا يأباه، وأما القول بأن معنى وَهُوَ رَبُّنا إلخ أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم فيصيب برحمته من يشاء فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب يفتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله تعالى فالكل فيه سواء، وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون بها لا أنتم، فمع بنائه على ما علمت ركاكته غير ملائم لسباق النظم الكريم وسياقه بل غير صحيح في نفسه كما أفتى به مولانا مفتي الديار الرومية لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبني على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب هذا؟! وقد اختلف الناس في الإخلاص،
فروي عن النبي صلى
396
الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت رب العزة عنه فقال: سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي»
وقال سعيد بن جبير: الإخلاص أن لا تشرك في دينه ولا تراء أحدا في عمله، وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله تعالى منهما، وقال حذيفة المرعشي: أن تستوي أفعال العبد في الباطن والظاهر، وقال أبو يعقوب: المكفوف أن يكتم العبد حسناته كما يكتم سيئاته، وقال سهل: هو الإفلاس، ومعناه احتقار العمل وهو معنى قول رويم- ارتفاع عملك عن الرؤية- قيل:
ومقابل الإخلاص الرياء، وذكر سليمان الداراني ثلاث علامات له. الكسل عند العبادة في الوحدة، والنشاط في الكثرة، وحب الثناء على العمل.
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أَمْ إما متصلة معادلة للهمزة في أَتُحَاجُّونَنا داخلة في حيز الأمر والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى كل من الأمرين منكر ينبغي أن لا يكون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه، والحال ما ذكر والتشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء عليهم السلام، وفائدة هذا الأسلوب مع أن العلم حاصل بثبوت الأمرين الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم فكيف إذا اجتمعا كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا: أتدبيرك أم تقريرك، وبهذا يندفع ما قاله أبو حيان من أن الاتصال يستدعي وقوع إحدى الجملتين والسؤال عن تعيين إحداهما وليس الأمر كذلك إذ وقعتا معا، وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقرأ غير ابن عامر، وحمزة والكسائي وحفص «أم يقولون» - بالياء- ويتعين كون أَمْ حينئذ منقطعة لما فيها من الإضراب من الخطاب إلى الغيبة ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة ويكون الكلام استئنافا غير داخل تحت الأمر بل وارد منه تعالى توبيخا لهم. وإنكارا عليهم، وحكى أبو جعفر الطبري عن بعض النحاة جواز الاتصال لأنك إذا قلت- أتقوم يا زيد أم يقوم عمرو- صح الاتصال، واعترض عليه ابن عطية بأن المثال غير جيد لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غير أن يتجه معادلة أَمْ للهمزة على الحكم المعنوي كان معنى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا أي يحاجون يا محمد أم يقولون، ولا يخفى أن القول بالانقطاع إن لم يكن متعينا فلا أقل من أنه أولى.
قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه السلام في باب الدين بل الله تعالى أعلم بذلك وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه، واحتج على انتفائهما عنه بقوله: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران: ٦٥] وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض وَمَنْ أَظْلَمُ إنكار لأن يكون أحد أظلم مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة.
عِنْدَهُ واصلة مِنَ اللَّهِ إليه وهي شهادته تعالى لإبراهيم عليه السلام بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية حسبما تلي آنفا، وجيء بالوصفين لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت- الشهادة عنده- وكونها من جانب جناب العلي الأعلى عز شأنه من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها، وتقديم الأول مع أنه متأخر في الوجود لمراعاة طريق الترقي والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب- حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء- والجملة تذييل يقرر ما أنكر عليهم من ادعاء اليهودية والنصرانية وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة عن دائرة البيان، أو لا أحد- أظلم منا لو كتمنا هذه- الشهادة- ولم نقمها في مقام المحاجة، والجملة حينئذ تذييل مقرر ما أوقع في قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ من أنهم
397
شاهدون بما شهد الله تعالى به مصدقونه بما أعلمهم، وجعلها على هذا من تتمة قُولُوا آمَنَّا لأنه في معنى إظهار الشهادة. وعلى الأول من تتمة قُلْ أَتُحَاجُّونَنا لأنه في معنى كتمانها ظاهر التعسف، ولا يخفى أن في الآية تعريضا بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه، وفي إطلاق الشهادة- مع أن المراد بها ما تقدم من الشهادة المعينة- تعريض بكتمانهم شهادة الله تعالى لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل، وفي ري الظمآن أن- من- صلة أَظْلَمُ والكلام على التقديم والتأخير كأنه قيل: ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة، والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى ثم إن الله تعالى كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عما لا يليق علمنا أن الأمر ليس كذلك، وقيل: إن مِمَّنْ صلة كَتَمَ والكلام على حذف مضاف- أي كتم من عباد الله شهادة عنده- ومعناه أنه تعالى ذمهم على منع أن يوصلوا إلى عباد الله تعالى، ويؤدوا إليهم شهادة الحق، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من التكلف والتعسف وانحطاط المعنى فلينزه كتاب الله تعالى العظيم عنه، على أنك لو نظرت بعين الإنصاف رأيت الوجه الثاني من الأولين لا يخلو عن بعد لأن الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسب إلى إبراهيم عليه السلام، ومن ذكر معه فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب لا مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه لأنهم مقرون بما أخبر الله تعالى به وعالمون بذلك فلا يفرض في حقهم كتمانه والتذييل الذي ادعي فيه خلاف الظاهر أيضا.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد وتهديد لأهل الكتاب أي إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى بل هو محصل لأعمالكم محيط بجميع ما تأتون وتذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب، ويدخل في ذلك كتمانهم لشهادته تعالى وافتراؤهم على أنبيائه عليهم السلام، وقرىء- عما يعملون- بصيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم باعتبار المعنى أو لأهل الكتاب.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ تكرير لما تقدم للمبالغة في التحذير عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم كما يقال: اتق الله اتق الله، أو تأكيد وتقرير للوعيد يعني أن الله تعالى يجازيكم على أعمالكم ولا تنفعكم آباؤكم ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم بل عن أعمال أنفسكم، وقيل: الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب، وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم، وقيل: المراد بالأمة في الأول الأنبياء وفي الثاني أسلاف اليهود لأن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه: إنهم كانوا ما كانوا- فكأنهم قالوا- إنهم على مثل طريقة أسلافنا فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يعنوا بالآية، ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الظاهر.
تم طبع الجزء الأول، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني وأوله
398
الجزء الثاني
399

بسم الله الرحمن الرحيم

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ أي الخفاف الأحلام أو المستمهنوها بالتقليد المحض، والاعراض عن التدبر، والمتبادر منهم ما يشمل سائر المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين، واليهود، والمشركين، وروي عن السدي الاقتصار على الأول، وعن ابن عباس الاقتصار على الثاني، وعن الحسن الاقتصار على الثالث، ولعل المراد بيان طائفة نزلت هذه
401
الآية في حقهم لا حمل الآية عليها لأن الجمع فيها محلى باللام، وهو يفيد العموم فيدخل فيه الكل، والتخصيص بالبعض لا يدعو إليه داع، وتقديم الأخبار بالقول على الوقوع لتوطين النفس به فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما، والعلم به قبل الوقوع أبعد من الاضطراب، ولما أن فيها إعداد الجواب والجواب المعد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وفي المثل- قبل الرمي يراش السهم- وليكون الوقوع بعد الأخبار معجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: إن الوجه في التقديم هو التعليم والتنبيه على أن هذا القول أثر السفاهة فلا يبالي به ولا يتألم منه ويرد عليه- أن التعليم- والتنبيه المذكورين يحصلان بمجرد ذكر هذا السؤال، والجواب ولو بعد الوقوع، وقال القفال: إن الآية نزلت بعد تحويل القبلة، وإن لفظ سَيَقُولُ مراد منه الماضي، وهذا كما يقول الرجل إذا عمل عملا فطعن فيه بعض أعدائه: أنا أعلم أنهم سيطعنون في- كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فيذكرونه مرات أخرى- ويؤيد ذلك ما
رواه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: لما قدم رسول صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ إلى آخر الآية فقال: السُّفَهاءُ وهم اليهود ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ إلى آخر الآية وفي رواية أبي إسحاق وعبيد بن حميد، وأبي حاتم عنه زيادة فأنزل الله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ إلخ،
ومناسبة الآية لما قبلها أن الأولى قدح في الأصول، وهذا في أمر متعلق بالفروع، وإنما لم يعطف تنبيها على استقلال كل منهما في الشناعة.
مِنَ النَّاسِ في موضع نصب على الحال، والمراد منهم الجنس، وفائدة ذكره التنبيه على كمال سفاهتهم بالقياس إلى الجنس، وقيل: الكفرة، وفائدته بيان أن ذلك القول المحكي لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في آسن الفساد، والأول أولى كما لا يخفى ما وَلَّاهُمْ أي أي شيء صرفهم، وأصله من الولي، وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل والاستفهام للإنكار عَنْ قِبْلَتِهِمُ يعني بيت المقدس وهي فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة، وأصلها الحالة التي كان عليها المقابل إلا أنها في العرف العام اسم للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة الَّتِي كانُوا عَلَيْها أي على استقبالها، والموصول صفة القبلة، وفي وصفها بذلك بعد إضافتها إلى ضمير المسلمين تأكيد للإنكار ومدار هذا الإنكار بالنسبة إلى اليهود زعمهم استحالة النسخ وكراهتهم مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم في القبلة حتى أنهم قالوا له: ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك، ولعلهم ما أرادوا بذلك إلا فتنته عليه الصلاة والسلام، وبالنسبة إلى مشركي العرب القصد إلى الطعن في الدين وإظهار أن كلا التوجه إليها، والانصراف عنها بغير داع إليه حتى أنهم كانوا يقولون: إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وبالنسبة إلى المنافقين مختلف باختلاف أصولهم فإن فيهم اليهود وغيرهم، واختلف الناس في مدة بقائه صلّى الله عليه وسلّم مستقبلا بيت المقدس، ففي رواية البخاري ما علمت، وفي رواية مالك بن أنس تسعة أشهر أو عشرة أشهر، وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا،
وعن الصادق سبعة أشهر،
وهل استقبل غيره قبل بمكة أم لا؟
قولان أشهرهما الثاني وهو المروي أيضا عن الصادق رضي الله تعالى عنه.
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي جميع الأمكنة والجهات مملوكة له تعالى مستوية بالنسبة إليه عز شأنه لا اختصاص لشيء منها به جل وعلا إنما العبرة لامتثال أمره فله أن يكلف عباده باستقبال أي مكان وأي جهة شاء يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريق مستو وهو ما تقتضيه الحكمة من التوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى، والجملة بدل اشتمال مما تقدم وهو إشارة إلى مصحح التولية وهذا إلى مرجحها كأنه قيل: إن التولية المذكورة هداية يخص الله تعالى بها من يشاء ويختار من عباده وقد خصنا بها فله الحمد.
402
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً اعتراض بين كلامين متصلين وقعا خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم استطرادا لمدح المؤمنين بوجه آخر أو تأكيدا لرد الإنكار بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء عليكم يوم الجزاء وشهاداتهم مقبولة عندكم فأنتم إذا أحق باتباعهم والاقتداء بهم فلا وجه لإنكاركم عليهم، وذلك إشارة إلى الجعل المدلول عليه- بجعلناكم- وجيء بما يدل على البعد تفخيما. والكاف مقحم للمبالغة وهو إقحام مطرد ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف، وأصل التقدير- جعلناكم أمة وسطا- جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر، وأقحمت الكاف فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم لا جعلا آخر أدنى منه كذا قالوا، وقد ذكرنا قبل أن كَذلِكَ كثيرا ما يقصد بها تثبيت ما بعدها وذلك لأن وجه الشبه يكون كثيرا في النوعية والجنسية كقولك- هذا الثوب كهذا الثوب- في كونه خزا أو بزا، وهذا التشبيه يستلزم وجود مثله وثبوته في ضمن النوع فأريد به على طريق الكناية مجرد الثبوت لما بعده، ولما كانت الجملة تدل على الثبوت كان معناها موجودا بدونها وهي مؤكدة له فكانت كالكلمة الزائدة، وهذا معنى قولهم: إن الكاف مقحمة لا أنها زائدة كما يوهمه كلامهم، وأما استفادة كون ما بعدها عجيبا فليس إلا لأن ما ليس كذلك لا يحتاج لبيان فلما اهتم بإثباته في الكلام البليغ علم أنه أمر غريب، أو لحمل البعد المفهوم من ذلك على البعد الرتبي، ومن الناس من جعل كَذلِكَ للتشبيه- بجعل- مفهوم من الكلام السابق أي مثل ما جعلناكم مهديين، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل- جعلناكم أمة وسطا- ويرد على ذلك أن المحل المشبه به غير مختص بهذه الأمة لأن مؤمني الأمم السابقة كانوا أيضا مهتدين إلى صراط مستقيم، وكانت قبلة بعضهم أفضل القبل أيضا، والجعل المشبه مختص بهم فلا يحسن التشبيه على أنه لا يفهم من السابق سوى أن التوجه إلى كل واحد القبلتين في وقته- صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن قبلتهم أفضل القبل، والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ اللهم إلا أن يكون مراد القائل- كما جعلنا قبلتكم الكعبة التي هي أفضل القبل في الواقع جعلنا- إلا أنه على ما فيه لا يحسم الإيراد كما لا يخفى. ومعنى وَسَطاً خيارا أو عدولا وهو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه- كالمركز- ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط كالجود بين الإسراف، والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور، والحكمة بين الجربزة والبلادة، ثم أطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل واستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته، وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من قولهم: خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهم- على الذم أثقل من مغن وسط- لأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس وليس بجيد فيطرب ولا برديء فيضحك، وقولهم: أخو الدون الوسط بل هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها وصميمها، وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية أعني استعمالها فيما ينبغي على ما ينبغي، ولما كان علم العباد لم يحط إلا بالظاهر أقام الفقهاء الاجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلك- وسموه عدالة- في إحياء الحقوق فليحفظ، وشاع عن أبي منصور الاستدلال بالآية- على أن الإجماع حجة إذ لو كان ما اتفقت عليه الأمة باطلا لا نثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار
فلا يتم إذ كونهم خيارا لا يقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلا ينافي اتفاقهم على الخطأ- لا يخلو عن شيء، أما أولا فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه كيف والمجتهد المخطئ مأجور، وأما ثانيا فلأن المراد كونهم وَسَطاً بالنسبة إلى سائر الأمم، وأما ثالثا فلأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد، وأما رابعا فلأنه لا يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة، وأما خامسا فلأن قصارى ما تدل عليه بعد
403
اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر، ولا تدل على حجية إجماع مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك، وأجيب عن الأول، والثاني بأن العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الاعتقاد والقول والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة عن حالة متشابهة حاصلة عن امتزاج الأوساط من القوى التي ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا، وعن الثالث بأن المراد أن فيهم من يوجد على هذه الصفة، فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفة- لكن يدخل المعتبرون في اجتماعهم- ومتى دخلوا وحصل الخطأ انثلمت عدالة المجموع.
وعن الرابع بأن جَعَلْناكُمْ يقتضي تحقق العدالة بالفعل، واستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر.
وعن الخامس بأن الخطاب للحاضرين- أعني الصحابة كما هو أصله- فيدل على حجية الإجماع في الجملة، وأنت تعلم أن هذا الجواب الأخير لا يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، لأنه بعيد بمراحل عن مقصود المستدل، على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم، وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها، نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن الآية خاصة بالأئمة الاثني عشر،
ورووا عن الباقر أنه قال: نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه: نحن الذين قال الله تعالى فيهم: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
وقالوا: قول كل واحد من أولئك حجة فضلا عن إجماعهم، وأن الأرض لا تخلو عن واحد منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ولا يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وهو غاية- للجعل- المذكور مترتبة عليه.
أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وفي رواية «فيؤتى بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم»
وذلك قوله عز وجل: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وكلمة الاستعلاء لما في- الشهيد- من معنى الرقيب، أو لمشاكلة ما قبله، وأخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الثاني اختصاصهم- بكون الرسول شهيدا عليهم- وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ويزكيكم ويعلم بعدالتكم، والآثار لا تساعد ذلك على ما فيه وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها وهي صخرة بيت المقدس، بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قبلته صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة كانت بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة- بل يجعلها بينه وبينه- والَّتِي مفعول ثان- لجعل- لا صفة الْقِبْلَةَ والمفعول الثاني محذوف أي الْقِبْلَةَ كما قيل. وقال أبو حيان: إن- الجعل- تحويل الشيء من حالة إلى أخرى، فالمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، كما في- جعلت الطين خزفا- فينبغي أن يكون المفعول الأول هو الموصول، والثاني هو الْقِبْلَةَ وهو المنساق إلى الذهن بالنظر الجليل، ولكن التأمل الدقيق يهدي إلى ما ذكرنا لأن الْقِبْلَةَ عبارة عن الجهة التي تستقبل للصلاة- وهو كلي- والجهة التي كنت عليها جزئي من جزئياتها،- فالجعل- المذكور من باب تصيير الكلي جزئيا، ولا شك أن الكلي يصير جزئيا- كالحيوان يصير إنسانا- دون العكس،
404
والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة- كما هو الآن- وَما جَعَلْنَا قبلتك بيت المقدس لشيء من الأشياء إِلَّا لِنَعْلَمَ أي في ذلك الزمان مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ أي يتبعك في الصلاة إليها، والالتفات إلى الغيبة مع إيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة للإشارة إلى علة الاتباع.
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرتد عن دين الإسلام فلا يتبعك فيها ألفا لقبلة آبائه، ومَنْ هذه للفصل كالتي في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: ٢٢٠] والكلام من باب الاستعارة التمثيلية بجامع أن المنقلب يترك ما في يديه ويدبر عنه على أسوأ أحوال الرجوع، وكذلك المرتد يرجع عن الإسلام ويترك ما في يديه من الدلائل على أسوأ حال. و «نعلم» حكاية حال ماضية، ويَتَّبِعُ ويَنْقَلِبُ بمعنى الحدوث- والجعل- مجاز باعتبار أنه كان الأصل استقبال الكعبة أو المعنى (ما جعلنا) قبلتك بيت المقدس إِلَّا لِنَعْلَمَ الآن بعد التحويل إلى الكعبة من يتبعك حينئذ مِمَّنْ لا يتبعك كبعض أهل الكتاب ارتدوا لما تحولت الْقِبْلَةَ فنعلم على حقيقة الحال. والحاصل أن ما فعلناه كان لأمر عارض- وهو امتحان الناس- إما في وقت- الجعل- أو في وقت التحويل، وما كان لعارض يزول بزواله، وقيل: المراد ب الْقِبْلَةَ الكعبة بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إليها بمكة، والمعنى ما رددناك إِلَّا لِنَعْلَمَ الثابت الذي لا يزيغه شبهة ولا يعتريه اضطراب ممن يرتد بقلقلة واضطراب بسبب التحويل بأنه إن كان الأول حقا فلا وجه للتحويل عنه، وإن كان الثاني فلا معنى للأمر بالأول- والجعل- على هذا حقيقة، ويَتَّبِعُ للاستمرار بقرينة مقابله، ويضعف هذا القول أنه يستلزم دعوى نسخ الْقِبْلَةَ مرتين، واستشكلت الآية بأنها تشعر بحدوث- العلم- في المستقبل- وهو تعالى لم يزل عالما- وأجيب بوجوه «الأول» أن ذلك على سبيل التمثيل، أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم «الثاني» أن المراد- العلم- الحالي الذي يدور عليه- فلك الجزاء- أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل، فالعلم مقيد بالحادث، والحدوث راجع إلى القيد «الثالث» أن المراد ليعلم الرسول والمؤمنون، وتجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص فهو كقول الملك: فتحنا البلد، وإنما فتحها جنده «الرابع» أنه ضمن العلم معنى التمييز أو أريد به التمييز في الخارج، وتجوز بإطلاق اسم السبب على المسبب، ويؤيده تعديه ب مَنْ كالتمييز- وبه فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ويشهد له قراءة «ليعلم» على البناء للمفعول حيث إن المراد ليعلم كل من يأتي منه- العلم- وظاهر أنه فرع تمييز الله وتفريقه بينهما في الخارج بحيث لا يخفى على أحد «الخامس» أن المراد به الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن بالعلم «السادس» أن «نعلم» للمتكلم مع الغير، فالمراد ليشترك- العلم- بيني وبين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، ويرد على هذا أن مخالفته مع جعلنا آب عنه، مع أن تشريك الله تعالى مع غيره في ضمير واحد غير مناسب، ثم العلم إن كان مجازا عن التمييز- فمن، وممن- مفعولاه بواسطة وبلا واسطة، وإن كان حقيقة فإمّا أن يكون من الإدراك المعدى إلى مفعول واحد- فمن- موصولة في موضع نصب به، ومِمَّنْ حال أي متميزا مِمَّنْ أو من- العلم- المعدى إلى مفعولين ف مَنْ استفهامية في موضع المبتدأ، ويَتَّبِعُ في موضع الخبر، والجملة في موضع المفعولين مِمَّنْ يَنْقَلِبُ حال من فاعل يَتَّبِعُ وبهذا يندفع قول أبي البقاء: إنه لا يجوز أن تكون مَنْ استفهامية لأنه لا يبقى لقوله تعالى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ متعلق لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، ولا معنى لتعلقه ب يَتَّبِعُ والكلام دال على هذا التقدير- فلا يرد أنه لا قرينة عليه- ثم إن جملة وَما جَعَلْنَا إلخ، معطوفة كالجملتين التاليتين لها على مجموع السؤال والجواب بيان لحكمة التحويل، وقيل: معطوفة على لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ويحتاج إلى أن يقال حينئذ: إنه صلّى الله عليه وسلّم مأمور بأداء مضمون
405
هذا الكلام بألفاظه إذ لا يصح ضمير المتكلم في كلامه عليه الصلاة والسلام، وفيه بعد ما كما لا يخفى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي شاقة ثقيلة، والضمير لما دل عليه قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا إلخ من الجعلة، أو التولية، أو الردة، أو التحويلة، أو الصيرورة، أو المتابعة، أو القبلة، وفائدة اعتبار التأنيث- على بعض الوجوه- الدلالة على أن هذا الرد والتحويل بوقوعه مرة واحدة، واختصاصه بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت ثقيلة عليهم حيث لم يعهدوه سابقا، والقول بأن تأنيث «كبيرة» يجعله صفة حادثة، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر فيرجع إلى- الجعل- أو الرد أو التحويل بدون
تكلف تكلف عريّ عن الفائدة وَإِنْ هي المخففة من الثقيلة المفيدة لتأكيد الحكم ألغيت عن العمل فيما بعدها بتوسط «كان» - واللام- هي الفاصلة بين المخففة والنافية وزعم الكوفيون أن إِنْ هي النافية- واللام- بمعنى إلا، وقال البصريون: لو كان كذلك لجاز أن يقال: جاء القوم لزيدا على معنى إلا زيدا- وليس فليس- وقرىء لَكَبِيرَةً بالرفع ففي «كان» ضمير القصة، و «كبيرة» خبر مبتدأ محذوف، أي لهي «كبيرة» والجملة خبر «كان» وقيل: إن كانت زائدة كما في قوله: وإخوان لنا كانوا كرام واعترض بأنه إن أريد أن «كان» مع اسمها زائدة كانت «كبيرة» بلا مبتدأ وَإِنْ المخففة بلا جملة، ومثله خارج عن القياس، وإن أريد أن «كان» وحدها كذلك والضمير باق على الرفع بالابتداء- فلا وجه لاتصاله واستتاره- وأجيب بأنه لما وقع بعد «كان» وكان من جهة المعنى في موقع اسم «كان» جعل مستترا تشبيها بالاسم، وإن كان مبتدأ تحقيقا، ولا يخفى أنه من التكلف غايته، ومن التعسف نهايته إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا أو تفصيلا، والمراد بهم مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ من الثابتين على الإيمان الغير المتزلزلين المنقلبين على أعقابهم.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي صلاتكم إلى القبلة المنسوخة، ففي الصحيح أنه لما وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القبلة قالوا: يا رسول الله، فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فنزلت، فالإيمان مجاز من إطلاق اللازم على ملزومه، والمقام قرينة وهو التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من أئمة الدين- فلا معنى لتضعيفه كما يحكيه صنيع بعضهم- وقيل: المراد ثباتكم على الإيمان أو إيمانكم بالقبلة المنسوخة- واللام- في لِيُضِيعَ متعلقة بخبر كانَ المحذوف- كما هو رأي البصريين- وانتصاب الفعل بعدها بأن مضمرة أي ما كان مريدا- لأن يضيع- وفي توجيه النفي إلى إرادة الفعل مبالغة ليست في توجيهه إليه نفسه، وقال الكوفيون: اللام زائدة وهي الناصبة للفعل، ولِيُضِيعَ هو الخبر، ولا يقدح في عملها زيادتها كما لا تقدح زيادة حروف الجر في العمل، وبهذا يندفع استبعاد أبي البقاء خبرية لِيُضِيعَ بأن- اللام لام الجر- وَإِنْ بعدها مرادة فيصير التقدير ما كان الله إضاعة إيمانكم- فيحوج للتأويل- لكن أنت تعلم أن هذا الذي ذهب إليه الكوفيون بعيد من جهة أخرى لا تخفى.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ تذييل لجميع ما تقدم، فإن اتصافه تعالى بهذين الوصفين يقتضي لا محالة أن الله لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم- والباء- متعلقة ب لَرَؤُفٌ وقدم على رَحِيمٌ لأن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر كما يشير إليه قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:
٢] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما- والرحمة- أعم منه، ومن الإفضال ودفع الضرر أهم من جلب النفع، وقول القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله: لعل تقديم- الرؤوف- مع أنه أبلغ- محافظة على الفواصل- ليس بشيء لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع- فالمراعاة حاصلة على كل حال- ولأن الرحمة حيث وردت في القرآن قدمت ولو في غير الفواصل كما في قوله تعالى: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الحديد: ٢٧] في
406
وسط الآية، وكلام الجوهري في هذا الموضع خزف لا يعول عليه، وقول عصام:- إنه لا يبعد أن يقال:- الرؤوف- إشارة إلى المبالغة في رحمته لخواص عباده- والرحيم- إشارة إلى الرحمة لمن دونهم فرتبا على حسب ترتيبهم، فقدم- الرؤوف- لتقدم متعلقه شرفا وقدرا- لا شرف ولا قدر، بل ولا عصام له لأنه تخصيص لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا استعمال وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص «لرؤوف» بالمد، والباقون بغير مدكندس.
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي كثيرا ما نرى تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفا للوحي، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقع في قلبه، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لما أن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا، ولما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان، والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه بل كان ينتظر فقط إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره، ففي ذلك دلالة على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم،
وقال قتادة والسدي وغيرهما: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى الكعبة،
فعلى هذا يكون السؤال واقعا منه عليه الصلاة والسلام، ولم يذكر لأن تَقَلُّبَ الوجه نحو السماء التي هي قبلة الدعاء يشير إليه في الجملة، ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدعاء لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إليه فيكون فتنة لقومهم، ويؤيد ذلك ما
في بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن جبريل أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله تعالى قد أذن له بالدعاء
كذا يفهم من كلامهم، والذي أراه أنه لا مانع من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم وسؤاله التحويل لمصلحة ألهمها ومنفعة دينية فهمها، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان، ولا الإذن الصريحين لأن من نال قرب النوافل مستغن عن ذلك فكيف من حصل له مقام قرب الفرائض حتى غدا سيد أهله، ومن علم مرتبة الحبيب عد جميع ما يصدر منه في غاية الكمال مع مراعاة نهاية الأدب، وأما معاتبته صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما صدر فليس لنقص فيه ولا لإخلال بالأدب عند فعله حاشاه ثم حاشاه، ولكن الأسرار خفية، وحكم ربانية علمها من علمها وجهلها من جهلها، بقي هل دعا صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الحادثة صريحا أم لا؟ الظاهر الثاني بناء على ما صح عندنا من ظواهر الأخبار حيث لم يكن فيها سوى حب التحويل،
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله تعالى هوى نبيه عليه الصلاة والسلام فنزلت قَدْ نَرى الآية،
وليس في الآية ما يدل صريحا على أحد الأمرين، وأما الإشارة فقد تصلح لهذا وهذا كما لا يخفى، وهذا ومن الناس من جعل قَدْ هنا للتقليل زعما منه أن وقوع التقلب قليلا أدل على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم، واعترض بأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال له: قلب بصره إلى السماء، وإنما يقال: قلب إذا داوم فالكثرة تفهم من الآية لا محالة- لأن التقلب- الذي هو مطاوع التقليب يدل عليها، وهل التكثير معنى مجازي- لقد- أو حقيقي؟ قولان نسب ثانيهما إلى سيبويه، وهذه الكثرة أو القلة هنا منصرفة إلى التقلب، وذكر بعض النحاة أن «قد» تقلب المضارع ماضيا، ومنه ما هنا، وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور: ٦٤] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر:
٩٧] إلى غير ذلك فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً أي لنمكننك من استقبالها من قولك: وليته كذا إذا جعلته واليا له أو فلنجعلنك تلي جهتها دون جهة بيت المقدس من وليه دنا منه ووليته إياه أدنيته منه، والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها، وهي في الحقيقة داخلة على قسم محذوف تدل عليه اللام، وجاء هذا الوعد على إضمار القسم مبالغة في وقوعه لأنه يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها، وجاء قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ثم بإنجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين،- ونولي-
407
يتعدى لاثنين الكاف الأول وقبلة الثاني، وقوله تعالى: تَرْضاها أي تحبها وتميل إليها للأغراض الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته في موضع نصب صفة- لقبلة. ، ونكرها لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة فتعرف باللام، وليس في اللفظ ما يدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يطلب قبلة معينة فَوَلِّ وَجْهَكَ الفاء لتفريع الأمر على الوعد وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه ومعياره، وقيل: المراد به جميع البدن وكني بذلك عنه لأنه أشرف الأعضاء وبه يتميز بعض الناس عن بعض، أو مراعاة لما قبل والتولية إذا كانت متعدية بنفسها إلى تمام المفعولين كانت مستعملة بأحد المعنيين المتقدمين، وإذا كانت متعدية إلى واحد فمعناها الصرف إما عن الشيء أو إلى الشيء على اختلاف صلتها الداخلة على المفعول الثاني، وهي هنا بهذا المعنى- فوجهك- مفعول أول وقوله تعالى: شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه كما روي عن ابن عباس، أو
قبله كما روي عن علي كرم الله وجهه،
أو تلقاءه كما روي عن قتادة ظرف مكان مبهم كمفسره منصوب على الظرفية أغنى غناء إلى فإن مؤدى- ولّ وجهك- نحو أو قبل أو تلقاء المسجد- وولّ وجهك إلى المسجد- واحد وإنما لم يجعل الأمر من المتعدية إلى مفعولين بأن يكون شَطْرَ مفعوله الثاني- كما قيل به- لأن ترتبه بالفاء وكونه إيجازا للوعد بأن الله تعالى يجعل مستقبل القبلة أو قريبا من جهتها بأن يؤمر بالصلاة إليها يناسبه أن يكون مأمورا بصرف الوجه إليها لا بأن يجعل نفسه مستقبلا لها أو قريبا من جهتها فإن المناسب لهذا فلنأمرنك بأن تولي ولأنه يلزم حينئذ أن يكون الواجب رعاية سمت الجهة لأن المسجد الحرام جهة القبلة فإذا كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مأمورا بجعل نفسه مستقبل جهة المسجد أو قريبا منها كان مأمورا باستقبال جهة الجهة أو بقرب جهة الجهة بخلاف ما إذا جعل من التولية بمعنى الصرف، وشطر- ظرفا فإنه يصير المعنى اصرف وجهك نحو المسجد الحرام وتلقاءه الذي هو جهة القبلة فيكون مأمورا بمسامتة الجهة وإصابته- قاله بعض المحققين- وقيل: الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل فيكون بمعنى بعض الشيء ويتعين حينئذ جعله مفعولا ثانيا- وفيه أنه- وإن لم يلزم حينئذ وجوب رعاية جهة الجهة لكن عدم مناسبته بإنجاز الوعد باق، والقول- بأن الشطر هنا بمعنى النصف- مما لا يكاد يصح، والحرام- المحرم أي محرم فيه القتال، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوا، وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة التي دلت عليها الأحاديث الصحاح إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة وإن لم يصب عينها وهذه الفائدة لا تحصل من لفظ الشطر- كما قاله جمع- لأنه لو قيل: فولّ وجهك شطر الكعبة لكان المعنى اجعل صرف الوجه في مكان يكون مسامتا ومحاذيا للكعبة- وهذا هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه.
وأحمد وقول أكثر الخراسانيين من الشافعية- ورجحه حجة الإسلام في الاحياء إلا أنهم قالوا: يجب أن يكون قصد المتوجه إلى الجهة العين التي في تلك الجهة لتكون القبلة عين الكعبة، وقال العراقيون والقفال منهم: يجب إصابة العين، وقال الإمام مالك: إن الكعبة قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة مكة، وهي قبلة الحرم، وهو قبلة الدنيا، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ما يدل عليه، وهذا الخلاف في غير من يكون شاهدا أما هو فيجب عليه إصابة العين بالإجماع، ولم يقيد سبحانه وتعالى التولية في الصلاة لأن المطلوب لم يكن سوى ذلك فأغنى عن الذكر، وقيل: لأن الآية نزلت، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة فأغنى التلبس بها عن ذكرها، واستدل هذا القائل بما
ذكره القاضي تبعا لغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم
- فسمي المسجد مسجد القبلتين- وهذا- كما قال الإمام السيوطي- تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
408
إماما ولا هو الذي تحول في الصلاة،
فقد أخرج النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد فمررنا يوما ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت: حدث أمر، فجلست فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنكون أول من صلى، فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ.
وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فلما نزلت هذه الآية مرّ رجل ببني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس، ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة،
فما ذكر مخالف للروايات الصحيحة الثابتة عند أهل هذا الشأن فلا يعول عليه. وقرأ أبي «تلقاء المسجد الحرام» وهي تؤيد القول الأول في شَطْرَ كما لا يخفى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عطف على فَوَلِّ وَجْهَكَ ومن تتمة إنجاز الوعد- والفاء- جواب الشرط لأن حَيْثُ إذا لحقه ما الكافة عن الإضافة يكون من كلم المجازاة، والفراء لا يشترط ذلك فيها، و (كان) تامة- أي في أي موضع وجدتم- وأصل ولوا وليوا فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذف أولهما وضم ما قبل الياء للمناسبة- فوزنه فعوا- وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من السابق اعتناء به إذ الخطاب الوارد في شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عام حكمه ما لم يظهر اختصاصه به عليه الصلاة والسلام، وفائدة تعميم الأمكنة- على ما ذهب إليه البعض- دفع توهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة، وقيل: لما كان الصرف عن الكعبة لاستجلاب قلوب اليهود وكان مظنة أن لا يتوجه إليها في حضورهم أشار إلى تعميم التولية جميع الأمكنة أو يقال: صرح بأن التولية جهة الكعبة فرض مع حضور بيت المقدس، ولأهله أيضا لئلا يظن أن حضور بيت المقدس يمنع التوجه إلى جهة الكعبة مع غيبتها فليفهم. وقرأ عبد الله «فولوا وجوهكم قبله».
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من اليهود لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التحويل أو التوجه المفهوم من التولية الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ لا غيره لعلمهم بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأمر بالباطل إذ هو النبي المبشر به في كتبهم وتحققهم أنه لا يتجاوز كل شريعة عن قبلتها إلى قبلة شريعة أخرى، وأما اشتراك النبي صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم عليه السلام في هذه القبلة فلاشتراكهما في الشريعة على ما ينبىء عنه قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة: ١٣٥]، ووقوفهم على ما تضمنته كتبهم من أنه صلّى الله عليه وسلّم يصلي إلى القبلتين، والجملة عطف على قَدْ نَرى بجامع أن السابقة مسوقة لبيان أصل التحويل وهذه لبيان حقيته قيل: أو اعتراضية لتأكيد أمر القبلة وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراض بين الكلامين جيء به للوعد والوعيد للفريقين من أهل الكتاب الداخلين تحت العموم السابق المشار إليهما فيما سيجيء قريبا إن شاء الله تعالى وهما من كتم ومن لم يكتم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالتاء فهو وعد للمؤمنين، وقيل: على قراءة الخطاب وعدلهم، وقراءة الغيبة وعيد لأهل الكتاب مطلقا وقيل: الضمير على القراءتين لجميع الناس فيكون وعدا ووعيدا لفريقين من المؤمنين والكافرين.
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عطف على وَإِنَّ الَّذِينَ بجامع أن كلا منهما مؤكد لأمر القبلة ومبين لحقيته والمراد من الموصول الكفار من أولئك بدليل الجواب ولذا وضع المظهر موضع المضمر ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما ينافيه من الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله بِكُلِّ آيَةٍ وحجة قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق واللام موطئة لقسم محذوف ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب القسم ساد مسد جواب الشرط لا جواب الشرط، لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما
409
للقسم لا للشرط إن لم يكن مانع فكيف إذا كان كترك الفاء هاهنا فإنها لازمة في الماضي المنفي إذا وقع جزاء وهذا تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قبولهم الحق، والمعنى أنهم ما تركوا قِبْلَتَكَ لشبهة تدفعها بحجة وإنما خالفوك لمحض العناد وبحت المكابرة، وليس المراد من التعليق بالشرط الإخبار عن عدم متابعتهم على أبلغ وجه وآكده بأن يكون المعنى أنهم لا يتبعونك أصلا- وإن أتيت بكل- حجة فاندفع ما قيل: كيف حكم بأنهم لا يتبعون وقد آمن منهم فريق واستغنى عن القول بأن ذلك في قوم مخصوصين أو حكم على الكل دون الأبعاض فإنه تكلف مستغنى عنه وإضافة القبلة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم لأن الله تعالى تعبده باستقبالها وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أي لا يكون ذلك منك ومحال أن يكون فالجملة خبرية لفظا ومعنى سيقت لتأكيد حقية أمر القبلة كل التأكيد وقطع تمني أهل الكتاب فإنهم قالوا: يا محمد عد إلى قبلتنا ونؤمن بك ونتبعك مخادعة منهم لعنهم الله تعالى، وفيها إشارة إلى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة أبدا، وقيل: إنها خبرية لفظا إنشائية معنى ومعناها النهي أي لا تتبع قبلتهم أي داوم على عدم اتباعها، وأفرد القبلة وإن كانت مثناة إذ لليهود قبلة وللنصارى قبلة لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين فصار الاثنان واحدا من حيث البطلان، وحسن ذلك المقابلة لأن قبلة ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وقد يقال: إن الإفراد بناء على أن قبلة الطائفتين الحقة في الأصل بيت المقدس وعيسى عليه السلام لم يصل جهة الشرق حتى رفع وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم ثم بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الاستقبال إلى الشرق واعتذروا بأن المسيح عليه السلام فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء وذكروا لهم أن في الشرق أسرارا ليست في غيره ولهذا كان مولد المسيح شرقا كما يشير إليه قوله تعالى: إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
[مريم: ١٦] واستقبل المسيح حين صلب بزعمهم الشرق، وقيل: إن بعض رهبانهم قال لهم: إني لقيت عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لي: إن الشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم فصدقوا وفعلوا، ويؤيد ذلك أنه ليس في الإنجيل استقبال الشرق، وذهب ابن القيم إلى أن قبلة الطائفتين الآن لم تكن قبلة بوحي وتوقيف من الله تعالى بل بمشورة واجتهاد منهم، أما النصارى فاجتهدوا وجعلوا الشرق قبلة وكان عيسى قبل الرفع يصلي إلى الصخرة، وأما اليهود فكانوا يصلون إلى التابوت الذي معهم إذا خرجوا وإذا قدموا بيت المقدس نصبوه إلى الصخرة وصلوا إليه فلما رفع اجتهدوا فأدى اجتهادهم إلى الصلاة إلى موضعه وهو الصخرة وليس في التوراة الأمر بذلك، والسامرة منهم يصلون إلى طورهم بالشام قرب بلدة نابلس، وهذان القولان إن صحا يشكل عليهما القول بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة فتدبر.
ثم إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه: كونها اسمية وتكرر فيها الاسم مرتين وتأكد نفيها بالباء وفعل ذلك اعتناء بما تقدم وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ أي أن اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية وفي ذلك بيان لتصابهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك بل حالهم فيما بينهم أيضا كذلك، والجملة عطف على ما تقدم مؤكدة لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشىء عن فرط العناد وتسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي على سبيل الفرض وإلا فلا معنى لاستعمال أن الموضوعة للمعاني المحتملة بعد تحقق الانتفاء فيما سبق، والمقصود بهذا الفرض ذكر مثال لاتباع الهوى وذكر قبحه من غير نظر إلى خصوصية المتبع والمتبع.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي المعلوم الذي أوحي إليك بقرينة إسناد المجيء إليه، والمراد بعد ما بان لك الحق إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي المرتكبين الظلم الفاحش، وهذه الجملة أيضا تقرير لأمر «القبلة» وفيها وجوه من
410
التأكيد والمبالغة، وهي القسم، واللام الموطئة له، وإن الفرضية، وأن التحقيقية، واللام في حيزها، وتعريف الظالمين، والجملة الاسمية، وإذا الجزائية، وإيثار «من الظالمين» على- ظالم أو الظالم- لإفادته أنه مقرر محقق وأنه معدود في زمرتهم عريق فيهم. وإيقاع- الاتباع- على ما سماه- هوى- أي لا يعضده برهان، ولا نزل في شأنه بيان، والإجمال والتفصيل وجعل الجائي نفس الْعِلْمِ وعد أيضا من ذلك عده واحدا «من الظالمين» مغمورا فيهم غير متعين كتعينهم فيما بين المسلمين، فإن فيه مبالغة عظيمة للإشعار بالانتقال من مرتبة العدل إلى الظلم، ومن مرتبة التعين والسيادة المطلقة إلى السفالة والمجهولية، ولو جعل كُنْتَ في كُنْتَ عَلَيْها بمعنى صرت لكان أعلى كعبا في الإفادة. وأنت تعلم أن التركيب يقتضي المبالغة في الاستعمال لا المجهولية، ولو اقتضاها فيه لكان العد معدودا في عداد المقبول، وفي هذه المبالغات تعظيم لأمر الحق وتحريض على اقتفائه وتحذير عن متابعة الهوى، واستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الانذار عليه أحوج حفظا لمرتبته، وصيانة لمكانته، فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي والمعني به غيره.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ مبتدأ وخبر، والمراد بهم العلماء لأن- العرفان- لهم حقيقة، ولذا وضع المظهر موضع المضمر، ولأن- أوتوا- يستعمل فيمن لم يكن له قبول، وآتينا أكثر ما جاء فيمن له ذلك، وجوز أن يكون الموصول بدلا من الموصول الأول، أو لَمِنَ الظَّالِمِينَ فتكون الجملة حالا من الْكِتابَ أو من الموصول، ويجوز أن يكون نصبا بأعني، أو رفعا على تقديرهم، وضمير يَعْرِفُونَهُ لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وإن لم يسبق ذكره- لدلالة قوله تعالى: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ عليه، فإن تشبيه معرفته بمعرفة- الأبناء- دليل على أنه المراد، وقيل: المرجع مذكور فيما سبق صريحا بطريق الخطاب، فلا حاجة إلى اعتبار التقديم المعنوي «غاية الأمر» أن يكون هاهنا التفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له عليه الصلاة والسلام من حيث ذاته ونسبه الزاهر، بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التي تستلزم إفحامهم، ومن جملتها أنه يصلي إلى القبلتين، كأنه قال: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكتاب يعرفون من وصفناه فيه، وأجيب بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وإن خوطب في الكلام الذي في شأن «القبلة» مرارا لكنه لا يحسن إرجاع الضمير إليه لأن هذه الجملة اعتراضية مستطردة بعد ذكر أمر «القبلة» وظهورها عند أهل الكتاب بجامع المعرفة الجلية مع الطعن- ولذا لم تعطف- فلو رجع الضمير إلى المذكور لأوهم نوع اتصال- ولم يحسن ذلك الحسن- ودليل الاستطراد (ولكل وجهة) نعم إن قيل: بمجرد الجواز فلا بأس به إذ هو محتمل، ولعله الظاهر بالنظر الجليل، وقيل: الضمير- للعلم- المذكور بقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أو القرآن بادعاء حضوره في الأذهان، أو للتحويل لدلالة مضمون الكلام السابق عليه، وفيه أن التشبيه يأبى ذلك لأن المناسب تشبيه الشيء بما هو من جنسه، فكان الواجب في نظر البلاغة حينئذ كما يعرفون التوراة أو الصخرة، وأن التخصيص بأهل الكتاب يقتضي أن تكون هذه المعرفة مستفادة من الْكِتابَ وقد أخبر سبحانه عن ذكر نعته صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل بخلاف المذكورات فإنها غير مذكور فيه ذكرها فيهما- والكاف- في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي يَعْرِفُونَهُ بالأوصاف المذكورة في الْكِتابَ بأنه النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم عرفانا مثل- عرفانهم أبناءهم- بحيث لا تلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم، وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلّا منهما يتعذر الاشتباه فيه، والمراد- بالأبناء- الذكور لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات، فكان ظن اشتباه أشخاصهم أبعد، وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من
411
الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولية- بخلاف الأبناء- فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه. وما حكي عن عبد الله بن سلام أنه قال في شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا أعلم به مني بابني، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه:
لم؟ قال: لأني لست أشك بمحمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته خانت، فقبل عمر رضي الله تعالى عنه رأسه، فمعناه أني لست أشك في نبوته عليه الصلاة والسلام بوجه، وأما ولدي فأشك في بنوته وإن لم أشك بشخصه، وهو المشبه به في الآية فلا يتوهم منه أن- معرفة الأبناء- لا تستحق أن يشبه بها لأنها دون المشبه للاحتمال، ولا يحتاج إلى القول بأنه يكفي في وجه الشبه كونه أشهر في المشبه به- وإن لم يكن أقوى- ومعرفة الأبناء- أشهر من غيرها، ولا إلى تكلف أن المشبه به في الآية إضافة- الأبناء- إليهم مطلقا سواء كانت حقة أو لا. وما ذكره ابن سلام كونه ابنا له في الواقع وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ وهم الذين لم يسلموا.
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ الذي يعرفونه وَهُمْ يَعْلَمُونَ جملة حالية، ويَعْلَمُونَ إما منزلة منزلة اللازم ففيه تنبيه على كمال شناعة كتمان الحق وأنه لا يليق بأهل العلم، أو المفعول محذوف أي «يعلمونه» فيكون حالا مؤكدة لأن لفظ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يدل على علمه إذ- الكتم- إخفاء ما يعلم، أو يعلمون عقاب الكتمان، أو أنهم لَيَكْتُمُونَ فتكون مبينة، وهذه الجملة عطف على ما تقدم من عطف الخاص على العام، وفائدته تخصيص من عاند وكتم بالذم، واستثناء من آمن وأظهر علمه عن حكم الكتمان الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ استئناف كلام قصد به رد الكاتمين، وتحقيق أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولذا فصل، والْحَقُّ إما مبتدأ خبره الجار- واللام- إما للعهد إشارة إلى ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذا ذكر بلفظ المظهر أو الحق الذي كتمه هؤلاء ووضع فيه المظهر موضع المضمر تقريرا لحقيته وتثبيتا لها، أو للجنس وهو يفيد قصر جنس الْحَقُّ على ما ثبت من الله أي أن الْحَقُّ ذلك كالذي أنت عليه لا غيره كالذي عليه أهل الكتاب، وإما خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق، أو هذا الحق، ومِنْ رَبِّكَ خبر بعد خبر أو حال مؤكدة- واللام- حينئذ للجنس كما في ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: ٢] ومعناه أن ما يكتمونه هو الحق- لا ما يدعونه ويزعمونه- ولا معنى حينئذ للعهد لأدائه إلى التكرار فيحتاج إلى تكلف.
وقرأ الإمام علي كرم الله تعالى وجهه «الحق» بالنصب على أنه مفعول يَعْلَمُونَ أو بدل، ومِنْ رَبِّكَ حال منه، وبه يحصل مغايرته للأول وإن اتحد لفظهما، وجوز النصب بفعل مقدر- كالزم- وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة من إظهار اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى.
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين أو المترددين في كتمانهم الحق عالمين به، أو في أنه مِنْ رَبِّكَ وليس المراد نهي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك لأن النهي عن شيء يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسالة صلى الله تعالى عليه وسلم فلا فائدة في نهيه، ولأن المكلف به يجب أن يكون اختياريا، وليس الشك والتردد مما يحصل بقصد واختيار بل المراد إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائنا من كان، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه فيجعل النهي مجازا عن ذلك الأمر وفي جعل امتراء الأمة امتراءه صلّى الله عليه وسلّم مبالغة لا تخفى، ولك أن تقول: إن الشك ونحوه وإن لم يكن مقدور التحصيل لكنه مقدور لإزالة البقاء، ولعل النهي عنه بهذا الاعتبار ولهذا قال الله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ دون فلا تمتر، ومن ظن أن منشأ الاشكال إفخام الكون لأنه هو الذي ليس مقدورا فلا ينهى عنه دون الشك والتردد لم يأت بشيء لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
أي لكل أهل ملة أو جماعة من المسلمين واليهود والنصارى أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية، وتنوين- كل- عوض عن المضاف إليه ووجهة- جاء
412
على الأصل والقياس جهة مثل عدة وزنة وهي مصدر بمعنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى المخلوق وهو محذوف الزوائد لأن الفعل توجه أو اتجه، والمصدر التوجه أو الاتجاه، ولم يستعمل منه وجه كوعد، وقيل: إنها اسم للمكان المتوجه إليه فثبوت الواو ليس بشاذ وقرأ أبيّ- ولكل قبلة-وَمُوَلِّيها
الضمير المرفوع عائد إلى- كل باعتبار لفظه، والمفعول الثاني للوصف محذوف أي وجهه أو نفسه أي مستقبلها، ويحتمل أن يكون الضمير لله تعالى أي- الله موليها- إياه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ «ولكل وجهة» بالإضافة، وقد صعب تخريجها حتى تجرأ بعضهم على ردها وهو خطأ عظيم، وخرجها البعض أن- كل- كان في الأصل منصوبا على أنه مفعول به لعامل محذوف يفسره وَلِّيها
وضميروَ
عائد إلى الله تعالى قطعا ثم زيدت اللام في المفعول به صريحا لضعف العامل المقدر من جهتين، كونه اسم فاعل وتقديم المعمول عليه والمفعول الآخر محذوف- أي لكل وجهة الله مولى موليها- ورد بأن لام التقوية لا تزاد في أحد مفعولي المتعدي لاثنين، لأنه إما أن تزاد في الآخر ولا نظير له، أو لا فيلزم الترجيح بلا مرجح، وإن أجيب بإطلاق النحاة يقتضي جوازه، والترجيح بلا مرجح مدفوع هنا بأنه ترجح بتقديمه وقيل: إن المجرور معمول للوصف المذكور على أنه مفعول به له واللام مزيدة، أو أن الكلام من باب الاشتغال بالضمير، ولا يخفى أن هذين التخريجين يحوج أولهما إلى إرجاع الضمير المجرور بالوصف إلى التولية، وجعله مفعولا مطلقا كقوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه لئلا يقال: كيف يعمل الوصف مع اشتغاله بالضمير، وثانيهما إلى القول: بأنه قد يجيء المجرور من باب الاشتغال على قراءة من قرأ «والظالمين أعدلهم» والقول: بأن اللام أصلية، والجار متعلق- بصلوا- محذوفا أو باستبقوا والفاء زائدة بعيد بل لا أكاد أجيزه، وقرأ ابن عامر، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- مولاها- على صيغة اسم المفعول- أي هو قد ولي تلك الجهة- فالضمير المرفوع حينئذ عائد إلى كل البتة، ولا يجوز رجوعه إلى الله تعالى لفساد المعنى، وأخرج ابن جرير وابن أبي داود في المصاحف عن منصور قال: نحن نقرأ- ولكل جعلنا قبلة يرضونها-اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
جمع خيرة بالتخفيف وهي الفاضلة من كل شيء، والتأنيث باعتبار الخصلة، «واللام» للاستغراق فيعم المحلى أمر القبلة وغيره، والخطاب للمؤمنين، والاستباق متعد كما في التاج، وقيل: لازم، و «إلى» بعده مقدرة أي إذا كان كذلك فبادروا أيها المؤمنون ما به يحصل السعادة في الدارين من استقبال القبلة وغيره ولا تنازعوا من خالفكم إذ لا سبيل إلى الاجتماع على قبلة واحدة لجري العادة على تولية كل قوم قبلة يستقبلها، وفي أمر المؤمنين بطلب التسابق فيما بينهم كما قال السعد: دلالة على طلب سبق غيرهم بطريق الأولى، وقيل: الاقتصار على سبق بعضهم إشارة إلى أن غيرهم ليس في
طريق الخير حتى يتصور أمر أحد بالسبق إلى الخير عليه، ويجوز أن تكون «اللام» للعهد فالمراد بالخيرات الفاضلات من الجهات التي تسامت الكعبة، وفيه إشارة إلى أن الصلاة إلى عين الكعبة أكثر ثوابا من الصلاة التي جهتها، وقيل: يحتمل أن يراد بها الصلوات الفاضلات، والمراد- بالاستباق- السرعة فيها والقيام بها في أول أوقاتها، وفيه بعد، وأبعد منه ما قيل: إن المعنى- فاستبقوا قبلتكم- وعبر عنها بالخيرات إشارة إلى اشتمالها على كل خير.
واستدل الشافعية بالآية على أن الصلاة في أول الوقت بعد تحققه أفضل وهي مسألة فرغ منها في الفروع، ولبعض العارفين في الآية وجه آخر وهو أنه تعالى جعل الناس في أمور دنياهم وأخراهم على أحوال متفاوتة، فجعل بعضهم أعوان بعض فواحد يزرع وآخر يطحن وآخر يخبز، وكذلك في أمر الدين، واحد يجمع الحديث. وآخر يحصل الفقه وآخر يطلب الأصول، وهم في الظاهر مختارون، وفي الباطن مسخرون، وإليه الإشارة
بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كل ميسر لما خلق له»
ولهذا قال بعض الصالحين لما سئل عن تفاوت الناس في أفعالهم: كل ذلك طرق إلى
413
الله تعالى أراد أن يعمرها بعباده ومن تحرى وجه الله تعالى في كل طريق يسلكه وصل إليه لكن ينبغي تحري الأحسن من تلك الطرق إذ المراتب متفاوتة والشؤون مختلفة ومظاهر الأسماء شتى، وقيل: المراد بها أن لكل أحد قبلة فقبلة المقربين العرش والروحانيين الكرسي والكروبيين البيت المعمور والأنبياء قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة، وهي قبلة جسدك، وأما قبلة روحك فأنا، وقبلتي أنت كما يشير إليه
«أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي»
ْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
أين ظرف مكان تضمن معنى الشرط، وا
مزيدة وأْتِ
جوابها والمعنى في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة لطبعكم كالأرض أو المخالفة كالسماء أو المجتمعة الأجزاء كالصخرة أو المتفرقة التي يختلط بها ما فيها كالرمل يحشركم الله تعالى إليه لجزاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والجملة معللة لما قبلها، وفيها حث على الاستباق بالترغيب والترهيب وهي على حد قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان: ١٦] أو في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض الله تعالى أرواحكم إليه فهي على حد قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: ٧٨] ففيها حث على الاستباق باغتنام الفرصة فإن الموت لا يختص بمكان دون مكان، أو أَيْنَما تَكُونُوا من الجهات المتقابلات يمنة ويسرة وشرقا وغربا يجعل الله تعالى صلاتكم مع اختلاف جهاتها في حكم صلاة متحدة الجهة كأنها إلى عين الكعبة أو في المسجد الحرام- فيأت بكم- مجاز عن جعل الصلاة متحدة الجهة وفائدة الجملة المعللة حينئذ بيان حكم الأمر بالاستباق، ومنهم من قال: الخطاب في استبقوا إما عام للمؤمنين والكافرين، وإما خاص بالمؤمنين فعلى الأول يراد هنا العموم أي في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة للحق أو المخالفة له، وعلى الثاني الخصوص- أي أينما تكونوا في الصلاة أيها المؤمنون من الجهات المتقابلة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بعد أن تولوا جهة الكعبة يجعل الله تعالى صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة لاتحادكم في الجهة التي أمرتم بالاتجاه إليها- وليس بشيء كما لا يخفى نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ومن ذلك إماتتكم وإحياؤكم، وجمعكم والجملة وتأكيد لما تقدم.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على اسْتَبِقُوا
وحَيْثُ ظرف لازم الإضافة إلى الجمل غالبا، والعامل فيها ما هو في محل الجزاء لا الشرط فهي هنا متعلقة- بولّ- والفاء صلة للتنبيه على أن ما بعدها لازم لما قبلها لزوم الجزاء للشرط لأن- حيث- وإن لم تكن شرطية لكنها لدلالتها على العموم أشبهت كلمات الشرط ففيها رائحة الشرط، ولا يجوز تعلقها- بخرجت- لفظا وإن كانت ظرفا له معنى لئلا يلزم عدم الإضافة والمعنى من أي موضع خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ من ذلك الموضع شَطْرَ إلخ وَمِنْ ابتدائية لأن الخروج أصل لفعل ممتد وهو المشي وكذا التولية أصل للاستقبال وقت الصلاة الذي هو ممتد، وقيل:
إن- حيث- متعلقة- بولّ- والفاء ليست زائدة، وما بعدها يعمل فيما قبلها كما بين في محله إلا أنه لا وجه لاجتماع الفاء والواو فالوجه أن يكون التقدير افعل ما أمرت به من حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ فيكون فَوَلِّ عطفا على المقدر، ويجوز أن يجعل- من حيث خرجت- بمعنى أينما كنت وتوجهت فيكون- فول- جزاء له على أنها شرطية العامل فيها الشرط- ولا يخفى ما فيه من التكلف- والتخريج على قول ضعيف لم يذهب إليه إلا الفراء وهو شرطية- حيث- بدون- ما- حتى قالوا: إنه لم يسمع في كلام العرب، ثم الأمر بالتولية مقيد بالقيام إلى الصلاة للإجماع على عدم وجوب استقبال القبلة في غير ذلك.
وَإِنَّهُ أي الاستقبال أو الصرف أو التولية والتذكير باعتبار أنها أمر من الأمور أو لتذكير الخبر أو لعدم الاعتداد
414
بتأنيث المصدر أو بذي التاء الذي لا معنى للمجرد عنه سواء كان مصدرا أو غيره، وإرجاع الضمير للأمر السابق واحد الأوامر على قربه بعيد لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الثابت الموافق للحكمة.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازيكم بذلك أحسن الجزاء فهو وعيد للمؤمنين، وقرىء- يعملون- على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين، والجملة عطف على ما قبلها وهما اعتراض للتأكيد.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ معطوف على مجموع قوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
إلخ أو على قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ إلخ عطف القصة على القصة وليس معطوفا على قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ الداخل تحت فاء السببية الدالة على ترتبه على قوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
لأنه معلل بقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وهو وإن كان علة- لولوا- لا لمحذوف- أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم- والحجة في ذلك كما قيل به: إلا أنه يفهم منه كونه علة- لول- لأن انقطاع الحجة بالتولية إذا حصل للأمة كان حصوله بها للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الأولى، ولو جعل الخطاب عاما للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والأمة ولم يلتزم تخصيصه بالأمة على حد خطابات الآية كان علة لهما وإنما كرر هذا الحكم لتعدد علله، والحصر المستفاد من «إلا لنعلم» إلخ إضافي أو ادعائي فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل، تعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بابتغاء مرضاته أولا، وجري العادة الإلهية على أن يؤتى كل أهل ملة وجهة «ثانيا» ودفع حجج المخالفين «ثالثا» فإن التولية إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة لا الصخرة وهذا النبي يصلي إلى الصخرة فلا يكون النبي الموعود، وبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يدعي أنه صاحب شريعة ويتبع قبلتنا وبينهما تدافع لأن عادته سبحانه وتعالى جارية بتخصيص كل صاحب شريعة بقبلة، وتدفع احتجاج المشركين بأنه عليه الصلاة والسلام يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته وترك سبحانه التعميم بعد التخصيص في المرتبة الثالثة اكتفاء بالعموم المستفاد من العلة، وزاد مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ دفعا لتوهم مخالفة حال السفر لحال الحضر بأن يكون حال السفر باقيا على ما كان كما في الصلاة حيث زيد في الحضر ركعتان أو يكون مخيرا بين التوجهين كما في الصوم. وقد يقال فائدة هذا التكرار الاعتناء بشأن الحكم لأنه من مظان الطعن وكثرة المخالفين فيه لعدم الفرق بين النسخ والبداء، وقيل: لا تكرار فإن الأحوال ثلاثة، كونه في المسجد، وكونه في البلد خارج المسجد، وكونه خارج البلد، فالأول محمول على الأول، والثاني على الثاني، والثالث على الثالث، ولا يخفى أنه مجرد تشبيه لا يقوم عليه دليل.
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ إخراج من الناس، وهو بدل على المختار، والمعنى عند القائلين: بأن الاستثناء من النفي إثبات لئلا يكون لأحد من الناس عليكم حجة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالعناد فإن لهم عليكم حجة فإن اليهود منهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده، والمشركين منهم يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم، وتسمية هذه الشبهة الباطلة حجة مع أنها عبارة عن البرهان المثبت للمقصود لكونها شبيهة بها باعتبار أنهم يسوقونها مساقها، واعترض بأن صدر الكلام لو تناول هذا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وإلا لم يصح الاستثناء لأن الحجة مختصة بالحقيقة، ولا محيص سوى أن يراد بالحجة المتمسك حقا كان أو باطلا، وأجيب بأنه لم يستثن شبهتهم عن الحجة بل ذواتهم عن الناس إلا أنه لزم تسمية شبهتهم حجة باعتبار مفهوم المخالفة فلا حاجة إلى تناول الصدر إياها، وأنت تعلم أن مراد المعترض إن الاستثناء وإن كان من الناس إلا أنه يثبت به ما نفي عن المستثني منه للمستثني بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات فإن كان الصدر مشتملا على ما أثبت للمستثني لزم الجمع وإلا لم
415
يتحقق الاستثناء بمقتضاه إذ الثابت للمستثنى منه شيء وللمستثني شيء آخر، ولا محيص للتفصي عن ذلك إلا أن يراد بالحجة المتمسك أو ما يطلق عليه الحجة في الجملة فيتحقق حينئذ الاستثناء بمقتضاه لأن الشبهة حجة بهذا المعنى كالبرهان، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولك أن تحمل الحجة على الاحتجاج والمنازعة كما في قوله تعالى: لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ [الشورى: ١٥] فأمر الاستثناء حينئذ واضح إلا أن صوغ الكلام بعيد عن الاستعمال عند إرادة هذا المعنى، وقيل: الاستثناء منقطع، وهو من تأكيد الشيء بضده وإثباته بنفيه، والمعنى إن يكن لهم حجة فهي الظلم والظلم لا يمكن أن يكون حجة فحجتهم غير ممكنة أصلا فهو إثبات بطريق البرهان على حد قوله:
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم «يلام» بنسيان الأحبة والوطن
وقرأ زيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما «ألا» بالفتح والتخفيف وهي حرف يستفتح به الكلام لينبه السامع إلى الإصغاء، والَّذِينَ مبتدأ خبره قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ والفاء زائدة فيه للتأكيد، وقيل: لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجوز أن يكون الموصول نصبا على شريطة التفسير، والمشهور أن- الخشية- مرادفة للخوف أي فلا تخافوا الظالمين لأنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر، وجوز عود الضمير إلى الناس وفيه بعد.
وَاخْشَوْنِي أي وخافوني فلا تخالفوا أمري فإني القادر على كل شيء، واستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول بها الإمامية، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك في محله.
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الظاهر من حيث اللفظ أنه عطف على قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ كأنه قيل: فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ولأتم- إلخ فهو علة لمذكور أي أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين، أما دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين، وأما عقبى فلإثابتكم الثواب الأوفى ولا يرد الفصل بالاستثناء وما بعده لأنه- كلا فصل- إذ هو من متعلق العلة الأولى، نعم اعترض ببعد المناسبة وبأن إرادة الاهتداء المشعر بها الترجي إنما تصلح علة للأمر بالتولية لا لفعل المأمور به كما هو الظاهر في المعطوف عليه فالظاهر معنى جعله علة لمحذوف أي وأمرتكم بالتولية- والخشية- لإتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم- والجملة المعللة معطوفة على الجملة المعللة السابقة، أو عطف على علة مقدرة مثل وَاخْشَوْنِي لأحفظكم ولأتم إلخ. ورجح بعضهم هذا الوجه بما أخرجه البخاري في الأدب المفرد. والترمذي من حديث معاذ بن جبل «تمام النعمة دخول الجنة» ولا يخفى أنه على الوجه الأول قد يؤول الكلام إلى معنى- فاعبدوا، وصلوا متجهين شطر المسجد الحرام لأدخلكم الجنة- والحديث لا يأبى هذا بل يطابقه حذو القذة بالقذة فكونه مرجحا لذلك بمعزل عن التحقيق «فإن قيل» إنه تعالى أنزل عند قرب وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: ٣] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك بسنين في هذه الآية: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ؟ أجيب بأن تمام النعمة في كل وقت بما يليق به فتدبر.
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ متصل بما قبله، فالكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، والتقدير- لأتم نعمتي عليكم- في أمر القبلة أو في الآخرة إتماما مثل إتمام إرسال الرسول، وذكر الإرسال وإرادة الإتمام من إقامة السبب مقام المسبب، وفِيكُمْ متعلق- بأرسلنا- وقدم على المفعول الصريح تعجيلا بإدخال السرور ولما في صفاته من الطول، وقيل: متصل بما بعده أي اذكروني ذكرا مثل ذكري لكم بالإرسال، أو اذكروني بدل إرسالنا فيكم رسولا فالكاف للمقابلة متعلق باذكروني، ومنها يستفاد التشبيه لأن المتقابلين متشابهان ومتبادلان، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد افتنان وجريان على سنن الكبرياء وإشارة إلى عظمة نعمة هذا
416
الإرسال، وهذا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا صفة رسولا، وفيه إشارة إلى طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي الآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الأخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته وَيُزَكِّيكُمْ أي يطهركم من الشرك وهي صفة أخرى للرسول وأتى بها عقب التلاوة لأن التطهير عن ذلك ناشىء عن إظهار المعجزة لمن أراد الله تعالى توفيقه وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم الْكِتابَ وتفهيم ما انطوى عليه من الحكمة الإلهية والأسرار الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك بالاتباع، وأما قبل ذلك فالكفر حجاب، وقدم التزكية على التعليم في هذه الآية وأخرها عنه في دعوة إبراهيم لاختلاف المراد بها في الموضعين، ولكل مقام مقال، وقيل: التزكية عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة إلا أنها وسطت بين التلاوة والتعليم المترتب عليها للإيذان بأن كلّا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة، وقيل: قدمت التزكية تارة وأخرت أخرى لأنها علة غائية لتعليم الْكِتابَ والحكمة، وهي مقدمة في القصد والتصور مؤخرة في الوجود والعمل فقدمت وأخرت رعاية لكل منهما، واعترض بأن غاية التعليم صيرورتهم أزكياء عن الجهل لا تزكية الرسول عليه الصلاة والسلام إياها المفسرة بالحمل على ما يصيرون به أزكياء لأن ذلك إما بتعليمه إياهم أو بأمرهم بالعمل به فهي إما نفس التعليم أو أمر لا تعلق له به (١)، وغاية ما يمكن أن يقال: إن التعليم باعتبار أنه يترتب عليه زوال الشك وسائر الرذائل تزكيته إياهم فهو باعتبار غاية وباعتبار مغيا- كالرمي.
والقتل- في قولهم: رماه فقتله فافهم وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي وكان الظاهر وما لَمْ تَكُونُوا ليكون من عطف المفرد على المفرد إلا أنه تعالى كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله تعالى عليه وسلم نعمة عظيمة ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون فَاذْكُرُونِي بالطاعة قلبا وقالبا فيعم الذكر باللسان والقلب والجوارح، فالأول- كما في المنتخب- الحمد والتسبيح والتحميد وقراءة كتاب الله تعالى «والثاني» الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والوعد والوعيد وفي الصفات الإلهية والأسرار الربانية.
«والثالث» استغراق الجوارح في الأعمال المأمور بها خالية عن الأعمال المنهي عنها ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله تعالى ذكرا في قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: ٩] وقال أهل الحقيقة: حقيقة ذكر الله تعالى أن ينسى كل شيء سواه أَذْكُرْكُمْ أي أجازكم بالثواب، وعبر عن ذلك بالذكر للمشاكلة ولأنه نتيجته ومنشؤه،
وفي الصحيحين «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه»
وَاشْكُرُوا لِي ما أنعمت به عليكم وهو- واشكروني- بمعنى ولي أفصح مع الشكر وإنما قدم الذكر على الشكر لأن في الذكر اشتغالا بذاته تعالى وفي الشكر اشتغالا بنعمته والاشتغال بذاته تعالى أولى من الاشتغال بنعمته.
وَلا تَكْفُرُونِ بجحد نعمتي وعصيان أمري وأردف الأمر بهذا النهي ليفيد عموم الأزمان وحذف ياء المتكلم تخفيفا لتناسب الفواصل وحذفت نون الرفع للجازم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ على الذكر والشكر وسائر الطاعات من الصوم والجهاد وترك المبالاة
(١) قوله: «أو أمر لا تعلق له به» كذا بخطه ولعل حق العبارة له تعلق به تأمل اهـ مصححه.
417
بطعن المعاندين في أمر القبلة وَالصَّلاةِ التي هي الأصل والموجب لكمال التقرب إليه تعالى.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ معية خاصة بالعون والنصر ولم يقل مع المصلين لأنه إذا كان مع الصابرين كان مع المصلين من باب أولى لاشتمال الصلاة على الصبر وَلا تَقُولُوا عطف على اسْتَعِينُوا إلخ مسوق لبيان أنه لا غائلة للمأمور به وأن الشهادة التي ربما يؤدي إليها الصبر حياة أبدية لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته وإعلاء كلمته وهم الشهداء واللام للتعليل لا للتبليغ لأنهم لم يبلغوا الشهداء قولهم: أَمْواتٌ أي هم أموات. بَلْ أَحْياءٌ.
أي بل هم أحياء، والجملة معطوفة على لا تَقُولُوا إضراب عنه، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بل- قولوا أحياء- لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم إنهم أحياء وإن كان ذلك أيضا صحيحا وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ. أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي- واختلف في هذه الحياة- فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقية بالروح والجسد ولكنا لا ندركها في هذه النشأة، واستدلوا بسياق قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: ١٦٩] وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم، وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون لا ينافي ذلك- فقد روي عن الحسن- أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الرّوح (١) والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الوجع، فوصول هذا الروح إلى الروح هو الرزق والامتياز ليس بمجرد الحياة بل مع ما ينضم إليها من اختصاصهم بمزيد القرب من الله عز شأنه ومزيد البهجة والكرامة، وذهب البلخي إلى نفي الحياة بالفعل عنهم مطلقا- وأخرج الجملة الاسمية الدالة على الاستمرار المستوعب للأزمنة من وقت القتل إلى ما لا آخر له عن ظاهرها- وقال:
معنى بَلْ أَحْياءٌ إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء، فالآية على حد إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: ١٣، ١٤] وفائدة الأخبار بذلك الرد على المشركين حيث قالوا: إن أصحاب محمد يقتلون أنفسهم ويخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم فكأنه قيل: ليس الأمر كما زعمتم بل يحيون ويخرجون، وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل كما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة،
وحكي عن الأصم أن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى أي لا تقولوا هم أموات في الدين ضالون عن الصراط المستقيم بل هم أحياء بالطاعة قائمون بأعبائها، ولا يخفى أن هذه الأقوال- ما عدا الأولين- في غاية الضعف بل نهاية البطلان، والمشهور ترجيح القول الأول، ونسب إلى ابن عباس، وقتادة، ومجاهد والحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجبائي والرماني وجماعة من المفسرين لكنهم اختلفوا في المراد بالجسد، فقيل: هو هذا الجسد الذي هدمت بنيته بالقتل ولا يعجز الله تعالى أن يحل به حياة تكون سبب الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا يرى فيه شيء من علامات الإحياء، فقد جاء
في الحديث «إن المؤمن يفسح له مد بصره، ويقال له نم نومة العروس»
مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر بمعزل عن أذهاننا وإدراك قوانا. وقيل: جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه، واستدل بما
أخرجه عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى يوم القيامة»
ولا يعارض هذا ما
أخرجه
(١) - الروح- بفتح الراء الراحة والسرور اهـ- ادارة.
418
مالك وأحمد والترمذي وصححه والنسائي، وابن ماجة عن كعب بن مالك: «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة- أو- شجر الجنة»
ولا ما
أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا «إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش»
لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور إذ الرائي لا يرى سواها، وقيل: جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال: رأيت فلانا- وإلى ذلك ذهب بعض الإمامية- واستدلوا بما
أخرجه أبو جعفر مسندا إلى يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله جالسا فقال: ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت: يقولون: في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد الله:
سبحان الله! المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.
ووجه الاستدلال إذا كان المراد- بالمؤمنين- الشهداء ظاهر، وأما إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى، وعندي أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره، وأن الأرواح- وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها- مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف، وليس ذلك من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال، وإنما يكون منه لو لم تعد إلى جسم نفسها الذي كانت فيه- والعود حاصل في النشأة الجنانية- بل لو قلنا بعدم عودها إليه والتزمنا العود إلى جسم مشابه لما كان في الدنيا مشتمل على الأجزاء النطقية الأصلية أو غير مشتمل لا يلزم ذلك التناسخ أيضا لأنهم قالوه على وجه نفوا به الحشر والمعاد، وأثبتوا فيه سرمدية عالم الكون والفساد، وأن أرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق على وجه يمتازون به عمن عداهم إما في أصل التعلق أو في نفس الحياة بناء على أنها من المشكك لا المتواطئ، أو في نفس المتعلق به مع ما ينضم إلى ذلك من البهجة والسرور والنعيم اللائق بهم، والذي يميل القلب إليه أن لهاتيك الأبدان شبها تاما صوريا بهذه الأبدان، وأن المواد مختلفة والأجزاء متفاوتة- إذ فرق بين العالمين، وشتان ما بين البرزخين- ويمكن حمل أحاديث الطير على تشبيه هذه الأبدان الغضة الطرية بسرعة حركتها وذهابها حيث شاءت بالطير الخضر، وتحمل الصورة على الصفة كما حملت على ذلك
في حديث «خلق آدم على صورة الرحمن»
واستبعاد أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما تقدم محمول على ما يفهمه العامة من ظاهر اللفظ، ولمزيد الإيضاح اللائق بعوام وقته عدل عنه إلى عبارة لا يتراءى منها شائبة استبعاد كما يتراءى من ظاهر الحديث حتى أن بعض العلماء لذلك حملوا «في» فيه على- على- وهو إما تجاهل أو جهل بأن صغر المتعلق أو ضيقه لو كان موجودا فيما نحن فيه لا يضر الروح شيئا ولا ينافي نعيمها، أو ظن بأن لتلك الصورة روحا غير روح- الشهيد- فلا يمكن أن تتعلق بها روحان، والأمر على خلاف ما يظنون، وإن شئت قلت بتمثل الروح نفسها صورة لأن الأرواح في غاية اللطافة وفيها قوة التجسد كما يشعر به ظهور الروح الأمين عليه السلام بصورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. وأما القول بحياة هذا الجسد الرميم مع هدم بنيته وتفرق أجزائه وذهاب هيئته- وإن لم يكن ذلك بعيدا عن قدرة من يبدأ الخلق ثم يعيده- لكن ليس إليه كثير حاجة، ولا فيه مزيد فضل، ولا عظيم منة، بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة المؤمنين بالشكوك والأوهام وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما يعدون قائله من سفهة الأحلام، وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء الذين قتلوا منذ مائة سنين، وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دما إذا رفعت العصابة عنها فذلك مما رواه- هيان بن بيان- وما هو إلا حديث خرافة وكلام يشهد على مصدقيه تقديم السخافة.
419
هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات، إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ- وتلك خصوصية لهم وإن شاركهم في النعيم- بل وزاد عليهم بعض عباد الله تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك، وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبدا، وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم بالكلية بحيث إنهم ما ذاقوه أصلا ولا طرفة عين، وإلا لقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ماتوا، فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم امتازوا بعد أن قتلوا بحياة لائقة بهم مانعة عن أن يقال في شأنهم: أَمْواتٌ وعدل سبحانه عن- قتلوا- المعبر عنه في آل عمران إلى يُقْتَلُ روما للمبالغة في النهي، وتأكيد الفعل في تلك السورة يقوم مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين، والآية نزلت- كما أخرجه ابن منده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- في شهداء بدر وكانوا عدة لياليه ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ عطف على قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا إلخ عطف المضمون على المضمون، والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر، ومضمون الثانية بيان مواطنه، والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلى والمختبر، ففي الكلام استعارة تمثيلية لأن الابتلاء حقيقة لتحصيل العلم، وهو محال من اللطيف الخبير- والخطاب عام لسائر المؤمنين- وقيل: للصحابة فقط، وقيل:
لأهل مكة فقط.
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ أي بقليل من ذلك، والقلة بالنسبة لما حفظهم عنه مما لم يقع بهم وأخبرهم سبحانه به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم فإن مفاجأة المكروه أشد، ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة.
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ عطف إما على شيء ويؤيده التوافق في التنكير ومجيء البيان بعد كل وإما على الْخَوْفِ ويؤيده قرب المعطوف عليه ودخوله تحت بِشَيْءٍ والمراد من الْخَوْفِ خوف العدو، ومن الْجُوعِ القحط إقامة للمسبب مقام السبب- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومن نقص الْأَمْوالِ هلاك المواشي، ومن نقص الْأَنْفُسِ ذهاب الأحبة بالقتل والموت، ومن نقص الثَّمَراتِ تلفها بالجوائح، ونص عليها مع أنها من الْأَمْوالِ لأنها قد لا تكون مملوكة، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
الْخَوْفِ خوف الله تعالى وَالْجُوعِ صوم رمضان، والنقص من الْأَمْوالِ الزكوات والصدقات، ومن الْأَنْفُسِ الأمراض، ومن الثَّمَراتِ موت الأولاد، وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل، كما يقال: ثمرة العلم العمل.
وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم، فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد»
واعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم والزكاة بأن خوف الله تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به قبل نزول الآية، وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل، فلا معنى للوعد بالابتلاء بذلك، وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاة- وهي النمو والزيادة- بالنقص، «وأجيب بأن كون قلوب المؤمنين مشحونة بالخوف قبل لا ينافي ابتلاءهم في الاستقبال بخوف آخر، فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات، وكذا الأمراض، وموت الأولاد أمور متجددة يصح الابتلاء بها في الآتي من الأزمان، والتعبير عن الزكاة- بالنقص- لكونها نقصا صورة- وإن كانت زيادة معنى- فعند الابتلاء سماها نقصا، وعند الأمر بالأداء سماها زكاة يسهل أداؤها وَبَشِّرِ
420
الصَّابِرِينَ
خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة، والجملة عطف على ما قبلها عطف المضمون على المضمون من غير نظر إلى الخبرية والإنشائية- والجامع ظاهر- كأنه قيل: الابتلاء حاصل لكم- وكذا البشارة- ولكن لمن صبر منكم. وقيل: على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر، وفي توصيف الصابرين بقوله تعالى:
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إشارة إلى أن الأجر لمن صبر وقت إصابتها، كما
في الخبر «إنما الصبر عند أول صدمة»
والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه في نفس أو مال أو أهل- قليلا كان المكروه أو كثيرا- حتى لدغ الشوكة، ولسع البعوضة، وانقطاع الشسع، وانطفاء المصباح، وقد استرجع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك
وقال: «كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة له وأجر»
وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل الصبر باللسان وبالقلب بأن يخطر بباله ما خلق لأجله من معرفة الله تعالى وتكميل نفسه، وأنه راجع إلى ربه وعائد إليه بالبقاء السرمدي، ومرتحل عن هذه الدنيا الفانية وتارك لها على علاتها، ويتذكر نعم الله تعالى عليه ليرى ما أعطاه أضعاف ما أخذ منه فيهون على نفسه ويستسلم له، والصبر من خواص الإنسان لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة، والاسترجاع من خواص هذه الأمة،
فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم، أن تقول عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون» وفي رواية «أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئا لم تعطه الأنبياء قبلهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ولو أعطيها الأنبياء قبلهم لأعطيها يعقوب إذ يقول: يا أسفا على يوسف»
ويسن أن يقول بعد الاسترجاع: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها،
فقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني إلخ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيرا منها» قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخلف الله تعالى لي خيرا منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
ومفعول بَشِّرِ محذوف أي برحمة عظيمة وإحسان جزيل- بدليل قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ الصلاة في الأصل على ما عليه أكثر أهل اللغة الدعاء ومن الله تعالى الرحمة، وقيل: الثناء، وقيل:
التعظيم، وقيل: المغفرة، وقال الإمام الغزالي: الاعتناء بالشأن، ومعناها الذي يناسب أن يراد هنا سواء كان حقيقيا أو مجازيا الثناء والمغفرة لأن إرادة الرحمة يستلزم التكرار، ويخالف ما
روي «نعم العدلان للصابرين الصلاة والرحمة»
وحملها على التعظيم والاعتناء بالشأن يأباهما صيغة الجمع ثم إن جوزنا إرادة المعنيين بتجويز عموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز أو بين المعنيين المجازيين يمكن إرادة المعنيين المذكورين كليهما وإلا فالمراد أحدهما والرحمة تقدم معناها، وأتي بعلى إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك وقد غشيهم وتجللهم فهو أبلغ من اللام، وجمع صَلَواتٌ للإشارة إلى أنها مشتملة على أنواع كثيرة على حسب اختلاف الصفات التي بها الثناء والمعاصي التي تتعلق بها المغفرة، وقيل: للإيذان بأن المراد صلاة بعد صلاة على حد التثنية في «لبيك وسعديك» وفيه أن مجيء الجمع لمجرد التكرار لم يوجد له نظير، والتنوين فيها وكذا فيما عطف عليها للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم- ومن- ابتدائية، وقيل تبعيضية، وثم مضاف محذوف أي من صَلَواتٌ ربهم، وأتي بالجملة اسمية للإشارة إلى أن نزول ذلك عليهم في الدنيا والآخرة.
فقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مرفوعا «من استرجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه»
وأُولئِكَ إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما
421
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ
ذكر من النعوت، والتكرير لإظهار كمال العناية بهم، ويجوز أن يكون إشارة إليهم باعتبار حيازتهم ما ذكر من- الصلوات والرحمة- المترتبة على ما تقدم، فعلى الأول المراد بالاهتداء في قوله عز شأنه هُمُ الْمُهْتَدُونَ. هو الاهتداء للحق والصواب مطلقا والجملة مقررة لما قبل كأنه قيل: وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب، ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى، وعلى الثاني هو «الاهتداء» والفوز بالمطالب، والمعنى أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [التوبة: ٢٠] بمطالبهم الدينية والدنيوية فإن من نال تزكية الله تعالى ورحمته لم يفته مطلب.
«ومن باب الإشارة والتأويل» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان العياني اسْتَعِينُوا بالصبر معي عند سطوات تجليات عظمتي وكبريائي، والصلاة أي الشهود الحقيقي إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ المطيقين لتجليات أنواري وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يجعل فانيا مقتولا في سلوك سبيل التوحيد أَمْواتٌ أي عجزة مساكين بَلْ هم أَحْياءٌ عند ربهم بالحياة الحقيقية الدائمة السرمدية شهداء لله تعالى قادرون به وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ لعمى بصيرتكم وحرمانكم من النور الذي تبصر به القلوب أعيان عالم القدس وحقائق الأرواح وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ أي خوفي الموجب لانكسار النفس وانهزامها وَالْجُوعِ الموجب لهتك البدن وضعف القوى ورفع حجاب الهوى وتضييق مجاري الشيطان إلى القلب وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ التي هي مواد الشهوات المقوية للنفس الزائدة في طغيانها وَالْأَنْفُسِ المستولية على القلب بصفاتها أو أنفس الأحباب الذين تأوون إليهم لتنقطعوا إلي وَالثَّمَراتِ أي الملاذ النفسانية لتلتذوا بالمكاشفات والمعارف القلبية والمشاهدات الروحية عند صفاء بواطنكم وخلوص نضار قلوبكم بنار الرياضة وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ معي بي أو عن مألوفاتهم بلذة محبتي الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ من تصرفاتي فيهم شاهدوا آثار قدرتي بل أنوار تجليات صفتي واستسلموا وأيقنوا أنهم ملكي أتصرف فيه بتجلياتي وتفانوا فيّ وشاهدوا هلكهم بي- فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم- بالوجود الموهوب لهم بعد الفناء المنهلة عليه صفاتي الساطعة عليه أنواري وَرَحْمَةٌ أي هداية يهدون بها خلقي، ومن أراد التوجه نحوي وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بي الواصلون إلي بعد تخلصهم من وجودهم الذي هو الذنب الأعظم عندي.
422
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لما أشار سبحانه فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالم الحج فكأنه جمع بين الحج والغزو، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال، وقيل: لما ذكر الصبر عقبه ببحث الحج لما فيه من الأمور المحتاجة إليه، والصَّفا في الأصل الحجر الأملس مأخوذ من صفا يصفو إذا خلص، واحده صفاة- كحصى وحصاة، ونوى ونواة- وقيل: إِنَّ الصَّفا واحد قال المبرد وهو كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب، وأصله من الواو لأنك تقول في تثنيته صفوان ولا يجوز إمالته، وَالْمَرْوَةَ في الأصل الحجر الأبيض اللين- والمرو- لغة فيه، وقيل: هو جمع مثل تمرة وتمر، وثم صارا في العرق علمين لموضعين معروفين بمكة للغلبة، واللام لازمة فيهما، وقيل: سمي الصَّفا لأنه جلس عليه آدم صفي الله تعالى، وسمي- المروة- لأنه جلست عليه امرأته حواء، والشعائر- جمع شعيرة، أو شعارة- وهي العلامة- والمراد بهما أعلام المتعبدات أو العبادات الحجية، وقيل: المعنى إن الطواف بين هذين الجبلين من علامات دين الله تعالى، أو أنهما من المواضع التي يقام فيها دينه، أو من علاماته التي تعبد بالسعي بينهما لا من علامات الجاهلية فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ الحج لغة القصد مطلقا أو إلى معظم، وقيده بعضهم بكونه على وجه التكرار، والعمرة- الزيارة أخذا من العمارة كأن الزائر يعمر المكان بزيارته فغلبا شرعا على المقصد المتعلق بالبيت وزيارته على الوجهين المخصوصين، والْبَيْتَ خارج من المفهوم، والنسبة مأخوذة فيه فلا بد من ذكره فلا يرد أن البيت مأخوذ في مفهومهما فيكفي من حج أو اعتمر ولا حاجة إلى أن يتكلف بأنه مأخوذ في مفهوم الاسمين خارج عن مفهوم الفعلين، وعلى تقدير أخذه في مفهومهما يعتبر التجريد ليظهر شرف البيت فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي لا إثم عليه في أن يطوف. وأصل الجناح الميل، ومنه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ [الأنفال: ٦١] وسمي الإثم به لأنه ميل من الحق إلى الباطل، وأصل يطوف يتطوف فأدغمت التاء في الطاء، وسبب النزول ما صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون الله تعالى فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومن يعلم دفع ما يتراءى انه لا يتصور فائدة في نفي الجناح بعد إثبات أنهما من الشعائر بل ربما لا يتلازمان إذ أدنى مراتب الأول الندب وغاية الثاني الإباحة، وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف بينهما في الحج والعمرة لدلالة نفي الجناح عليه قطعا لكنهم اختلفوا في الوجوب، فروي عن أحمد أنه سنة- وبه قال أنس وابن عباس وابن الزبير- لأن نفي الجناح يدل على الجواز، والمتبادر منه عدم اللزوم كما في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا [البقرة: ٢٣٠] وليس مباحا بالاتفاق ولقوله تعالى: مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فيكون مندوبا، وضعف بأن نفي الجناح. وإن دل على الجواز المتبادر منه- عدم اللزوم إلا أنه يجامع الوجوب فلا يدفعه ولا ينفيه- والمقصود ذلك- فلعل هاهنا دليلا يدل على الوجوب كما في قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء: ١٠١] ولعل هذا كقولك لمن عليه صلاة الظهر مثلا وظن أنه لا يجوز فعلها عند الغروب فسأل عن ذلك: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت فإنه جواب صحيح لا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر، وعن الشافعي ومالك إنه ركن- وهو رواية عن الإمام أحمد- واحتجوا بما
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا»
ومذهب إمامنا أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه واجب يجبر بالدم لأن الآية لا تدل إلا على نفي الإثم المستلزم للجواز، والركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد، والحديث إنما يفيد حصول الحكم معللا ومقررا في الذهن، ولا يدل على بلوغه غاية الوجوب بحيث يفوت الجواز بفوته لتتحقق الركنية وهو ظني السند وإن فرض
424
قطعي الدلالة فلا يدل على الفرضية، وما روى مسلم عن عائشة أنها قالت- لعمري ما أتم الله تعالى حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته- ليس فيه دليل على الفرضية أيضا سلمنا لكنه مذهب لها، والمسألة اجتهادية فلا تلزم به على أنه معارض بما
أخرجه الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي أنه قال: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمزدلفة فقلت: «يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال: من صلي معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه، وقضى تفثه»
فأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بتمام حجه، وليس في السعي بينهما، ولو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله، وقرأ ابن مسعود وأبيّ- أن لا يطوف- ولا تصلح أن تكون ناصرة للقول الأول لأنها شاذة لا عمل بها مع ما يعارضها ولاحتمال أن «لا» زائدة كما يقتضيه السياق.
وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي من انقاد انقيادا- خيرا أو بخير، أو آتيا بخير- فرضا كان أو نفلا، وهو عطف على فَمَنْ حَجَّ إلخ مؤكد أمر الحج والعمرة والطواف تأكيد الحكم الكلي للجزئي، أو من تبرع تبرعا- خيرا- أو بخير أو آتيا بخير من حج أو عمرة أو طواف لقرينة المساق، وعليه تكون الجملة مسوقة لإفادة شرعية التنفل بالأمور الثلاثة، وفائدة خَيْراً على الوجهين مع أن التطوع لا يكون إلا كذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أي خير كان يثاب عليه، أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من السعي فقط بناء على أنه سنة، والجملة حينئذ تكميل لدفع ما يتوهم من نفي الجناح من الإباحة، وفائدة القيد التنصيص بخيرية الطواف دفعا لحرج المسلمين. وقرأ ابن مسعود- ومن تطوع بخير- وحمزة والكسائي ويعقوب- يطوع- على صيغة المضارع المجزوم لتضمن مِنْ معنى الشرط وأصله- يتطوع- فأدغم فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ أي مجاز على الطاعة بالثواب وفي التعبير به مبالغة في الإحسان إلى العباد. عَلِيمٌ. مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا، وبهذا ظهر وجه تأخير هذه الصفة عما قبلها، ومن قال: أتى بالصفتين هاهنا- لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل وذكر العلم باعتبار القصد وأخر صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر كما أن النية متقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآي- لم يأت بشيء.
وهذه الجملة علة لجواب الشرط المحذوف قائم مقامه كأنه قيل: ومن تطوع خيرا جازاه الله تعالى أو أثابه فإن الله شاكر عليم- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ. وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وعن قتادة أنها نزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى، وقيل: نزلت في كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل فقد روى البخاري وابن ماجة وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا هذه الآية،
وأخرج أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار»
والأقرب أنها نزلت في اليهود والحكم عام كما تدل عليه الأخبار وكونها نزلت في اليهود لا يقتضي الخصوص فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فالموصول للاستغراق ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا، والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه واليهود قاتلهم الله تعالى ارتكبوا كلا الأمرين ما أَنْزَلْنا على الأنبياء مِنَ الْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحة الدالة على الحق ومن ذلك ما أنزلناه على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم.
425
وَالْهُدى عطف على الْبَيِّناتِ والمراد به- ما يهدي- إلى الرشد مطلقا ومنه- ما يهدي- إلى وجوب اتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم والإيمان به وهي الآيات الشاهدة على صدقه عليه الصلاة والسلام، والعطف باعتبار التغاير في المفهوم كجاءني الآكل فالشارب، وقيل: إنه عطف على ما أَنْزَلْنا إلخ، والمراد بالأول الأدلة النقلية، وبالثاني ما يدخل فيه الأدلة العقلية، أو المراد بالأول التنزيل، وبالثاني ما يقتضيه من الفوائد، ولا يخفى أنه تكلف يأبى عنه قرب المعطوف عليه والتبيين الدال على كمال الوضوح في قوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف متعلق- بيكتمون- واللام في- الناس- صلة- بينا- أو لام الأجل، والمراد بهم الجنس أو الاستغراق، وفي تقييد الكتمان بالظرف إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح- للناس- وإلى عظم الإثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام فِي الْكِتابِ متعلق- ببيناه- وتعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب في جوازه، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله، والمراد به الجنس، وقيل: التوراة، وقيل: هي والإنجيل، وقيل: القرآن، والمراد من الناس أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن الناس من حمل- البينات- على ما في القرآن وعلق مِنْ بَعْدِ ب أَنْزَلْنا، وفسر الْكِتابِ بالتوراة- والكتمان- بعدم الاعتراف بالحقية، ولعل ما ذهبنا إليه أولى من جميع ذلك أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي يبعدهم عن رحمته ويذيقهم أليم نقمته والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال، ولم يؤت بالفاء في هذه الجملة التي هي خبر الموصول كما أتي به فيما بعد من قوله سبحانه: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ مع أن الموصول متضمن لمعنى الشرط وقصد السببية في الموضعين ولذا أورد اسم الإشارة الذي تعليق الحكم به كتعليقه بالمشتق، قيل: لئلا يتوهم أن- لعنهم- إنما هو بهذا السبب بناء على أن- فاء- السببية في الأصل لكونه- فاء- التعقيب يفيد أن حصول المسبب بعد السبب بلا تراخ، وقد يقصد منه ذلك بمعونة المقام كما في الآية بعد، وليس كذلك بل له أسباب جمة وبهذا علم أن اسم الإشارة لا يغني عن الفاء لأنه يشعر بالسببية ولا يشعر بالتعقيب الموهم للانحصار بناء على امتناع التوارد.
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي من يتأتى منه اللعن عليهم من الملائكة والثقلين، فالمراد- باللاعنون- معناه الحقيقي وليس على حد من- قتل قتيلا- في المشهور والاستغراق عرفي أي كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف، وليس بحقيقي حتى يرد أنه لا يلعنهم كل لاعن في الدنيا، ويحتاج إلى التخصيص وإنما أعاد الفعل لأن لعنة اللاعنين بمعنى الدعاء عليهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد تفسير اللاعنين بدواب الأرض حتى العقارب والخنافس، ولعل الجمع حينئذ على حد قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ٤] واستدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة وحرمة كتمانه لكن اشترطوا لذلك أن لا يخشى العالم على نفسه وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم إلا إن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر من نفعه قالوا: وفيها دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقد يستدل بها على عدم وجوب ذلك على النساء بناء على أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عن الكتمان أو عنه وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه بناء على أن حذف المعمول يفيد العموم، وفيه إشارة إلى أن التوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف اللعن عنهم ما لم يتوبوا عن الجميع فإن للعنهم أسبابا جمة وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق ومن ذلك أن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال وأن يزيلوا الكلام المحرف ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف وَبَيَّنُوا
426
أي أظهروا ما بينه الله تعالى للناس معاينة وبهذين الأمرين تتم التوبة، وقيل: أظهروا ما أحدثوه من التوبة ليمحوا سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم فإن إظهار التوبة ممن يقتدي به شرط فيها على ما يشير إليه بعض الآثار، وفيه إن الصحيح أن إظهار التوبة إنما هو لدفع معصية المتابعة وليس شرطا في التوبة عن أصل المعصية فهو داخل في قوله تعالى: وَأَصْلَحُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ عطف على ما قبله تذييل له والالتفات إلى التكلم للإفتنان مع ما فيه من الرمز إلى اختلاف مبدأ فعليه السابق واللاحق إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الموصول للعهد كما هو الأصل، والمراد به الذين كتموا وعبر عن الكتمان بالكفر نعيا عليهم به، والجملة عديلة لما فيها إِلَّا ولم تعطف عليها إشارة إلى كمال التباين بين الفريقين، والآية مشتملة على الجمع والتفريق جمع الكاتمين في حكم واحد وهو أنهم ملعونون ثم فرق فقال: أما الذين تابوا فقد تاب الله تعالى عليهم وأزال عنهم عقوبة اللعنة، وأما الذين ماتوا على الكتمان ولم يتوبوا عنه فقد استقرت عليهم اللعنة ولم تزل عنهم.
وأورد كلمة الاستثناء في الجملة الأولى مع أنه ليس للإخراج عن الحكم السابق بل هو بمعنى لكن للدلالة على أن التوبة صارت مكفرة للعن عنهم فكأنهم لم يباشروا ولم يدخلوا تحته- قاله بعض المحققين- وفيه ارتكاب خلاف الظاهر في الاستثناء ولهذا قال البعض إن المراد بالجملة المستثنى منها بيان دوام اللعن واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل، وجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الاستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين والاقتصار على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح والتبيين مبني على أن وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعها كما أن وجودها مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر، ولذا لم يصرح بالإيمان في صفات التائبين، والفرق بين الدوامين أن الأول تجددي، والثاني ثبوتي- ولا يخفى أن هذا أوفق بظاهر اللفظ- وما ذكره بعض المحققين أجزل معنى وأعلى كعبا وأدق نظرا، وقيل: الموصول عام للذين كتموا وغيرهم كما يقتضيه ظاهر الصلة، والآية من باب التذييل فيدخل الكاتمون الذين ماتوا على الكتمان دخولا أوليا، واعترض بأن تقييد الوعيد بعدم التخفيف أعدل شاهد على أن الآية في شأن الكاتمين الذين ماتوا على ذلك لأنهم أشد الكفرة وأخبثهم فإن الوعيد في حق الكفرة مطلق الخلود في النار، وأنت تعلم أن هذا في حيز المنع بل ما من كافر جهنمي إلا وحاله يوم القيامة طبق ما ذكر في الآية ولا أظنك في مرية من ذلك بعد سماع قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: ٧٥] فلا يبعد القول بحسن هذا القيل- وإليه ذهب الإمام- وكلام الطيبي يشير إلى حسنه وطيبه فتدبر.
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ المراد استمرار ذلك ودوامه فهذا الحكم غير ما سبق إذ المراد منه حدوث اللعنة ووقوعها عليهم وليس المقصود من ذكر- الملائكة والناس- التخصيص لينافي العموم السابق ولا العموم ليرد خروج المهيمين الذين لا شعور لهم بذواتهم وكثير من الأتقياء الذين لا يلعنون أحدا بل المقصود أنه يلعنهم هؤلاء المتعدون من خلقه وأَجْمَعِينَ تأكيد بالنسبة إلى الكل لا للناس فقط، والمراد بهم المؤمنون لأنهم المعتدّون منهم، والكفار كالإنعام لأنه لا يحسم مادة الإشكال، وقيل: إنه باق على عمومه والكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة، أو الجملة مساقة للإخبار باستحقاق أولئك اللعن من العموم لا بوقوعه بالفعل ولم يكرر اللعنة هنا كما كرر الفعل قبل اكتفاء به وافتنانا في النظم الكريم ومناسبة لما يشعر به التأكيد. وقرأ الحسن- والملائكة والناس أجمعون- بالرفع، وخرج على وجوه، فقيل: عطف على لَعْنَةُ بتقدير لعنة الله ولعنة الملائكة فحذف المضاف من الثاني وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: مبتدأ محذوف الخبر أي- والملائكة، والناس يلعنونهم- أو فاعل لفعل محذوف أي
427
يلعنهم، وقيل إن لَعْنَةُ مصدر مضاف إلى فاعله والمرفوع معطوف على محله، وقد أتبعت العرب فاعل المصدر على محله رفعا كقوله:
مشى الهلوك عليها الخيعل «الفضل» برفع الفضل وهو صفة للهلوك على الموضع، وإذا ثبت في النعت جاز في العطف إذ لا فارق بينهما، وادعى أبو حيان عدم الجواز لأن شرط العطف على الموضع أن يكون ثمت طالب ومحرز للموضع لا يتغير، وأيضا لَعْنَةُ وإن سلم مصدريته فهو إنما يعمل إذا انحل- لأن، والفعل- وهنا المقصود الثبوت فلا يصح انحلاله لهما وسلمه له غيره، وقالوا: إنه مذهب سيبويه خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، وهو يؤكد ما تفيده اسمية الجملة من الثبات، وجوز رجوع الضمير إلى النار والإضمار قبل الذكر يدل على حضورها في الذهن المشعر بالاعتناء المفضي إلى التفخيم والتهويل، وقيل: إن اللعن يدل عليها إذ استقرار الطرد عن الرحمة يستلزم الخلود في النار خارجا وذهنا، والموت على الكفر وإن استلزم ذلك خارجا لكنه لا يستلزمه ذهنا فلا يدل عليه، وخالِدِينَ على كلا التقديرين في المرجع حال مقارن لاستقرار اللعنة لا كما قيل: إنه على الثاني حال مقدرة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيانه كثرته من حيث الكم، وإما حال من ضمير عليهم أيضا أو من ضمير خالِدِينَ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفي واستمراره، والفعل إما من الإنظار بمعنى التأخير- أي لا يمهلون- عن العذاب ولا يؤخرون عنه ساعة.
وإما من النظر بمعنى الانتظار أي- لا ينتظرون- ليعتذروا، وإما من النظر بمعنى الرؤية أي- لا ينظر الله تعالى إليهم نظر رحمة- والنظر بهذا المعنى يتعدى بنفسه أيضا كما في الأساس فيصاغ منه المجهول. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ نزلت كما روي عن ابن عباس لما قال كفار قريش للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: صف لنا ربك، والخطاب عام لكل من يصح أن يخاطب كما هو الظاهر غير مختص بشأن النزول، والجملة معطوفة على إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ عطف القصة على القصة، والجامع أن الأولى مسوقة لإثبات نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه لإثبات وحدانيته تعالى، وقيل:
الخطاب للكاتمين، وفيه انتقال عن زجرهم عما يعاملون رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم حيث يكتمون وحدانيته، ويقولون: عزير، وعيسى- ابنان لله عز وجل، وفيه أنه وإن حسن الانتظام إلا أنه فيه خروج شأن النزول عن الآية- وهو باطل- وإضافة- إله- إلى ضمير المخاطبين باعتبار الاستحقاق لا باعتبار الوقوع فإن الآلهة الغير المستحقة كثيرة، وإعادة لفظ- إله- وتوصيفه بالوحدة لإفادة أن المعتبر الوحدة في الألوهية، واستحقاق العبادة، ولولا ذلك لكفي- وإلهكم واحد- فهو بمنزلة وصفهم الرجل- بأنه سيد واحد، وعالم واحد- وقال أبو البقاء: إله- خبر المبتدأ، وواحِدٌ صفة له، والغرض هنا هو الصفة إذ لو قال:- وإلهكم واحد- لكان هو المقصود إلا أن في ذكره زيادة تأكيد، وهذا يشبه الحال الموطئة كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا، وكقولك في الخبر: زيد شخص صالح، ولعل الأول ألطف، وأكثر الناس على أن الواحد هنا بمعنى لا نظير له ولا شبيه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقيل: إن المراد به ما ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه الانقسام ولا يحتمل التجزئة أصلا، وليس المعنى به هنا مبدأ العدد، وأصح الأقوال عند ذوي العقول السليمة أنه الذي لا نظير له ولا شبيه له في استحقاق العبادة، وهو مستلزم لكل كمال آب عما فيه أدنى وصمة وإخلال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر ثان للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، وعلى أي تقدير هو مقرر للوحدانية، ومزيح- على ما قيل- لما عسى أن يتوهم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة، والضمير المرفوع على الصحيح بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف فهو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، وقد اختلف في المنفي هل المعبود بحق أو المبعود بباطل، فقال محمد الشيشيني: النفي إنما تسلط
428
على الآلهة المعبودة بباطل تنزيلا لها منزلة العدم، وقال عبد الله الهبطي: إنما تسلط على الآلهة المعبودة بحق ولك انتصر بعض، وذكر الملوي أن الحق مع الثاني لأن المعبود بباطل له وجود في الخارج، ووجود في ذهن المؤمن بوصف كونه باطلا، ووجود في ذهن الكافر بوصف كونه حقا فهو من حيث وجوده في الخارج في نفسه لا تنفى لأن الذات لا تنفى، وكذا من حيث كونه معبودا بباطل لا ينفى أيضا إذ كونه معبودا بباطل أمر حق لا يصح نفيه وإلا كان كذبا، وإنما ينفى من حيث وجوده في ذهن الكافر من حيث وجوده في ذهنه بوصف كونه معبودا بحق، فالمعبودات الباطلة لم تنف إلا من حيث كونها معبودة بحق لم ينف في هذه الكلمة إلا المعبود بحق غيره تعالى فافهم، وسيأتي تحقيق ما في هذه الكلمة الطيبة في محله إن شاء الله تعالى: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. خبران آخران بعد خبر أو خبرين لقوله تعالى إِلهُكُمْ أو لمبتدأ محذوف والجملة معترضة، أو بدلان على رأي وجيء بهما لتمييز الذات الموصوفة بالوحدة عما سواه وليكون الجواب، موافقا لما سألوه وفي ذلك إشارة إلى حجة الوحدانية لأنه لما كان مولى النعم كلها أصولا وفروعا دنيا وأخرى، وما سواه إما خير محض أو خير غالب، وهو إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره لاستواء الكل في الاحتياج إليه تعالى في الوجود وما يتبعه من الكمالات.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أخرج البيهقي عن أبي الضحى- معضلا- أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك، فنزلت.
ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان، وإنما جمع السَّماواتِ وأفرد الْأَرْضِ للانتفاع بجميع أجزاء الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها- وهي ما نشاهده منها- وقال أبو حيان: لم تجمع الْأَرْضِ لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد، وجمع لم يقع مفرده- كالألباب- وفي المثل السائر نحوه، وقال بعض المحققين:
جمع السَّماواتِ لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى:
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: ٢٩] سواء كانت متماسة- كما هو رأي الحكيم- أو لا، كما جاء في الآثار- أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام- مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: ١٢] يدل عليه، ولم يجمع الْأَرْضِ لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك فإنها سواء كانت متفاصلة بذواتها، كما ورد في الأحاديث- من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءين- أو لا تكون متفاصلة- كما هو رأي الحكيم- غير مختلفة في الحقيقة اتفاقا.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تعاقبهما وكون كل منهما خلفا للآخر، أو اخْتِلافِ كل منهما في أنفسهما إزديادا وانتقاصا، أو ظلمة ونورا، وقدم اللَّيْلِ لسبقه في الخلق أو لشرفه.
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ عطف على خَلْقِ السَّماواتِ لا على السَّماواتِ أو عطف على اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ من الألفاظ التي استعملت مفردا وجمعا، وقدر بينهما تغاير اعتباري، فإن اعتبر أن ضمته أصلية كضمة- قفل- فمفرد، وإن اعتبر أنها عارضة كضمة- أسد- فجمع، ومن الأول قوله تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء: ١١٩] ومن الثاني قوله تعالى: إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: ٢٢] وقيل: إنه جمع فلك- بفتح الفاء وسكون اللام- وقيل: إنه اسم جمع، وزعم بعضهم أنه قرىء «فلك» بضمتين وهو عند بعض مفرد لا غير وقال الكواشي: الفلك، والفلك- بضمتين- لغتان الواحد والجمع سواء في اللفظ، ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما وإفراده.
429
بِما يَنْفَعُ النَّاسَ «ما» إما مصدرية أي- بنفعهم- أو موصولة أي- بالذي ينفعهم- وعلى الأول ضمير الفاعل إما- للفلك- لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى- كما قيل- أو- للجري- أو- للبحر- واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الاستدلال وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ عطف على الْفُلْكِ قيل: وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفضيل، وقيل: المقصود من الأول الاستدلال ب الْبَحْرِ وأحواله لا ب الْفُلْكِ الجاري فيه لأن الاستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء، أو العلم بكيفية اجرائه، أو- بتسخير الريح والبحر- لذلك، أو توسله إلى بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وشيء منها ليس من حاله في نفس، ولأن الاستدلال- بالفلك الجاري في البحر- استدلال بحال من أحوال الْبَحْرِ بخلاف ما لو استدل ب الْبَحْرِ وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام، إلا أنه خص الْفُلْكِ بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذ أن يقال: والعجائب التي في البحر- لأنه سبب الإطلاع على أحواله وعجائبه- فكان ذكره ذكرا لجميع أحواله، وطريقا إلى العلم بوجوه دلالته، ولذلك قدم على ذكر- المطر والسحاب- لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وإلا فالمناسب بعد ذكر اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الذي هو من الآيات العلوية ذكر- المطر والسحاب- اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم الْفُلْكِ في البين لكونها من الآيات السفلية. وعندي أن هذا خلاف الظاهر جدا- وإن جل قائله- إذ يؤول المعنى إلى- والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس- وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعول عليه، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة، متعلقة بحبال الهواء على لطفه، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه، وكون شيء من ذلك ليس حالا لها في نفسها غير مسلم، ووجه الترتيب- على ما أرى- أنه سبحانه ذكر أولا خلق أمرين علوي وسفلي، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي «ثانيا» إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما ازديادا وانتقاصا أو ظلمة ونورا إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابا وإيابا بِما يَنْفَعُ النَّاسَ في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم، وهو الْفُلْكِ التي تجري على كبد الْبَحْرِ بذلك، ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك، فالآية حينئذ على حد قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: ٣٧- ٤١] إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي، وله مناسبة لذكر الْبَحْرِ بل ولذكر الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فيه بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفينا في الأرض بالإحياء، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. ومِنَ الأولى ابتدائية والثانية بيانية، وجوّز أن
تكون تبعيضية وأن تكون بدلا من الأولى، والمراد من السَّماءِ جهة العلو، وقد تقدم تحقيق ذلك فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بتهييج قواها النامية، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار بَعْدَ مَوْتِها وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عطف إما على أَنْزَلَ والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل، وفَأَحْيا من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعا للعطف، إما على «أحيا» فيدخل تحت فاء السببية، وسببية إنزال «الماء»
430
للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب- والبث- فرع الحياة، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لا غناء فاء السببية عنه في المشهور، وقيل: يحتاج إلى تقدير به- أي بالماء- ليشعر بارتباطه ب أَنْزَلَ استقلالا كأحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما، وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي، و «من» بيانية على التقدير الأول على الصحيح، والمراد مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ كل نوع من الدواب، ومعنى- بثها- تكثيرها بالتوالد والتولد، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض، وقيل: تبعيضية لأن الله تعالى لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته، على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضا في سورة «حمعسق»، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في السماء، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءا من مدخولها لا فردا منه، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين، وعدم صحة التبعيض، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخفش وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي تقليب الله تعالى لها جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا، حارة. وباردة. وعاصفة. ولينة. وعقيما. ولواقح، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي الريح على الإفراد وأريد به الجنس، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- الرياح- للرحمة والريح للعذاب،
وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا هبت ريح «قال: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
ولعله قصد بالأول، والثاني قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: ٤٦] وقوله تعالى:
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: ٤١] وعقب إحياء الأرض بالمطر، وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك الله تعالى الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار وَالسَّحابِ عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ صفة- للسحاب- باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع ك سَحاباً ثِقالًا [الأعراف: ٥٧] و «بين» ظرف لغو متعلق بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا، وقيل: الظرف مستقر وقع حالا من ضمير المسخر ومتعلقه محذوف أي المسخر للرياح حيث تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى، وتوقيت تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الروم: ٤٨، فاطر:
٩] ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدىء به منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه، وبما ذكرنا علم وجه الترتيب في الآية، وقال بعض الفضلاء: لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة، ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى: لَآياتٍ اسم «إن» دخلته- اللام- لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الإلهية به سبحانه لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يتفكرون، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته،
أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها»
وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى عن سائرها، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة،
431
وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضي ذاته وجوده فضلا عن وجوده على النمط الكذائي فإذا لا بد له من موجد لامتناع وجود الممكن بلا موجد، قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح يوجده حسبما يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة وتقتضيه مشيئته، متعال عن مقابلة غيره إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر الحق تعالى عليه فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه مخصوص أراده الآخر فالتأثير إن كان لكل منهما لزم اجتماع فاعلين على أثر واحد وهو يستلزم اجتماع العلتين التامتين، وإن كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لاستوائهما في إرادة إيجاده على الاستقلال، وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه إيقاع ما أراده، وإن اختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده على نحو، وأراد الآخر وجوده على نحو آخر لزم التمانع والتطارد لعدم المرجح فيلزم عجزهما والعجز مناف للألوهية بديهة، وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الدالة على توحيده تعالى، و «من» دون الله حال من ضمير «يتخذ» والأنداد- الأمثال والمراد بها الأصنام كما هو الشائع في القرآن، والمروي عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين، وقيل:
الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال، وروي عن السدي- ونسب إلى الصادق رضي الله تعالى عنه-
وقيل: المراد أعم منهما وهو ما يشغل عن الله تعالى والمعنى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ متجاوزين الإله الواحد الذي ذكرت شؤونه الجليلة أمثالا فلا يقصرون الطاعة عليه سبحانه بل يشاركونهم إياه، وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غبّ تعيينه بالصفات يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ إما جملة مستأنفة أو صفة الأنداد، أو صفة- لمن- إذا جعلتها نكرة موصوفة مسوقة لبيان وجه الاتخاذ، والمحبة- ميل القلب من الحب واحد الحبوب استعير لحبة القلب وسويدائه ثم اشتق منه الحب لأنه يؤثر في صميم القلب ويرسخ فيه، ومحبة العباد لله تعالى عند جمهور المتكلمين نوع من الإرادة سواء قلنا إنها نفس الميل التابع لاعتقاد النفع كما هو رأي المعتزلة، أو صفة مرجحة مغايرة له كما هو مذهب أهل السنة فلا تتعلق إلا بالجائزات ولا يمكن تعلقها بذاته تعالى فمحبة العبد له سبحانه إرادة طاعته وتحصيل مراضيه وهذا مبني على انحصار المطلوب بالذات في اللذة ورفع الألم، والعارفون بالله سبحانه قالوا: إن الكمال أيضا محبوب لذاته فالعبد يحب الله تعالى لذاته لأنه الكامل المطلق الذي لا يداني كماله كمال، وأما محبة خدمته وثوابه فمرتبة نازلة، ومحبة الله تعالى للعباد صفة له عز شأنه لا تتكيف ولا يحوم طائر الفكر حول حماها، وقيل: إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي، والمراد بالمحبة هنا التعظيم والطاعة أي أنهم يسوون بين الله تعالى وبين الأنداد المتخذة فيعظمونهم ويطيعونهم كما يعظمون الله تعالى ويميلون إلى طاعته، وضمير الجمع المنصوب راجع إلى الأنداد فإن أريد بها الرؤساء فواضح وإلا فالتعبير عنها بضمير العقلاء باعتبار ذلك الزعم الباطل أنهم أنداد الله تعالى والمصدر المضاف من المبني للفاعل وفاعله ضميرهم بقرينة سبق الذكر وإن المشركين يعترفون به تعالى ويلجأون إليه في الشدائد وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
[لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: ٦٥]، وقيل وهو الخلاف الظاهر وعدول عما يقتضيه كون جملة- يحبونهم بيانا لوجه الاتخاذ إنه مصدر المبني للمفعول واستغني عن ذكر من يحب لأنه غير ملبس، والمعنى على تشبيه محبوبية الأنداد من جهة المشركين بمحبوبيته تعالى من جهة المؤمنين، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأن التشبيه إنما وقع بين المحبوبيتين وذلك يقتضي أن يكون محبوبية الأصنام مماثلا لمحبوبيته تعالى، والترجيح بين المحبتين لكن باعتبار رسوخ إحداهما دون الأخرى فإن المراد
432
بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرؤون منها عند معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره وربما أكلوه- كما يحكى: أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها- ولله أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته كانتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر، وليس المراد من شدة المحبة شدتها. وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال: إن محبتهم أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه اختيار- أشد حبا- على أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر ولهذا نزل فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وكان أحب الأعمال إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أدومها، وقال العلامة: عدل عن أحب إلى أشد- لأنه شاع في الأشد محبوبية- فعدل عنه احترازا عن اللبس، وقيل: إن أحب أكثر من حب، فلو صيغ منه أفعل لتوهم أنه من المزيد.
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لو يعلم هؤلاء الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاتخاذ المذكور، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلك- الاتخاذ- ظلم عظيم، وأن اتصاف المتخذين به أمر معلوم مشهور حيث عبر عنه بمطلق الظلم، والموصول والصلة للاشعار بسبب- رؤيتهم العذاب- المفهومة من قوله سبحانه:
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي عاينوا الْعَذابَ المعد لهم وأبصروه يوم القيامة، وأورد صيغة المستقبل بعد لَوْ وإِذْ المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضيا تأويلا مستقبلا تحقيقا فروعي الجهتان.
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ساد مسد مفعولي يرى، وجواب لَوْ محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف، وقيل: هو متعلق الجواب- والمفعولان محذوفان- والتقدير وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أندادهم لا تنفع لعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب «ترى» على أن الخطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، فالجواب حينئذ- لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة- وابن عامر «إذ يرون» بالبناء للمفعول، ويعقوب «إن» بالكسر، وكذا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ على الاستئناف أو إضمار القول- أي قائلين ذلك- وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص الْقُوَّةَ به تعالى لا يوجب شدة «العذاب» لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا بدل من إِذْ يَرَوْنَ مطلقا وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بالجواب ومتعلقة لطول البدل، وجوّز أن يكون ظرفا ل شَدِيدُ الْعَذابِ أو مفعولا- لاذكروا- وزعم بعضهم أنه بدل من مفعول «ترى» على قراءة الخطاب، كما أن إِذْ يَرَوْنَ بدل منه أيضا أَنَّ الْقُوَّةَ في موضع بدل الاشتمال من الْعَذابَ ولا يخفى أن هذا يقتضي جواز تعدد البدل ولم يعثر عليه في شيء من كتب النحو، وأيضا يرد عليه أن المبدل منه في بدل الاشتمال يجب أن يكون متقاضيا للبدل دالا عليه إجمالا، وأن يكون البدل مشتملا على ضمير المبدل منه- وكلاهما مفقودان- والمعنى «إذ تبرأ» الرؤساء المتبعون مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي المرءوسين بقولهم: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: ٦٣] وقرأ مجاهد «الأول» على البناء للفاعل «والثاني» على البناء للمفعول، أي تبرأ الأتباع وانفصلوا عن متبوعيهم، وندموا على عبادتهم وَرَأَوُا الْعَذابَ حال من- الأتباع والمتبوعين- كما في لقيته راكبين- أي رائين له- فالواو- للحال، وقد مضمرة، وقيل: عطف على تَبَرَّأَ وفيه أنه يؤدي إلى إبدال وَرَأَوُا الْعَذابَ من إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وليس فيه كثير فائدة لأن فاعل الفعلين- وإن كانا متغايرين- إلا أن تهويل الوقت باعتبار ما وقع فيه- وهو رؤية العذاب- ولأن الحقيق بالاستفظاع- هو تبرؤهم حال رؤية العذاب- لا هو نفسه،
433
وأجيب أن البدل الوقت المضاف إلى الأمرين، والمبدل منه الوقت المضاف إلى واحد- وهو الرؤية فقط- وفيه أن هذا أيضا لا يخرج ذلك عن الركاكة إِذْ بعد تهويل الوقت بإضافته إلى- رؤية العذاب- لا حاجة إلى جمعها مع التبري بخلاف ما إذا جعل حالا، فإن البدل هو التبرؤ الواقع في حال رؤية العذاب.
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ إما عطف على تَبَرَّأَ أو رَأَوُا أو حال، ورجح الأول لأن الأصل في- الواو- العطف، وفي الجملة الاستقلال ولإفادته تكثير أسباب التهويل والاستفظاع مع عدم الاحتياج إلى تقدير قد والباء من بِهِمُ للسببية، أي تَقَطَّعَتْ بسبب كفرهم الْأَسْبابُ التي كانوا يرجون منها النجاة، وقيل: للملابسة أي- تقطعت الأسباب- موصولة بِهِمُ كقولك: خرج زيد بثيابه، وقيل: بمعنى عن، وقيل: للتعدية، أي- قطعتهم الأسباب- كما تقول: تفرقت بهم الطريق، ومنه قوله تعالى: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الإنعام: ١٥٣] وأصل- السبب- الحبل مطلقا، أو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، أو الحبل الذي أحد طرفيه متعلق بالسقف، أو الحبل الذي يرتقي به النخل. والمراد ب الْأَسْبابُ هنا الوصل التي كانت بين- الأتباع والمتبوعين- في الدنيا من الأنساب والمحاب، والاتفاق على الدين، والاتباع والاستتباع، وقرىء تَقَطَّعَتْ بالبناء للمفعول- وتقطع- جاء لازما ومتعديا وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي لو ثبت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا.
فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من المتبوعين كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله تعالى فيتبرؤوا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعا مثل تبري المتبوعين منهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم، أي كما جعلوا بالتبري غائظين متحيرين على متابعتهم نجعلهم أيضا بالتبري غائظين متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم، ولذا لم يتبرؤوا منهم قبل تمني الرجوع لأنه لا يغيظ المتبوعين حيث تبرؤوا من الأتباع أو لا، ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل لأن تبرؤ الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالانفصال عنهم بعد ما تبين لهم عدم نفعهم، وذلك لا يغيظ المتبوعين لاشتغال كل منهم بما يقاسيه، فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرؤوا منهم تبرؤا يغيظهم. وأما قوله سبحانه: كَما تَبَرَّؤُا فلا يقتضي إلا وقوع التبرؤ من المتبوعين- وهو منصوص في آية أخرى- ولا يقتضي أن يكون مذكورا فيما سبق، وقيل: إن الأتباع بعد أن- تبرؤوا- من المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم ليتبرؤوا منهم فيها ويخذلوهم- فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة- ويحتاج هذا التوجيه إلى اعتبار التغليب في لَنا أي لنا ولهم، إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين.
كَذلِكَ في موضع المفعول المطلق لما بعده، والمشار إليه الإراء المفهوم من إِذْ يَرَوْنَ أي كإراء العذاب المتلبس بظهور أن الْقُوَّةَ لِلَّهِ والتبري، وتقطع الأسباب، وتمني الرجعة.
يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وجوّز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد- والكاف- مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أيضا، أي ذلك الإراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣] والجملة تذييل لتأكيد الوعيد، وبيان حال المشركين في الآخرة وخلود عذابهم، ويجوز أن تكون استئنافا كأنه لما بولغ في وعيدهم وتفظيع عذابهم كان محل أن يتردد السامع ويسأل هل لهم سوى ذلك من العذاب أم تم؟ فأجيب بما ترى، وحَسَراتٍ أي ندمات وهو مفعول ثالث ليرى إن كانت الرؤية قلبية، وحال من أَعْمالَهُمْ إن كانت بصرية، ومعنى رؤية هؤلاء المشركين أَعْمالَهُمْ السيئة يوم القيامة حَسَراتٍ رؤيتها مسطورة في كتاب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩] وتيقن الجزاء عليها، فعند ذلك يندمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى، وعَلَيْهِمْ صفة حَسَراتٍ وجوّز
434
تعلقه بها على حذف المضاف أي تفريطهم لأن- حسر- يتعدى- بعلى- واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ المتبادر في أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: ٢٩] وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود: ٩١] ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ في النار، وإذا أريد من الَّذِينَ ظَلَمُوا الكفار مطلقا دون المشركين فقط كان الحصر حقيقيا، ويكون المقصود منه المبالغة في الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم، فإن الشركة تهوّن العقوبات، وقيل: إن المقصود نفي أصل الفعل لأنه اللائق بمقام الوعيد- لا حصر النفي- إذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الانفراد وإن كان صحيحا بالنظر إلى العصاة إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في الخلود، والإقناط عن الخلاص، والرجوع إلى الدنيا، وزيادة- الباء- وإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي، وأنت تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما يقال سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر، ومن ذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [المائدة: ٣٧] فليس القول بعدم الحصر نصا في الاعتزال كما وهم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» إِنَّ الصَّفا أي الروح الصافية عن دون المخالفات وَالْمَرْوَةَ أي النفس القائمة بخدمة مولاها من إعلام دين الله ومناسكه القلبية والقالبية، فمن بلغ مقام الوحدة الذاتية، ودخل بيت الحضرة الإلهية بالفناء عن السوي أوزار الحضرة بتوحيد الصفات واتزر بأنوار الجلال والجمال فلا حرج عليه حينئذ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ويرجع إلى مقامهما بالوجود الموهوب بعد التمكين المطلوب وَمَنْ تبرع خَيْراً بالتعليم والنصيحة وإرشاد المسترشدين فإن الله يشكر عمله ويعلم جزاءه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أفضنا عليهم من أنوار المعارف وهدى الأحوال مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة أُولئِكَ يبعدهم الله تعالى ويحجبهم عنه وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ من الملأ الأعلى فلا يمدونهم، ومن المستعدين فلا يصحبونهم إِلَّا الَّذِينَ رجعوا إلى الله تعالى وعلموا أن ما هم فيه ابتلاء منه عز وجل، وأصلحوا أحوالهم بالرياضة، وأظهروا ما احتجب عنهم بصدق المعاملة فَأُولئِكَ أقبل توبتهم وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واحتجبوا عن الحق، وبقوا على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم أُولئِكَ استحقوا الطرد والبعد عن الحق وعالم الملكوت، خالِدِينَ في ذلك لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ لرسوخ الأمور الموجبة له فيهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ للزوم تلك الهيئات المظلمة إياهم وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بالذات لا شيء في الوجود غيره فأنى يعبد سواه، وهو العدم البحت إن في إيجاد سماوات الأرواح وأرض النفوس، واختلاف النور والظلمة بينهما، وفلك البدن التي تجري في بحر الاستعداد بما ينفع الناس في كسب كمالاتهم، وتكميل نشأتهم، وما أنزل الله من سماء الأرواح من ماء العلم فأحيا به أرض النفوس بعد موتها بالجهل وبث فيها القوى الحيوانية، وفرق في أفلاكها سيارات عالم الملكوت، وتصريف رياح النفحات المحركة لأغصان أشجار الشوق في رياض القلوب وسحاب التجليات المسخر بين سماء الروح وأرض النفس ليمطر قطرات الخطاب على نيران الألباب لتسكن ساعة من الاحتراق بالتهاب نار الوجد لآيات ودلائل لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بالعقل المنور بالأنوار القدسية المجرد عن شوائب الوهم، ومن الناس من يعبد من دون الله أشياء منعته عن خدمة سيده، والتوجه إليه يحبونهم ويميلون إليهم كحبهم لله ويسوون بينهم وبينه سبحانه لأنهم لم يذوقوا لذة محبته ولم يروا نور مشاهدته وحقائق وصله وقربه وَالَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الكامل أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأنهم مستغرقون بمشاهدته هائمون بلذيذ خطابه من عهد أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لا يلتفتون إلى سواه طرفة عين فهيهات أن يزول حبهم أو يميل إلى
435
الأغيار لبهم وهم أحبوه بحبه وصارت قلوبهم عرش تجلياته وقربه وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وأشركوا من هو في الحقيقة لا شيء ولا حي ولا لي في وقت رؤيتهم عذاب الاحتجاب عن رب الأرباب، وإن القدرة لله جميعا، وليس لآلهتهم التي ألهتهم عنه منها شيء لندموا وتحسروا حيث لم يقصدوا وجه الله تعالى ولم يطلبوه، وعند ذلك يتبرأ الأتباع من المتبوعين وقد رَأَوُا عذاب الحرمان وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الوصل التي كانت بينهم في الدنيا وتمنوا ما لا يمكن بحال وبقوا بحسرة وعذاب. وكذا يكون حال القوى الروحانية الصافية للقوى النفسانية التابعة لها في تحصيل لذاتها، وطوبى للمتحابين في الله تعالى عز شأنه.
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام- كما ذكره ابن جرير وابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقيل: في عبد الله بن سلام وأضرابه حيث حرموا على أنفسهم لحم الإبل لما كان حراما في دين اليهود، وقيل: في قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حيث حرموا التمر والأقط على أنفسهم، وحَلالًا إما مفعول كُلُوا أو حال من الموصول- أي كلوه حال كونه حلالا- أو صفة لمصدر مؤكد أي أكلا حلالا، ومن على التقديرين الأخيرين للتبعيض ليكون مفعولا به- لكلوا- وعلى التقدير الأول يجوز أن تكون ابتدائية متعلقة- بكلوا- أو حالا من حَلالًا وقدم عليه لتنكيره، وأن تكون ابتدائية بل هي متعينة كما في الكشف على مذهب من جعل الأصل في الأشياء الإباحة، وأن تكون تبعيضية بناء على ما ارتضاه الرضي من أن التبعيضية في الأصل ابتدائية إلا أنه يكون هناك شيء ظاهر أو مقدر هو بعض المجرور- بمن- ولا يلزم صحة إقامة لفظ البعض مقامها، والعلامة التفتازاني منع كونها تبعيضية على هذا التقدير لأنها في موضع المفعول به حينئذ، والفعل لا ينصب مفعولين وهو مبني- على ما في التسهيل وغيره- أن التبعيض معنى حقيقي- لمن- وعلامته صحة إقامة لفظ البعض مقامها، والأمر للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية وللندب كما إذا كان لمؤانسة الضيف وللإباحة فيما عدا ذلك «ومناسبة الآية لما قبلها» أنه سبحانه لما بين التوحيد ودلائله وما للتائبين والعاصين أتبع ذلك بذكر إنعامه وشمول رحمته ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الانعام وقوله تعالى طَيِّباً صفة حَلالًا ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجده فم الشرع لذيذا لا يعافه ولا يكرهه، أو تراه عينه طاهرا عن دنس الشبهة، وفائدة وصف الحلال به تعميم الحكم كما في قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الإنعام: ٣٨، هود:
٦] ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات، فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم بخلاف غير الموصوفة، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: المراد به ما تستطيبه الشهوة المستقيمة الناشئة من المزاج الصحيح، ورد بأن ما لا تستطيبه إما حلال لا شبهة فيه فلا منع وإلا خرج بقيد الحلال، وأجيب بأن المراد بالحلال ما نص الشارع على حله- وبهذا ما لم يرد فيه نص- ولكنه مما يستلذ ويشتهيه الطبع المستقيم، ولم يكن في الشرع ما يدل على حرمته كإسكار وضرر، والأولى نظرا للمقام أن يقال: إن التقييد ليس للاحتراز عما تستطيبه الشهوة الفاسدة بل لكونه معتبرا في مفهومه إذ لا يقال الطيب واللذيذ إلا على ما تستلذه الشهوة المستقيمة وتكون فائدة التوصيف حينئذ التنصيص على إباحة ما حرموه، والقول بأن في الآية على هذا التفسير إشارة إلى النهي عن الأكل على امتلاء المعدة والشهوة الكاذبة لأن ذلك لا يستطاب لأن الطعام اللذيذ المأكول كذلك مما تستطيبه الشهوة إلا أنه ليس مأكولا بالشهوة المستقيمة، وبين المعنيين بعد بعيد كما قاله بعض المحققين- واستدل بعضهم بالآية على أن من حرم طعاما مثلا فهو لاغ ولا يحرم عليه، وفيه خفاء لا يخفى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي آثاره- كما حكي عن الخليل- أو أعماله- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- أو خطاياه- كما نقل عن مجاهد- وحاصل المعنى لا تعتقدوا به وتستنوا بسنته
436
فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام،
وعن الصادق من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق والنذور في المعاصي وكل يمين بغير الله تعالى،
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمي الماشي، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بضمتين وهمزة، وفي توجيهها وجهان، الأول ما قيل: إن الهمزة أصلية من الخطأ بمعنى الخطيئة، والثاني إن الواو قلبت همزة لأن الواو المضمومة تقلب لها نحو- أجوه- وهذه لما جاورت الضمة جعلت كأنها عليها قال الزجاج: وهذا جائز في العربية، وعن أبي السمال أنه قرأ بفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو.
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي، ومُبِينٌ من أبان بمعنى بان وظهر أي ظاهر- العداوة- عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمي وليا في قوله تعالى: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: ٢٥٧] ويحتمل أن يكون ذلك من باب تحيتهم السيف، وقيل:- أبان- بمعنى أظهر أي مظهر- العداوة- والأول أليق بمقام التعليل إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك، أو علة للعلة بضم، وكل من هذا شأنه فهو- عدو مبين- أو علة للأصل بضم، وكل من هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معللا بعلتين- العداوة- والأمر بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢، الإسراء: ٦٥] ينافي ذلك لكونه مبينا على أن المعتبر في الأمر العلو- كما هو مذهب المعتزلة- وإلا فمجرد الاستعلاء لا ينافي أن يكون له سلطان، وعلى أن يكون- عبادي- لعموم الكل بدليل الاستثناء، وعلى أن الخطاب في يَأْمُرُكُمْ لجميع الناس لا للمتبعين فقط، ولا منافاة أيضا بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا وليس إلا التزيين والبعث فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له، وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم، ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين فلا بد أن يقال: يأمر لكم، وإن كان بمعنى البعث فلا بد أن يقال: يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ الأمر فلا بد من رعاية طريق استعماله- والسوء- في الأصل مصدر ساءه يسوءه سوءا أو مساءة إذا أحزنه، ثم أطلق على جميع المعاصي سواء كانت قولا أو فعلا أو عقدا لاشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها، والْفَحْشاءِ أقبح أنواعها وأعظمها مساءة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن السوء ما لا حد فيه، والْفَحْشاءِ ما فيه حد، وقيل: هما بمعنى وهو ما أنكره العقل وحكم بأنه ليس فيه مصلحة وعاقبة حميدة واستقبحه الشرع، والعطف حينئذ لتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الحقيقتين فإن ذلك سوء لاغتمام العاقل، وفحشاء باستقباحه إياه، ولعل الداعي إلى هذا القول أنه سبحانه سمى جميع المعاصي والفواحش سيئة في قوله جل شأنه: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة: ٨١] وإِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود:
١١٤] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] وسمى جميع المعاصي بالفواحش فقال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف: ٣٣] ويمكن أن يقال: سلمنا ولكن السيئة والفاحشة إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فلا يتم الاستدلال وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ عطف على سابقه أي- ويأمركم الشيطان بأن تفتروا على الله الكذب بأنه حرم هذا- وأحل هذا أو بذلك وبأنه أمر باتخاذ الأنداد ورضي بما أنتم عليه من الإفساد، والتنصيص على الأمر بالتقول مع دخوله فيما سبق للاهتمام بشأنه، ومفعول العلم محذوف أي- ما لا تعلمون- الإذن فيه منه تعالى، والتحذير عن ذلك مستلزم للتحذير عن التقول عليه سبحانه بما يعلمون عدم الإذن فيه كما هو حال كثير من المشركين استلزاما ظاهرا، وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفا، ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد؟! وأجيب بأن الحكم
437
المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل القاطع وهو الإجماع، وكل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه حكم الله تعالى: وإلا لم يجب العمل به قطعا، وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع على وجوب العمل صار المظنون معلوما وانقلب الظن علما، فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء، وزعم ذلك من اتباع الظن وتحقيقه في الأصول وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ الضمير للناس والعدول عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلهم وحمقهم ليسوا أهلا للخطاب بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله، وفيه من النداء لكل أحد من العقلاء على ضلالتهم ما ليس إذا خوطبوا بذلك، وقيل: الضمير لليهود وإن لم يذكروا بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت فيهم لما دعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإسلام، وقيل: إنه راجع إلى من يتخذ أو إلى المفهوم من أن الذين يكتمون، والجملة مستأنفة بناء على ما روي أنها نزلت في المشركين، وأنت تعلم أن النزول في حق اليهود أو المشركين لا يقتضي تخصيص الضمير بهم، وقد شاع أن عموم المرجع لا يقتضي عموم الضمير كما في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: ٢٢٨] وقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة: ٢٢٨] على أن نظم القرآن الكريم يأبى هذا القيل، والموصول إما عام لسائر الأحكام الحقة المنزلة من الله تعالى، وإما خاص بما يقتضيه المقام قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي وجدناهم عليه، والظرف إما حال من- آبائنا، وألفينا- متعد إلى واحد، وإما مفعول ثان له مقدم على الأول.
أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ جواب الشرط محذوف أي- لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم- والواو للحال أو للعطف، والجملة الشرطية إما حال عن ضمير قالُوا أو معطوفة عليه، والهمزة لإنكار مضمون تلك الجملة وهو التزامهم الاتباع على تقدير ينافيه وهو كونهم غير عاقلين ولا مهتدين المستلزم لالتزامهم الاتباع على أي حال كانوا من غير تمييز، وعلم بكونهم محقين أو مبطلين وهو التقليد المذموم- ويتولد من ذلك الإنكار التعجيب- وجوز أن تكون الجملة حالا عن ضمير جملة محذوفة أي أيتبعونهم في حال فرضهم غير عاقلين ولا مهتدين- وأن تكون معطوفة على شرط مقدر أي- يتبعونهم لو لم يكونوا غير عاقلين، ولو كانوا غير عاقلين، وإلى الأول ذهب الزمخشري، وإلى الثاني الجرمي، ولا يخفى أنه على تقدير حذف الجملة المتقدمة لا يحتاج إلى القول بحذف الجزاء، ولعل ما ذكر أولا أولى لما فيه من التحرز عن كثرة الحذف وإبقاء لَوْ على معناها المشهور، والهمزة الاستفهامية على أصلها- وهو إيلاء المسئول عنه- وكون المعنى يدور على العطف على المحذوف في أمثال ذلك في سائر اللغات غير مسلم، واختار الرضي أن- الواو- الداخلة على كلمة الشرط في مثل هذا اعتراضية، وعنى بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام، أو يجيء آخره متعلقا به معنى مستأنفا لفظا، قيل: وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما أنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى- وليس من التقليد المذموم في شيء- وقد قال سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٤٣].
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً جملة ابتدائية واردة لتقرير ما قبلها أو معطوفة عليه، والجامع أن الأولى لبيان حال الكفار وهذه تمثيل لها وفيها مضاف محذوف إما من جانب المشبه أو المشبه به- أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق- أو مثل الذين كفروا- كمثل بهائم الذي ينعق- ووضع المظهر- وهو الموصول- موضع المضمر- وهو البهائم- ليتمكن من إجراء الصفة التي هي وجه الشبه عليه، وحاصل
438
المعنى على التقديرين أن الكفرة لانهماكهم في التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتأملون فيما يقرر معهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها وهي لا تسمع إلا جرس النغمة ودويّ الصوت، وقيل: المراد تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته، أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهذا يغني عن الإضمار لكن لا يساعده قوله تعالى: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لأن الأصنام بمعزل عن ذلك فلا دخل للاستثناء في التشبيه إلا أن يجعل من التشبيه المركب ويلتزم كون مجموع لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً كناية عن عدم الفهم والاستجابة، والنعيق التتابع في التصويت على البهائم للزجر، ويقال: نعق الغراب نعاقا ونعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل: نعب بالباء، والدعاء والنداء بمعنى، وقيل: إن الدعاء ما يسمع، والنداء قد يسمع وقد لا يسمع، وقيل: إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ رفع على الذم إذ فيه معنى الوصف مع مانع لفظي من الوصف به فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي لا يدركون شيئا لفقدان الحواس الثلاثة وقد قيل: من فقد حسا فقد فقد علما، وليس المراد نفي العقل الغريزي باعتبار انتفاء ثمرته- كما قيل به- لعدم صحة ترتبه بالفاء على ما قبله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي مستلذاته أو من حلاله، والآية إما أمر للمؤمنين بما يليق بشأنهم من طلب الطيبات وعدم التوسع في تناول ما رزقوا من الحلال وذا لم يستفد من الأمر السابق، وإما أمر لهم على طبق ما تقدم إلا أن فائدة تخصيصهم بعد التعميم تشريفهم بالخطاب وتمهيد لطلب الشكر، وكُلُوا لعموم جميع وجوه الانتفاع دلالة وعبارة وَاشْكُرُوا لِلَّهِ على ما أنعم به عليكم والالتفات لتربية المهابة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ بمنزلة التعليل لطلب الشكر كأنه قيل:
واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة وتخصيصكم إياه بالعبادة يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه وهي لا تتم إلا بالشكر لأنه من أجل العبادات- ولذا جعل نصف الإيمان-
وورد من حديث أبي الدرداء مرفوعا يقول الله تعالى «إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري»
والقول بأن المراد إن كنتم تعرفونه أو إن أردتم عبادته منحط من القول إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي أكلها والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين- مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف، وليست مما تتعلق بالأعيان- إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة، وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ وألحق ب الْمَيْتَةَ ما أبين من حي للحديث الذي
أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما قطع من البهيمة، وهي حية فهي ميتة»
وخرج عنها السمك والجراد للحديث الذي
أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال»
وللعرف أيضا فإنه إذا قال القائل: أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما، نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب، وعليه أكثر المالكية، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة، وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافا لمن أباحه من المالكية، وقرأ أبو جعفر: الميتة مشددة وَالدَّمَ قيد في سورة الإنعام بالمسفوح وسيأتي، واستدل بعمومه على تحريم نجاسة دم الحوت، وما لا نفس له تسيل وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ خص اللحم بالذكر مع أن بقية أجزائه أيضا حرام خلافا للظاهرية لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له، وقيل: خص اللحم ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وفيه ما لا يخفى، ولعل السر في إقحام لفظ اللحم هنا إظهار حرمة ما استطيبوه وفضلوه على سائر اللحوم واستعظموا وقوع تحريمه، واستدل أصحابنا بعموم الخنزير على حرمة خنزير البخر، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه:
لا بأس به، وروي عن الإمام مالك أنه قال له شخص: ما تقول في خنزير البحر؟ فقال: حرام ثم جاء آخر فقال له: ما
439
تقول في حيوان في البحر على صورة الخنزير؟ فقال حلال- فقيل له- في ذلك فقال: إن الله تعالى حرم الخنزير ولم يحرم ما هو على صورته، والسؤال مختلف في الصورتين.
وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ما وقع متلبسا به أي بذبحه الصوت لغير الله تعالى، وأصل الإهلال عند كثير من أهل اللغة رؤية الهلال لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي بذلك إهلالا، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان بغيره، والمراد- بغير الله- تعالى الصنم وغيره كما هو الظاهر، وذهب عطاء ومكحول والشعبي والحسن وسعيد بن المسيب إلى تخصيص الغير بالأول وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح، وهذا خلاف ما اتفق عليه الأئمة من التحريم وإنما قدم به هنا لأنه أمس بالفعل وأخر في مواضع أخر نظرا للمقصود فيها من ذكر المستنكر وهو الذبح لغير الله عز شأنه فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ بالاستتار على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر وَلا عادٍ أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع وهو ظاهر في تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين فعن الإمام أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه لأن الإباحة للاضطرار، وقد اندفع به، وقال عبد الله بن الحسن العبري: يأكل منها قدر ما يسد جوعته، وخالف في ذلك الإمام مالك فقال: يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غني عنها طرحها، ونقل عن الشافعي أن المراد غَيْرَ باغٍ على الوالي وَلا عادٍ بقطع الطريق وجعل من ذلك السفر في معصية فالعاصي في سفره لا يباح له الأكل من هذه المحرمات- وهو المروي عن الإمام أحمد أيضا- وهو خلاف مذهبنا، ويحتاج حكم الرخصة على هذا إلى التقييد بأن لا يكون زائدا على قدر الضرورة من خارج، واستدل بعموم الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي خلافا لمن منع ذلك، وقرأ أهل الحجاز والشام والكسائي فَمَنِ اضْطُرَّ بضم النون وأبو جعفر منهم بكسر الطاء من اضطر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي في تناوله بل ربما يأثم بترك التناول إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلذا أسقط الحرمة في تناوله ورخص، وقيل: الحرمة باقية إلا أنه سقط الإثم عن المضطر وغفر له لاضطراره كما هو من تقييد الإثم بعليه، واستدل للأول بقوله تعالى: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الإنعام: ١١٩] حيث استثني من الحرمة، ثم أعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ما ذكر مطلقا كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد بما اعتقدوه حلالا بقرينة أنهم كانوا يستحلون ما ذكر فكأنه قيل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ما ذكر من جهة ما استحللتموه لأشياء أخر، والمقصود من قصر الحرمة على ما ذكر رد اعتقادهم حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس لرد اعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما استحلوه بل تأكيد الجزء الأول، والخطاب للناس باعتبار دخول المشركين فيهم فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا زجر عن تحريم الحلالات أو المراد قصر حرمة ما ذكر على حال الاختيار، كأنه قيل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها، والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة هذه الأمور، وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب الحلال الطيب، أو تشريفهم بالامتنان بهذا الترخيص بعد الامتنان عليهم بإباحة المستلذات، واختار بعضهم أن المراد من الحصر رد المشركين في تحريمهم ما أحله الله تعالى- من البحيرة والوصيلة والحام- وأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية، فكأنهم قالوا: تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا، فقيل: ما حرمت إلا هذه- فهو إذا إضافي- وذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات، وفيه أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم، قاله بعض المحققين فليتدبر.
440
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات، والآية نزلت- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- في علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رئاستهم وتنقطع هداياهم وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي يأخذون بدله في نفس الأمر، والضمير- للكتاب
- أو لما أنزل أو للكتمان ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا حقيرا. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إما في الحال- كما هو أصل المضارع- لأنهم أكلوا ما يتلبس ب النَّارَ وهو- الرشا- لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من- أكلهم النار- من حيث إنه يترتب على- أكل- كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وإما في المآل، أي لا يأكلون يوم القيامة إِلَّا النَّارَ فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي، وقيل:
إنها مجاز عن- الرشا- إذا أريد الحال، والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل، ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد، والجار والمجرور حال مقدرة، أي ما يَأْكُلُونَ شيئا حاصلا فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إذ الحصول في- البطن- ليس مقارنا للأكل، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الاستثناء، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق ب يَأْكُلُونَ والمراد في طريق بُطُونِهِمْ كما اختاره أبو البقاء، والتقييد- بالبطون- لإفادة- الملء- لا للتأكيد- كما قيل به- والظرفية بلفظة فِي وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف، لكنه شاع استعمال ظرفية- البطن- في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله:
كلوا- في بعض- بطنكم- تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي كلام رحمة- كما قال الحسن- فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم، وقيل:
«لا يكلمهم» أصلا لمزيد غضبه جل جلاله عليهم، والسؤال بواسطة الملائكة.
وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من دنس الذنوب، أو لا يثني عليهم.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم، وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر سبحانه اشتراءهم بذلك- الثمن القليل- وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولا في الخبر بقوله تعالى: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ثم قابل- كتمانهم الحق- وعدم التكلم به بقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ تعالى، وابتنى على- كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمنا قليلا- أنهم شهود زور وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وبدأ أولا بما يقابل فردا فردا، وثانيا بما يقابل المجموع أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا بسبب كتمانهم الحق للمطامع الدنية، والأغراض الدنيوية الضَّلالَةَ بِالْهُدى في الدنيا وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ في الآخرة، والجملة إما مستأنفة فإنه لما عظم وعيد الكاتمين كان مظنة أن يسأل عن سبب عظم وعيدهم، فقيل: إنهم بسبب الكتمان خسروا الدنيا والآخرة، وإما خبر بعد خبر لأن، والجملة الأولى لبيان شدة وعيدهم، وهذه لبيان شناعة كتمانهم.
فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ أي ما أشد صبرهم، وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر لهم، وما في مثل هذا التركيب قيل: نكرة تامة- وعليه الجمهور- وقيل: استفهامية ضمنت معنى التعجب- وإليه ذهب الفراء- وقيل: موصولة- وإليه ذهب الأخفش- وحكي عنه أيضا أنها نكرة موصوفة- وهي على هذه الأقوال- في محل رفع على الابتداء، والجملة خبرها، أو خبرها محذوف إن كانت صفة أو صلة، وتمام الكلام
441
في كتب النحو. ذلِكَ أي مجموع ما ذكر من أكل النار، وعدم التكليم، والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي بسبب أن الله تعالى نَزَّلَ القرآن، أو التوراة متلبسا بالحق ليس فيه شائبة البطلان أصلا فرفضوه- بالتكذيب أو الكتمان.
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ أي في جنسه- بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض- أو في التوراة، ومعنى اخْتَلَفُوا تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها، أو جعلوا ما بدلوه خلفا عما فيها- أو في القرآن- واختلافهم فيه قول بعضهم: إنه سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم إنه أساطير الأولين.
لَفِي شِقاقٍ أي خلاف بَعِيدٍ عن الحق موجب لأشد العذاب، وهذه الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه. ومن الناس من جعل- الواو- للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم كما لا يخفى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْبِرَّ اسم جامع لأنواع الخير والطاعات المقربة إلى الله تعالى- والخطاب لأهل الكتابين- والمراد من قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ السمتان المعينان، فإن اليهود تصلي- قبل المغرب- إلى بيت المقدس من أفق مكة، والنصارى- قبل المشرق- والآية نزلت ردا عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر- البر- على قبلته ردا على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعا بنفي جنس الْبِرَّ عن قبلتهم لأنها منسوخة، فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفي- لا للقصر- إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي.
ويحتمل أن يكون الخطاب عاما لهم وللمسلمين- فيكون عودا على بدء- فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع، فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل. والمراد من ذكر الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ التعميم- لا تعيين السمتين- وتعريف الْبِرَّ حينئذ إما للجنس فيفيد القصر، والمقصود نفي اختصاص الْبِرَّ بشأن القبلة مطلقا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك والذهول عما سواه، وإما للعهد أي ليس الْبِرَّ العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك، وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب، وقرأ حمزة وحفص- البر- بالنصب والباقون بالرفع. ووجه الأولى أن يكون خبرا مقدما كما في قوله:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم فليس «سواء» عالم وجهول
وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم، ووجه الثانية أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لَيْسَ الْبِرَّ بالنصب بأن تولوا- بالباء- وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل، وأل- في الْبِرَّ إما للجنس فيكون القصر ادعائيا لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله، والكلام على حذف مضاف أي- برّ من آمن- إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال بإطلاق الْبِرَّ على البار مبالغة، والأول أوفق لقوله: لَيْسَ الْبِرَّ وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول، والمراد بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى القائلين- عزير ابن الله والمسيح ابن الله- وقرأ نافع وابن عامر- «ولكن» - بالتخفيف، وقرأ بعضهم «البار» بصيغة اسم الفاعل.
442
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي المعاد الذي يقول به المسلمون وما يتبعه عندهم وَالْمَلائِكَةِ أي وآمن بهم وصدق بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون بينه تعالى وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي وإنزال الكتب وَالْكِتابِ أي جنسه فيشمل جميع- الكتب- الإلهية لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه، ولما
ورد في الحديث «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله»
أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقا لما بين يديه، وقيل: التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا باعتبار استلزامه الإيمان بالقرآن، والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسبما اقتضته الحكمة من اللغات وَالنَّبِيِّينَ أي جميعهم من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس حسبا ونسبا وأن ليس فيهم وصمة ولا عيب منفر ويعتقد أن سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة.
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ حال من ضمير آتى، والضمير المجرور للمال- أي أعطى المال كائنا على حب المال- والتقييد لبيان أفضل أنواع الصدقة
فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم [الواقعة: ٨٣] قلت لفلان كذا لفلان كذا إلا وقد كان لفلان»
وفي هذا إيذان بأن درجات الثواب تتفاوت حسب تفاوت المراتب في الحب حتى أن صدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغني والكريم إلا أن يكونا أحب للمال منهما، ويؤيد ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الأعمال أحمزها»
وجوز رجوع الضمير لله تعالى أو للمصدر المفهوم من الفعل والتقييد حينئذ للتكميل، وبيان اعتبار الإخلاص أو طيب النفس في الصدقة ودفع كون إيتاء المال مطلقا برا، والأول هو المأثور عن السلف الصالح، ولعله المروي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذَوِي الْقُرْبى مفعول أول ل آتَى قدم عليه مفعوله «الثاني» للاهتمام أو لأن فيه مع «ما» عطف عليه طولا لو روعي الترتيب لفات تجاوب الأطراف، وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضا، وقيل: هو المفعول الثاني، والمراد ب ذَوِي الْقُرْبى - ذوو قرابة- المعطي لكن المحاويج منهم لا مطلقا لدلالة سوق الكلام، وعد مصارف الزكاة على أن المراد الخير والصدقة- وإيتاء- الأغنياء هبة لا صدقة، وقدم هذا الصنف لأن- إيتاءهم- أهم فقد صح
عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح»
وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة».
وَالْيَتامى عطف على ذَوِي الْقُرْبى وقيل على الْقُرْبى إذ لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فالمعطي حينئذ كافلهم لأجلهم، فيه ما لا يخفى وَالْمَساكِينَ جمع- مسكين- وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون، والالتجاء إلى الناس، وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما يقع موقعا من حاجته خارج عن مفهومه وَابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر- كما قاله مجاهد- وسمي بذلك لملازمته الطريق في السفر أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدا يتوق إلى الجمع، ويشتاق إلى الربع، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه، أو لأنه لما لم يكن بين أبناء السبيل، والمعطي تعارف غالبا يهون أمر الإعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم
443
وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعا ينبغي أن يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد منفعتهم فليفهم، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير أنه الضيف الذي ينزل بالمسلمين وَالسَّائِلِينَ أي الطالبين للطعام سواء كانوا أغنياء إلا أن ما عندهم لا يكفي لحاجتهم أو فقراء كما يدل عليه ظاهر ما
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «للسائل حق وإن جاء على فرس»
فإن الجائي على فرس يكون في الغالب غنيا، وقيل: أراد الْمَساكِينَ الذين يسألون فتعرف حالهم بسؤالهم، وَالْمَساكِينَ السابق ذكرهم الذين لا يسألون وتعرف حاجتهم بحالهم وإن كان ظاهرهم الغنى وعليه يكون التقييد في الحديث لتأكيد رعاية حق السائل وتحقيق أن السؤال سبب للاستحقاق، وإن فرض وجوده من الغنى كالقرابة واليتم.
وَفِي الرِّقابِ متعلق ب آتَى أي آتى المال في تخليص الرقاب وفكاكها بمعاونة المكاتبين، أو فك الأسارى، أو ابتياع الرقاب لعتقها، والرقبة- مجاز عن الشخص وإيراد كلمة- في للإيذان بأن ما يعطى لهؤلاء مصروف في تخليصهم لا يملكونه كما في المصارف الأخر وَأَقامَ الصَّلاةَ عطف على صلة مَنْ والمراد بالصلاة المفروضة كالزكاة في وَآتَى الزَّكاةَ بناء على أن المراد بما مر من إيتاء المال نوافل الصدقات وقدمت على الفريضة مبالغة في الحث عليها، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة،
أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ الآية» وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحو ذلك،
واختلف هل بقي هذا الحق أم لا؟ فذهب قوم إلى الثاني واستدلوا بما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا- نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة-
وقال جماعة بالأول لقوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:
١٩]
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه»
وللإجماع على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم وأجابوا عن الحديث بأنه غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك- وهو ليس بالقوي عندهم- وبأن المراد أن الزكاة نسخت كل صدقة مقدرة، وجوز أن يكون المراد بما مر الزكاة المفروضة أيضا ولا تكرار لأن الغرض مما تقدم بيان مصارفها، ومن هذا بيان أدائها والحث عليها وترك ذكر بعض المصارف لأن المقصود هاهنا بيان أبواب الخير دون الحصر، وقدم بيان المصرف اهتماما بشأنه فإن الصدقة إنما تعتبر إذا كانت في مصرفها ومحلها كما يدل عليه قوله تعالى: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: ٢١٥] وعلى هذا يتعين أن يراد بالسائلين الفقراء وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا عطف على مَنْ آمَنَ ولم يقل وأوفى كما قبله إشارة إلى وجوب استقرار الوفاء، وقيل: رمزا إلى أنه أمر مقصود بالذات، وقيل: إيذانا بمغايرته لما سبق فإنه من حقوق الله تعالى والسابق من حقوق الناس، وعلى هذا فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا من العهود الجارية فيما بين الناس، والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق، وحذف المعمول يؤذن بذلك، والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة، وقيل: للإشارة إلى عدم كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل: به وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ نصب على المدح بتقدير- أخص أو أمدح- وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول، ومجيء القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب أيضا واستحسنه الأجلة وجعلوه أبلغ من الاتباع
444
وقد جاء في النكرة أيضا كقول الهذلي:
ويأوي إلى نسوة عطل... وشعثا مراضيع مثل السعالى
والبأساء- البؤس والفقر، والضراء- السقم والوجع وهما مصدران بنيا على فعلاء وليس لهما أفعل لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت وقرىء والصابرون كما قرىء والموفين.
وَحِينَ الْبَأْسِ أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض، وعدي الصبر على الأولين بفي لأنه لا يعد الإنسان من الممدوحين إذا صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له وأما إذا أصاباه وقتا ما وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك وأتى- بحين- في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في إيمانهم أو طلب البر.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عذاب الله تعالى بتجنب معاصيه وامتثال أوامره، وأتى بخبر- أولئك- الأولى موصولا بفعل ماض إيذانا بتحقق اتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم واستقر، وغاير في خبر الثانية ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد بل صار كالسجية لهم، وأيضا لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة، هذا والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة أقسام، فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد، وآخرها قوله: وَالنَّبِيِّينَ وافتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة فيلتئم مع ما نفاه أو لا غاية الالتئام، والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها وَآتَى الْمالَ وآخرها وَفِي الرِّقابِ والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها وَأَقامَ الصلاة وآخرها وَحِينَ الْبَأْسِ ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان «ومن باب التأويل» لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد فإن ذلك تقيد واحتجاب وَلكِنَّ الْبِرَّ بر الموحد الذي آمن بالله والمعاد في مقام الجمع وشاهد الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجب بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين والكتاب الجامع بين الظاهر والباطن وَآتَى العلم الذي هو مال القلب مع كونه محبوبا ذوي قربى القوى الروحانية القريبة منه، ويتامى القوى النفسانية المنقطعة عن الأب الحقيقي وهو نور الروح، ومساكين القوى الطبيعية التي لم تزل دائمة السكون إلى تراب البدن، وأبناء السبيل السالكين إلى منازل الحق، والسائلين الطالبين بلسان استعدادهم ما يكون غذاء لأرواحهم، وفي فك رقاب عبدة الدنيا وأسراء الشهوات بالوعظ والإرشاد، وأقام صلاة الحضور، وآتى ما يزكي نفسه بنفي الخواطر ومحو الصفات، والموفون بعهد الأزل بترك المعارضة في العبودية والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة، والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله تعالى دائما، وضراء كسر النفس، وحين بأس محاربة العدو الأعظم أولئك الذين صدقوا الله تعالى في السير إليه وبذل الوجود وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عن الشرك المنزهون عن سائر الرذائل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلافي لما فرط من المخلين بما تقدم من قواعد الدين التي يبنى عليها أمر المعاش والمعاد كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يضر فيه قدرة الولي على العفو فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين، وأصل الكتابة الخط ثم كني به عن الإلزام، وكلمة- على- صريحة في ذلك الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى أي بسببهم على حد «إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها» وقيل: عدي القصاص بفي لتضمنه معنى المساواة إذ معناه أن يفعل
445
بالإنسان مثل ما فعل، ومنه سمي المقص مقصا لتعادل جانبيه، والقصة قصة لأن الحكاية تساوي المحكي، والقصاص قصاصا لأنه يذكر مثل أخبار الناس، والْقَتْلى جمع قتيل كجريح وجرحى، وقرىء- كتب- على البناء للفاعل، والْقِصاصُ بالنصب وليس في إضمار المتعين المتقرر قبل ذكره إضمار قبل الذكر الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى جملة مبينة لما قبلها أي الحر يقتص بالحر، وقيل: مأخوذ به
روي أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت فأمرهم (١) أن يتباؤوا،
فالآية كما تدل على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا لم يعلم نفيه بمفهوم الموافقة وقد علم من قتل العبد بالعبد وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى كذلك لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى لأن مفهوم المخالفة كما هو مشروط بذلك الشرط مشروط بأن لا يكون للتخصيص فائدة أخرى، والحديث بين الفائدة وهو المنع من التعدي وإثبات المساواة بين حر وحر وعبد وعبد فمنع الشافعي ومالك قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ليس للآية بل للسنة والإجماع والقياس، أما الأول
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قتل عبده فجلده الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به»
وأخرج أيضا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال «من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد»
وأما الثاني فقد روي أن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم وهم الذين لم تأخذهم في الله تعالى لومة لائم. وأما الثالث فلأنه لا قصاص في الأطراف بين الحر والعبد بالاتفاق فيقاس القتل عليه، وعند إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه يقتل الحر بالعبد
لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم»
ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما، والتفاضل في الأنفس غير معتبر بدليل أن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به ولقوله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: ٤٥] وشريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا، ومن الناس من قال: إن الآية دالة على ما ذهب إليه المخالف لأن الْحُرُّ بِالْحُرِّ بيان وتفسير لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فدل على أن رعاية التسوية في- الحرية والعبدية- معتبرة، وإيجاب الْقِصاصُ على- الحر- بقتل الْعَبْدُ إهمال لرعاية التسوية في ذلك المعنى، ومقتضى هذا أن لا يقتل الْعَبْدُ إلا بِالْعَبْدِ ولا تقتل الْأُنْثى إلا بِالْأُنْثى إلا أن المخالف لم يذهب إليه، وخالف الظاهر للقياس والإجماع، ومن سلم هذا منا ادعى نسخ الآية بقوله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لأنه لعمومه نسخ اشتراط المساواة في الحرية والذكورة المستفادة منها، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والثوري وأورد عليه أن الآية حكاية ما في التوراة وحجية حكاية شرع من قبلنا مشروطة بأن لا يظهر ناسخه كما صرحوا به، وهو يتوقف على أن لا يوجد في القرآن ما يخالف المحكي إذ لو وجد ذلك كان ناسخا له لتأخره عنه فتكون الحكاية حكاية المنسوخ، ولا تكون حجة فضلا عن أن تكون ناسخا، وبعد تسليم الدلالة يوجد الناسخ كما لا يخفى هذا، وذهب ساداتنا الحنفية والمالكية وجماعة إلى أنه ليس للولي إلا
(١) إن كان الحيان كفارا كما يشعر به لفظ التحاكم. ويدل عليه ما في المغني أنهم قريظة، والنضير فالأمر بالتساوي ظاهر، وإن كانوا مسلمين كما يدل عليه ما في الدر المنظوم- فمعنى الأمر به أن ما مضى سواء بسواء، وأن ما أقسموا عليه يجب أن ينتهوا عنه فلا يرد أن الإسلام يجب ما قبله اهـ منه.
446
القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل لأن الله تعالى ذكر في الخطأ الدية فتعين أن يكون القصاص فيما هو ضد الخطأ وهو العمد ولما تعين بالعمد لا يعدل عنه لئلا يلزم الزيادة على النص بالرأي، واعترض بأن منطوق النص وجوب رعاية المساواة في القود وهو لا يقتضي وجوب أصل القود، وأجيب بأن القصاص وهو القود بطريق المساواة يقتضي وجوبهما فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز ولو أقل قليل فالمصدر المبهم في حكم الموصوف فيجوز نيابته عن الفاعل وله مفعول به، ومِنْ أَخِيهِ يجوز أن يتعلق بالفعل ويجوز أن يكون حالا من شيء، وفي إقامة شيء مقام الفاعل على إشعار بأن بعض العفو كأن يعفى عن بعض الدم أو يعفو عنه بعض الورثة كالعفو التام في إسقاط القصاص لأنه لا يتجزأ، والمراد بالأخ وليّ الدم سماه أخا استعطافا بتذكير إخوة البشرية والدين، وقيل: المراد به المقتول، والكلام على حذف مضاف أي من دم أخيه، وسماه أخا القاتل للإشارة إلى أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع بالقتل، وعُفِيَ تعدى إلى الجاني وإلى الجناية بعن يقال: عفوت عن زيد وعن ذنبه- وإذا عديت إلى الذنب مرادا سواء كان مذكورا أولا كما في الآية عدي إلى الجاني «باللام» لأن التجاوز عن الأول والنفع للثاني فالقصد هنا إلى التجاوز عن الجناية إلا أنه ترك ذكرها لأن الاهتمام بشأن الجاني، وقدر بعضهم- عن- هذه داخلة على شيء لكن لما حذفت ارتفع لوقوعه موقع الفاعل، وهو من باب الحذف والإيصال المقصور على السماع، ومن الناس من فسر عُفِيَ بترك فهو حينئذ متعد أقيم مفعوله مقام فاعله، واعترض بأنه لم يثبت- عفا- الشيء بمعنى تركه، وإنما الثابت أعفاه، ورد بأنه ورد، ونقله أئمة اللغة المعول عليهم في هذا الشأن وهو وإن لم يشتهر إلا أن إسناد المبني للمجهول إلى المفعول الذي هو الأصل يرجح اعتباره ويجعله أولى من المشهور لما أن فيه إسناد المجهول للمصدر وهو خلاف الأصل، والقول بأن شَيْءٌ مرفوع- بترك- محذوفا يدل عليه عُفِيَ ليس بشيء لأنه بعد اعتبار معنى العفو لا حاجة إلى معنى الترك بل هو ركيك كما لا يخفى فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي فليكن- اتباع- أو فالأمر- اتباع- والمراد وصية العافي بأن لا يشدد في طلب الدية على المعفو له وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة عليها والمعفو بأن لا يمطل العافي فيها ولا يبخس منها ويدفعها عند الإمكان، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحسن وقتادة ومجاهد، وقيل: المراد فعلى المعفو له الاتباع والأداء، والجملة خبر مِنْ على تقدير موصوليتها، وجواب الشرط على تقدير شرطيتها، وربما يستدل بالآية على أن مقتضى العمد القصاص وحده حيث رتب الأمر بأداء الدية على العفو المرتب على وجوب القصاص، واستدل بها بعضهم على أن الدية أحد مقتضى العمد وإلا لما رتب الأمر بأداء الدية على مطلق العفو الشامل للعفو عن كل الدم وبعضه بل يشترط رضا القاتل وتقييده بالبعض، واعترض بأنه إنما يتم لو كان التنوين في شيء للإبهام أي شيء من العفو أي شيء كان ككله أو بعضه أما لو كان للتقليل فلا إذ يكون الأمر بالأداء مرتبا على بعض العفو ولا شك أنه إذا تحقق عن الدم يصير الباقي مالا وإن لم يرض القاتل، وأيضا الآية نزلت في الصلح وهو الموافق للأم فإن عفا إذا استعملت بها كان معناها البدل أي فمن أعطى له من جهة أخيه المقتول شيء من المال بطريق الصلح فلمن أعطى وهو الولي مطالبة البدل عن مجاملة وحسن معاملة إلا أن يقال: إنها نزلت في- العفو- كما هو ظاهر اللفظ، وبه قال أكثر المفسرين.
ذلِكَ أي الحكم المذكور في ضمن بيان العفو والدية تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ لما في شرعية العفو تسهيل على القاتل، وفي شرعية- الدية- نفع لأولياء المقتول، وعن مقاتل أنه كُتِبَ على اليهود الْقِصاصُ وحده، وعلى النصارى- العفو- مطلقا وخير هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب المنازل وعلى هذا يكون فَمَنْ تَصَدَّقَ بيانا لحكم هذه الشريعة بعد حكاية حكم كان في التوراة، وليس داخلا تحت
447
الحكاية فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي تجاوز ما شرع بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم، أو قتل القاتل بعد- العفو- وأخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي نوع من العذاب مؤلم، والمتبادر أنه في الآخرة، والمروي عن الحسن وابن جبير أنه في الدنيا بأن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية لما
أخرجه أبو داود من حديث سمرة مرفوعا «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية».
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ عطف على قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ والمقصود منه توطين النفس على الانقياد لحكم الْقِصاصِ لكونه شاقا للنفس- وهو كلام في غاية البلاغة- وكان أوجز كلام عندهم في هذا المعنى- القتل أنفى للقتل- وفضل هذا الكلام عليه من وجوه «الأول» قلة الحروف، فإن الملفوظ هنا عشرة أحرف- إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة- وهناك أربعة عشر حرفا «الثاني» الإطراد، إذ في كل- قصاص حياة- وليس كل قتل أنفى للقتل- فإن للقتل ظلما أدعى للقتل «الثالث» ما في تنوين حَياةٌ من النوعية أو التعظيم.
«الرابع» صنعة الطباق بين- القصاص والحياة- فإن الْقِصاصِ تفويت- الحياة- فهو مقابلها.
«الخامس» النص على ما هو المطلوب بالذات- أعني الحياة- فإن نفي- القتل- إنما يطلب لها لا لذاته.
«السادس» الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق، فكان الْقِصاصِ فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات «السابع» الخلو عن التكرار مع التقارب، فإنه لا يخلو عن استبشاع، ولا يعد رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا «الثامن» عذوبة اللفظ وسلاسته حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة إذ ليس في قولهم: حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضا الخروج من- الفاء إلى اللام- أعدل من الخروج من- اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام- وكذلك الخروج من- الصاد إلى الحاء- أعدل من الخروج من- الألف إلى اللام- «التاسع» عدم الاحتياج إلى الحيثية، وقولهم: يحتاج إليها.
«العاشر» تعريف الْقِصاصِ بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على- الضرب والجرح والقتل- وغير ذلك، وقولهم: لا يشمله «الحادي عشر» خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا.
«الثاني عشر» اشتماله على ما يصلح للقتال وهو- الحياة- بخلاف قولهم، فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان، وإنه لمما يليق بهم «الثالث عشر» خلوه عما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه- وهو محال إلى غير ذلك- فسبحان من علت كلمته، وبهرت آيته، ثم المراد ب حَياةٌ اما الدنيوية- وهو الظاهر- لأن في شرع الْقِصاصِ والعلم به يروع القاتل عن القتل، فيكون سبب حَياةٌ نفسين في هذه النشأة، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، وتقوم حرب البسوس على ساق، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون- ويصير ذلك سببا لحياتهم- ويلزم على الأول الإضمار، وعلى الثاني التخصيص، وأما الحياة الأخروية بناء على أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة، وعلى هذا يكون الخطاب خاصا بالقاتلين، والظاهر أنه عام والظرفان إما خبران ل حَياةٌ أو أحدهما خبر والآخر صلة له، أو حال من المستكن فيه. وقرأ أبو الجوزاء «في القصص» وهو مصدر بمعنى المفعول، والمراد من المقصوص هذا الحكم بخصوصه- أو القرآن مطلقا- وحينئذ يراد- بالحياة- حياة القلوب لا حياة الأجساد، وجوز كون «القصص» مصدرا بمعنى الْقِصاصِ فتبقى- الحياة- على حالها يا أُولِي الْأَلْبابِ يا ذوي العقول الخالصة عن شوب الهوى، وإنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام
448
لأنهم أهل التأمل في حكمة الْقِصاصِ من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، وقيل: للإشارة إلى أن الحكم مخصوص بالبالغين دون الصبيان لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ربكم باجتناب معاصيه المفضية إلى العذاب أو القتل بالخوف من الْقِصاصِ وهو المروي عن ابن عباس والحسن وزيد رضي الله تعالى عنهم، والجملة متعلقة بأول الكلام.
449
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بيان حكم آخر من الأحكام المذكورة، وفصله عما سبق للدلالة على كونه حكما مستقلا- كما فصل اللاحق لذلك- ولم يصدره بيا أيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقا بالأموات، أو لأنه لما لم يكن شاقا لم يصدره كما صدر الشاق تنشيطا لفعله، والمراد من- حضور الموت- حضور أسبابه، وظهور أماراته من العلل والأمراض المخوفة أو حضوره نفسه ودنوه، وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها.
إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد- وقيده بعضهم بكونه كثيرا إذ لا يقال في العرف للمال: خَيْراً إلا إذا كان كثيرا، كما لا يقال: فلان ذو مال إلا إذا كان له مال كثير، ويؤيده ما
أخرجه البيهقي وجماعة- عن عروة- أن عليا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم، فقال: ألا أوصي؟ قال لا إنما قال الله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وليس لك كثير مال، فدع مالك لورثتك.
وما أخرجه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا قال لها: أريد أن أوصي قالت: كم مالك؟
قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل، والظاهر من هذا أن الكثرة غير مقدرة بمقدار، بل تختلف باختلاف حال الرجل فإنه بمقدار من المال يوصف رجل بالغني ولا يوصف به غيره لكثرة العيال. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقديرها، فقد أخرج عبد بن حميد عنه «من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا» ومذهب الزهري أن الْوَصِيَّةُ مشروعة مما قل أو كثر،- فالخير- عنده المال مطلقا- وهو أحد إطلاقاته- ولعل اختياره إيذانا بأنه ينبغي أن يكون الموصى به حلالا طيبا لا خبيثا لأن الخبيث يجب رده إلى أربابه ويأثم ب الْوَصِيَّةُ فيه.
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مرفوع ب كُتِبَ وفي الرضيّ إذا كان الظاهر غير حقيقي التأنيث منفصلا فترك العلامة أحسن إظهار الفضل الحقيقي على غيره- ولهذا اختير هنا تذكير الفعل- والْوَصِيَّةُ اسم من أوصى يوصي، وفي القاموس أوصاه ووصاه توصية- عهد إليه- والاسم الوصاية والْوَصِيَّةُ وهي الموصى به أيضا والجار متعلق بها فلا بد من تأويلها بأن مع الفعل عند الجمهور، أو بالمصدر بناء على تحقيق الرضى من أن عمل المصدر لا يتوقف على تأويله، وهو الراجح ولذلك ذكر الراجع في بدله، وجوز أن يكون النائب عَلَيْكُمْ والْوَصِيَّةُ خبر مبتدأ كأنه قيل: ما المكتوب؟ فقيل هو الوصية، وجواب الشرط محذوف دل عليه كُتِبَ عَلَيْكُمْ، وقيل: مبتدأ خبره لِلْوالِدَيْنِ والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء لأن الاسمية إذا كانت جزاء لا بد فيها منها، والجملة الشرطية مرفوعة ب كُتِبَ أو عَلَيْكُمْ وحده، والجملة استئنافية ورد بأن إضمار الفاء غير صحيح لا يجترى عليه إلا في ضرورة الشعر كما قال الخليل، والعامل في إِذا معنى كُتِبَ والظرف قيد للإيجاب من حيث الحدوث والوقوع، والمعنى توجه خطاب الله تعالى عَلَيْكُمْ ومقتضى كتابته إِذا حَضَرَ وغير إلى ما ترى لينظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، وجوز أن يكون العامل الوصية، وهي وإن كانت اسما إلا أنها مؤولة بالمصدر أو بأن والفعل، والظرف مما يكفيه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزيله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه، وعدم انفكاكه عنه، ولهذا توسع في الظروف ما لم يتوسع في غيرها، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أوّل به، وقد كثر تقديم معمول المصدر عليه في الكلام، والتقدير تكلف، ولا يرد على التقديرين أن الوصية واجبة على- من حضره الموت-
450
لا على جميع المؤمنين عند حضور أحدهم الموت لأن «أحدكم» يفيد العموم على سبيل البدل فمعنى إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ إذا حضر واحدا بعد واحد، وإنما زيد لفظ- أحد- للتنصيص على كونها فرض عين لا كفاية كما في كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى والقول بأن الوصية لم تفرض على من- حضره الموت- فقط بل عليه بأن يوصي، وعلى الغير بأن يحفظ ولا يبدل، ولهذا قال: عَلَيْكُمْ وقال أَحَدَكُمُ لأن الموت يحضر أحد المخاطبين بالافتراض عليهم ليس بشيء لأن حفظ الوصية إنما يفرض على البعض بعد الوصية لا وقت الاحتضار فكيف يصح أن يقال فرض عليكم حفظ الوصية إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ولأن إرادة الإيصاء، وحفظه من الوصية تعسف لا يخفى، واختار بعض المحققين أن إِذا شرطية وجواب الشرط كل من الشرطين محذوف، والتقدير إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ- فليوص إن ترك خيرا- فليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه، وحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، والشرط الثاني عند صاحب التسهيل مقيد للأول كأنه قيل: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تاركا للخير فليوص، ومجموع الشرطين معترض بين كُتِبَ وفاعله لبيان كيفية الإيصاء قبل، ولا يخفى أن هذا الوجه مع غنائه عن تكلف تصحيح الظرفية وزيادة لفظ- أحد- أنسب بالبلاغة القرآنية حيث ورد الحكم أولا مجملا ثم مفصلا ووقع الاعتراض بين الفعل وفاعله للاهتمام ببيان كيفية الوصية الواجبة انتهى. وأنت تعلم ما في ذلك من كثرة الحذف المهونة لما تقدم، ثم إن هذا الحكم كان في بدء الإسلام ثم نسخ بآية المواريث كما قاله ابن عباس وابن عمر وقتادة وشريح ومجاهد وغيرهم،
وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد، والترمذي، وصححه والنسائي، وابن ماجة عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال:
«إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية»
وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن أبي أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ذلك،
وهذه الأحاديث لتلقي الأمة لها بالقبول انتظمت في سلك المتواتر في صحة النسخ بها عند أئمتنا قدس الله أسرارهم بل قال البعض: إنها من المتواتر وإن التواتر قد يكون بنقل من لا يتصور تواطؤهم على الكذب وقد يكون بفعلهم بأن يكونوا عملوا به من غير نكير منهم على أن النسخ في الحقيقة بآية المواريث والأحاديث مبينة لجهة نسخها، وبين فخر الإسلام ذلك بوجهين «الأول» أنها نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وقد قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: ١١] فرتب الميراث على- وصية- منكرة- والوصية- الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك- الوصية- باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين «والثاني» أن النسخ نوعان: أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض، والثاني بطريق الحوالة من محل إلى آخر كما في نسخ القبلة، وهذا من قبيل الثاني لأن الله تعالى فرض الإيصاء في الأقربين إلى العباد بشرط أن يراعوا الحدود، ويبينوا حق كل قريب بحسب قرابته، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل، ثم لما كان الموصي قد لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم وربما كان يقصد المضارة تولى بنفسه بيان ذلك الحق على وجه تيقن به أنه الصواب وأن فيه الحكمة البالغة، وقصره على حدود لازمة من السدس والثلث والنصف والثمن لا يمكن تغيرها فتحول من جهة الإيصاء إلى الميراث فقال:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: ١١] أي الذي فوض إليكم تولي شأنه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم، ولما بين بنفسه ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطرق كمن أمره غيره بإعتاق
451
عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه بذلك انتهى حكم الوكالة، وإلى ذلك تشير الأحاديث لما أن- الفاء- تدل على سببية ما قبلها لما بعدها فما قيل: إن من أن آية المواريث لا تعارض هذا الحكم بل تحققه من حيث تدل على تقديم الوصية مطلقا، والأحاديث من الآحاد وتلقي الأمة لها بالقبول لا تلحقها بالمتواتر، ولعله احترز عن النسخ من فسر الوصية بما أوصى به الله عز وجل من توريث الوالدين والأقربين بقوله سبحانه يُوصِيكُمُ اللَّهُ أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم على ما فيه بمعزل عن التحقيق وكذا ما قيل: من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الإيصاء فهم منها بتنبيه النبي صلّى الله عليه وسلّم أن المراد منه هذه الوصية التي كانت واجبة كأنه قيل: إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم لأن كون آية المواريث رافعة لذلك الحكم مبينة لانتهائه مما لا ينبغي أن يشتبه على أحد، ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا، فمنهم من قال: إن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقربين كأن يكونوا كافرين، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية،
ومنهم من قال: إن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة، وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون وإليه ذهب الأكثرون، واستدل محمد بن الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه عليه حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه كُتِبَ وعامله إما كُتِبَ أو حق محذوفا أي حق ذلك حقا فهو على طرز قعدت جلوسا، ويحتمل أن يكون مؤكدا لمضمون جملة كُتِبَ عَلَيْكُمْ وإن اعتبر إنشاء فيكون على طرز- له عليّ ألف- عرفا، وجعله صفة لمصدر محذوف أي إيصاء حقا ليس بشيء وعلى التقديرين عَلَى الْمُتَّقِينَ صفة له أو متعلق بالفعل المحذوف على المختار، ويجوز أن يتعلق بالمصدر لأن المفعول المطلق يعمل نيابة عن الفعل، والمراد- بالمتقين- المؤمنون ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن المحافظة على الوصية والقيام بها من شعائر المتقين الخائفين من الله تعالى.
فَمَنْ بَدَّلَهُ أي غير الإيصاء من شاهد ووصي، وتغيير كل منهما إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل صفتها أو غير ذلك، وجعل الشافعية من التبديل عموم وصيته من أوصى إليه بشيء خاص، فالموصي بشيء خاص لا يكون وصيا في غيره عندهم ويكون عندنا وليس ذلك من التبديل في شيء بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي علمه وتحقق لديه، وكني بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي فما إثم الإيصاء المبدل أو التبديل، والأول رعاية لجانب اللفظ، والثاني رعاية لجانب المعنى إلا على مبدليه لا على الموصي لأنهم الذين خالفوا الشرع وخانوا، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على علية التبديل للإثم، وإيثار صيغة الجمع مراعاة لمعنى من، وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الافراد إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيسمع أقوال المبدلين والموصين ويعلم بنياتهم فيجازيهم على وفقها، وفي هذا وعيد للمبدلين ووعد للموصين، واستدل بالآية على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ولا يلحقه ضرر إن لم يعمل بها، وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة وإن ترك الوصي والوارث قضاءه- وإلى ذلك ذهب الكيا- والذي يميل القلب إليه أن المديون لا تبعة عليه بعد الموت مطلقا ولا يحبس في قبره- كما يقوله الناس- أما إذا لم يترك شيئا ومات معسرا فظاهر لأنه لو بقي حيا لا شيء عليه بعد تحقق إعساره سوى نظرة إلى ميسرة، فمؤاخذته وحبسه في قبره بعد ذهابه إلى اللطيف الخبير مما لا يكاد يعقل، وأما إذا ترك شيئا وعلم الوارث بالدين أو برهن عليه به كان هو المطالب بأدائه والملزم بوفاته فإذا لم يؤد ولم
452
يف أوخذ هو لا من مات وترك ما يوفى منه دينه كلا أو بعضا فإن مؤاخذة من يقول يا رب تركت ما يفي ولم يف عني من أوجبت عليه الوفاء بعدي ولو أمهلتني لوفيت مما ينافي الحكمة ولا تقتضيه الرحمة، نعم المؤاخذة معقولة فيمن استدان لحرام وصرف المال في غير رضا الملك العلام، وما ورد في الأحاديث محمول على هذا أو نحوه وأخذ ذلك مطلقا مما لا يقبله العقل السليم والذهن المستقيم.
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً الجنف مصدر جنف كفرح مطلق الميل والجور، والمراد به الميل في الوصية من غير قصد بقرينة مقابلته بالإثم فإنه إنما يكون بالقصد، ومعنى خاف توقع وعلم، ومنه قوله:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وتحقيق ذلك أن الخوف حالة تعتري عند انقباض من شر متوقع فلتلك الملابسة استعمل في التوقع وهو قد يكون مظنون الوقوع وقد يكون معلومه فاستعمل فيهما بمرتبة ثانية ولأن الأول أكثر كان استعماله فيه أظهر، ثم أصله أن يستعمل في الظن والعلم بالمحذور، وقد يتسع في إطلاقه على المطلق وإنما حمل على المجاز هنا لأنه لا معنى للخوف من الميل والإثم بعد وقوع الإيصاء وقرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب- من موص- بالتشديد والباقون بالتخفيف فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أي بين الموصى لهم من الوالدين والأقربين بإجرائهم على نهج الشرع، وقيل المراد فعل ما فيه الصلاح بين الموصي والموصى له بأن يأمر بالعدل والرجوع عن الزيادة وكونها للأغنياء وعليه لا يراد الصلح المرتب على الشقاق فإن الموصي والموصى له لم يقع بينهما شقاق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في ذلك التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف السابق، واستدل بالآية على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها خلافا لزاعمه.
وإنما يبطل منها ما زاد عليه لأن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ تذييل أتى به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه وذكر المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات وهي إنما تليق من فعل ما لا يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة ولذلك حسن ذكرها وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه يعني أنه تعالى غفور للآثام فلأن يكون رحيما من أطاعه من باب الأولى، ويحتمل أن يكون ذكرها وعدا للمصلح بمغفرة ما يفرط منه في الإصلاح إذ ربما يحتاج فيه إلى أقوال كاذبة وأفعال تركها أولى، وقيل: المراد غفور للجنف والإثم الذي وقع من الموصي بواسطة إصلاح الوصي وصيته، أو غفور للموصي بما حدث به نفسه من الخطأ والعمل إذ رجع إلى الحق، أو غفور للمصلح بواسطة إصلاحه بأن يكون الإصلاح مكفرا لسيئاته والكل بعيد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار الاعتناء مع بعد العهد، والصِّيامُ كالصوم مصدر صام وهو لغة الإمساك، ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، قال ابن دريد: كل شيء تمكث حركته فقد صام، ومنه قول النابغة:
خيل «صيام» وخيل غير- صائمة تحت العجاج- وأخرى تعلك اللجما
فصامت الريح ركدت، وصامت الشمس إذا استوت في منتصف النهار، وشرعا إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى يومنا كما هو ظاهر عموم الموصول، وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهما اتهم أهل الكتاب، وعن الحسن والسدي والشعبي أنهم النصارى، وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين فيه، فإن الأمور الشاقة إذا عمت طابت، والمراد بالمماثلة إما المماثلة في أصل
453
الوجوب- وعليه أبو مسلم والجبائي- وإما في الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون، وزاد فيه النصارى يوما قبل ويوما بعد احتياطا حتى بلغوا فيه خمسين يوما فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل،
وأخرج ابن حنظلة والنحاس والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعا كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه الله تعالى لنزيدن عشرا، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر فقال: ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما،
وفي كَما خمسة أوجه. أحدها أن محله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي- كتب كتبا- مثل ما كتب. الثاني أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة أي- كتب عليكم الصيام الكتب- مشبها بما كتب، و «ما» على الوجهين مصدرية. الثالث أن يكون نعتا لمصدر من لفظ الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم.
الرابع أن يكون حالا من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب، و «ما» على الوجهين موصولة. الخامس أن يكون في محل رفع على أنه صفة للصيام بناء على أن المعرف- بأل- الجنسية قريب من النكرة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي كي تحذروا المعاصي فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها أو يكسرها.
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»
ويحتمل أن يقدر المفعول الإخلال بأدائه، وعلى الأول يكون الكلام متعلقا بقوله كُتِبَ من غير نظر إلى التشبيه، وعلى الثاني بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي- تتقوا- الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك- كما قيل به- وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى.
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا قال مقاتل:
كل مَعْدُوداتٍ في القرآن أو- معدودة- دون الأربعين ولا يقال ذلك لما زاد، والمراد بهذه الأيام إما رمضان واختار ذلك ابن عباس والحسن وأبو مسلم رضي الله تعالى عنه وأكثر المحققين- وهو أحد قولي الشافعي- فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر أولا أنه كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عز وجل: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عز من قائل: شَهْرُ رَمَضانَ توطينا للنفس عليه، واعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا، وأجيب بأنه كان في الابتداء صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار واجبا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما تنبيها على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم المقيم والصحيح وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من كل شهر- وهي أيام البيض- على ما روي عن عطاء ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما روي عن قتادة، واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ بصوم رمضان، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة- كما قيل به- فكيف يكون الناسخ متصلا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل، وأجيب أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا يدل على الاتصال في النزول، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر.
454
وانتصاب أَيَّاماً ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل بمضمر دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعا، وقيل: منصوب بفعل يستفاد من كاف التشبيه، وفيه بيان لوجه المماثلة كأنه قيل:
كتب عليكم الصيام مماثلا لصيام الذين من قبلكم في كونه أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي المماثلة واقعة بين الصيامين من هذا الوجه وهو تعلق كل منهما بمدة غير متطاولة، فالكلام من قبيل زيد كعمرو فقها، وقيل: نصب على أنه مفعول ثان- لكتب- على الاتساع ورده في البحر بأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفا- لكتب- وذا لا يصح لأن الظرف محل الفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وهو الصيام، وأجيب بأنه يكفي للظرفية ظرفية المتعلق كما في يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحج: ٧٠، العنكبوت: ٥٢، التغابن: ٤] وبأن معنى كُتِبَ فرض، وفرضية الصيام، واقعة في الأيام وَمَنْ كانَ مَرِيضاً مرضا يعسر عليه الصوم معه كما يؤذن به قوله تعالى فيما بعد: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وعليه أكثر الفقهاء، وذهب ابن سيرين، وعطاء، والبخاري إلى أن المرخص مطلق المرض عملا بإطلاق اللفظ، وحكي أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع إصبعه وهو قول للشافعية أَوْ عَلى سَفَرٍ أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه بأن اشتغل به قبل الفجر ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر ولهذا المعنى أوثر على مسافرا، واستدل بإطلاق السفر على أن القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار، وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وما يلزمه العسر غالبا وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر وحذف الشرط والمضافان للعلم بهما، أما الشرط فلأن المريض والمسافر داخلان في الخطاب العام فدل على وجوب الصوم عليهما فلو لم يتقيد الحكم هنا به لزم أن يصير المرض والسفر اللذان هما من موجبات اليسر شرعا وعقلا موجبين للعسر، وأما المضاف الأول فلأن الكلام في الصوم ووجوبه، وأما الثاني فلأنه لما قيل- من كان مريضا أو مسافرا فعليه عدة- أي أيام معدودة موصوفة بأنها من أيام أخر علم أن المراد معدودة بعدد أيام المرض والسفر واستغنى عن الإضافة وهذا الإفطار مشروع على سبيل الرخصة فالمريض والمسافر إن شاءا صاما وإن شاءا أفطرا كما عليه أكثر الفقهاء إلا أن الإمام أبا حنيفة ومالكا قالا: الصوم أحب. والشافعي وأحمد والأوزاعي قالوا: الفطر أحب، ومذهب الظاهرية وجوب الإفطار وأنهما إذا صاما لا يصح صومهما لأنه قبل الوقت الذي يقتضيه ظاهر الآية، ونسب ذلك إلى ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- وبه قال الإمامية- وأطالوا بالاستدلال على ذلك بما رووه عن أهل البيت، واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا وأنه ليس على الفور خلافا لداود. وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى- أياما معدودة- فلو كان تاما لم يجزه شهر ناقص أو ناقصا لم يلزمه شهر كامل خلافا لمن خالف في الصورتين، واحتج بها أيضا من قال: لا فدية مع القضاء وكذا من قال: إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفي أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن الله تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه، ولا يخفى ما فيه، وقرىء- فعدة- بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أي فليصم عدة ومن قدر الشرط هناك قدره هنا وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا.
فِدْيَةٌ أي إعطاؤها طَعامُ مِسْكِينٍ وهي قدر ما يأكله كل يوم وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز لكل يوم وكان ذلك في بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
455
والطبراني وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت هذه الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدي فعل ذلك حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وقرأ سعيد بن المسيب: «يطيقونه» بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية. ومجاهد وعكرمة «يطّيقونه» بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو واوي، وقد جعلت الواو ياء فيهما ثم أدغمت الياء في الياء ومعناهما يتكلفونه، وعائشة رضي الله تعالى عنها «يطوقونه» بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة، ورويت الثلاث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا، وعنه «يتطوقونه» بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونه- بإدغام التاء في الطاء- وذهب إلى عدم النسخ- كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما- وقال: إن الآية نزلت في الشيخ الكبير الهرم، والعجوز الكبيرة الهرمة. ومن الناس من لم يقل بالنسخ أيضا على القراءة المتواترة وفسرها بيصومونه جهدهم وطاقتهم، وهو مبني على أن- الوسع- اسم للقدرة على الشيء على وجه السهولة- والطاقة- اسم للقدرة مع الشدة والمشقة، فيصير المعنى وَعَلَى الَّذِينَ يصومونه مع الشدة والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضا، وعلى أنه من أطاق الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه، وجاز أن تكون- الهمزة- للسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند تمامه، ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلك- كما في الكشف- والحق أن كلّا من القراءات يمكن حملها على ما يحتمل النسخ، وعلى ما لا يحتمله- ولكل ذهب بعض- وروي عن حفصة أنها قرأت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وقرأ نافع وابن عامر بإضافة فِدْيَةٌ إلى- الطعام وجمع المسكين- والإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسه- كخاتم فضة- لأن طعام المسكين يكون فدية وغيرها، وجمع المسكين لأنه جمع في وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فقابل الجمع بالجمع، ولم يجمع فِدْيَةٌ لأنها مصدر- والتاء فيها للتأنيث لا للمرة- ولأنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن زاد على القدر المذكور في- الفدية- قال مجاهد: أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم مسكينين فصاعدا- قاله ابن عباس- أو جمع بين الإطعام والصوم- قاله ابن شهاب.
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي التطوع أو الخير الذي تطوعه، وجعل بعضهم الخير الأول مصدر- خرت يا رجل وأنت خائر- أي حسن، والخير الثاني اسم تفضيل- فيفيد الحمل أيضا بلا مرية- وإرجاع الضمير إلى مِنْ أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده وَأَنْ تَصُومُوا أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء، أو المطوقون من الشيوخ والعجائز، أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين، والمرضى والمسافرين، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبرا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة، وقرأ أبيّ والصيام خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية أو تطوع الخير على الأولين، أو منهما ومن التأخير للقضاء على الأخير إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في الصوم من الفضيلة، وجواب أَنْ محذوف ثقة بظهوره- أي اخترتموه- وقيل: معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك، وعليه تكون الجملة تأكيدا لخيرية الصوم، وعلى الأول تأسيسا.
شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ خبره الموصول بعده، ويكون ذكر الجملة مقدمة لفرضية صومه بذكر فضله، أو فَمَنْ شَهِدَ والفاء لتضمنه معنى الشرط لكونه موصوفا بالموصول، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم الوقت الذي كتب عليكم الصيام فيه، أو المكتوب شهر رمضان، أو بدل من الصيام بدل كل بتقدير مضاف، أي كتب عليكم الصيام
456
صيام شهر رمضان، وما تخلل بينهما من الفصل متعلق ب كُتِبَ لفظا أو معنى فليس بأجنبي مطلقا، وإن اعتبرته بدل اشتمال استغنيت عن التقدير، إلا أن كون الحكم السابق- وهو فرضية الصوم- مقصودا بالذات، وعدم كون ذكر المبدل منه مشوقا إلى ذكر البدل يبعد ذلك، وقرىء شهر بالنصب على أنه مفعول ل «صوموا» محذوفا وقيل إنه مفعول وَأَنْ تَصُومُوا وفيه لزوم الفصل بين أجزاء المصدرية بالخبر، وجوز أن يكون مفعول تَعْلَمُونَ بتقدير مضاف- أي شرف شهر رمضان ونحوه- وقيل: لا حاجة إلى التقدير. والمراد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ نفس الشهر ولا تشكون فيه، وفيه إيذان بأن الصوم لا ينبغي مع الشك- وليس بشيء كما لا يخفى- والشهر المدة المعينة التي ابتداؤها رؤية الهلال، ويجمع في القلة على أشهر، وفي الكثرة على شهور، وأصله من شهر الشيء أظهره، وهو- لكونه ميقاتا للعبادات والمعاملات- صار مشهورا بين الناس، و «رمضان» مصدر رمض- بكسر العين- إذا احترق، وفي شمس العلوم من المصادر التي يشترك فيها الأفعال فعلان- بفتح الفاء والعين- وأكثر ما يجيء بمعنى المجيء والذهاب والاضطراب- كالخفقان والعسلان واللمعان- وقد جاء لغير المجيء والذهاب كما في- شنأته شنآنا إذا بغضته- فما في البحر من أن كونه مصدرا يحتاج إلى نقل- فإن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم- فإن جاء شيء منه كان شاذا، فالأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا ناشىء عن قلة الاطلاع، والخليل يقول: إنه من الرمض- مسكن الميم- وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار، وقد جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما للشهر المعلوم، ولولا ذلك لم يحسن إضافة شَهْرُ إليه كما لا يحسن- إنسان زيد- وإنما تصح إضافة العام إلى الخاص إذا اشتهر كون الخاص من أفراده، ولهذا لم يسمع شهر رجب وشهر شعبان، وبالجملة فقد أطبقوا على أن العلم في ثلاثة أشهر مجموع المضاف والمضاف إليه شهر رمضان، وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني، وفي البواقي لا يضاف شهر إليه، وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
ولا تضف شهرا إلى اسم شهر إلا لما أوله- الرا- فادر
واستثن منها رجبا فيمتنع لأنه فيما رووه ما سمع
ثم في الإضافة يعتبر في أسباب منع الصرف وامتناع- اللام- ووجوبها حال المضاف إليه فيمتنع في مثل شَهْرُ رَمَضانَ وابن داية من الصرف ودخول- اللام- وينصرف في مثل شهر ربيع الأول- وابن عباس- ويجب- اللام- في مثل- امرئ القيس- لأنه وقع جزءا حال تحليته باللام، ويجوز في مثل- ابن عباس- أما دخوله فللمح الأصل، وأما عدمه فلتجرده في الأصل، وعلى هذا فنحو من صام رمضان من حذف جزء العلم لعدم الإلباس- كذا قيل- وفيه بحث- أما أولا فلأن إضافة العام إلى الخاص مرجعها إلى الذوق، ولهذا تحسن تارة كشجر الأراك، وتقبح أخرى- كإنسان زيد- وقبحها في شَهْرُ رَمَضانَ لا يعرفه إلا من تغير ذوقه من أثر الصوم، وأما ثانيا فإن قولهم: لم يسمع شهر رجب إلخ مما سمع بين المتأخرين- ولا أصل له- ففي شرح التسهيل جواز إضافة شَهْرُ إلى جميع أسماء الشهور وهو قول أكثر النحويين- فادعاء الاطباق غير مطبق عليه، ومنشأ غلط المتأخرين ما في- أدب الكاتب- من أنه اصطلاح الكتاب، قال: لأنهم لما وضعوا التاريخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وجعلوا أول السنة المحرم، فكانوا لا يكتبون في تواريخهم شهرا إلا مع رمضان والربيعين، فهو أمر اصطلاحي- لا وضعي لغوي- ووجهه في رَمَضانَ موافقة القرآن وفي ربيع الفصل عن الفصل، ولذا صحح سيبويه جواز إضافة الشهر إلى جميع أسماء الشهور، وفرق بين ذكره وعدمه بأنه حيث ذكر لم يفد العموم- وحيث حذف أفاده- وعليه يظهر الفرق بين- إنسان زيد- وشَهْرُ رَمَضانَ ولا يغم هلال ذلك. وأما ثالثا فلأن قوله: ثم في الإضافة إلخ، مما صرح النحاة بخلافه، فإن- ابن داية- سمع منه وصرفه كقوله:
457
ولما رأيت النسر عز- ابن داية وعشش في وكريه جاش له صدري
قالوا: ولكل وجه أما عدم الصرف فلصيرورة الكلمتين بالتركيب كلمة بالتسمية فكان- كطلحة- مفردا وهو غير منصرف، وأما الصرف فلأن المضاف إليه في أصله اسم جنس- والمضاف كذلك- وكل منهما بانفراده ليس بعلم، وإنما العلم مجموعهما فلا يؤثر التعريف فيه ولا يكون لمنع الصرف مدخل فليحفظ، وبالجملة المعول عليه أن رَمَضانَ وحده علم وهو علم جنس لما علمت، ومنع بعضهم أن يقال: رَمَضانَ بدون شَهْرُ لما
أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عدي والبيهقي والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا «لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان»
وإلى ذلك ذهب مجاهد- والصحيح الجواز- فقد روي ذلك في الصحيح- والاحتياط لا يخفى-
وإنما سمي الشهر به لأن الذنوب ترمض فيه- قاله ابن عمر- وروى ذلك أنس.
وعائشة مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،
وقيل: لوقوعه أيام رمض الحر حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، وكان اسمه قبل ناتقا، ولعل ما روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبين لما ينبغي أن يكون وجه التسمية عند المسلمين، وإلا فهذا الاسم قبل فرضية الصيام بكثير على ما هو الظاهر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي ابتدئ فيه إنزاله- وكان ذلك ليلة القدر- قاله ابن إسحاق، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جبير والحسن أنه نزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض في ثلاث وعشرين سنة، وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ
وأخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع. عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين»
ولما كان بين الصوم ونزول الكتب الإلهية مناسبة عظيمة كان هذا الشهر المختص بنزولها مختصا بالصوم الذي هو نوع عظيم من آيات العبودية، وسبب قوي في إزالة العلائق البشرية المانعة عن إشراق الأنوار الصمدية. هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل أي أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق، والفارقة بين الحق والباطل باشتمالها على المعارف الإلهية والأحكام العملية كما يشعر بذلك جعله بينات منها فهو هاد بواسطة أمرين مختص وغير مختص فالهدى ليس مكررا، وقيل: مكرر تنويها وتعظيما لأمره وتأكيدا لمعنى الهداية فيه كما تقول عالم نحرير فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ من شرطية أو موصولة- والفاء- إما جواب الشرط، أو زائدة في الخبر، ومِنْكُمُ في محل نصب على الحال من المستكن في شَهِدَ والتقييد به لإخراج الصبي والمجنون، وشَهِدَ من الشهود والتركيب يدل على الحضور إما ذاتا أو علما، وقد قيل: بكل منهما هنا، والشَّهْرَ على الأول مفعول فيه والمفعول به متروك لعدم تعلق الغرض به فتقدير البلد أو المصر ليس بشيء، وعلى الثاني مفعول به بحذف المضاف أي هلال الشهر- وأل- فيه على التقديرين للعهد ووضع المظهر موضع المضمر للتعظيم ونصب الضمير المتصل في- يصمه- على الاتساع لأن صام لازم والمعنى فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه أو من علم هلال الشهر وتيقن به فليصم، ومفاد الآية على هذا عدم وجوب الصوم على من شك في الهلال وإنما قدر المضاف لأن شهود الشهر بتمامه إنما يكون بعد انقضائه ولا معنى لترتب وجوب الصوم فيه بعد انقضائه وعليه يكون قوله تعالى: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مخصصا بالنظر إلى المريض والمسافر كليهما، وعلى الأول مخصص بالنظر إلى الأول دون الثاني وتكريره حينئذ لذلك التخصيص أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه والأول كما قيل على رأي من شرط في المخصص أن يكون متراخيا موصولا، والثاني على رأي من جوز كونه متقدما وهذا بجعل المخصص هو الآية السابقة، و «ما» هنا لمجرد دفع التوهم ورجح المعنى الأول من المعنيين بعدم
458
الاحتياج إلى التقدير وبأن الفاء في «فمن شهد» عليه وقعت في مخرها مفصلة لما أجمل في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ من وجوب التعظيم المستفاد مما في أثره على كل من أدركه ومدركه إما حاضر أو مسافر فمن كان حاضرا فحكمه كذا إلخ ولا يحسن أن يقال من علم الهلال فليصم وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فليقض لدخول القسم الثاني في الأول والعاطف التفصيلي يقتضي المغايرة بينهما كذا قيل، لكن ذكر المريض يقوي كونه مخصصا لدخوله فيمن شهد على الوجهين، ولذا ذهب أكثر النحويين إلى أن الشهر مفعول به- فالفاء- للسببية أو للتعقيب لا للتفصيل.
يُرِيدُ اللَّهُ بهذا الترخيص بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لغاية رأفته وسعة رحمته، واستدل المعتزلة بالآية على أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى وذلك لأن المريض والمسافر إذا صاما حتى أجهدهما الصوم فقد فعلا خلاف ما أراد الله تعالى لأنه أراد التيسير ولم يقع مراده، ورد بأن الله تعالى أراد التيسير وعدم التعسير في حقهما بإباحة الفطر، وقد حصل بمجرد الأمر بقوله عز شأنه: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ من غير تخلف، وفي البحر تفسير الإرادة هنا بالطلب، وفيه أنه التزام لمذهب الاعتزال من أن إرادته تعالى لأفعال العباد عبارة عن الأمر وأنه تعالى ما طلب منا اليسر بل شرعه لنا، وتفسير اليسر بما يسر بعيد، وقرأ أبو جعفر اليسر والعسر بضمتين.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علل لفعل محذوف دل عليه فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ إلخ أي وشرع لكم جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر المستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وأمر المرخص له بالقضاء كيفما كان متواترا أو متفرقا وبمراعاة عدة ما أفطره من غير نقصان فيه المستفادين من قوله سبحانه وتعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ومن الترخيص المستفاد من قوله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أو من قوله تعالى: فَعِدَّةٌ إلخ- لتكملوا- إلخ والأول علة الأمر بمراعاة عدة الشهر بالأداء في حال شهود الشهر، وبالقضاء في حال الإفطار بالعذر فيكون علة لمعللين أي أمرناكم بهذين الأمرين لتكملوا عدة الشهر بالأداء والقضاء فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته نقصت أيامه أو كملت وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة الترخيص والتيسير، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى أن هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى اليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللا لما سبق ولذا قال من لم يبلغ درجة الكمال: إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلما فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملا على ما سبق إجمالا يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل بحاله ولكونه مغايرا له بالإجمال، والتفصيل يصح عطفه عليه، وفي ذكر الأحكام تفصيلا أولا، وإجمالا ثانيا وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء، وجوز أن تكون عللا لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير- ولتكملوا العدة- أوجب عليكم عدة أيام أخر وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ علمكم كيفية القضاء وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون وَلِتُكْمِلُوا إلخ وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار الإعلام بها فقوله: ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار الإعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر، ولك أن لا تقدر شيئا أصلا وتجعل العطف على اليسر أي- ويريد بكم لتكملوا- إلخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل: بعد فعل الإرادة تأكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك، وقيل: إنها بمعنى أن كما في الرضيّ إلا أنه
459
يلزم على هذا الوجه أن يكون وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عطفا على يُرِيدُ إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون، وحينئذ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد، ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع، وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل:
رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا إلخ، ولا يخفى عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم، والمراد من التكبير الحمد والثناء مجازا لكونه فردا منه ولذلك عدي بعلى، واعتبار التضمين أي لتكبروا حامدين ليس بمعتبر لأن الحمد نفس التكبير ولكونه على هذا عبادة قولية ناسب أن يعلل به الأمر بالقضاء الذي هو نعمة قولية أيضا، وأخرج ابن المنذر وغيره عن زيد بن أسلم أن المراد به التكبير يوم العيد، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه التكبير عند الإهلال، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله تعالى حتى يفرغوا من عيدهم لأن الله تعالى يقول: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ وعلى هذين القولين لا يلائم تعليل الأحكام السابقة، وما يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة أي الذي هداكموه أو هداكم إليه، والمراد من الشكر ما هو أعم من الثناء ولذا ناسب أن يجعل طلبه تعليلا للترخيص الذي هو نعمة فعلية. وقرأ أبو بكر عن عاصم وَلِتُكْمِلُوا بالتشديد وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي في تلوين الخطاب مع توجيهه لسيد ذوي الألباب عليه الصلاة والسلام، ما لا يخفى من التشريف ورفع المحل عَنِّي أي عن قربي وبعدي إذ ليس السؤال عن ذاته تعالى فَإِنِّي قَرِيبٌ أي فقل لهم ذلك بأن تخبر عن القرب بأي طريق كان، ولا بد من التقدير إذ بدونه لا يترتب على الشرط، ولم يصرح بالمقدر كما في أمثاله للإشارة إلى أنه تعالى تكفل جوابهم ولم يكلهم إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم تنبيها على كمال لطفه، والقرب حقيقة في القرب المكاني المنزه عنه تعالى فهو استعارة لعلمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على سائر أحوالهم،
وأخرج سفيان بن عيينة، وعبد الله بن أحمد عن أبي قال: قال المسلمون يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله الآية
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ دليل للقرب وتقرير له فالقطع لكمال الاتصال، وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على ما تشير إليه كلمة إِذا لا كليا فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الإنعام: ٤١] لا إلى أن القول بأن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى لبيك يا عبدي وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا إلى تخصيص الدعوة بما ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، أو الداعي بالمطيع المخبت. نعم كونه كذلك أزجي للإجابة لا سيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة المعلومة، والكيفية المشهورة، ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقا وقد تتخلف إلى بدل،
ففي الصحيح عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها»
وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم، واستجاب وأجاب واحد ومعناه قطع مسألته بتبليغه مراده من الجواب بمعنى القطع، وهذا ما عليه أكثر المفسرين ولا يغني عنه وَلْيُؤْمِنُوا بِي لأنه أمر بالثبات والمداومة على الإيمان لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم، وأصل الباب إصابة الخير، وقرىء بفتح الشين وكسرها، ولما أمرهم سبحانه وتعالى بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأفعالهم سميع لأقوالهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه، أو أنه لما نسخ الأحكام في الصوم ذكر هذه الآية الدالة على كمال علمه بحال العباد وكمال قدرته عليهم ونهاية لطفه بهم في أثناء نسخ الأحكام تمكينا لهم في الإيمان، وتقريرا لهم على الاستجابة لأن مقام النسخ من مظان الوسوسة
460
والتزلزل، فالجملة على التقديرين اعتراضية بين كلامين متصلين معنى، أحدهما ما تقدم، والثاني قوله سبحانه وتعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ
أخرج أحمد وجماعة عن كعب بن مالك قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت: إني قد نمت فقال: ما نمت، ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فنزلت.
وفي رواية ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ثم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعتذر إلى الله تعالى وإليك من نفسي هذه الخاطئة فإنها زينت لي فواقعت أهلي هل تجد لي من رخصة؟ قال: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وأمر الله تعالى رسوله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال:
أُحِلَّ لَكُمْ إلخ
- وليلة الصيام- الليلة التي يصبح منها صائما فالإضافة لأدنى ملابسة، والمراد بها الجنس وناصبها- الرفث- المذكور أو المحذوف الدال هو عليه بناء على أن المصدر لا يعمل متقدما، وجوز أن يكون ظرفا- لأحل- لأن إحلال الرفث في ليلة الصيام وإحلال الرفث الذي فيها متلازمان، والرَّفَثُ من رفث في كلامه وأرفث وترفث أفحش وأفصح بما يكنى عنه، والمراد به هنا الجماع لأنه لا يكاد يخلو من الإفصاح، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أنشد وهو محرم:
وهن يمشين بنا هميسا إن صدق الطير ننك لميسا
فقيل له: أرفثت؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء، فالرفث فيه يحتمل أن يكون قولا وأن يكون فعلا، والأصل فيه أن يتعدى- بالباء- وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ولم يجعل من أول الأمر كناية عنه لأن المقصود هو الجماع فقصرت المسافة، وإيثاره هاهنا على ما كني به عنه في جميع القرآن من التغشية والمباشرة واللمس والدخول ونحوها استقباحا لما وجد منهم قبل الإباحة، ولذا سماه اختيانا فيما بعد، والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك، وقرأ عبد الله- الرفوث- هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن قاله ابن عباس حين سأله نافع بن الأزرق وأنشد رضي الله تعالى عنهما لما قال له هل تعرف العرب ذلك؟ قول الذبياني:
إذا ما الضجيع ثنى عطفه تثنت عليه فكانت «لباسا»
ولما كان الرجل والمرأة يتعانقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه كل واحد بالنظر إلى صاحبه باللباس أو لأن كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه عن الفجور، وقد جاء
في الخبر «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه»
والجملتان مستأنفتان استئنافا نحويا والبياني يأباه الذوق، ومضمونهما بيان لسبب الحكم السابق وهو قلة الصبر عنهن كما يستفاد من الأولى، وصعوبة اجتنابهن كما تفيده الثانية- ولظهور احتياج الرجل إليهن وقلة صبره- قدم الأولى،
وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم وأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا»
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ جملة معترضة بين قوله تعالى: أُحِلَّ إلخ وبين ما يتعلق به أعني فَالْآنَ إلخ لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم قبل الإحلال، ومعنى عَلِمَ تعلق علمه، والاختيان- تحرك
461
شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة البليغة فيكون المعنى تنقصون أنفسكم تنقيصا تاما بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب، ويؤول إلى معنى تظلمونها بذلك، والمراد الاستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال كما ينبىء عنه صيغتا الماضي والمضارع وهو متعلق العلم، وما تفهمه الصيغة الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على الأزلي الذاهب إليه البعض فَتابَ عَلَيْكُمْ عطف على عَلِمَ والفاء لمجرد التعقيب، والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه وَعَفا عَنْكُمْ أي محا أثره عنكم وأزال تحريمه، وقيل:
الأول لإزالة التحريم وهذا لغفران الخطيئة فَالْآنَ مرتب على قوله سبحانه وتعالى أُحِلَّ لَكُمْ نظرا إلى ما هو المقصود من الإحلال وهو إزالة التحريم أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو ليلة الصيام كما يدل عليه الغاية الآتية فإنها غاية للأوامر الأربعة التي هذا ظرفها، والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل نسخ التحريم وليس حاضرا بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى: بَاشِرُوهُنَّ، وقيل: إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر إلا أنه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا أو أنه مستعمل في حقيقته والتقدير قد أبحنا لكم مباشرتهن، وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة وأطلقت على الجماع للزومها لها.
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطلبوا ما قدره اللَّهُ تعالى لَكُمْ في اللوح من الولد، وهو المروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم. والمراد الدعاء بطلب ذلك بأن يقولوا: اللهم ارزقنا ما كتبت لنا، وهذا لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنه قدر له ولد، وقيل: المراد ما قدره لجنسكم والتعبير ب ما نظرا إلى الوصف كما في قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: ٥] وفي الآية دلالة على أن المباشر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل- لا قضاء الشهوة فقط- لأنه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم، وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل، أو عن إتيان المحاش، وبعض فسر من أول مرة ما كتب بما سن وشرع من صب الماء في محله، أي اطلبوا ذلك دون العزل والإتيان المذكورين- والمشهور حرمتهما- أما الأول فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير رضاها، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على الاختلاف بين الإمام وصاحبيه، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها إذ لا حق لها.
وأما الثاني فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء الله تعالى. وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر. وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد ابْتَغُوا الرخصة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ تعالى لَكُمْ فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وعليه تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها، وعن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية ابْتَغُوا أو «اتبعوا» ؟ فقال: أيهما شئت، وعليك بالقراءة الأولى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الليل كله حَتَّى يَتَبَيَّنَ
أي يظهر لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره، وحمله على الفجر الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل مِنَ الْفَجْرِ بيان لأول الخيطين- ومنه يتبين الثاني- وخصه بالبيان لأنه المقصود وقيل: بيان لهما بناء على أن الْفَجْرِ عبارة عن مجموعهما لقول الطائي: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه فهو على وزان قولك: حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم، وبهذا البيان خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه بالكلية، وادعاء أن المشبه هو المشبه به لولا القرينة والبيان ينادي على أن المراد- مثل هذا الخيط وهذا الخيط- إذ هما لا يحتاجان إليه، وجوّز أن
462
تكون مِنَ تبعيضية لأن ما يبدو جزء من «الفجر» كما أنه فجر بناء على أنه اسم للقدر المشترك بين الكل والجزء، ومِنَ الأولى قيل: لابتداء للغاية، وفيه أن الفعل المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد، وعلامتها أن يحسن في مقابلتها إِلى أو ما يفيد مفادها- وما هنا ليس كذلك- فالظاهر أنها متعلقة ب يَتَبَيَّنَ بتضمين معنى التميز، والمعنى حتى يتضح «لكم الفجر» متميزا عن غبش الليل، فالغاية إباحة ما تقدم حَتَّى يَتَبَيَّنَ أحدهما من الآخر ويميز بينهما، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء ب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الفجر، أو «يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر» لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة، فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان، وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: أنزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعد «من الفجر» فعلموا إنما يعني الليل والنهار، فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما، إلا أنه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم، ويؤيد ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح- بالبلادة- ولو كان الأمر موقوفا على البيان لاستوى فيه الذكي والبليد،
فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري.
ومسلم وأبو داود والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: لما أنزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بالذي صنعت فقال: «إن وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» وفي رواية «إنك لعريض القفا»
وقيل: إن نزول الآية كان قبل دخول رمضان- وهي مبهمة- والبيان ضروري إلا أنه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو لا يضر- ولا يخفى ما فيه- وقال أبو حيان: إن هذا من باب النسخ، ألا ترى أن الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ ثم صار مجازا بالبيان ويرده على ما فيه أن النسخ يكون بكلام مستقل ولم يعهد نسخ هكذا وفي هذه الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب بل على وقوعه بناء على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنة، وليس في القرآن ما يدل عليها، وأُحِلَّ أيضا يدل على ذلك إلا أنه نسخ بلا بدل وهو مختلف فيه، واستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنبا فإن لم يصح صومه لما جازت المباشرة لأن الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم مناف للملزوم، ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل قبله لأنه إنما يفسد الصوم لكونه مكمل الجماع فهو جماع واقع في الصبح، وليس بلازم للجماع كالجنابة، وخالف في ذلك بعضهم ومنع الصحة زاعما أن الغاية متعلقة بما عندها، واحتج بآثار صح لدى المحدثين خلافها.
واستدل بها أيضا على جواز الأكل مثلا لمن شك في طلوع الفجر لأنه تعالى أباح ما أباح مغيّى بتبينه ولا تبين مع الشك خلافا لمالك. ومجاهد بها على عدم القضاء والحال هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر لأنه أكل في وقت اذن له فيه، وعن سعيد بن منصور مثله- وليس بالمنصور- والأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم على أن أول النهار الشرعي طلوع الفجر فلا يجوز فعل شيء من المحظورات بعده وخالف في ذلك الأعمش ولا يتبعه إلا الأعمى، فزعم أن أوله طلوع الشمس كالنهار العرفي وجوز فعل المحظورات بعد طلوع الفجر، وكذا الإمامية وحمل مِنَ الْفَجْرِ على التبعيض وإرادة الجزء الأخير منه والذي دعاه لذلك خبر صلاة النهار عجماء وصلاة الفجر ليست بها فهي في الليل،
463
وأيده بعضهم بأن شوب الظلمة بالضياء كما أنه لم يمنع من الليلية بعد غروب الشمس ينبغي أن لا يمنع منها قبل طلوعها وتساوي طرفي الشيء مما يستحسن في الحكمة وإلى البدء يكون العود، وفيه أن النهار في الخبر بعد تسليم صحته يحتمل أن يكون بالمعنى العرفي ولو أراده سبحانه وتعالى في هذا الحكم لقال: وكلوا واشربوا إلى النهار ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ مع أنه أخصر وأوفق مما عدل إليه فحيث لم يفعل فهم أن الأمر مربوط بالفجر لا بطلوع الشمس سواء عد ذلك نهارا أم لا، وما ذكر من استحسان تساوي طرفي الشيء مع كونه- مما لا يسمن ولا يغني من جوع- في هذا الباب يمكن معارضته بأن جعل أول النهار كأول الليل وهما متقابلان مما يدل على عظم قدرة الصانع الحكيم وإلى الانتهاء غاية الإتمام، ويجوز أن يكون حالا من الصيام فيتعلق بمحذوف ولا يجوز جعله غاية للإيجاب لعدم امتداده، وعلى التقديرين تدل الآية على نفي كون الليل محل الصوم وأن يكون صوم اليومين صومة واحدة، وقد استنبط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منها حرمة الوصال كما قيل،
فقد روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه، وقال: يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى،
وأَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فإذا كان الليل فافطروا، ولا تدل الآية على أنه لا يجوز الصوم حتى يتخلل الإفطار خلافا لزاعمه، نعم استدل بها على صحة نية رمضان في النهار، وتقرير ذلك أن قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا إلخ معطوف على قوله: بَاشِرُوهُنَّ إلى قوله سبحانه:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ وكلمة ثُمَّ للتراخي والتعقيب بمهلة- واللام- في الصِّيامِ للعهد على ما هو الأصل، فيكون مفاد ثُمَّ أَتِمُّوا إلخ الأمر- بإتمام الصيام- المعهود أي الإمساك المدلول عليه بالغاية سواء فسر بإتيانه تاما، أو بتصييره كذلك متراخيا عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر تحقيقا لمعنى ثُمَّ فصارت نية الصوم بعد مضي جزء من الفجر لأن قصد الفعل إنما يلزمنا حين توجه الخطاب، وتوجهه- بالإتمام- بعد الفجر لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لإنقضاء الليل تحقيقا لمعنى التراخي، والليل لا ينقضي إلا متصلا بجزء من الفجر، فتكون النية بعد مضي جزء الفجر الذي به انقطع الليل، وحصل فيه الإمساك المدلول عليه بالغاية، فإن قيل: لو كان كذلك وجب وجوب النية بعد المضي، أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع، وبأن إعمال الدليلين- ولو بوجه- أولى من إهمال أحدهما، فلو قلنا بوجوب النية كذلك عملا بالآية بطل العمل
بخبر «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل»
ولو قلنا باشتراط النية قبله عملا بالخبر بطل العمل بالآية، فقلنا بالجواز عملا بهما، فإن قيل: مقتضى الآية- على ما ذكر- الوجوب وخبر الواحد لا يعارضها، أجيب بأنها متروكة الظاهر بالإجماع فلم تبق قاطعة- فيجوز أن يكون الخبر بيانا لها- ولبعض الأصحاب تقرير الاستدلال بوجه آخر، ولعل ما ذكرناه أقل مؤنة فتدبر. وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت، لأن معنى «ثم أتموا» صيروه تاما بعد الانفجار، وهو يقتضي الشروع فيه قبله- وما ذاك إلا بالنية- إذ لا وجوب للإمساك قبل، ولا يخفي ما فيه وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ أي معتكفون فيها- والاعتكاف- في اللغة الاحتباس واللزوم مطلقا، ومنه قوله:
فباتت بنات الليل حولي- عكفا عكوف- بواك حولهن صريع
وفي الشرع لبث مخصوص، والنهي عطف على أول الأوامر- والمباشرة فيه كالمباشرة فيه- وقد تقدم أن المراد بها الجماع، إلا أنه لزم من إباحة الجماع إباحة اللمس والقبلة وغيرهما بخلاف النهي فإنه- لا يستلزم النهي عن الجماع- النهي عنهما، فهما إما مباحان اتفاقا بأن يكونا بغير شهوة، وإما حرامان بأن يكونا بها «يبطل الاعتكاف ما لم ينزل» وصحح معظم أصحاب الشافعي البطلان- وقيل: المراد من- المباشرة- ملاقاة البشرتين ففي الآية منع عن
464
مطلق المباشرة- وليس بشيء- فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها ترجل رأس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معتكف، وفي تقييد- الاعتكاف بالمساجد- دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد إذ لو جاز شرعا في غيره لجاز في البيت- وهو باطل بالإجماع- ويختص بالمسجد الجامع عند الزهري، وروي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه مختص بمسجد له إمام ومؤذن راتب، وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه: يختص بالمساجد الثلاثة،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه لا يجوز إلا في المسجد الحرام،
وعن ابن المسيب لا يجوز إلا فيه أو في المسجد النبوي، ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يصح في جميع المساجد مطلقا بناء على عموم اللفظ وعدم اعتبار أن المطلق ينصرف إلى الكامل، واستدل بالآية على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد بناء على أنها لا تدخل في خطاب الرجال، وعلى اشتراط الصوم في الاعتكاف لأنه قصر الخطاب على الصائمين، فلو لم يكن الصوم من شرطه لم يكن لذلك معنى، وهو المروي عن نافع مولى ابن عمر، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يوم- كما أن الصوم لا يكون كذلك- والشافعي رضي الله تعالى عنه لا يشترط يوما ولا صوما، لما
أخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» ومثله عن ابن مسعود،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان أخرجهما ابن أبي شيبة من طريقين إحداهما الاشتراط، وثانيتهما عدمه، وعلى أن المعتكف إذا خرج من المسجد فباشر خارجا جاز لأنه حصر المنع من المباشرة حال كونه فيه، وأجيب بأن المعنى لا تُبَاشِرُوهُنَّ حال ما يقال لكم: إنكم عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ومن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فاعتكافه باق، ويؤيده ما روي عن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع- فنهوا عن ذلك- واستدل بها أيضا على أن الوطء يفسد الاعتكاف لأن النهي للتحريم، وهو في العبادات يوجب الفساد، وفيه أن المنهي عنه هنا- المباشرة حال الاعتكاف- وهو ليس من العبادات لا يقال:
إذا وقع أمر منهي عنه في العبادة- كالجماع في الاعتكاف- كانت تلك العبادة منهية باعتبار اشتمالها على المنهي ومقارنتها إياه إذ يقال: فرق بين كون الشيء منهيا عنه باعتباره ما يقارنه، وبين كون المقارن منهيا في ذلك الشيء والكلام في الأول، وما نحن فيه من قبيل الثاني تِلْكَ أي الأحكام الستة المذكورة المشتملة على إيجاب وتحريم وإباحة حُدُودُ اللَّهِ أي حاجزة بين الحق والباطل فَلا تَقْرَبُوها كيلا يداني الباطل والنهي عن القرب من- تلك الحدود- التي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازما للثاني وهو أبلغ من فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: ٢٢٩] لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح، وعلى هذا لا يشكل «لا تقربوها» في تلك الأحكام مع اشتمالها على ما سمعت، ولا وقوع «فلا تعتدوها» وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح «لا تقربوها» في الكل، وقيل: يجوز أن يراد ب حُدُودُ اللَّهِ تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية، وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وأمثاله، وقال أبو مسلم: معنى «لا تقربوها» لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الإنعام: ١٥٢، الإسراء: ٣٤] فيشمل جميع الأحكام- ولا يخفى ما في الوجهين من التكليف- والقول- بأن تلك إشارة إلى الأحكام- والحد- إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين، فعلى الأول يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء فَلا تَقْرَبُوها أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيء- فإن الحكم لله تعالى عز شأنه- وعلى الثاني يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية، فالإله يحكم والعباد تنقاد، فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى- لا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى.
465
كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين الواقع في أحكام الصوم يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ إما مطلقا أو الآيات الدالة على سائر الأحكام التي شرعها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مخالفة أوامره ونواهيه، والجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير الأحكام السابقة والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل تقواكم، ولما ذكر سبحانه الصيام وما فيه عقبه بالنهي عن الأكل الحرام المفضي إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه فقال:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ والمراد من- الأكل- ما يعم الأخذ والاستيلاء، وعبر به لأنه أهم الحوائج- وبه يحصل إتلاف المال غالبا- والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، فهو على حد وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: ١١] وليس من تقسيم الجمع على الجمع، كما في- ركبوا دوابهم- حتى يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه، بدليل قوله سبحانه: بَيْنَكُمْ فإنه- بمعنى الواسطة- يقتضي أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين بكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما- وذلك ظاهر على المعنى المذكور- والظرف متعلق ب تَأْكُلُوا كالجار والمجرور بعده، أو بمحذوف حال من «الأموال» - والباء- للسببية والمراد من بِالْباطِلِ الحرام، كالسرقة، والغصب، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع.
وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عطف على تأكلوا فهو منهي عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه والإدلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر ثم استعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء- والباء- صلة الإدلاء وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور «للأموال» أي لا تتوصلوا، أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى- الحكام- وقيل: لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة، وقرأ أبيّ «ولا تدلوا» لِتَأْكُلُوا بالتحاكم والرفع إليهم.
فَرِيقاً قطعة وجملة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي بسبب ما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة، ويحتمل أن تكون- الباء- للمصاحبة أي متلبسين- بالإثم. والجار والمجرور على الأول متعلق «بتأكلوا» وعلى الثاني حال من فاعله وكذلك وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ومفعول العلم محذوف أي- تعلمون- أنكم مبطلون، وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل، وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه،
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبدان بن أشوع الحضرمي، وامرؤ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: ٧٧] فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت.
واستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا فلا يحل به الأخذ في الواقع، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد ويؤيده ما
أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار».
وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا كما
روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند علي كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة: لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم الله تعالى وجهه: قد زوجك الشاهدان،
وذهب فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له
466
وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه لأن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت والمسألة معروفة في الفروع والأصول، ولها تفصيل في أدب القاضي فارجع إليه.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
أخرج ابن عساكر بسند ضعيف- أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم، قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت، وفي رواية أن معاذا قال: يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله تعالى هذه الآية،
فيراد بالجمع على الرواية الأولى ما فوق الواحد أو ينزل الحاضرون المترقبون للجواب منزلة السائل وظاهره المتبادر على الرواية الثانية بناء على أن سؤال اليهود من بعض أصحابه بمنزلة السؤال منه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو طريق علمهم ومستمد فيضهم، والْأَهِلَّةِ جمع هلال واشتقاقه من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وسمي به القمر في ليلتين من أول الشهر أو في ثلاث أو حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخط دقيق- وإليه ذهب الأصمعي- أو حتى يبهر ضوءه سواد الليل، وغيا ذلك بعضهم بسبع ليال- وسمي بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره- أو بالتكبير ولهذا يقال أهلّ الهلال واستهل ولا يقال هلّ، والسؤال يحتمل أن يكون عن الغاية والحكمة وأن يكون عن السبب والعلة، ولا نص في الآية والخبر على أحدهما أما الملفوظ من الآية فظاهر، وأما المحذوف فيحتمل أن يقدر ما سبب اختلافها وأن يقدر ما حكمته، وهي وإن كانت في الظاهر سؤالا عن التعدد إلا أنها في الحقيقة متضمنة للسؤال عن اختلاف التشكلات النورية لأن التعدد يتبع اختلافها إذ لو كان الهلال على شكل واحد لا يحصل التعدد كما لا يخفى، وأما الخبر فلأن ما فيه يسأل بها عن الجنس وحقيقته فالمسؤول حينئذ حقيقة أمر الهلال وشأنه حال اختلاف تشكلاته النورية، ثم عوده إلى ما كان عليه وذلك الأمر المسئول عن حقيقته يحتمل ذينك الأمرين بلا ريب فعلى الأول يكون الجواب بقوله تعالى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مطابقا مبينا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى ومزيد رأفته سبحانه وهي أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية ويعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ومعالم للعبادات الموقتة يعرف بها أوقاتها كالصيام والإفطار وخصوصا الحج، فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء ولو كان الهلال مدورا كالشمس أو ملازما حالة واحدة لم يكد يتيسر التوقيت به، ولم يذكر صلى الله تعالى عليه وسلم الحكمة الباطنة لذلك مثل كون اختلاف تشكلاته سببا عاديا أو جعليا لاختلاف أحوال المواليد العنصرية كما بين في محله لأنه مما لم يطلع عليه كل أحد، وعلى الثاني يكون من الأسلوب الحكيم، ويسمى القول بالموجب وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله- واختاره السكاكي. وجماعة- فيكون في هذا الجواب إشارة إلى أن الأولى على تقدير وقوع السؤال أن يسألوا عن الحكمة لا عن السبب لأنه لا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي إنما بعث لبيان ذلك لا لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق علم الهيئة الموقوفة على الإرصاد والأدلة الفلسفية كما وهم لأن ذلك على فرض تسليمه في حق أولئك المشائين في ركاب النبوة، والمرتاضين في رواق الفتوة، والفائزين بإشراق الأنوار، والمطلعين بأرصاد قلوبهم على دقائق الأسرار، وإن لم يكن نقصا من قدرهم إلا أنه يدل على أن سبب الاختلاف ما بين في علم الهيئة من بعد القمر عن الشمس وقربه إليها وهو باطل عند أهل الشريعة فإنه مبني على أمور لم يثبت جزما شيء منها غاية الأمر أن الفلاسفة الأول تخيلوها موافقة لما أبدعه الحكيم المطلق
467
كما يشير إليه كلام مولانا الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته، ومما ينادى على أن ما ذهبوا إليه مجرد تخيل لا تأباه الحكمة وليس مطابقا لما في نفس الأمران المتأخرين مما انتظم في سلك الفلاسفة كهرشل الحكيم وأتباعه أصحاب الرصد والزيج الجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في أمر الهيئة، وقالوا: بأن الشمس مركز والأرض وكذا النجوم دائرة حولها وبنوا حكم الكسوف والخسوف ونحوه على ذلك وبرهنوا عليه وردوا مخالفيه ولم يتخلف شيء من أحكامهم في هذا الباب بل يقع حسبما يقع ما يقوله الأولون مبنيا على زعمهم فحيث اتفقت الأحكام مع اختلاف المبنيين وتضاد المشائين، ورد أحد الزعمين بالآخر ارتفع الوثوق بكلا المذهبين ووجب الرجوع إلى العلم المقتبس من مشكاة الرسالة والمنقدح من أنوار شمس السيادة والبسالة، والاعتماد على ما قاله الشارع الأعظم صلّى الله عليه وسلّم بعد إمعان النظر فيه وحمله على أحسن معانيه وإذا أمكن الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل
وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء فلا بأس به بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرا ما تعرض لضعفاء المؤمنين وإذا لم يمكن ذلك فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع وتنزلت به أملاك الحق.
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
وسيأتي تتمة لهذا المبحث إن شاء الله تعالى، و «المواقيت» جمع ميقات صيغة آلة أي ما يعرف به الوقت، والفرق بينه وبين المدة والزمان- على ما يفهم من كلام الراغب- أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك في الظاهر من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدة مقسومة إلى السنين والشهور والأيام والساعات، والوقت الزمان المقدر والمعين، وقرىء بإدغام نون عَنِ في الْأَهِلَّةِ بعد النقل والحذف، واستدل بالآية على جواز الإحرام بالحج في كل السنة، وفيه بعد بل ربما يستدل بها على خلاف ذلك لأنه لو صح لم يحتج إلى الهلال في الحج، وإنما احتيج إليه لكونه خاصا بأشهر معلومة محتاجة في تمييزها عن غيرها إليه، وإلى هذا ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة لأنه في بيان حكم الصيام، وذكر شهر رمضان وبحث الْأَهِلَّةِ يلائم ذلك لأن الصوم مقرون برؤية الهلال وكذا الإفطار، ولهذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحا، وعن عبد قلبه قلبا، وعن أنثى نفسه نفسا فإنّه كما كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ في قتلاكم- كتب على نفسه الرحمة في قتلاه- ففي بعض الآثار من طرق القوم أنه سبحانه يقول: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكم في مقاصة الله تعالى إياكم بما ذكر حياة عظيمة لا موت بعدها يا أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والإجرام لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم، ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات ووصية أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق، ومنها الصيام، وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية، وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فاجعلها كلها أيام صومك واجعل فطرك في عيد لقاء الله تعالى، وشهر رمضان هو وقت احتراق النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن، وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع، ودلائل مفصلة من الجمع، والفرق- فمن حضر منكم ذلك الوقت وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له، وبه، وفيه، ومنه، وإليه، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه
468
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ والوصول إلى مقام التوحيد، والاقتدار بقدرته وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة وَلِتُكْمِلُوا عدة المراتب ولتعظموا الله تعالى على هدايته لكم إلى مقام الجمع وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بالاستقامة وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي المختصون بي المنقطعون إلى عن معرفتي فَإِنِّي قَرِيبٌ منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق أُجِيبُ من يدعوني بلسان الحال، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله، واستعداده فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بتصفية استعدادهم وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين.
ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله سبحانه: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي لا صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ أي وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء بَاشِرُوهُنَّ بقدر الحاجة الضرورية وَابْتَغُوا بقوة هذه المباشرة ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول إلى المقامات العقلية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهما منها ولولا ذلك لتعطلت مصالح المعاش، وإليه الإشارة
بخبر «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولي وقت مع حفصة وزينب»،
ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب وَلا تَأْكُلُوا أموال معارفكم بَيْنَكُمْ بباطل شهوات النفس، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء لِتَأْكُلُوا الطائفة مِنْ أَمْوالِ القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها قُلْ هِيَ مَواقِيتُ للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب، والوقوف في عرفة العرفان، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة، وقيل: الْأَهِلَّةِ للزاهدين مواقيت أورادهم.
وللصديقين مواقيت مراقباتهم، والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة، فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا، فهم بين جلال وجمال وخضوع ودلال نفعنا الله تعالى بهم، وأفاض علينا من بركاتهم وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أخرج ابن جرير والبخاري. عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح به الزهري في رواية ابن جرير عنه- ويعدون فعلهم ذلك برا- فبين لهم أنه ليس ببر وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى أي- بر من اتقى- المحارم والشهوات، أو لكن ذا الْبِرُّ أو البار مَنِ اتَّقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول- قل- فلا بد من الجامع بينهما فإما أن يقال: إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق، فجمع بينهما في الجواب بناء على الاجتماع الاتفاقي في السؤال، والأمر الثاني مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازا واكتفاء بدلالة الجواب عليه، وإيذانا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه، أو يقال: إن السؤال واقع عَنِ الْأَهِلَّةِ فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة
469
مذكور للاستطراد حيث ذكر- مواقيت الحج- والمذكور أيضا من أفعالهم فيه إلا الخمس، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الْأَهِلَّةِ وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم، وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال، فالمعنى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تعكسوا مسائلكم وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ذلك ولم يجبر على مثله، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ والجامع بينهما أن الأول قول لا ينبغي، والثاني فعل لا ينبغي وقعا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات.
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها إذ ليس في العدول برا وباشروا الأمور عن وجوهها، والجملة عطف على وَلَيْسَ الْبِرُّ إما لأنه في تأويل- ولا تأتوا البيوت من ظهورها- أو لكونه مقول القول، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول، وقرأ ابن كثير وكثير بكسر باء الْبُيُوتَ حيثما وقع وَاتَّقُوا اللَّهَ في تغيير أحكامه- كإتيان البيوت من أبوابها- والسؤال عما لا يعني، ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء، أو في جميع أموركم.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر، فإن مَنِ اتَّقى الله تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا لإعزاز دين الله تعالى وإعلاء كلمته- فالسبيل- بمعنى الطريق مستعار لدين الله تعالى وكلمته لأنه يتوصل المؤمن به إلى مرضاته تعالى، والظرفية التي هي مدلولة في ترشيح للاستعارة الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي يناجزونكم القتال من الكفار، وكان هذا- على ما روي عن أبي العالية- قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة- المناجزين والمحاجزين- فيكون ذلك حينئذ تعميما بعد التخصيص المستفاد من هذا الأمر مقررا لمنطوقه ناسخا لمفهومه- أي لا تقاتلوا المحاجزين- وكذا المنطوق في النهي الآتي فإنّه على هذا الوجه مشتمل على النهي عن قتالهم أيضا، وقيل: معناه الذين يناصبونكم القتال، ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ، والصبيان والنساء والرهبان فتكون الآية مخصصة لعموم ذلك الأمر مخرجة لمن لم يتوقع منهم وقيل: المراد ما يعم سائر الكفار فإنهم بصدد قتال المسلمين وقصده فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا، ويؤيد الأول ما
أخرجه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن البيت عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى الآية،
وجعل ما يفهم من الأثر- وجها رابعا في المراد بالموصول بأن يقال المراد به من يتصدى من المشركين للقتال في الحرم وفي الشهر الحرام كما فعل البعض- بعيد لأنه تخصيص من غير دليل وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم وَلا تَعْتَدُوا أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم فقد اعتديتم رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس- أو لا تعتدوا- بوجه من الوجوه كابتداء القتال أو قتال المعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نهيتم عن قتله قاله بعضهم، وأيد بأن الفعل المنفي يفيد العموم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي المتجاوزين ما حد لهم وهو كالتعليل لما قبله ومحبته تعالى لعباده في المشهور عبارة عن إرادة الخير والثواب لهم ولا واسطة بين المحبة والبغض بالنسبة إليه عز شأنه وذلك بخلاف محبة الإنسان وبغضه فإن بينهما واسطة وهي عدمهما.
470
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين سأله نافع بن الأزرق، وأنشد عليه قول حسان رضي الله تعالى عنه:
فإمّا «يثقفن» بني لويّ جذيمة إن قتلهم دواء
وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء عملا كان أو علما ويستعمل كثيرا في مطلق الإدراك، والفعل منه ثقف ككرم وفرح وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي مكة وقد فعل بهم ذلك عام الفتح وهذا الأمر معطوف على سابقه، والمراد افعلوا كل ما يتيسر لكم من هذين الأمرين في حق المشركين فاندفع ما قيل: إن الأمر بالإخراج لا يجامع الأمر بالقتل فإن القتل والإخراج لا يجتمعان، ولا حاجة إلى ما تكلف من أن المراد إخراج من دخل في الأمان أو وجدوه بالأمان كما لا يخفى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي شركهم في الحرم أشد قبحا فلا تبالوا بقتالهم فيه لأنه ارتكاب القبيح لدفع الأقبح فهو مرخص لكم ويكفر عنكم، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن المحبب للطباع السليمة أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها، ومن هنا قيل:
لقتل بحد سيف أهون موقعا على النفس من قتل «بحد فراق»
والجملة على الأول من باب التكمل والاحتراس لقوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ إلخ عن توهم أن القتال في الحرم قبيح فكيف يؤمر به، وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه: وَأَخْرِجُوهُمْ إلخ لبيان حال الإخراج والترغيب فيه، وأصل- الفتنة- عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم استعمل في الابتلاء والعذاب والصد عن دين الله والشرك به، وبالأخير فسرها أبو العالية في الآية وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ نهي للمؤمنين أن يبدؤوا القتال في ذلك الموطن الشريف حتى يكون هم الذين يبدؤون، فالنهي عن المقاتلة التي هي فعل اثنين باعتبار نهيهم عن الابتداء بها الذي يكون سببا لحصولها، وكذا كونها غاية باعتبار المفاتحة لئلا يلزم كون الشيء غاية لنفسه.
فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ نفي للحرج عن القتال في الحرم الذي خاف منه المسلمون وكرهوه أي إن قاتلوكم هناك فلا تبالوا بقتالهم لأنهم الذين هتكوا الحرمة وأنتم في قتالهم دافعون القتل عن أنفسكم وكان الظاهر الإتيان بأمر المفاعلة إلا أنه عدل عنه إلى أمر فعل بشارة للمؤمنين بالغلبة عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصر بحيث أمرتم بقتلهم، وقرأ حمزة والكسائي- ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم- واعترض الأعمش على حمزة في هذه القراءة فقال له: أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا: قتلنا، وإذا ضرب منهم الرجل قالوا: ضربنا، وحاصله أن الكلام على حذف المضاف إلى المفعول وهو لفظ بعض فلا يلزم كون المقتول قاتلا، وأما إسناد الفعل إلى الضمير فمبني على أن الفعل الواقع من البعض برضا البعض الآخر يسند إلى الكل على التجوز في الإسناد فلا حاجة فيه إلى التقدير، ولذا اكتفى الأعمش في السؤال بجانب المفعول، وكذا قوله سبحانه: وَلا تُقاتِلُوهُمْ جاز على حقيقة من غير تأويل لأن المعنى على السلب الكلي أي لا يقتل واحد منكم واحدا منهم حتى يقع منهم قتل بعضهم. ثم إن هذا التأويل مختص بهذه القراءة ولا حاجة إليه في- لا تقاتلوهم- لأن المعنى لا تفاتحوهم والمفاتحة لا تكون إلا بشروع البعض بقتال البعض قاله بعض المحققين، وقد خفي على بعض الناظرين فتدبر كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا، والْكافِرِينَ إما من وضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولا أوليا. والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بالتوبة منه كما روي عن مجاهد وغيره، أو عنه وعن القتال كما قيل:
471
ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ
لقرينة ذكر الأمرين فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ما قد سلف، واستدل به في البحر على قبول توبة قاتل العمد إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل، وقد أخبر سبحانه أنه يقبل التوبة منه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ عطف على قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ والأول مسوق لوجوب أصل القتال، وهذا لبيان غايته، والمراد من «الفتنة» الشرك على ما هو المأثور عن قتادة والسدي وغيرهما، ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف لقوله سبحانه تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: ١٦] وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي خالصا له كما يشعر به اللام، ولم يجىء هنا كلمة- كله- كما في آية الأنفال لأن ما هنا في مشركي العرب، وما هناك في الكفار عموما فناسب العموم هناك وتركه هنا فَإِنِ انْتَهَوْا تصريح بمفهوم الغاية فالمتعلق الشرك- والفاء- للتعقيب فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه، والتقدير فَإِنِ انْتَهَوْا وأسلموا- فلا تعتدوا- عليهم لأن «العدوان على الظالمين» والمنتهون ليسوا بظالمين، والمراد نفي الحسن والجواز لا نفي الوقوع لأن «العدوان» واقع على غير الظالمين، والمراد من «العدوان» العقوبة بالقتل، وسمي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة- للعدوان- وهو الظلم كما في قوله تعالى:
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] وحسن ذلك لازدواج الكلام والمزاوجة هنا معنوية ويمكن أن يقال سمي جزاء الظلم ظلما لأنه وإن كان عدلا من المجازي لكنه ظلم في حق الظالم من عند نفسه لأنه ظلم بالسبب لإلحاق هذا الجزاء به وقيل: لا حذف والمذكور هو الجزاء على معنى فلا تعتدوا على المنتهين إما بجعل فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ بمعنى- فلا عدوان على غير الظالمين- المكنى به عن المنتهين، أو جعل اختصاص العدوان بالظالمين كناية عن عدم جواز العدوان على غيرهم وهم المنتهون، واعترض بأنه على التقدير الأول يصير الحكم الثبوتي المستفاد من القصر زائدا، وعلى التقدير الثاني يصير المكنى عنه من المكنى به، وجوز أن يكون المذكور هو الجزاء ومعنى الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن حد حكم القتال، كأنه قيل:
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى المتجاوزين عما حده الله تعالى للقتال وهم المتعرضون للمنتهين، ويؤول المعنى إلى أنكم إن تعرضتم للمتقين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم- وفيه من المبالغة في النهي عن قتال المنتهين ما لا يخفى- وذهب بعضهم إلى أن هذا المعنى يستدعي حذف الجزاء، وجعل المذكور علة له على معنى فَإِنِ انْتَهَوْا فلا تتعرضوهم لئلا تكونوا ظالمين فيسلط الله عليكم من يعدو عليكم لأن- العدوان- لا يكون إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أو فَإِنِ انْتَهَوْا يسلط عليكم من يعدو عليكم على تقدير تعرضكم لهم لصيرورتكم ظالمين بذلك، وفيه من البعد ما لا يخفى فتدبر.
472
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالا خفيفا بالرمي بالسهام والحجارة، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته. فقيل: هذا الشَّهْرُ الْحَرامُ بذلك، وهتكه بهتكه فلا تبالوا به وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات قِصاصٌ أو مقاصة، وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق، كأنه قيل: لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة، وهتك حرمة هذا الشهر ابتداء بالغلبة، فإن الْحُرُماتُ يجري فيها- القصاص- فالصد قصاصه العنوة فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فذلكة لما تقدمه، وهو أخص مفادا منه لأن الأول يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلا بخلاف هذا، وفيه تأكيد لقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفا- بالفاء- والأمر للإباحة- إذ العفو جائز- و «من» تحتمل الشرطية والموصولية، وعلى الثاني تكون- الفاء- صلة في الخبر- والباء- تحتمل الزيادة وعدمها، واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له وَاتَّقُوا اللَّهَ في الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء بما لم يرخص لكم فيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والعون وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عطف على قاتلوا أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بترك الغزو والإنفاق فيه، فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهيا عن ضدهما تأكيدا لهما، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد- عن أبي عمران- قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا وَأَنْفِقُوا إلخ، فكانت التَّهْلُكَةِ الإقامة في الأموال وإصلاحها، وترك الغزو. وقال الجبائي: التَّهْلُكَةِ الإسراف في الإنفاق، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالإنفاق تحريا للطريق الوسط بين الإفراط والتفريط فيه، وروى البيهقي في الشعب- عن الحسن- أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكدا للأمر السابق، واختار البلخي أنها اقتحام الحرب من غير مبالاة، وإيقاع النفس في الخطر والهلاك، فيكون الكلام متعلقا ب قاتِلُوا نهيا عن الإفراط والتفريط في الشجاعة، وأخرج سفيان بن عيينة.
وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل له: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل، قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول: لا يغفر الله تعالى لي أبدا- وروي مثله عن عبيدة السلماني- وعليه يكون متعلقا بقوله سبحانه: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في غاية البعد، ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكم- وتصحيحه لا يوثق به- وظاهر اللفظ العموم- والإلقاء- تصيير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز، ويقال لكل من أخذ في عمل ألقى يديه إليه وفيه، ومنه قول لبيد في الشمس:
حتى إذا «ألقت» يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها
وعدي- بإلى- لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء- والباء- مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي، لأن- ألقى- يتعدى بنفسه كما في فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء: ٤٥] وزيادتها في المفعول لا تنقاس، والمراد- بالأيدي-
474
الأنفس مجازا، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها، وقيل: يحتمل أن تكون زائدة- والأيدي- بمعناها، والمعنى لا تجعلوا التَّهْلُكَةِ آخذة بأيديكم قابضة إياها، وأن تكون غير مزيدة- والأيدي- أيضا على حقيقتها ويكون المفعول محذوفا أي لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أنفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ وفائدة ذكر- الأيدي- حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار، والتَّهْلُكَةِ مصدر كالهلك والهلاك، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة- بضم العين- إلا هذا في المشهور، وحكى سيبويه عن العرب- تضره وتسره- أيضا بمعنى الضرر والسرور، وجوز أن يكون أصلها- تهلكة بكسر اللام- مصدر هلك مشددا كالتجربة والتبصرة فأبدلت- الكسرة ضمة- وفيه أن مجيء تفعلة- بالكسر- من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ، والقياس تفعيل وإبدال- الكسرة بالضم من غير علة- في غاية الشذوذ، وتمثيله بالجوار- مضموم الجيم- في جوار مكسورها- ليس بشيء- إذ ليس ذلك نصا في الابدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعال- مضموم الفاء شذوذا- يؤيده ما في الصحاح جاورته مجاورة وجوارا وجوارا- والكسر أفصح، وفرق بعضهم بين التَّهْلُكَةِ والهلاك بأن الأول ما يمكن التحرز عنه، والثاني ما لا يمكن، وقيل: الهلاك مصدر والتَّهْلُكَةِ نفس الشيء المهلك، وكلا القولين خلاف المشهور، واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين وَأَحْسِنُوا أي بالعود على المحتاج- قاله عكرمة- وقيل: أحسنوا الظن بالله تعالى وَأَحْسِنُوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ويثيبهم وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي اجعلوهما تامين إذا تصديتم لأدائهما لوجه الله تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية رضي الله تعالى عنهم، فإن إفساد الحج والعمرة مطلقا يوجب المضي في بقية الأفعال والقضاء، ولا تدل على وجوب الأصل، والقول بالدلالة بناء على أن الأمر- بالإتمام- مطلقا يستلزم الأمر بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب- ليس بشيء- لأن الأمر بالإتمام يقتضي سابقية الشروع فيكون الأمر بالإتمام مقيدا بالشروع وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه، ويؤيده قراءة «وأقيموا الحج والعمرة» ليس بسديد. «أما أولا» فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها إلى القيد- أعني تامين- لا إلى أصل الإتيان كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بيعوا سواء بسواء»
«وأما ثانيا» فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب- أعني طلب الفعل- والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة،
فقد أخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن ماجة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «الحج جهاد والعمرة تطوع»
وأخرج الترمذي وصححه- عن جابر- أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمروا خير لكم»
ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد: «الحج فريضة والعمرة تطوع» وأخرج ابن أبي داود في المصاحف- عنه أيضا- أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول: والله لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا لقلت: إن العمرة واجبة مثل الحج، وهذا يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيه- ولعله سمع ما يخالفه- ولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة، وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب، نعم لا يعد ما ذكر صارفا
475
إلا إذا ثبت كونه قبل الآية، أما إذا ثبت كونه بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر ظاهر في الوجوب، وليس مجملا في معانيه على الصحيح حتى يحمل الخبر على تأخير البيان- على ما وهم- والقول- بأن أحاديث الندب سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخا لها- سهو ظاهر لأن الأحاديث نص في الاستحباب، والقرآن ظاهر في الوجوب فكيف يكون الظاهر ناسخا للنص، والحال أن النص مقدم على الظاهر عند التعارض. ثم إن هذا الذي ذكرناه- وإن لم يكن مبطلا لأصل التأييد إلا أنه يضعفه جدا، وادعى بعضهم أن الأحاديث الدالة على استحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها، فقد
أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت»
وأخرج أبو داود والنسائي أن رجلا قال لعمر: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا فقال: هديت لسنة نبيك، فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الاستدلال بما حكاه الصحابي من سنته عليه الصلاة والسلام يكون استدلالا بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي، والقول بأن- أهللت بهما- جملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب ابتداء ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل: فما فعلت؟ فقال: أهللت فيدل على أن الوجدان سبب الإهلال دون العكس لأن مقصود السائل السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما، وجواب عمر رضي الله تعالى عنه بمعزل عن وجوب الإتمام لأن كون الشروع في الشيء موجبا لإتمامه، لا يقال فيه إنه طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل يقال في أداء المناسك والعبادات، ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات- فأهللت- بالفاء الدالة على الترتب، وما ذكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه معارض بما روي عنه من القول بالوجوب وبذلك
قال علي كرم الله تعالى وجهه وكان يقرأ: وأقيموا أيضا كما رواه عنه ابن جرير وغيره،
وكذا ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم انتهى. والإنصاف تسليم تعارض الأخبار، وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده والمسألة من الفروع، والاختلاف في أمثالها رحمة وإن الحق أن الآية لا تصلح دليلا للشافعية ومن وافقهم كالإمامية علينا، وليس فيها عند التحقيق أكثر من بيان وجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما من الوجوب وعدمه، ووجوب الحج مستفاد من قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: ٩٧] ومن ادعى من المخالفين أنها دليل له فقد ركب شططا وقال غلطا كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد،
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه إتمام الحج والعمرة لله أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ومثله عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما عن الآخر وأن يعتمر في غير أشهر الحج وقيل: إتمامهما أن تكون النفقة حلالا، وقيل: أن تحدث لكل منهما سفرا، وقيل: أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ونحوها، وقرىء «إلى البيت، وللبيت» والأول مروي عن ابن مسعود، والثاني عن عليّ كرم الله تعالى وجهه فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مقابل لمحذوف أي هذا إن قدرتم على إتمامهما والإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقا، وليس الحصر مختصا بما يكون من العدو، والإحصار بما يكون من المرض، والخوف- كما توهم الزجاج- من كثرة استعمالهما كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده، والدليل على ذلك أنه يقال: حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارا ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازا وكلاهما خلاف الأصل، والمراد من الإحصار
476
هنا حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بمواقع التنزيل. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث الحجاج بن عمرو «من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل» وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن زيد قال: «أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل» وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس، وروى البخاري مثله عنه، وقال عروة: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار، وما استدل به الخصم مجاب عنه، أما الأول فستعلم ما فيه، وأما الثاني فإنه لا عبرة بخصوص السبب، والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالا، والقول بأن- أحصرتم- ليس عاما إذ الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه، وأما الثالث فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه كان يقول: «من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي» فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه وهو أعلم بمواقع التنزيل والقول- بأن حديث الحجاج ضعيف- ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داود أن عكرمة سأل العباس وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقالا: صدق، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لضباعة: «حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني»
لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليكم أو فالواجب أو فاهدوا ما استيسر أي تيسر فهو كصعب واستصعب، وليست السين للطلب، والْهَدْيِ مصدر بمعنى المفعول أي المهدي ولذلك يطلق على المفرد والجمع أو جمع هدية- كجدي وجدية- وقرىء هدي بالتشديد جمع هدية- كمطي ومطية- وهي في موضع الحال من الضمير المستكن، والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: وما عظم فهو أفضل، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه خص الهدي ببقرة أو جزور فقيل له: أو ما يكفيه شاة؟ فقال: لا ويذبحه حيث أحصر عند الأكثر لأنه صلّى الله عليه وسلّم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل، وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله تعالى:
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير بالنسبة للنساء، والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور، والهدي الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وهو الحرم لقوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: ٣٣] هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: ٩٥] وما روي من ذبحه صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم، والحنفية يقولون: إن محصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في طريق الحديبية أسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم، والذبح وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما
روى الزهري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحر في الحرم
وكون الرواية عنه ليس
477
بثبت في حيز المنع، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما وهو خلاف الظاهر إلا أنه لا يحتاج إلى تقدير العلم كما في السابق، واستدل باقتصاره على الهدي في مقام البيان على عدم وجوب القضاء، وعندنا يجب القضاء لقضاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية التي أحصروا فيها وكانت تسمى عمرة القضاء، والمقام مقام بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام لا مقام بيان كل ما يجب عليه ولم يعلم من الآية حكم غير المحصر عبارة كما علم حكم المحصر من عدم جواز الحل له قبل بلوغ الهدي، ويستفاد ذلك بدلالة النص وجعل الخطاب عاما للمحصر وغيره بناء على عطف وَلا تَحْلِقُوا على قوله سبحانه: وَأَتِمُّوا لا على فَمَا اسْتَيْسَرَ يقتضي بتر النظم لأن فَإِذا أَمِنْتُمْ عطف على فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ كما لا يخفى. والمحل- بالكسر من حد ضرب يطلق للمكان كما هو الظاهر في الآية، وللزمان- كما يقال- محل الدين لوقت حلوله وانقضاء أجله.
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يحتاج للحلق وهو مخصص لقوله سبحانه وَلا تَحْلِقُوا متفرع عليه.
أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ من جراحة وقمل وصداع. فَفِدْيَةٌ أي فعليه فدية إن حاق.
مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بيان لجنس الفدية. وأما قدرها
فقد أخرج في المصابيح عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم: قال: فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين- والفرق ثلاثة آصع- أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة»
وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقال: لا قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك»
وقد بين في هذه الرواية ما يطعم لكل مسكين ولم يبين محل الفدية، والظاهر العموم في المواضع كلها كما قاله ابن الفرس، وهو مذهب الإمام مالك فَإِذا أَمِنْتُمْ من الأمن ضد الخوف، أو الأمنة زواله فعلى الأول معناه فإذا كنتم في أمن وسعة ولم تكونوا خائفين، وعلى الثاني فإذا زال عنكم خوف الإحصار، ويفهم منه حكم من كان آمنا ابتداء بطريق الدلالة- والفاء- للعطف على أُحْصِرْتُمْ مفيدة للتعقيب سواء أريد حصر العدو أو كل منع في الوجود، ويقال للمريض إذا زال مرضه وبرئ: آمن كما روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم من طريق إبراهيم فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه.
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الفاء واقعة في جواب- إذا والباء وإلى- صلة التمتع، والمعنى فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة إلى وقت الحج أي قبل الانتفاع بالحج في أشهره، وقيل: الباء سببية ومتعلق التمتع محذوف أي بشيء من محظورات الإحرام ولم يعينه لعدم تعلق الغرض بتعيينه، والمعنى ومن استمتع بسبب أوان العمرة والتحلل منها باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج، وفيه صرف التمتع عن المعنى الشرعي إلى المعنى اللغوي، والثاني هو الانتفاع مطلقا، والأول هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من جوف مكة ويأتي بأعماله ويقابله القرآن وهو أن يحرم بهما معا ويأتي بمناسك الحج فيدخل فيها مناسك العمرة، والإفراد وهو أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ الفاء واقعة في جواب مِنَ أي فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع فهو دم جبران لأن الواجب عليه أن يحرم للحج من الميقات فلما أحرم لا من الميقات أورث ذلك خللا فيه فجبر بهذا الدم، ومن ثم لا يجب على المكي ومن في حكمه، ويذبحه إذا أحرم
478
بالحج، ولا يجوز قبل الإحرام ولا يتعين له يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه، وهذا مذهب الشافعي وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه شكرا للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي الهدي وهو عطف على فَإِذا أَمِنْتُمْ.
فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه صيام وقرىء فصيام بالنصب أي فليصم، وظرف الصوم محذوف إذ يمتنع أن يكون شيء من أعمال الحج ظرفا له، فقال أبو حنيفة: المراد في وقت الحج مطلقا لكن بين الإحرامين إحرام الحج وإحرام العمرة وهو كناية عن عدم التحلل عنهما فيشمل ما إذا وقع قبل إحرام الحج سواء تحلل من العمرة أولا، وما وقع بعده بدليل أنه إذا قدر على الهدي بعد صوم الثلاثة قبل التحلل وجب عليه الذبح ولو قدر عليه بعد التحلل لا يجب عليه لحصول المقصد بالصوم وهو التحلل، وقال الشافعي: المراد وقت أداء الحج وهو أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل، ولا يجوز الصوم عنده قبل إحرام الحج، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه لأنه غاية ما يمكن في التأخير لاحتمال القدرة على الأصل وهو الهدي، ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق لكون الصوم منهيا فيها، وجوز بعضهم صوم الثلاثة الأخيرة احتجاجا بما
أخرجه ابن جرير والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر قال: رخص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها،
وأخرج مالك عن الزهري قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال: إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى إلا من كان عليه صوم من هدي» وأخرج الدارقطني مثله من طريق سعيد بن المسيب،
وأخرج البخاري وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يرخص صلى الله تعالى عليه وسلم في أيام التشريق أن يصمن إلا لمتمتع لم يجد هديا،
وبذلك أخذ الإمام مالك ولعل ساداتنا الحنفية عولوا على أحاديث النهي وقالوا: إذا فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم ولا يقضيه بعد أيام التشريق كما ذهب إليه الشافعية لأنه بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة..
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أي فرغتم ونفرتم من أعماله، فذكر الرجوع وأريد سببه، أو المعنى إذا رجعتم من مني، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه- على ما هو الأصح عند معظم أصحابه: إذا رجعتم إلى أهليكم، ويؤيده ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه «إذا رجعتم إلى أمصاركم» وأن لفظ الرجوع أظهر في هذا المعنى، وحكم ناوي الإقامة بمكة توطنا حكم الراجع إلى وطنه لأن الشرع أقام موضع الإقامة مقام الوطن، وفي البحر المراد بالرجوع إلى الأهل الشروع فيه- عند بعض- والفراغ بالوصول إليهم- عند آخرين- وفي الكلام التفات، وحمل على معنى بعد الحمل (١) على لفظه في إفراده وغيبته وقرىء «سبعة» بالنصب عطفا على محل ثَلاثَةِ أَيَّامٍ لأنه مفعول اتساعا، ومن لم يجوزه قدر- وصوموا- وعليه أبو حيان.
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ الإشارة إلى- الثلاثة، والسبعة- ومميز العدد محذوف أي «أيام» وإثبات- التاء- في العدد مع حذف المميز أحسن الاستعمالين، وفائدة الفذلكة أن لا يتوهم أن- الواو- بمعنى أو التخييرية، وقد نص السيرافي في شرح الكتاب على مجيئها لذلك، وليس تقدم الأمر الصريح شرطا فيه بل الخبر الذي هو بمعنى الأمر
(١) قوله: (وحمل على معنى بعد الحمل) كذا بخط المؤلف ولعله سقط (من) قلمه لفظ من سهوا أي وحمل على معنى من بعد الحمل إلخ اهـ مصححه.
479
كذلك، وأن يندفع التوهم البعيد الذي أشرنا إليه في مقدمة إعجاز القرآن، وأن يعلم العدد جملة- كما علم تفصيلا- فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، ومن أمثالهم- علمان خير من علم- لا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب، فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع، لا أهل الارتياض بالعلم أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الافهام والإيذان بأن المراد- بالسبعة- العدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين، فإن قلت: ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي لما ذكر؟ أجيب بأنها لما كانت بدلا عن الْهَدْيِ والبدل يكون في محل المبدل منه غالبا جعل الثلاثة بدلا عنه في زمن الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير، ولم يجعل- السبعة- فيه لمشقة الصوم في الحج، وللإشارة إلى هذا التعادل وصفت- العشرة- بأنها كامِلَةٌ فكأنه قيل: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ في وقوعها بدلا من الْهَدْيِ وقيل:
إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا كمالها ولا تنقصوها، وقيل: إنها صفة مبينة كمال العشرة فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإن الواحدة مبتدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد مجذور، والخمسة أول عدد دائر، والستة أول عدد تام، والسبعة عدد أول، والثمانية أول عدد زوج الزوج، والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين.
وذكر الإمام لهذه الفذلكة مع الوصف عشرة أوجه- لكنها عشرة غير كاملة- ولولا مزيد التطويل لذكرتها بما لها وعليها ذلِكَ إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله سبحانه: فَمَنْ تَمَتَّعَ عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد لأن شرعهما للترفه بإسقاط أحد السفرتين وهذا في حق الآفاقي لا في حق أهل مكة ومن في حكمهم، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: إنها إشارة إلى الأقرب وهو الحكم المذكور أعني لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقيا لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبورا بالدم، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوقع خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بدله، ويرده أنه لو كانت الإشارة للهدي والصوم لأتى- بعلى- دون اللام في قوله سبحانه:
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع والواجب يستعمل بعلى- لا باللام، وكون اللام واقعة موقع على كما قيل به في «اشترطي لهم الولاء» خلاف الظاهر، والمراد بالموصول من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأهل الحل عند طاوس، وغير أهل مكة عند مالك رضي الله تعالى عنه، والحاضر على الوجه الأول ضد المسافر، وعلى الوجوه الأخر بمعنى الشاهد الغير الغائب، والمراد من حضور الأهل حضور المحرم، وعبر به لأن الغالب على الرجل كما قيل: أن يسكن حيث أهله ساكنون، وللمسجد الحرام إطلاقان، أحدهما نفس المسجد، والثاني الحرم كله، ومنه قوله سبحانه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الإسراء: ١] بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد، وعلى إرادة المعنى الأخير في الآية هنا أكثر أئمة الدين وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه يتم الانتظام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لم يتقه أي استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة وإضافة شديد من إضافة الصفة
480
المشبهة إلى مرفوعها الْحَجُّ أَشْهُرٌ أي وقته ذلك وبه يصح الحمل، وقيل: ذو أشهر أو حج أشهر، وقيل: لا تقدير، ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان مبالغة، ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما بعد فالتنصيص عليه أولى، ومعنى قوله سبحانه وتعالى: مَعْلُوماتٌ معروفات عند الناس وهي شوال وذو القعدة.
وعشر من ذي الحجة عندنا، وهو المروي عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر والحسن رضي الله تعالى عنهم، وأيد بأن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج- وهو طواف الزيارة- وبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر، وعند مالك الشهران الأولان وذو الحجة كله عملا بظاهر لفظ الأشهر، ولأنّ أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف الزيارة، والحلق، ورمي الجمار، والمرأة إذا حاضت تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيامه بعد العشرة، ولأنه يجوز- كما قيل- تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر، على ما روي عن عروة بن الزبير- ولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك،
فقد أخرج الطبراني والخطيب وغيرهما بطرق مختلفة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عد «الثلاثة أشهر الحج»
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الشهران الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر لأن الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها، قاله الرازي، وفيه أن فوته بفوت ركنه الأعظم- وهو الوقوف- لا بفوت وقته مطلقا، ومدار الخلاف أنّ المراد بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا- أو وقت إحرامه- والشافعي رضي الله تعالى عنه- على الأخير- والإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم النحر لعدم إمكان الأداء، وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في أيام النحر، ومالك على الثاني فإنه- على ما قيل- كره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لما روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه كان يخوّف الناس بالدرّة وينهاهم عن ذلك فيهن، وإنّ ابنه رضي الله تعالى عنه قال لرجل: إن أطعتني انتظرت حتى إذا هلّ المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على الأول لكون العاشر وقتا لأداء الرمي، والحلق وغيرهما، وغيرها من بقية أيام النحر- وإن كان وقتا لذلك أيضا- إلا أنه خصص بالعشر اقتضاء لما روي في الآثار من ذكر العشر، ولعل وجهه أنّ المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه بحيث يحل له كل شيء وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية أيام النحر، فللتيسير في أداء الطواف، ولتكميل الرمي، و «الأشهر» مستعمل في حقيقته إلا أنه تجوز في بعض أفراده، فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور فجعل بعض من فرد فردا ثم جمع، وقيل: إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة الاجتماع، وليس من الجمع حقيقة بناء على المذهب المرجوح فيه لأنه إنما يصح إطلاقه على اثنين فقط، أو ثلاثة- لا على اثنين- وبعض ثالث، والقول- بأن المراد به اثنان والثالث في حكم العدم- وقيل: المراد ثلاثة، ولا تجوز في بعض الأفراد لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة لأنها على معنى- في- فيقال: رأيته في سنة كذا. أو شهر كذا أو يوم كذا. وأنت قد رأيته في ساعة من ذلك- ولعله قريب إلى الحق- وصيغة جمع المذكر في غير العقلاء تجيء- بالألف والتاء فَمَنْ فَرَضَ أي ألزم نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ بالإحرام، ويصير محرما- بمجرد النية- عند الشافعي لكون الإحرام التزام الكف عن المحظورات فيصير شارعا فيه بمجردها كالصوم، وعندنا- لا- بل لا بد من مقارنة التلبية لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمه الصلاة، ولما كان باب الحج أوسع من باب الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية- فارسيا كان أو عربيا- وفعل كذلك من سوق الْهَدْيِ أو تقليده، واستدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر، كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء وغيرهما. إذ لو جاز في غيرها- كما ذهب إليه الحنفية- لما كان لقوله سبحانه: فِيهِنَّ فائدة، وأجيب بأن فائدة
481
ذكر فِيهِنَّ كونها وقتا لأعماله من غير كراهية فلا يستفاد منه عدم جواز الإحرام قبله، فلو قدّم الإحرام انعقد حجا مع الكراهة، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه يصير محرما بالعمرة، ومدار الخلاف أنه ركن عنده- وشرط عندنا- فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، والكراهة جاءت للشبهة،
فعن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج»
فَلا رَفَثَ أي لا جماع، أو لا فحش من الكلام وَلا فُسُوقَ ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات، وقيل: بالسباب والتنابز بالألقاب وَلا جِدالَ ولا خصام مع الخدم والرفقة.
فِي الْحَجِّ أي في أيامه، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرّب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك، وإيثار النفي للمبالغة في النهي والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج الحروف عن هيئاتها في القرآن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأولين بالرفع حملا لهما على معنى النهي أي لا يكونن رَفَثَ وَلا فُسُوقَ والثالث- بالفتح- على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج، وذلك أن قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وبعد ما أمر الكل بالوقوف في عرفة ارتفع الخلاف فأخبر به، وقرىء بالرفع فِيهِنَّ ووجهه لا يخفى.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ بتأويل الأمر معطوف على فَلا رَفَثَ أي لا ترفثوا وافعلوا الخيرات- وفيه التفات- وحث على- الخير- عقيب النهي عن الشر ليستبدل به، ولهذا خص متعلق العلم مع أنه تعالى عالم بجميع ما يفعلونه من خير أو شر، والمراد من- العلم- إما ظاهره فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه، وإما المجازاة مجازا وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون: نحن متوكلون، وثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت- فالتزوّد- بمعناه الحقيقي- وهو اتخاذ الطعام للسفر- والتَّقْوى بالمعنى اللغوي- وهو الاتقاء من السؤال- وقيل: معنى الآية اتخذوا التَّقْوى زادكم لمعادكم فإنها خير زاد، فمفعول تَزَوَّدُوا محذوف بقرينة خبر إن- وهو التقوى بالمعنى الشرعي- وكان مقتضى الظاهر أن يحمل خَيْرَ الزَّادِ على التَّقْوى فإن المسند إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات مسندا، والمطلوب هنا إثبات خَيْرَ الزَّادِ للتقوى لكونه دليلا على تزوّدها إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر للمبالغة لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي بلغكم أنه خَيْرَ الزَّادِ وأنتم تطلبون نعته هو التَّقْوى فيفيد اتحاد خَيْرَ الزَّادِ بها وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أخلصوا لي التقوى فإن مقتضى العقل الخالص عن الشوائب ذلك وليس فيه- على هذا- شائبة تكرار مع سابقه لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج في أَنْ تَبْتَغُوا أي تطلبوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي رزقا منه تعالى بالربح بالتجارة في مواسم الحج،
أخرج البخاري وغيره- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فنزلت،
واستدل بها على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج وإن ذلك لا يحبط أجرا ولا ينقص ثوابا، ووجه الارتباط أنه تعالى لما نهى عن الجدال في الحج كان مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضا لكونها مفضية في
482
الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها فعقب ذلك بذكر حكمها، وذهب أبو مسلم إلى المنع عنها في الحج، وحمل الآية على ما بعد الحج، وقال: المراد واتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح إلخ كقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: ١٠] وزيف بأن حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة فيه ومحل الاشتباه هو التجارة زمان الحج. وأما بعد الفراغ فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها، وأيضا الآثار لا تساعد ما قاله فقد سمعت ما أخرجه البخاري،
وقد أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا قال: ألستم تلبون ألستم تطوفون بين الصفا والمروة ألستم ألستم؟؟ قلت: بلى قال: إن رجلا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية فدعاه فتلا عليه حين نزلت وقال:
«أنتم الحجاج»
وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ فيما أخرجه البخاري وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عنه لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج، وكذلك روي عن ابن مسعود، وأيضا- الفاء- في قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك مؤذن بأن المراد وقوع التجارة في زمان الحج، نعم قال بعضهم: إذا كان الداعي للخروج إلى الحج هو التجارة أو كانت جزء العلة أضر ذلك بالحج لأنه ينافي الإخلاص لله تعالى به- وليس بالبعيد- وأَفَضْتُمْ من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا، وأفضته أسلته والهمزة فيه للتعدية، ومفعوله مما التزم حذفه للعلم به، وأصله أفيضتم فنقلت حركة- الياء- إلى- الفاء- قبلها فتحركت- الياء- في الأصل وانفتح ما قبلها الآن فقلبت الفا ثم حذفت، والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات ومِنْ لابتداء الغاية وعَرَفاتٍ موضع بمنى وهي اسم في لفظ الجمع فلا تجمع قال الفراء: ولا واحد له بصحة، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيه بمولد- وليس بعربي محض- واعترض عليه
بخبر «الحج عرفة»
وأجيب بأن عرفة فيه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة كما صرح به الراغب والبغوي والكرماني، والذي أنكره استعماله في المكان، فالاعتراض ناشىء من عدم فهم المراد ومن هنا قيل: إنه جمع عرفة وعليه صاحب شمس العلوم، والتعدد حينئذ باعتبار تسمية كل جزء من ذلك المكان عرفة كقولهم: جب مذاكيره فلا يرد ما قاله العلامة: من أنه لو سلم كون عرفة عربيا محصنا فعرفة وعرفات مدلولهما واحد، وليس ثمة أماكن متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات، وإنما نون وكسر مع أن فيه العلمية والتأنيث لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلة نون جمع المذكر فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين وهو كونه علامة تمام الاسم فقط، وليس في النون شيء من معاني الأقسام للتنوين فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الاسم فقط، وليس فيها أيضا شيء من تلك المعاني سوى المقابلة وليس الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين بل تنوين التمكين لأنه الدال على عدم مشابهة الاسم بالفعل وأن ذهاب الكسرة على المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف، وهنا ليس كذلك- قاله الجمهور- وقال الزمخشري: إنما نون وكسر لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين إذ التأنيث المعتبر مع العلمية في منع الصرف إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع، وإما أن يكون بتاء مقدرة كما في زينب، واختصاص هذه التاء بجمع المؤنث يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث فهذه التاء كتاء بنت ليست للتأنيث بل عوض عن الواو المحذوفة، واختصت بالمؤنث فمنعت تقدير التاء فعلى هذا لو سمي بمسلمات، وبنت مؤنث كان منصرفا، وقول ابن الحاجب: إن هذا يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء إذ الاقتضاء غير مسلم، وكذا ما قاله عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف لا يستدعي قوة ألا
483
يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف ولا يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه لأن بناء الاستدلال ليس على اعتبار القوة والضعف بل على عدم تحقق التأنيث، نعم يرد ما أورده الرضي من أنه لو لم يكن فيه تأنيث لما التزم تأنيث الضمير الراجع إليه، ويجاب بأن اختصاص هذا الوزن بالمؤنث يكفي لإرجاع الضمير ولا يلزم فيه وجود التاء لفظا أو تقديرا
وإنما سمي هذا المكان المخصوص بلفظ ينبىء عن المعرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فعرفه، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو لأن جبريل كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال: قد عرفت، وروي عن عطاء أو لأن آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا، وروي عن الضحاك والسدي أو لأن جبريل عليه السلام قال لآدم فيه: اعترف بذنبك واعرف مناسكك قاله بعضهم، وقيل: سمي بذلك لعلوه وارتفاعه، ومنه عرف الديك، واختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من وجوهها كأنه عرفات متعددة وهي من الأسماء المرتجلة قطعا عند المحققين، وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة من جمع عارف ولا جزم بالنقل إذ لا دليل على جعلها جمع عارف والأصل عدم النقل فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والتهليل والدعاء، وقيل: بصلاة العشاءين لأن ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ إلا الصلاة، والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها، فقد أخرج وكيع وسفيان وابن جرير والبيهقي وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال: هذا الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وأيد بأن الفاء تدل على أن الذكر عِنْدَ الْمَشْعَرِ يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة، وذهب كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى قزح. وخص الله تعالى الذكر عنده مع أنه مأمور به في جميع «المزدلفة» لأنها كلها موقف إلا وادي محسر كما دلت عليه الآثار الصحيحة لمزيد فضله وشرفه وعن سعيد بن جبير- ما بين جبلي مزدلفة فهو الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ومثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإنما سمي- مشعرا- لأنه معلم العبادة، ووصف- بالحرام- لحرمته، والظرف متعلق باذكروا أو بمحذوف حال من فاعله وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي كما علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد أي اذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه، ويحتمل أن يراد مطلق الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال أي اذْكُرُوهُ ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها.
وما- على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية فمحل كَما هَداكُمْ النصب على المصدرية بحذف الموصوف أي ذكرا مماثلا لهدايتكم، وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب، والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، ولذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها. وذهب بعضهم إلى أن- الكاف- للتعليل. وأنها متعلقة بما عندها وما- مصدرية لا غير أي اذْكُرُوهُ وعظموه لأجل هدايته السابقة منه تعالى لكم وَإِنْ كُنْتُمْ أي وإنكم كُنْتُمْ فخففت أَنْ وحذف الاسم وأهملت عن العمل ولزم اللام فيما بعدها، وقيل: إن أَنْ نافية، واللام بمعنى إلا مِنْ قَبْلِهِ أي- الهدي- والجار متعلق بمحذوف يدل عليه لَمِنَ الضَّالِّينَ ولم يعلقوه به لأن ما بعد- ال- الموصولة لا يعمل فيما قبلها وفيه تأمل، والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم الطاعات، والجملة تذييل لما قبلها كأنه قيل: اذْكُرُوهُ الآن إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما هَداكُمْ لأنه من الضلالة، وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي من عرفة لا من- المزدلفة- والخطاب عام، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم
484
يفيض منها فذلك قوله سبحانه: ثُمَّ أَفِيضُوا الآية ومعناها ثُمَّ أَفِيضُوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديما وحديثا، وهو عرفة لا من مزدلفة، وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة والجملة معطوفة على قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة وأتى- بثم- إيذانا بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب، والأخرى خطأ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأمورا به، والآخر منهيا عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة ثُمَّ تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي، وجوز أن يكون العطف على- فاذكروا- ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضا كما في السابق بلا تفاوت، وبعضهم جعله معطوفا على محذوف أي أفيضوا إلى منى ثُمَّ أَفِيضُوا إلخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم- ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا» وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى- كما قال الجبائي- بقيت كلمة ثُمَّ على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من- عرفات- لأن الحاج إذا أفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى، والخطاب على هذا عام بلا شبهة، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر- أي من حيث أفاض الناس كلهم قديما وحديثا، وقيل: المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناسا لأنه كان إماما للناس، وقيل: المراد هو وبنوه، وقرىء- «الناس» - بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه:
فَنَسِيَ [طه: ١١٥] وكلمة- ثم- على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناء على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعا قديما كذا قيل فليتدبر وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للمستغفرين رَحِيمٌ بهم منعم عليهم فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أي كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع فأنزل الله تعالى ذلك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما مجرور معطوف على الذكر بجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى- واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ- أو على ما أضيف إليه بناء على مذهب الكوفيين المجوزين للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة بمعنى- أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا- وإما منصوب بالعطف على آباءَكُمْ وذِكْراً من فعل المبني للمفعول بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم، أو بمضمر دل عليه المعنى أي ليكن ذكركم الله تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكرا لله تعالى منكم لآبائكم كذا قيل، واختار في البحر أن يكون أَشَدَّ نصب على الحال من ذكرا المنصوب- باذكروا- إذ لو تأخر عنه لكان صفة لو وحسن تأخر ذِكْراً لأنه كالفاصلة ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فاذكروا الله كذكركم آباءكم، أو اذكروا ذكرا أشد، وفيه أن الظاهر على هذا الوجه أن يقال أو أشد بدون ذِكْراً بأن يكون معطوفا على كذكركم صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف بالأشدية لا طلبه حال الأشدية فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والإكثار من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده، وفيها تفصيل للذاكرين مطلقا حجاجا أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين، وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من
485
الأغراض والاعراض جهل عظيم ربما يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضا معللة بما تقتضيه الحكمة، نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: ٧٢] وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به، وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة حطا لطالب الدنيا عن ساحة عن الحضور، ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء الناس على عمومه والمطابق لما سيأتي من قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ إلخ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نعم سبب النزول- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- طائفة من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيطلبون الدنيا، وطائفة من المؤمنين يجيئونه فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا أي اجعل كل إيتائنا ومنحتنا فيها فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم ذهابا إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ إخبار منه تعالى ببيان حال هذا النصف في الآخرة يعني أنه لا نصيب له فيها ولا حظ، والخلاق- من خلق به إذا لاق، أو من الخلق كأنه الأمر الذي خلق له وقدر، وقيل: الجملة بيان لحال ذلك في الدنيا فهي تصريح بما علم ضمنا من سابقه تقريرا له وتأكيدا أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة، وليس المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال: إن هذا حكم كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان، ويجاب بمنع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات والكافرون الخلاص من شدة العذاب، ومَنْ صلة، وله- خبر مقدم والجار والمجرور بعده متعلق بما تعلق به أو حال مما بعده وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني العافية والكفاف قاله قتادة، أو
المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه،
أو العلم والعبادة قاله الحسن، أو المال الصالح قاله السدي، أو الأولاد الأبرار، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر، أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب الله تعالى، أو صحبة الصالحين قاله جعفر، والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلا وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فقد قيل هي الجنة، وقيل: السلامة من هول الموقف وسوء الحساب،
وقيل: الحور العين وهو مروي عن علي كرم الله تعالى وجهه،
وقيل: لذة الرؤية (وقيل، وقيل..) والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان وَقِنا عَذابَ النَّارِ أي احفظنا منه بالعفو والمغفرة واجعلنا ممن يدخل الجنة من غير عذاب، وقال الحسن: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى عذاب النار،
وقال علي كرم الله تعالى وجهه: عذاب النار الامرأة السوء
أعاذنا الله تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما
رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه وأخرجا عنه أيضا أنه قال: «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له صلّى الله عليه وسلّم: هل كنت تدعو الله تعالى بشيء؟ قال: نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه» الله تعالى
486
أُولئِكَ إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف هاهنا لكونه كالنتيجة لما قبله، قيل: وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا، أو من أجله، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، ومن- إما للتبعيض أو للابتداء، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من رَبَّنا آتِنا الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسبا لأنه من الأعمال وقرىء- مما اكتسبوا- وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، وروي بمقدار فواق ناقة، وروي بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات، والجملة تذييل لقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ إلخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كما وكيفا، أو مجازاتهم عليها هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» ولَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ولو ماتكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن وَلكِنَّ البر من اتقى شواغل الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة وأتوا هاتيك البيوت مِنْ أَبْوابِها التي تلي الروح، ويدخل منها الحق واتقوا الله عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر وَلا تَعْتَدُوا بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام بمراسم الطاعة ووظائف العبودية فرب مخمصة شر من التخم. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة وَاقْتُلُوهُمْ حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا وَأَخْرِجُوهُمْ عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم فَاقْتُلُوهُمْ بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الساترين للحق فَإِنِ انْتَهَوْا عن نزاعهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقاتِلُوهُمْ على دوام الرعاية وصدق العبودية حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ولا يحصل التفات إلى السوي وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلا على المجاوزين للحدود الشَّهْرُ الْحَرامُ الذي قامت به النفس لحقوقها بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فلا تبالوا بهتك حرمتها وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد- ولا تلقوا بأيديكم إلى تهلكة التفريط وأحسنوا- بأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب المشاهدين له،- وأتموا حج- توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات لله بإتمام جميع المقامات والأحوال فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب، ولاختلاف النفوس في الاستعداد قال: ما استيسر ولا تحلقوا رؤوسكم ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس محله فحينئذ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً ضعيف
487
الاستعداد أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل بر أو رياضة تقمع بعض القوى فَإِذا أَمِنْتُمْ من المانع المحصر فمن تمتع بذوق تجلي الصفات متوسلا
به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب حاله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ لضعف نفسه وانقهارها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء، وهي العقل والوهم والمتخيلة وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى مقام التفصيل والكثرة، وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في الأشياء بالله عز وجل تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: ٦٨].
ومن هنا قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ على نفسه بالعزيمة فَلا رَفَثَ أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها وَلا فُسُوقَ ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي ولا ينازع أحدا في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: ٦٣] وما تفعلوا من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور يعلمه الله ويثيبكم عليه، وتزودوا من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وتمامها بنفي السوي وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء الله تعالى ليس عليكم حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقا لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعرا لأنه محل الشعور بالجمال، ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ إلى ذكره في المراتب وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها لَمِنَ الضَّالِّينَ عن هذه الأذكار في طلب الدنيا ثُمَّ أَفِيضُوا إلى ظواهر العبادات مِنْ حَيْثُ أَفاضَ سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية.
أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فقد كان الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة، ومن أنت يا مسكين بعده إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ وفرغتم من الحج فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قبل السلوك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه فمن الناس من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها وما له في مقام الفناء من نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب بنيران الطبيعة أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية والله سريع الحساب وَاذْكُرُوا اللَّهَ أي كبروه إدبار الصلوات وعند ذبح القرابين، ورمي الجمار وغيرها.
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ
وهي ثلاثة أيام التشريق وهو المروي في المشهور عن عمر وعلي
وابن عباس رضي الله
488
تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها أربعة أيام بضم يوم النحر إليها، واستدل بعضهم للتخصيص بأن هذه الجملة معطوفة على قوله سبحانه فَاذْكُرُوا اللَّهَ إلخ فكأنه قيل فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله في أيام معدودات، والفاء للتعقيب فاقتضى ذلك إخراج يوم النحر من الأيام، ومن اعتبر العطف والتعقيب وجعل بعض يوم يوما استدل بالآية على ابتداء التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر، واستدل بعمومها من قال: يكبر خلف النوافل واستشكل وصف أيام بمعدودات لأن أياما جمع يوم وهو مذكر، ومَعْدُوداتٍ واحدها معدودة وهو مؤنث فكيف تقع صفة له فالظاهر معدودة ووصف جمع ما لا يعقل بالمفرد المؤنث جائز، وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا معدودة، وكثيرا ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات، وقيل: إنه قدر اليوم مؤنثا باعتبار ساعاته، وقيل: إن المعنى أنها في كل سنة معدودة، وفي السنين معدودات فهي جمع معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه فَمَنْ تَعَجَّلَ أي عجل في النفر أو استعجل النفر من منى، وقد ذكر غير واحد أن عجل واستعجل يجيئان مطلوعين بمعنى عجل يقال: تعجل في الأمر واستعجل، ومتعديين يقال: تعجل الذهاب، والمطاوعة عند الزمخشري أوفق لقوله تعالى: وَمَنْ تَأَخَّرَ كما هي كذلك في قوله:
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون من «المستعجل» الزلل
لأجل المتأني، وذهب بعض أرباب التحقيق إلى ترجيح التعدي لأن المراد بيان أمور- العجل- لا التعجل مطلقا، وقيل: لأن اللازم يستدعي تقدير فِي فيلزم تعلق حرفي جر أحدهما المقدر والثاني فِي يَوْمَيْنِ بالفعل وذا لا يجوز- واليومان- يوم القر. ويوم الرؤوس. واليوم الذي بعده. والمراد فمن نفر في ثاني أيام التشريق قبل الغروب- وبعد رمي الجمار عند الشافعية- وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عندنا- والنفر في أول يوم منها لا يجوز- فظرفية «اليومين» له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم الأول، والقول بأن التقدير في أحد يَوْمَيْنِ إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني، أو في آخر يَوْمَيْنِ خروج عن مذاق النظر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله وَمَنْ تَأَخَّرَ في النفر حتى رمى في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده عندنا، وعند الشافعي بعده فقط فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بما صنع من التأخر، والمراد التخيير بين- التعجل والتأخر- ولا يقدح فيه أفضلية الثاني خلافا لصاحب- الإنصاف- وإنما ورد- بنفي الإثم- تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فيه، فمن مؤثم للمعجل، ومؤثم للمتأخر لِمَنِ اتَّقى خبر لمحذوف- واللام- إما للتعليل أو للاختصاص، أي ذلك التخيير المذكور بقرينة القرب لأجل- المتقي- لئلا يتضرر بترك ما يقصده من- التعجيل والتأخر- لأنه حذر متحرز عما يريبه، أو ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقا نظرا إلى عدم المخصص القطعي، وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصة- بالمتقي- لأنه الحاج على الحقيقة، والمنتفع بها، والمراد من- التقوى- على التقديرين التجنب عما يؤثم من- فعل أو ترك- ولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما سبق للمؤمنين، واستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا اتقى في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أنه فسر الآية بذلك ثم قال: إن الناس يتأولونها على غير تأويلها، وهو من الغرابة بمكان.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع أموركم التي يتعلق بها العزم لتنتظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة، أو احذروا الإخلال بما ذكر من أمور الحج وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث، وأصل- الحشر- الجمع وضم المفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به، فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ولتواخي الفواصل
489
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ عطف على قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ والجامع أنه سبحانه لما ساق بيان أحكام الحج إلى بيان انقسام الناس في الذكر والدعاء في تلك المناسك إلى الكافر، والمؤمن تممه سبحانه ببيان قسمين آخرين- المنافق والمخلص- وأصل- التعجب- حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه، وهو هنا مجاز عما يلزمه من الروق والعظمة فإن الأمر الغريب المجهول يستطيبه الطبع ويعظم وقعه في القلوب، وليس على حقيقته لعدم الجهل بالسبب أعني الفصاحة والحلاوة، فالمعنى ومنهم من يروقك ويعظم في نفسك ما يقوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي في أمور الدنيا وأسباب المعاش- سواء كانت عائدة إليه أم لا- فالمراد من الْحَياةِ ما به الحياة والتعيش، أو في معنى الدُّنْيا فإنها مرادة من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان- فالحياة الدنيا- على معناها، وجعله ظرفا للقول من قبيل قولهم في عنوان المباحث الفصل الأول في كذا والكلام في كذا أي المقصود منه ذلك ولا حذف في شيء من التقديرين على ما وهم وتكون الظرفية حينئذ تقديرية كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل»
أي في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن للدية تضمن الظرف للمظروف وهذه هي التي يقال لها إنها سببية كذا في الرضي قاله بعض المحققين، وجوز تعلق المجرور بالفعل قبله أي يعجبك في الدنيا قوله لفصاحته وطراوة ألفاظه ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك، والآية كما
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة «أقبل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك منه وقال: إنما جئت أريد الإسلام والله تعالى يعلم إني لصادق ثم خرج من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمر بزرع من المسلمين (١) وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر»
وقيل: في المنافقين كافة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ أي بحسب ادعائه حيث يقول الله يعلم أن ما في قلبي موافق لما في لساني وهو معطوف على يُعْجِبُكَ وفي مصحف أبيّ ويستشهد الله، وقرىء ويشهد الله بالرفع، فالمراد بما في قلبه ما فيه حقيقة، ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والله يشهد على ما في قلبه على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له، والجملة حينئذ اعتراضية.
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أي شديد المخاصمة في الباطل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واستشهد عليه بقول مهلهل.
إن تحت الحجار حزما وجورا وخصيما ألد ذا مقلاق
فألد صفة كأحمر بدليل جمعه على لد ومجيء مؤنثه لداء لا أفعل تفضيل والإضافة من إضافة الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على الإسناد المجازي وجعلها بعضهم بمعنى في على الظرفية التقديرية أي شديد في المخاصمة ونقل أبو حيان عن الخليل أن ألد أفعل تفضيل فلا بد من تقدير، وخصامه ألد الخصام أو ألد ذوي الخصام، أو يجعل وهو راجع إلى الخصام المفهوم من الكلام على بعد، أو يقال الخصام جمع خصم كبحر وبحار وصعب وصعاب، فالمعنى أشد الخصوم خصومة، والإضافة فيه للاختصاص كما في أحسن الناس وجها، وفي الآية إشارة إلى أن شدة المخاصمة مذمومة،
وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم»
وأخرج أحمد عن أبي الدرداء «كفى بك إثما أن لا تزال مماريا وكفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما وكفى بك كاذبا أن لا تزال محدثا إلا حديث في ذات الله عز وجل» وشدة الخصومة من صفات
(١) قوله: (بزرع من المسلمين) كذا بخطه اهـ.
490
المنافقين لأنهم يحبون الدنيا فيكثرون الخصام عليها وَإِذا تَوَلَّى أي أدبر وأعرض قاله الحسن، أو إذا غلب وصار واليا- قاله الضحاك- سَعى أي أسرع في المشي أو عمل فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ما أمكنه وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ كما فعله الأخنس، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف، أو بالظلم الذي يمنع الله تعالى بشؤمه القطر، والْحَرْثَ الزرع وَالنَّسْلَ كل ذات روح يقال نسل ينسل نسولا إذا خرج فسقط، ومنه نسل وبر البعير أو ريش الطائر، وسمي العقب من الولد نسلا لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه، وذكر الأزهري أن الْحَرْثَ هنا النساء وَالنَّسْلَ الأولاد،
وعن الصادق أن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس،
وقرىء ويهلك الحرث، والنسل على أن الفعل للحرث والنسل، والرفع للعطف على سَعى وقرأ الحسن بفتح اللام وهي لغة- أبى يأبى- وروي عنه ويهلك على البناء للمفعول وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ لا يرضى به فاحذروا غضبه عليه، والجملة اعتراض للوعيد واكتفى فيها على الفساد لانطوائه على الثاني لكونه من عطف العام على الخاص، ولا يرد أن الله تعالى مفسد للأشياء قبل الإفساد، فكيف حكم سبحانه بأنه لا يحب الفساد، لأنه يقال: الإفساد- كما قيل في الحقيقة- إخراج الشيء عن حالة محمودة- لا لغرض صحيح- وذلك غير موجود في فعله تعالى ولا هو آمر به، وما نراه من فعله جل وعلا إفسادا فهو بالإضافة إلينا، وأما بالنظر إليه تعالى فكله صلاح، وأما أمره بإهلاك الحيوان مثلا لأكله فلإصلاح الإنسان الذي هو زبدة هذا العالم، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية ورجوعه إلى وطنه الأصلي، وقد تقدم ما عسى أن تحتاجه هنا.
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في فعلك أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أي احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ بها، والْعِزَّةُ في الأصل خلاف الذل وأريد بها الأنفة والحمية مجازا. بِالْإِثْمِ أي مصحوبا أو مصحوبة به أو بسبب إثمه السابق، ويجوز أن يكون- أخذ- من الأخذ بمعنى الأسر، ومنه الأخيذ للأسير، أي جعلته الْعِزَّةُ وحمية الجاهلية أسيرا بقيد الإثم لا يتخلص منه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر أي كافيه جَهَنَّمُ وقيل: جَهَنَّمُ فاعل لحسبه ساد مسد خبره، وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوي لاعتماده على- الفاء- الرابطة للجملة بما قبلها، وقيل:
«حسب» اسم فعل ماض بمعنى كفى- وفيه نظر- وجَهَنَّمُ علم لدار العقاب أو لطبقة من طبقاتها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وهي من الملحق بالخماسي بزيادة الحرف الثالث ووزن فعنلل، وفي البحر إنها مشتقة من قولها: ركية جهنام- إذا كانت بعيدة القعر- وكلاهما من الجهم، وهي الكراهية، والغلظ، ووزنها فعنل. ولا يلتفت لمن قال: وزنها فنعلل كعرندس، وأن فعنلا مفقود لوجود فعنل نحو دونك وخفنك وغيرهما، وقيل: إنها فارسي وأصلها كهنام فعربت- بإبدال الكاف جيما وإسقاط الألف- والمنع من الصرف حينئذ للعلمية والعجمة وَلَبِئْسَ الْمِهادُ جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه، والْمِهادُ الفراش، وقيل: ما يوطىء للجنب- والتعبير به للتهكم- وفي الآية ذم لمن يغضب إذا قيل له: اتَّقِ اللَّهَ ولهذا قال العلماء: إذا قال الخصم للقاضي:
اعدل ونحوه له أن يعزره، وإذا قال له: اتَّقِ اللَّهَ لا يعزره. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «إنّ من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله تعالى فيقول: عليك بنفسك عليك بنفسك» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في سرية الرجيع، أو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما أخرج ابن جرير عن أبي الخليل قال: سمع عمر رضي الله تعالى عنه إنسانا يقرأ هذه الآية فاسترجع وقال: قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلبا لرضاه، ف ابْتِغاءَ مفعول له، ومَرْضاتِ مصدر بني- كما في البحر- على التاء كمدعاة، والقياس تجريده منها، وكتب في المصحف- بالتاء- ووقف عليه- بالتاء والهاء- وأكثر الروايات أن الآية نزلت في
491
صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج جماعة أنّ صهيبا أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلا وايم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أبا يحيى ربح البيع ربح البيع» وتلا له الآية. وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى الاشتراء.
وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد بن الأسود لما
قال عليه الصلاة والسلام: «من ينزل خبيبا عن خشبته فله الجنة»
فقال: أنا وصاحبي المقداد- وكان خبيب قد صلبه أهل مكة- وقال الإمامية وبعض منا: إنها نزلت في على كرم الله تعالى وجهه حين استخلفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار، وعلى هذا يرتكب في السراء مثل ما ارتكب أولا وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي المؤمنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا:
إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية،
فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب، والسِّلْمِ بمعنى الإسلام، وكَافَّةً في الأصل صفة من كف بمعنى منع، استعمل بمعنى الجملة بعلاقة أنها مانعة للأجزاء عن التفرق- والتاء- فيه للتأنيث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كعامة وخاصة وقاطبة أو للمبالغة. واختار الطيبي الأول مدعيا أن القول بالأخيرين خروج عن الأصل من غير ضرورة، والشمول المستفاد منه شمول الكل للأجزاء لا الكلي لجزئياته ولا الأعم منهما، ولا يختص بمن يعقل، ولا بكونه حالا ولا نكرة خلافا لابن هشام- وليس له في ذلك ثبت- وهو هنا حال من الضمير في ادْخُلُوا والمعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تدعوا شيئا من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره من شريعة موسى عليه السلام، وقيل: الخطاب للمنافقين، والسِّلْمِ بمعنى الاستسلام والطاعة على ما هو الأصل فيه، وكَافَّةً حال من الضمير أيضا، أي استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة واتركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا، وقيل:
الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان بشريعتهم، والمراد من السِّلْمِ جميع الشرائع بذكر الخاص وإرادة العام بناء على القول بأن الإسلام شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، وحمل- اللام- على الاستغراق، وكَافَّةً حال من السِّلْمِ والمعنى ادخلوا أيها المؤمنون بشريعة واحدة في الشرائع كلها ولا تفرقوا بينها، وقيل: الخطاب للمسلمين الخلص، والمراد من السِّلْمِ شعب الإسلام، وكَافَّةً حال منه، والمعنى ادْخُلُوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فِي شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وقال الزجاج في هذا الوجه: المراد من السِّلْمِ الإسلام، والمقصود أمر المؤمنين بالثبات عليه، وفيه أن التعبير عن الثبات على الإسلام بالدخول فيه بعيد غاية البعد، وهذا ما اختاره بعض المحققين من ستة عشر احتمالا في الآية حاصلة من ضرب احتمالي السِّلْمِ في احتمالي كَافَّةً وضرب المجموع في احتمالات الخطاب، ومبنى ذلك على أمرين، أحدهما أن كَافَّةً لإحاطة الأجزاء، والثاني أن محط الفائدة في الكلام القيد كما هو المقرر عند البلغاء، ونص عليه
492
الشيخ في دلائل الإعجاز، وإذا اعتبرت احتمال الحالية من الضمير والظاهر معا كما في قوله:
خرجت بها نمشي تجر وراءنا على أثرينا ذيل مرط مرحل
بلغت الاحتمالات أربعة وعشرين، ولا يخفى ما هو الأوفق منها بسبب النزول. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم» بفتح السين والباقون- بكسرها- وهما لغتان مشهورتان فيه، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بمخالفة ما أمرتم به، أو بالتفرق في جملتكم، أو بالتفريق بالشرائع أو الشعب إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة أو مظهر لها، وهو تعليل للنهي والانتهاء.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي ملتم عن الدخول فِي السِّلْمِ وتنحيتم، وأصله السقوط وأريد به ما ذكر مجازا.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الحجج الظاهرة الدالة على أنه الحق، أو آيات الكتاب الناطقة بذلك الموجبة للدخول فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره لا يعجزه شيء من الانتقام منكم حَكِيمٌ لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام في معنى النفي، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب، أو إلى مَنْ يُعْجِبُكَ إن أريد به مؤمنو أهل الكتاب أو المسلمون. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بالمعنى اللائق به جل شؤونه منزها عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات. فِي ظُلَلٍ جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك، وقرىء ظلال كقلال مِنَ الْغَمامِ أي السحاب أو الأبيض منه وَالْمَلائِكَةُ يأتون، وقرىء «والملائكة» بالجر عطف على ظلل أو الغمام والمراد مع الْمَلائِكَةُ أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خاتمه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتا تنخلع له القلوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من الغمام ظللا يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة، وقرأ أبيّ «إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل» ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفا فقال: في الآية الإسناد مجازي، والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو حقيقي، والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فإن العزة.
والحكمة تدل على الانتقام بحق، وهو البأس والعذاب، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة، ويكون ذكر الله تعالى حينئذ تمهيدا لذكرهم كما في قوله سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: ٩] على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير، ولا يخفى أن من علم أن الله تعالى أن يظهر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء وأنه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف الأمة وأرباب القلوب من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات، ولم يحم حول هذه التأويلات وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أتم أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ لأنه خبر معنى ووضع الماضي موضع المستقبل لدنو وتيقن وقوعه. وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر عطفا على الملائكة وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تذييل للتأكيد كأنه قيل: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ التي من جملتها الحساب أو الإهلاك، وعلى قراءة معاذ عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ أي لا ينظرون إلا الإتيان وأمر ذلك إلى الله تعالى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم- ترجع- على البناء للمفعول على أنه من الرجع، وقرأ
493
الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع، وقرىء أيضا بالتذكير وبناء المفعول سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أمر للرسول صلّى الله عليه وسلّم كما هو الأصل في الخطاب أو لكل واحد ممن يصح منه السؤال، والمراد بهذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد يقول لمن حضر سله كم أنعمت عليه، وربط الآية بما قبلها على ما قيل: إن الضمير في هَلْ يَنْظُرُونَ إن كان لأهل الكتاب فهي كالدليل عليه وإن كان لمن يُعْجِبُكَ فهي بيان لحال المعاندين من أهل الكتاب بعد بيان حال المنافقين من أهل الشرك كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي علامة ظاهرة وهي المعجزات الدالة على صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال الحسن، ومجاهد، وتخصيص إيتاء المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات الأنبياء السابقة وقد يراد بالآية معناها المتعارف وهو طائفة من القرآن وغيره، وبينة من بان المتعدي، فالسؤال على إيتاء الآيات المتضمنة لنعت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتحقيق نبوته والتصديق بما جاء به. وكَمْ إما خبرية والمسئول عنه محذوف، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع كأنه قيل: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد- آتيناهم آيات كثيرة بينة- وزعم لزوم انقطاع الجملة على هذا التقدير- وهم كما ترى، وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني ل سَلْ وقيل: في موضع المصدر أي سلهم هذا السؤال، وقيل: في موضع الحال أي سلهم قائلا- كم آتيناهم- والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار، وقيل: بمعنى التحقيق والتثبيت، واعترض بأن معنى التقريع الاستنكار والاستبعاد وهو لا يجامع التحقيق، وأجيب بأن التقريع إنما هو على جحودهم الحق وإنكاره المجامع لإيتاء الآيات لا على الإيتاء حتى يفارقه، ومحلها النصب على أنها مفعول ثان- لآتينا- وليس من الاشتغال كما وهم أو الرفع بالابتداء على حذف العائد، والتقدير- آتيناهموها- أو آتيناهم إياها، وهو ضعيف عند سيبويه، وآيَةٍ تمييز، ومِنْ صلة أتي بها للفصل بين كون آيَةٍ مفعولا- لآتينا- وكونها مميزة ل كَمْ ويجب الإتيان بها في مثل هذا الموضع فقد قال الرضي: وإذا كان الفصل بين- كم- الخبرية ومميزها بفعل متعد وجب الإتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي نحو كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان: ٢٥] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الحجر: ٤] وحال- كم- الاستفهامية المجرور مميزها مع الفصل كحال- كم الخبرية في جميع ما ذكرنا انتهى. وحكي عنه أنه أنكر زيادة من في مميز الاستفهامية وهو محمول على الزيادة بلا فصل
لا مطلقا فلا تنافي بين كلاميه وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ أي آياته فإنها سبب الهدي الذي هو أجل النعم، وفيه وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات، وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ، أو جعلها سببا للضلالة وازدياد الرجس، وعلى التقديرين لا حذف في الآية، وقال أبو حيان حذف حرف الجر من نِعْمَةَ والمفعول الثاني ل يُبَدِّلْ والتقدير ومن يبدل بنعمة الله كفرا، ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى، وقرىء- ومن يبدل- بالتخفيف مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ أي وصلته وتمكن من معرفتها، وفائدة هذه الزيادة- وإن كان تبديل الآيات مطلقا مذموما- التعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، وفيه تقبيح عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجيء فما الفائدة في ذكره فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تعليل للجواب أقيم مقامه والتقدير ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب، ويحتمل أن يكون هو الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض أهل الكتاب عن الآيات
494
وبدلوها، وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة هو الله تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كما في قوله تعالى: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: ٣٩] كان فاعل ذلك هو الشيطان والآية محتملة لمعنيين، والتزيين حقيقة فيهما على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الموصول للعهد، والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب وبلال وعمار أي يستهزئون بهم على رفضهم الدنيا. وإقبالهم على العقبى، ومِنَ للتعدية وتفيد معنى الابتداء كأنهم جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر بالباء إلا أنه لغة رديئة، والعطف على زين وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار، وجوز أن تكون الواو للحال ويسخرون خبر لمحذوف أي وهم يسخرون، والآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا لاتبعه أشرافنا، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقيل: نزلت في ابن سلول، وقيل: في رؤساء اليهود، ومن بني قريظة، والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزولها في جميعهم وَالَّذِينَ اتَّقَوْا هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير به مدحا لهم بالتقوى وإشعارا بعلة الحكم، ويجوز أن يراد العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مكانا لأنهم في عليين وأولئك في أسفل السافلين، أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، والجملة معطوفة على ما قبلها، وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها، وفي ذلك من تسلية المؤمنين ما لا يخفى وَاللَّهُ يَرْزُقُ في الآخرة مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بلا نهاية لما يعطيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: هذا الرزق في الدنيا، وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلا لكلا الحكمين كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متفقين على التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ الله تعالى عليهم العهد، وهو المروي عن أبيّ بن كعب، أو بين آدم وإدريس عليهما السلام بناء على ما في روضة الأحباب أن الناس في زمان آدم كانوا موحدين متمسكين بدينه بحيث يصافحون الملائكة إلا قليل من قابيل ومتابعيه إلى زمن رفع إدريس، أو بين آدم ونوح عليهما السلام على ما روى البزار وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بينهما عشرة قرون على شريعة من الحق، أو بعد الطوفان إذ لم يبق بعده سوى ثمانين رجلا وامرأة ثم ماتوا إلا نوحا وبنيه حام وسام ويافث وأزواجهم وكانوا كلهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام فالاستغراق على الأول والأخير حقيقي، وعلى الثاني والثالث
ادعائي بجعل القليل في حكم العدم، وقيل: متفقين على الجهالة والكفر بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا كفارا وذلك بعد رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث نوح أو بعد موت نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث هود عليه الصلاة والسلام فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ أي فاختلفوا فبعث إلخ وهي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وإنما حذف تعويلا على ما يذكر عقبه مُبَشِّرِينَ من آمن بالثواب وَمُنْذِرِينَ من كفر بالعذاب وهم كثيرون،
فقد أخرج أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم الأنبياء؟
قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت: يا رسول الله كم الرسل؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير»
ولا يعارض هذا قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ [النساء: ١٦٤] الآية لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والجمعان منصوبان على الحال من النبيين، والظاهر أنها حال مقدرة، والقول بأنها حال مقارنة خلاف الظاهر.
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ اللام للجنس ومعهم حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف، وليس منصوبا بأنزل والمعنى أنزل جنس الكتاب مقدرا مقارنته ومصاحبته للنبيين حيث كان كل واحد منهم يأخذ الأحكام إما من كتاب
495
يخصه أو من كتاب من قبله، والكتب المنزلة مائة وأربعة في المشهور وأنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيث ثلاثون وعلى إدريس خمسون وعلى موسى قبل التوراة عشرة والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وجوز كون اللام للعهد وضمير معهم للنبيين باعتبار البعض أي أنزل مع كل واحد من بعض النبيين كتابه ولا يخفى ما فيه من الركة بِالْحَقِّ متعلق ب أَنْزَلَ أو حال من الْكِتابَ أي متلبسا شاهدا به لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ علة للإنزال المذكور أوله وللبعث، وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الاختلاف فلا يضر تقدم بعثة آدم وشيث وإدريس عليهم الصلاة والسلام بناء على بعض الوجوه السابقة والحكم بمعنى الفصل بقرينة تعلق بين به ولو كان بمعنى القضاء لتعدى بعلى والضمير المستتر راجع إلى الله سبحانه ويؤيده قراءة الجحدري فيما رواه عنه مكي لنحكم بنون العظمة أو إلى النبي وأفرد الفعل لأن الحاكم كل واحد من النبيين، وجوز رجوعه إلى الكتاب والإسناد حينئذ مجازي باعتبار تضمنه ما به الفصل، وزعم بعضهم أنه الأظهر إذ لا بد في عوده إلى الله تعالى من تكلف في المعنى أي يظهر حكمه وإلى النبي من تكلف في اللفظ حيث لم يقل ليحكموا، ومما ذكرنا يعلم ما فيه من الضعف، والمراد من الناس المذكورون والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التعيين.
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحق الذي اختلفوا فيه بناء على أن وحدة الأمة بالاتفاق على الحق وإذا فسرت الوحدة بالاتفاق على الجهالة والكفر يكون الاختلاف مجازا عن الالتباس والاشتباه اللازم له والمعنى فيما التبس عليهم وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو في الكتاب المنزل متلبسا به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات زائغة والواو حالية إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق أي عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف سببا لرسوخه واستحكامه، وبهذا يندفع السؤال بأنه لما لم يكن الاختلاف إلا من الذين أوتوه- فالاختلاف لا يكون سابقا على البعثة- وحاصله أن المراد هاهنا استحكام الاختلاف واشتداده، وعبر عن- الإنزال بالإيتاء- للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإن- الإنزال- لا يفيد ذلك، وقيل:
عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق، ومِنْ متعلقة ب اخْتَلَفُوا محذوفا، والحصر على تسليم أن يكون مقصودا مستفاد من المقام أو من حذف الفعل، ووقوع الظرف بعد حرف الاستثناء لفظا، أو من تقدير المحذوف مؤخرا- وفي الدر المصون تجويز تعلقه بما اختلف قبله- ولا يمنع منه إلا كما قاله أبو البقاء، وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أنّ استثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقا عند الأكثرين، لا على وجه البدل ولا غيره- ويجوز عند جماعة مطلقا- وفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكورا مع كل من المستثنيين وهما بدلان جاز- وإلا فلا- واستدل من أجاز مطلقا بقوله تعالى: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وأجاب من لم يجوّز بأن النصب بفعل مقدر أي «اتبعوا» وبأن الظرف يكفيه رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره- قاله الرضيّ- وهو مبنى الاختلاف في الآية، وقوله تعالى: بَغْياً بَيْنَهُمْ متعلق بما تعلق به مِنْ والبغي- الظلم أو الحسد، وبَيْنَهُمْ متعلق بمحذوف صفة بَغْياً وفيه إشارة- على ما أرى- إلى أن هذا- البغي- قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له سواهم، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه- وهو فائدة التوصيف بالظرف- وقيل: أشار بذلك إلى أن البغي أمر مشترك بينهم وأنّ كلهم سفل، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها فَهَدَى اللَّهُ
496
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره، ومِنْ بيان لِمَا والمراد للحق الذي اختلف الناس فيه- فالضمير عام شامل للمختلفين السابقين واللاحقين- وليس راجعا إلى الذين أوتوه كالضمائر السابقة، والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين على اختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد اختلافهم، وقيل: المراد من الَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والضمير في اخْتَلَفُوا للذين أوتوه أي الكتاب، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: اخْتَلَفُوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد فَهَدَى اللَّهُ تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليوم الجمعة، واخْتَلَفُوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس وهدي الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للقبلة. واخْتَلَفُوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدي الله تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك واخْتَلَفُوا في الصيام، فمنهم من يصوم النهار والليل، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدي الله أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك. واخْتَلَفُوا في إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، وجعله الله تعالى: حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران: ٦٧] فهدي الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك. وَاخْتَلَفُوا في عيسى عليه الصلاة والسلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمّه بهتانا عظيما، وجعلته النصارى إلها وولدا، وجعله الله تعالى روحه وكلمته، فهدي الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك وقراءة أبيّ بن كعب «فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ليكونوا شهداء على الناس».
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه، والجملة مقررّة لمضمون ما قبلها.
497
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وسوء العيش وأنواع الأذى. حتى بلغت القلوب الحناجر، وقيل: في غزوة أحد، وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد الضر عليهم، لأنهم خرجوا بغير مال وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين، وآثروا رضا الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق فأنزل الله تطييبا لقلوبهم هذه الآية، والخطاب إما للمؤمنين خاصة، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولهم، ونسبة- الحسبان- إليه عليه الصلاة والسلام إما لأنه لما كان يضيق صدره الشريف من شدائد المشركين نزل منزلة من يحسب أن يدخل الجنة بدون تحمل المكاره، وإما على سبيل التغليب كما في قوله سبحانه: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: ٨٨] وأَمْ منقطعة- والهمزة المقدّرة- لإنكار ذلك الحسبان وأنه لا ينبغي أن يكون، وقيل: متصلة بتقدير معادل، وقيل: منقطعة بدون تقدير، وفي الكلام التفات إلا أنه غير صريح من الغيبة إلى الخطاب لأن قوله سبحانه: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً كلام مشتمل على ذكر الأمم السابقة والقرون الخالية، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد، وإظهار المعجزات تشجيعا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين، أو للمؤمنين خاصة- فكانوا من هذا الوجه مرادين غائبين- ويؤيده فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ فإذا قيل: بعد أَمْ حَسِبْتُمْ كان نقلا من الغيبة إلى الخطاب، أو لأنّ الكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والصبر على أذى المشركين، فكأنه وضع موضع كان من حق المؤمنين
498
التشجيع والصبر تأسيا بمن قبلهم، كما يدل عليه ما
أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والإمام أحمد عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لقينا من المشركين فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله تعالى لنا/ فقال: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فتخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه» ثم قال: «والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»
وهذا هو المضرب عنه- ببل- التي تضمنتها أَمْ أي دع ذلك- أحسبوا أن يدخلوا الجنة- فترك هذا إلى الخطاب وحصل الالتفات معنى، ومما ذكر يعلم وجه ربط الآية بما قبلها، وقيل: وجه ذلك أنه سبحانه لما قال: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وكان المراد بالصراط الحق الذي يفضي اتباعه إلى دخول الجنة بين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف وَلَمَّا يَأْتِكُمْ الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال أي غير آتيكم وَلَمَّا جازمة- كلم- وفرق بينهما في كتب النحو، والمشهور أنها بسيطة، وقيل: مركبة من- لم وما النافية- وهي نظيرة قد في أنّ الفعل المذكور بعدها منتظر الوقوع.
مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي مثل مثلهم وحالهم العجيبة، فالكلام على حذف مضاف، والَّذِينَ صفة لمحذوف أي المؤمنين، ومِنْ قَبْلِكُمْ متعلق ب خَلَوْا وهو كالتأكيد لما يفهم منه.
مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ بيان- للمثل- على الاستئناف سواء قدّر كيف ذلك المثل أو لا، وجوّز أبو البقاء كونها حالية بتقدير قد وَزُلْزِلُوا أي أزعجوا إزعاجا شديدا بأنواع البلاء.
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي انتهى أمرهم من البلاء إلى حيث اضطروا إلى أن يَقُولَ الرَّسُولُ وهو أعلم الناس بما يليق به تعالى، وما تقتضيه حكمته، والمؤمنون المقتدون بآثاره، المهتدون بأنواره مَتى يأتي نَصْرُ اللَّهِ طلبا وتمنيا له، واستطالة لمدة الشدة- لا شكا وارتيابا- والمراد من الرَّسُولُ الجنس لا واحد بعينه، وقيل: وهو اليسع، وقيل: شعياء، وقيل: أشعياء، وعلى التعيين يكون المراد من الَّذِينَ خَلَوْا قوما بأعيانهم- وهم أتباع هؤلاء الرسل- وقرأ نافع يَقُولَ بالرفع على أنها حكاية حال ماضية ومَعَهُ يجوز أن يكون منصوبا ب يَقُولَ أي إنهم صاحبوه في هذا القول وأن يكون منصوبا ب آمَنُوا أي وافقوه في الإيمان أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ استئناف نحوي على تقدير القول أي فقيل لهم حينئذ ذلك تطييبا لأنفسهم بإسعافهم بمرامهم وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقريره ما لا يخفى، واختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعد للرسول والاقتصار على حكايتها دون حكاية النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف، وقيل: لما كان السؤال- بمتى- يشير إلى استعلام القرب تضمن الجواب القرب واكتفى به ليكون الجواب طبق السؤال، وجوز أن يكون هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا واردا عند وقوع المحكي، والقول بأن هذه الجملة: مقول الرسول ومَتى نَصْرُ اللَّهِ تعالى مقول من معه على طريق اللف والنشر الغير المرتب ليس بشيء، إما لفظا فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين، وإما معنى فلأنه لا يحسن ذكر قول الرسول أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة، والقول- بأن ترك العطف للتنبيه على أن كلّا مقول لواحد منهما، واحتراز عن توهم كون المجموع مقول واحد وتنبيه على أن الرسول قال لهم في جوابهم وبأن منصب الرسالة يستدعي تنزيه الرسول عن التزلزل- لا
499
ينبغي أن يلتفت إليه لأنه إذا ترك العطف لا يكون معطوفا على القول الأول فكيف التنبيه على كون كل مقولا لواحد منهما، ولا نأمن وراء منع كون منصب الرسالة يستدعي ذلك التنزيه وليس التزلزل والانزعاج أعظم من الخوف، وقد عرى الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يصرح به كثير من الآيات، وفي الآية رمز إلى أن الوصول إلى الجناب الأقدس لا يتيسر إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبىء عنه
خبر «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيئات ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن»
«ومن باب الإشارة في الآيات» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يدعي المحبة ويتكلم في دقائق الأسرار ويظهر خصائص الأحوال وهو في مقام النفس الأمارة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ من المعارف والإخلاص بزعمه وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة لأهل الله تعالى في نفس الأمر وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها بإلقاء الشبه على ضعفاء المريدين وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ ويحصد بمنجل تمويهاته زرع الإيمان النابت في رياض قلوب السالكين ويقطع نسل المرشدين وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ فكيف يدعي هذا الكاذب محبة الله تعالى ويرتكب ما لا يحبه وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية على الإثم لجاجا وحبا لظهور نفسه وزعما منه أنه أعلم بالله سبحانه من ناصحه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي يكفيه حبسه في سجين الطبيعة وظلماتها، وهذه صفة أكثر أرباب الرسوم الذين حجبوا عن إدراك الحقائق بما معهم من العلوم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يبذل نفسه في سلوك سبيل الله طلبا لرضاه ولا يلتفت إلى القال والقيل ولا يغلو لديه في طلب مولاه جليل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ وتسليم الوجود لله تعالى والخمود تحت مجاري القدرة لكم وعليكم كافة فإن زللتم عن مقام التسليم والرضا بالقضاء من بعد ما جاءتكم دلائل تجليات الأفعال والصفات، فاعلموا أن الله تعالى عزيز غالب يقهركم، حكيم لا قهر إلا على مقتضى الحكمة، هل ينظرون إلا أن يتجلى الله سبحانه في ظلل صفات قهرية من جملة تجليات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية، وقضي الأمر بوصول كل إلى ما سبق له في الأزل وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ بالفناء كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً على الفطرة ودين الحق في عالم الإجمال ثم اختلفوا في النشأة بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم واحتجاب كل بمادة بدنه فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق ومن الكثرة إلى الوحدة ومن العداوة إلى المحبة فتفرقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا، فالسفليون ازدادوا خلافا وعنادا والعلويون هداهم الله تعالى إلى الحق وسلكوا الصراط المستقيم أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا جنة المشاهدة ومجالس الأنس بنور المكاشفة وَلَمَّا يَأْتِكُمْ حال السالكين قبلكم مستهم بأساء الفقراء وضراء المجاهدة وكسر النفس بالعبادة حتى تضجروا من طول مدة الحجاب وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وطلبوا نصر الله تعالى بالتجلي، فأجيبوا: إذا بلغ السيل الزبى، وقيل: لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ برفع الحجاب وظهور آثار الجمال قَرِيبٌ ممن بذل نفسه وصرف عن غير مولاه حسنه وتحمل المشاق وذبح الشهوات بسيف الأشواق:
ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح: «كان عمرو بن الجموح شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال: يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فنزلت»
وفي رواية عطاء عنه لا إنها نزلت في رجل أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إن لي دينارا فقال: أنفقه على نفسك فقال: إن لي دينارين فقال:
500
أنفقهما على أهلك فقال: إن لي ثلاثة فقال: أنفقها على خادمك فقال: إن لي أربعة فقال: أنفقها على والديك فقال: إن لي خمسة فقال: أنفقها على قرابتك فقال: إن لي ستة فقال: أنفقها في سبيل الله تعالى»
وعن ابن جريج قال: «سأل المؤمنون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟» فنزلت.
قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ظاهر الآية أنه سئل عن المنفق فأجاب ببيان المصرف صريحا لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره، وأشار إجمالا إلى بيان المنفق فإن: مِنْ خَيْرٍ يتضمن كونه حلالا إذ لا يسمى ما عداه خيرا وإنما تعرض لذلك وليس في السؤال ما يقتضيه لأن السؤال للتعلم لا للجدل، وحق المعلم فيه أن يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء طلبه المريض أم لم يطلبه، ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيبا في أكل العسل فقال: كله مع الخل، فالكلام إذا من أسلوب الحكيم، ويحتمل أن يكون في الكلام ذكر المصرف أيضا كما تدل عليه الرواية الأولى في سبب النزول إلا أنه لم يذكره في الآية للإيجاز في النظم تعويلا على الجواب فتكون الآية جوابا لأمرين مسؤول عنهما، والاقتصار في بيان المنفق على الإجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون الثاني أهم، وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أم لا؟ قولان أشهرهما الثاني حيث أجيب عن المتروك صريحا وعن المذكور تبعا، والأكثرون على أن الآية في التطوع، وقيل: في الزكاة، واستدل بها من أباح صرفها للوالدين، وفيه أن عموم خَيْرٍ مما ينافي كونها في الزكاة لأن الفرض فيها قدر معين بالإجماع ولم يتعرض سبحانه للسائلين، والرِّقابِ إما اكتفاء بما ذكر في المواضع الأخر، وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنه شامل لكل خَيْرٍ واقع في أي مصرف كان وَما شرطية مفعول به- لتفعلوا- والفعل أعم من الإنفاق وأتى بما يعم تأكيدا للخاص الواقع في الجواب.
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يعلم كنهه كما يشير به صيغة فعيل مع الجملة الاسمية المؤكدة، والجملة جواب الشرط باعتبار معناها الكنائي إذ المراد منها توفية الثواب، وقيل: إنها دليل الجواب، وليست به، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن الصبر على النفقة وبذل المال من أعظم ما تحلى به المؤمن وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة حتى
ورد «الصدقة تطفئ غضب الرب»
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي قتال الكفار وهو فرض عين إن دخلوا بلادنا، وفرض كفاية إن كانوا ببلادهم وقرىء بالبناء للفاعل وهو الله عز وجل ونصب القتال، وقرىء أيضا كتب عليكم القتل أي قتل الكفرة وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ عطف على كتب وعطف الاسمية على الفعلية جائز كما نص عليه، وقيل: الواو للحال، والجملة حال ورد بأن الحال المؤكدة لا تجيء- بالواو- والمنتقلة لا فائدة فيها «والكره» بالضم- كالكره بالفتح- وبهما قرىء «الكراهة» وقيل: المفتوح المشقة التي تنال الإنسان من خارج والمضموم ما يناله من ذاته، وقيل: المفتوح اسم بمعنى الإكراه، والمضموم بمعنى «الكراهة» وعلى كل حال فإن كان مصدرا فمؤول أو محمول على المبالغة أو هو صفة كخبز بمعنى مخبوز، وإن كان بمعنى الإكراه وحمل على الكره عليه فهو على التشبيه البليغ كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته ثم كون القتل مكروها لا ينافي الإيمان لأن تلك الكراهية طبيعية لما فيه من القتل والأسر وإفناء البدن وتلف المال وهي لا تنافي الرضا بما كلف به كالمريض الشارب للدواء البشع يكرهه لما فيه من البشاعة ويرضى به من جهة أخرى.
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وهو جميع ما كلفوا به فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم ومنه القتال فإن فيه الظفر والغنيمة والشهادة التي هي السبب الأعظم للفوز بغاية الكرامة.
501
وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى، ومن ذلك ترك قتال الأعداء فإن فيه الذل وضعف الأمر وسبي الذراري ونهب الأموال وملك البلاد وحرمان الحظ الأوفر من النعيم الدائم، والجملتان الاسميتان حالان من النكرة وهو قليل، ونص سيبويه على جوازه كما في البحر، وجوز أبو البقاء أن يكونا صفة لها وساغ دخول الواو لما أن صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا وَعَسى الأولى للاشفاق والثانية للترجي على ما ذهب إليه البعض، وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروها ومكروهها محبوبا فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال: إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ [التحريم: ٥] وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما هو خير لكم وما هو شر لكم وحذف المفعول للإيجاز وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيرا لكم وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأن فيها الجهاد وهو بذل النفس الذي هو فوق بذل المال.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق زيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى نخلة فقال: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام وكتب له كتابا قبل أن يعلمه أين يسير فقال: اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك، وانظر فيه فما أمرتك به فامض له ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك. فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه «أن امض حتى تنزل نخلة فأتنا من أخبار قريش، بما اتصل إليك منهم» فقال لأصحابه: وكانوا ثمانية حين قرأ الكتاب سمعا وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه يطلبانه ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا قالوا: عمار ليس عليكم منهم بأس وأتمر القوم بهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى فقالوا: لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشَّهْرِ الْحَرامِ ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة- مكة الحرام- فليتمنعن منكم فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل وأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لهم والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا فلما قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال:
سقط في أيديهم، وظنوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش: حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال، واستحل الحرام فنزلت فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العير وفدى الأسيرين، وفي سيرة ابن سيد الناس أن ذلك في رجب وأنهم لقوا أولئك في آخر يوم منه، وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي
502
صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: أيحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى الآية،
ومن هنا قيل: السائلون هم المشركون، وأيد بأن ما سيأتي من ذكر الصد والكفر والإخراج أكبر شاهد صدق على ذلك ليكون تعريضا بهم موافقا لتعريضهم بالمؤمنين.
واختار أكثر المفسرين أن السائلين هم المسلمون قالوا: وأكثروا الروايات تقتضيه، وليس الشاهد مفصحا بالمقصود والمراد من الشَّهْرِ الْحَرامِ رجب أو جمادى فأل فيه للعهد، والكثير والأظهر أنها للجنس فيراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، وسميت حرما لتحريم القتال فيها والمعنى يَسْئَلُونَكَ أي المسلمون أو الكفار عن القتال في الشهر الحرام على أن قِتالٍ فِيهِ بدل اشتمال من الشهر لما أن الأول غير واف بالمقصود مشوق إلى الثاني ملابس له بغير الكلية والجزئية، ولما كان النكرة موصوفة أو عاملة صح إبدالها من المعرفة على أن وجوب التوصيف إنما هو في بدل الكل كما نص عليه الرضي، وقرأ عبد الله عن قتال وهو أيضا بدل اشتمال إلا أنه بتكرير العامل، وقرأ عكرمة قتل فيه وكذا في قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي عظيم وزرا، وفيه تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام، وأن ما اعتقد من استحلاله صلّى الله عليه وسلّم القتال فيه باطل، وما وقع من أصحابه عليه الصلاة والسلام كان من باب الخطأ في الاجتهاد وهو معفو عنه- بل
من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد- كما في الحديث،
والأكثرون على أن هذا الحكم منسوخ بقوله سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:
٥] فإن المراد بالأشهر الحرم أشهر معينة أبيح للمشركين السياحة فيها بقوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة: ٢] وليس المراد بها الأشهر الحرم من كل سنة فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأمكنة والأزمنة وهو نسخ الخاص بالعام، وساداتنا الحنفية يقولون به، وأما الشافعية فيقولون: إن الخاص سواء كان متقدما على العام أو متأخرا عنه مخصص له لكون العام عندهم ظنيا والظني لا يعارض القطعي، وقال الإمام: الذي عندي أن الآية لا تدل على حرمة القتال مطلقا في الشهر الحرام لأن القتال فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم فلا حاجة حينئذ إلى القول بالنسخ، واعترض بأنها عامة لكونها موصوفة بوصف عام أو بقرينة المقام ولو سلم فقتال المشركين مراد قطعا لأن قتال المسلمين حرام مطلقا من غير تقييد بالأشهر الحرم، وفيه أنا لا نسلم أنها موصوفة لجواز أن يكون الجار ظرفا لغوا ولو سلم فلا نسلم عموم الوصف بل هو مخصص لها بالقتال الواقع في الشهر الحرام المعين، والوصف المفيد للعموم هو الوصف المساوي عمومه عموم الجنس كما في قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الإنعام: ٣٨] وقول الشاعر: ولا ترى الضب بها ينجحر. وكون الأصل مطابقة الجواب للسؤال قرينة على الخصوص وكون المراد قتال المشركين على عمومه غير مسلم لأن الكلام في القتال المخصوص ولو سلم عمومها في السؤال فلا نسلم عمومها في الجواب بناء على ما ذكره الراغب أن النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها يعاد معرفا نحو سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ففي تنكيرها هنا تنبيه على أن ليس المراد كل قتال حكمه هذا فإن قتال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه
فقد قال عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي ساعة من نهار»
وحرمة قتال المسلمين مطلقا لا يخفى ما فيه لأن قتال أهل البغي يحل وهم مسلمون فالإنصاف أن القول بالنسخ ليس بضروري، نعم هو ممكن وبه قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه الضحاك، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذا شيء منسوخ ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام، وخالف عطاء في ذلك فقد روي عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله تعالى ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة والأمة اليوم على خلافه في
503
سائر الأمصار وَصَدٌّ أي منع وصرف عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو الإسلام قاله مقاتل، أو الحج قاله ابن عباس والسدي، أو الهجرة كما قيل، أو سائر ما يوصل العبد إلى الله تعالى من الطاعات، فالإضافة إما للعهد أو للجنس وَكُفْرٌ بِهِ أي بالله أو بسبيله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ اختار أبو حيان عطفه على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار، وأجاز ذلك الكوفيون ويونس والأخفش وأبو علي وهو شائع في لسان العرب نظما ونثرا، واعترض بأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام وهو لازم من العطف، وفيه بحث إذ الكفر قد ينسب إلى الأعيان باعتبار الحكم المتعلق بها كقوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ [البقرة: ٢٥٦] واختار القاضي تقدير مضاف معطوف على صَدٌّ أي وصد المسجد الحرام عن الطائفين والعاكفين والركع السجود، واعترض بأن حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه بحاله مقصور على السماع ورد بمنع الإطلاق ففي التسهيل إذا كان المضاف إليه إثر عاطف متصل به أو مفصول بلا مسبوق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى جاز حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على انجراره قياسا نحو ما مثل زيد وأبيه يقولان ذلك- أي مثل أبيه- ونحو ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة، وإذا انتفى واحد من الشروط كان مقصورا على السماع، وفيما نحن فيه سبق إضافة مثل ما حذف منه، واختار الزمخشري عطفه على سبيل الله تعالى، واعترض بأن عطف وَكُفْرٌ بِهِ على وَصَدٌّ مانع من ذلك إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة، وذكر لصحة ذلك وجهان، أحدهما أن وَكُفْرٌ بِهِ في معنى الصد عن سبيل الله فالعطف على سبيل التفسير كأنه قيل- وصد عن سبيل الله أعني كفرا به والمسجد الحرام- والفاصل ليس بأجنبي، ثانيهما أن موضع وَكُفْرٌ بِهِ عقيب وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلا أنه قدم لفرط العناية كما في قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: ٤] حيث كان من حق الكلام ولم يكن أحد كفوا له، ولا يخفى أن الوجه الأول أولى لأن التقديم لا يزيل محذورا الفصل ويزيد محذورا آخر، واختار السجاوندي العطف على- الشهر الحرام- وضعف بأن القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام واختار أبو البقاء كونه متعلقا بفعل محذوف دل عليه الصد- أي ويصدون عن المسجد الحرام- كما قال سبحانه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الفتح: ٢٥] وضعف بأن حذف حرف الجر وبقاء عمله مما لا يكاد يوجد إلا في الشعر، وقيل: إن الواو للقسم وقعت في أثناء الكلام وهو كما ترى وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ وهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون وإنما كانوا أهله لأنهم القائمون بحقوقه، وقيل: إن ذلك باعتبار أنهم يصيرون أهله في المستقبل بعد فتح مكة أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ خبر للأشياء المعدودة من كبائر قريش، وأفعل من يستوي فيه الواحد والجمع المذكور والمؤنث. والمفضل عليه محذوف أي مما فعلته السرية خطأ في الاجتهاد، ووجود أصل الفعل في ذلك الفعل مبني على الزعم وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ تذييل لما تقدم للتأكيد عطف عليه عطف الحكم الكلي على الجزئي أي ما يفتن به المسلمون ويعذبون به ليكفروا أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ من القتل وما ذكر سابقا داخل فيه دخولا أوليا، وقيل: المراد بالفتنة الكفر، والكلام كبرى لصغرى محذوفة، وقد سيق تعليلا للحكم السابق وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ عطف على يَسْئَلُونَكَ بجامع الاتحاد في المسند إليه إن كان السائلون هم المشركون، أو معترضة إن كان السائلون غيرهم والمقصود الاخبار بدوام عداوة الكفار بطريق الكناية تحذيرا
للمؤمنين عنهم وإيقاظا لهم إلى عدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور، وحَتَّى للتعليل، والمعنى لا يزالون يعاودونكم لكي يردوكم عن دينكم، وقوله تعالى: إِنِ اسْتَطاعُوا متعلق بما عنده، والتعبير بإن لاستبعاد استطاعتهم وأنها لا تجوز إلا على سبيل الفرض كما يفرض المحال وفائدة التقييد بالشرط التنبيه على سخافة عقولهم وكون دوام عداوتهم فعلا عبثا لا يترتب عليه الغرض وليس متعلقا- بلا يزالون يقاتلونكم- إذ لا معنى لدوامهم على العداوة إن استطاعوها لكنها مستبعدة. وذهب ابن عطية إلى أن حَتَّى للغاية والتقييد بالشرط حينئذ لإفادة أن الغاية
504
مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع وقوعها شائع كما في قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: ٤٠] وفيه أن استبعاد وقوع الغاية مما يترتب عليه عدم انقطاع العداوة وقد أفاده صدر الكلام، والقول بالتأكيد غير أكيد، نعم يمكن الحمل على الغاية لو أريد من المقاتلة معناها الحقيقي ويكون الشرط متعلقا- بلا يزالون- فيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في بعض الأوقات لعدم استطاعتهم إلا أن المعنى حينئذ يكون مبتذلا كما لا يخفى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الحق بإضلالهم وإغواهم، أو الخوف من عداوتهم فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ بأن لم يرجع إلى الإسلام فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الارتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد للإشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد والجمع والإفراد نظرا للفظ والمعنى حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن، قيل وأصل الحبط فساد يلحق الماشية لأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ مضر، وفي النهاية أحبط الله تعالى عمله أبطله يقال: حبط عمله وأحبط وأحبطه غيره، وهو من قولهم: حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، وقرىء- حبطت- بالفتح وهو لغة فيه، فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد في الأولى وسقوط الثواب في الأخرى وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ كسائر الكفرة ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئا، واستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها وذلك بناء على أنها «لو أحبطت» مطلقا لما كان للتقييد بقوله سبحانه: فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فائدة والقول بأن فائدته أن «إحباط» جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلا موقوف على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمنا «لا يحبط» إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا معنى له لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذ لا يتأتى هذا القول كما لا يخفى، وقيل: بناء على أنه جعل الموت عليها شرطا في الإحباط وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط، واعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطا بهذا المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط، وذهب إمامنا أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن مجرد الارتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: ٥] وما استدل به الشافعي ليس صريحا في المقصود لأنه إنما يتم إذا كانت جملة، وَأُولئِكَ إلخ تذييلا معطوفة على الجملة الشرطية، وأما لو كانت معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتبا على الموت على الردة فلا نسلم تماميته، ومن زعم ذلك اعترض على الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملا بالدليلين، وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده يكون الإطلاق والتقييد في الحكم واتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سببا كالمقيد، وثمرة الخلاف على ما قيل: تظهر فيمن صلى ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فإنه يلزمه عند الإمام قضاء الصلاة خلافا للشافعي وكذا الحج واختلف الشافعيون فيمن رجع إلى الإسلام بعد الردة هل يرجع له عمله بثوابه أم لا؟ فذهب بعض إلى الأول فيما عدا الصحبة فإنها ترجع مجردة عن الثواب، وذهب الجل إلى الثاني وأن أعماله تعود بلا ثواب ولا فرق
بين الصحبة وغيرها، ولعل ذلك هو المعتمد في المذهب فافهم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الكبير من حديث جندب بن عبد الله أنها نزلت في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر وَالَّذِينَ هاجَرُوا أي فارقوا أوطانهم، وأصله من الهجر ضد
505
الوصل وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وإنما كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما وإن كانا مشروطين بالإيمان في الواقع مستقلان في تحقق الرجاء، وقدم الهجرة على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما أُولئِكَ المنعوتون بالنعوت الجليلة يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي يؤملون تعلق رحمته سبحانه بهم أو ثوابه على أعمالهم، ومنها تلك الغزاة في الشهر الحرام، واقتصر البعض عليها بناء على ما
رواه الزهري أنه لما فرج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم طمعوا فيما عند الله تعالى من ثوابه فقالوا: يا نبي الله أنطمع أن تكون غزوة نعطى فيها أجر المهاجرين في سبيل الله تعالى فأنزل الله تعالى هذه الآية،
ولا يخفى أن العموم أعم نفعا وأثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإشارة إلى أن العمل غير موجب إذ لا استحقاق به ولا يدل دلالة قطعية على تحقق الثواب إذ لا علاقة عقلية بينهما وإنما هو تفضل منه تعالى سيما والعبرة بالخواتيم فلعله يحدث بعد ذلك ما يوجب الحبوط ولقد وقع ذلك والعياذ بالله تعالى كثيرا فلا ينبغي الاتكال على العمل وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل لما تقدم وتأكيد له ولم يذكر المغفرة فيما تقدم لأن رجاء الرحمة يدل عليها وقدم وصف المغفرة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قال الواحدي: نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل ومسلبة للمال فأنزل الله تعالى هذه الآية
وفي بعض الروايات «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوه عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال قوم: ما حرما علينا فكانوا يشربون الخمر إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا أناسا من الصحابة وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب فقدموا عليا كرم الله تعالى وجهه فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: ١] إلخ بحذف لا فأنزل الله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] فقلّ من يشربها ثم اتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم إنهم افتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد ما فيه هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وشكا إليه الأنصار فقال: اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله تعالى:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله تعالى عنه: انتهينا يا رب.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه دابتي.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو أدخلت أصبعي فيها لم تتبعني- وهذا هو الإيمان والتقى حقا.
والخمر عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه التي من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد وسميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها، والخامر وهو من يكتم الشهادة، وقيل: لأنها تغطى حتى تشتد، ومنه «خمروا آنيتكم»
أي غطوها، وقيل: لأنها تخالط العقل وخامره داء خالطه، وقيل: لأنها تترك حتى تدرك، ومنه اختمر العجين أي بلغ إدراكه وهي أقوال متقاربة، وعليها فالخمر مصدر يراد به اسم الفاعل أو المفعول ويجوز أن يبقى على مصدريته للمبالغة. وذهب الإمامان إلى عدم اشتراط القذف ويكفي الاشتداد لأن المعنى المحرم يحصل به، وللإمام أن الغليان بداية الشدة وكمالها بقذف الزبد وسكونه إذ به يتميز الصافي من الكدر وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع، وأخذ بعضهم بقولهما في حرمة الشرب احتياطا، ثم إطلاق
506
الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة، ومن الناس من قال هو حقيقة في كل مسكر لما أخرج الشيخان، وأبو داود والترمذي والنسائي «كل مسكر خمر».
وأخرج أبو داود نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة، والْخَمْرِ ما خامر العقل، وأخرج مسلم عن أبي هريرة الْخَمْرِ من هاتين الشجرتين،- وأشار إلى الكرم والنخلة- وأخرج البخاري عن أنس «حرّمت الخمر حين حرمت» وما يتخذ من خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرنا البسر والتمر، ويمكن أن يجاب أن المقصود من ذلك كله بيان الحكم، وتعليم أن ما أسكر حرام- كالخمر- وهو الذي يقتضيه منصب الإرشاد- لا تعليم اللغات العربية- سيما والمخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها، وما يقال: إنه مشتق من مخامرة العقل، وهي موجودة في كل مسكر لا يقتضي العموم، ولا ينافي كون الاسم خاصا فيما تقدم فإن النجم مشتق من الظهور، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف- لا لكل ما ظهر- وهذا كثير النظير، وتوسط بعضهم فقال: إن الْخَمْرِ حقيقة في لغة العرب في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا، وإذا استعمل في غيره كان مجازا إلا أن الشارع جعله حقيقة في كل مسكر شابه موضوعه اللغوي، فهو في ذلك حقيقة شرعية كالصلاة، والصوم. والزكاة في معانيها المعروفة شرعا، والخلاف قوي ولقوّته ووقوع الإجماع على تسمية المتخذ من العنب خمرا دون المسكر من غيره، أكفروا مستحل الأول، ولم يكفروا مستحل الثاني بل قالوا: إن عين الأوّل حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه، ومن أنكر حرمة العين وقال: إن السكر منه حرام لأنه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده الكتاب إذ سماه رجسا فيه والرجس محرّم العين فيحرم كثيره وإن لم يسكر- وكذا قليله ولو قطرة- ويحد شاربه مطلقا،
وفي الخبر «حرّمت الخمر لعينها» وفي رواية «بعينها قليلها وكثيرها سواء»
والسكر من كل شراب، وقالوا: إن الطبخ لا يؤثر لأنه للمنع من ثبوت الحرمة- لا لرفعها بعد ثبوتها- إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه بناء على أن الحد بالقليل النيء خاصة- وهذا قد طبخ- وأما غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة- ويسمى الباذق- والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فحرام عندنا إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف، وقال الأوزاعي وأكثر المعتزلة: إنه مباح لأنه مشروب طيب- وليس بخمر- ولنا أنه رقيق ملد مطرب، ولذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه رفعا للفساد المتعلق به، وأما نقيع التمر وهو السكر- وهو النيء من ماء التمر- فحرام مكروه، وقال شريك: إنه مباح للامتنان ولا يكون بالمحرم، ويرده إجماع الصحابة، والآية محمولة على الابتداء كما أجمع عليه المفسرون، وقيل: أراد بها التوبيخ أي «أتتخذون منه سكرا، وتدعون رزقا حسنا» وأمّا نقيع الزبيب- وهو النيء من ماء الزبيب- فحرام إذا اشتدّ وغلى، وفيه خلاف الأوزاعي، ونبيذ الزبيب والتمر إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال، وإن اشتدّ إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي حرام ونبيذ العسل والتين والحنطة والذرة والشعير وعصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه حلال عند الإمام الأوّل، والثاني، وعند محمد والشافعي حرام أيضا، وأفتى المتأخرون بقول محمد في سائر الأشربة، وذكر ابن وهبان أنه مروي عن الكل ونظم ذلك فقال:
وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر
وعن كلهم يروى، وأفتى محمد بتحريم ما قد- قلّ- وهو المحرر
وعندي أنّ الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من لم يتعوّده حرام- وقليله ككثيره- ويحدّ شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة.
507
وفي الصحيحين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن النقيع- وهو نبيذ العسل- فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام»
وروى أبو داود «نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر»
وصح «ما أسكر كثيره فقليله حرام»
وفي حديث آخر «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام»
والأحاديث متظافرة على ذلك، ولعمري إنّ اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الْخَمْرِ ورغبتهم فيها فوق اجتماعهم عى شرب الْخَمْرِ ورغبتهم فيه بكثير، وقد وضعوا لها أسماء- كالعنبرية والإكسير- ونحوهما ظنا منهم أنّ هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة- وهيهات هيهات- الأمر وراء ما يظنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها كما قدّمنا لأنها اجتهادية، ولو ذهب ذاهب إلى القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل وَالْمَيْسِرِ مصدر ميمي من- يسر- كالموعد والمرجع يقال: يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من- اليسر- لأنه أخذ المال بيسر وسهولة، أو من- اليسار- لأنه سلب له، وقيل: من يسروا الشيء إذا اقتسموه، وسمي المقامر- ياسرا- لأنه بسبب ذلك الفعل يجزىء لحم الجزور، وقال الواحدي: من يسر الشيء إذا وجب، والياسر الواجب بسبب القدح، وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هي الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها ثمانية وعشرين إلا الثلاثة: وهو المنيح والسفيح والوغد، للفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة- وهي خريطة- ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله مع حرمانه، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم، ونقل الأزهري كيفية أخرى لذلك ولم يذكر- الوغد- في الأسماء بل ذكر غيره، والذي اعتمده الزمخشري وكثيرون ما ذكرناه، وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال:
كل سهام الياسرين عشره... فأودعوها صحفا منشره
لها فروض ولها نصيب... الفذ والتوأم والرقيب
والحلس يتلوهن ثم النافس... وبعده مسبلهن السادس
ثم المعلى كاسمه المعلى... صاحبه في الياسرين الأعلى
والوغد والسفيح والمنيح... غفل فما فيما يرى ربيح
وفي حكم ذلك جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج، وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب والقرعة في غير القسمة وجميع أنواع المخاطرة والرهان، وعن ابن سيرين- كل شيء فيه خطر فهو من الميسر- ومعنى الآية يَسْئَلُونَكَ عما في تعاطي هذين الأمرين، ودل على التقدير بقوله تعالى: قُلْ فِيهِما إذ المراد في تعاطيهما بلا ريب إِثْمٌ كَبِيرٌ من حيث إن تناولهما مؤدّ إلى ما يوجب- الإثم- وهو ترك المأمور، وفعل المحظور وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ من اللذة والفرح وهضم الطعام وتصفية اللون وتقوية الباه وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وإعانة الضعيف. وهي باقية قبل التحريم وبعده، وسلبها بعد التحريم مما لا يعقل ولا يدل عليه دليل،
وخبر «ما جعل الله تعالى شفاء أمتي فيما حرّم عليها»
لا دليل فيه عند التحقيق كما لا يخفى وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي المفاسد التي تنشأ منها أعظم من المنافع المتوقعة فيهما. فمن مفاسد الخمر إزالة العقل الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا
508
كانت عدوة للأشرف لزم أن تكون أخس الأمور لأن العقل إنما سمي عقلا لأنه يعقل- أي يمنع صاحبه عن القبائح التي يميل إليها بطبعه- فإذا شرب زال ذلك العقل المانع عن القبائح وتمكن إلفها- وهو الطبع- فارتكبها وأكثر منها، وربما كان ضحكة للصبيان حتى يرتد إليه عقله. ذكر ابن أبي الدنيا أنه مرّ بسكران وهو يبول بيده ويغسل به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا. وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية:
ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضي أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم، ومنها صدّها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإيقاعها العداوة والبغضاء غالبا. وربما يقع القتل بين الشاربين في مجلس الشرب، ومنها أن الإنسان إذا ألفها اشتد ميله إليها وكاد يستحيل مفارقته لها وتركه إياها، وربما أورثت فيه أمراضا كانت سببا لهلاكه. وقد ذكر الأطباء لها مضار بدنية كثيرة كما لا يخفى على من راجع كتب الطب، وبالجملة لو لم يكن فيها سوى إزالة العقل والخروج عن حد الاستقامة لكفى فإنه إذا اختل العقل حصلت الخبائث بأسرها، ولذلك
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث»
ولم يثبت أن الأنبياء عليهم السلام شربوها في وقت أصلا، ومن مفاسد الْمَيْسِرِ أن فيه أكل الأموال بالباطل وأنه يدعو كثيرا من المقامرين إلى السرقة وتلف النفس وإضاعة العيال وارتكاب الأمور القبيحة والرذائل الشنيعة والعداوة الكامنة والظاهرة، وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من أعماه الله تعالى وأصمه، ولدلالة الآية على أعظمية المفاسد ذهب بعض العلماء إلى أنها هي المحرمة للخمر فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل وزاد بعضهم على ذلك بأن فيها الإخبار بأن فيها الإثم الكبير، والإثم إما العقاب أو سببه، وكل منهما لا يوصف به إلا المحرم، والحق أن الآية ليست نصا في التحريم كما قال قتادة: إذ للقائل أن يقول: الإثم بمعنى المفسدة، وليس رجحان المفسدة مقتضيا لتحريم الفعل بل لرجحانه، ومن هنا شربها كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعد نزولها، وقالوا: إنما نشرب ما ينفعنا، ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة فهي المحرمة من وجوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقرىء إثم كثير بالمثلثة، وفي تقدم الإثم ووصفه بالكبر أو الكثرة وتأخير ذكر المنافع مع تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى، وقرأ أبيّ- وإثمهما أقرب من نفعهما- وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن نفرا من الصحابة أمروا بالنفقة في سبيل الله تعالى أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها فنزلت،
وكان قبل ذلك ينفق الرجل ماله حتى ما يجد ما يتصدق، ولا ما يأكل حتى يتصدق عليه،
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبان عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فأنزل الله تعالى هذه الآية،
وهي معطوفة على يَسْئَلُونَكَ قبلها عطف القصة على القصة، وقيل: نزلت في عمرو بن الجموح كنظيرتها، وكأنه سئل أولا عن المنفق والمصرف ثم سئل عن كيفية الإنفاق بقرينة الجواب فالمعنى يسألونك عن صفة ما ينفقونه قُلِ الْعَفْوَ أي صفته أن يكون عفوا فكلمة «ما» للسؤال عن الوصف كما يقال ما زيد؟ فيقال كريم إلا أنه قليل في الاستعمال وأصل العفو نقيض الجهد، ولذا يقال- للأرض الممهدة السهلة الوطء- عفو، والمراد به ما لا يتبين في الأموال، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفضل من العيال، وعن الحسن ما لا يجهد،
أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول
وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خير الصدقة ما أبقت غني واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول تقول المرأة أنفق عليّ أو طلقني، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني، ويقول ولدك إلى من تكلني»

وأخرج ابن سعد عن جابر قال: قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب فقال: «يا رسول الله
509
أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته فقال: يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول».
وقرأ أبو عمرو بالرفع بتقدير المبتدأ على أن ماذا يُنْفِقُونَ مبتدأ وخبر، والباقون بالنصب بتقدير الفعل، وماذا مفعول يُنْفِقُونَ ليطابق الجواب السؤال كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد لأنه أبقى للمال وأكثر نفعا في الآخرة فالمشار إليه ما يفهم من قوله سبحانه: قُلِ الْعَفْوَ وإيراد صيغة البعيد مع قربه لكونه معنى متقدم الذكر، ويجوز أن يكون المشار إليه جميع ما ذكر من قوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ إذ لا مخصص مع كون التعميم أفيد والقرب إنما يرجح القريب على ما سواه فقط وجعل المشار إليه قوله عز شأنه: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما على ما فيه لا يخفى بعده، والكاف في موضع النصب صفة لمحذوف، واللام في الْآياتِ للجنس أي يبين لكم الآيات المشتملة على الأحكام تبيينا مثل هذا التبيين إما بإنزالها واضحة الدلالة، أو بإزالة إجمالها بآية أخرى أو ببيان من قبل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وكان مقتضى الظاهر أن يقال- كذلكم- على طبق لَكُمُ لكنه وحد بتأويل نحو القبيلة، أو الجمع ما هو مفرد اللفظ جمع المعنى روما للتخفيف لكثرة لحوق علامة الخطاب باسم الإشارة، وقيل: إن الإفراد للإيذان بأن المراد به كل من يتلقى الكلام كما في قوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [البقرة: ٥٢] وفيه أنه يلزم تعدد الخطاب في كلام واحد من غير عطف وذا لا يجوز كما نص عليه الرضي لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي في الآيات فتستنبطوا الأحكام منها وتفهموا المصالح والمنافع المنوطة بها وبهذا التقدير حسن كون ترجي التفكر غاية لتبيين الآيات فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي في أمورهما فتأخذون بالأصلح منهما وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم أو يضركم أكثر مما ينفعكم، والجار بعد تقدير المضاف متعلق ب تَتَفَكَّرُونَ بعد تقييده بالأول، وقيل: يجوز أن يتعلق ب يُبَيِّنُ أي يبين لكم الآيات فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وقدم التفكر للاهتمام، وفيه أنه خلاف ظاهر النظم مع أن ترجي أصل التفكر ليس غاية لعموم التبيين فلا بد من عموم التفكر فيكون المراد- لعلكم تتفكرون في أمور الدنيا والآخرة- وفي التكرار ركاكة، وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا من الآيات أي يبينها لكم كائنة فيهما أي مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما ولا يخفى ما فيه، ومن الناس من لم يقدر- ليتفكرون- متعلقا وجعل المذكور متعلقا بها أي بين الله لكم الآيات لتتفكروا في الدنيا وزوالها والآخرة وبقائها فتعلموا فضل الآخرة على الدنيا وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقتادة والحسن.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى عطف على ما قبله من نظيره،
أخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال لما أنزل الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الإنعام: ١٥٢، الإسراء: ٣٤] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى [النساء: ١٠] الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت،
والمعنى- يسألونك عن القيام بأمر اليتامى، أو التصرف في أموالهم، أو عن أمرهم وكيف يكونون معهم- قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي مداخلتهم مداخلة يترتب عليها إصلاحهم أو إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من مجانبتهم، وفي الاحتمال الأول إقامة غاية الشيء مقامه وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ عطف على سابقه
510
والمقصود الحث على المخالطة المشروعة بالإصلاح مطلقا أي إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم أي في الدين وبذلك قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وأخرج عبد بن حميد عن المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته ويأكل من تمرتك وتأكل من تمرته، واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد بالمخالطة المصاهرة، وأيد بما نقله الزجاج كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشرة ويأكلون أموالهم فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا معه التزوج بهم فنزلت هذه الآية فأعلمهم سبحانه أن الإصلاح لهم خير الأشياء وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح جائزة وبأن فيه على هذا الوجه تأسيسا إذ المخالطة بالشركة فهمت مما قبل وبأن المصاهرة مخالطة مع اليتيم نفسه بخلاف ما عداها وبأن المناسبة حينئذ لقوله تعالى: فَإِخْوانُكُمْ ظاهرة لأنها المشروطة بالإسلام فإن اليتيم إذا كان مشركا يجب تحري الإصلاح في مخالطته فيما عدا المصاهرة وبأنه ينتظم على ذلك النهي الآتي بما قبله كأنه قيل: المخالطة المندوبة إنما هي في اليتامى الذين هم إخوانكم فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك، ولا يخفى أن ما نقله الزجاج أضعف من الزجاج إذ لم يثبت ذلك في أسباب النزول في كتاب يعول عليه، والزجاج وأمثاله ليسوا من فرسان هذا الشأن وبأن التأسيس لا ينافي الحث على المخالطة لما أن القوم تجنبوا عنها كل التجنب وأن إطلاق المخالطة أظهر من تخصيصها بخلط نفسه وأن المناسبة والانتظام حاصلان بدخول المصاهرة في مطلق المخالطة وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ في أمورهم بالمخالطة مِنَ الْمُصْلِحِ لها بها فيجازي كلّا حسب فعله أو نيته ففي الآية وعيد ووعدهم، وقدم المفسد اهتماما بإدخال الروع عليه وأل في الموضعين للعهد، وقيل: للاستغراق ويدخل المعهود دخولا أوليا، وكلمة مِنَ للفضل وضمن يعلم معنى يميز فلذا عداه بها وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي لضيق عليكم ولم يجوز لكم مخالطتهم، أو لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه- وأصل الإعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا، ويقال: عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر، وحذف مفعول المشيئة لدلالة الجواب عليه، وفي ذلك إشعار بكمال لطفه سبحانه ورحمته حيث لم يعلق مشيئته بما يشق علينا في اللفظ أيضا، وفي الجملة تذكير بإحسانه تعالى على أوصياء اليتامى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم حَكِيمٌ فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة التي هي أساس التكليف، وهذه الجملة تذييل وتأكيد لما تقدم من حكم النفي والإثبات- أي ولو شاء لأعنتكم لكونه غالبا- لكنه لم يشأ لكونه حكيما. وفي الآية- كما قال الكيا- دليل لمن جوز خلط مال الولي بمال اليتيم والتصرف فيه بالبيع والشراء ودفعه مضاربة إذا وافق الإصلاح، وفيها دلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من الاجتهاد وغلبة الظن وفيها دلالة على أنه لا بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر وكان في تركها مراعاة لتنمية المال ناسب ذلك النظر في حال اليتيم فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم. وفي النظر في أحوال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه فمن ترك ذلك وفعل هذا فقد جمع بين النفع لنفسه ولغيره وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ
روى الواحدي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث رجلا من غني يقال له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت: ويحك يا مرثد ألا تخلو فقال لها: إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا ولكن إن شئت تزوجتك فقالت: نعم فقال إذا رجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذنته في ذلك ثم تزوجتك فقالت له: أبي تتبرم؟ ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا
511
ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها فقال: يا رسول الله أيحل أن أتزوجها- وفي رواية- إنها تعجبني فنزلت»
وتعقب ذلك السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية وإنما هو سبب في نزول آية النور [٣] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وروى السدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره خبرها فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما هي يا عبد الله؟ فقال: هي يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله فقال يا عبد الله هي مؤمنة قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: أنكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينحكوهم رغبة في أنسابهم فأنزل الله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الآية»
وقرىء بفتح- التاء- وبضمها وهو المروي عن الأعمش أي لا تتزوجوهن أو لا تزوجوهن من المسلمين وحمل كثير من أهل العلم المشركات على ما عدا الكتابيات فيجوز نكاح الكتابيات عنده لقوله تعالى:
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: ١] وما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [البقرة: ١٠٥] والعطف يقتضي المغايرة وأخرج ابن حميد عن قتادة المراد بالمشركات مشركات العرب التي ليس لهن كتاب، وعن حماد قال: سألت إبراهيم عن تزويج اليهودية والنصرانية فقال: لا بأس به فقلت: أليس الله تعالى يقول: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ؟ فقال: إنما ذلك المجوسيات وأهل الأوثان، وذهب البعض إلى أنها تعم الكتابيات قيل: لأن من جحد نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام فقد أنكر معجزته وأضافها إلى غيره تعالى وهذا هو الشرك بعينه ولأن الشرك وقع في مقابلة الإيمان فيما بعد ولأنه تعالى أطلق الشرك على أهل الكتاب لقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] إلى قوله سبحانه: عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: ٣٠] وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال حرم الله تعالى المشركات على المسلمين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله تعالى، وإلى هذا ذهب الإمامية وبعض الزيدية، وجعلوا آية [المائدة: ٥] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ منسوخة بهذه الآية نسخ الخاص بالعام وتلك وإن تأخرت تلاوة مقدمة نزولا والإطباق على أن سورة المائدة لم ينسخ منها شيء ممنوع ففي الإتقان ومن [المائدة: ٢، ٩٧] قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ منسوخ بإباحة القتال فيه وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: ٤٢] منسوخ بقوله سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٩] وقوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة: ١٠٦] منسوخ بقوله عز شأنه: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: ٢] والمشهور الذي عليه العمل أن هذه الآية قد نسخت بما في المائدة على ما يقتضيه الظاهر، فقد أخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ نسخ من ذلك نكاح نساء أهل الكتاب أحلهم للمسلمين وحرم المسلمات على رجالهم، وعن الحسن ومجاهد مثل ذلك وهو الذي ذهب إليه الحنفية والشافعية يقولون بالتخصيص دون النسخ، ومبنى الخلاف أن قصر العام بكلام مستقل تخصيص عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ونسخ عندنا وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ تعليل للنهي وترغيب في مواصلة المؤمنات صدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار، وأصل أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض عنها هاء التأنيث ويدل على أن لامها واو رجوعها في الجمع كقوله:
512
أما الإماء فلا يدعونني ولدا إذا تداعى بنو الأموان بالعار
وظهورها في المصدر يقال: هي أمة بينة الأموة وأقرت له بالأموّة، وهل وزنها فعلة- بسكون العين أو فعلة- بفتحها. ؟ قولان اختار الأكثرون ثانيهما، وتجمع على آم وهو في الاستعمال دون إماء وأصله أأمو- بهمزتين- الأولى مفتوحة زائدة، والثانية ساكنة هي فاء الكلمة، فوقعت- الواو- طرفا مضموما ما قبلها في اسم معرب ولا نظير له فقلبت- ياء والضمة قبلها كسرة لتصح الياء- فصار الاسم من قبيل- غاز وقاض- ثم قلبت- الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد همزة أخرى مفتوحة- فصارا آم وإعرابه كقاض، والظاهر أن المراد- بالأمة- ما تقابل الثانية الحرة، وسبب النزول يؤيد ذلك لأنه العيب على من تزوج الأمة والترغيب في نكاح حرّة مشركة، ففي الآية تفضيل الأمة المؤمنة على المشركة مطلقا- ولو حرّة- ويعلم منه تفضيل الحرّة عليها بالطريق الأولى، ثم إنّ التفضيل يقتضي أنّ في الشركة خيرا، فإما أن يراد بالخير الانتفاع الدنيوي وهو مشترك بينهما، أو يكون على حد أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان:
٢٤] وقيل: المراد- بالأمة- المرأة حرّة كانت أو مملوكة فإن الناس كلهم عبيد الله تعالى وإماؤه، ولا تحمل على الرقيقة لأنه لا بدّ من تقدير الموصوف في مُشْرِكَةٍ فإن قدر «أمة» بقرينة السياق لم يفد خيرية الأمة المؤمنة على الحرة المشركة، وإن قدر حرّة أو امرأة كان خلاف الظاهر، والمذكور في سبب النزول التزوج- بالأمة- بعد عتقها.
و «الأمة» بعد العتق حرة ولا يطلق عليها «أمة» إلا باعتبار مجاز الكون والحق أن «الأمة» بمعنى- الرقيقة- كما هو المتبادر، وأن الموصوف المقدر ل مُشْرِكَةٍ عام- وكونه خلاف الظاهر- خلاف الظاهر.
وعلى تقدير التسليم هو مشترك الإلزام، ولعل ارتكاب ذلك آخرا أهون من ارتكابه أول وهلة إذ هو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء- وما في سبب النزول مؤيد لا دليل عليه- وقد قيل فيه: إنّ عبد الله نكح أمة- إن حقا وإن كذبا- فالمعنى وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ مع ما فيها من خساسة الرق وقلة الخطر خَيْرٌ مما اتصفت بالشرك مع ما لها من شرف الحرّية ورفعة الشأن وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها،
أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا تنكحوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهنّ أن تطغيهن، وانكحوهن على الدين فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل»
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك»
والواو للحال- ولو لمجرّد الفرض- مجرّدة عن معنى الشرط ولذا لا تحتاج إلى الجزاء والتقدير مفروضا إعجابها لكن بالحسن ونحوه، وقال الجرمي: الواو للعطف على مقدّر أي لم تعجبكم وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة، وقال الرضي: إنها اعتراضية تقع في وسط الكلام وآخره، وعلى التقادير إثبات الحكم في نقيض الشرط بطريق الأولى ليثبت في جميع التقادير، واستدل بعضهم بالآية على جواز نكاح «الأمة المؤمنة» مع وجود طول الحرّة، واعترضه الكيا بأنه ليس في الآية نكاح الإماء وإنما ذلك للتنفير عن نكاح الحرّة المشركة لأنّ العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح «الأمة» فقيل لهم: إذا نفرتم عن الأمة فالمشركة أولى- وفيه تأمّل- وفي البحر أن مفهوم الصفة يقتضي أن لا يجوز نكاح «الأمة» الكافرة كتابية أو غيرها وأمّا وطؤها بملك اليمين فيجوز مطلقا وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أي لا تزوجوا الكفار من المؤمنات سواء كان الكافر كتابيا أو غيره وسواء كانت- المؤمنة أمة- أو حرة، ف تَنْكِحُوا بضم التاء لا غير، ولا يمكن الفتح- وإلا لوجب- ولا ينكحن المشركين، واستدل بها على اعتبار الولي في النكاح مطلقا وهو خلاف مذهبنا، وفي دلالة الآية على ذلك خفاء لأن المراد النهي عن إيقاع هذا الفعل والتمكين
513
منه، وكل المسلمين أولياء في ذلك وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ مع ما فيه من ذل المملوكية.
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ مع ما ينسب إليه من عز المالكية وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بما فيه من دواعي الرغبة أُولئِكَ أي المذكورون من المشركين والمشركات يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي الكفر المؤدي إليها إما بالقول أو بالمحبة والمخالطة فلا تليق مناكحتهم، فإن قيل: كما أن الكفار يدعون المؤمنين إلى النار كذلك المؤمنون يدعونهم إلى الجنة بأحد الأمرين، أجيب بأن المقصود من الآية أن المؤمن يجب أن يكون حذرا عما يضره في الآخرة وأن لا يحوم حول حمى ذلك ويجتنب عما فيه الاحتمال مع أن النفس والشيطان يعاونان على ما يؤدّي إلى النار، وقد ألفت الطباع في الجاهلية ذلك- قاله بعض المحققين- والجملة إلخ معللة لخيرية المؤمنين والمؤمنات من المشركين والمشركات وَاللَّهُ يَدْعُوا بواسطة المؤمنين من يقاربهم إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ أي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم الْجَنَّةِ على الْمَغْفِرَةِ مع قولهم: التخلية أولى بالتقديم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداء بِإِذْنِهِ متعلق ب يَدْعُوا أي يَدْعُوا إلى ذلك متلبسا بتوفيقه الذي من جملته إرشاد المؤمنين لمقاربيهم إلى الخير أحقاء بالمواصلة وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لكي يتعظوا أو يستحضروا معلوماتهم بناء على أنّ معرفة الله تعالى مركوزة في العقول، والجملة تذييل للنصح والإرشاد، والواو اعتراضية أو عاطفة، وفصلت الآية السابقة ب تَتَفَكَّرُونَ لأنها كانت لبيان الأحكام والمصالح والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين للمؤمنين فناسب التفكر، وهذه الآية ب يَتَذَكَّرُونَ لأنها تذييل للإخبار بالدعوة إلى الْجَنَّةِ والنَّارِ التي لا سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب التذكر.
ومن الناس من قدّر في الآية مضافا أي فريق الله أو أولياؤه وهم المؤمنون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تشريفا لهم، واعترض بأن الضمير في المعطوف على الخبر لله تعالى فيلزم التفكيك مع عدم الداعي لذلك، وأجيب بأن الداعي كون هذه الجملة معللة للخيرية السابقة ولا يظهر التعليل بدون التقدير، وكذا لا تظهر الملاءمة لقوله سبحانه: بِإِذْنِهِ بدون ذلك فإن تقييد دعوته تعالى بِإِذْنِهِ ليس فيه حينئذ كثير فائدة بأي تفسير فسر- الإذن- وأمر التفكيك سهل لأنه بعد إقامة المضاف إليه مقام المضاف للتشريف بجعل فعل الأول فعلا للثاني صورة فتتناسب الضمائر- كما في الكشف ولا يخفى ما فيه- وعلى العلات هو أولى مما قيل: إن المراد وَاللَّهُ يَدْعُوا على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ذلك فتجب إجابته بتزويج أوليائه لأنه وإن كان مستدعيا لاتحاد المرجع في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبرا، لكن يفوت التعليل وحسن المقابلة بينه وبين أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وكذا لطافة التقييد كما لا يخفى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أنس رضي الله تعالى عنهم «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله هذه الآية فقال صلّى الله عليه وسلّم: «جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح»
وعن السدي- إن الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح رضي الله تعالى عنه- والجملة معطوفة على ما تقدم من مثلها، ووجه مناسبتها له أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ورغب في مناكحة أهل الإيمان بين حكما عظيما من أحكام النكاح، وهو حكم النكاح في الحيض، ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوع الكل في وقت واحد عرفي، وهو وقت السؤال عن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فكأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عنهما والسؤال عن كذا وكذا وحكاية ما عداها بغير عطف لكونها كانت في أوقات متفرقة فكان كل واحد سؤالا مبتدأ ولم يقصد الجمع بينهما بل الإخبار
514
عن كل واحد على حدة، فلهذا لم يورد الواو بينها، وقال صاحب الانتصاف في بيان العطف والترك: إن أول المعطوفات عين الأول من المجردة، ولكن وقع جوابه أولا بالمصرف لأنه الأهم، وأن كان المسئول عنه إنما هو المنفق لا جهة مصرفه ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح بالمسئول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن المسئول عنه صريحا، وهو العفو الفاضل فتعين إذا عطفه ليرتبط بالأول، وأما السؤال الثاني من المقرونة فقد وقع عن أحوال اليتامى، وهل يجوز مخالطتهم في النفقة والسكنى فكان له مناسبة مع النفقة باعتبار أنهم إذا خالطوهم أنفقوا عليهم فلذا عطف على سؤال الإنفاق، وأما السؤال الثالث فلما كان مشتملا على اعتزال الحيض ناسب عطفه على ما قبله لما فيه من بيان ما كانوا يفعلونه من اعتزال اليتامى، وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة من الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة البتة إذ الأول منها عن النفقة والثاني عن القتال في الشَّهْرِ الْحَرامِ، والثالث عن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وبينها من التباين، والتقاطع ما لا يخفى فذكرت كذلك مرسلة متقاطعة غير مربوطة بعضها ببعض، وهذا من بدائع البيان الذي لا تجده إلا في الكتاب العزيز اهـ.
ولا أرى القلب يطمئن به كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكرناه فتدبر، والمحيض كما قال الزجاج:
وعليه الكثير مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا فهو كالمجيء والمبيت وأصله السيلان يقال: حاض السيل وفاض قال الأزهري: ومنه قيل: للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء لأنهما من جنس واحد، وقيل: إنه هنا اسم مكان، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكى الواحدي عن ابن السكيت أنه إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة نحو كال يكيل، وحاض يحيض فاسم المكان منه مكسور، والمصدر منه مفتوح، وحكى غيره عن غيره التخيير في مثله بل قيل: إن الكسر والفتح جائزان في اسم الزمان والمكان والمصدر وعلى ما نسب للترجمان، واختاره الإمام يحتاج إلى الحذف في قوله تعالى: قُلْ هُوَ أَذىً أي موضع أذى وكذا يحتاج إلى اعتبار الزمان في قوله سبحانه: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ لركاكة قولنا فَاعْتَزِلُوا في موضع الحيض، وإن اختاره الإمام وقال: إن المعنى- اعتزلوا مواضع الحيض، والأذى- مصدر من- أذا يؤذيه أذا وإذاء، ولا يقال في المشهور إيذاء وحمله على المحيض للمبالغة، والمعنى المقصود منه المستقذر وبه فسره قتادة، واستعمل فيه بطريق الكناية، والمراد من اعتزال النساء اجتناب مجامعتهن كما يفهمه آخر الآية، وإنما أسند الفعل إلى الذات للمبالغة كما في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: ٢٣] ووضع الظاهر موضع المضمر لكمال العناية بشأنه بحيث لا يتوهم غيره أصلا، وقد يقال لا وضع، وحديث الإعادة أغلبي بل يعتبر ما أشرنا إلى اعتباره فيما أشرنا إلى عدم اعتباره لضعف النسبة، وقوة الداعي إلى التقدير وعدمه أولى، وإنما وصف بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء ولم يكتف في الجواب بالأمر للإشعار بأنه العلة والحكم المعلل أوقع في النفس.
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تقرير للحكم السابق لأن الأمر بالاعتزال يلزمه النهي عن القربان وبالعكس فيكون كل منهما مقررا وإن تغايرا بالمفهوم فلذا عطف أحدهما على الآخر وفيه بيان لغايته فإن تقييد الاعتزال بقوله سبحانه وتعالى: فِي الْمَحِيضِ وترتبه على كونه أذى يفيد تخصيص الحرمة بذلك الوقت، ويفهم منه عقلا انقطاعها بعده، ولا يدل عليه اللفظ صريحا بخلاف حَتَّى يَطْهُرْنَ والغاية انقطاع الدم عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فإن كان الانقطاع لأكثر مدة الحيض حل القربان بمجرد الانقطاع، وإن كان لأقل منها لم يحل إلا باغتسال أو ما هو في حكمه من مضي وقت صلاة، وعند الشافعية هي الاغتسال بعد الانقطاع قالوا: ويدل عليه صريحا قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن عياش «يطهرن» بالتشديد أي «يتطهرن» والمراد به يغتسلن لا لأن الاغتسال
515
معنى حقيقي للتطهير كما يوهمه بعض عباراتهم- لأن استعماله فيما عدا الاغتسال شائع في الكلام المجيد والأحاديث على ما لا يخفى على المتتبع- بل لأن صيغة المبالغة يستفاد منها الطهارة الكاملة، والطهارة الكاملة للنساء عن المحيض هو الاغتسال فلما دلت قراءة التشديد على أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال والأصل في القراءات التوافق حملت قراءة التخفيف عليها بل قد يدعى أن الطهر يدل على الاغتسال أيضا بحسب اللغة ففي القاموس طهرت المرأة انقطع دمها واغتسلت من الحيض كتطهرت، وأيضا قوله تعالى:
فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ يدل التزاما على أن الغاية هي الاغتسال لأنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل فهو يقوي كون المراد بقراءة التخفيف الغسل لا الانقطاع وربما يكون قرينة على التجوز في الطهر بحمله على الاغتسال إن لم يسلم ما تقدم وعلى فرض عدم تسليم هذا وذاك والرجوع إلى القول بأن قراءة التخفيف من الطهر وهو حقيقة في انقطاع الدم لا غير ولا تجوز ولا قرينة، وقراءة التشديد من التطهر، ويستفاد منه الاغتسال يقال أيضا في وجه الجمع كما في الكشف: إن القراءة بالتشديد لبيان الغاية الكاملة وبالتخفيف لبيان الناقصة، وحتى في الأفعال نظير إلى في أنه لا يقتضي دخول ما بعدها فتكون الكاملة البتة، وبيانه أن الغاية الكاملة ما يكون غاية بجميع أجزائه وهي الخارجة عن المغيا، والناقصة ما تكون غاية باعتبار آخرها وحتى الداخلة على الأسماء تقتضي دخول ما بعدها لولا الغاية والداخلة على الأفعال مثل إلى لا تقتضي كون ما بعدها جزءا لما قبلها فانقطاع الدم غاية للحرمة باعتبار آخره فيكون وقت الانقطاع داخلا فيها والاغتسال غاية لها باعتبار أوله فلا تعارض بين القراءتين، ولعل فائدة بيان الغايتين بيان مراتب حرمة القربان فإنها أشد قبل الانقطاع مما بعده، ولما رأى ساداتنا الحنفية أن هاهنا قراءتين التخفيف والتشديد وأن مؤدى الأولى انتهاء الحرمة العارضة على الحل بانقطاع الدم مطلقا فإذا انتهت الحرمة العارضة حلت بالضرورة وأن مؤدى الثانية عدم انتهائها عنده بل بعد الاغتسال، ورأوا أن الطهر إذا نسب إلى المرأة لا يدل على الاغتسال لغة بل معناه فيها انقطاع الدم وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد، وفي تاج البيهقي طهرت خلاف طمثت، وفي شمس العلوم امرأة طاهر بغير- هاء- انقطع دمها وفي الأساس امرأة طاهر ونساء طواهر طهرن من الحيض، ولا يعارض ذلك ما في القاموس لجواز أن يكون بيانا للاستعمال ولو مجازا على ما هو طريقته في كثير من الألفاظ وأن الحمل على الاغتسال مجازا من غير قرينة معينة له مما لا يصح واعتبار فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ قرينة بناء على ما ذكروا ليس بشيء وما ذكروه في وجه الدلالة من الاقتضاء فيه بحث لأن- الفاء- الداخلة على الجملة التي لا تصلح أن تكون شرطا كالجملة الإنشائية لمجرد الربط كما نص عليه ابن هشام في المغني ومثل له بقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: ٣١] ولو سلم فاللازم تأخر جواز الإتيان عن الغسل في الجملة لا مطلقا حتى يكون قرينة على أن المراد بقراءة التخفيف أيضا الغسل وأن القول بأن إحدى الغايتين داخلة في الحكم والأخرى خارجة خلاف المتبادر احتاجوا للجمع بجعل كل منهما آية مستقلة فحملوا الأولى على الانقطاع بأكثر المدة، والثانية لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض كما حمل إبراهيم النخعي قراءة النصب والجرّ في أرجلكم على حالة التخفيف وعدمه وهو المناسب لأن في توقف قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضا حكما وهو مناف لحكم الشرع لوجوب الصلاة عليها المستلزم لإنزاله إياها ظاهرا حكما بخلاف تمام العدة فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر بل يجوز الحيض بعده، ولذا لو زادت ولم يجاوز العشرة كان الكل حيضا بالاتفاق بقي أن مقتضى الثانية ثبوت الحرمة قبل الغسل فرفع الحرمة قبله بمضي أول وقت الصلاة أعني أدناه الواقع آخرا، واعتبار الغسل حكما على ما قالوا معارضة النص بالمعنى، والجواب أن القراءة الثانية خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف فجاز أن يخص ثانيا
516
بالمعنى كما قاله بعض المحققين ولا يخفى ما في مذهب الإمام من التيسير والاحتياط لا يخفى، وحكي عن الأوزاعي أن حل الإتيان موقوف على التطهر وفسره بغسل موضع الحيض وقد يقال لتنقية المحل تطهير،
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن امرأة سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن غسلها من المحيض فأمرها قبل أن تغتسل قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها قالت: كيف؟
قال: سبحان الله تطهري بها فاجتذبتها فقلت: تتبعي بها أثر الدم»

وذهب طاوس ومجاهد في رواية عنه أن غسل الموضع مع الوضوء كاف في حل الإتيان- وإليه ذهب الإمامية- ولا يخفى أنه ليس شيء من ذلك طهارة كاملة للنساء وإنما هي طهارة كاملة لأعضائهن وهو خلاف المتبادر في الآية وإنما المتبادر هو الأول وما في الحديث وإن كان أمرا بالتطهر لتلك المرأة لكن المراد بذلك المبالغة في تطهير الموضع إلا أنه لأمر ما لم يصرح به صلى الله تعالى عليه وسلم وإطلاق التطهير على تنقية المحل مما لا ننكره وإنما ننكر إطلاق يطهرن على من طهرن مواضع حيضهن ودون إثباته حيض الرجال. واستدل بالآية على أنه لا يحرم الاستمتاع بالحائض بما بين السرة والركبة وإنما يحرم الوطء، وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها فيما أخرجه ابن جرير ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع وذهب جماعة إلى حرمة الاستمتاع بما بين السرة والركبة استدلالا بما
أخرجه مالك عن زيد بن أسلم «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ماذا يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم: لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها»
وكأنه من باب سد الذرائع في الجملة، ولهذا ورد فيما أخرجه الإمام أحمد والتعفف عن ذلك أفضل والأمر في الآية للإباحة على حد إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: ٢] ففيها إباحة الإتيان لكنه مقيد بقوله سبحانه:
مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي من المكان الذي أمركم الله تعالى بتجنبه لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوا غيره قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع، وقال الزجاج: معناه من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ولا تقربوهن من حيث لا يحل كما إذا كن صائمات أو محرمات أو معتكفات وأيد بأنه لو أراد الفرج لكانت- في- أظهر فيه من- من- لأن الإتيان بمعنى الجماع يتعدى بها غالبا لا بمن، ولعله في حيز المنع عند أهل القول الأول إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض الذنوب
كالإتيان في الحيض المورث للجذام في الولد كما ورد في الخبر،
والمستدعي عقاب الله تعالى
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم،
وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما
أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصبت امرأتي وهي حائض فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعتق نسمة»

وقيمة النسمة حينئذ دينار، وهذا إذا كان الإتيان في أول الحيض والدم أحمر أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار كمجامعة الحائض والإتيان لا من حيث أمر الله تعالى وحمل التطهر على التنزه هو الذي تقتضيه البلاغة وهو مجاز على ما في الأساس وشمس العلوم، وعن عطاء حمله على التطهر بالماء والجملتان تذييل مستقل لما تقدم نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال: «كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد أحول فنزلت» والحرث إلقاء البذر في الأرض وهو غير الزرع لأنه إنباته يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: ٦٣، ٦٤] وقال الجوهري: الحرث الزرع والحارث الزارع وعلى كل تقدير هو خبر عما
517
قبله إما بحذف المضاف أي مواضع حرث، أو التجوز والتشبيه البليغ أي كمواضع ذلك وتشبيههن بتلك المواضع متفرع على تشبيه النطف بالبذور من حيث إن كلّا منهما مادة لما يحصل منه ولا يحسن بدونه فهو تشبيه يكنى به عن تشبيه آخر فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي ما هو كالحرث ففيه استعارة تصريحية ويحتمل أن يبقى الحرث على حقيقته والكلام تمثيل شبه حال إتيانهم النساء في المأتي بحال إتيانهم المحارث في عدم الاختصاص بجهة دون جهة ثم أطلق لفظ المشبه به على المشبه، والأول أظهر وأوفق لتفريع حكم الإتيان على تشبيههن بالحرث تشبيها بليغا، وهذه الجملة مبينة لقوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ لما فيه من الإجمال من حيث المتعلق، والفاء جزائية وما قبلها علة لما بعدها، وقدم عليه اهتماما بشأن العلة وليحصل الحكم معللا فيكون أوقع، ويحتمل أن يكون المجموع كالبيان لما تقدم، والفاء للعطف وعطف الإنشاء على الأخبار جائز بعاطف سوى الواو أَنَّى شِئْتُمْ قال قتادة والربيع من أين شِئْتُمْ وقال مجاهد: كيف شئتم، وقال الضحاك: متى شئتم، ومجيء أَنَّى بمعنى- أين- وكيف ومتى مما أثبته الجم الغفير، وتلزمها على الأول- من- ظاهرة أو مقدرة، وهي شرطية حذف جوابها لدلالة الجملة السابقة عليه.
واختار بعض المحققين كونها هنا بمعنى من أين أي من أي جهة ليدخل فيه بيان النزول، والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلا على جواز الإتيان من الإدبار ناشىء من عدم التدبر في أن- من- لازمة إذ ذاك فيصير المعنى من أي مكان لا في أي مكان فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الإتيان فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها كابن عمر، والأخبار عنه في ذلك صحيحة مشهورة، والروايات عنه بخلافها على خلافها، وكابن أبي مليكة وعبد الله بن القاسم حتى قال فيما أخرجه الطحاوي عنه: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال، وكمالك بن أنس حتى أخرج الخطيب عن أبي سليمان الجوزجاني أنه سأله عن ذلك فقال له: الساعة غسلت رأس ذكري منه، وكبعض الإمامية لا كلهم كما يظنه بعض الناس ممن لا خبرة له بمذهبهم، وكسحنون من المالكية، والباقي من أصحاب مالك ينكرون رواية الحل عنه ولا يقولون به، ويا ليت شعري كيف يستدل بالآية على الجواز مع ما ذكرناه فيها ومع قيام الاحتمال كيف ينتهض الاستدلال لا سيما وقد تقدم قبل وجوب الاعتزال في المحيض وعلل بأنه أذى مستقذر تنفر الطباع السليمة عنه، وهو يقتضي وجوب الاعتزال عن الإتيان في الأدبار لاشتراك العلة ولا يقاس ما في المحاش من الفضلة بدم الاستحاضة ومن قاس فقد أخطأت استه الحفرة لظهور الاستقذار. والنفرة مما في المحاش دون دم الاستحاضة، وهو دم انفجار العرق كدم الجرح وعلى فرض تسليم أن أَنَّى تدل على تعميم مواضع الإتيان كما هو الشائع يجاب بأن التقييد بمواضع الحرث يدفع ذلك فقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض قال: بلى فقرأ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ إلى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي فقال:
كيف بالآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ؟ فقال: ويحك، وفي الدبر من حرث لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخا إذا شغل من هاهنا جئت من هاهنا ولكن أنى شئتم من الليل والنهار، وما قيل من أنه لو كان في الآية تعين الفرج لكونه موضع الحرث للزم تحريم الوطء بين الساقين وفي الاعكان لأنها ليست موضع حرث كالمحاش مدفوع بأن الإمناء فيما عدا الضمامين لا يعد في العرف جماعا ووطئا والله تعالى قد حرم الوطء والجماع في غير موضع الحرث لا الاستمناء فحرمة الاستمناء بين الساقين وفي الاعكان لم تعلم من الآية إلا أن يعد ذلك إيتاء وجماعا وأنى به، ولا أظنك في مرية من هذا وبه يعلم ما في مناظرة الإمام الشافعي، والإمام محمد بن الحسن، فقد أخرج الحاكم عن عبد الحكم أن الشافعي ناظر محمدا في هذه المسألة فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون
518
في الفرج فقال له أفيكون ما سوى الفرج محرما فألتزمه؟ فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها أو في ذلك حرث؟ قال: لا قال: أفيحرم؟ قال: لا قال: فكيف تحتج بما لا تقول به، وكأنه من هنا قال الشافعي فيما حكاه عنه الطحاوي والحاكم والخطيب لما سئل عن ذلك: ما صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وهذا خلاف ما نعرف من مذهب الشافعي فإن رواية التحريم عنه مشهورة فلعله كان يقول ذلك في القديم ورجع عنه في الجديد لما صح عنده من الأخبار أو ظهر له من الآية وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ما يصلح للتقديم من العمل الصالح ومنه التسمية عند الجماع وطلب الولد المؤمن،
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا»
وصح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له»
وعن عطاء تخصيص المفعول بالتسمية. وعن مجاهد بالدعاء عند الجماع، وعن بعضهم بطلب الولد وعن آخرين بتزوج العفائف والتعميم أولى وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ بالبعث فيجازيكم بأعمالكم فتزودوا ما ينفعكم والضمير المجرور راجع إلى الله تعالى بحذف مضاف أو بدونه ورجوعه إلى ما قدمتم أو إلى الجزاء المفهوم منه بعيد والأوامر معطوفة على قوله تعالى:
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ وفائدتها الإرشاد العام بعد الإرشاد الخاص وكون الجملة السابقة مبينة لا يقتضي أن يكون المعطوف عليها كذلك وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الذين تلقوا ما خوطبوا به بالقبول والامتثال بما لا تحبط به عبارة من الكرامة والنعيم، وحمل بعضهم المؤمنين على الكاملين في الإيمان بناء على أن الخطابات السابقة كانت للمؤمنين مطلقا فلو كانت هذه البشارة لهم كان مقتضى الظاهر وبشرهم فلما وضع المظهر موضع المضمر علم أن المراد غير السابقين وهم المؤمنون الكاملون ولا يخفى أنه يجوز أن يكون العدول إلى الظاهر للدلالة على العلية ولكونه فاصلة فلا يتم ما ذكره والواو للعطف، وَبَشِّرِ عطف على قُلْ المذكور سابقا أو على «قل» مقدرة قبل قدموا وهي معطوفة على المذكورة «ومن باب الإشارة» يسألونك عن خمر الهوى وحب الدنيا وميسر احتيال النفس بواسطة قداحها التي هي حواسها العشرة المودعة في ربابة البدن لنيل شيء من جزور اللذات والشهوات قل فيهما إثم الحجاب والبعد عن الحضرة ومنافع للناس في باب المعاش وتحصيل اللذة النفسانية والفرح بالذهول عن المعايب والخطرات المشوشة والهموم المكدرة وإثمهما أكبر من نفعهما لأن فوات الوصال في حظائر الجمال لا يقابله شيء، ولا يقوم مقامه- وصال سعدى ولامى- ولفرق عند الأبرار بين السكر من المدير والسكر من المدار:
وأسكر القوم ورود كأس وكان سكرى من المدير
وهذا هو السكر الحلال لكنه فوق عالم التكليف ووراء هذا العالم الكثيف وهو سكر أرواح لا أشباح وسكر رضوان لا حميا دنان:
وما مل ساقيها ولا مل شارب عقار لحاظ كأسها يسكر اللبا
وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ وهو ما سوى الحق من الكونين كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ المنزلة من سماء الأرواح لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة وتقطعون بواديهما بأجنحة السير والسلوك إلى ملك الملوك وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ وهو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية «قل هو أذى» تنفر القلوب الصافية عنه فاعتزلوا بقلوبكم نساء النفوس في محيض غلبات الهوى حتى يطهرن ويفرغن من قضاء الحوائج الضرورية
519
فإذا تطهرن بماء الإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة فأتوهن من حيث أمركم الله أي عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها إن الله يحب التوابين عن أوصاف الوجود ويحب المتطهرين بنور المعرفة عن غبار الكائنات، أو يحب التوابين من سؤالاتهم ويحب المتطهرين من إراداتهم نساؤكم وهي النفوس التي غدت لباسا لكم وغدوتم لباسا لهن موضع حرثكم للآخرة فأتوا حرثكم متى شئتم الحراثة لمعادكم وقدموا لأنفسكم ما ينفعها ويكمل نشأتها واتقوا الله من النظر إلى ما سواه واعلموا أنكم ملاقوه بالفناء فيه إذا اتقيتم وبشر المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح ابن خالته وكان من الفقراء المهاجرين لما وقع في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه أبدا ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته بعد أن كان قد طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها، والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة وهي هنا من عرض الشيء من باب نصر أو ضرب جعله معترضا أو من عرضه للبيع عرضا من باب ضرب إذا قدمه لذلك، ونصبه له والمعنى على الأول لا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه وتركتموه من أنواع الخير فيكون المراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها وعبر عنها بالأيمان لتعلقها بها أو لأن اليمين بمعنى الحلف تقول حلفت يمينا كما تقول حلفت حلفا فسمي المفعول بالمصدر كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم وغيره: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير»،
وقيل: على في الحديث زائدة لتضمن معنى الاستعلاء وقوله تعالى أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ عطف بيان لأيمانكم وهو في غير الأعلام كثير وفيها أكثر، وقيل: بدل وضعف بأن المبدل منه لا يكون مقصودا بالنسبة بل تمهيد وتوطئة للبدل وهاهنا ليس كذلك واللام صلة عرضة، وفيها معنى الاعتراض أو بتجعلوا والأول أولى وإن كان المال واحدا، وجوز أن تكون الأيمان على حقيقتها واللام للتعليل وأن تبروا في تقدير لأن ويكون صلة للفعل أو لعرضة، والمعنى لا تجعلوا الله تعالى:
حاجزا لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والإصلاح، وعلى الثاني ولا تجعلوا الله نصبا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل لأن في ذلك نوع جرأة على الله تعالى وهو التفسير المأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وبه قال الجبائي وأبو مسلم وروته الإمامية عن الأئمة الطاهرين، ويكون أن تبروا علة للنهي على معنى أنهيكم عنه طلب بركم وتقواكم وإصلاحكم إذ الحلاف مجترئ على الله تعالى والمجترئ عليه بمعزل عن الاتصاف بتلك الصفات ويؤول إلى لا تكثروا الحلف بالله تعالى لتكونوا بارين متقين ويعتمد عليكم الناس فتصلحوا بينهم، وتقدير الطلب ونحوه لازم إن كان أَنْ تَبَرُّوا في موضع النصب ليتحقق شرط حذف اللام وهو المقارنة لأن المقارنة للنهي ليس هو البر والتقوى والإصلاح بل طلبها وإن كان في موضع الجر بناء على أن حذف حرف الجر من أن وإن قياسي فليس بلازم وإنما قدروه لتوضيح المعنى والمراد به طلب الله تعالى لا طلب العبد، وإن أريد ذلك كان علة للكف المستفاد من النهي كأنه قيل: كفوا أنفسكم من جعله سبحانه عرضة وطلب العبد صالح للكف وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم وأيمانكم عَلِيمٌ بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما كلفتموه، ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمرهم بالتقوى نهاهم عن ابتذال اسمه المنافي لها أو نهاهم عن أن يكون اسمه العظيم حاجزا لها ومانعا منها لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ما سبق له اللسان، وما في حكمه مما لم يقصد منه اليمين كقول العرب لا والله لا بالله لمجرد التأكيد، وهو المروي عن عائشة وابن عمر وغيرهما في أكثر الروايات، والمعنى لا يؤاخذكم أصلا بما لا قصد لكم فيه من الأيمان.
520
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم، ولا يعارض هذه الآية ما في المائدة [٨٩] من قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ إلخ بناء على أن مقتضى هذه المؤاخذة بالغموس لأنها من كسب القلب وتلك تقتضي عدمها لأن اللغو فيها خلاف المعقودة، وهي ما يحلف فيها على أمر في المستقبل أن يفعل ولا يفعل لوقوعه في مقابلة قوله سبحانه: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فيتناول الغموس وهو الحلف على أمر ماض متعمد الكذب فيه ولغويته لعدم تحقق البر فيه الذي هو فائدة اليمين الشرعية لأن الشافعي حمل بما عقدتم على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه، ولم يعكس لأن العقد مجمل يحتمل عقد القلب، ويحتمل ربط الشيء بالشيء، والكسب مفسر، ومن القواعد حمل المجمل على المفسر، وإذا حمل عليه شمل الغموس، وكان اللغو ما لا قصد فيه لا خلاف المعقودة إذ لا معقودة فتتحد الآيتان في المؤاخذة على الغموس وعدم المؤاخذة على اللغو إلا أنه إن كان للفعل المنفي عموم كان في الآيتين نفي المؤاخذة فيما لا قصد فيه بالعقوبة، والكفارة وإثبات المؤاخذة في الجملة بهما أو بأحداهما فيما فيه قصد، وإن لم يكن له عموم حمل المؤاخذة المطلقة في هذه الآية على المؤاخذة المقيدة بالكفار في آية المائدة بناء على اتحاد الحادثة والحكم وسوق الآية لبيان الكفارة فلا تكرار، وأيد العموم بما
أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه صلى الله تعالى عليه وسلم «مر بقوم ينتصلون ومعه بعض أصحابه فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله أخطأت والله، فقال الذي معه: حنث الرجل يا رسول الله فقال كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة»
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللغو هنا ما لا قصد فيه إلى الكذب بأن لا يكون فيه قصد أو يكون بظن الصدق، وحمل المؤاخذة على الأخروية بناء على أن دار المؤاخذة هي الآخرة وأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقرنت هذه المؤاخذة بالكسب إذ لا عبرة للقصد وعدمه في وجوب الكفارات التي هي مؤاخذات دنيوية، لا شك أنه بمجرد اليمين بدون الحنث لا تتحقق المؤاخذة الأخروية في المعقودة فلا يمكن إجراء ما كسبت على عمومه فلا بد من تخصيصه بالغموس فيتحصل من هذه الآية المؤاخذة الأخروية في الغموس دون الدنيوية التي هي الكفارة، وفيه خلاف الشافعي وعدم المؤاخذة الأخروية فيما عداها مما فيه قصد بظن الصدق، ومما لا قصد فيه أصلا- وفيه وفاق الشافعي- وحمل المؤاخذة في آية المائدة على الدنيوية بقرينة قوله سبحانه فيها: فَكَفَّارَتُهُ إلخ، وقوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ على المعقودة لأن المتبادر من- العقد- ربط الشيء بالشيء وهو ظاهر في «المعقودة» فالمراد بِاللَّغْوِ وفي تلك الآية ما عداها من الغموس وغيره فيتحصل منها عدم المؤاخذة الدنيوية- بالكفارة- على غير المعقودة، وهي الغموس والمؤاخذة عليه في الآخرة- كما علم من آية البقرة- والحلف بلا قصد أو به مع ظن الصدق لغير المؤاخذة عليهما في الآخرة كما علم منها أيضا، والمؤاخذة الدنيوية على المعقودة التي لم يعلم حكمها في الآخرة من الآيتين لظهوره من ترتب المؤاخذة الدنيوية عليه- فلا تدافع بين الآيتين عنده أيضا- لأن مقتضى الأولى تحقق المؤاخذة الأخروية في الغموس، ومقتضى الثانية عدم المؤاخذة الدنيوية فيه، ومن هذا يعلم أن ما في- الهداية- وشاع في كتب الأصحاب عن الإمام حيث قال: إن الأيمان على ثلاثة أضرب: يمين الغموس ويمين منعقدة ويمين لغو وبين حكم كل وفسر الأخير بأن يحلف على ماض وهو يظن- كما قال- والأمر بخلافه، وثبت في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وغيره- ليس بشيء- لو كان المقصود بما في التفسير «الحصر» لا التمثيل للغو لأن اللائق بالنظم أن يكون بِما كَسَبَتْ مقابلا للغو من غير واسطة بينهما، وبقصد «الحصر» يبقى اليمين الذي لا قصد معه واسطة بينهما غير معلوم الاسم ولا الرسم، وهو مما لا يكاد يكون كما لا يخفى على المنصف فليتدبر فإنه مما فات كثيرا من
521
الناس. وذهب مسروق إلى أن «اللغو» هو الحلف على المعاصي وبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة وروي عن ابن عباس وطاوس أنه اليمين في حال الغضب فلا كفارة فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله تعالى عليك بأن تقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا مثلا- وبهذا أخذ مالك إلا في الزوجة- وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: هو كقول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، وكقوله: هو مشرك، هو كافر إن لم يفعل كذا، فلا يؤاخذ به حتى يكون من قلبه، وقيل:
لغو اليمين يمين المكره- حكاه ابن الفرس ولم ير مسندا- هذا ولم يعطف قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ الآية على ما قبله لاختلافها خبرا وإنشاء، وإن كانا متشاركين في كون كل منهما بيانا لحكم الأيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ حيث لم يؤاخذكم باللغو حَلِيمٌ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد والجملة تذييل للجملتين السابقتين، وفائدته الامتنان على المؤمنين وشمول الإحسان لهم و «الحليم» من حلم بالضم يحلم إذا أمهل بتأخير العقاب، وأصل «الحلم» لأناة، وأما حلم الأديم- فبالكسر يحلم بالفتح- إذا فسد، وأما حلم أي رأى في نومه- فبالفتح- ومصدر الأول- الحلم- بالكسر ومصدر الثاني- الحلم- بفتح اللام ومصدر الثالث- الحلم- بضم الحاء مع ضم اللام وسكونها لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ الإيلاء- كما قال الراغب- الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر الذي يحلف فيه من قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران: ١١٨] أي باطلا وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور:
٢٢] وصار في الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة، ف يُؤْلُونَ أي يحلفون، ومِنْ نِسائِهِمْ على حذف المضاف، أو من إقامة العين مقام الفعل المقصود منه للمبالغة، وعدي القسم على المجامعة ب مِنْ لتضمنه معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون مِنْ نِسائِهِمْ مولين، وقيل: إن هذا الفعل يتعدى ب «من» وعلى، ونقل أبو البقاء عن بعضهم من أهل اللغة تعديته ب مِنْ وقيل: بها بمعنى على، وقيل: بمعنى في، وقيل: زائدة، وجوّز جعل الجار ظرفا مستقرا، أي استقرّ لهم مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وقرأ «ألوا من نسائهم» وفي مصحف أبيّ «للذين يقسمون» وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- والتربص- الانتظار والتوقف وأضيف إلى الظرف على الاتساع- وإجراء المفعول فيه مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية وهو مبتدأ ما قبله خبره أو فاعل للظرف- على ما ذهب إليه الأخفش من جواز عمله وإن لم يعتمد- والجملة- على التقديرين- بمنزلة الاستثناء من قوله سبحانه وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ فإن- الإيلاء- لكون أحد الأمرين لازما له الكفارة على تقدير الحنث من غير إثم، والطلاق على تقدير البر مخالف لسائر الأيمان المكتوبة حيث يتعين فيها- المؤاخذة- بهما أو بأحدهما عند الشافعي- والمؤاخذة- الأخروية عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، فكأنه قيل: إلا الإيلاء فإنّ حكمه غير ما ذكر، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى- أنّ للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر- بين حكمه بقوله تعالى جل شأنه: فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا في المدّة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لما حدث منهم من اليمين على الظالم وعقد القلب على ذلك الحنث، أو بسبب الفيئة والكفارة، ويؤيده قراءة ابن مسعود فَإِنْ فاؤُ فيهن وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي صمموا قصده بأن لم يفيئوا واستمرّوا على الإيلاء فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لإيلائهم الذي صار منهم طلاقا بائنا بمضي العدة عَلِيمٌ بغرضهم من هذا الإيلاء فيجازيهم على وفق نياتهم، وهذا ما حمل عليه الحنفية هذه الآية فإنهم قالوا: الإيلاء من المرأة أن يقول: والله لا أقربك أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فصاعدا على التقييد بالأشهر، أو لا أقربك على الإطلاق، ولا يكون فيما دون ذلك عند الأئمة الأربعة، وأكثر العلماء خلافا للظاهرية والنخعية وقتادة وحماد وابن أبي حماد وإسحاق حيث يصير عندهم موليا في قليل المدة وكثيرها، وحكمه إن فاء إليها في المدّة بالوطء إن أمكن، أو بالقول إن عجز عنه صح الفيء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين ولا كفارة على
522
ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ
العاجز، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة من غير مطالبة المرأة إيقاع الزوج أو الحكم، وقالت الشافعية: لا إيلاء إلا فى أكثر من «الأربعة أشهر» فلو قال: والله لا أقربك «الأربعة أشهر» لا يكون إيلاء شرعا عندهم ولا يترتب حكمه عليه بل هو يمين كسائر الأيمان، إن حنث كفر، وإن برّ فلا شيء عليه، وللمولي التلبث في هذه المدّة فلا يطالب بفيء ولا طلاق، فإن فاء في اليمين بالحنث فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ للمولي إثم حنثه إذا كفر كما في الجديد، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه بالفيئة التي هي كالتوبة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لطلاقه عَلِيمٌ بنيته، وإذا مضت المدّة ولم يفئ ولم يطلق طولب بأحد الأمرين، فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم وأريد كون مدته أكثر من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بأن- الفاء- في الآية للتعقيب فتدل على أن حكم الإيلاء من الفيئة والطلاق يترتب عليه بعد مضي أربعة أشهر، فلا يكون الإيلاء في هذه المدة إيلاء شرعا لانتفاء حكمه- وبذلك اعترضوا على الحنفية- واعترضوا عليهم أيضا بأنه لو لم يحتج إلى الطلاق بعد مضي المدّة لزم وقوع الطلاق من غير موقع، وإن النص يشير إلى أنه مسموع، فلو بانت من غير طلاق لا يكون هاهنا شيء مسموع، وأجيب عن الأول بأن- الفاء- للتعقيب في الذكر، وعن الثاني بأن المسموع ما يقارن ذلك الترك من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان عليهم بما استمرّوا عليه من الظلم أو الإيلاء الذي صار طلاقا بائنا بالمضي، وهذا أنسب بقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ حيث اكتفى بمجرّد العزم بخلاف ما قالته الشافعية من أنه يحتاج إلى الطلاق بعد مضي المدة فإنه يحتاج إلى التقدير، وبعده
لا يحتاج إلى عَزَمُوا أو يحتاج إلى جعل «عزم الطلاق» كناية عنه، فما قيل: من أن الآية بصريحها مع الشافعي ليس في محله، وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وكثير من الإمامية،
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرّم الله تعالى وجهه قال: الإيلاء إيلاءان إيلاء في الغضب، وإيلاء في الرضا، فأمّا الإيلاء في الغضب فإذا مضت أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فقد بانت منه، وأمّا ما كان في الرضا فلا يؤاخذ به.
وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رجل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: إني حلفت أن لا آتي امرأتي سنتين فقال: ما أراك إلا قد آليت، قال إنما حلفت من أجل أنها ترضع ولدي، قال فلا إذا.
وروي عن إبراهيم «ما أعلم الإيلاء إلا في الغضب لقوله سبحانه وتعالى فَإِنْ فاؤُ وإنما الفيء من الغضب» وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واستدل بعموم الآية على صحة الإيلاء من الكافر، وبأي يمين كان، ومن غير المدخول بها والصغيرة والخصي. وأن العبد تضرب له «الأربعة أشهر» كالحر، واستدل بتخصيص هذا الحكم بالمولي على أنّ من ترك الوطء «ضرارا» بلا يمين لا يلزمه شيء، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت وهي تعظ خالد بن سعيد المخزومي وقد بلغها أنه هجر امرأته: إياك يا خالد وطول الهجر، فإنك قد سمعت ما جعل الله تعالى للمولي من الأجل محمول على إرادة العطف والتحذير من التشبه بالإيلاء.
523
وَالْمُطَلَّقاتُ أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهنّ لما قد بين في الآيات والأخبار أن لا عدّة على غير المدخول بها وأن عدّة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل، وأن عدة الأمة قرءان أو شهران- فأل- ليست للاستغراق لأنه هاهنا متعذر لما بين، فتحمل على الجنس كما في- لا أتزوج النساء- ويراد منه ما ذكر بقرينة الحكم، وهذا مذهب ساداتنا الحنفية لأن الكلام المستقل الغير الموصول عندهم ناسخ للعام، والنسخ إنما يصح إذا ثبت عموم الحكم السابق- ولا عموم هاهنا- وقال الشافعية: إن الْمُطَلَّقاتُ عام وقد خص البعض بكلام
525
مستقل غير موصول، واعترضه الإمام بأنّ التخصيص إنما يحسن إذا كان الباقي تحت العام أكثر، وهاهنا ليس كذلك وليس بشيء لأنه مما لا شاهد له فإنّ المذكور في كتب الأصول أن العام يجوز تخصيصه إلى أن يبقى تحته ما يستحق به معنى الجمع لئلا يلزم إبطال الصيغة فليفهم.
يَتَرَبَّصْنَ أي ينتظرن، وهو خبر قصد منه الأمر على سبيل الكناية فلا يحتاج في وقوعه خبرا لمبتدأ إلى التأويل على رأي من لم يجوّز وقوع الإنشاء خبرا من غير تأويل، وقيل: إنّ الجملة الاسمية خبرية بمعنى الأمر، أي ليتربصن الْمُطَلَّقاتُ ولا يخفى أنه لا يحتاج إليه، وتغيير العبارة للتأكيد بدلالته على التحقيق لأن الأصل في الخبر الصدق والكذب احتمال عقلي، والإشعار بأنه مما يجب أن يسارع إلى امتثاله حيث أقيم اللفظ الدال على الوقوع مقام الدال على الطلب، وفي ذكره متأخرا عن المبتدأ فضل تأكيد لما فيه من إفادة التقوى على أحد الطريقين المنقولين عن الشيخ عبد القاهر والسكاكي وقيد- التربص- هنا بقوله سبحانه وتعالى: بِأَنْفُسِهِنَّ وتركه في قوله تعالى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لتحريض النساء على- التربص- لأن- الباء- للتعدية فيكون المأمور به أن يقمعن أنفسهن ويحملنها على الانتظار، وفيه إشعار بكونهنّ مائلات إلى الرجال وذلك مما يستنكفن منه، فإذا سمعن هذا تربصن وهذا بخلاف الآية السابقة فإن المأمور فيها- بالتربص- الأزواج وهم وإن كانوا طامحين إلى النساء لكن ليس لهم استنكاف منه، فذكر- الأنفس- فيها لا يفيد تحريضهم على التربص ثَلاثَةَ قُرُوءٍ نصب على الظرف لكونه عبارة عن المدّة، والمفعول به محذوف لأن- التربص- متعدّ قال تعالى: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ [التوبة: ٥٢] أي يتربصن التزوج، وفي حذفه إشعار بأنهنّ يتركن التزوّج في هذه المدّة بحيث لا يتلفظن به، وجوّز أن يكون على المفعولية بتقدير مضاف أي يَتَرَبَّصْنَ مضيها- والقروء- جمع قرء- بالفتح والضم- والأول أفصح وهو يطلق للحيض، لما
أخرج النسائي وأبو داود والدارقطني «أن فاطمة ابنة أبي حبيش قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا، دعي الصلاة أيام أقرائك»
ويطلق للطهر الفاصل بين الحيضتين كما في ظاهر قول الأعشى:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي أطهارهن لأنها وقت الاستمتاع ولا جماع في الحيض في الجاهلية أيضا وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض لاستلزامه كل واحد منهما، والدليل على ذلك كما قال الراغب: إن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء والحائض التي استمر لها الدم لا يقال لها ذلك أيضا، والمراد بالقرء في الآية عند الشافعي الانتقال من الطهر إلى الحيض في قول قوي له، أو الطهر المنتقل منه كما في المشهور وهو المروي عن عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وخلق كثير لا الحيض، واستدلوا على ذلك بمعقول ومنقول أما الأول فهو أن المقصود من العدة براءة الرحم من ماء الزوج السابق والمعرف لبراءة الرحم هو الانتقال إلى الحيض لأنه يدل على انفتاح فم الرحم فلا يكون فيه العلوق لأنه يوجب انسداد فم الرحم عادة دون الحيض فإن الانتقال من الحيض إلى الطهر يدل على انسداد فم الرحم وهو مظنة العلوق فإذا جاء بعده الحيض علم عدم انسداده. «وأما الثاني» فقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: ١] واللام للتأقيت والتخصيص بالوقت فيفيد أن مدخوله وقت لما قبله كما في قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: ٤٧] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: ٧٨] فيفيد أن العدة وقت الطلاق والطلاق في الحيض غير مشروع لما
أخرج الشيخان أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته وهي حائض فذكر عمر لرسول
526
الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ ثم قال: «مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء»
وهو أحد الأدلة أيضا على أن العدة بالاطهار، وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المراد بالقرء الحيض وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وجم غفير وكون الانتقال من الطهر إلى الحيض هو المعرف للبراءة إذا سلم معارض بأن سيلان الدم هو السبب للبراءة المقصودة ولا نسلم أن اعتبار المعرف أولى من اعتبار السبب وليس هذا من المكابرة في شيء على أن المهم في مثل هذه المباحث الأدلة النقلية، وفيما ذكروه منها بحث لأن لام التوقيت لا تقتضي أن يكون مدخولها ظرفا لما قبلها ففي الرضي أن اللام في نحو جئتك لغرة كذا هي المفيدة للاختصاص الذي هو أصلها، والاختصاص هاهنا على ثلاثة أضرب: أما أن يختص الفعل بالزمان بوقوعه فيه نحو كتبته لغرة كذا. أو يختص به لوقوعه بعده نحو لليلة خلت أو اختص به لوقوعه قبله نحو لليلة بقيت، فمع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه ومع قرينة نحو خلت يكون لوقوعه بعده ومع قرينة نحو بقيت لوقوعه قبله انتهى. وفيما نحن فيه قرينة تدل على كونه قبله لأن التطليق يكون قبل العدة لا مقارنا لها، ويؤيده قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قبل عدتهن ففي الصحاح القبل والقبل نقيض الدبر والدبر، ووقع السهم بقبل الهدف وبدبره- وقدّ قميصه من قبل ودبر- أي من مقدمه ومؤخره، ويقال: أنزل بقبل هذا الجبل- أي بسفحه- فمعنى في قبل عدتهنّ في مقدم عدتهنّ وأمامها- كما يقتضيه ظاهر الأمثلة- وما ذكره من أن قبل الشيء أوله يرجع إلى هذا أيضا، على تسليم عدم الرجوع يرجع المقدّم الأول بالتبادر وكثرة الاستعمال والتأييد يحصل بذلك المقدار، والحديث الذي أخرجه الشيخان مسلم لكن جعله دليلا على أن- العدّة- هي الأطهار غير مسلم لأنه موقوف على جعل الإشارة للحالة التي هي الطهر، ولا يقوم عليه دليل فإن- اللام- في
«يطلق لها النساء»
كاللام في لِعِدَّتِهِنَّ يجوز أن تكون بمعنى- في- وأن تكون بمعنى- قبل- فيجوز أن يكون المشار إليه الحيض، وأنث اسم الإشارة مراعاة للخبر كالضمير إذا وقع بين مرجع مذكر وخبر مؤنث فإنّ الأولى على ما عليه الأكثر مراعاة الخبر إذ ما مضى فات، والمعنى فتلك الحيض العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلق قبلها النساء- لا أن يطلق فيها النساء- كما فهمه ابن عمر وأوقع الطلاق فيه، وقول الخطابي: الأقراء التي تعتدّ بها المطلقة الاطهار لأنه ذكر فتلك العدّة بعد الطهر مجاب عنه بأن ذكره بعد الطهر لا يقتضي أن يكون مشارا إليه لجواز أن يكون ذكر الطهر للإشارة إلى أنّ الحيض المحفوف بالطهر يكون عدة، وحينئذ لا يحتاج ذكر الطهر الثاني إلى نكتة وهي أنه إذا راجعها في الطهر الأوّل بالجماع لم يكن طلاقها فيه للسنة فيحتاج للطهر الثاني ليصح فيه إيقاع الطلاق السني، وأن لا تكون الرجعة لغرض الطلاق فقط، وأن يكون كالتوبة عن المعصية باستبدال حاله، وأن يطول مقامه معها فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسها من سبب الطلاق فيمسكها هذا ما يرجع إلى الدفع، وأما الاستدلال على أن «القرء» الحيض فهو ما
أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني عن عائشة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان»
فصرح بأن عدة الأمة حيضتان، ومعلوم أن الفرق بين الحرّة والأمة باعتبار مقدار العدّة لا في جنسها فيلتحق قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ للإجمال الكائن بالاشتراك بيانا به وكونه لا يقاوم ما أخرجه الشيخان في قصة ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لضعفه لأن فيه مظاهرا ولم يعرف له سواه لا يخلو عن بحث، أما أولا فلما علمت أن ذلك الحديث ليس بنص في المدعى، وأما ثانيا فلأن تعليل تضعيف مظاهر غير ظاهر، فإن ابن عدي أخرج له حديثا آخر ووثقه ابن حبان، وقال الحاكم: ومظاهر شيخ من أهل البصرة ولم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح فإذا إن لم يكن الحديث صحيحا كان حسنا، ومما يصحح الحديث عمل العلماء على وفقه قال الترمذي عقيب روايته: حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
527
وغيرهم، وفي الدارقطني قال القاسم وسالم: وعمل به المسلمون، وقال مالك: شهرة الحديث تغني عن سنده كذا في الفتح، ومن أصحابنا من استدل بأنه لو كان المراد من القرء الطهر لزم إبطال موجب الخاص أعني لفظ ثلاثة فإنه حينئذ تكون العدة طهرين، وبعض الثالث في الطلاق المشهور ولا يخفى أنه كأمثاله في هذا المقام ناشىء من قلة التدبر فيما قاله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فلهذا اعترضوا به عليه لأنه إنما جعل القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، أو الطهر المنتقل منه لا الطهر الفاصل بين الدمين، والانتقال المذكور، أو الطهر المنتقل منه تام على أن كون الثلاثة اسما لعدد كامل غير مسلم، والتحقيق فيه أنه إذا شرع في الثالث ساغ الإطلاق ألا تراهم يقولون هو ابن ثلاث سنين وإن لم تكمل الثالثة، وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل، ومن الشافعية من جعل القرء اسما للحيض الذي يحتوشه دمان وجعل إطلاقه على بعض الطهر وكله كإطلاق الماء والعسل، قالوا والاشتقاق مرشد إلى معنى الضم والاجتماع، وهذا الطهر يحصل فيه اجتماع الدم في الرحم وبعضه وكله في الدلالة على ذلك على السواء- وأطالوا الكلام في ذلك- والإمامية وافقوهم فيه واستدلوا عليه برواياتهم عن الأئمة والرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه في هذا الباب مختلفة، وبالجملة كلام الشافعية في هذا المقام قوي كما لا يخفى على من أحاط بأطراف كلامهم واستقرأ ما قالوه وتأمل ما دفعوا به أدلة مخالفيهم وفي الكشف بعض الكشف وما في الكشاف غير شاف لبغيتنا وهذا المقدار يكفي أنموذجا.
هذا وكان القياس ذكر القرء بصيغة القلة التي هي الإقراء ولكنهم يتوسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ولعل النكتة المرجحة لاختياره هاهنا أن المراد بالمطلقات هاهنا جميع المطلقات ذوات الأقراء الحرائر وجميعها متجاوز فوق العشرة فهي مستعملة مقام جمع الكثرة ولكل واحدة منها ثلاثة أقراء فيحصل في الأقراء الكثرة فحسن أن يستعمل جمع الكثرة في تمييز الثلاثة تنبيها على ذلك وهذا كما استعمل أنفسهن مكان نفوسهن للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يقع على القلة وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال ابن عمر:
الحمل والحيض أي لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها ولا إن كانت حائضا أن تكتم حيضها فتقول وهي حائض: قد طهرت وكن يفعلن الأول لئلا ينتظر لأجل طلاقها أن تضع ولئلا يشفق الرجل على الولد فيترك تسريحها والثاني
استعجالا لمضي العدة وإبطالا لحق الرجعة وهذا القول هو المروي عن الصادق
والحسن ومجاهد وغيرهم والقول- بأن الحيض غير مخلوق في الرحم بل هو خارج عنه- فلا يصح حمل ما على عمومها بل يتعين حملها على الولد وهو المروي عن ابن عباس وقتادة مدفوع بأن ذات الدم وإن كان غير مخلوق في الرحم لكن الاتصاف بكونه حيضا إنما يحصل له فيه وما قيل: إن الكلام في المطلقات ذوات الأقراء فلا يحتمل خلق الولد في أرحامهن فيجب حمل ما على الحيض كما حكي عن عكرمة فمدفوع أيضا بأن تخصيص العام وتقييده بدليل خارجي لا يقتضي اعتبار ذلك التخصيص أو التقييد في الراجع، واستدل بالآية على أنّ قولهما يقبل فيما خلق الله تعالى في أرحامهن إذ لولا قبول ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهن، قال ابن الفرس: وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب. لأنّ كل ذلك مما خلق الله تعالى في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه، وفيه تأمل إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرط لقوله تعالى: لا يَحِلُّ لكن ليس الغرض منه التقييد حتى لو لم يؤمن كالكتابيات- حل لهنّ الكتمان- بل بيان منافاة الكتمان للإيمان وتهويل شأنه في قلوبهنّ، وهذه طريقة متعارفة يقال: إن كنت مؤمنا فلا تؤذ أباك، وقيل: إنه شرط جزاؤه محذوف- أي فلا يكتمن- وقوله سبحانه: لا يَحِلُّ علة له أقيم مقامه، وتقدير الكلام «إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن لأنه لا يحل لهن» وفيه «أن لا يكتمن
528
المقدّر» إن كان نهيا يلزم تعليل الشيء بنفسه، وإن كان نفيا يكون مفاد الكلام تعليق عدم وقوع الكتمان في المستقبل بأيمانهم في الزمان الماضي وهو كما ترى وَبُعُولَتُهُنَّ أي أزواج المطلقات جمع- بعل- كعم وعمومة، وفحل وفحولة- والهاء- زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، والأمثلة سماعية لا قياسية، لا يقال: كعب وكعوبة، قاله الزجاج «وفي القاموس» - البعل- الزوج، والأنثى- بعل وبعلة- والرب والسيد والمالك والنخلة التي لا تسقى أو تسقى بماء المطر «وقال الراغب» - البعل- النخل الشارب بعروقه، عبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وقيل:
باعلها جامعها، وبعل الرجل إذا دهش فأقام كأنه النخل الذي لا يبرح، ففي اختيار لفظ- البعولة- إشارة إلى أنّ أصل الرجعة بالمجامعة، وجوّز أن يكون- البعولة- مصدرا نعت به من قولك: بعل حسن البعولة- أي العشرة مع الزوجة- أو أقيم مقام المضاف المحذوف، أي وأهل بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ إلى النكاح والرجعة إليهن، وهذا إذا كان الطلاق رجعيا للآية بعدها، فالضمير- بعد اعتبار القيد- أخص من المرجوع إليه، ولا امتناع فيه كما إذا كرّر الظاهر، وقيل: بعولة المطلقات أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وخصص بالرجعي، وأَحَقُّ هاهنا بمعنى- حقيق- عبر عنه بصيغة التفضيل للمبالغة، كأنه قيل: للبعولة حق الرجعة، أي حق محبوب عند الله تعالى بخلاف الطلاق فإنه مبغوض، ولذا
ورد للتنفير عنه «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق»
وإنما لم يبق على معناه من المشاركة والزيادة إذ لا حق للزوجة في الرجعة كما لا يخفى. وقرأ أبيّ «بردّتهن» فِي ذلِكَ أي زمان- التربص- وهو متعلق ب أَحَقُّ أو بِرَدِّهِنَّ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً أي إن أراد البعولة بالرجعة إِصْلاحاً لما بينهم وبينهن، ولم يريدوا الإضرار بتطويل العدّة عليهنّ مثلا، وليس المراد من التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز للإجماع على جوازها مطلقا، بل المراد تحريضهم على قصد الإصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفي بانتفائه وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فيه صنعة الاحتباك، ولا يخفى لطفه فيما بين الزوج والزوجة حيث حذف في الأول بقرينة الثاني، وفي الثاني بقرينة الأول، كأنه قيل: ولهنّ عليهم مثل الذي لهم عليهنّ، والمراد- بالمماثلة- المماثلة في الوجوب- لا في جنس الفعل- فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال،
أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ألا إنّ لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأمّا حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهن»
وأخرج وكيع وجماعة عن أنس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي، لأن الله تعالى يقول: وَلَهُنَّ» الآية، وجعلوا مما يجب لهنّ عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها.
والمجرور الأخير متعلق بما تعلق به الخبر، وقيل: صفة ل مِثْلُ وهي لا تتعرف بالإضافة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ زيادة في الحق لأنّ حقوقهم في أنفسهن، فقد ورد أنّ النكاح كالرق أو شرف فضيلة لأنهم قوام عليهن وحرّاس لهن، يشاركوهنّ في غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش، ويخصون بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن- والدرجة- في الأصل- المرقاة- ويقال فيها: دَرَجَةٌ كهمزة «قال الراغب» الدرجة- نحو المنزلة لكن تقال إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط- كدرجة السطح والسلم- ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة، ومنه الآية فهي على التوجيهين مجاز «وفي الكشف» أن أصل التركيب لمعنى الأناة والتقارب على مهل من- درج الصبي إذا حبا- وكذلك الشيخ والمفيد لتقارب خطوهما- والدرجة- التي يرتقي عليها لأن الصعود ليس في السهولة كالانحدار والمشي على مستو، فلا بدّ من تدرّج- والدرج- المواضع التي يمر عليها السيل شيئا فشيئا، ومنه التدرّج في الأمور، والاستدراج من الله، والدركة هي الدرجة بعينها لكن في الانحدار- والرجال- جمع رجل، وأصل الباب القوّة والغلبة
529
وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكر- الرجولية- التي بها ظهرت المزية لِلرِّجالِ على النساء وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام حَكِيمٌ عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها، والجملة تذييل للترهيب والترغيب.
الطَّلاقُ مَرَّتانِ إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهو الرجعي وهو بمعنى التطليق الذي هو فعل الرجل- كالسلام بمعنى التسليم- لأنه الموصوف بالوحدة والتعدّد دون ما هو وصف المرأة، ويؤيد ذلك ذكر ما هو من فعل الرجل أيضا بقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي بالرجعة وحسن المعاشرة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي إطلاق مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق، وذلك إما بأن لا يراجعها حتى تبين، أو يطلقها الثالثة- وهو المأثور-
فقد أخرج أبو داود وجماعة عن أبي رزين الأسدي أنّ رجلا قال: يا رسول الله- صلى الله تعالى عليه وسلم- إني أسمع الله تعالى يقول الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟ فقال: «التسريح بإحسان هو الثالثة»
وهذا يدل على أن معنى مَرَّتانِ اثنتان، ويؤيد العهد- كالفاء- في الشق الأوّل فإنّ ظاهرها التعقيب بلا مهلة، وحكم الشيء يعقبه بلا فصل، وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية، ولعله أليق بالنظم حيث قد انجرّ ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو طلاق، ثم انجرّ ذلك إلى ذكر حكم الْمُطَلَّقاتُ من العدة والرجعة، ثم انجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة، ثم انجرّ ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثة- وأوفق بسبب النزول- فقد أخرج مالك والشافعي والترمذي رضي الله تعالى عنهما وغيرهم. عن عروة قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت انقضاء عدّتها ارتجعها ثم طلقها ثم قال: والله لا آويك إليّ ولا تخلين أبدا، فأنزل الله تعالى الآية، والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث غير محرّم وأنه لا سنة في التفريق كما في تحفتهم، واستدلوا عليه بأن- عويمرا العجلاني- لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه- رواه الشيخان- فلو حرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل، ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون، وقال ساداتنا الحنفية: إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، وإنما السنة التفريق لما
روي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة»
فإنه لم يرد صلى الله تعالى عليه وسلم من السنة أنه يستعقب الثواب لكونه أمرا مباحا في نفسه لا مندوبا بل كونه من الطريقة المسلوكة في الدين- أعني ما لا يستوجب عقابا- وقد حصره عليه الصلاة والسلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع، والطلاق في الحيض بدعة- أي موجب لاستحقاق العقاب- وبهذا يندفع ما قيل: إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر واحد ليس سنة، وأمّا أنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف، ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى «وفي الهداية» وقال الشافعي، كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع- حتى يستفاد به الحكم- المشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في الحيض لأن المحرّم تطويل العدّة عليها- لا الطلاق- ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص، ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث، وهي في المفرق على- الاطهار- ثابتة نظرا إلى دليلها، والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها، والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا ينافي الحظر لمعنى في غيره- وهو ما ذكرناه- انتهى. ومنه يعلم أن المخالف معمم- لا مقسم- وإذا قلنا إنه مقسم بناء على ما في كتب بعض مذهبه فغاية ما أثبت
530
أن الجمع خلاف الأولى من التفريق على الأقراء أو الأشهر، وقد علمت أن تقسيم أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم غير تقسيمه، وأجيب عما في خبر عويمر بأنها وقاعة حال- فلعلها من المستثنيات- لما أن مقام اللعان ضيق فيغتفر فيه مثل ذلك ويعذر فيه الغيور وأعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما وحملوا الآية على أن المراد التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق لما أن وظيفة الشارع بيان الأمور الشرعية واللام ليست نصا في العهد بل الظاهر منها الجنس وأيضا تقييد الطلاق بالرجعي يدع ذكر الرجعة بقوله سبحانه: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ تكرارا إلا أن يقال المطلوب هاهنا الحكم المردد بين الإمساك والتسريح، وأيضا لا يعلم على ذلك الوجه حكم الطلاق الواحد إلا بدلالة النص، وهذا الوجه مع كونه أبعد عن توهم التكرار ودلالته على حكم الطلاق الواحد بالعبارة يفيد حكما زائدا وهو التفريق، ودلالة الآية حينئذ على ما ذهبوا إليه ظاهرة إذا كان معنى مرتين مجرد التنكير يردون التثنية على حد ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: ٤] أي كرة بعد كرة لا كرتين ثنتين إلا أنه يلزم عليه إخراج التثنية عن معناها الظاهر، وكذا إخراج- الفاء- أيضا وجعل ما بعدها حكما مبتدأ وتخييرا مطلقا عقيب تعليمهم كيفية التطليق وليس مرتبا على الأول ضرورة أن التفريق المطلق لا يترتب عليه أحد الأمرين لأنه إذا كان بالثلاث لا يجوز بعده الإمساك ولا التسريح وتحمل- الفاء- حينئذ على الترتيب الذكري- أي إذا علمتم كيفية الطلاق فاعلموا أن حكمه الإمساك أو التسريح- فالامساك في الرجعي والتسريح في غيره، وإذا كان معنى- مرتين- التفريق مع التثنية كما قال به المحققون- بناء على أنه حقيقة في الثاني ظاهر في الأول إذ لا يقال لمن دفع إلى آخر درهمين مرة واحدة أنه أعطاه مرتين حتى يفرق بينهما وكذا لمن طلق زوجته ثنتين دفعة أنه طلق مرتين- اندفع حديث ارتكاب خلاف الظاهر في التثنية كما هو ظاهر، وفيما بعدها أيضا لصحة الترتب ويكون عدم جواز الجمع بين التطليقتين مستفادا من مَرَّتانِ الدالة على التفريق والتثنية، وعدم الجمع بين الثالثة مستفادا من قوله سبحانه: أَوْ تَسْرِيحٌ حيث رتب على ما قبله بالفاء قيل: إنه مستفاد من دلالة النص هذا ثم من أوجب التفريق ذهب إلى أنه لو طلق غير مفرق وقع طلاقه وكان عاصيا وخالف في ذلك الإمامية وبعض من أهل السنة- كالشيخ أحمد بن تيمية ومن اتبعه- قالوا: لو طلق ثلاثا بلفظ واحد لا تعد له أربعا بالإجماع وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجزه إجماعا، ومثل ذلك ما لو حلف ليصلين على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألف مرة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم ألف مرة فإنه لا يكون بارا ما لم يأت بآحاد الألف، وتمسكا بما أخرجه مسلم. وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه.
وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضا لما
أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم قال:
فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت فراجعها»

والذي عليه أهل الحق اليوم خلاف ذلك كله.
والجواب عن الاحتجاج بالآية أنها كما علمت ليست نصا في المقصود، وأما الحديث فقد أجاب عنه جماعة قال السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ فكانوا أولا يصدقون في إرادة التأكيد لديانتهم فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع الثلاث، واعترضه العلامة ابن حجر قائلا: إنه عجيب فإن
531
صريح مذهبنا تصديق مريد التأكيد بشرطه وإن بلغ في الفسق ما بلغ، ثم نقل عن بعض المحققين أن أحسنها أنهم كانوا يعتادونه طلقة ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه استعجلوا وصاروا يوقعونه ثلاثا فعاملهم بقضيته وأوقع الثلاث عليهم، فهو إخبار عن اختلاف عادة الناس لا عن تغيير حكم في مسألة، واعترض عليه بعدم مطابقته للظاهر المتبادر من كلام عمر لا سيما مع قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الثلاث إلخ، فهو تأويل بعيد لا جواب حسن فضلا عن كونه أحسن، ثم قال: والأحسن عندي أن يجاب بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما استشار الناس علم فيه ناسخا لما وقع قبل فعمل بقضيته وذلك الناسخ إما خبر بلغه أو إجماع وهو لا يكون إلا عن نص، ومن ثمّ أطبق علماء الأمة عليه، وأخبار ابن عباس لبيان أن الناسخ إنما عرف بعد مضي مدة من وفاته صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وأنا أقول الطلاق الثلاث في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحتمل أن يكون بلفظ واحد، وحينئذ يكون الاستدلال به على المدعى ظاهرا، ويؤيد هذا الاحتمال ظاهرا ما أخرجه أبو داود عنه إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة وحينئذ يجاب بالنسخ، ويحتمل أن يكون بألفاظ ثلاثة في مجلس واحد مثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ويحمل ما أخرجه أبو داود على هذا بأن يكون ثلاثا متعلقا- يقال- لا صفة لمصدر محذوف أي طلاقا ثلاثا ولا تمييز للابهام الذي في الجملة قبله، وبفم واحدة معناه متتابعا وحينئذ يوافق الخبر بظاهره أهل القول الأخير، ويجاب عنه بأن هذا في الطلاق قبل الدخول فإنه كذلك لا يقع إلا واحدة كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن البينونة وقعت بالتطليقة الأولى فصادفتها الثانية وهي مبانة، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود والبيهقي عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتايعوا (١) فيها قال: أجيزوهن عليهم، وهذه مسألة اجتهادية كانت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يرو في الصحيح أنها رفعت إليه فقال فيها شيئا، ولعلها كانت تقع في المواضع النائية في آخر أمره صلّى الله عليه وسلّم فيجتهد فيها من أوتي علما فيجعلها واحدة، وليس في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تصريح بأن الجاعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل في قوله جعلوها واحدة إشارة إلى ما قلنا، وعمر رضي الله تعالى عنه بعد مضي أيام من خلافته ظهر له بالاجتهاد أن الأولى القول بوقوع الثلاث لكنه خلاف مذهبنا، وهو مذهب كثير من الصحابة حتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج مالك والشافعي وأبو داود والبيهقي عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن أبي إياس ابن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك، وإن حملت الثلاث في هذا الخبر على ما كان بلفظ واحد لئلا يخالف مذهب الإمام فإن عنده إذا طلق الرجل امرأته الغير المدخول بها ثلاثا بلفظ واحد وقعن عليها
لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا فلم
(١) قوله: تتايع الناس هو بتاءين فوقيتين بعدهما ألف ومثناة تحتية بعدها عين مهملة وهو الوقوع في الشر من غير تماسك ولا توقف. وفي أصل المؤلف بتاء بعدها باء وهو تصحيف تدبر اهـ إدارة الطباعة المنيرية.
532
يكن أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة كان هذا الخبر معارضا لما رواه مسلم مؤيدا للنسخ كالخبر الذي
أخرجه الطبراني والبيهقي عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال لها: قتل علي كرم الله وجهه قالت: لتهنك الخلافة قال: يقتل عليّ وتظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثا قال:
فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال: لولا أني سمعت جدي- أو حدثني- أبي أنه سمع جدي يقول أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم تحل به حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها،
وما
أخرجه ابن ماجة عن الشعبي قال: قلت لفاطمة بنت قيس حدثيني عن طلاقك قالت: طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم،
وأما حديث ركانة فقد روي على أنحاء، والذي صح ما
أخرجه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي «أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: والله ما أردت إلّا واحدة؟
فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة قال: هو ما أردت فردها عليه»

وهذا لا يصلح دليلا لتلك الدعوى لأن الطلاق فيه كناية ونية العدد فيها معتبرة، وقد يستدل به على صحة وقوع الثلاث بلفظ واحد لأنه دل على أنه لو أراد ما زاد على الواحدة وقع وإلا لم يكن للاستخلاف فائدة والقياس على شهادات اللعان. ورمي الجمرات قياس في غير محله، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق وتحصل به البينونة بانقضاء العدة ويتم الغرض إجماعا، ولعظم أمر اللعان لم يكتف فيه إلا بالإتيان بالشهادات واحدة واحدة مؤكدات بالأيمان مقرونة، خامستها باللعن في جانب الرجل لو كان كاذبا وفي جانبها بالغضب لو كان صادقا فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر أو يقام الحد ويكفر الذنب، وأيضا الشهادات الأربع من الرجل منزلة منزلة الشهود الأربعة المطلوبة في رمي المحصنات مع زيادة كما يشير إليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النور: ٤] مع قوله سبحانه بعده: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ [النور: ٦] إلخ فكما أن- شهادة الشهود- متعددة لا يكفي فيها اللفظ الواحد كذلك المنزل منزلتها، ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي وسره خفي فيحتاط له ويتبع المأثور فيه حذو القذة بالقذة، وباب الطلاق ليس كهذين البابين على أن من الاحتياط فيه أن نوقعه ثلاثا بلفظ واحد، ومجلس واحد، ولا نلغي فيه لفظ الثلاث التي لم يقصد بها إلا إيقاعه على أتم وجه وأكمله، وما ذكر في مسألة الحلف على أن لا يصلين ألف مرة من أنه لا يبر ما لم يأت بآحاد الألف فأمر اقتضاه القصد والعرف، وذلك وراء ما نحن فيه كما لا يخفى، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة
فقد أخرج البيهقي عن بسام الصيرفي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد برئت،
وعن مسلمة بن جعفر الأحمس، قال: قلت لجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونه واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا من طلق ثلاثا فهو كما قال،
وقد سمعت ما رويناه عن الحسن: وما أخذ به الإمامية يروونه عن علي كرم الله تعالى وجهه مما لا ثبت له والأمر على خلافه، وقد افتراه على علي كرم الله تعالى وجهه شيخ بالكوفة وقد أقر بالافتراء لدى الأعمش رحمه الله تعالى فليحفظ ما تلوناه فإني لا أظنك تجده مسطورا في كتاب.
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا في مقابلة الطلاق مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ أي من الصدقات فإن ذلك مناف للإحسان ومثلها في الحكم سائر أموالهن إلا أن التخصيص إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أن عدم حل الأخذ مما عدا ذلك من
533
باب الأولى، والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده أو حالا من شَيْئاً لأنه لو أخر عنه كان صفة له، والتنوين للتحقير، والخطاب مع الحكام، وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع، وقيل: إنه خطاب للأزواج، ويرد عليه أن فيه تشويشا للنظم الكريم لأن قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أي الزوجان كلاهما أو أحدهما أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بترك إقامة مواجب الزوجية غير منتظم معه لأن المعبر عنه في الخطاب الأزواج فقط، وفي الغيبة الأزواج والزوجات ولا يمكن حمله على الالتفات إذ من شرطه أن يكون المعبر عنه في الطريقين واحدا، وأين هذا الشرط نعم لهذا القيل وجه صحة لكنها لا تسمن ولا تغني، وهو أن الاستثناء لما كان بعد مضي جملة الخطاب من أعم الأحوال أو الأوقات أو المفعول له على أن يكون المعنى بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف جاز تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة لنكتة وهي أن لا يخاطب مؤمن بالخوف من عدم إقامة حدود الله، وقرىء «تخافا» و «تقيما» بتاء الخطاب وعليها يهون الأمر فإن في ذلك حينئذ تغليب المخاطبين على الزوجات الغائبات، والتعبير بالتثنية باعتبار الفريقين، وقرأ حمزة ويعقوب «يخافا» على البناء للمفعول وإبدال أَنْ بصلته من- ألف الضمير- بدل اشتمال كقولك: خيف زيد تركه حُدُودَ اللَّهِ ويعضده قراءة عبد الله إلا أن تخافوا وقال ابن عطية: عدي «خاف» إلى مفعولين «أحدهما» أسند إليه الفعل «والآخر» بتقدير حرف جر محذوف فموضع أَنْ جرّ بالجار المقدر، أو نصب على اختلاف الرأيين وردّه في البحر بأنه لم يذكره النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين، وأصل «أحدهما» بحرف الجرّ، وفي قراءة أبيّ «إلا أن يظنا» وهو يؤيد تفسير- الظن بالخوف- فَإِنْ خِفْتُمْ خطاب للحكام لا غير لئلا يلزم تغيير الأسلوب قبل مضي الجملة أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ التي حدّها لهم.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوجين، وهذا قائم مقام الجواب أي فمروهما فإنه لا جناح فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نفسها واختلعت لا على الزوج في أخذه ولا عليها في إعطائه إياه،
أخرج ابن جرير عن عكرمة أنه سئل هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إن أوّل خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي امرأة ثابت بن قيس «أنها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها قال زوجها: يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليّ حديقتي قال: ما تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته قال: ففرق بينهما»
وفي رواية البخاري- أن المرأة اسمها جميلة وأنها بنت عبد الله المنافق- وهو الذي رجحه الحفاظ وكون اسمها زينب جاء من طريق الدارقطني قال الحافظ ابن حجر: فلعل لها اسمين أو أحدهما لقب وإلا فجميلة أصح، وقد وقع في حديث آخر أخرجه مالك والشافعي وأبو داود أن اسم امرأة ثابت حبيبة بنت سهل، قال الحافظ: والذي يظهر أنهما قضيتان وقعتا له في امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما حد من الأحكام من قوله سبحانه: الطَّلاقُ مَرَّتانِ إلى هنا فالجملة فذلكة لذلك أوردت لترتيب النهي عليها فَلا تَعْتَدُوها بالمخالفة والرفض وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل للمبالغة في التهديد والواو للاعتراض وفي إيقاع الظاهر موقع المضمر ما لا يخفى من إدخال الروعة وتربية المهابة، وظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق لأن نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه ظاهرا إلا أن يدل الدليل على خلاف الظاهر، وعلى أنه لا يجوز أن يكون بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد لأن- في مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ تبعيضية فيكون مفاد الاستثناء حل أخذ شيء مما آتيتموهن حين الخوف، وأما كلمة ما في قوله سبحانه: فِيمَا افْتَدَتْ فليست ظاهرة في العموم حتى ينافي ظهور الآية في
534
الحكم المذكور بل فاء التفسير في فَإِنْ خِفْتُمْ يدل ظاهرا على أنه بيان للحكم المفهوم بطريق المخالفة عن الاستثناء، وفائدته التنصيص على الحكم ونفي الجناح في هذا العقد فإن ثبوت الحل المستفاد من الاستثناء قد يجامع الجناح بأن يكون مع الكراهة، نعم تحتمل العموم فلا تكون نصا في عدم جواز الخلع بجميع ما يساق، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: اخلعها ولو بقرطها، ويؤيد الأول ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ثوبان قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» وقال: «المختلعات هن المنافقات»
ويؤيد الثاني ما
روي من بعض الطرق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجميلة «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت: أردها وأزيد عليها فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أما الزائد فلا»
وهذا وإن دل على نفي الزيادة دون جميع المهر إلا أنه يستفاد منه أن فيما افتدت به ليس على عمومه فيكون المراد به ما يستفاد من الاستثناء وهو البعض، وأكثر الفقهاء على أن الخلع بلا شقاق وبجميع ما ساق مكروه لكنه نافذ لأن أركان العقد من الإيجاب والقبول وأهلية العاقدين مع التراضي متحقق والنهي لأمر مقارن كالبيع وقت النداء وهو لا ينافي الجواز، وعلى أنه يصح بلفظ المفادات لأنه تعالى سمي الاختلاع افتداء، واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق فسخ أو طلاق، ومن جعله فسخا احتج بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا، والأظهر أنه طلاق وإليه ذهب أصحابنا وهو قول للشافعية لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض فحينئذ يكون فَإِنْ طَلَّقَها متعلقا بقوله سبحانه الطَّلاقُ مَرَّتانِ تفسيرا لقوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ لا متعلقا بآية الخلع ليلزم المحذور، ويكون ذكر الخلع اعتراضا لبيان أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين أو بعد الطلاق الموصوف بما تقدم.
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد ذلك التطليق حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي تتزوّج زوجا غيره، ويجامعها فلا يكفي مجرد العقد كما ذهب إليه ابن المسيب وخطؤه لأن العقد فهم من زوجا، والجماع من تنكح، وبتقدير عدم الفهم، وحمل النكاح على العقد تكون الآية مطلقة إلا أن السنة قيدتها
فقد أخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلّا مثل هدبة الثوب فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»
وعن عكرمة أن هذه الآية نزلت في هذه المرأة واسمها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك وكان نزل فيها فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فيجامعها فإن طلقها بعد ما جامعها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، وفي ذلك دلالة على أن الناكح الثاني لا بد أن يكون زوجا فلو كانت أمة وطلقت البتة ثم وطئها سيدها لا تحل للأول. وعلى أنه لو اشتراها الزوج من سيدها أو وهبها سيدها له بعد أن بت طلاقها لم يحل له وطؤها في الصورتين بملك اليمين حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وعلى أنّ الولي ليس شرطا في النكاح لأنه أضاف العقد إليها، والحكمة في هذا الحكم ردع الزوج عن التسرع إلى الطلاق لأنه إذا علم أنه إذا بت الطلاق لا تحل له حتى يجامعها رجل آخر.
ولعله عدوه ارتدع عن أن يطلقها البتة لأنه وإن كان جائزا شرعا لكن تنفر عنه الطباع وتأباه غيرة الرجال، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند مالك وأحمد والثوري والظاهرية وكثيرين، واستدلوا على ذلك بما
أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا أخبركم بالتيس
535
المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له»
وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رحمتهما، والبيهقي عن سليمان بن يسار أن عثمان رضي الله تعالى عنه رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحللها لزوجها ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة، وعندنا هو مكروه. والحديث لا يدل على عدم صحة النكاح لما أن المنع عن العقد لا يدل على فساده، وفي تسمية ذلك محللا ما يقتضي الصحة لأنها سبب الحل، وحمل بعضهم الحديث على من اتخذه تكسبا أو على ما إذا شرط التحليل في صلب العقد لا على من أضمر ذلك في نفسه فإنه ليس بتلك المرتبة بل قيل: إن فاعل ذلك مأجور فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوج الأول والمرأة أَنْ يَتَراجَعا أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بالزواج بعد مضي العدة إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية التي حدها الله تعالى وشرعها وتفسير الظن بالعلم هاهنا قيل: غير صحيح لفظا ومعنى، أما معنى فلأنه لا يعلم ما في المستقبل يقينا في الأكثر، وأما لفظا فلأن أن المصدرية للتوقع وهو ينافي العلم، ورد بأن المستقبل قد يعلم ويتيقين في بعض الأمور وهو يكفي للصحة، وبأن سيبويه أجاز- وهو شيخ العربية- ما علمت إلا أن يقوم زيد والمخالف له فيه أبو علي الفارسي، ولا يخفى أن الاعتراض الأول فيما نحن فيه مما لا يجدي نفعا لأن المستقبل وإن كان قد يعلم في بعض الأمور إلا أن ما هنا ليس كذلك وليس المراجعة مربوطة بالعلم بل الظن يكفي فيها وَتِلْكَ إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا حُدُودَ اللَّهِ أي أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة يُبَيِّنُها بهذا البيان اللائق، أو سيُبَيِّنُها بناء على أن بعضها يلحقه زيادة كشف في الكتاب والسنة، والجملة خبر على رأي من يجوّزه في مثل ذلك، أو حال من حُدُودَ اللَّهِ والعامل معنى الإشارة، وقرىء «نبينها» بالنون على الالتفات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يفهمون ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العمل- كما قيل- أو لأنهم المنتفعون بالبيان، أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا يعقله إلا الراسخون، أو ليخرج غير المكلفين وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي آخر عدتهم فهو مجاز من قبيل استعمال الكل في الجزء إن قلنا: إن الأجل حقيقة في جميع المدة- كما يفهمه كلام الصحاح- وهو الدائر في كلام الفقهاء، ونقل الأزهري عن الليث يدل على أنه حقيقة في الجزء الأخير، وكلا الاستعمالين ثابت في الكتاب الكريم، فإن كان من باب الاشتراك فذاك وإلا فالتجوّز من الكل إلى الجزء الأخير أقوى من العكس- والبلوغ- في الأصل الوصول وقد يقال لدنو منه- وهو المراد في الآية- وهو إمّا من مجاز المشارفة أو الاستعارة تشبيها للمتقارب الوقوع بالواقع ليصح أن يرتب عليه.
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل لأنها حينئذ غير زوجة له ولا في عدّته فلا سبيل له عليها- والإمساك- مجاز عن المراجعة لأنها سببه- والتسريح- بمعنى الإطلاق وهو مجاز عن الترك، والمعنى فراجعوهن من غير «ضرار» أو خلوهن حتى تنقضي عدّتهن من غير تطويل، وهذا إعادة للحكم في صورة بلوغهنّ أجلهنّ اعتناء لشأنه ومبالغة في إيحاب المحافظة عليه، ومن الناس من حمل- الإمساك بالمعروف- على عقد النكاح وتجديده مع حسن المعاشرة- والتسريح بالمعروف- على ترك العضل عن التزوّج بآخر، وحينئذ لا حاجة إلى القول بالمجاز في «بلغن» ولا يخفى بعده عن سبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أنّ رجلا من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا انقضت عدّتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر يضارها فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً تأكيد للأمر- بالإمساك بالمعروف- وتوضيح لمعناه وهو أدل منه على الدوام والثبات وأصرح في الزجر عما كانوا يتعاطونه، وضِراراً
536
نصب على العلية أو الحالية أي لا ترجعوهن للمضارة أو مضارين، ومتعلق النهي القيد- واللام- في قوله تعالى:
لِتَعْتَدُوا متعلق ب ضِراراً أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء، واعترض بأن- الضرار- ظلم- والاعتداء- مثله فيؤول إلى وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ظلما لتظلموا وهو كما ترى، وأجيب بأنّ المراد- بالضرار- تطويل المدة- وباعتداء- الإلجاء، فكأنه قيل: لا تمسكوهنّ بالتطويل لتلجئوهنّ إلى الاختلاع والظلم قد يقصد ليؤدّي إلى ظلم آخر، والمشهور أن هذا الوجه متعين على الوجه الأول في ضِراراً ولا يجوز عليه أن يكون هذا علة لما كان هو له إذ المفعول له لا يتعدّد إلا بالعطف، أو على البدل- وهو غير ممكن لاختلاف الإعراب- ويجوز أن يكون كذلك على الوجه الثاني، وجوّز تعلقه بالفعل مطلقا إذا جعلت- اللام- للعاقبة، ولا ضرر في تعدّي الفعل إلى علة وعاقبة لاختلافهما وإن كانت- اللام- حقيقة فيهما على رأي- وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ المذكور وما فيه من البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها للعذاب، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن المعاشرة، ومنافع الدنيا من عدم رغبة النساء به بعد لاشتهاره بهذا الفعل القبيح وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ المنطوية على الأحكام المذكورة في أمر النساء أو جميع آياته وهذه داخلة فيها هُزُواً مهزوءا بها بأن تعرضوا عنها، وتتهاونوا في المحافظة عليها لقلة اكتراثكم بالنساء وعدم مبالاتكم بهن، وهذا نهي أريد به الأمر بضده، أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها. وأخرج ابن أبي عمرة وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق ثم يقول: لعبت ويعتق، ثم يقول: لعبت، فنزلت،
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ثلاث هزلهنّ جد: النكاح والطلاق والرجعة»
وعن أبي الدرداء «ثلاث اللاعب فيها كالجاد، النكاح، والطلاق والعتاق» وعن عمر رضي الله تعالى عنه «أربع مقفلات. النذر والطلاق والعتق والنكاح» وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها- والنعمة- إما عامة فعطف.
وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ عليها من عطف الخاص على العام، وإمّا أن تخص بالإسلام ونبوّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضرارا من سنن الجاهلية المخالفة، كأنه لما قيل: جدّوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه، ويكون العطف تأكيدا على تأكيد لأن الإسلام ونبوّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة- وهو قريب من عطف التفسير- ولا بأس أن يسمى عطف التقرير، قيل: ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن، ولا يخفى أنه في حيز المنع، والظرف الأوّل متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوّز حذف الموصول مع بعض الصلة، ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله- تاء التأنيث- لأنه مبني عليها كما في قوله:
فلولا رجاء النصر منك وهيبة عقابك قد كانوا لنا كالموارد
والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم، وما موصولة حذف عائدها من الصلة، ومَنْ في قوله تعالى: مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ بيانية، والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين، أو القرآن والسنة، والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهارا للفضل وإيماء إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج، وذاك من قبيل:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يَعِظُكُمْ بِهِ أي بما أنزل حال من فاعل أَنْزَلَ أو من مفعوله، أو منهما معا، وجوّز أن يكون ما
537
مبتدأ وهذه الجملة خبره ومِنَ الْكِتابِ حال من العائد المحذوف، وقيل: الجملة معترضة للترغيب والتعليل.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في أوامره والقيام بحقوقه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون فليحذر من جزائه وعقابه، أو أن عَلِيمٌ بكل شيء فلا يأمر إلا بما فيه الحكمة والمصلحة فلا تخالفوه، وفي هذا العطف ما يؤكد الأوامر والأحكام السابقة، وليس هذا من التأكيد المقتضي للفصل، لأنه ليس إعادة لمفهوم المؤكد ولا متحدا معه.
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن كما يدل عليه السياق. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ أي لا تمنعوهن ذلك، وأصل العضل الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة بالتشديد إذا نشبت بيضتها ولم تخرج، والفعل مثلث العين، واختلف في الخطاب فقيل- واختاره الإمام- إنه للأزواج المطلقين حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم بعد مضي العدة ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرا لحمية الجاهلية، وقد يكون ذلك بأن يدس إلى من يخبطهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما ينفر الرجل من الرغبة فيهن، وعليه يحمل الأزواج على من يردن أن يتزوجنه، والعرب كثيرا ما تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه، وقيل- واختاره القاضي- إنه للأولياء، فقد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود وخلق كثير من طرق شتى عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى هذه الآية، قال: ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه، وفي لفظ فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك، وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجا وخطاب التطليق حينئذ إما أن يتوجه لما توجه له هذا الخطاب ويكون نسبة التطليق للأولياء باعتبار التسبب كما ينبئ عنه التصدي للعضل، وإما أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلقين ويتحمل تشتيت الضمائر اتكالا على ظهور المعنى، وقيل- واختاره الزمخشري- إنه لجميع الناس فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعا، ويسلم من انتشار ضميري الخطاب والتفريق بين الاسنادين مع المطابقة لسبب النزول، وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم، وجعل بعضهم الخطابات السابقة كذلك، وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقلية والشرعية توزعت بحسبها كما إذا قيل لجماعة معدودة أو غير محصورة. أدوا الزكاة وزوجوا الأكفاء وامنعوا الظلمة كان الكل مخاطبين والتوزع على ما مر، هذا وليس في الآية على أي وجه حملت دليل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها كما وهم ونهي الأولياء عن العضل ليس لتوقف صحة النكاح على رضاهم بل لدفع الضرر عنهن لأنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن شرعا لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة أو مخافة البطش بهن، وفي إسناد النكاح إليهن إيماء إلى عدم التوقف وإلا لزم المجاز وهو خلاف الظاهر، وجوز في أن ينكحن وجهان: الأول أنه بدل اشتمال من الضمير المنصوب قبله. والثاني أن يكون على إسقاط الخافض والمحل إما نصب أو جر على اختلاف الرأيين إِذا تَراضَوْا ظرف- لا تعضلوا- والتذكير باعتبار التغليب والتقييد به لأن المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي، وقيل ظرف لأن ينكحن. وقوله تعالى: بَيْنَهُمْ ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه بِالْمَعْرُوفِ أي بما لا يكون مستنكرا شرعا ومروءة، والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل تَراضَوْا أو نعتا لمصدر محذوف أي تراضيا كائنا بِالْمَعْرُوفِ وإما بتراضوا أو بينكحن، وفي التقييد بذلك إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر
538
المثل ليس من باب العضل ذلِكَ إشارة إلى ما فصل والخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن المخاطب وحدة وتذكيرا وغيرهما.
والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بين الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليطابق ما في سورة الطلاق، وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عند الله تعالى: يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الامتثال إجلالا لله تعالى وخوفا من عقابه، ومِنْكُمْ إما متعلق- بكان- على رأي من يرى ذلك وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل يُؤْمِنُ ذلِكُمْ أي الاتعاظ به والعمل بمقتضاه أَزْكى لَكُمْ أي أعظم بركة ونفعا وَأَطْهَرُ أي أكثر تطهيرا من دنس الآثام، وحذف لكم اكتفاء بما في سابقه، وقيل: إن المراد أطهر لكم ولهم لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه من المصلحة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فلا رأي إلا الاتباع، ويحتمل تعميم المفعول في الموضعين، ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا وفائدة الجملة الحث على الامتثال.
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لاستعطافهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر، وخصه بعضهم بالوالدات المطلقات وهو المروي عن مجاهد وابن جبير وزيد بن أسلم، واحتج عليه بأمرين: الأول أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آيات الطلاق فكانت من تتمتها وإنما أتمها بذلك لأنه إذا حصلت الفرقة ربما يحصل التعادي والتباغض وهو يحمل المرأة غالبا على إيذاء الولد نكاية بالمطلق وإيذاء له وربما رغبت في التزوج بآخر وهو كثيرا ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته فلا جرم أمرهن على أبلغ وجه برعاية جانبه والاهتمام بشأنه، والثاني أن إيجاب الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص إذ لو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع، وقال الواحدي:
الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى ولا يفوت الغرض من التعقيب وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا يقتضي التخصيص لأنه باعتبار البعض على أن على ما قيل: ليس في الآية ما يدل على أنه للرضاع ومن قال: إنه له جعل ذلك أجرة لهن إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثا على إعطائها نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله فتدبر حَوْلَيْنِ أي عامين والتركيب يدور على الانقلاب وهو منصوب على الظرفية وكامِلَيْنِ صفته، ووصف بذلك تأكيدا لبيان أن التقدير تحقيقي لا تقريبي مبني على المسامحة المعتادة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بيان للمتوجه عليه الحكم، والجار في مثله خبر لمحذوف أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وجوز أن يكون متعلقا- بيرضعن- فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له وكون الرضاع واجبا على الأب لا ينافي أمرهن لأنه للندب أو لأنه يجب عليهن أيضا في الصور السابقة. واستدل بالآية على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا يعتد به بعدهما فلا يعطى حكمه وأنه يجوز أن ينقص عنهما، وقرىء «أن يتم» بالرفع واختلف في توجيهه فقيل: حملت أن المصدرية على ما أختها في الإهمال كما حملت أختها عليها في الإعمال في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كما تكونوا يولى عليكم»
على رأي، وقيل: ان يتموا بضمير الجمع باعتبار معنى من وسقطت الواو في اللفظ لالتقاء الساكنين فتبعها الرسم وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه ولم يعبر به مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب بما فيه من معنى الانتساب
539
المشيرة إليه اللام وتسمى هذه الإشارة إدماجا عند أهل البديع وإشارة النص عندنا، وقيل: عبر بذلك لأن الوالد قد لا تلزمه النفقة وإنما تلزم المولود له كما إذا كانت تحته أمة فأتت بولد فإن نفقته على مالك الأم لأنه المولود له دون الوالد، وفيه بعد لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد تناولا واحدا وحكم العبيد دخيل في البين رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ أي إيصال ذلك إليهن أي الوالدات أجرة لهن، واستئجار الأم جائز عند الشافعي وعندنا لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة بِالْمَعْرُوفِ أي بلا إسراف ولا تقتير أو حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف ولهذا فصل وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه ولا ينفي الجواز والإمكان الذاتي فلا ينتهض حجة للمعتزلة، ونصب وُسْعَها على أنه مفعول ثان- لتكلف- وقرىء ولا تكلف بفتح- التاء- ولا نكلف- بالنون.
لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم وهو الداعي للفصل، والمضارة مفاعلة من الضرر، والمفاعلة إما مقصودة والمفعول محذوف أي تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وأن تقول بعد أن ألفها الصبي أطلب له ظئرا مثلا ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو يكرهها على الإرضاع وإما غير مقصودة والمعنى لا يضر واحد منهما الآخر بسبب الولد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا تضار بالرفع فتكون الجملة بمنزلة بدل الاشتمال مما قبلها، وقرأ الحسن تضار بالكسر وأصله تضارر مكسور الراء مبنيا للفاعل وجوز فتحها مبنيا للمفعول، ويبين ذلك أنه قرىء- ولا تضارر، ولا تضارر- بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وعلى تقدير البناء للمفعول يكون المراد لا نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد، والباء على كل تقدير سببية ولك أن تجعل فاعل بمعنى فعل والباء سيف خطيب، ويكون المعنى لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ولا يضر الوالد ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه، وقرأ أبو جعفر- لا تضار- بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن الأعرج- لا تضار- بالسكون والتخفيف، وهو من ضار يضير ونوى الوقف كما نواه الأول، وإلا لكان القياس حذف الألف، وعن كاتب عمر رضي الله تعالى عنه- لا تضرر- والتعبير بالولد في الموضعين، وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للاستعطاف، والإشارة إلى ما هو كالعلة في النهي ولذا أقام المظهر مقام المضمر، ومن غريب التفسير ما
رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أن المعنى- لا تضار- والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها الرضيع- ولا يضار- مولود له بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده،
وحينئذ تتعين الباء للسببية، ويجب أن يكون الفعلان مبنيين للمفعول ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين، وتخرج الآية عما يقتضيه السياق، وبعيد عن الباقر، والصادق الإقدام على ما زعمه هذا الراوي الكاذب وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عطف على قوله تعالى: «وعلى المولود له» إلخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء وإبراهيم والشعبي وعبد الله بن عتبة وخلق كثير، ويؤيده أن أل كالعوض من المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو الأكثر في الاستعمال، وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي، وبه قال حماد ويؤيده قراءة ابن مسعود، وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك، وقيل: عصباته وبه قال أبو زيد، ويروى عن عمر رضي الله تعالى
540
عنه ما يؤيده، وقال الشافعي: المراد وارث الأب وهو الصبي أي مؤن الصبي من ماله إذا مات الأب، واعترض أن هذا الحمل يأباه أن لا يخص كون المئونة في ماله إذا مات الأب بل إذا كان له مال لم يجب على الأب أجرة الإرضاع بل يجب عليه النفقة على الصبي وأجرة الإرضاع من مال الصبي بحكم الولاية وفيه نظر، وقيل: المراد الباقي من الأبوين، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني»
قيل: وهذا يوافق مذهب الشافعي إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولاد ولا يخفى ما في ذلك من البحث لأن- من- إن كانت للبيان لزم التكرار أو الركاكة أو ارتكاب خلاف الظاهر، وإن كانت للابتداء كان المعنى الباقي غير الأبوين وهو يجوز أن يكون من العصبات أو ذوي الأرحام الذين ليست قرابتهم قرابة الولاد وكون ذلك موافقا لمذهب الشافعي إنما يتأتى إذا تعين كون الباقي ذوي قرابة الولاد وليس في اللفظ ما يفيده كما لا يخفى فَإِنْ أَرادا أي الوالدان فِصالًا أي فطاما للولد قبل الحولين وهو المروي عن مجاهد وقتادة وأهل البيت، وقيل: قبلهما أو بعدهما وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى الأول يكون هذا تفصيلا لفائدة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ وبيانا لحكم إرادة عدم الإتمام، والتنكير للإيذان بأنه- فصال- غير معتاد، وعلى الثاني توسعة في الزيادة والتقليل في مدة الرضاعة بعد التحديد والتنكير للتعميم، ويجوز على القولين أن يكون للإشارة إلى عظمه نظرا للصبي لما فيه من مفارقة المألوف عَنْ تَراضٍ متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن وإن كان كونا خاصا أي صادرا عَنْ تَراضٍ وجوز أن يتعلق بأراد مِنْهُما أي الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر الولد بأن تمل الأم أو يبخل الأب وَتَشاوُرٍ في شأن الولد وتفحص أحواله وهو مأخوذ من الشور وهو اجتناء العسل وكذا- المشاورة والمشورة والمشورة- والمراد من ذلك استخراج الرأي وتنكيره للتفخيم.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك وإنما اعتبر رضا المرأة مع أن ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره مراعاة لصلاح الطفل لأن الوالدة لكمال شفقتها على الصبي ربما ترى ما فيه المصلحة له وَإِنْ أَرَدْتُمْ خطاب للآباء هزا لهم للامتثال على تقدير عدم الاتفاق على عدم الفطام أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ بحذف المفعول الأول استغناء عنه أي- تسترضعوا المراضع أولادكم- من أرضعت المرأة طفلا واسترضعتها إياه كقولك أنجح الله تعالى حاجتي واستنجحتها إياه، وقد صرح الإمام الكرماني بأن الاستفعال قد جاء لطلب المزيد كالاستنجاء لطلب الانجاء والاستعتاب لطلب الاعتاب وصرح به غيره أيضا فلا حاجة إلى القول بأنه من رضع بمعنى أرضع ولم يجعل من الأول أول الأمر لعدم وجوده في كلامهم فإنه بمعزل عن التحقيق، وقيل: إن استرضع إنما يتعدى إلى الثاني بحرف الجر يقال استرضعت المرأة للصبي والمراد أن تَسْتَرْضِعُوا المراضع «لأولادكم» فحذف الجار كما في قوله تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: ٣] أي كالوا لهم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي في ذلك، واستدل بالإطلاق على أن للزوج أن- يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع- وهو مذهب الشافعية، وعندنا أن الام أحق برضاع ولدها وأنه ليس للأب أن يسترضع غيرها إذا رضيت أن ترضعه لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وبه يخصص هذا الإطلاق وإلى ذلك يشير كلام ابن شهاب إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ أي ضمنتم والتزمتم أو أردتم إتيانه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وقرأ ابن كثير أتيتم من أتى إليه إحسانا إذا فعله، وشيبان عن عاصم «أوتيتم» أي ما آتاكم الله تعالى وأقدركم عليه من الأجرة بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجوز أن يتعلق بآتيتم وأن يكون حالا من فاعله أو فاعل الفعل الذي قبله، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وليس التسليم شرطا لرفع الإثم بل هو الأولى والأصلح للطفل فشبه ما هو من شرائط الأولية بما هو من شرائط الصحة للاعتناء به فاستعير له عبارته، وقيل:
541
لا حاجة إلى هذا لأن نفي الإثم بتسليم الأجرة مطلقا غير مقيد بتقديمها عليه يعني لا جناح عليكم في الاسترضاع لو لم تأثموا بالتعدي في الأجرة وتظلموا الأجير، وفيه تأمل لأن الإثم إذا لم يسلم بعد إنما هو بالتعدي، والاسترضاع كان قبل خاليا عما يوجب الإثم وَاتَّقُوا اللَّهَ في شأن مراعاة الأحكام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم عليها، وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة، وفي الآية من التهديد ما لا يخفى وَالَّذِينَ مبتدأ.
يُتَوَفَّوْنَ أي تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض يقال: توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أي قبضته وأخذته. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه فيما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عنه والمفضل عن عاصم يُتَوَفَّوْنَ بفتح- الياء- أي يستوفون آجالهم فعلى هذا يقال للميت متوفى بمعنى مستوف لحياته، واستشكل بما حكي أن أبا الأسود كان خلف جنازة فقال له رجل من المتوفي؟ بكسر الفاء فقال: الله تعالى وكأن هذا أحد الأسباب لعلي كرم الله تعالى وجهه على أن أمره بوضع كتاب النحو، وأجاب السكاكي بأن سبب التخطئة أن السائل كان ممن لم يعرف وجه صحته فلم يصلح للخطاب به مِنْكُمْ في محل نصب على الحال من مرفوع يُتَوَفَّوْنَ ومن- تحتمل التبعيض وبيان الجنس والخطاب لكافة الناس بتلوين الخطاب وَيَذَرُونَ أي يتركون ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل اسم الفاعل ولا اسم المفعول وجاء الماضي على شذوذ أَزْواجاً أي نساء لهم.
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ خبر عن الذين والرابط محذوف أي لهم أو بعدهم، ورجح الأول بقلة الإضمار وبما في اللام من الإيماء إلى أن العدة حق المتوفى، وقيل: خبر لمحذوف أي أزواجهم يتربصن، والجملة خبر الذين وبعض البصريين قدر مضافا في صدر الكلام أي أزواج الذين وهن نساؤهم، وفيه أنه لا يبقى- ليذرون أزواجا- فائدة جديدة يعتد بها، ويروى عن سيبويه- إن الذين- مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الذين إلخ، وحينئذ يكون جملة- يتربصن- بيانا لذلك الحكم وفيه كثرة الحذف، وذهب بعض المحققين إلى أن الَّذِينَ مبتدأ ويَتَرَبَّصْنَ خبره والرابط حاصل بمجرد عود الضمير إلى الأزواج لأن المعنى يتربص الأزواج اللاتي تركوهن، وقد أجاز الأخفش والكسائي مثل ذلك ولولا أن الجمهور على منعه لكان من الحسن بمكان أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لعل ذلك العدد لسر تفرد الله تعالى بعلمه أو علمه من شاء من عباده، والقول- بأنه لعل المقتضي لذلك أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشرة استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها مع ما فيه من المنافاة
للحديث الصحيح «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله تعالى ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح»
لأن ظاهره أن نفخ الروح بعد هذه المدة مطلقا- لا يروي الغليل ولا يشفي العليل، وتأنيث العشر قيل: لأن التمييز المحذوف هو الليالي وإلى ذلك ذهب ربيعة ويحيى ابن سعيد، وقيل: بل هو باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله ذهابا إلى الأيام حتى أنهم يقولون- كما حكى الفراء- صمنا عشرا من شهر رمضان مع أن الصوم إنما يكون في الأيام ويشهد له قوله تعالى:
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً [ط: ١٠٣] ثم إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه: ١٠٤] وذكر أبو حيان أن قاعدة تذكير العدد وتأنيثه إنما هي إذا ذكر المعدود، وأما عند حذفه فيجوز لأمران مطلقا ولعله أولى مما قيل، واستدل بالآية على وجوب العدة على المتوفى عنها سواء كان مدخولا بها أو لا، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أنه لا عدة للثانية وهو محجوج بعموم اللفظ كما ترى، وشملت الآية المسلمة والكتابية وذات الأقراء والمستحاضة والآيسة والصغيرة والحرة والأمة-
542
كما قاله الأصم- والحامل وغيرها لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة والإجماع خص الحامل عنه لقوله تعالى:
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٤]
وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس أنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا
وهو لا ينافي الإجماع بل فيه عمل بمقتضى الآيتين، واستدل بعضهم بها على أن العدة من الموت حيث علقت عليه فلو لم يبلغها موت الزوج إلا بعد مضي العدة حكم بانقضائها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون والشافعي في أحد قوليه، ويؤيده أنّ الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدّتها هذه المدّة، وقيل: إنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تنقضي عدّتها بهذه الأيام لما روي «امرأته المفقود امرأته حتى يأتيها تبين موته أو طلاقه» فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها القادرون عليهن، وقيل: الخطاب للأولياء، وقيل: لجميع المسلمين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مما حرم عليهنّ في العدّة، وفي التقييد إشارة إلى علة النهي بِالْمَعْرُوفِ أي بالوجه الذي يعرفه الشرع ولا ينكره، وقيد به للإيذان بأنه لو فعلن خلاف ذلك فعليهم أن يكفوهنّ، فإن قصروا أثموا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به «والظاهر» أنّ المخاطب في سابقه. وجوّز أن يكون خطابا للقادرين من الأولياء والأزواج فيكون فيه تغليبان- الخطاب على الغيبة- والذكور على الإناث- وفيه تهديد للطائفتين، ويحتمل أن يكون وعدا ووعيدا لهما وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الرجال المبتغون للزواج.
فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ بأن يقول أحدكم- كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- إني أريد التزوج، وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها، وإن من شأني النساء، ولوددت أن الله تعالى كتب لي امرأة صالحة، أو يذكر للمرأة فضله وشرفه،
فقد روي «أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد كانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها وكان ذلك تعريضا لها»
والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه وجانب، واستعمل في أن تذكر شيئا مقصودا في الجملة بلفظه الحقيقي أو المجازي أو الكنائي ليدل بذلك الشيء على شيء آخر لم يذكر في الكلام مثل أن تذكر المجيء للتسليم بلفظه ليدل على التقاضي وطلب العطاء، وهو غير الكناية لأنها أن تذكر معنى مقصودا بلفظ آخر يوضع له لكن استعمل في الموضوع- لا على وجه القصد- بل لينتقل منه إلى الشيء المقصود، فطويل النجاد مستعمل في معناه لكن لا يكون المقصود بالإثبات بل لينتقل منه إلى طول القامة، وقرّر بعض المحققين أن بينهما عموما من وجه، فمثل قول المحتاج: جئتك لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل- زيد طول النجاد- كناية لا تعريض، ومثل قولك: في عرض من يؤذيك وليس المخاطب- آذيتني فستعرف- تعريض بتهديد المؤذي لا كناية «والمشهور» تسمية التعريض تلويحا لأنه يلوح منه ما تريده، وعدوا جعل السكاكي له اسما للكناية البعيدة لكثرة الوسائط مثل- كثير الرماد- للمضياف اصطلاحا جديدا «وفي الكشف» وقد يتفق عارض يجعل الكناية في حكم المصرح به كما في الاستواء على العرش وبسط اليد، ويجعل الالتفات في التعريض نحو المعرض به كما في قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: ٤١] فلا ينتهض نقضا على الأصل «والخطبة» - بكسر الخاء- قيل: الذكر الذي يستدعى به إلى عقد النكاح أخذا من الخطاب، وهو توجيه الكلام للإفهام- وبضمها- الوعظ المتسق على ضرب من التأليف، وقيل: إنهما اسم الحالة غير أنّ- المضمومة- خصت بالموعظة- والمكسورة- بطلب المرأة والتماس نكاحها- وأل- في النِّساءِ للعهد، والمعهودات هي الأزواج المذكورة في قوله تعالى: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ولا يمكن حملها على الاستغراق لأنّ من النساء من يحرم التعريض بخطبتهن في العدّة- كالرجعيات والبائنات- في قول، والأظهر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه جوازه في
543
لِعِدَّتِهِنَّ قياسا على معتدات الوفاة لا يقال: كان ينبغي أن تقدم هذه الآية على قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ لأنّ ما فيها من أحكام النساء قبل البلوغ إلى الأجل لأنا نقول: لا نسلم ذلك، بل هي من أحكام الرجال بالنسبة إليهن، فكان المناسب أن يذكر بعد الفراغ من أحكامهنّ قبل البلوغ من الأجل وبعده، واستدل الكيا بالآية على نفي الحدّ بالتعريض في القذف لأنه تعالى جعل حكمه مخالفا لحكم التصريح، وأيد بما
روي «من عرض عرضنا، ومن مشي على الكلا ألقيناه في النهر»
واستدل بها على جواز نكاح الحامل من الزنا إذ لا عدة لها، ولا يخفى ما فيه أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي أسررتم في قلوبكم من نكاحهنّ بعد مضي عدتهنّ ولم تصرحوا بذلك لهنّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهنّ، فلهذا رخص لكم ما رخص، وفيه نوع ما من التوبيخ.
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا استدراك عن محذوف دل عليه سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي فاذكروهن وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم، وجواز أن يكون استدراكا عن لا جُناحَ فإنه في معنى- عرّضوا بخطبتهنّ- أو أكنوا في أنفسكم وَلكِنْ إلخ، وحمله على الاستدراك على ما عنده- ليس بشيء- وإرادة النكاح من- السر- بواسطة إرادة الوطء منه إذ قد تعارف إطلاقه عليه لأنه يسر، ومنه قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن- السر- أمثالي
وإرادة العقد من ذلك لما بينهما من السببية والمسببية، ولم يجعل من أول الأمر عبارة عن العقد لأنه لا مناسبة بينهما في الظاهر، والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن- السر. هنا الجماع، وتوهم الرخصة حينئذ في المحظور الذي هو التصريح- بالنكاح- مما لا يكاد يخطر ببال، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وروي عن الحبر أيضا أنه العهد على الامتناع عن التزوج بالغير- وهو على هذه الأوجه نصب على المفعولية- وجوّز انتصابه على الظرفية، أي لا تُواعِدُوهُنَّ في السر، على أن المراد بذلك المواعدة بما يستهجن.
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وهو التعريض الذي عرف تجويزه، والمستثنى منه ما يدل عليه النهي أي لا تُواعِدُوهُنَّ نكاحا مواعدة ما إِلَّا مواعدة معروفة أو إِلَّا مواعدة بقول معروف، أو لا تقولوا في وعد الجماع أو طلب الامتناع عن الغير إِلَّا قولكم قَوْلًا مَعْرُوفاً والاستثناء في جميع ذلك متصل، وفي الكلام على الوجه الأوّل تصريح بما فهم من وَلا جُناحَ على وجه يؤكد ذلك الرفع وهو نوع من الطرد- والعكس حسن- وعلى الأخيرين تأسيس لمعنى ربما يعلم بطريق المقايسة إذ حملوا التعريض- فيهما على- التعريض- بالوعد لها أو الطلب منها، وهو غير- التعريض- السابق لأنه بنفس «الخطبة» وإذا أريد الوجه الرابع وهو الأخير من الأوجه السابقة احتمل الاستثناء الاتصال والانقطاع، والانقطاع في المعنى أظهر على معنى لا تُواعِدُوهُنَّ بالمستهجن وَلكِنْ واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في المجاهرة من حسن المعاشرة والثبات إن وقع النكاح، وبعض قال بذلك إلا أنه جعل الاستثناء من سِرًّا وضعف بأنه يؤدّي إلى كون التعريض موعودا، وجعله من قبيل «إلا من ظلم» يأبى أن يكون استثناء منه بل من أصل الحكم.
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي لا تقصدوا قصدا جازما عقد عُقْدَةَ النِّكاحِ وفي النهي عن مقدمة الشيء نهي عن الشيء على وجه أبلغ، وصح تعلق النهي به لأنه من الأفعال الباطنة الداخلة تحت الاختيار ولذا يثاب على النية، والمراد به العزم المقارن لأن من قال: لا تعزم على السفر في صفر مثلا لم يفهم منه النهي عن عزم فيه متأخر
544
الفعل إلى ربيع، وذلك لأن القصد الجازم حقه المقارنة وتقدير المضاف لصحة التعلق لأنه لا يكون إلا على الفعل، والعقدة- ليست به لأنها موضع العقد وهو ما يعقد عليه ولم يقدره بعضهم، وجعل الإضافة بيانية فالعقدة حينئذ نفس النكاح وهو فعل، ويحتمل أن يكون الكلام من باب حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: ٢٣] وعلى كل تقدير هي مفعول به، وجوز أن تكون مفعولا مطلقا على أن معنى- لا تعزموا- لا تعقدوا فهو على حد- قعدت جلوسا- وأن الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح فيكون النهي عن نفس الفعل لا عن قصده كما في الأول، وبهذا ينحط عنه، ومن الناس من حمل العزم على القطع ضد الوصل وجعل المعنى لا تقطعوا عقدة نكاح الزوج المتوفى بعقد نكاح آخر ولا حاجة حينئذ إلى تقدير مضاف أصلا، وفيه بحث أما أولا فلأن مجيء العزم بمعنى القطع ضد الوصل في اللغة محل تردد، وقول الزمخشري: حقيقة العزم القطع بدليل
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروي «لم يبيت»
ليس بنص في ذلك بل لا يكاد يصح حمله إذ الدليل لا يساعده إذ لا خفاء في أن المراد بعزم الصوم ليس قطعه بمعنى الفك بل الجزم وقطع التردد، وأما ثانيا فلأنه لا معنى للنهي عن قطع عقدة نكاح الزوج الأول حتى ينهى عنه إذ لا تنقطع عقدة نكاح المتوفى بعقد نكاح آخر لأن الثاني لغو، ومن هنا قيل: إن المراد لا تفكوا عقدة نكاحكم ولا تقطعوها، ونفي القطع عبارة عن نفي التحصيل فإن تحصيل الثمرة من الشجرة بالقطع، وهذا كما ترى مما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى العزيز حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي ينتهي ما كتب وفرض من العدة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك فَاحْذَرُوهُ ولا تعزموا عليه أو- احذروه- بالإجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعا عنه بعد تحققه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لمن يقلع عن عزمه أو ذنبه خشية منه حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يتوهم من تأخيرها أن ما نهي عنه لا يستتبع المؤاخذة وإعادة العامل اعتناء بشأن الحكم، ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة رحمته تبارك اسمه لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا تبعة من مهر وهو الظاهر، وقيل: من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس ولو كان في الحيض، وقيل: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما ينهي عن الطلاق فظن أن فيه جناحا فنفى ذلك إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أي غير ماسين لهن أو مدة عدم المس وهو كناية عن الجماع، وقرأ حمزة والكسائي- «تماسوهن» - والأعمش من- «قبل أن تمسوهن» - وعبد الله من قبل- «أن تجامعوهن» - أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي حتى تَفْرِضُوا أو إلا أن تَفْرِضُوا على ما في شروح الكتاب، وفَرِيضَةً فعيلة بمعنى مفعول نصب على المفعول به، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية فصار بمعنى المهر فلا تجوز، وجوز أن يكون نصبا على المصدرية، وليس بالجيد والمعنى أنه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر أصلا إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا في حال الفرض فإن عليه حينئذ نصف المسمى كما سيصرح به، وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل، وأما إذا كان بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى، وفي صورة عدمها تمام مهر المثل، هذه أربع صور للمطلقة نفت الآية بمنطوقها الوجوب في بعضها، واقتضى مفهومها الوجوب في الجملة في البعض الآخر، قيل: وهاهنا إشكال قوي، وهو أن ما بعد أو التي بمعنى حتى التي بمعنى إلى نهاية للمعطوف عليه فقولك لألزمنك أن تقضيني حقي معناه أن اللزوم ينتهي إلى الإعطاء فعلى قياسه يكون فرض الفريضة نهاية عدم المساس لا عدم الجناح، وليس المعنى عليه، وأجيب بأن ما بعدها عطف على الفعل وهو مرتبط بما قبله فهو معنى مقيد به فكأنه قيل: أنتم ما لم تمسوهن بغير جناح وتبعة إلا إذا- فرضت الفريضة- فيكون الجناح لأن المقيد في المعنى ينتهي برفع قيده فتأمل، ومن الناس من جعل كلمة- أو- عاطفة لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزوم، ولم حينئذ لنفي أحد الأمرين لا بعينه، وهو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم أي ما لم يكن منكم
545
مسيس، ولا فرض على حد وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: ٢٤] واعترضه القطب بأنه يوهم تقدير حرف النفي فيصير ما لم تمسوهن وما لم تفرضوا فيكون الشرط حينئذ أحد النفيين لا نفي أحد الأمرين فيلزم أن لا يجب المهر إذا عدم المسيس ووجد الفرض أو عدم الفرض ووجد المسيس، ولا يخفى أنه غير وارد، ولا حاجة إلى القول بأن أو بمعنى الواو كما في قوله تعالى: أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١٤٧] على رأي وَمَتِّعُوهُنَّ أي ملكوهن ما يتمتعن به وذلك الشيء يسمى متعة وهو عطف على ما هو جزاء في المعنى كأنه قيل: إن طلقتم النساء فلا جناح ومتعوهن، وعطف الطلبي على الخبري على ما في الكشف لأن الجزاء جامع جعلهما كالمفردين أي الحكم هذا وذاك، أو لأن المعنى فلا جناح وواجب هذا، أو فلا تعزموا ذلك ومتعوهن، وجوز أن يكون عطفا على الجملة الخبرية عطف القصة على القصة وأن يكون اعتراضا بالواو واردا لبيان ما يجب للمطلقات المذكورات على أزواجهن بعد
التطليق، والعطف على محذوف ينسحب عليه الكلام أي فطلقوهن ومتعوهن يأباه الذوق السليم إذ لا معنى لقولنا إذا طلقتم النساء فطلقوهن إلا أن يكون المقصود المعطوف، والحكمة في إعطاء المتعة جبر إيحاش الطلاق، والظاهر فيها عدم التقدير لقوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ أي على كل منهما مقدار ما يطيقه ويليق به كائنا ما كان، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة، وعن ابن عمر أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما، وقال الإمام أبو حنيفة: هي درع وخمار وملحفة على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها من ذلك فلها الأقل من نصف مهر المثل، ومن المتعة ولا ينتقص من خمسة دراهم، والموسع من يكون ذا سعة وغنى من أوسع الرجل إذا كثر ماله واتسعت حاله، وَعَلَى الْمُقْتِرِ من يكون ضيق الحال من- أقتر- إذا افتقر وقلّ ما في يده وأصل الباب الإقلال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار حال المتعة بالنظر إلى حال المطلق- إيسارا وإقتارا- والجمهور على أنها في موضع الحال من فاعل مَتِّعُوهُنَّ، والرابط محذوف أي منكم، ومن جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه أي على موسعكم إلخ استغنى عن القول بالحذف.
وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر وابن ذكوان قَدَرُهُ بفتح الدال، والباقون بإسكانها وهما لغتان فيه، وقيل:- القدر- بالتسكين الطاقة وبالتحريك المقدار، وقرئ قَدَرُهُ بالنصب ووجه بأنه مفعول على المعنى لأن معنى مَتِّعُوهُنَّ إلخ ليؤد كل منكم- قدر- وسعه قال أبو البقاء: وأجود من هذا أن يكون التقدير فأوجبوا على الموسع قَدَرُهُ مَتاعاً اسم مصدر أجري مجراه أي تمتيعا بِالْمَعْرُوفِ أي متلبسا بالوجه الذي يستحسن وهو في محل الصفة- لمتاعا- وحَقًّا أي ثابتا صفة ثانية له يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا أي حق ذلك حقا عَلَى الْمُحْسِنِينَ متعلق بالناصب للمصدر أو به أو بمحذوف وقع صفة، والمراد بالمحسنين من شأنهم الإحسان أو الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع وإنما سموا بذلك اعتبارا للمشارفة ترغيبا وتحريضا.
وقال الإمام مالك: المحسنون المتطوعون وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب وعندنا هي واجبة للمطلقات في الآية مستحبة لسائر المطلقات، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ لأنه يحمل المطلق على المقيد قال بالقياس، وجعله مقدما على المفهوم لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك بمنع قصر
546
المحسن على المتطوع بل هو أعم ومنه ومن القائم بالواجبات فلا ينافي الوجوب فلا يكون صارفا للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ حقا وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً بيان لحكم التي سمي لها مهر وطلقت قبل المسيس، وجملة وَقَدْ إلخ إما حال من فاعل طَلَّقْتُمُوهُنَّ أو من مفعوله ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها، وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضا فيما سبق فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فلهن نصف ما قدرتم وسميتم لهن من المهر، أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح في أن المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر، وقرىء- فنصف- بالنصب على معنى فأدّوا نصف ولعل تأخير حكم التسمية مع أنها الأصل في العقد والأكثر في الوقوع من باب التدرج في الأحكام، وذكر الأشق فالأشق، والقول بأن ذلك لما
أن الآية الكريمة نزلت في أنصاري تزوج امرأة من بني حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له عليه الصلاة والسلام: «أمتعتها؟ قال: لم يكن عندي شيء قال: متعها بقلنسوتك»
مما لا أراه شيئا على أن في هذا الخبر مقالا حتى قال الحافظ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي فلهن نصف المفروض معينا في كل حال إلا حال عفوهن أي المطلقات المذكورات فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه والصيغة في حذ ذاتها تحتمل التذكير والتأنيث، والفرق بالاعتبار فإن الواو في الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفي الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم تؤثر فيه إِنْ هنا مع أنها ناصبة لا مخففة بدليل عطف المنصوب عليه من قوله تعالى: «أو يعفو» وقرأ الحسن بسكون الواو فهو على حد.
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ
وهو الزوج المالك لعقد النكاح وحله وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا- وبه قال جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- ومعنى عفوه تركه تكرما ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه كملا على ما هو المعتاد أو إعطاؤه تمام المهر المفروض قبل بعد الطلاق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتسمية ذلك عفوا من باب المشاكلة وقد يفسر بالزيادة والفضل كما في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: ٢١٩] وقول زهير:
حزما وبرا للإله وشيمة تعفو على خلق المسيء المفسد
فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أي فلهن هذا المقدار بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه لا يكون إذ ذاك لهن القدر المذكور بل ينتفي أو ينحط، أو في حال عفو الزوج فإنه وقتئذ تكون لهن الزيادة هذا على تقدير الأول في فَنِصْفُ غير ملاحظ فيه الوجوب، وأما على التقدير الثاني فلا بد من القطع بكون الاستثناء منقطعا لأن في صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه كذا قيل فليتدبر، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه وعائشة وطاوس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري والشافعي رضي الله تعالى عنه في قوله القديم إلى- أن الذي بيده عقدة النكاح- هو الولي الذي لا تنكح المرأة إلا بإذنه فإن له العفو عن المهر إذا كانت المنكوحة صغيرة في رأي البعض ومطلقا في رأي الآخرين وإن أبت، والمعول عليه هو المأثور وهو الأنسب بقوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن إسقاط حق الغير ليس في شيء من التقوى وهذا خطاب للرجال والنساء جميعا، وغلب المذكر لشرفه وكذا فيما بعد- واللام- للتعدية، ومن قواعدهم التي قلّ من يضبطها أن أفعل التفضيل وكذا فعل التعجب يتعدى
547
بالحرف الذي يتعدى به فعله كأزهد فيه من كذا وإن كان من متعد في الأصل فإن كان الفعل يفهم علما أو جهلا تعدى- بالباء- كأعلم بالفقه وأجهل بالنحو، وإن كان لا يفهم ذلك تعدى باللام كأنت أضرب لعمرو إلا في باب الحب والبغض فإنه يتعدى إلى المفعول- بفي- كهو أحب في بكر وأبغض في عمرو وإلى الفاعل المعنوي بإلى زيد أحب إلى خالد من بشر أو أبغض إليه منه، وقرىء وأن يعفو- بالياء- وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ عطف على الجملة الاسمية المقصود منها الأمر على أبلغ وجه أي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشيء المنسي، والظرف إما متعلق بتنسوا أو بمحذوف وقع حالا من الفضل وحمل الفضل على الزيادة إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: ٢٢٨] في الدرك الأسفل من الضعف، وقيل: إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة للفضل على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته والفضل بمعنى الإحسان أي- لا تنسوا الإحسان- الكائن بينكم من قبل وليكن منكم على ذكر حتى يرغب كل في العفو مقابلة لإحسان صاحبه عليه، وليس بشيء لأنه على ما فيه يرد عليه أن لا إحسان في الغالب بين المرأة وزوجها قبل الدخول،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه- ولا تناسوا
- وبعضهم- ولا تنسوا- بسكون الواو.
إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يكاد يضيع ما عملتم حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال كما ينبىء عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو، والنهي عن ترك الفضل لأنها تهيئ النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن الفحشاء والمنكر، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله تعالى على خلقه، وقيل: أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذانا بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن أولئك فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن وتوجهوا إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين وَالصَّلاةِ الْوُسْطى أي المتوسطة بينها أو الفضلى منها، وعلى الأول استدل بالآية على أن الصلوات خمس بلا زيادة دون الثاني، وفي تعيينها أقوال «أحدها» أنها الظهر لأنها تفعل في وسط النهار، «الثاني»
أنها العصر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل وهو المروي عن علي
والحسن وابن عباس وابن مسعود وخلق كثير وعليه الشافعية «والثالث» أنها المغرب، وعليه قبيصة بن ذؤيب لأنها وسط في الطول والقصر «والرابع» أنها صلاة العشاء لأنها بين صلاتين لا يقصران «والخامس» أنها الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعين وهو المروي عن معاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد واختاره الشافعي رضي الله تعالى عنه نفسه، وقيل: المراد بها صلاة الوتر، وقيل: الضحى، وقيل: عيد الفطر، وقيل: عيد الأضحى، وقيل: صلاة الليل، وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: الجماعة، وقيل: صلاة الخوف «وقيل، وقيل..».
والأكثرون صححوا أنها صلاة العصر لما
أخرج مسلم من حديث عليّ كرم الله تعالى وجهه «أنه صلّى الله عليه وسلّم قال يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله تعالى بيوتهم نارا»
وخصت بالذكر لأنها تقع في وقت اشتغال الناس لا سيما العرب، قال بعض المحققين: والذي يقتضيه الدليل من بين هذه الأقوال أنها الظهر ونسب ذلك إلى الامام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وبيان ذلك أن سائر الأقوال ليس لها مستند يقف له العجلان سوى القول بأنها صلاة العصر، والأحاديث الواردة بأنها هي قسمان: مرفوعة وموقوفة، والموقوفة لا يحتج بها لأنها أقوال صحابة عارضها أقوال صحابة آخرين أنها غيرها، وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول صحابي آخر قطعا وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به عند عدم المعارضة، وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده عن مقال والسالم من المقال
548
قسمان: مختصر بلفظ الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومطول فيه قصة وقع في ضمنها هذه الجملة، والمختصر مأخوذ من المطول اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما ستسمع، والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال فلا يصح الاستدلال بها
فقوله من حديث مسلم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر»
فيه احتمالان، أحدهما أن يكون لفظ صلاة العصر ليس مرفوعا بل مدرج في الحديث أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه كما وقع ذلك كثيرا في أحاديث، ويؤيده ما
أخرجه مسلم من وجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ «حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس»
يعني العصر، الثاني على تقدير أنه ليس بمدرج يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف لا بيانا ولا بدلا والتقدير شغلونا عن الصلاة الوسطى وصلاة العصر، ويؤيد ذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشغل يوم الأحزاب عن صلاة العصر فقط بل شغل عن الظهر والعصر معا كما ورد من طريق أخرى فكأنه أراد بالصلاة الوسطى الظهر وعطف عليها العصر، ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى الاستدلال بالحديث والاحتمال الأول أقوى للرواية المشار إليها، ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تفسير أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا، وقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه، ثم على تقدير عدم الاحتمالين فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر، وإذا تعارض الحديثان، ولم يمكن الجمع طلب الترجيح، وقد ذكر الأصوليون أن من المرجحات أن يذكر السبب، والحديث الوارد في أنها الظهر مبين فيه سبب النزول ومساق لذكرها بطريق القصد بخلاف
حديث «شغلونا» إلخ
فوجب الرجوع إليه، وهو ما
أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن زيد بن ثابت قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على الصحابة منها فنزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى
»

وأخرج أحمد من وجه آخر عن زيد أيضا «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلخ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم»
ويؤكد كونها غير العصر ما
أخرجه مسلم وغيره من طرق عن أبي يونس مولى عائشة قال: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فأملت عليّ- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر- وقالت: سمعتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم»
والعطف يقتضي المغايرة، وأخرج مالك وغيره من طرق أيضا عن عمرو بن رافع قال: «كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأملت عليّ- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر- وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن عبد الله بن رافع أنه كتب لأم سلمة مصحفا فأملت عليه مثل ما أملت عائشة وحفصة» وأخرج ابن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ كذلك، وأخرج أيضا عن أبي رافع مولى حفصة قال: «كتبت مصحفا لحفصة فقالت اكتب- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر- فلقيت أبيّ بن كعب فقال: هو كما قالت أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا» وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر هذا، وعن الربيع بن خيثم وأبي بكر الوراق أنها إحدى الصلوات الخمس ولم يعينها الله تعالى وأخفاها في جملة «الصلوات» المكتوبة ليحافظوا على جميعها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان. واسمه الأعظم في جميع الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة
وقرأ عبد الله وعلي الصَّلاةِ الْوُسْطى
وروي عن عائشة وَالصَّلاةِ بالنصب على المدح والاختصاص، وقرأ نافع- الوصطى- بالصاد وَقُومُوا لِلَّهِ أي في الصلاة قانِتِينَ أي مطيعين كما هو أصل معنى القنوت عند بعض وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ذاكرين له تعالى في القيام بناء على أن القنوت هو الذكر فيه، وقيل: خاشعين، وقيل: مكملين الطاعة ومتميها على أحسن وجه من غير إخلال بشيء مما
549
ينبغي فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: من القنوت طول الركوع وغض البصر والخشوع وأن لا يلتفت وأن لا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا، وفسره البخاري في صحيحه بساكتين لما أخرج هو ومسلم وأبو داود وجماعة عن زيد بن أرقم قال «كنا نتكلم على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، ولعل الأوضح منه ما
أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قال: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد عليّ فلما قضى الصلاة قال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانِتِينَ لا نتكلم في الصلاة»

وقال ابن المسيب:
المراد به القنوت في الصبح وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والجار والمجرور متعلق بما قبله أو بما بعده فَإِنْ خِفْتُمْ من عدو أو غيره فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً حالان من الضمير في جواب الشرط أي فصلوا راجلين أو راكبين، والأول جمع راجل، وهو الماشي على رجليه- ورجل- بفتح فضم أو بفتح فكسر بمعناه، وقيل: الراجل الكائن على رجليه واقفا أو ماشيا، واستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية على وجوب الصلاة حال المسايفة وإن لم يمكن الوقوف، وذهب إمامنا إلى أن المشي، وكذا القتال يبطلها، وإذا أدى الأمر إلى ذلك أخرها ثم صلاها آمنا،
فقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا القتال، وذلك قوله تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب: ٢٥] فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا فأمر فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك،
وفي لفظ «فصلى كل صلاة ما كان يصليها في وقتها» وقد كانت صلاة الخوف مشروعة قبل ذلك لأنها نزلت في ذات الرقاع- وهي قبل الخندق- كما قاله ابن إسحاق وغيره من أهل السير، وأجيب بمنع أن صلاة الخوف مطلقا ولو شديدا شرعت قبل الخندق ليستدل بما وقع فيه من التأخير، ويجعل ناسخا لما في الآية- كما قيل- والمشروع في ذات الرقاع قبل صلاة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء: ١٠٢] لا صلاة شدّة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها- وهي لم تشرع قبل الخندق بل بعده- وفيه كان الخوف شديدا فلا يضر التأخير، وقد أجاب بعض الحنفية بأنا سلمنا جميع ذلك إلا أن هذه الآية ليست نصا في جواز الصلاة مع المشي أو المسايفة إذ يحتمل أن يكون الراحل فيها بمعنى الواقف على رجليه لا سيما وقد قوبل بالراكب وقد علم من خارج وجوب عدم الإخلال في الصلاة، وهذا إخلال كلي لا يحتمل فيها لإخراجه لها عن ماهيتها بالكلية، وأنت تعلم- إذا أنصفت- أن ظاهر الآية صريحة مع الشافعية لسبق «وقوموا والدين يسر لا عسر» والمقامات مختلفة، والميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك لا يترك فليفهم.
وقرىء «رجالا» - بضم الراء مع التخفيف، وبضمها مع التشديد- وقرىء «فرجلا» أيضا فَإِذا أَمِنْتُمْ وزال خوفكم. وعن مجاهد- إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة- ولعله على سبيل التمثيل فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا صلاة الأمن- كما قال ابن زيد- وعبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها، وقيل: المراد- اشكروه على الأمن- وبعضهم أوجب الإعادة، وفسر هذا- بأعيدوا الصلاة- وهو من البعد بمكان كَما عَلَّمَكُمْ أي ذكرا مثل ما عَلَّمَكُمْ من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي- الأمن والخوف- أو شكرا يوازي ذلك، و «ما» مصدرية وجوّز أن تكون موصولة- وفيه بعد.
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مفعول علمكم وزاد تَكُونُوا ليفيد النظم، ووقع في موضع آخر بدونها كقوله
550
تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: ٥] فقيل: الفائدة في ذكر المفعول فيه وإن كان الإنسان لا يعلم إلا ما لم يعلم التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقل عنها فإنه أوضح في الامتنان، وفي إيراد الشرطية الأولى بأن المفيد لمشكوكية وقوع الخوف وندرته، وتصدير الثانية ب «إذا» المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى، والإطناب في جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا لإجراء مقتضى المقام الأوّل في كل منهما مجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة والاعتبار كما قيل- ما فيه عبرة لذوي الأبصار وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سبق، وفي يُتَوَفَّوْنَ مجاز المشارفة وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة عن عاصم بنصب وَصِيَّةً على المصدرية، أو على أنها مفعول به، والتقدير ليوصوا أو يوصون وَصِيَّةً أو كتب الله تعالى عليهم، أو ألزموا وَصِيَّةً ويؤيد ذلك قراءة عبد الله «كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول» مكان وَالَّذِينَ إلخ، وقرأ الباقون- بالرفع- على أنه خبر بتقدير ليصح الحمل أي ووصية الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أو حكمهم وصية أو وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أهل وصية، وجوّز أن يكون نائب فاعل فعل محذوف، أو مبتدأ لخبر محذوف مقدّم عليه أي كُتِبَ عَلَيْهِمُ أو عليهم وَصِيَّةً وقرأ أبيّ متاع لأزواجهم، وروي عنه فَمَتاعُ بالفاء.
مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ نصب بيوصون إن أضمرته ويكون من باب الحذف والإيصال، وإلا ف «بالوصية» لأنها بمعنى التوصية، وبمتاع على قراءة أبيّ لأنه بمعنى التمتع غَيْرَ إِخْراجٍ بدل منه بدل اشتمال إن اعتبر اللزوم بين التمتع إِلَى الْحَوْلِ وبين- غير الإخراج- وبدل الكل بحسب الذات فإنهما متحدان بالذات، ومتغايران بالوصف، وذكر بعضهم أنه على تقدير البدل لا بد من تقدير مضاف إلى غير تقديره مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ متاع غَيْرَ إِخْراجٍ وإلا لم يصح لأن مَتاعاً مفسر بالإنفاق، وغَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان وليس مدلوله مدول الأول، ولا جزأه، ولا ملابسا له، فيكون بدل غلط- وهو لا يصح في الكلام المجيد- فيتعين التقدير، وحينئذ يكون إبدال الخاص من العام وهو من قبيل إبدال الكل من الجزء نحو- رأيت القمر فلكه- وهو بدل الاشتمال- كما صرح به صاحب المفتاح- وأجيب بأنا لا نسلم أن مَتاعاً مفسر بالإنفاق فقط بل- المتاع- عام شامل للإنفاق والإسكان جميعا، فيكون غَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان الذي هو بعض من مَتاعاً فيكون بدل البعض من الكل، وجوّز أن يكون مصدرا مؤكدا لأن- الوصية بأن يمتعن حولا- يدل على أنهن لا يخرجن، فكأنه قيل: لا يخرجن غَيْرَ إِخْراجٍ ويكون تأكيدا لنفي- الإخراج- الدال عليه لا يَخْرُجْنَ فيؤول إلى قولك: لا يخرجن لا يخرجن، وأن يكون حالا من أزواجهم والأكثرون على أنها حال مؤكدة إذ لا معنى لتقييد- الإيصاء- بمفهوم هذه الحالة وأنها مقدّرة لأن معنى نفى- الإخراج إلى الحول- ليس مقارنا- للإيصاء- وفيه تأمل، وأن يكون صفة متاع أو منصوبا بنزع الخافض، والمعنى يجب على الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أن يوصوا قبل أن يحتضروا لِأَزْواجِهِمْ لأن يمتعن بعدهم- حولا- بالنفقة والسكنى، وكان ذلك على الصحيح في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله تعالى: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وهو وإن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول، وكذا النفقة بتوريثهن الربع أو الثمن، واختلف في سقوط السكنى وعدمه، والذي عليه ساداتنا الحنفية الأول، وحجتهم أن مال الزوج صار ميراثا للوارث، وانقطع ملكه بالموت، وذهب الشافعية إلى الثاني
لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله»
واعترض بأنه ليس فيه دلالة على أن لها السكنى في مال الزوج، والكلام فيه فَإِنْ خَرَجْنَ بعد الحول، ومضيّ العدة، وقيل: في الأثناء باختيارهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا أولياء الميت، أو أيها الأئمة.
551
فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ لا ينكره الشرع كالتطيب والتزين وترك الحداد والتعرض للخطاب أو في ترك منعهنّ من الخروج، أو قطع النفقة عنهنّ، فلا نص في الآية على أنه لم يكن يجب عليهنّ ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه، وإنما كنّ مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة، وبين الخروج وتركها وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره ينتقم ممن خالف أمره في- الإيصاء- وإنفاذ «الوصية» وغير ذلك حَكِيمٌ يراعي في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه.
وَلِلْمُطَلَّقاتِ سواء كن مدخولا بهن أو لا مَتاعٌ أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل، وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة، ويجوز أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة وهن غير الممسوسات وغير المفروض لهن، والتكرير للتأكيد والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: ٢٣٦] قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل الله تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه ابن المسيب وهو أحد قولي الإمامية بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي من الكفر والمعاصي كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح للأحكام السابقة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على ما تحتاجون إليه معاشا ومعادا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تكمل عقولكم أو لكي تصرفوا عقولكم إليها أو لكي تفهموا ما أريد منها أَلَمْ تَرَ هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأخبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه حال من «لم ير» الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجري الكلام معه كما يجري مع من رأى قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب، والرؤية إما بمعنى الابصار مجازا عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت بإلى في قوله تعالى: إِلَى الَّذِينَ كما قاله غير واحد، وقال الراغب: إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما استعير لمعنى- ألم تنظر- عدي تعديته بإلى وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا انتهى. وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول امرئ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا ولم تتطيب
والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا إليه وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ وكانوا فوق عشرة آلاف على ما استظهره الأكثر بناء على أنه لا يقال- عشرة ألوف لا تسعة ألوف- وهكذا وإنما يقال آلاف، فقول عطاء الخراساني: إنهم كانوا ثلاثة آلاف، وابن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف، ومقاتل والكلبي أنهم ثمانية آلاف، وأبي صالح أنهم تسعة آلاف، وأبي رؤوف أنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الاستعمال، والقائلون بالفوقية اختلفوا فقيل: كانوا بضعة وثلاثين ألفا، وحكي ذلك عن السدي وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أربعون ألفا، وقال عطاء بن أبي رباح إنهم سبعون ألفا ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك، وحكي عن ابن زيد أن المراد
552
خَرَجُوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن تباغض فجعله جمع آلف مثل قاعد وقعود وشاهد وشهود وهو خلاف الظاهر، وليس فيه كثير اعتبار إذ ورود الموت دفعة كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا على جمع عظيم أبلغ في الاعتبار، وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه على غيرهم، ومثل هذا القول بأن المراد ألفهم وحبهم لديارهم أو لحياتهم الدنيا، والمراد بقوله تعالى إما ظاهره وإما مجاز عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة، وقيل:
هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر مطاع لمأمور مطيع، وقيل: ناداهم ملك بذلك، وعن السدي أن المنادي ملكان وإنما أسند إليه تعالى تخويفا وتهويلا ثُمَّ أَحْياهُمْ عطف على مقدر يستدعيه المقام أي فماتوا ثُمَّ أَحْياهُمْ قيل: وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته الكونية، وجوز أن يكون عطفا على- قال- لما أنه عبارة عن الإماتة والمشهور أنهم بقوا موتى مدة حتى تفرقت عظامهم فمر بهم حزقيل الشهير بابن العجوز خليفة كالب بن يوفنا خليفة يوشع بن نون، وقيل شمعون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال وهب: إنه شمويل وهو ذو الكفل، وقيل: يوشع نفسه فوقف متعجبا لكثرة ما يرى منهم
«فأوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها العظام إن الله تعالى يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت حتى التزق بعضها ببعض فصارت أجسادا من عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها الأجسام إن الله تعالى يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست لحما ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد إنّ الله تعالى يأمرك تقومي فبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت»
والروايات في هذا الباب كثيرة.
والظاهر أنهم لم يروا في هذا الموت من الأهوال والأحوال ما يصير بها معارفهم ضرورية، ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة، ويمكن أن يقال إنهم رأوا ما يراه الموتى إلا أنهم أنسوه بعد العودة، والقادر على الإماتة والإحياء قادر على الإنساء وسبحان من لا يعجزه شيء، وعلى كلا التقديرين لا يشكل موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدخان: ٥٦] الآية لأن ذلك لم يكن عن استيفاء آجال- كما قال مجاهد- وإنما هو موت عقوبة فكأنه ليس بموت، وأيضا هو من خوارق العادات فلا يرد نقضا، ومن الناس من قال: إن هذا لم يكن موتا كالموت الذي يكون وراءه الحياة للنشور، وإنما هو نوع انقطاع تعلق الرّوح عن الجسد بحيث يلحقه التغير والفساد وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بانقطاع التعلق أصلا ولم يعلم أنه قد بقي تعلق ما لكن لم يصل إلى حد الحياة المعلومة لدينا، ولعل هذا القول يعود بالآخرة إلى انقسام الموت أو إلى أن إطلاق الموت على ما ذكر مجاز، وكلا الأمرين في القلب منهما شيء بل أشياء.
وقد ذهب إلى مثله ابن الراوندي في جميع الأموات فقال: إن الأرواح لا تفارق الأبدان أصلا وإنما يحدث في الأبدان عوارض وعلل يحدث تفرق الأجزاء منها كما يحدث للمجذومين، والروح كامنة في الأجزاء المتفرقة أينما كانت لكونها عرية عن الاحساس والإدراك وهو مذهب تحكم الضرورة برده عافانا الله تعالى والمسلمين عن اعتقاد مثله إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ جميعا، أمّا أولئك فقد أحياهم ليعتبروا فيفوزوا بالسعادة وأما الذين سمعوا فقد هداهم إلى الاعتبار، وهذا كالتعليل لما تقدم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ استدراك مما تضمنه ما قبله والتقدير فيجب عليهم أن يشكروا فضله وَلكِنَّ إلخ، وجوز أن يراد بالشكر الاستبصار والاعتبار، ولا يخفى بعده، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد التشنيع ومناسبة هذه لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر جملا من الأحكام التكليفية مشتملة على ذكر شيء من أحكام الموتى عقب ذلك بهذه القصة العجيبة تنبيها على عظيم قدرته وأنه القادر على الإحياء والبعث للمجازاة واستنهاضا للعزائم على العمل للمعاد والوفاء بالحقوق والصبر على المشاق.
553
وقيل: وجه المناسبة أنه لما ذكر سبحانه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته، وقيل: جعل الله تعالى هذه القصة لما فيها من تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، والحث على التوكل والاستسلام للقضاء تمهيدا لقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو عطف في المعنى على أَلَمْ تَرَ لأنه بمعنى انظروا وتفكروا، والسورة الكريمة لكونها سنام القرآن ذكر فيها كليات الأحكام الدينية من الصيام والحج والصلاة والجهاد على نمط عجيب مستطردا تارة للاهتمام بشأنها يكر عليها كلما وجد مجال، ومقصودا أخرى دلالة على أن المؤمن المخلص لا ينبغي أن يشغله حال عن حال. وإن المصالح الدنيوية ذرائع إلى الفراغة للمشاغل الأخروية، والجهاد لما كان ذروة سنام الدين، وكان من أشق التكاليف حرضهم عليه من طرق شتى مبتدئا من قوله سبحانه: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: ١٥٤] منتهيا إلى هذا المقال الكريم مختتما بذكر الانفاق في سبيله للتتميم- قاله في الكشف- وجوز في العطف وجوه أخر، الأول أنه عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم- وقاتلوا في سبيله- لما علمتم أن الفرار لا ينجي من الحمام وأن المقدر لا يمحى فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيل الله تعالى خير سبيل وإلا فنصر وثواب، الثاني أنه عطف على ما يفهم من القصة أي اثبتوا ولا تهربوا كما هرب هؤلاء وقاتلوا، الثالث أنه عطف على حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلى فَإِنْ خِفْتُمْ الآية لأن فيه إشعارا بلقاء العدوّ وما جاء جاء كالاعتراض، الرابع أنه عطف على فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ والخطاب لمن أحياهم الله تعالى وهو كما ترى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله المتخلف عن الجهاد من تنفير الغير عنه وما يقوله السابق إليه من ترغيب فيه عَلِيمٌ بما يضمره هذا وذلك من الأغراض والبواعث فيجازي كلّا حسب عمله ونيته مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ مَنْ استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، وذَا خبره والَّذِي صفة له أو بدل منه، ولا يجوز أن يكون مَنْ ذَا بمنزلة اسم واحد مثل ما تكون ماذا كذلك كما نص عليه أبو البقاء لأن ما أشد إبهاما من- من- وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طائل للثواب الآجل، والمراد هاهنا إمّا الجهاد المشتمل على بذل النفس والمال، وإما مطلق العمل الصالح ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا، وعلى كلا التقديرين لا يخفى انتظام الجملة بما قبلها قَرْضاً إمّا مصدر بمعنى- إقراضا- فيكون نصبا على المصدرية، وإما بمعنى المفعول فيكون نصبا على المفعولية، وقوله سبحانه: حَسَناً صفة له على الوجهين وجهة الحسن على الأوّل الخلوص مثلا وعلى الثاني الحل والطيب، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه- القرض الحسن- المجاهدة والإنفاق في سبيل الله تعالى، وعليه يلتئم النظم أتم التئام فَيُضاعِفَهُ أي- القرض- لَهُ وجعله- مضاعفا- مجاز لأنه سبب- المضاعفة- وجوز تقدير مضاف أي- فيضاعف- جزاءه، وصيغة المفاعلة ليست على بابها إذ لا مشاركة وإنما اختيرت للمبالغة المشيرة إليها المغالبة.
وقرأ عاصم بالنصب، وفيه وجهان: أحدهما أن يكون- معطوفا- على مصدر- يقرض- في المعنى أي- من ذا الذي- يكون منه قرض فمضاعفة من الله تعالى، وثانيهما أن يكون جوابا لاستفهام معنى أيضا لأن المستفهم عنه وإن كان المقرض في اللفظ إلا أنه في المعنى الإقراض فكأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فَيُضاعِفَهُ وهذا ما اختاره أبو البقاء ولم يجوز أن يكون جواب الاستفهام في اللفظ لأن المستفهم عنه فيه المقرض لا القرض ولا عطفه على المصدر الذي هو قرضا كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار إن لأمرين- على ما قيل- الأوّل أن قرضا هنا مصدر مؤكد وهو لا يقدر بأن والفعل، والثاني أن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولا ليقرض، ولا يصح هذا لأن المضاعفة ليست مقروضة، وإنما هي فعل من الله تعالى وفيه تأمل، وقرأ ابن كثير: يضعفه بالرفع والتشديد، ويعقوب وابن عامر
554
يضعفه بالنصب أَضْعافاً جمع ضعف وهو مثل الشيء في المقدار إذا زيد عليه فليس بمصدر والمصدر الإضعاف أو المضاعفة فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الهاء في فَيُضاعِفَهُ وأن يكون مفعولا ثانيا على المعنى بأن تضمن المضاعفة معنى التصيير، وجوّز أن يعتبر واقعا موقع المصدر فينتصب على المصدرية حينئذ، وإنما جمع والمصادر لا تثنى ولا تجمع لأنها موضوعة للحقيقة من حيث هي لقصد الأنواع المختلفة، والمراد به أيضا إذا ذاك الحقيقة لكنها تقصد من حيث وجودها في ضمن أنواعها الداخلة تحتها كَثِيرَةً لا يعلم قدرها إلا الله تعالى، وأخرج الإمام أحمد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله تعالى ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا للقائه في هذا الحديث فلقيت أبا هريرة فقلت له: فقال: ليس هذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك إنما قلت إن الله تعالى ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ثم قال أبو هريرة أو ليس تجدون هذا في كتاب الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فالكثير عنده تعالى أكثر من ألفي ألف وألفي ألف والذي نفسي بيده
لقد سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة»
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أي يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه الحكمة التي قد دق سرها وجل قدرها وإذا علمتم أنه هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما هو من بسطه وعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم بدل توسعته وإعطائه ولا تعكسوا بأن تبخلوا بدل ذلك فيعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض ويقتر عليكم من بعد ما وسع عليكم وأقدركم على الانفاق، وعن قتادة والأصم والزجاج أن المعنى يقبض الصدقات، ويبسط الجزاء عليها فالكلام كالتأكيد والتقرير لما قبله ووجه تأخير البسط عليه ظاهر، ووجه تأخيره على الأوّل الإيماء إلى أنه يعقب القبض في الوجود تسلية للفقراء، وقرىء «يبصط».
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على حسب ما قدمتم «ومن باب الإشارة» إن الصلوات خمس صلاة السر بشهوده مقام الغيب، وصلاة النفس بخمودها عن دواعي الريب، وصلاة القلب بمراقبته أنوار الكشف، وصلاة الروح بمشاهدة الوصل، وصلاة البدن بحفظ الحواس وإقامة الحدود، فالمعنى حافظوا على هذه الصلوات الخمس، والصلاة الوسطى التي هي صلاة القلب التي شرطها الطهارة عن الميل إلى السوي وحقيقتها التوجه إلى المولى ولهذا تبطل بالخطرات والانحراف عن كعبة الذات وَقُومُوا لِلَّهِ بالتوجه إليه قانِتِينَ أي مطيعين له ظاهرا وباطنا بدفع الخواطر فَإِنْ خِفْتُمْ صدمات الجلال حال سفركم إلى الله تعالى فصلوا راجلين في بيداء المسير سائرين على أقدام الصدق أو راكبين على مطايا العزم ولا يصدنكم الخوف عن ذلك فَإِذا أَمِنْتُمْ بعد الرجوع عن ذلك السفر إلى الوطن الأصلي بكشف الحجاب فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا له بكليتكم حتى تفنوا فيه أو فإذا أمنتم بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء فاذكروا الله تعالى لحصول الفرق بعد الجمع حينئذ، وأما قبل ذلك فلا ذكر إذ لا امتياز ولا تفضيل وقد، قيل:
للمجنون أتحب ليلى؟ فقال: ومن ليلى؟! أنا ليلى، وقال بعضهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
أَلَمْ تَرَ إلى الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي أوطانهم المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى وهم قوم ألوف كثيرة أو متحابون متألفون في الله تعالى حذر موت الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا أي أمرهم بالموت الاختياري أو
555
أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا فيه ثم أحياهم بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود الحقاني- والبقاء بعد الفناء- إن الله لذو فضل على سائر الناس بتهيئة أسباب إرشادهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لمزيد غفلتهم عما يراد بهم وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ النفس والشيطان وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ هواجس نفوس المقاتلين في سبيله عَلِيمٌ بما في قلوبهم مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ ويبذل نفسه له بذلا خالصا عن الشركة فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً بظهور نعوت جماله وجلاله فيه- والله يقبض أرواح الموحدين- بقبضته الجبروتية في نور الأزلية، ويبسط أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها في مشاهدة ثناء الأبدية، ويقال: القبض سره والبسط كشفه، وقيل:
القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول للمشتاقين والثاني للعارفين، والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف الرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن، والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب، والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبي وكان الأول من آثار الجلال والثاني من آثار الجمال.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد من لفظه، وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمي الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالؤون أي يتعاونون بما لا مزيد عليه، ومن للتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الملأ مِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد وفاته عليه السلام، ومن للابتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر اتحاد الحرفين لفظا لاختلافهما معنى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ قال أبو عبيدة: هو أشمويل بن حنة بن العاقر- وعليه الأكثر.
وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة: هو يوشع بن نون لمكان من بعد من قبل وهي ظاهرة في الاتصال، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى عليهما السلام وكان بينه وبين داود قرون كثيرة والاتصال غير لازم، وإِذْ متعلقة بمضمر يستدعيه المقام أي أَلَمْ تَرَ قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي أقم لنا أميرا، وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه لكن يختلف باختلاف متعلقه يقال: بعث البعير من مبركه إذا أثاره وبعثته في السير إذا هيجته، وبعث الله تعالى الميت إذا أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال.
نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مجزوم بالأمر، وقرىء بالرفع على أنه حال مقدرة أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا تفعلون مع الملك؟ فأجيب نقاتل، وقرىء يقاتل- بالياء- مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر. والوصف- لملكا- وسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار أنه لما مات موسى خلفه يوشع ليقيم فيهم أمر الله تعالى ويحكم بالتوراة ثم خلفه كالب كذلك ثم حزقيل كذلك ثم إلياس كذلك ثم اليسع كذلك، ثم ظهر لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوت- وكانوا سكان بحر الروم- بين مصر وفلسطين وظهروا عليهم، وغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين، وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه إسماعيل، وقيل:
شمعون فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم فلما كبر نبأه الله تعالى وأرسله إليهم فقالوا: إن كنت صادقا- فابعث لنا ملكا- الآية، وكان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبيائهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم أمره ويرشده ويشير عليه قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا عسى من النواسخ وخبرها أن لا تقاتلوا وفصل بالشرط اعتناء به، والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم، والمراد تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل، واعترض بأن عسيتم أن لا تقاتلوا
556
معناه توقع عدم القتال. وهل لا يستفهم بها إلا عما دخلته فيكون الاستفهام عن التوقع لا المتوقع ولا يلزم من تقرير الاستفهام أن المتوقع ثابت بل إن التوقع كائن وأين هذا من ذاك؟! وأجيب بأن الاستفهام دخل على جملة مشتملة على توقع متوقع ولا سبيل إلى الأول لأن الرجل لا يستفهم عن توقعه فتعين أن يكون عن المتوقع، ولما كان الاستفهام على سبيل التقرير كان المراد أن المتوقع كائن، وقيل: لما كانت عسى لإنشاء التوقع ولا تخرج عنه جعل الاستفهام التقريري متوجها إلى المتوقع وهو الخبر الذي هو محل الفائدة فقرره وثبته وكون المستفهم عنه يلي الهمزة ليس أمرا كليا، وقيل: إن عسى ليست من النواسخ وقد تضمنت معنى قارب وأن وما بعدها مفعول لها وهذا معنى قول بعضهم:
إنها خبر لا إنشاء، واستدل على ذلك بدخول الاستفهام عليها ووقوعها خبرا في قوله لا تكسرن إني عسيت صائما ولا يخفى ما فيه، وإنما ذكر في معرض الشرط كتابة القتال دون ما التمسوه مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم مبالغة في بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن ما ذكروه ربما يوهم أن سبب تخلفهم هو المبعوث لا نفس القتال، ويحتمل أنه أقام هذا مقام ذلك إيماء إلى أن ذلك البعث المترتب عليه القتال إذا وقع فإنما يقع على وجه يترتب عليه الفرضية، وقرىء- عسيتم- بكسر السين وهي لغة قليلة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل أي إلى ترك القتال. والجار والمجرور متعلق بما تعلق به لنا أو به نفسه وهو خبر عن «ما» ودخلت الواو لتدل على ربط هذا الكلام بما قبله ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعا عنه- قاله أبو البقاء- وجوز أن تكون عاطفة على محذوف كأنهم قالوا عدم القتال غير متوقع منا- وما لنا أن لا نقاتل- وإنما لم يصرحوا به تحاشيا عن مشافهة نبيهم بما هو ظاهر في رد كلامه، والشائع في مثل هذا التركيب ما لنا نفعل أو لا نفعل على أن الجملة حال، ولما منع من ذلك هنا أن المصدرية إذ لا توافقه التزم فيه ما التزم، والأخفش ادعى زيادة ان وأن العمل لا ينافيها، والجملة نصب على الحال كما في الشائع، وقيل: إنه على حذف الواو ويؤول إلى ما لنا ولأن لا نقاتل كقولك: إياك وأن تتكلم وقد يقال: إياك أن تتكلم والمعنى على- الواو- وقيل: إن ما هنا نافية أي ليس لنا ترك القتال وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا في موضع الحال والعامل نقاتل والغرض الإخبار بأنهم يقاتلون لا محالة إذ قد عرض لهم ما يوجب المقاتلة إيجابا قويا وهو الإخراج عن الأوطان والاغتراب من الأهل والأولاد، وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال وهو معطوف على الديار وفيه حذف مضاف عند أبي البقاء أي ومن بين أبنائنا، وقيل: لا حذف والعطف على حد
علفتها تبنا وماء باردا
وفي الكلام إسناد ما للبعض للكل إذ المخرج بعضهم لا كلهم.
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بعد سؤال النبي وبعث الملك تَوَلَّوْا أعرضوا وضيعوا أمر الله تعالى ولكن لا في ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته كما سيجيء وإنما ذكر هاهنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشرة عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه، والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ومنهم الذين ظلموا بالتولي عن القتال وترك الجهاد وتنافت أقوالهم وأفعالهم، والجملة تذييل أريد منها الوعيد على ذلك وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شروع في التفصيل بعد الإجمال أي قال بعد أن أوحى لهم ما أوحى إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً يدير أمركم وتصدرون عن رأيه في القتال. وطالُوتَ فيه قولان أظهرهما أنه علم أعجمي عبري- كداود- ولذلك لم ينصرف، وقيل: إنه عربي من الطول وأصله طولوت- كرهبوت ورحموت- فقلبت- الواو ألفا- لتحركها وانفتاح ما قبلها ومنع صرفه حينئذ للعلمية وشبه العجمة لكونه ليس من أبنية
557
العرب، وأما ادعاء العدل عن طويل، والقول بأنه عبراني وافق العربي فتكلف، ومَلِكاً حال من طالُوتَ أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن- نبيهم- لما دعا ربه أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن وهب بن منبه أنه لما دعا الله تعالى قال له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي فيه فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه منه وملكه عليهم فأقام ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم، وقيل: كان سقاء وكان من سبط بنيامين بن يعقوب عليه السلام ولم يكن فيهم نبوة ولا ملك فخرج طالوت في ابتغاء دابة له ضلت ومعه غلام فمرا ببيت النبي فقال غلام طالوت له: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير فقال طالوت: ما بما قلت من بأس فدخلا عليه فبينما هو عنده يذكر له شأن دابته ويسأله أن يدعو له إذ نش الدهن الذي في القرن فقام إليه النبي فأخذه ثم قال لطالوت: قرب رأسك فقربه فدهنه منه ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملكك عليهم فجلس عنده وقال الناس: ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم مستغربين ذلك حيث لم يكن من بيت النبوة ولا الملك.
قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أي من أين يكون أو كيف يكون له ذلك؟ والاستفهام حقيقي أو للتعجب لا لتكذيب نبيهم والإنكار عليه في رأي، وموضعه نصب على الحال من الملك، ويكون- يجوز أن تكون الناقصة فيكون الخبر له،- وعلينا- حال من الملك أو الخبر علينا وله حال، ويجوز أن تكون التامة فيكون له متعلقا بها.
وعَلَيْنا حال وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ الواو الأولى حالية، والثانية عاطفة جامعة للجملتين أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هم أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال، أو لعدم ما يجبر نقصه لو كان ويلحقه بالأشراف عرفا من ذلك، وأصل- سعة- وسعة بالواو وحذفت لحذفها من يسع وكان حق الفعل كسر السين فيه ليتأتى الحذف كما في- يعد- وإنما ارتكب الفتح لحرف الحلق فهو عارض، ولذا أجري عليه حكم الكسرة ولذلك الفتح فتحت السين في المصدر ولم تكسر كما كسرت عين عدة.
قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ رد عليهم بأبلغ وجه وأكمله كأنه قيل: لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره وانحطاط نسبه عنكم، أما أولا فلأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اصطفاه واختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح لكم، وأما ثانيا فلأن العمدة وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم وقد خصه الله تعالى بحظ وافر منهم، وأما ثالثا فلأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من شاء من التصرف في ملكه بإذنه، وأما رابعا فلأنه سبحانه واسع الفضل يوسع على الفقير فيغنيه عَلِيمٌ بما يليق بالملك من النسيب وغيره، وفي تقديم البسطة في العلم على البسطة في الجسم إيماء إلى أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف من الفضائل الجسمانية بل يكاد لا يكون بينهما نسبة لا سيما ضخامة الجسم ولهذا حمل بعضهم البسطة فيه هنا على الجمال أو القوة لا على المقدار كطول القامة كما قيل: إن الرجل القائم كان يمد يده حتى ينال رأسه فإن ذلك لو كان كمالا لكان أحق الخلق به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أنه عليه الصلاة والسلام كان ربعة من الرجال، ولعل ذكر ذلك التقدير لأنه صفة تزيد الملك المطلوب لقتال العمالقة حسنا لأنهم كانوا ضخاما ذوي بسطة في الأجسام وكان ظل ملكهم جالوت ميلا على ما في بعض الأخبار لا أنها من الأمور التي هي عمدة في الملوك من حيث هم كما لا يخفى على من تحقق- أن المرء بأصغريه لا بكبر جسمه وطول برديه.
558
وفي اختيار واسِعٌ وعَلِيمٌ في الإخبار عنه تعالى هنا من حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له الخواطر لا سيما على ما يتبادر من بسطة الجسم، وقدم الوصف الأول مع أن ما يناسبه ظاهرا مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول الإخبار إذ الاصطفاء من سعة الفضل أيضا، ولأن عليم أوفق بالفواصل وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ عطف على مثله مما تقدم وكان توسيط ما تقدم بينهما للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للأحق، وروايات القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم، ما آية ملكه واصطفائه علينا؟ فقال: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ولما لم يكن قولهم ذلك مذكورا ليقع هذا جوابا له صراحة أعاد الفاعل ليغاير ما علم صراحة كونه جوابا، وإنما لم يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم ويكون هذا جوابا له، ويكتفي بالإضمار كما اكتفى به أولا للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي بعد تصديقهم له وبيانه لهم ما استفهموا عنه مما لا ينبغي أن يكون حتى يجاب لأن له شبها تاما بالتعنت حينئذ وإن عد من باب السؤال لتقوية العلم، وهذا بناء على أن القوم كانوا مؤمنين، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ فعن السدي أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل فلما أراد الله تعالى أن يبعثه نبيا أتاه جبريل وهو غلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه غيره فدعاه بلحن الشيخ فقام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع فقال يا بني ارجع فنم فرجع فنام فدعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله تعالى قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه، وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم يأن لك وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا ثم جرى ما جرى فقال: إن الله قد بعث لكم طالُوتَ مَلِكاً فقالوا: ما كنت قط أكذب منك الساعة واعترضوا وأجيبوا ثم- قالوا إن كنت صادقا فأتنا بآية- إن هذا ملك فقال: ما قص الله تعالى، وحينئذ لا يبعد أن يكون الاستفهام المصرح به في الآية وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرا عن إنكار وعدم إيقان، ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من شأن الأنبياء الإتيان بالآيات وإن لم تطلب منهم جلبا للشارد وتقيدا للوارد «وليزداد الذين آمنوا هدي» والتابوت الصندوق وهو فعلوت من التوب وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته فتاؤه مزيدة كتاء ملكوت، وأصله توبوت فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول من التبت لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق، وقرىء تابوه بالهاء، وهي لغة الأنصار والأولى لغة قريش، وهي التي أمر عثمان رضي الله تعالى عنه بكتابتها في الإمام حين ترافع لديه في ذلك زيد وأبان رضي الله تعالى عنهما ووزنه حينئذ- على ما اختاره الزمخشري- فاعول لأن شبهة الاشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم النظير، وأما جعل الهاء بدلا من التاء لاجتماعهما في الهمس- وأنهما من حروف الزيادة- ضعيف لأن الإبدال في غير تاء التأنيث ليس بثبت، وذهب الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث وأصله عنده تابوة مثل ترقوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء، والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم، واختلف في تحقيق ذلك فقال: أرباب الأخبار: هو صندوق أنزله الله تعالى على آدم عليه السلام فيه تماثيل الأنبياء جميعهم. وكان من عود الشمشاذ نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، ولم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب ثم إلى بنيه- ثم، وثم- إلى أن فسد بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى عليه السلام فسلط الله تعالى عليهم العمالقة فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من أحدث عنده ابتلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن
559
فعلموا أن ذلك بسبب استهانتهم به فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبلا يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صندوق التوراة وكان قد رفعه الله تعالى إلى السماء سخطا على بني إسرائيل لما عصوا بعد وفاة موسى عليه السلام فلما طلبت الآية أتى من السماء والملائكة يحفظونه وبنو إسرائيل يشاهدون ذلك حتى أنزلوه في بيت طالوت.
وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه التابوت الذي أنزل على أم موسى فوضعته فيه وألقته في البحر وكان عند بني إسرائيل يتبركون به إلى أن فسدوا فجعلوا يستخفون به فرفعه الله تعالى إلى أن كان ما كان،
وروي غير ذلك مما يطول، وأقرب الأقوال التي رأيتها أنه صندوق التوراة تغلبت عليه العمالقة حتى رده الله تعالى، وأبعدها أنه صندوق نزل من السماء على آدم عليه السلام وكان يتحاكم الناس إليه بعد موسى عليه السلام إذا اختلفوا فيحكم بينهم ويتكلم معهم إلى أن فسدوا فأخذه العمالقة، ولم أر حديثا صحيحا مرفوعا يعول عليه يفتح قفل هذا الصندوق ولا فكرا كذلك فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة، فالسكينة مصدر حينئذ أو فيه نفسه ما تسكنون إليه وهو التوراة، وقيل: وليس بالصحيح- كما قاله الراغب- صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. والجملة في موضع الحال. ومِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض أي من سكينات ربكم.
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ هي رضاض الألواح وثياب موسى وعمامة هارون وطست من ذهب كانت تغسل به قلوب الأنبياء. وكلمة الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وآلهما أتباعهما أو أنفسهما، أو أنبياء بني إسرائيل، لأنهم أبناء عمهما تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ حال من التابوت، والحمل إما حقيقة أو مجاز على حد. حمل زيد متاعي إلى مكة.
إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت فهو من كلام النبي لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء خطاب منه تعالى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين جيء به قبل تمام القصة إظهارا لكمال العناية، وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق ونحوه لَآيَةً عظيمة كائنة لَكُمْ دالة على جعل طالوت ملكا عليكم أو على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أخبر بما أخبر من غير سماع من البشر ولا أخذ من كتاب إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيء من الآيات، وإِنَّ شرطية والجواب محذوف اعتمادا على ما قبله وليس المقصود حقيقة الشرطية إذا كان المخاطب من تحقق إيمانه، وقيل: هي بمعنى إذ فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي انفصل عن بيت المقدس مصاحبا لهم لقتال العمالقة، وأصله فصل نفسه عنه، ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر- كانفصل- وقيل: فصل فصولا وجوز كونه أصلا برأسه ممتازا من المتعدي بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وصد عنه صدودا وصده صدا وهو باب مشهور، والجنود الأعوان والأنصار جمع جند، وفيه معنى الجمع، وروي أنه قال لقومه: لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وقيل: سبعون ألفا، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة فسألوا نهرا قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ أي معاملكم معاملة من يريد أن يختبركم ليظهر للعيان الصادق منكم والكاذب بِنَهَرٍ بفتح الهاء، وقرىء بسكونها، وهي لغة فيه وكان ذلك «نهر» فلسطين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن قتادة والربيع أنه «نهر» بين فلسطين والأردن فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أي ابتدأ شربه لمزيد عطشه من نفس النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة،
560
وهذا كثيرا ما يفعله العطشان المشرف على الهلاك، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فَمَنْ شَرِبَ من مائة مطلقا فَلَيْسَ مِنِّي أي من أشياعي، أو ليس بمتصل بي ومتحد معي فَمَنْ اتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض وكأنها بيانية عنده وعينها عند آخرين. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا حكاه الأزهري عن الليث، وذكره الجوهري أن الطعم ما يؤديه الذوق وليس هو نفس الذوق فمن فسره به على هذا فقد توسع وعلى التقديرين استعمال طعم الماء بمعنى ذاق طعمه مستفيض لا يعاب استعماله لدى العرب العرباء ويشهد له قوله:
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم- أطعم- نقاخا ولا بردا
وأما استعماله بمعنى شربه واتخذه طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام كما في حديث زمزم «طعام طعم وشفاء سقم» فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالد بن عبد الله القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد: أطعموني ماء فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على شدة جزعه، وقيل فيه:
بل المنابر من خوف ومن وهل واستطعم- الماء- لما جد في الهرب
وألحن الناس كل الناس قاطبة وكان يولع بالتشديق بالخطب
لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه، وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه ومن لم يطعم أطاعه بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل وإنما لم يخبرهم النبي نفسه بذلك ألقاه إلى طالوت فأخبر به كأنه من تلقاء نفسه ليكون له وقع في قلوبهم، وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه بناء على أنه نبىء بعد أن ملك وهو قول لا ثبت له، والقول بأنه يحتمل أن يكون بالفراسة والإلهام بعيد إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من الموصول الأول أو ضميره في الخبر فإن فسر الشرب بالكروع كان الاستثناء منقطعا وإلا كان متصلا، وفائدة تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنها من تتمة الأولى وأن الغرض منها تأكيدها وتتميمها نهيا عن الكروع من كل وجه، وإفادة أن المعترف ليس بذائق حكما فيؤكد ترخيص الاغتراف ولو أخرت لم تفد هذه الفوائد ولا ختل النظم لدلالة الاستثناء إذ ذاك على أن المغترف متحد معه، ودلالة الجملة الثانية بمفهومها على أنه غير متحد معه ولا يصح في الاستثناء أن يكون من أحد الضميرين الراجعين إلى الموصولين في الصلة للفصل بين أجزاء الصلة حينئذ بالخبر وأداء المعنى في الأول إلى أن المجتزئ في الشرب بغرفة واحدة ليس متصلا به متحدا معه لأن التقدير- والذين شربوا كلهم إلا المغترف ليس مني- ولا يصح أيضا أن يكون من الموصول الثاني أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافا للبعض إذ لا فرق لأدائه إلى أن المجتزئ المذكور مخرج من حكم الاتحاد معه لأن التقدير- والذين لم يذوقوه فإنّهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي متحدون معي- وليس بالمراد أصلا، والغرفة ما يغرف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة- غرفة- بفتح الغين على أنها مصدر، وقيل: الغرفة والغرفة مصدران والضم والفتح لغتان، والباء متعلقة باغترف أو بغرفة في قول، أو بمحذوف وقع صفة لها فَشَرِبُوا مِنْهُ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فابتلوا به فشربوا، والمراد إما كرعوا- وهو المتبادر- وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو أفرطوا في الشرب إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يكرعوا أو لم يفرطوا في الشرب بل اقتصروا على الغرفة باليد وكانت تكفيهم لشربهم وإداوتهم كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج عنه أيضا أن من شرب لم يزدد إلا عطشا،
وفي رواية إن الذين شربوا اسودت شفاههم وغلبهم العطش
وكان ذلك من قبيل المعجزة
561
لذلك النبي، وقرأ أبي، والأعمش- إلا قليل- بالرفع وجعلوه من الميل إلى جانب المعنى فإن قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ في قوة أن يقال: فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثنى مرفوعا كما في قول الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان- لم يدع-... من المال إلا مسحت أو مجلف
فإن قوله: لم يدع في حكم لم يبق. وذهب أبو حيان إلى أنه لا حاجة إلى التأويل، وجوز في الموجب وجهين النصب وهو الأفصح والإتباع لما قبله على أنه نعت أو عطف بيان وأورد له قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه... لعمر أبيك إلا الفرقدان
ولا يخفى ما فيه فَلَمَّا جاوَزَهُ أي النهر وتخطاه هُوَ أي طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل، والمراد بهم القليلون والتعبير عنهم بذلك تنويها بشأنهم وإيماء إلى أن من عداهم بمعزل عن الإيمان مَعَهُ متعلق- يجاوز- لا- بآمنوا- وجوز أن يكون خبرا عن الَّذِينَ بناء على أن الواو للحال كأنه قيل:
فَلَمَّا جاوَزَهُ والحال إن الذين آمنوا كائنون مَعَهُ.
قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لا قدرة لنا بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن الغلبة عليهم، وجالوت كطالوت، والقائل بعض المؤمنين لبعض وهو إظهار ضعف لا نكوص لما شاهدوا من الأعداء ما شاهدوا من الكثرة والشدة، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح، وقيل: ثلاثمائة ألف قالَ على سبيل التشجيع لذلك البعض وهو استئناف بياني الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ بالبعث والرجوع إلى ما عنده وهم الخلص من أولئك والأعلون إيمانا فلا ينافي وصفهم بذلك إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة ويحتمل إبقاء الظن على معناه، والمراد يظنون أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله تعالى، وقيل: الموصول عبارة عن المؤمنين كافة، وضمير قالُوا للمنخزلين عنهم كأنهم قالوا ذلك اعتذارا عن التخلف والنهر بينهما ولا يخفى بعده لأن الظاهر أنهم قالوا هذه المقالة عند لقاء العدو ولم يكن المنخزلون إذ ذاك معهم، وأيضا أي حاجة إلى إبداء العذر عن التخلف مع ما سبق من طالوت أن الكارعين ليسوا منه في شيء فلو لم ينخزلوا لمنعوا من الذهاب مَعَهُ كَمْ مِنْ فِئَةٍ أي قطعة من الناس وجماعة- من فأوت رأسه- إذا شققته أو من فاء إليه إذا رجع وأصلها على الأول فيوة فحذفت لامها فوزنها فعة، وأصلها على الثاني فيئة فحذفت عينها فوزنها فله. وكَمْ هنا خبرية ومعناها كثير، ومَنْ زائدة، وفِئَةٍ تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون مِنْ فِئَةٍ في موضع رفع صفة ل- كم- كما تقول عندي مائة من درهم ودينار، وجوز بعضهم أن تكون كَمْ استفهامية ولعله ليس على حقيقته، ونقل عن الرضي أن مَنْ لا تدخل بعد كَمْ الاستفهامية، فالقول بالخبرية أولى قَلِيلَةٍ نعت- لفئة- على لفظها غَلَبَتْ أي قهرت عند المحاربة فِئَةً كَثِيرَةً بالنسبة إليها.
بِإِذْنِ اللَّهِ أي بحكمه وتيسيره ولم يقولوا أطاقت حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغة في تشجيعهم وتسكين قلوبهم، وإذا حمل التنوين في فِئَةٍ الأولى للتحقير، وفي- فئة- الثانية للتعظيم كان أبلغ في التشجيع وأكمل في التسكين وقد ورد مثل ذلك في قوله:
له حاجب عن كل أمر يشينه... وليس له عن طالب العرف حاجب
وهذا كما ترى ناشىء من كمال- إيمانهم بالله واليوم الآخر- وتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى كما لا يعجزه إماتة الاحياء فضلا عن نصرة الضعفاء فلا ريب في أن ما في حيز الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول لا سيما وقد أخذ فيه إذن الله تعالى وحكمه، ومن لا يؤمن بلقاء الله تعالى لا يكاد يقرب من هذا
562
القيد قيد شبر فاندفع بهذا ما قاله- مولانا مفتي الديار الرومية- من أن هذا الجواب كما ترى ناشىء من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه، ولا ريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فإن الملاءمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره رحمه الله تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة فإنه بمعزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس هو من قبيل قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ المراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك كما لا يخفى، وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين أتى به تكميلا للتشجيع وترغيبا بالصبر بالإشارة إلى ما فيه، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام من جهته تعالى جيء به تقريرا لكلامهم ودعاء للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم وَلَمَّا بَرَزُوا أي ظهر طالوت ومن معه وصاروا في براز من الأرض وهو ما انكشف منها واستوى لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لمحاربتهم وقتالهم قالُوا جميعا بعد أن قويت قلوب الضعفاء متضرعين إلى الله تعالى متبرئين من الحول والقوة.
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي صب ذلك علينا ووفقنا له، والمراد به حبس النفس للقتال وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي هب لنا كمال القوة والرسوخ عند المقارعة بحيث لا تتزلزل، وليس المراد بتثبيت الاقدام مجرد تقررها في حين واحد إذ ليس في ذلك كثير جدوى وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي أعنّا عليهم بقهرهم وهزمهم، ووضع الْكافِرِينَ موضع الضمير العائد إلى- جالوت وجنوده- للإشعار بعلة النصر عليهم، وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى، أما أولا فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال، وأما ثانيا فلأن فيه الإفراغ، وهو يؤذن بالكثرة، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه، وأما ثالثا فلأن فيه التعبير- بعلى- المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين، وأما رابعا فلأن فيه تنكير صبرا المفصح عن التفخيم، وأما خامسا فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبيت وأما سادسا فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا أولا إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء وثانيا ثبات القدم والقوة على مقاومة العدوّ حيث إن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له، وثالثا العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة، وقيل: إنما طلبوا أولا إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر، وثانيا التثبيت لأنه متفرع عليه، وثالثا النظر لأنه الغاية القصوى، واعترض هذا بأنه يقتضي حينئذ التعبير بالفاء لأنها التي تفيد الترتيب، وأجيب بأن الواو أبلغ لأنه عول في الترتيب على الذهن الذي هو أعدل شاهد كما ذكر السكاكي فَهَزَمُوهُمْ أي كسروهم وغلبوهم، والفاء فيه فصيحة أي استجاب الله تعالى دعاءهم فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته انهزامهم ويؤول إلى نصره وتأييده، والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة وَقَتَلَ داوُدُ هو ابن إيشا جالُوتَ
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: لما برز طالوت لجالوت قال جالوت: أبرزوا إليّ من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فأتي بداود إلى طالوت فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكمه في ماله فألبسه طالوت سلاحا فكره داود أن يقاتله بسلاح وقال: إن الله تعالى إن لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئا فخرج إليه بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار ثم برز له فقال له جالوت: أنت تقاتلني؟ قال داود: نعم قال: ويلك ما خرجت إلا
563
كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة لأبددن لحمك ولأطعمنه اليوم للطير والسباع فقال له داود: بل أنت عدوّ الله تعالى شر من الكلب فأخذ داود حجرا فرماه بالمقلاع فأصابت بين عينيه حتى قعدت في دماغه فصرخ جالوت وانهزم من معه واحتز رأسه وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في بني إسرائيل بعد ما قتل جالوت وهلك طالوت، وذلك أن طالوت- كما روي في بعض الأخبار- لما رجع وفى بالشرط فأنكح داود ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده فأراد قتله فعلم به داود فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود فضرب الزق ضربة فخرقه فسال الخمر منه فقال: يرحم الله تعالى داود ما كان أكثر شربه للخمر ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس فقال: اليوم أقتل داود وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت ففزع داود فاشتد فدخل غارا وأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال: لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت فرجع،
وجعل العلماء والعباد يطعنون عليه بما فعل مع داود وجعل هو يقتل العلماء وسائر من ينهاه عن قتل داود حتى قتل كثيرا من الناس ثم إنه ندم بعد ذلك وخلى الملك وكان له عشرة بنين فأخذهم وخرج يقاتل في سبيل الله تعالى كفارة لما فعل حتى قتل هو وبنوه في سبيل الله تعالى فاجتمعت بنو إسرائيل على داود وملكوه أمرهم فهذا إيتاء الملك وَالْحِكْمَةَ المراد بها النبوة ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله بل كانت النبوة في سبط، والملك في سبط، وهذا بعد موت ذلك النبي وكان موته قبل طالوت، وذكر الحكمة بعد الملك لأنها كانت بعده وقوعا أو للترقي من ذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كصنعة اللبوس ومنطق الطير وكلام الدواب، والضمير المستتر راجع إلى الله تعالى، وعوده إلى داود كما قال- السمين ضعيف- لأن معظم ما علمه تعالى له مما لا يكاد يخطر ببال، ولا يقع في أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ وهم أهل الشرور في الدنيا أو في الدين أو في مجموعهما بِبَعْضٍ آخر منهم يردهم عما هم عليه بما قدره الله تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره، وقرأ نافع هنا وفي الحج- دفاع- على أن صيغة المغالبة للمبالغة لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يصلح الأرض ويعمرها، وقيل: هو كناية عن فساد أهلها وعموم الشر فيهم، وفي هذا تنبيه على فضيلة الملك وأنه لولاه ما استتب أمر العالم، ولهذا قيل: الدين والملك توأمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر لأن الدين أس والملك حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع.
وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ لا يقدر قدره عَلَى الْعالَمِينَ كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع «نقيض» المقدم منتج- لنقيض- التالي خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى يتفضل في ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل: ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وينتظم به مصالح العالم وينصلح أحوال الأمم، قاله مولانا مفتي الديار الرومية قدس سره.
واعترض بأنه مخالف لقول المنطقيين إن المتصلة ينتج استثناء عين مقدمها عين تاليها لاستلزام وجود الملزوم وجود اللازم واستثناء نقيض تاليها نقيض المقدم لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم ولا ينعكس فلا ينتج استثناء عين
564
التالي عين المقدم ولا نقيض المقدم نقيض التالي لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم ولا من عدم الملزوم عدم اللازم، وأجيب بأن ذلك إنما هو باعتبار الهيئة. وقد يستلزمه بواسطة خصوصية مادة المساواة، وقد صرح ابن سينا في الفصول بأن الملازمة إذا كانت من الطرفين كما بين العلة والمعول ينتج استثناء كل من المقدم والتالي عين الآخر ونقيضه نقيض الآخر، وفي تعليل القوم أيضا إشارة إليه حيث قالوا: لجواز أن يكون اللازم أعم وكأن في عبارة المولى إشارة إلى أن الملازمة في الشرطية من الطرفين حيث قال: منتج ولم يقل ينتج اهـ.
وأجاب بعضهم بأن قولهم ذلك ليس على سبيل الاطراد بل إذا كان نقيض المقدم أعم من نقيض التالي، وأما إذا كان نقيضه بعكس هذا كما في هذه الآية الكريمة وأمثالها فإنه ينتج التالي، وذلك أن الدفع المذكور لما كان ملزوما لعدم فساد الأرض كانت الملازمة ثابتة بينهما لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم كما بين في موضعه وادعاء أن الملازمة من الطرفين هنا كما زعمه المجيب الأول ليس بشيء بل اللازم هاهنا أعم من الملزوم كما لا يخفى على ذي روية، وكون عبارة المولى مشيرة إلى أن الملازمة من الطرفين في حيز المنع وما ذكره لا يدل عليه كما لا يخفى فافهم وتدبر فإن نظر المولى دقيق تِلْكَ آياتُ اللَّهِ إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وموتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره بالآية وإهلاك الجبابرة على يد صبي وما فيه البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه، وقيل: إشارة إلى ما مر من أول السورة إلى هنا وفيه بعد، والجملة على التقديرين مستأنفة، وقوله تعالى: نَتْلُوها عَلَيْكَ أي بواسطة جبريل عليه السلام إما حال من الآيات والعامل معنى الإشارة، وإما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب بِالْحَقِّ في موضع النصب على أنه حال من مفعول نتلوها أي متلبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما عندهم أو لا ينبغي أن يرتاب فيه أو من فاعله أي نتلوها عليك متلبسين بالحق والصواب وهو معنا أو من الضمير المجرور أي متلبسا بالحق وهو معك.
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث تخبر بتلك الآيات وقصص القرون الماضية وأخبارها على ما هي عليه من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع بأحد يخبر بذلك. ووجه مناسبة هذه القصة لما قبلها ظاهرة وذلك لأنّه تعالى لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيله وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت إما بالطاعون أو القتال على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين والاعلام أنه لا ينجي حذر من قدر. أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة فليس من الأحكام التي خصصتم بها لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يقع به الانفراد هذا «ومن باب الاشارة» في هذه الآيات أَلَمْ تَرَ إِلَى ملأ القوى مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ البدن مِنْ بَعْدِ مُوسى القلب إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ عقولهم ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه بواسطة أمره وإرشاده قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي إني أتوقع منكم عدم المقاتلة لانغماسكم في أوحال الطبيعة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ في طريق السير إلى الله تعالى، وقد أخرجنا من ديار استعداداتنا الأصلية التي لم نزل بالحنين إليها واغتربنا عن أبناء كمالاتنا اللاتي لم نبرح عن مزيد البكاء عليها فلما كتب عليهم القتال لعدوهم الذي تسبب لهم الاغتراب، وأحل بهم العجب العجاب تولوا وأعرضوا عن مقاتلته وانتظموا في سلك شيعته إلا قليلا منهم وهم القوى المستعدة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين نقصوا حظوظهم وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ الروح الإنساني ملكا متوجا بتاج الأنوار الإلهية جالسا على كسرى التدبيرات الصمدانية قالوا لاحتجابهم بحجاب الانانية وغفلتهم عن العلوم الحقانية كيف يكون له الملك علينا مع انحطاط مرتبته بتنزله إلى عالم الكثافة من عالمه الأصلي وليس فيه مشابهة لنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ لاشتراكنا في
565
عالمنا ومشابهة بعضنا بعضا وشبيه الشيء ميال إليه قريب اتباعه له ولكل شيء آفة من جنسه وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً من مال التصرف إذ لا يتصرف إلا بالواسطة قال: إن الله تعالى اختاره عليكم لبساطته وتركبكم وزاده سعة في العلم الإلهي وقوة في الذات النوراني، والله يؤتي ملكه من يشاء فيدبره بإذنه، والله واسع لسعة الإطلاق، عليم بالحكم التي تقتضي الظهور والتجلي بمظاهر الأسماء، وقال لهم نبيهم إن آية ملكه عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم أن يأتيكم تابوت الصدر فيه سكينة أي طمأنينة من ربكم وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس بالله تعالى، وبقية مما ترك آل موسى القلب وآل هارون السر، وهي من التوحيد وعصا لا إله إلا الله التي تلقف عظيم سحر صفات النفس وطست تجلي الأنوار الذي يغسل به قلوب الأنبياء وشيء من توراة الإلهامات تحمله ملائكة الاستعدادات لدى طالوت الروح فعند ذلك تسلم له الخلافة وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان، فلما فصل طالوت وجنوده من وزير العقل ومشير القلب ومدبر الافهام ونظام الحواس قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ الطبيعة الجسمانية المترع بمياه الشهوات فمن شرب منه وكرع مفرطا في الري فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات وأهل مكاشفات الصفات ومن لم يطعمه ويذقه فإنه من سكان حظائر القدس وحضار جلوة عرائس منصة الأنس إلا من اغترف غرفة بيده وقنع من ذلك بقدر الضرورة ولاحتياج من غير حرض وانهماك فشربوا منه وكرعوا وانهمكوا فيه إلا قليلا منهم وهم المتنزهون عن الأقذار الطبيعية المتقدسون عن ملابسها المتجردون عن غواشيها وقليل ما هم فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره هو والذين آمنوا من القلب والعقل والملك وغيرهم من أتباع الروح معه، قال بعضهم وهم الضعفاء الذين لم يصلوا إلى مقام التمكين لا طاقة لنا اليوم بمحاربة جالوت النفس وأعوانه لعراقتهم بالخدع والدسائس قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو الله بالرجوع إليه: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وقهرتها حتى أذهبت كثرتها بإذن الله وتيسيره، والله مع الصابرين بالتجلي الخاص لهم، فلما برزوا لحرب جالوت وجنوده تبرؤوا من الحول والقوة وقالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا واستقامة، وثبت أقدامنا في ميادين الجهاد حتى لا نرجع القهقرى من بعد وانصرنا على أعدائنا الذين ستروا الحق، وهم النفس الأمارة وصفاتها فهزموهم وكسروهم بإذن الله
وقتل داود القلب جالوت النفس، ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين فلا يخشون الرجعة والردة، وكان قد رماه بحجر التسليم في مقلاع الرضا بيد ترك الالتفات إلى السوي فأصاب ذلك دماغ هواه فخر صريعا فآتى الله تعالى داود ملك الخلافة وحكمة الإلهامات وعلمه مما يشاء من صنعة لبوس الحروب ومنطق طيور الواردات وتسبيح جبال الأبدان، ولولا دفع الله الناس بعضهم كأرباب الطلب ببعض كالمشايخ الواصلين لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم عند استيلاء جالوت النفس، ولكن الله ذو فضل على العالمين، ومن فضله تحريك سلسلة طلب الطالبين وإلهام أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم والتشبث بأهداب سيرتهم فسبحانه من جواد لا يبخل ومتفضل على من سأل ومن لم يسأل.
تم طبع الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوله تِلْكَ الرُّسُلُ
566

بسم الله الرحمن الرحيم

3
تِلْكَ الرُّسُلُ استئناف مشعر بالترقي كأنه قيل: إنك لمن المرسلين وأفضلهم فضلا، والإشارة لجماعة الرسل الذين منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما فيه من معنى البعد- كما قيل- للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم، واللام للاستغراق، ويجوز أن تكون للجماعة المعلومة له صلّى الله عليه وسلم أو المذكورة قصصها في السورة، واللام للعهد، واختيار جمع التكسير لقرب جمع التصحيح فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست تلك المنقبة للبعض الآخر، وقيل: المراد التفضيل بالشرائع فمنهم من شرع، ومنهم من لم يشرع، وقيل: هو تفضيل بالدرجات الأخروية ولا يخفى ما في كل، ويؤيد الأول قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ فإنه تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا، والجملة لا محل لها من الإعراب، وقيل: بل من فَضَّلْنا والمراد بالموصول إما موسى عليه السلام فالتعريف عهدي، أو كل من كلمه الله تعالى عن رضا بلا واسطة، وهم آدم- كما ثبت في الأحاديث الصحيحة- وموسى وهو الشهير بذلك، ونبينا صلّى الله عليه وسلم وهو المخصوص بمقام قاب والفائز بعرائس خطاب ما تعرض بالتعريض لها الخطاب، وقرىء كَلَّمَ اللَّهُ بالنصب وقرأ اليماني- كالم الله- من المكالمة قيل: وفي إيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات تربية للمهابة ورمز إلى ما بين التكلم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي ومنهم من رفعه الله تعالى على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة، وتغيير الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف، والمراد ببعضهم هنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما ينبئ عنه الأخبار بكونه صلّى الله عليه وسلم منهم فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الأماني حسرى.
وامتاز بخواص علمية وعملية لا يستطيع لسان الدهر لها حصرا. ورقي أعلام فضل رفعت له على كواهله الأعلام.
وطأطأت له رؤوس شرفات الشرف فقبلت منه الأقدام فهو المبعوث رحمة للعالمين. والمنعوت بالخلق العظيم بين المرسلين، والمنزل عليه قرآن مجيد لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:
٤٢] والمؤيد دينه المؤيد بالمعجزات المستمرة الباهرة. والفائز بالمقام المحمود والشفاعة العظمى في الآخرة، والإبهام لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلم الفرد الغني عن التعيين، وقيل: المراد به إبراهيم حيث خصه الله تعالى بمقام الخلة التي هي أعلى المراتب ولا يخفى ما فيه، وقيل: إدريس لقوله تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: ٥٧]، وقيل:
أولو العزم من الرسل، وفيه- كما في الكشف- أنه لا يلائم ذوق المقام الذي فيه الكلام البتة، وكذا الكلام عندي في سابقه إذ الرفعة عليه حقيقة والمقام يقتضي المجاز كما لا يخفى، ودرجات- قيل: حال من بعضهم على معنى ذا درجات، وقيل: انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قيل: ورفعنا بعضهم رفعات، وقيل: التقدير- على- أو- إلى- أو- في- درجات فلما حذف حرف الجر وصل الفعل بنفسه، وقيل: إنه مفعول ثان لرفع على أنه ضمن معنى بلغ، وقيل: إنه بدل اشتمال وليس بشيء وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى. والاخبار بما يأكلون ويدخرون، أو الإنجيل، أو كلما يدل على نبوته، وفي ذكر ذلك في مقام التفضيل إشارة إلى أنه السبب فيه، وهذا يقتضي أفضلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر الأنبياء إذ له من قداح ذلك المعلى والرقيب. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قد تقدم تفسيره، وإفراده عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه من التفريط والإفراط، والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم السلام متفاوتة الأقدار
4
فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع لأن الظن في الاعتقاديات لا يغني من الحق شيئا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي جاؤوا من بعد كل رسول كما يقتضيه المعنى لا جميع الرسل كما هو ظاهر اللفظ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله تعالى عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على الحق وإتباع الرسل الذين جاؤوا به فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة، ومن قدر- ولو شاء الله هدى الناس جميعا ما اقتتل- إلخ وعدل عما تقتضيه القاعدة ظنا بأن هذا العدم لا يحتاج إلى مشيئة وإرادة بل يكفي فيه عدم تعلق الإرادة بالوجود لم يأت شيء مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ من جهة أولئك الرسل، وقيل: الضمير عائد إلى الذين من قبلهم وهم الرسل، المجرور متعلق- باقتتل- وقيل: بدل من نظيره مما قبله الْبَيِّناتِ أي المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة للاتباع الزاجرة عن الاعراض المؤدي إلى الاقتال وَلكِنِ اخْتَلَفُوا استدراك إن الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشىء من قبلهم وسوء اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداء كأنه قيل: ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ أي بما جاءت به أولئك الرسل وثبت على إيمانه وعمل بموجبه، وهذا بيان للاختلاف فلا محل للجملة من الإعراب وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة عدم مشيئته لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب ما اقتضته أحوالهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف المستتبع للقتال عادة مَا اقْتَتَلُوا وما رفعوا رأس التطاول والتعادي لما أن الكل بيد قهره فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك بقوله عز وجل: وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه عنه مانع كذا قرره المولى أبو السعود قدس سره وهو من الحسن بمكان إلا أنه قد اعترضه العلامة عبد الباقي البغدادي في تفسيره بنحو ما تقدم آنفا في نظير هذا القياس، وذكر أنه خلاف استعمال لَوْ عند أرباب العربية وأرباب الاستدلال ولعل الجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك مع أدنى تغيير فلا تغفل، وما ذكره من توجيه التكرير مما تفرد به فما أعلم، والأكثرون على أنه للتأكيد إلا أن وراءه سرا خص منه- كما ذكره صاحب الانتصاف- وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول طرت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها، وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك وطريق معبد، وفي كتاب الله تعالى مواضع من ذلك منها قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل:
١٠٦] وهذه الآية من هذا النمط فإنه لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ثم لما طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعبر عنه في قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال ليتلوه عموم تعلق المشيئة ليتناسب الكلام ويقرن كل بشكله وهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح له السر ولعله أحسن من القول بأن الأول بلا واسطة والثاني بواسطة المؤمنين أو بالعكس، هذا وفي الآية دليل على أن الحوادث تابعة لمشيئة الله تعالى خيرا كانت أو شرا إيمانا أو كفرا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ قيل: أراد به الفرض كالزكاة دون النفل لأن الأمر حقيقة في الوجوب ولاقتران الوعيد به وهو المروي عن الحسن، وقيل: يدخل فيه الفرض والنفل وهو المروي عن ابن جريج
5
واختاره البلخي، وجعل الأمر لمطلق الطلب وليس فيما بعد سوى الأخبار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ترغيبا في الإنفاق وليس فيه وعيد على تركه ليتعين الوجوب، وقال الأصم: المراد به الإنفاق في الجهاد، والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد معنى، وبذلك ترتبط الآية بما قبلها ولا يخفى أن هذا الدليل مما لا ينبغي أن يسمع لأن الارتباط على تقدير العموم حاصل أيضا بدخول الإنفاق المذكور فيه دخولا أوليا، وكذا على تقدير إرادة الفرض لأن الإنفاق في الجهاد قد يكون فرضا إذا توقف الفرض عليه، ومَا موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق والترغيب فيه.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ أي لا مودة ولا صداقة وَلا شَفاعَةٌ أي لأحد إلا من بعد أن يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى وأراد بذلك يوم القيامة، والمراد- من وصفه بما ذكر- الإشارة إلى أنه لا قدرة لأحد فيه على تحصيل ما ينتفع به بوجه من الوجوه لأن من في ذمته حق مثلا إما أن يأخذ بالبيع ما يؤديه به. وإما أن يعينه أصدقاؤه. وإما أن يلتجئ إلى من يشفع له في حطه والكل منتف ولا مستعان إلا بالله عز وجل ومِنْ متعلقة بما تعلقت به أختها ولا ضير لاختلاف معنييهما إذ الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية وإنما رفعت هذه المنفيات الثلاثة مع أن المقام يقتضي التعميم والمناسب له الفتح لأن الكلام على تقدير- هل بيع فيه أو خلة أو شفاعة- والبيع وأخواه فيه مرفوعة فناسب رفعها في الجواب مع حصول العموم في الجملة وإن لم يكن بمثابة العموم الحاصل على تقدير الفتح، وقد فتحها ابن كثير. وأبو عمرو. ويعقوب على الأصل في ذكر ما هو نص في العموم كذا قالوا، ولعل الأوجه القول بأن الرفع لضعف العموم في غالبها وهو الخلة والشفاعة للاستثناء الواقع في بعض الآيات، والمغلوب منقاد لحكم الغالب، وأما ما قالوه فيرد عليه أن ما بعد يَوْمٌ جملة وقعت بعد نكرة فهي صفة غير مقطوعة، ولا يقدر بين الصفة والموصوف إذا لم يكن قطع سؤال قطعا، واعتبار كون النكرة موصوفة بما يفهمه التنوين من التعظيم فتقدر الجملة صفة مقطوعة تحقيقا لذلك وتقريرا له فيصح تقدير السؤال حينئذ مما لا يكاد يقبله الذهن السليم وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم لتناهي ظلمهم، والجملة معطوفة على محذوف- أي فالمؤمنون المتقون موفون والكافرون- إلخ والمراد بهم تاركو الإنفاق رأسا، وعبر عن التارك بالكافر تغليظا حيث شبه فعله وهو ترك الإنفاق بالكفر، أو جعل مشارفة عليه، أو عبر بالملزوم عن اللازم فهو إما استعارة تبعية أو مجاز مشارفة أو مجاز مرسل أو كناية ومثل ذلك وضع من كفر موضع من لم يحج آخر آية الحج، وبعضهم لم يتجوز بالكفر وقال: أن عبارة عن الكفر بالله تعالى حقيقة، وفائدة الإخبار حينئذ الإشارة إلى أن نفى تلك الأشياء بالنسبة إليهم وأن ذلك لا يعد منا ظلما لهم لأنهم هم الظالمون لأنفسهم المتسببون لذلك.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر، والمراد هو المستحق للعبودية لا غير، قيل: وللناس- في رفع الضمير المنفصل وكذا في الاسم الكريم إذا حل محله- أقوال خمسة: قولان معتبران، وثلاثة لا معول عليها، فالقولان المعتبران: أحدهما أن يكون رفعه على البدلية، وثانيهما أن يكون على الخبرية- والأول هو الجاري على ألسنة المعربين- وهو رأي ابن مالك، وعليه إما أن يقدر للأخير أولا، والقائلون بالتقدير اختلفوا فمن مقدر أمرا عاما كالوجود والإمكان ومن مقدر أمرا خاصا كلنا وللخلق، واعترض تقدير العام بأنه يلزم منه أحد المحذورين إما عدم إثبات الوجود بالفعل لله تعالى شأنه وإما عدم تنزهه سبحانه عن إمكان الشركة، وكذا تقدير الخاص يرد عليه أنه لا دليل عليه أو فيه خفاء، ويمكن الجواب باختيار تقديره عاما، ولا محذور أما على تقدير الوجود فلأن نفي الوجود يستلزم نفي
6
الإمكان إذ لو اتصف فرد آخر بوجوب الوجود لوجد ضرورة فحيث لم يوجد علم عدم اتصافه به وما لم يتصف بوجوب الوجود لم يمكن أن يتصف به لاستحالة الانقلاب، وأما على تقدير الإمكان فلأنّا نقول قد ظهر أن إمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد إمكانه يستفاد وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود على أنه قد ذكر غير واحد أن نفي وجود إله غيره تعالى يجوز أن يكون مرتبة من التوحيد يناط بها الإسلام ويكتفى بها من أكثر العوام، وإن لم يعلموا نفي إمكانه سيما مع الغفلة وعدم الشعور به فلا يضر عدم دلالة الكلمة عليه بل قال بعضهم: إن إيجاب النفي جاء والآلهة غير الله تعالى موجودة، وقد قامت عبادتها على ساق، وعكف عليها المشركون في سائر الآفاق، فأمر الناس بنفي وجودها من حيث إنها آلهة حقة ولو كان إذ ذاك قوم يقولون بإمكان وجود إله حق غيره تعالى لكنه غير موجود أصلا لأمروا بنفي ذلك الإمكان ولا يخفى أن هذا ليس من المتانة بمكان، ويمكن الجواب باختيار تقديره خاصا بأن يكون ذلك الخاص مستحقا للعبادة والمقام قرينة واضحة عليه، واعترض بأنه لا يدل على نفي التعدد لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة وبأنه يمكن أن يقال: إن المراد إما نفي المستحق غيره تعالى بالفعل أو الإمكان، والأول لا ينفي الإمكان، والثاني لا يدل على استحقاقه تعالى بالفعل، وأجيب بأن من المعلوم بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل ولا معنى لاستحقاق العبادة سواه فإذا لم يستحق غيره تعالى للعبادة لم يوجد غيره تعالى وإلا لاستحق العبادة قطعا وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا على ما أشير إليه فثبت أن نفي الاستحقاق يستلزم نفي التعدد مطلقا، والقائلون بعدم تقدير الخبر ذهب الأكثر منهم إلى أن لا هذه لا خبر لها، واعترض بأنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك، وأجيب بأن القول بعدم الاحتياج لا يخرج المركب من لا واسمها عن العقد لأن معناه انتفى هذا الجنس من غير هذا الفرد وإلا عند هؤلاء بمعنى غير تابعة لمحل اسم لا وظهر إعرابها فيما بعدها ولا مجال لجعلها للاستثناء إذ لو كانت له لما أفاد الكلام التوحيد لأن حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفاء أفراد غير خارج عنها ذلك وهو بمعزل عن التوحيد كما لا يخفى، واستشكل الإبدال من جهتين، الأول أنه بدل بعض ولا ضمير للمبدل منه وهو شرط فيه، الثاني أن بينهما مخالفة فإن البدل موجب والمبدل منه منفي، وأجيب عن الأول بأن إِلَّا تغني عن الضمير لإفهامها البعضية، وعن الثاني بأنه بدل عن الأول في عمل العامل، وتخالفهما في الإيجاب والنفي لا يمنع البدلية على أنه لو قيل إن البدل في الاستثناء على حدة لم يبعد.
والثاني من القولين الأولين وهو القول بخبرية ما بعد إِلَّا ذهب إليه جماعة وضعف بأنه يلزم عمل لا في المعارف وهي لا تعمل فيها وبأن اسمها عام وما بعد إلا خاص فكيف يكون خبرا، وقد قالوا: بامتناع الحيوان إنسان، وأجيب عن الأول بأن لا لا عمل لها في الخبر على رأي سيبويه وأنه حين دخولها مرفوع بما كان مرفوعا به قبل فلم يلزم عملها في المعرفة وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم أن في التركيب قد أخبر بالخاص عن العام إذ العموم منفي والكلام مسوق العموم، والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام وفيه ما فيه.
وأما الأقوال الثلاثة التي لا يعول عليها فأولها أن إلا ليست أداة استثناء وإنما هي بمعنى غير وهي مع اسمه تعالى شأنه صفة لا اسم لا باعتبار المحل، والتقدير لا إله غير الله تعالى في الوجود، وثانيها- وقد نسب للزمخشري- أن لا إله في موضع الخبر، وإِلَّا وما بعدها في موضع المبتدأ، والأصل هو، أو الله إله فلما أريد قصر الصفة على
7
الموصوف قدم الخبر وقرن المبدأ- بإلا- وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه، وثالثها أن ما بعد إِلَّا والمقصور هو الواقع في سياق النفي، والمبتدأ إذا اقترن- بإلا- وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه، وثالثها أن ما بعد إِلَّا مرفوع- بإله- كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا لأن إلها بمعنى مألوه فيكون قائما مقام الفاعل وسادّا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران، ويرد على الأول أن فيه خللا من جهة المعنى لأن المقصود من الكلمة أمران نفي الإلهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وهذا إنما يتم إذا كان إِلَّا فيها للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق، وأما إذا كانت بمعنى غير فلا يفيد الكلام بمنطوقه إلا نفي الإلهية عن غيره تعالى، وأما إثباتها له عز اسمه فلا يستفاد من التركيب واستفادته من المفهوم لا تكاد تقبل لأنه إن كان مفهوم لقب فلا عبرة به ولو عند القائلين بالمفهوم إذ لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه، ويرد على الثاني أنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه أن يكون الخبر مبنيا مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ، وأيضا لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد إِلَّا في مثل هذا التركيب وجه، وقد جوزه فيه جماعة، وعلى الثالث أنا لا نسلم أن إلها وصف وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به.
هذا ولي إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة إلى ما في هذه الكلمة الطيبة من الكلام، وفي قوله تعالى:
الْحَيُّ سبعة أوجه من وجوه الإعراب: الأول أن يكون خبرا ثانيا للفظ الجلالة، الثاني أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هو الحي، الثالث أن يكون بدلا من قوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، الرابع أن يكون بدلا من هُوَ وحده، الخامس أن يكون مبتدأ خبره لا تَأْخُذُهُ، السادس أنه بدل من الله، السابع أنه صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت، وفي أصله قولان: الأول أن أصله- حيي- بياءين من حيي يحيي، والثاني أنه حيو فقلبت الواو المتطرفة المنكسر ما قبلها ياء، ولذلك كتبوا الحياة بواو في رسم المصحف تنبيها على هذا الأصل، ويؤيده الحيوان لظهور هذا الأصل فيه، ووزنه قيل: فعل، وقيل: فيعل فخفف كميت في ميت، والحياة عند الطبيعي القوة التابعة للاعتدال النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية. أو قوة التغذية، أو قوة الحس، أو قوة تقتضي الحس والحركة. والكل مما يمتنع اتصاف الله تعالى به لأنه من صفات الجسمانيات فهي فيه سبحانه صفة موجودة حقيقية قائمة بذاته لا يكتنه كنهيها ولا تعلم حقيقتها كسائر صفاته جل شأنه زائدة على مجموع العلم والقدرة وليست نفس الذات حقيقة ولا ثابتة لا موجودة ولا معدومة- كما قيل بكل- فالحي ذات قامت به تلك الصفة، وفسره بعض المتكلمين بأنه الذي يصح أن يعلم ويقدر، واعترضه الإمام بأن هذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله تعالى نفسه بصفة يشاركه بها أخس الحيوانات. ثم قال والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن نفس هذه الصحة بل كل شيء كان كاملا في جنسه يسمى حيا ألا يرى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات، والصفة المسماة في عرف المتكلمين حياة إنما سميت بها لأنها كمال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحال حياة فالمفهوم الأصلي من الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيدا دل على أنه كامل على الإطلاق والكامل كذلك من لا يكون قابلا للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية والإضافية انتهى، ولا يخفى أنه صرح ممرد من قوارير أما أولا فلأن قوله: إن الحي- بمعنى الذي يصح أن يعلم ويقدر مما يشترك به سائر الحيوانات فلا يحسن أن
8
يمدح الله تعالى به نفسه- في غاية السقوط لأنه إن أراد الاشتراك في إطلاق اللفظ فليس الحي وحده كذلك بل السميع، والبصير أيضا مثله في الإطلاق على أخس الحيوانات، وقد مدح الله تعالى بهما نفسه ولم يستشكل ذلك أهل السنة، وإن أراد الاشتراك في الحقيقة فمعاذ الله تعالى من ذلك إذ الاشتراك فيها مستحيل بين التراب ورب الأرباب، وبين الأزلي والزائل، ومتى قلت إن الاشتراك في إطلاق اللفظ يوجب ذلك الاشتراك حقيقة ولا مناص عنه إلا بالحمل على المجاز لزمك مثل ذلك في سائر الصفات ولا قائل به من أهل السنة، وأما ثانيا فلأن كون الحياة في اللغة بمعنى الكمال مما لم يثبت في شيء من كتب اللغة أصلا وإنما الثابت فيها غير ذلك ووصف الجمادات بها إنما هو على سبيل المجاز دون الحقيقة كما وهم فإن قال: إنها مجاز في الله تعالى أيضا بذلك المعنى عاد الأشكال بحصول الاشتراك في الكمال مع الجمادات فضلا عن الحيوان، فإن قال: كمال كل شيء بالنسبة إلى ما يليق به قلنا: فحياة كل حي حقيقة بالنسبة إلى ما يليق به، وليس كمثل الله تعالى شيء، وكأني بك تفهم من كلامي الميل إلى مذهب السلف في مثل هذه المواطن فليكن ذلك فهم القوم كل القوم ويا حبذا هند وأرض بها هند والزمخشري فسر الحي بالباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وجعلوا ذلك منه تفسيرا بما هو المتعارف من كلام العرب وأرى أن في القلب منه شيء، ولعلي من وراء المنع لذلك، نعم روي عن قتادة أنه الذي لا يموت وهو ليس بنص في المدعى الْقَيُّومُ صيغة مبالغة للقيام وأصله قيووم على فيعول فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ولا يجوز أن يكون فعولا وإلا لكان قووما لأنه واوي، ويجوز فيه قيام
وقيم وبهما قرىء، وروى أولهما عن عمر رضي الله تعالى عنه، وقرىء القائم والقيوم بالنصب ومعناه كما قال الضحاك. وابن جبير: الدائم الوجود، وقيل: القائم بذاته، وقيل:
القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداء، وإيصال أرزاقهم إليهم- وهو المروي عن قتادة- وقيل: هو العالم بالأمور من قولهم فلان يقوم بالكتاب أي يعلم ما فيه، وقال بعضهم: هو الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه، وذكر الراغب أنه يقال:
قام كذا أي دام وقام بكذا أي حفظه، والقيوم القائم الحافظ لكل شيء والمعطى له ما به قوامه، والظاهر منه أن القيام بمعنى الدوام ثم يصير بالتعدية بمعنى الادامة وهو الحفظ فأورد عليه أن المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى القيوم عن أداتها بمعنى اللازم فلا يصح تفسيره بالحافظ ثم إن المبالغة في الحفظ كيف تفيد إعطاء ما به القوام، ولعله من حيث إن الاستقلال بالحفظ إنما يتحقق بذلك كما لا يخفى، وأورد على تفسيره بنحو القائم بذاته أن يكون معنى قيوم السموات والأرض الوارد في الأدعية المأثورة واجب السموات والأرض وهو كما ترى، فالظاهر أنه فيه بمعنى آخر مما يليق إذ لا يصح ذلك إلا بنوع تمحل، وذهب جمع إلى أن القيوم هو اسم الله تعالى الأعظم، وفسره هؤلاء بأنه القائم بذاته والمقوم لغيره، وفسروا القيام بالذات بوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات والتنزه عن سائر وجوه النقص وجعلوا التقويم للغير متضمنا جميع الصفات الفعلية فصح لهم القول بذلك، وأغرب الأقوال أنه لفظ سرياني ومعناه بالسريانية الذي لا ينام، ولا يخفى بعده لأنه يتكرر حينئذ في قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة- بكسر أوله- فتور يتقدم النوم وليس بنوم لقول عدي بن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه (سنة) وليس بنائم
والنوم بديهي التصور يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا، وزعم السيوطي في بعض رسائله أن سببه شم هواء يهب من تحت العرش، ولعله أراد تصاعد الأبخرة من المعدة تحت القلب الذي هو عرش الروح وإلا فلا أعقله، وتقديم- السنة- عليه وقياس المبالغة
9
يقتضي التأخير مراعاة للترتيب الوجودي فلتقدمها على النوم في الخارج قدمت عليه في اللفظ، وقيل: إنه على طريق التتميم وهو أبلغ لما فيه من التأكيد إذ نفي- السنة- يقتضي نفي النوم ضمنا فإذا نفى ثانيا كان أبلغ، ورد بأنه إنما هو على أسلوب الإحاطة والإحصاء وهو متعين فيه مراعاة الترتيب الوجودي والابتداء من الأخف فالأخف كما في قوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف: ٤٩] ولهذا توسطت كلمة لا تنصيصا على الإحاطة وشمول النفي لكل منهما، وقيل: إن تأخير النوم رعاية للفواصل ولا يخفى أنه من ضيق العطن، وقال بعض المحققين: هذا كله إنما يحتاج إليه إذا أخذ الأخذ بمعنى العروض والاعتراء، وأما لو أخذ بمعنى القهر والغلبة- كما ذكره الراغب، وغيره من أئمة اللغة- ومنه قوله تعالى: أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: ٤٢] فالترتيب على مقتضى الظاهر إذ يكون المعنى لا تغلبه- السنة، ولا النوم- الذي هو أكثر غلبة منها، والجملة نفي للتشبيه وتنزيه له تعالى أن يكون له مثل من الأحياء لأنها لا تخلو من ذلك فكيف تشابهه، وفيها تأكيد لكونه تعالى حيا قيوما لأن النوم آفة تنافي دوام الحياة وبقاءها وصفاته تعالى قديمة لا زوال لها ولأن من يعتريه النوم والغلبة لا يكون واجب الوجود دائمه ولا عالما مستمر العلم ولا حافظا قوي الحفظ،
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله تعالى فناداه ربه يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال: يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك»
ولما فيها من التأكيد كالذي بعدها ترك العاطف فيها وهي إما استئنافية لا محل لها من الإعراب وإما حال مؤكدة من الضمير المستكن في القيوم، وجوز أن تكون خبرا عن الحي أو عن الاسم الجليل لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ- تقريرا- لقيوميته تعالى- واحتجاج على تفرده في الإلهية، والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فيعلم من الآية نفي كون الشمس والقمر. وسائر النجوم.
والملائكة. والأصنام. والطواغيت آلهة مستحقة للعبادة مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ استفهام إنكاري ولذا دخلت إِلَّا والمقصود منه بيان كبرياء شأنه تعالى وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عنادا أو مناصبة وعداوة وفي ذلك تأييس للكافر حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي أمر الدنيا وَما خَلْفَهُمْ أي أمر الآخرة قاله مجاهد، وابن جريج، وغيرهما، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة، عكس ذلك، وقيل: يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم، وقيل: ما بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما فعلوه كذلك، وقيل: ما يدركونه وما لا يدركونه أو ما يحسونه ويعقلونه والكل محتمل، ووجه الإطلاق فيه ظاهر، وضمير الجمع يعود على ما في ما فِي السَّماواتِ إلخ إلا أنه غلب من يعقل على غيره، وقيل: للعقلاء في ضمنه فلا تغليب، وجوز أن يعود على ما دل عليه مَنْ ذَا من الملائكة والأنبياء، وقيل: الأنبياء خاصة، والعلم- بما بين أيديهم وما خلفهم- كناية عن إحاطة علمه سبحانه، والجملة إما استئناف أو خبر عما قبل أو حال من ضمير يشفع أو من المجرور في- بإذنه- وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي معلومه كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا، والإحاطة بالشيء علما علمه كما هو على الحقيقة، والمعنى لا يعلم أحد من هؤلاء كنه شيء ما من معلوماته تعالى: إِلَّا بِما شاءَ أن يعلم، وجوز أن يراد من علمه معلومه الخاص وهو كل ما في الغيب فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: ٢٦، ٢٧] وعطفت هذه الجملة على ما قبلها لمغايرتها له لأن ذلك يشعر بأنه سبحانه يعلم كل شيء وهذه تفيد أنه لا يعلمه غيره
10
ومجموعهما دال على تفرده تعالى بالعلم الذاتي الذي هو من أصول صفات الكمال التي يجب أن يتصف الإله تعالى شأنه بها بالفعل وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الكرسي جسم بين يدي العرش محيط السماوات السبع، وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته- أي الكرسي- إلا بمنزلة الحلقة في المفازة وهو غير العرش كما يدل عليه ما
أخرجه ابن جرير. وأبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الكرسي فقال: «يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» وفي رواية الدارقطني. والخطيب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ إلخ «قال: كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره»
وقيل: هو العرش نفسه، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل: قدرة الله تعالى، وقيل: تدبيره، وقيل: ملك من ملائكته، وقيل: مجاز عن العلم من تسمية الشيء بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل، وحكى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: عن الملك أخذا من كرسي الملك، وقيل: أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة، ففي الكلام استعارة تمثيلية وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي اختاره الجم الغفير من الخلف- فرارا من توهم التجسيم، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم كما قدمنا، وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعري- الكرسي- موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل
وفي رواية عن عمر مرفوعا «له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع»
وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل عن اتباع الشارع والتسليم له.
وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك، وقد ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام المعبر عنهما بالقدمين، وقد وسع السماوات والأرض وسع وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا، ولا «الأطيط» عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء المتضادة أو اجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق والجمع، ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن أن يراها إلا من ولد مرتين، وليس المراد من الأصابع الأربع ما تعرفه من نفسك، وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا، ولعلنا نشير إلى بعض منه إن شاء الله تعالى، ثم المشهور أن الياء في الكرسي لغير النسب، واشتقاقه من الكرس- وهو الجمع- ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم، وقيل: كأنه
11
منسوب إلى- الكرس- بالكسر وهو الملبد وجمعه كراسي- كبختي وبخاتي- وفيه لغتان ضم كافة- وهي المشهورة- وكسرها للاتباع والجمهور على فتح الواو والعين، وكسر السين في وَسِعَ على أنه فعل والكرسي فاعله، وقرىء بسكون السين مع كسر الواو- كعلم- في علم، ويفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع جر- كرسيه- ورفع السماوات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده والسَّماواتِ وَالْأَرْضَ خبره وَلا يَؤُدُهُ- أي لا يثقله- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وهو مأخوذ من الأود بمعنى الاعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته، وماضيه آد، والضمير لله تعالى وقيل: الكرسي حِفْظُهُما أي السماوات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبع لحفظه، وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس، والقول بالاستخدام ليدخل هو والعرش وغيرها مما لا يعلمه إلا الله تعالى بعيد وَهُوَ الْعَلِيُّ أي المتعالي عن الأشباه، والأنداد، والأمثال، والأضداد، وعن امارات النقص، ودلالات الحدوث، وقيل: هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء الْعَظِيمُ ذو العظمة وكل شيء بالإضافة إليه حقير ولما جليت على منصة هذه الآية الكريمة عرائس المسائل الإلهية وأشرقت على صفحاتها أنوار الصفات العلية حيث جمعت أصول الصفات من الألوهية، والوحدانية، والحياة، والعلم، والملك، والقدرة، والإرادة، واشتملت على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ومستترا في البعض ونطقت بأنه سبحانه موجود منفرد في ألوهيته حي واجب الوجود لذاته موجد لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يحل بساحة جلاله ما يعرض النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد العالم وحده يجلي الأشياء وخفيها وكليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يثقل شيء لديه متعال عن كل ما لا يليق بجنابه عظيم لا يستطيع طير الفكر أن يحوم في بيداء صفات قامت به تفردت بقلائد فضل خلت عنها أجياد أخواتها الجياد وجواهر خواص تتهادى بها بين أترابها ولا كما تتهادى لبنى وسعاد.
أخرج مسلم، وأحمد، وغيرهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي»
وأخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة لأخرى ولا يحافظ عليها إلا نبي أو صديق أو شهيد»
وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «لو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش لم يؤتها نبي قبلي»
والأخبار في فضلها كثيرة شهيرة إلا أن بعضها مما لا أصل له
كخبر من قرأها بعث لله تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة،
وبعضها منكر جدا
كخبر «إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين وأعمال الصديقين».
ولا يخفى أن أكثر الأحاديث في هذا الباب حجة لمن قال: إن بعض القرآن قد يفضل على غيره وفيه خلاف فمنعه بعضهم كالأشعري. والباقلاني وغيرهما لاقتضائه نقص المفضول وكلام الله تعالى لا نقص فيه، وأوّلوا أعظم بعظيم وأفضل بفاضل، وأجازه إسحق بن راهويه، وكثير من العلماء، والمتكلمين- وهو المختار- ويرجع إلى عظم أجر قارئه ولله تعالى إن يخص ما شاء بما شاء لما شاء، ومناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر أن الكافرين هم الظالمون ناسب ن ينبههم جل شأنه على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد الذي درج عليه المرسلون
12
على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما أينعت من ذلك رياضه وتدفقت حياضه وصدح عندليبه وصدع على منابر البيان خطيبه فلله الحمد على ما أوضح الحجة وأزال الغبار عن وجه المحجة.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات تلك آيات الله أي أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته نتلوها بلسان الوحي عليك ملابسة للحق الثابت الذي لا يعتريه تغيير وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: ٣] الذين عبروا هذه المقامات وصح لهم صفاء الأوقات تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بمقتضى استعلاء أنوار استعداداتهم مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ عند تجليه على طور قلبه وفي وادي سره وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الإلهية وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: ١٠] من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار والمظهر الأعظم عند ذوي الأبصار وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ (١) بسيوف الهوى ونبال الضلال مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ من أنوار الفطرة وإرشاد الرسل الآيات الواضحات وَلكِنِ اخْتَلَفُوا حسبما اقتضاه استعدادهم الأزلي فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بما جاء به الوحي وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا عن اختلاف بأن يتحد استعدادهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا الإختلاف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ببذل الأرواح وإرشاد العباد من قبل أن يأتي يوم القيامة الكبرى لا بيع فيه ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل النشأة ولا خلة لظهور الحقائق ولا شفاعة للتجلي الجلالي، والكافرون هم الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها وَما ظَلَمْناهُمْ [هود: ١٠١، النحل: ١١٨، الزخرف: ٤٣] إذ لم نقض عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول اللَّهُ لا إِلهَ في الوجود العلمي إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الذي حياته عين ذاته وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته الْقَيُّومُ الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به، وقيل: الحي الذي ألبس حياته أسرار الموحدين فوحدوا به، والقيوم الذي ربي يتجلى الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه.
ولا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ بيان لقيوميته وإشارة إلى أن حياته عين ذاته له ما في سماوات الأرواح وأرض الأشباح فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إذ كلهم له ومنه وإليه وبه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من الخطرات وَما خَلْفَهُمْ من العثرات، أو ما بين أيديهم من المقامات. وما خلفهم من الحالات، أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية استعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ معلوماته التي هي مظاهر أسمائه إِلَّا بِما شاءَ كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشيء من معلوماته فأي طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أنى لخفاش الفهم أن يفتح عينه في شمس هاتيك الذات؟
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الذي هي قلب العارف السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لأنه معدن العلوم الإلهية والعلم اللدني الذي لا نهاية له ولا حد، ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي: لو وقع العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به، وقيل: كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت وَلا يَؤُدُهُ ولا يثقله
(١) كذا في الأصل، ولفظة «جاؤوا» ليست من ضمن الآية.
13
حِفْظُهُما في ذلك الكرسي لأنهما غير موجودين بدونه وَهُوَ الْعَلِيُّ الشأن الذي لا تقيده الأكوان الْعَظِيمُ الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لاطلاقه حتى عن قيد الإطلاق.
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قيل: إن هذه إلى قوله سبحانه: خالِدُونَ من بقية آية الكرسي، والحق أنها ليست منها بل هي جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله، والجملة على هذا خبر باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها حقيقيا، وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه وهو حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: ٧٣، التحريم: ٩] وهو المحكي عن ابن مسعود. وابن زيد. وسليمان بن موسى، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية- وهو المحكي عن الحسن، وقتادة. والضحاك- وفي سبب النزول ما يؤيده
فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى فيه ذلك».
وأل في الدِّينِ للعهد، وقيل: بدل من الإضافة أي دين الله وهو ملة الإسلام، وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى، من الناس من قال: إن المراد ليس في الدين إكراه من الله تعالى وقسر بل مبني الأمر على التمكين والاختيار ولولا ذلك لما حصل الابتلاء ولبطل الامتحان فالآية نظير قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: ٢٩] وإلى ذلك ذهب القفال قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ تعليل صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان من الكفر والصواب من الخطأ والرشد- بضم الراء وسكون الشين على المشهور مصدر- رشد- بفتح الشين يرشد بضمها: ويقرأ بفتح الراء والشين، وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض- الغي- وأصله سلوك طريق الهلاك، وقال الراغب، هو كالجهل إلا أن الجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد، والغيّ اعتبارا بالأفعال، ولهذا قيل: زوال الجهل بالعلم، وزوال الغيّ بالرشد، ويقال لمن أصاب: رشد، ولمن أخطأ غوى، ويقال لمن خاب: غوى أيضا، ومنه قوله:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لم يعدم على الغي (لائما)
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ أي
الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب، والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم
- وبه قال مجاهد، وقتادة- وعن سيعد بن جبير، وعكرمة أنه الكاهن، وعن أبي العالية أنه الساحر، وعن مالك بن أنس كل ما عبد من دون الله تعالى، وعن بعضهم الأصنام، والأولى أن يقال بعمومه سائر ما يطغى، ويجعل الاقتصار على بعض في تلك الأقوال من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت، واختلف فيه فقيل: هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان- وإلى ذلك ذهب الفارسي- وقيل: هو اسم جنس مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير- وإليه ذهب سيبويه- وقيل: هو جمع- وهو مذهب المبرد. وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر: ١٧] وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر الأول الطغيان. والثاني الطغوان، وأصله على الأول طغيوت، وعلى الثاني طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت، وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله تعالى اهتماما بوجوب التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعي أو للاتصال بلفظ الغي
14
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ أي يصدق به طبق ما جاءت به رسله عليهم الصلاة والسلام فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أي بالغ في التمسك حتى كأنه وهو متلبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وهي الإيمان- قاله مجاهد- أو القرآن- قاله أنس بن مالك- أو كلمة الإخلاص- قاله ابن عباس- أو الاعتقاد الحق أو السبب الموصل إلى رضا الله تعالى أو العهد، وعلى كل تقدير يجوز أن يكون في العروة استعارة تصريحية واستمسك ترشيح لها أو استعارة أخرى تبعية، ويجوز أن يجعل الكلام تمثيلا مبنيا على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الحق الذي لا يحتمل النقيض بوجه أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات، واختار ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن، وجعل العروة مستعارة للنظر الصحيح المؤدي للاعتقاد الحق- كما قيل- ليس بالحسن لأن ذلك غير مذكور في حيز الشرط أصلا لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع لها والانفصام والانقصام لغتان وبالفاء أفصح- كما قال الفراء- وفرق بعضهم بينهما بأن الأول انكسار بغير بينونة، والثاني انكسار بها وحينئذ يكون انتفاء الثاني معلوما من نفي الأول بالأولوية، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة، والعامل اسْتَمْسَكَ أو من الضمير المستكن في الْوُثْقى لأنها للتفضيل تأنيث الأوثق، ولَها في موضع الخبر وَاللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال عَلِيمٌ بالعزائم والعقائد، والجملة تذييل حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق لما فيها من الوعد والوعيد، قيل: وفيها أيضا إشارة إلى أنه لا بد من الإيمان من الاعتقاد والإقرار.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي معينهم أو محبهم أو متولي أمورهم والمراد بهم من أراد الإيمان أو ثبت في علمه تعالى إيمانه أو آمن بالفعل يُخْرِجُهُمْ بهدايته وتوفيقه وهو تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير في وَلِيُّ مِنَ الظُّلُماتِ التابعة للكفر أو ظلمات المعاصي أو الشبه كيف كانت. إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان أو نور الطاعات أو نور الإيقان بمراتبه، وعن الحسن أنه فسر الإخراج هنا بالمنع فالمعنى يمنعهم عن أن يدخلوا في شيء من الظلمات، واقتصر الواقدي في تفسير الظلمات، والنور- على ذكر الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في الأنعام من قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: ١] فإن المراد بهما هناك الليل والنهار، والأولى أن يحمل الظلمات على المعنى الذي يعم سائر أنواعها ويحمل النور أيضا على ما يعم سائر أنواعه، ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج منها نور مخرج إليه حتى إنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة الدليل إلى نور العيان، ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة، ومن ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك «مما لا، ولا» وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال، أو أن الأول إيماء إلى القلة والثاني إلى الكثرة وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي أرادوا الكفر أو ثبت كفرهم في علمه سبحانه أو كفروا بالفعل أَوْلِياؤُهُمُ حقيقة أو فيما عندهم الطَّاغُوتُ أي الشياطين أو الأصنام أو سائر المضلين عن طرق الحق، والموصول مبتدأ أول، وأَوْلِياؤُهُمُ مبتدأ ثان، والطَّاغُوتُ خبره، والجملة خبر الأول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها، قيل:
ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع الطَّاغُوتُ في مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الاسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا، وقرء «الطواغيت» على الجمع وصح جمعه على القول بأنه مصدر لأنه صار اسما لما يعبد من دون الله تعالى يُخْرِجُونَهُمْ بالوساوس وإلقاء الشبه أو بكونهم بحالة بحالة جرت اعتقادهم فيهم النفع والضر وأنهم يقربونهم إلى الله تعالى زلفى، والتعبير عنهم بضمير العقلاء إما لأنهم منهم حقيقة أو ادعاء ونسبة الإخراج إليهم مجاز من باب النسبة إلى السبب فلا يأبى تعلق قدرته وإرادته تعالى بذلك مِنَ النُّورِ أي
15
الفطري الذي جبل عليه الناس كافة، أو نور البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها فلا يرد أنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه، وقيل: التعبير بذلك للمقابلة، وقيل: إن الإخراج قد يكون بمعنى المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول، وعن مجاهد إن الآية نزلت في قوم ارتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا فيه وهو نور الإيمان إِلَى الظُّلُماتِ وهي ظلمات الكفر والانهماك في الغي وعدم الارعواء والاهتداء بما يترى من الآيات ويتلى، والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالانفصال لكمال الاتصال، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح، وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم، وفيه بعد أَصْحابُ النَّارِ أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا، وفي هذا وعد وتحذير للكافرين، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل: للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء، أو أن ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة، وقيل: إن قوله سبحانه وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: ٦٨] دل على الوعد وكفى به.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف، واهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون، وقيل: استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ وتقرير لهم كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها، وبدأ به لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة في الله عز وجل، وما أتى به في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته، ولأن فيما بعده تعدادا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وادحاض حجة الكافرين من آثار ولايته تعالى ولا يخفى ما فيه. وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي، والجمهور على أن في الكلام معنى التعجيب أي- ألم تنظر، أو ألم ينته علمك- إلى قصة هذا الكافر الذي لست بوليّ له كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناء على أن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفي على أحد ممن له حظ من الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر فقد نصرت الخليل، وأين مقام الخليل من الحبيب، وخذلت رأس الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين، والمراد بالموصول نمروذ بن كنعان بن سنجاريب- وهو أول من تجبر وادعى الربوبية، كما قاله مجاهد وغيره- وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل لإيرادها موردها، واختلف في وقتها فقيل: عند كسر الأصنام وقيل إلقائه في النار- وهو المروي عن مقاتل-
وقيل: بعد إلقائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما- وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه-
وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وإيذان من أول الأمر بتأييد وليه له في المحاجة فإن التربية نوع من الولاية أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي لئن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في- أن، وإن- وليس هناك مفعولا لأجله منصوب لعدم اتحاد الفاعل، والتعليل فيه على وجهين: إما أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما، وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة وضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول العلة تحقيقية، وعلى الثاني تهكمية- كما تقول عاداني فلان لأني أحسنت إليه- وجوز أن يكون آتاهُ إلخ واقعا موقع الظرف بدون تقدير أو بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه الله وأورد عليه
16
أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل الإيتاء سابق عليها، وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظه- كجئت خفوق النجم، وصياح الديك- ولا يجوز إن خفق وإن صاح.
وأجيب باعتبار الوقت ممتدا، وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن «ما» المصدرية تنوب عن الزمان وليست بمصدر صريح، والذي جوز ذلك ابن جني والصفار في شرح الكتاب، والحق أن التعليل لما أمكن- وهو متفق عليه- خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما وتقدير المضاف مع القول بالامتداد والتزام- قول ابن جني والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور- في غاية من التعسف، والآية حجة على من منع إيتاء الله الملك لكافر وحملها على إيتاء الله تعالى ما غلب به وتسلط من المال والخدام والأتباع، أو على أن الله تعالى ملكه امتحانا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب رعاية الأصلح- ليس بشيء إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح كالامتحان، ولقوة هذا الاعتراض التزم بعضهم جعل ضمير آتاهُ لإبراهيم عليه السلام لأنه تعالى قال: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٢٤] وقال سبحانه: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء: ٥٤] وهو المحكي عن أبي قاسم البلخي- ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن وخلاف التفسير المأثور عن السلف الصالح، والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس لإبراهيم عليه السلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر.
وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه الله للكافر هو ما كان بتمليك الأمر والنهي، وإيجاب الطاعة على الخلق، وأما ما كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرا كملك نمروذ فهو مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان، والقول: بأن هذا المارد أعطى الملك بالاعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه قد عورض في ملكه وغولب على ما منّ الله تعالى به عليه إلى أن قضى الله تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول، وهو كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكني أشم منه ريح الضلال، ويلوح لي أنه تعريض بالأصحاب- والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور- وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام ما لا يخفى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف لحاج، وجوّز أن يكون بدلا من آتاه بناء على القول الذي علمت، واعترضه أبو حيان بأن الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليه السلام رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فإنه على ما روي قاله بعد أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له- وقد كان أوتي قبل الملك من ربك الذي تدعو إليه؟ وأجاب السفاقسي بالتجوز في آتاهُ وعدم إرادة ابتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو ممتد يسع قولين بل أقوالا، واعترض أبو البقاء أيضا بأن المصدر غير الظرف فلو كان بدلا لكان غلطا إلا أن يجعل إذ بمعنى أن المصدرية، وقد جاء ذلك، وقال الحلبي:- وهذا بناء- منه على أن إنّ مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة موقعه فلا يكون بدل- غلط بل بدل كل من كل، وفيه ما تقدم من الكلام، وقيل: يجوز أن يكون بدلا من آتاهُ بدل اشتمال، واستشكل بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى: قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ إلا أن يجعل استئنافا جواب سؤال، وجعله بمنزلة المرئي يأبى ذلك، ومن هنا قيل: إن الظرف متعلق بقوله سبحانه: قالَ أَنَا إلخ، ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل: كيف حاج إبراهيم؟ فأجيب بما أجيب، ولا يخفى أن الإباء هو الإباء، فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه: حَاجَّ، ورَبِّيَ بفتح الياء، وقرىء بحذفها، وأراد عليه السلام- بيحيي ويميت- يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتى برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال ما قال: ولما كان هذا بمعزل عن المقصود وكان بطلانه من الجلاء والظهور بحيث لا م ٢- روح المعاني مجلد ٢
17
يخفى على أحد والتعرض لإبطال مثل ذلك من قبيل السعي في تحصيل الحاصل أعرض الخليل عليه الصلاة والسلام عن إبطاله وأتى بدليل آخر أظهر من الشمس.
قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ وفيه دليل على جواز انتقال المجادل من حجة إلى أخرى أوضح منها، وهي مسألة متنازع فيها، وحمل ذلك على هذا أحد طريقين مشهورين في الآية، وثانيهما أن الانتقال إنما في هو المثال كأنه قال: ربي الذي يوجد الممكنات ويعدمها وأتى بالإحياء والإماتة مثالا فلما اعترض جاء بمثال أجلى دفعا للمشاغبة، قال الإمام: والإشكال عليهما من وجوه.
الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب، وذكر الجواب في الحال إزالة للتلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن المارد في الدليل أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فكيف يليق بالمعصوم تركه والانتقال إلى شيء آخر، والثاني أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال كان ترك المحق الكلام عليه والتنبيه على ضعفه مما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز، والثالث أنه وإن كان الانتقال من دليل إلى آخر أو من مثال إلى غيره لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح، وأقرب وهاهنا ليس كذلك لأن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه فلا يبعد وجود ملك عظيم الجثة يكون محركا للسماوات فعلى هذا الاستدلال بالإماتة والإحياء أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح إلى الدليل الخفي، والرابع أن المارد لما لم يستح من معارضة الاحياء والاماتة الصادرين من الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند الانتقال إلى طلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون أنه لو أورد هذا السؤال لكان الواجب أن يطلعها من المغرب، ومن المعلوم طلوع الشمس من المغرب يكون الدليل على وجود الصانع هو هذا الطلوع لا الطلوع الأول، وحينئذ يصير ذلك ضائعا كما صار الأول كذلك، وأيضا فما الذي حمل الخليل عليه السلام على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب وبتقدير ذلك يضيع الدليل الثاني كما ضاع الأوّل، ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا تليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العلماء وأعلم الفضلاء.
فالحق أن هذا ليس دليلا آخر ولا مثالا بل هو من تتمة الدليل الأول، وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإماتة والإحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الاحياء والإماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب الخليل عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الافلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الافلاك فلا جرم لا يكون الاحياء والإماتة صادرين منهم، ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من المحذورات عليه انتهى.
ولا يخفى ما فيه، أما أولا فلأن الشبهة إذا كانت في غاية السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدا من الناس أنها لم يمتنع الاعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعا للشغب وتحصيلا لما هو المقصود من غير كثير تعب، ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأي تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فيخل تركه بالمعصوم على أنه روي أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد قوله حيث قال له: إنك أحييت الحي ولم تحي الميت، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقا
18
لكن لم يقص الله تعالى ذلك الإلزام علينا في الكتاب اكتفاء بظهور الفساد جدا، وأما ثانيا فلأنه من الواضح أن المنتقل إليه أوضح في المقصود من المنتقل عنه ويكاد القول بعكسه يكون مكابرة، وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى ما فيه، وأما ثالثا فلأن ما ذكره رابعا يرد أيضا على الوجه الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات الأفلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب- فما هو الجواب هنا هو الجواب- وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على الإتيان بالشمس من مغربها فسكت، أو بأن الله تعالى أنساه ذلك نصرة لنبيه عليه السلام- وهو ضعيف- بل الجواب أنه عليه السلام استدل بأنه لا بد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لأن حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية، وبديهي أنه ليس بنمروذ فقال: هو ذا ربي فإن ادعيت أنك الذي تفعل فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى أن الحركة بنفسها- مع أنها مسبوقة بالغير ولو بآحاد الحركات- كان منع البديهي ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم بالتغيير عن تلك الحالة فلا بد من الاعتراف بفاعل يأتي بها من المشرق، والمدعى أن ذلك الفاعل هو الرب، وأما رابعا فلأن ما اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه، وليس في كلام الكافر سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث توسط حركات الأفلاك ولم يوقف له على أثر ليجاب بأن تلك الحركات أيضا من الله تعالى فلا يقدح توسطها في كون الإحياء والإماتة منه تعالى شأنه- ولا أظنك في مرية من هذا- ولعل الأظهر مما ذهب إليه الإمام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزا لتعدد الآلهة لم يكن مدعيا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من مذهب الصابئة أن الله تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والأفعال من الإيجاد وغيره منسوبة إليهن، فجوز أن يكون في الأرض أيضا من يفوض إليه إما قولا بالحلول أو لاكتساء خواص فلكية أو غير ذلك أراد إبراهيم عليه السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة وفساد رأيه من جهة علمه الضروري بأنه مولودا حدث بعد أن لم يكن وأن من لا وجود له في نفسه لا يمكنه الإيجاد الذي هو إفاضة الوجود البتة ضرورة احتياجه إلى الموجد ابتداء ودواما وهذا كاف في إبطال دعوى اللعين فلم يعمم الدعوى في تفرده تعالى بالإلهية على إنه لوح إليه من حيث إنه لا فرق بين الإيجاد والإعدام نوعين هما الاحياء والاماتة والقادر على إيجاد كل ممكن وإعدامه يلزمه أن يكون خارجا عن الممكنات واحدا من كل الوجوه لأن التعدد يوجب الإمكان والافتقار كما برهن عليه في محله، فعارضه اللعين بما أوهم أنه يجوز أن يكون الممكن لاستغنائه عن الفاعل في البقاء- كما عند بعض القاصرين من المتكلمين- مفوضا إليه بعد إيجاده ما يستقل بإيجاد الغير وتدبير الغير، وهذا قد خفي على الأذكياء فضلا عن الأغبياء، وقال:- أنا أحيي وأميت وأبدي- فعليه مشيرا إلى أن للدوام حكم الابتداء في طرف الاحياء وهو في ذلك مناقض نفسه من حيث لا يشعر إذ لو كان كذلك لم يكن التدبير مفوضا إلى غير الباري ولم يكن مستغنيا عن الموجد طرفة عين وإلا فليس العفو إحياء إن سلم أن القتل إماتة فألزمه الخليل عليه السلام بأن القادر لا يفترق بالنسبة إليه الدوام والابتداء- فإن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب- منبها على المناقضة المذكورة مصرحا بأنه
غالط في إسناد الفعل دواما إلى غير ما أسند إله ابتداء مظهرا لدى السامعين ما كان عسى أن يغبي على البعض فهذا كلام وارد على الخطابة، والبرهان يتلقاه المواجه به طوعا أو كرها بالإذعان ليس فيه مجال للاعتراض سليم عن العراض، وعليه يكون المجموع دليلا واحدا وليس من الانتقال إلى دليل آخر لما فيه من القيل والقال، ولا من العدول إلى مثال أوضح حتى يقال كأنه قيل: ربي الذي يوجد الممكنات وأتي بالإحياء والإماتة مثالا، فلما اعترض جاء بآخر أجلي دفعا للمشاغة لأنه مع أن فيه ما في الأول يرد عليه أن الكلام لم يسق هذا المساق- كما لا يخفى- هذا والله تعالى أعلم بحقائق كتابه المجيد فتدبر.
19
وإنما أتي في الجملة الثانية بالاسم الكريم ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتي بها في الجملة الأولى بأن يقال: إن ربي ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه السلام ولذلك المارد عليه اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة كالترقي من الأرض إلى السماء وهو في هذا المقام حسن حسن التأكيد بأن والأمر للتعجيز والفاء الأولى للايذان بتعلق ما بعدها بما قبلها، والمعنى إذا ادعيت الإحياء والإماتة لله تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والاشكال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ إلخ. والباء للتعدية، ومِنَ في الموضعين لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل، وقيل: متعلقة بمحذوف وقع حالا أي مسخّرة أو منقادة فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي غلب وصار مبهوتا منقطعا عن الكلام متحيرا لاستيلاء الحجة عليه، وقرئ- بهت- بفتح الباء وضم الهاء- وبهت- بفتح الأولى وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم- وبهت- بفتحهما فيجوز أن يكون لازما أيضا، والَّذِي فاعله وأن يكون متعديا وفاعله ضمير إبراهيم، والَّذِي مفعوله- أي فغلب إبراهيم عليه السلام الكافر وأسكته- وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم، قال الكيا: وفي الآية دليل على جواز المحاجة في الدين وإن كانت محاجة هذا الكافر كفرا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي إلى مناهج الحق كما هدى أولياءه، وقيل: لا يهديهم إلى طريق الجنة يوم القيامة أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ عطف على سابقه والكاف إما اسمية بمعنى مثل معمولة- لأرأيت- محذوفا أي- أو أرأيت. مثل الذي مر وإلى ذلك ذهب الكسائي والفراء وأبو علي وأكثر النحويين وحذف لدلالة- ألم تر- عليه على أنه قد قيل: إن مثال هذا النظم كثيرا ما يحذف منه فعل الرؤية كقوله:
قال لها كلابها أسرعي كاليوم (مطلوبا، ولا طالبا)
وجيء بهذه الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما في قولك- الفعل الماضي- مثل:
نصر، وتخصيص هذا بذلك على ما قيل: لأن منكر الأحياء كثير، والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدعي الربوبية، وقيل: إنها زائدة- وإلى ذلك ذهب الأخفش- أي أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أو كَالَّذِي مَرَّ إلخ، وقيل. إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل: أَلَمْ تَرَ كالذي حاج، أو كَالَّذِي مَرَّ وقيل: إنه من كلام إبراهيم عليه السلام ذكره جوابا لمعارضة ذلك الكافر، وتقديره وإن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مرّ، ولا يخفى ضعفه للفصل وكثرة التقدير، وإنما لم تجعل الكاف أصلية والعطف على الَّذِي نفسه في الآية السابقة لاستلزامه دخول إلى على الكاف، وفيه إشكال لأنها إلى كانت حرفية فظاهر وإن كانت اسمية فلأنها مشبهة بالحرف في عدم التصرف لا يدخل عليها من الحروف إلا ما ثبت في كلامهم، وهو عن- وذلك على قلة أيضا، وقال بعضهم: إن كلا من لفظ أَلَمْ تَرَ وأَ رَأَيْتَ [الكهف: ٦٣، الفرقان: ٤٣، العلق: ٩ و ١١ و ١٣، الماعون: ١] مستعمل لقصد التعجب إلا أن الأول تعلق بالمتعجب منه فيقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال- أرأيت مثل الذي صنع كذا بمعنى إنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل ولا يصح أَلَمْ تَرَ إِلَى مثله إذ يكون المعنى أنظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع، ولذا لم يستقم عطفك كَالَّذِي مَرَّ على الَّذِي حَاجَّ ويحتاج إلى التأويل في المعطوف بجعله متعلقا بمحذوف- أي أرأيت كالذي مر- فيكون من عطف الجملة أو في المعطوف عليه نظرا إلى أنه في معنى- أرأيت كالذي حاج- فيصح العطف عليه ومن هذا يعلم أن عدم الاستقامة ليس لمجرد امتناع دخول إلى على الكاف بل لو قلت أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ أو مثل كَالَّذِي مَرَّ فعدم
20
الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب الكلام، وإن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء بل لا بد في التعجب بكلمة أَرَأَيْتَ من إثبات كاف، أو ما في معناه- ولا يخفى أن هذا من الغرابة بمكان- فإن أَلَمْ تَرَ يستعمل للتعجب مع التشبيه في كلام العرب كما يشير إليه كلام سيبويه، أَرَأَيْتَ كثيرا ما يستعمل بدون الكاف أو ما في معناه، وهو في القرآن كثير وكيف يفرق بينهما بأن الأول تعلق بالمتعجب منه، وفي الثاني بمثله، والمثلية إنما جاءت من ذكر الكاف ولو ذكرت في الأول لكان مثله بلا فرق فهذا مصادرة على المطلوب فليس إلا ما ذكر أولا سوى أن تقدير أَرَأَيْتَ مع الكاف أولى لأن استعماله معها أكثر فتدبر.
وأَوْ للتخيير أو للتفصيل-
والمار- هو عزيز بن شرخيا- كما أخرجه الحاكم عن علي كرم الله تعالى وجهه.
وإسحق بن بشر عن ابن عباس، وعبد الله بن سلام، واليه ذهب قتادة، وعكرمة، والربيع، والضحاك، والسدي، وخلق كثير-
وقيل: هو أرميا بن خلقيا من سبط هرون عليه السلام- وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه-
وإليه ذهب وهب، وقيل: هو الخضر عليه السلام- وحكي ذلك عن ابن إسحق- وزعم بعضهم أن هذين القولين واحد، وأن أرميا هو الخضر بعينه، وقيل: شعيا، وقيل: غلام لوط عليه السلام، وقال مجاهد: كان المار رجلا كافرا بالبعث وأيد بنظمه مع نمروذ في سلك واحد حيث سيق الكلام للتعجيب من حالهما، وبأن كلمة الاستبعاد في هذا المقام تشعر بالإنكار ظاهرا وليست هي فيه مثلها في أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [آل عمران: ٤٠، مريم: ٨ و ٢٠] وأَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران: ٤٧] وعورض بما بين قصته وقصة إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوي فإن كليهما طلبا معاينة الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجري مع كافر- وإذا انضم إلى ذلك تحريه الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول الصادر قبل التبيين الموجب لإيمانه على زعم من يدعي كفره- قوى المعارض جدا، وإن قلنا:
بأن دلالة الانتظام في سلك نمروذ على الإيمان أحق لينطبق على التفصيل المقدم في اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ حسب ما أشرنا إليه في القيل قبل لم يكد يتوهم القول بالكفر كما لا يخفى،- والقرية- قال ابن زيد: هي التي خرج منها الألوف، وقال الكلبي: دير سابراباد، وقال السدي: دير سلماباذ، وقيل: دير هرقل، وقيل: المؤتفكة، وقيل: قرية العنب على فرسخين من بيت المقدس، وقال عكرمة، والربيع، ووهب: هي بيت المقدس وكان قد خربها بختنصر وهذا هو الأشهر، واشتقاقها من القرى وهو الجمع وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوفها بأن سقط السقف أولا ثم تهدمت الجدران عليه، وقيل: المعنى خالية عن أهلها ثابتة على عروشها أي إن بيوتها قائمة والجار والمجرور على الأول متعلق- بخاوية- وعلى الثاني بمحذوف وقع خبرا بعد خبر- لهي- والجملة قيل: في موضع الحال من الضمير المستتر في مَرَّ وقيل: من قَرْيَةٍ ويجيء الحال من النكرة على القلة، وقيل: في موضع الصفة لها ويبعده توسط الواو، ومن الناس من جوز كون عَلى عُرُوشِها بدلا من قَرْيَةٍ بإعادة الجار وكونه صفة لها، وجملة وَهِيَ خاوِيَةٌ إما حال من- العروش- أو من- القرية- أو من- ها- والعامل معنى الاضافة والكل مما لا ينبغي حمل التنزيل عليه قالَ في نفسه أو بلسانه أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها المشار إليه إما نفس القرية بدون تقدير كما هو الظاهر، فالاحياء والاماتة مجازان عن العمارة والخراب، أو بتقدير مضاف- أي أصحاب هذه القرية- فالإحياء والإماتة على حقيقتها، وإما عظام القرية البالية وجثثهم المتفرقة، والسياق دال على ذلك، والاحياء والاماتة على حالهما أيضا، فعلى القول بالمجاز يكون هذا القول على سبيل التلهف والتشوق إلى عمارة تلك القرية لكن مع استشعار اليأس عنها على أبلغ وجه وأوكده ولذا أراه الله تعالى أبعد الأمرين في نفسه، ثم في غيره، ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة في إزاحة ما عسى يختلج في خلده، وعلى القول الثاني يكون اعترافا بالعجز عن معرفة طريق الاحياء واستعظاما لقدرة
21
المحيي إذا قلنا: إن القائل كان مؤمنا وإنكارا للقدرة على ذلك إن كان كافرا، ورجح أول الاحتمالات الثلاثة في المشار إليه بأن إرادة إحياء- لأهل، أو عظامهم- يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر، والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا أو عظاما نخرة مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستسمعه، وتقديم المفعول على الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشئ من جهته لا من جهة الفاعل، وأَنَّى نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى، وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف، والعامل فيه على أي حال يُحْيِي.
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ أي فألبثه ميتا مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا تمتد- والعام- السنة من العوم وهو السباحة، وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروجها ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، ولعل إيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري عز اسمه، وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية، ففي البحر أنه لما مر له سبعون سنة من موته وقد منعه الله تعالى من السباع والطير ومنع العيون أن تراه أرسل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له: كوسك فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها وأهلك الله تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه الله تعالى قالَ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال له؟ فقيل قال: كَمْ لَبِثْتَ ليظهر له العجز عن الإحاطة بشؤون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و «كم» نصب على الظرفية ومميزها محذوف تقديره كَمْ وقتا والناصب له لَبِثْتَ والظاهر أن القائل هو الله تعالى، وقيل: هاتف من السماء، وقيل: جبريل، وقيل: نبي، وقيل: رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين إحيائه فيكون الإسناد إليه تعالى مجازا قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه، وقيل: إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس: يَوْماً ثم التفت فرأى بقية منها فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على الإضراب، واعترض بأنه لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ قيل: كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة، واشتقاقه من- السنة- وفي لامها اختلاف فقيل: هاء بدليل سانهت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء، وقيل: واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضي السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج، وقيل: أصله لم يتسنن. ومنه- الحمأ المسنون- أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظننت: تظنيت، وفي تقضضت: تقضيت، وقد أبدلت هنا النون الأخيرة في رأي ياء، ثم أبدلت الياء ألفا، ثم حذفت للجازم والجملة المنفية حال، وقد جاء مثلها بغير واو خلافا لمن تردد فيه كقوله تعالى: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [الأنعام: ١٩، ٩٣] وأُوحِيَ إِلَيَّ [هود: ٣٦] وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: ٩٣] وصاحبها إما الطعام والشراب، وإفراد الضمير لاجرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة عبد الله، وهذا شريك- لم يتسنه- وقرأ أبي- لم يسنه- بإدغام
22
التاء في السين واستشكل تفرع فَانْظُرْ على- لبث المائة- بالفاء وهو يقتضي التغير، وأجيب بأن المفرع عليه ليس- البث الماء بل لبث المائة من غير تغير في جسمه حتى ظنه زمانا قليلا ففرع عليه ما هو أظهر منه وهو عدم تغير الطعام والشراب وبقاء الحيوان حيا من غير غذاء، وقيل: إن التقدير- إن حصل لك عدم طمأنينة في أمر البعث- فانظر إلى طعامك وشرابك السريع التغير حتى تعرف أن من لم يغيره يقدر على البعث. وفيه نظر لأنه مع كونه خلاف الظاهر يعكر عليه قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصاله وهذا هو الظاهر لأنه أدل على الحال وأوفق بما بعده، وكون المراد- انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب- ليس بشيء
ولا يساعده المأثور وَلِنَجْعَلَكَ متعلق بمقدر أي وفعلنا ذلك لنجعلك، ومنهم من قدره متأخرا، وقيل: إنه متعلق بما قبله والواو زائدة وعلى تقديره فهو معطوف على لَبِثْتَ أو على مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدت أو لتهدى ولنجعلك، وقيل: إنه عطف على قالَ ففيه التفات آيَةً أي عبرة أو مرشدا لِلنَّاسِ أي جنسهم أو من بقي من قومه أو للموجودين في هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا عنك ما انطوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة، وفيه دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك قرن بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ أي عظام الحمار- كما قاله السدي- وكرر الأمر لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث الدلالة على المكث المديد، وثانيا هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها، وقيل: عظام أموات أهل القرية، وعن قتادة، والضحاك، والربيع عظام نفسه قالوا: أول ما أحيا الله تعالى منه عيناه وسائر جسده ميت وعظامه نخرة فأمر بالنظر إليها، وقيل: عظامه وعظام حماره والكل لا يعول عليه. كَيْفَ نُنْشِزُها بالزاي المعجمة من الإنشاز وهو الرفع أي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد، وقال الكسائي: نلينها ونعظمها، وقرأ أبي ننشيها، وابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، ويعقوب- ننشرها- من أنشر الله تعالى الموتى أحياها ولعل المراد بالاحياء ما تقدم لا معناه الحقيقي لقوله تعالى: ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أي نسترها به كما نستر الجسد باللباس، وقرأ أبان عن عاصم- ننشرها- بفتح النون وضم الشين والراء وهو حينئذ من النشر ضد الطي- كما قال الفراء- فالمعنى كيف نبسطها، والجملة قيل: إما حال من العظام أي وانظر إليها مركبة مكسوة لحما أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية انشازها وبسط اللحم عليها، واعترضت الحالية بأن الجملة استفهامية وهي لا تقع حالا، وأجيب بأن الاستفهام ليس على حقيقته فما المانع من الحالية، ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح- كما قيل- لما أنها مما لا تقتضي الحكمة بيانها، وفي بعض الآثار إن ملكا نادى العظام فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم ألبسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الروح فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي اتضح اتضاحا تاما له ما دل عليه الأمر من كيفية الإحياء بمباديه، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللإشعار بسرعة وقوعه كأنه قيل:
فأنشرها الله تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين ذلك قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ومن جملته ما شوهد قَدِيرٌ.
وقيل: فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم فالكلام من باب التنازع على مذهب البصريين، وأورد عليه أن شرط التنازع كما نص عليه النحاة اشتراك العاملين بعطف ونحوه بحيث يرتبطان فلا يجوز ضربني أهنت زيدا قيل: وليس بشيء لأنه لم يشترطه إلا ابن عصفور، وقد صرح بازات الفن بخلافه- كأبي علي وغيره- مع أنه لم يخص بالعطف إذ هو جار في قوله تعالى: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: ١٩] ولما- رابطة للجملتين فيكفي مثله في الربط وإن لم
23
يصرحوا به، ومن الناس من استحسن أن يجعل من باب ما يكون المراد بالفعل نفس وقوعه لا التلبس بالفاعل فكان معناه فلما حصل له التبين قالَ أَعْلَمُ إلخ، ويساعده قراءة ابن عباس رضي الله عنهما فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ على البناء للمفعول، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى أن أصله لم يتغير بل إنما تبدل بالعيان وصفه، وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناء على الاستبعاد العادي واستعظاما للأمر، وقرأ ابن مسعود- قيل أعلم- على وجه الأمر، وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ قالَ أَعْلَمُ ويقول: لم يكن بأفضل من إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى له: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ [البقرة: ٢٦] وبذلك قرأ حمزة، والكسائي، والآمر هو الله تعالى، أو النبي، أو الملك، ويحتمل أن يكون المخاطب هو نفسه على سبيل التجريد مبكتا لها موبخا على ما اعتراها من ذلك الاستبعاد،
يروى أنه بعد هذا القول قام فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكرهم وأنكر منازلهم فانطلق على وهم منهم حتى أتى فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة له وكان قد خرج عزير وهي بنت عشرين سنة فقال لها: يا هذه أهذا منزل عزيز؟ قالت: نعم وبكت وقالت: ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا سنة يذكر عزيزا وقد نسيه الناس قال: فإني أنا عزيز قالت: سبحان الله فإن عزيز قد فقدناه منذ مائة سنة فلم يسمع له بذكر قال: فإني عزيز كان الله تعالى أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت: فإن عزيزا كان رجلا مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع الله تعالى أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصّحتا وأخذ بيدها فقال: قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله تعالى رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وأنديتهم ومجالسهم، وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا إلى ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي، وزعم أن الله تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا عليه فنظروا إليه فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزيز فقالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا وكان أبوه قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه غير عزير فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فنزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، وفي رواية أنه قرأها عليهم حين طلبوا منه ذلك عن ظهر قلب من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين مما ورد بيت المقدس بعد مهلك بختنصر: حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوها فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزيز عن ظهر قلب فما اختلفا في حرف واحد- فعند ذلك قالوا: عزيز ابن الله
تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ لأنه في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي اللازم للفطرة وهو لا مدخل للإكراه فيه قَدْ تَبَيَّنَ ووضح الرُّشْدُ الذي هو طريق الوحدة وتميز مِنَ الْغَيِّ الذي هو النظر إلى الأغيار فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وهو ما سوى الله تعالى وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا حقيقيا شهوديا فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي الوحدة الذاتية لَا انْفِصامَ لَها في نفسها لأنها الموافقة لما في نفس الأمر والممكنات والشؤون داخلة في دائرتها غير منقطعة عنها وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع قول كل ذي دين عَلِيمٌ بنيته اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وليس وليّ سواه ولا ناصر ولا معين لهم غيره يُخْرِجُهُمْ مِنَ ظلمات- النفس وشبه
24
الخيال والوهم إلى نور اليقين والهداية وفضاء عالم الأرواح وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالميل إلى الأغيار أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ الذي حال بينهم وبين الله تعالى فلم يلتفتوا إليه يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات أُولئِكَ المبعدون عن الحضرة أَصْحابُ النَّارِ الطبيعية هُمْ فِيها خالِدُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ وهو نمروذ النفس الأمارة المجادلة لإبراهيم الروح القدسية التي ألقيت في نار الطبيعة فعادت عليها بردا وسلاما، أو نمروذ الجبار وإبراهيم الخليل عليه السلام أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ الذي هو عالم القوى البدنية وملك هذه الدنيا الدنية إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الروح أو إبراهيم الخليل رَبِّيَ أني من غذيت ببيان أنواره أو إيجاده وهدايته الَّذِي يُحْيِي من توجه إليه وَيُمِيتُ من أعرض عنه، أو يحيي ويميت الإحياء والإماتة المعهودتين قالَ نمروذ النفس الأمارة، أو الجبار أَنَا أُحْيِي بعض القوى بصرفها في ميادين اللذات واستنشاق ريح الشهوات وَأُمِيتُ بعضها بتعطيله عن ذلك برهة، أو أحي بالعفو وأميت بالقتل قالَ إِبْراهِيمُ الروح، أو الخليل فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بشمس العرفان من مشرقها وهو جانب المبدأ الفياض فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ أي أظهرها عد غروبها وحيلولة أرض الوجود بينك وبينها، أو أن الله- يأتي بشمس الروح من مشرقها- وهو مبدأها الأصلي فتشرق أنوارها على صفحات البدن- فأت بها بعد ما غربت- أي فأرجعها إلى من قتله وأمته، وعلى هذا يكون من تتمة الأول فَبُهِتَ وغلب الَّذِي كَفَرَ وهو النفس الأمارة المدعية للربوبية على عرش البدن أو نمروذ اللعين أَوْ كَالَّذِي مَرَّ وهو العقل الإنساني عَلى قَرْيَةٍ القلب الذي هو البيت المقدس، أو هو عزيز النبي وكان قدم على بيت المقدس قبل التجلي باسمه تعالى المحيي وَهِيَ خاوِيَةٌ خالية من التجليات النافعة ثابتة عَلى عُرُوشِها صورها أو ساقطة منهدمة لضعف أس الاستعداد على عروش العزائم قالَ لذهوله عن النظر إلى الحقائق أَنَّى متى، أو كيف يُحْيِي هذِهِ القرية الله الجامع لصفات الجمال والجلال بَعْدَ مَوْتِها بداء الجهل والالتفات إلى السوي فَأَماتَهُ اللَّهُ أبقاه جاهلا مائة عام أي مدة طويلة، وقيل: هي عبارة في الأصل عن ثمانية أعوام وأربعة أشهر أو خمسة وعشرين سنة ثم بعثه بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها- إلا يوما أو بعض يوم- استصغارا لمدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية، أو أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله تعالى، أو أماته حتنف أنفه بالموت الطبيعي ثم بعثه بالإحياء قال: بل لبثت في الحقيقة مائة عام فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وكان التين أو العنب، والأول إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله وكون الجزئيات فيه بالقوة كالحبات التي في التين، والثاني إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالقشر والعجم وَشَرابِكَ وكان عصير العنب واللبن، والأوّل إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق، والثاني إشارة إلى العلم النافع كالشرائع لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير عما كان في الأول بحسب الفطر مودعا فيك فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعداده الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وإن حجبت بالمواد وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها لم تبطل لم تتغير عن حالها حتى إذا رفع الحجاب ظهرت كما كانت وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وهو القالب الحامل للقلب أو المعنى الظاهر وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً أي دليلا للناس بعثناك وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ من القوى كَيْفَ نُنْشِزُها ونرفعها عن أرض الطبيعة ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً
وهو العرفان الذي يكون لباسا لها، وعبر عنه باللحم لنموه وريادته كلما تغذت الروح بأطعمة الشهود وأشربة الوصال، والمعنى الظاهر ظاهر فلما تبين ووضح له ذلك قالَ أَعْلَمُ علما مستمرا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ومن جملته ما كان قَدِيرٌ لا يستعصى عليه ولا يعجزه وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ بيان لتسديد المؤمنين إثر بيان ولمغايرته لما تقدم كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى غير الأسلوب والظرف منتصب إما بمضمر صرح بمثله في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا
25
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ [الأعراف: ٦٩، ٧٤] وإيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بطريق برهاني وإما- يقال- الآتي وقد تقدم تحقيق ذلك رَبِّ كلمة استعطاف شرع ذكرها قبل الدعاء مبالغة في استعداد الإجابة أَرِنِي من الرؤية البصرية المتعدية بهمزة النقل إلى مفعولين فالباء مفعوله الأوّل وقوله تعالى: كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى في محل مفعوله الثاني المعلق عنه، وإلى ذلك ذهب أكثر المعربين، واعترض بأن البصرية لا تعلق، وأجيب بأن ذلك إنما ذكره بعض النحاة، ورده ابن هشام بأنه سمع تعليقها، وفي شرح التوضيح يجوز كونها علمية، ومن الناس من لم يجعل «ما» هنا من التعليق في شيء وجعل كلمة كَيْفَ إلخ في تأويل مصدر هو المفعول كما قاله ابن مالك في قوله تعالى: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إبراهيم: ٤٥] ثم الاستفهام- بكيف- إنما هو سؤال عن شيء متقرر الوجود عند السائل والمسئول، فالاستفهام هنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أي- بصرني كيفية إحيائك للموتى- وإنما سأله عليه السلام لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين،
وفي الخبر «ليس الخبر كالمعاينة»
وكان ذلك حين رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر والهواء قاله الحسن، والضحاك، وقتادة، وهو المروي عن أهل البيت، وروى عن ابن عباس، والسدي، وسعيد بن جبير أن الملك بشره عليه السلام بأن الله تعالى قد اتخذه خليلا وأنه يجيب دعوته ويحيي الموتى بدعائه فسأل لذلك، وروى عن محمد بن إسحق بن يسار أن سبب السؤال منازعة النمروذ إياه في الأحياء حيث رد عليه لما زعم أن العفو إحياء وتوعده بالقتل إن لم يحي الله تعالى الميت بحيث يشاهده فدعا حينئذ قالَ استئناف مبني على السؤال والضمير للرب أَوَلَمْ تُؤْمِنْ عطف على مقدر- أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني عنه- أو بأني قد اتخذتك خليلا، أو بأن الجبار لا يقتلك قالَ أي إبراهيم بَلى آمنت بذلك وَلكِنْ سألت لِيَطْمَئِنَّ أي يسكن قَلْبِي بمضامة الأعيان إلى الإيمان والإيقان بأنك قادر على ذلك، أو لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بالخلة أو بأن الجبار لا يقتلني، وعلى كل تقدير لا يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافي منصب النبوة أصلا، وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية- وما ذكر هو المشهور فيها- ويعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه السلام من الكلام، وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر دينيّ والعياذ بالله ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كَيْفَ وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ولو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال- أيحكم زيد في الناس- ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحاشاه شكا من هذه الآية قطع النبي ﷺ دابر هذا الوهم
بقوله على سبيل التواضع: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»
أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى، وقيل: إن الكلام مع أفعل جاء هنا لنفي المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام أي لا شك عندنا جميعا، ومن هذا الباب أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [الدخان: ٣٧] أي لا خير في الفريقين، وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا وتريد أنك عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه يفهمها كل من يسمعها فهما لا يتخالجه فيه شك، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه، ولا أرى
26
رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه السلام شيئا وإنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به، ومن هنا تعلم أن عليا كرم الله تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في الإيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه
بقوله: لو كشفت لي الغطاء ما ازددت يقينا
كما ظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية الثاني على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه الجحود لقوله تعالى:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤] والطمأنينة لا يتصور طروّ ذلك عليها- ونسب هذا لحجة الإسلام الغزالي- وفي القلب منه شيء، وبعض قرر في دفعه أن مقام النبوة مغاير لمقام الصديقية، فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه، ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه أيضا، وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى الله تعالى عليه وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان: ٤٥] على ما يعرفه أهل الذوق من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما السلام متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنية كما أبانا عن أنفسهما- برب أرني كيف تحيي الموتى، ورب أرني أنظر إليك- وطمأنينة مقام الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم الله تعالى وجهه
بقوله: «لو كشف» إلخ،
وكان الاستعداد في صديقي سائر الأنبياء متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر إخوانه من الأنبياء والصديقية على سائر الصديقين من أممهم ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمأنينتهم الفضيلة على الأنبياء عند فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجده الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان حاصلا لهم، وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
أنه قال: إني لأسهو
فقال: يا ليتني كنت سهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم أن ما يعده رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نفسه الكريمة سهوا فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وحسنات المقربين سيئات النبيين، وهذا أولى مما سبق، وبعض من المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن أولياء هذه الأمة وصديقيهم أعلى كعبا من الأنبياء ولو نالوا مقام الصديقية محتجبين بما روى عن الإمام الرباني سيدي وسندي عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال: يا معاشر الأنبياء الفرق بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه، وببعض عبارات للشيخ الأكبر قدس سره ينطق بذلك، وأنت تعلم أن التزام ذلك والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين، ويوشك أن يكون القول به كفرا بل قد قيل به، وما روي عن الشيخ عبد القادر قدس سره فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه، وما يعزى إلى الشيخ الأكبر قدس سره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس سره- وهو الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم الولاية الخاصة- والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق، وبتقدير تسليم ما نقل عمن نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول: إن ذلك القول صدر عن القائل عند فنائه في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه، والوقوف عند رتبته- وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة- وبعيد عنه بمراحل، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء الله تعالى، فخزائن الفكر ولله الحمد مملوءة، ولكل مقام مقال، هذا وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الاستدلال حيث يجوز معنى ذلك، واعترض بأن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام سببه مذكورا في نفس العالم وإنما الذي قبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق في الذكر وبهذا
27
ينحط الاعتقاد الصحيح عن العلم، وأجيب بأن هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه- على ما ذكره ابن الحاجب في مختصره- وقد قيل عليه ما قيل فتدبر، واللام في لِيَطْمَئِنَّ لام كي والفعل منصوب بعدها بإضمار أن، وليس بمبني كما- زلق السمين- ومتعلق اللام محذوف كما أشرنا حذف- ما- منه الاستدراك وقيل المتعلق أَرِنِي ولا أراه شيئا، والماضي للفعل- اطمأن على وزن اقشعر، واختلف هل هو مقلوب أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوب من- اطأمن- فالطاء فاء الكلمة. والهمزة عينها. والميم لامها فقدمت اللام التي هي الميم على العين وهي الهمزة فوزنه افلعل، ومذهب الجرمي أنه غير مقلوب وكأنه يقول- اطأمن واطمأن- مادتان مستقلتان ومصدره الطمأنينة بسكون الميم وفتح الهمزة، وقيل: طمأنينة بتخفيف الهمزة وهو قياس مطرف عند الكوفيين وهو على غير قياس المصادر عند الجميع إذ قياس اطمأن أن يكون مصدره على الاطمئنان، وقرئ- أرني- بسكون الراء قالَ أي الرب فَخُذْ الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ.
أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ المشهور أنه اسم جمع كركب وسفر، وقيل: بل هو جمع طائر كتاجر وتجر- وإليه ذهب أبو الحسن- وقيل: بل هو مخفف من طير بالتشديد، وقال أبو البقاء: هو في الأصل مصدر طار يطير ثم سمي به هذا الجنس وألحقت التاء في عدده لاعتباره مذكرا واسم الجنس لما لا يعقل يذكر ويؤنث والجار متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله أو متعلق- بخذ- والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة، وعن مجاهد بدل الغرنوق الغراب، وفي رواية بدل الحمامة بطة، وفي رواية نسر، وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان باعتبار طلبه المعاش والمسكن ولذلك وقع
في الحديث «لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا»
ولأنه أجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة ولما فيه من مزيد أجزاء من الريش ففي إحيائها من يد ظهور القدرة ولأن من صفته الطيران في السماء وكان من همة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الميل إلى جهة العلو والوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته فَصُرْهُنَّ قرأ حمزة ويعقوب بكسر الصاد، والباقون بضمها مع التخفيف من- صاره يصوره ويصيره- لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما كما ذكره أبو علي، وقال الفراء: الضم مشترك بين المعنيين، والكسر بمعنى القطع فقط، وقيل: الكسر بمعنى القطع، والضم بمعنى الإمالة، وعن الفراء إن صاره مقلوب صراه عن كذا قطعة، والصحيح أنه عربي، وعن عكرمة أن نبطي، وعن قتادة أنه حبشي، وعن وهب أنه رومي، فإن كان المراد- أملهن- فقوله تعالى:
إِلَيْكَ متعلق به وإن كان المراد- فقطعهن- فهو متعلق- بخذ- باعتبار تضمينه معنى الضم، واختار أبو البقاء أن يكون حالا من المفعول المضمر أي- فقطعهن مقربة ممالة- إليك- وزعم ابن هشام- تبعا لغيره- أنه لا يصح تعليق الجار- بصرهن- مطلقا إن لم يقدر مضاف أي إلى نفسك محتجا بأنه لا يتعدى فعل غير علمي عامل في ضمير متصل إلى المنفصل، ورد بأنه إنما يمنع إذا كان متعديا بنفسه أما المتعدي بحرف فهو جائز كما صرح به علماء العربية، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:- «فصرّهن» - بتشديد الراء مع ضم الصاد وكسرها من صره إذا جمعه، والراء إما مضمومة للاتباع أو مفتوحة للتخفيف، أو مكسورة لالتقاء الساكنين، وعنه أيضا- «فصرّهن» - من التصرية بفتح الصاد وكسر الراء المشددة وأصلها تصررة فأبدل أحد أحرف التضعيف ياء وهي في الأصل من صريت الشاة إذا لم تحلبها أياما حتى يجتمع اللب ژن في ضرعها ثم استعمل في مجرد معنى الجمع- أي اجمعهن وضمهن إليك لتتأملها وتعرف شأنها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا.
ثُمَّ اجْعَلْ أي ألق، أو صير بعد ذبحهن وخلط لحومهن وريشهن ودمائهن كما قاله قتادة.
28
عَلى كُلِّ جَبَلٍ يمكنك الوضع عليه ولم يعين له ذلك- كما روي عن مجاهد. والضحاك- وروي عن ابن عباس والحسن، وقتادة أن الجبال كانت أربعة، وعن ابن جريج. والسدي أنها كانت سبعة، وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنها كانت عشرة مِنْهُنَّ أي من تلك الطير جُزْءاً أي قطعة، وبعضا ربعا، أو سبعا، أو عشرا، أو غير ذلك، وقرئ «جزوءا» بضمتين «وجزا» بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف وهو مفعول- لا جعل- والجاران قبله متعلقان بالفعل، ويجوز أن يكون على كل مفعولا ثانيا له إن كان بمعنى صير، ومِنْهُنَّ حال من جُزْءاً لأنه في الأصل صفة للنكرة قدمت عليها ثُمَّ ادْعُهُنَّ أي نادهنّ،
أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: إنه عليه الصلاة والسلام نادى أيتها العظام المتمزقة واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة اجتمعي يرد الله تعالى فيكن أرواحكن فوثب العظم إلى العظم وطارت الريشة إلى الريشة وجرى الدم إلى الدم حتى رجع إلى كل طائر دمه ولحمه وريشه ثم أوحى الله تعالى إلى إبراهيم إنك سألتني كيف أحيي الموتى وأني خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة أرواح الشمال. والصبا. والجنوب. والدبور حتى إذا كان يوم القيامة نفخ نافخ في الصور فيجتمع من في الأرض من القتلى والموتى كما اجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ثم قرأ ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: ٢٨]
وعن مجاهد أنه دعاهن باسم إله إبراهيم تعالين، واستشكل بأن دعاء الجماد غير معقول، وأجيب بأنه من قبيل دعاء التكوين، وقيل: في الآية حذف كأنه قيل: فقطعهن ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا فإن الله تعالى يحييهن فإذا أحياهن فادعهن.
يَأْتِينَكَ سَعْياً فالدعاء إنما وقع بعد الإحياء. ولا يخفى أن الآثار مع ما فيه من التكلف لا تساعده، وأعظم منه فسادا ما قيل: إنه عليه الصلاة والسلام جعل على كل جبل منهن طيرا حيا ثم دعاها فجاءت فإن ذلك مما يبطل فائدة الطلب ويعارض الأخبار الصحيحة فإن أكثرها ناطق بأنه دعاها ميتة متفرقة الأجزاء، وفي بعضها أن رؤوسهن كانت بيده فلما دعاهن جعل كل جزء منهن يأتي إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رؤوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة، وسعيا حال من فاعل- يأتينك- أي ساعيات مسرعات، أو ذوات سعي طيرانا أو مشيا، وقيل: إطلاق السعي على الطيران مجاز، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية كقعدت جلوسا، ومن الغريب ما نقل عن النضر بن شميل. قال: سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى: يَأْتِينَكَ سَعْياً هل يقال الطائر إذا طار سعى؟ فقال: لا قلت: فما معناه؟ قال: معناه يَأْتِينَكَ وأنت تسعى سعيا- وهو من التكلف الغير المحتاج إليه بمكان- وإنما اقتصر سبحانه على حكاية أوامره جل شأنه من غير تعرض لامتثال خليله عليه الصلاة والسلام، ولا لما ترتب عليه من آثار قدرته التي علمت النزر منها للايذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا، وزعم بعضهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام لم يفعل شيئا مما اقتضاه ظاهر الكلام وأن الأوامر فيه مثلها في قولك لمن لا يعرف تركيب الحبر مثلا: خذ كذا وكذا وأمكنهما سحقا وألق عليهما كذا وكذا وضع ذلك في الشمس مدة أيام ثم استعمله تجده حبرا جيدا فأنا لا يقتضي الامتثال إذا كان الغرض مجرد تعليم، والرؤية- هنا علمية كما نقل عن شرح التوضيح، وإبراهيم حصل له العلم التام بمجرد وصف الكيفية واطمأن قلبه وسكن لبه، ولهذا لم يذكر الله تعالى ما ترتب على هذه الأوامر من هاتيك الأمور ولم يتعرض للامتثال ولم يعبأ بالإيماء إليه- بقال- أو حال- ومال إلى هذا القول أبو مسلم فأنكر القصة أيضا، وقال: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما طلب إحياء الموتى من ربه سبحانه وأراه مثالا محسوسا قرب الأمر عليه، والمراد- بصرهن- أملهن ومرنهنّ على الإجابة- أي عود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة-
29
والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا يخفى أن هذا خلاف إجماع المسلمين، وضرب من الهذيان لا يركن إليه أرباب الدين وعدول عما يقتضيه ظاهر الآية المؤيد بالأخبار الصحيحة والآثار الرجيحة إلى ما تمجه الاسماع ولا يدعو إليه داع فالحق اتباع الجماعة ويد الله تعالى معهم، وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء الموتى يوم القيامة يجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية، واحتج بها بعضهم أيضا على أن البنية ليست شرطا في الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا قادرا على السعي والعدو، وقال القاضي: دلت الآية على أنه لا بد من البنية حيث أوجب التقطيع بطلان الحياة، وأجيب بأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة، والانفكاك في بعض الأحوال يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء كانت دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة- وفيه تأمل- والمشهور أنها حجة على من ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهي ظاهرة في أنه يزيد في الكيف وإن كان لا يزيد في الكم لكن المكلف به هو الجزم الحاصل بالنظر والاستدلال، ويسميه البعض علم اليقين لا الجزم الكائن بالمشاهدة المسمى بعين اليقين فإن في التكليف به حرجا في الدين، وأنت تعلم أن في دلالة الآية على زيادة الايمان ونقصه بناء على الوجه الذي أشرنا إلى اختياره ترددا كما لا يخفى وفيها أيضا دليل على فضل الخليل عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما
يكون من الوجوه، وأرى عزيزا عليه السلام ما أراه بعد ما أماته مائة عام. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة في أفعاله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن خرق العادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح،
حكى أن الله سبحانه لما وفى لابراهيم عليه الصلاة والسلام بما سأل قال له: يا إبراهيم نحن أريناك كيف نحيي الموتى فأرنا أنت كيف تميت الأحياء
مشيرا إلى ما سيأمره به من ذبح ولده عليه الصلاة والسلام وهو من باب الانبساط مع الخليل ودائرة الخلة واسعة إلا أن حفاظ المحدثين لم يذكروا هذا الخبر وليس له رواية في كتب الأحاديث أصلا.
(ومن باب الاشارة في هذه القصة) البقرة ٢٦١- ٦٧٢ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى أي موتى القلوب بداء الجهل قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي ألم تعلم ذلك علما يقينا قالَ بَلى أعلم ذلك:
ولكن للعيان لطيف معنى له سأل المشاهدة الخليل
وهو المشار إليه بقوله سبحانه: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الذي هو عرشك قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ إشارة إلى طيور الباطن التي في قفص الجسم، وهي أربعة من أطيار الغيب: العقل، والقلب، والنفس، والروح فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أي ضمهن واذبحهن، فاذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت، واذبح طير القلب بسكين الشوق على باب الجبروت، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الربانية ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فاجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه في، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكير منعوتا بصرف نور المحبة، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في
30
التجليات ثُمَّ ادْعُهُنَّ ونادهنّ بصوت سر العشق يَأْتِينَكَ سَعْياً إلى محض العبودية بجمال الأحدية وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ يعزك بعرفانك هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة حَكِيمٌ في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك، وقد يقال: أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى القوى الأربعة التي تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية، ووقع في أثر أنها كانت طاوسا، وديكا، وغرابا، وحمامة، ولعل الطاوس إشارة إلى العجب، والديك إلى الشهوة، والغراب إلى الحرص، والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر والبرج، وفي أثر بدل الحمامة بطة، وفي آخر نسر، وكأن الأوّل إشارة إلى الشره الغالب، والثاني إلى طول الأمل، ومعنى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ حينئذ ضمهنّ وأملهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها،
وفي الأثر أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده- أي يمنعها عن أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة ويبقي أصولها فيه- ثم أمر أن يجعل على كل من الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه جزءا منهنّ
وكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع العناصر التي هي فيه،
وفي رواية أن الجبال كانت سبعة
فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن، وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة، وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة متى دعيت أتت سعيا وامتثلت طوعا وذلك هو الفوز العظيم.
31
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في وجوه الخيرات الشاملة للجهاد وغيره، وقيل: المراد الإنفاق في الجهاد لأنه الذي يضاعف هذه الأضعاف، وأما الإنفاق في غيره فلا يضاعف كذلك وإنما تجزى الحسنة بعشر أمثالها كَمَثَلِ حَبَّةٍ خبر عن المبتدأ قبله ولا بد من تقدير مضاف في أحد الطرفين أي مثل نفقة الذين كَمَثَلِ حَبَّةٍ أو مثلهم كمثل باذر حبة ولولا ذلك لم يصح التمثيل، والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للاقتيات وأكثر إطلاقه على البر وبذر ما لا يقتات به من البقل حبة بالكسر أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ أي أخرجت تلك الحبة ساقا تشعب منه سبع شعب لكل واحد منها سنبلة. فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما نرى ذلك في كثير من الحب في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك، والسنبلة على وزن فنعلة فالنون زائدة لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل، وقيل: وزنه فعلله فالنون أصلية والأول هو المشهور وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز لأنها سبب للإنبات- والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى- وهذا التمثيل تصوير للإضعاف كأنها حاضرة بين يدي الناظر فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
وَاللَّهُ يُضاعِفُ هذه المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى، واقتصر بعض على الأول، وبعض على الثاني، والتعميم أتم نفعا لِمَنْ يَشاءُ من عبادة المنفقين على حسب حالهم من الإخلاص والتعب وإيقاع الإنفاق في أحسن مواقعه،
أخرج ابن ماجه، وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وعمران بن حصين،
32
وأبي أمامة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم كلهم يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله تعالى وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية
وعن معاذ بن جبل «إن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد» وَاللَّهُ واسِعٌ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة عَلِيمٌ بنية المنفق وسائر أحواله، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة المار على القرية، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام- وكانا من أدل دليل على البعث- ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يجد جزاءه هناك وهو الإنفاق في سبيل الله تعالى كما أعقب قصة الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة: ٢٤٣] بقوله تعالى عز شأنه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: ٢٤٥، الحديد: ١١] وكما عقب قتل داود جالوت وقوله تعالى:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة: ٢٥٣] بقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ [البقرة: ٢٥٤] إلخ.
وفي ذكره الحبة في التمثيل هنا إشارة أيضا إلى البعث وعظيم القدرة إذ من كان قادرا على أن يخرج من حبة واحدة في الأرض سبعمائة حبة فهو قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم بجامع اشتركا فيه من التغذية والنمو الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استئناف جيء به لبيان كيفية الانفاق الذي بين فضله.
ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا أي انفاقهم أو ما أنفقوه مَنًّا على المنفق عليه وَلا أَذىً أي له- والمنّ- عبد الإحسان وهو في الأصل القطع، ومنه قوله: حبل منين- أي ضعيف- وقد يطلق على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه، والأذى- التطاول والتفاخر على المنفق عليه بسبب إنفاقه، وإنما قدم المنّ لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة لا لشمول النفي لاتباع كل واحدة منهما، وثُمَّ للتفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى في الرتبة والبعد بينهما في الدرجة، وقد استعيرت من معناها الأصلي وهو تباعد الأزمنة لذلك- وهذا هو المشهور في أمثال هذه المقامات- وذكر في الانتصاف وجها آخر في ذلك وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه وعلى هذا لا تخرج عن الأشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناها المستعارة له دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه وعليه يحمل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠، الأحقاف:
١٣] أي داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد وتلك الاستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات، وكذلك ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ إلخ أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ليسوا بتاركيه في أزمنة ثم يثوبون إلى الإيذاء وتقليد المنّ، وبسببه مثله يقع في السين نحو إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: ٩٩] إذ ليس لتأخر الهداية معنى فيحمل على دوان الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها- وهو كلام حسن- ولعله أولى مما ذكروه لأنه أبقى للحقيقة وأقرب للوضع على أحسن طريقة.
والآية كما
أخرج الواحدي عن الكلبي- والعهدة عليه- نزلت في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف أما عبد الرحمن فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضها ربي فقال له رسول الله صلى الله تعالى وسلم: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فقال: عليّ جهاز له في غزوة تبوك فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين، وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: «يا رب عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر» فأنزل الله تعالى فيه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلخ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ حسبما
33
وعدهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول، وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله تعالى لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول لتضمنه معنى الشرط كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم لكنه عدل عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به استحقاق وصفي، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق، وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للايذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المنّ والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ المراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على نظيرها قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك الله يرزقك الله إن شاء الله تعالى أعطيك بعد هذا وَمَغْفِرَةٌ أي ستر لما وقع من السائل من الالحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه خَيْرٌ للسائل مِنْ صَدَقَةٍ عليه يَتْبَعُها من المتصدق أَذىً له لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأوليين من الضرر، وقيل:
يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة الله تعالى للمسؤول بسبب تحمله ما يكره من السائل أو مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسئول خَيْرٌ للمسؤول من تلك الصدقة، وفيه أن الأنسب أن يكون المفضل والمفضل عليه في هذا المقام كلاهما صفتي شخص واحد- وعلى هذين الوجهين- ليس كذلك على أن اعتبار الخيرية فيهما يؤدي إلى أن يكون في القصة الموصوفة بالنسبة إليه خَيْرٌ في الجملة مع بطلانها بالمرة، وجعل الكلام من باب هو خير من لا شيء ليس بشيء، والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المنّ والأذى، وإنما لم يذكر المنّ لأن الأذى يشمله وغيره، وذكره فيما تقدم اهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه، وصح الابتداء بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة، وقد يقال: إن المعطوف تابع لا يفتقر إلى مسوغ.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقات العباد وإنما أمرهم بها بمصلحة تعود إليهم أو عن الصدقة بالمنّ والأذى فلا يقبلها، أو غني لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤونة المنّ والأذى ويرزقهم من جهة أخرى حَلِيمٌ فلا يعجل بالعقوبة على المنّ والإيذاء لا أنهم لا يستحقونها بسببهما، والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة البالغة في إيجاب العمل بموجب النهي ولذلك ناداهم بوصف الإيمان لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى أي بكل واحد منهما لأن النفي أحق بالعموم وأدل عليه، والمراد بالمنّ المنّ على الفقير كما تقدم وهو المشهور، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به المنّ على الله تعالى، وبالأذى الأذى للفقير، واستشكل ابن عطية هذه الآية بأن ظاهرها يستدعى أن أجر الصدقة يبطل بأحد هذين الأمرين ولا يمكن توجه الابطال بذلك إلى نفس الصدقة لأنها قد ثبتت في الواقع فلا يعقل إبطالها ومن العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات خلافا للمعتزلة، والآية أحد متمسكاتهم، وأجيب بأن الصدقة التي يعلم الله تعالى من صاحبها أنه يمنّ ويؤذي لا تقبل حتى قيل: إنه سبحانه يجعل للملك علامة فلا يكتبها، والإبطال المتنازع فيه إنما هو في عمل صحيح وقع عند الله تعالى في حيز القبول وما هنا ليس كذلك، فمعنى لا تُبْطِلُوا حينئذ لا تأتوا بهذا العمل باطلا كذا قالوا، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر إلا أن قوله تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ فيه نوع تأييد له بناء على أن كَالَّذِي في محل نصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي إلخ وإما على أنه حال من فاعل لا تُبْطِلُوا أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يبطل إنفاقه بالرياء، ووجه التأييد أن المرائي بالإجماع لم يأت بالعمل مقبولا صحيحا، وإنما أتي به باطلا مردودا، وقد وقع التشبيه في البين فتدبر، وانتصاب رِئاءَ إما على أنه علة لينفق أي لأجل ريائهم أو على أنه حال من فاعله أي
34
ينفق ماله مرائيا، وجعله نعتا لمصدر محذوف أي إنفاقا رياء الناس ليس بشيء، وقريب منه جعل الجار حالا من ضمير المصدر المقدر لأنه لا يتمشى إلا على رأي سيبويه، وأصل رياء رِئاءَ فالهمزة الأولى عين الكلمة والثانية بدل من ياء هي لام لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة، وقد قرأ به الخزاعي، والشموني، وغيرهما، والمفاعلة في فعله عند السمين على بابها لأن المرائي يري الناس أعماله والناس يرونه الثناء عليه والتعظيم له والمراد من الموصول ما يشمل المؤمن والكافر- كما قيل- وغالب المفسرين على أن المراد به المنافق لقوله تعالى: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا فَمَثَلُهُ أي المرائي في الإنفاق، والفاء لربط ما بعدها بما قبلها كَمَثَلِ صَفْوانٍ أي حجر كبير أملس وهو جمع صفوانة (١) أو صفاء، أو اسم جنس. ورجح بعود الضمير إليه مفردا في قوله تعالى: عَلَيْهِ تُرابٌ أي شيء يسير منه فَأَصابَهُ وابِلٌ أي مطر شديد الوقع. والضمير للصفوان، وقيل: للتراب.
فَتَرَكَهُ صَلْداً أي أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلا، وهذا التشبيه يجوز أن يكون مفرقا فالنافق المنافق كالحجر في عدم الانتفاع ونفقته كالتراب لرجاء النفع منهما بالأجر والإنبات، ورياؤه كالوابل المذهب له سريعا الضار من حيث يظن النفع ولو جعل مركبا لصح، وقيل: إنه هو الوجه والأول ليس بشيء.
لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا رياء ولا ينتفعون به قطعا، والجملة مبينة لوجه الشبه أو استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل: لا يقدرون، وجعلها حالا من الذي كما قال: السمين مهزول من القول كما لا يخفى، والضمير راجع إلى الموصول باعتبار المعنى ما بعد روعي لفظه إذ هو صفة لمفرد لفظا مجموع معنى كالجمع والتفريق، أو هو مستعمل للجمع كما في قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: ٦٩] على رأي، وقوله:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد (٢)
وقيل: إن من والذي يتعاقبان فعومل هنا معاملته، ولا يخفى بعده، ورجوع الضمير إلى الَّذِينَ آمَنُوا من قبل بالالتفات مما لا يلتفت إليه. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى ما ينفعهم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفيه تعريض بأن كلّا من الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لطلب رضاه أو طالبين له. وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي ولتثبيت أو مثبتين بعض أنفسهم على الإيمان- فمن تبعيضية- كما في قولهم هزّ من عطفيه وحرك من نشاطه فإن للنفس قوى بعضها مبدأ بذل المال، وبعضها مبدأ بذل الروح فمن سخر قوة بذل المال لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه، ومن سخر قوة بذل المال وقوة بذل الروح فقد ثبت كل نفس، وقد يجعل مفعول تثبيتا محذوفا أي تثبيتا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم وقلوبهم. فمن ابتدائية كما في قوله تعالى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: ١٠٩] ويحتمل أن يكون المعنى وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد: «وتبيينا من أنفسهم» وجوز أن تكون مِنْ بمعنى اللام والمعنى توطينا لأنفسهم على طاعة الله تعالى. وإلى ذلك ذهب أبو علي
(١) قوله: وهو جمع إلخ كذا بخطه رحمه الله.
(٢) هو من شعر للأشهب النهشلي وهو شاعر إسلامي من طبقة الفرزدق، وقيل: للحارث بن مخفض، و «حانت» بمعنى هلكت وذهبت، و «فلج» بالسكون موضع بقرب البصرة، والمراد بدمائهم نفوسهم اهـ إدارة الطباعة المنيرية.
35
الجبائي- وليس بالبعيد- وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذي هو الداء العضال والرأس لكل خطيئة.
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أي بستان بنشز من الأرض، والمراد تشبيه نفقة هؤلاء في الزكاء بهذه الجنة، واعتبر كونها في ربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده.
وقرأ ابن عامر وعاصم بربوة بالفتح، والباقون بالضم، وابن عباس بالكسر، وقرىء «رباوة» وكلها لغات وقرئ:
«كمثل حبة» بالحاء والباء. أَصابَها وابِلٌ مطر شديد فَآتَتْ أي أعطت صاحبها أو الناس ونسبة الإيتاء إليها مجاز. أُكُلَها بالضم الشيء المأكول والمراد ثمرها وأضيف إليها لأنها محله أو سببه، وقرأ أبو عمرو وابن كثير.
ونافع بسكون الكاف تخفيفا. ضِعْفَيْنِ أي ضعفا بعد ضعف فالتثنية للتكثير، أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل، أو أربعة أمثاله بناء على الخلاف في أن الضعف هل هو المثل أو المثلان، وقيل:
المراد تأتي أكلها مرتين في سنة واحدة كما قيل في قوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم: ٢٥] ونصبه على الحال من أكلها أي مضاعفا فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي فيصيبها، أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها، والمراد أن خيرها لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها والطل- الرذاذ من المطر وهو اللين منه.
وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك، فهناك تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة الله تعالى الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشئ عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين الوابل، والطل، والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم، وهذا من التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل:- وهو محتمل- لأن يكون التشبيه حينئذ من المفرق- ويحتمل أن يكون من المركب- والكلام مساق للإرشاد إلى انتزاع وجه الشبه وطريق التركيب، والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني.
والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثر منهم الأضعاف لاجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف لأثمارها، واختار بعضهم الأول، وأبى آخرون الثاني فافهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازي كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به، ففي الجملة ترغيب للأوّل، وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغنى رؤيته من لا تغنى رؤيته شيئا وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أي أيحب أحدكم، وكذلك قرأ عمر رضي الله عنه في رواية عنه والهمزة فيه للانكار أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ وقرئ جنات مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما، والنخيل- قيل: اسم جمع، وقيل: جمع نخل وهو اسم جنس جمعي، وأَعْنابٍ جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك- لأن النخلة كلها منافع- ونعمت العمات: هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره، وفي
36
بعض الآثار- ولم أجده في كتاب يعول عليه- إن الله تعالى يقول: أتكفرون بي وأنا خالق العنب، والجنة- تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة، وعلى الأرض المشتملة عليها، والأول أنسب بقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إذ على الثاني يحتاج إلى تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وكذا يحتاج إلى جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازيا والجملة في موضع رفع صفة جَنَّةٌ أو في موضع نصب حال منها لوصفها بالجار والمجرور قبل لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الظرف الأول في محل رفع خبر مقدم، والثاني حال من الضمير المستتر في الخبر، والثالث نعت لمبتدأ محذوف أي رزق، أو ثمر كائن من كل الثمرات، وجوز زيادة مِنْ على مذهب الأخفش، وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف المبتدأ، وعلى التقديرين ليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو الكثير، ومن الناس من جوز كون المراد من الثمرات المنافع، وهذا يجعل ذكر ذينك الجنسين لعدم احتواء الجنة على ما سواهما، ومنهم من قال: إن هذا من ذكر العام بعد الخاص للتتميم وليس بشيء وَأَصابَهُ الْكِبَرُ أي أثر فيه علو السن والشيخوخة وهو أبلغ من كبر، والواو للحال، والجملة بتقدير قد في موضع نصب على الحال من فاعل- يود- أي أيود أحدكم ذلك في هذه الحال التي هي مظنة شدة الحاجة إلى منافع تلك الجنة ومئنة العجز عن تدارك أسباب المعاش، وقيل:
الواو للعطف ووضع الماضي موضع المضارع كما قاله الفراء، أو أول المضارع بالماضي أي لو كانت له جنة وأصابه الكبر، واعترضه أبو حيان بأن ذلك يقتضي دخول الإصابة في حيز التمني وَأَصابَهُ الْكِبَرُ لا يتمناها أحد، والجواب بأن ذلك غير وارد لما أن الاستفهام للانكار فهو ينكر الجمع بينهما لا يخفى ما فيه وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ في موضع الحال من الضمير في- أصابه أي أصابه الكبر، والحال أن له صبية ضعفاء لا يقدرون على الكسب وترتيب معاشه ومعاشهم، والضعفاء- جميع ضعيف كشركاء جمع شريك، وترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب كما لا يخفى، وقرئ- ضعاف- فَأَصابَها إِعْصارٌ أي ريح تستدير على نفسها وتكون مثل المنارة وتسمى الزوبعة وهي قد تكون هابطة، وقد تكون صاعدة خلافا لما يفهمه ظاهر كلام البعض من تخصيصها بالثانية، وسبب الأولى أنه إذا انفصل ريح من سحابة وقصدت النزول فعارضها في طريق نزولها قطعة من السحاب وصدمتها من تحتها ودفعها من فوقها سائر الرياح بقيت ما بين دافعين دافع من العلو ودافع من السفل فيعرض من الدفعين المتمانعين أن تستدير وربما زادها تعوج المنافذ تلويا كما يعرض للشعر أن لا يتجعد بسبب التواء مسامه، وسبب الثانية أن المادة الريحية إذا وصلت إلى الأرض وقرعتها قرعا عنيفا ثم أثبتت فقلبتها ريح أخرى من جهتها التوت واستدارت وقد تحدث أيضا من تلاقي ريحين شديدتين، وربما بلغت قوتها إلى حيث تقلع الأشجار وتخطف المراكب من البحر، وعلامة النازلة أن تكون لفائفا تصعد وتنزل معا كالراقص، وعلامة الصاعدة أن لا يرى للفائفها إلا الصعود وقد يكون كل منهما بمحض قدرة الله تعالى من غير توسط سبب ظاهر وربما اشتمل دور الزوبعة على بخار مشتعل قوي فيكون نار تدور أيضا، ولتعيين هذا النوع وصف الإعصار بقوله سبحانه: فِيهِ نارٌ وتذكير الضمير لاعتبار التذكير فيه وإنما سمي ذلك الهواء إعصارا لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور وقيل: لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها والتنوين في النار للتعظيم وروى عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقا وأن المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر، ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال- فأصابها نار فَاحْتَرَقَتْ لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر، والفعل المقرون بالفاء عطف على أَصابَها وقيل: على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها- فاحترقت- وهذا كما روى عن السدي تمثيل حال من ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباء منثورا بحال من هذا شأنه.
37
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: آية من كتاب الله تعالى ما وجدت أحدا يشفيني عنها قوله تعالى: أيحب أحدكم أن تكون له (١) إلخ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها فقال له عمر: فلم تحقر نفسك؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا مثل ضربه الله تعالى فقال. أيحب أحدكم أن يكون عمره يعمل بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كبر سنه وقرب أجله ورقّ عظمه وكان أحوج ما يكون إلى أن يختم عمله بخير عمل يعمل أهل الشقاء فأفسد عمله فأحرقه قال: فوقعت على قلب عمر وأعجبته.
وفي رواية البخاري، والحاكم، وابن جرير، وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ إلخ؟ قالوا: الله تعالى أعلم فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ضربت لرجل غني عمل بطاعة الله تعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله، قيل: وهذا أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمنّ والأذى والرياء، وفصل عنه لاتصاله بمنا ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له، وأجيب بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل المذكور، وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد قاله ترجمان القرآن وارتضاه الأمير المحدث رضي الله تعالى عنه كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى الأمور المحسوسة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما تضمنته من العبر وتعلموا بموجبها، أو لعلكم تعلمون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا وفيما هو باق لكم في الأخرى فتزهدون في الدنيا وتنفقون مما أتاكم الله تعالى منها وترغبون في الآخرة ولا تفعلون ما يحزنكم فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ أي جياد أو حلال ما كَسَبْتُمْ أي الذي كسبتموه أو كسبكم أي مكسوبكم من النقد وعروض التجارة والمواشي.
وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ: من الذهب والفضة وفي قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة،
والجملة لبيان حال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته وأعاد مِنْ في المعطوف لأن كلا من المتعاطفين نوع مستقل، أو للتأكيد- ولعله أولى- وترك ذكر- الطيبات- لعلمه مما قبله، وقيل: لعلمه مما بعد، وبعض جعل ما عبارة عن ذلك وَلا تَيَمَّمُوا أي تقصدوا وأصله تتيمموا بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا إما الأولى وإما الثانية على الخلاف، وقرأ عبد الله ولا تأمموا، وابن عباس تيمموا بضم التاء والكل بمعنى الْخَبِيثَ أي الرديء وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تذكر موصوفاتها مِنْهُ تُنْفِقُونَ الضمير المجرور للخبيث وهو متعلق- بتنفقون- والتقديم للتخصيص، والجملة حال مقدرة من فاعل تَيَمَّمُوا أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه، أو من الخبيث أي مختصا به الإنفاق، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة.
فعن عبيدة السلماني قال: سألت عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذه الآية فقال: نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة إعطاء من الرديء فقال الله تعالى: وَلا
(١) كذا في الأصل، والقراءة في مصاحفنا أَيَوَدُّ.
38
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ
وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث، والضمير راجع إلى المال الذي في ضمن القسمين، أو لما أخرجنا وتخصيصه بذلك لأن الرداءة فيه أكثروا كذا الحرمة لتفاوت أصنافه ومجالبه، وتُنْفِقُونَ حال من الفاعل المذكور- أي ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال- أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ حال على كل حال من ضمير تُنْفِقُونَ أي- والحال أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات- أو بوجه من الوجوه إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ إلا وقت إغماضكم أو إلا بإغماضكم فيه والإغماض كالغمض إطباق الجفن لما يعرض من النوم، وقد استعير هنا- كما قال الراغب- للتغافل والتساهل، وقيل: إنه كناية عن ذلك ولا يخلو عن تساهل وتغافل، وذكر أبو البقاء أنه يستعمل متعديا- وهو الأكثر- ولازما مثل أغضى عن كذا، والآية محتملة للأمرين، وعلى الأول يكون المفعول محذوفا أي أبصاركم، والجمهور على ضم التاء وإسكان العين وكسر الميم، فقرأ الزهري- تغمضوا- بتشديد الميم وعنه أيضا- تغمضوا- بضم الميم وكسرها مع فتح التاء، وقرأ قتادة- تغمضوا- على البناء للمفعول أي تحملوا على الإغماض أي توجدوا مغمضين وكلا المعنيين مما أثبته الحفاظ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمنسبك من أَنْ والفعل على كل تقدير في موضع الجر كما أشرنا إليه، وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع النصب على الحالية، وسيبويه لا يجوز أن تقع أَنْ وما في حيزها حالا، وزعم الفراء أَنْ هنا شرطية لأن معناه إن أغمضتم أخذتم، وينبغي أن يغمض طرف القبول عنه، ومن البعيد في الآية ما قيل: إن الكلام تم عند قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع: مِنْهُ تُنْفِقُونَ والحال- أنكم لا تأخذونه إلا إن أغمضتم- فيه ومآله الاستفهام الإنكاري فكأنه قيل: أمنه تنفقون إلخ، وهو على بعده خلاف التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن نفقاتكم وإنما أمركم بها لانتفاعكم، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه عن شأنه حَمِيدٌ أي مستحق للحمد على نعمه، ومن جملة الحمد اللائق بجلاله تحري إنفاق الطيب مما أنعم به، وقيل: حامد بقبول الجيد والإثابة عليه، واحتج بالآية على وجوب زكاة قليل ما تخرجه الأرض وكثيرة حتى البقل، واستدل بها على أن من زرع في أرض اكتراها فالزكاة عليه لا على رب الأرض لأن أخرجنا لكم يقتضي كونه على الزارع وعلى أن صاحب الحق لا يجبر على أخذ المعيب بل له الرد وأخذ سليم بدله الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ استئناف لبيان سبب تيمم الخبيث في الإنفاق وتوهين شأنه والوعد في أصل وضعه لغة شائع في الخير والشر، وأما في الاستعمال الشائع فالوعد في الخير والإيعاد في الشر حتى يحملوا خلافه على المجاز والتهكم، وقد استعمل هنا في الشر نظرا إلى أصل الوضع لأن الفقر مما يراه الإنسان شرا، ولهذا يخوف الشيطان به المتصدقين فيقول لهم: لا تنفقوا الجيد من أموالكم وأن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا، وتسمية ذلك وعدا مع أنه اعتبر فيه الأخبار بما سيكون من جهة المخبر والشيطان لم يضف مجىء الفقر إلى جهته للإيذان بمبالغة اللعين في الأخبار بتحقق مجيئه كأنه نزله في تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة حسب إرادته، ولوقوعه في مقابلة وعده تعالى على طريق المشاكلة، ومن الناس من زعم أن استعمال الوعد هنا في الخير حسب الاستعمال الشائع، والمراد أن ما يخوفكم به هو وعد الخبر لأن الفقر للإنفاق أجل خير، ولا يخفى أنه بمراحل عن مذاق التنزيل، وقرئ- الفقر- بالضم والسكون وبفتحتين وضمتين وكلها لغات في الفقر وأصله كسر فقار الظهر وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي الخصلة الفحشاء وهي البخل وترك الصدقات والعرب تسمي البخيل فاحشا قال كعب:
39
أخي يا أخي «لا فاحشا» عند بيته ولا برم عند اللقاء هيوب
والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية، وقيل: المراد بالفحشاء سائر المعاصي وحملها على الزنا نعوذ بالله منه وجوز أن تكون بمعنى الكلمة السيئة فتكون هذه الجملة كالتأكيد للأولى وقدم وعد الشيطان على أمره لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر إذ فيه استعلاء على المأمور وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ في الإنفاق على لسان نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم مَغْفِرَةً لذنوبكم، وعن قتادة لفحشائكم، والتنوين فيها للتفخيم وكذا وصفها بقوله تعالى: مِنْهُ فهو مؤكد لفخامتها، وفيه تصريح بما علم ضمنا من الوعد كما علمت مبالغة في توهين أمر الشيطان وَفَضْلًا أي رزقا وخلفا- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- فتكون المغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، وهذا إشارة إلى منافع الدنيا.
وفي الحديث «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر:
اللهم أعط ممسكا تلفا»

وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها، وقيل: المغفرة والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأول حينئذ لتقدم التخلية على التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح. وفي الآية فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: ١٨٥] وحذف صفة الثاني لدلالة المذكور عليها وَاللَّهُ واسِعٌ بالرحمة والفضل عَلِيمٌ بما تنفقونه فيجازيكم عليه، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومثلها في قوله تعالى:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وفي رواية عنه الفقه في القرآن، ومثله عن قتادة، والضحاك، وخلق كثير، وما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما
أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له اقبض فيقبض فيقال له هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم»
وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء- الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه- وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل، وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه، وفي أخرى العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته، وعن عطاء أنها المعرفة بالله تعالى، وقال أبو عثمان: هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام، وقيل: غير ذلك، وفي البحر أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحا واقتصارا على ما رآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهي في الأصل مصدر من الأحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها، وعن مقاتل أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة.
قيل: ولعل الأنسب بالمقام ما ينتظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها مَنْ يَشاءُ من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على
40
المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم، وقرأ يعقوب- يؤتى- على البناء للفاعل وجعل مَنْ الشرطية مفعولا مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف، ويؤيد الثاني قراءة الأعمش ومن- يؤته الحكمة- فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً عظيما كَثِيراً إذ قد جمع له خير الدارين.
أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن لقمان قال لابنه: يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر»
وأخرج البخاري، ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»
وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم» وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول: «إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي»
وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة صلى الله تعالى عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس، وديمقراطيس، وأفلاطون، وأرسطاليس ومن مشى على آثارهم واعتكف في رواق أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما عولوا عليه حتى إن كثيرا من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم واستدلوا على ذلك بما
أخرجه الإمام أحمد. وأبو يعلى من حديث جابر «أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه فغضب ولم يأذن له وقال: لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية «يكفيكم كتاب الله تعالى»
ووجه الاستدلال أنه صلّى الله عليه وسلم لم يبح استعمال الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونورا في وقت كانت فيه أنوار النبوة ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح الاشتغال بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا في وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه غريبا، وفي كتاب الله تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم اتباع الهوى وهؤلاء هم الذين أوتوا الحكمة ولإظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر، والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي.
ومن باب الإشارة في الآيات أنها اشتملت على ثلاثة إنفاقات متفاضلة، الأول الانفاق في سبيل الله تعالى وهو إنفاق في عالم الملك عن مقام تجلي الأفعال، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة: ٢٦١] إلخ، والثاني الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات وهو الانفاق لطلب رضا الله تعالى، وإليه أشار بقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ومن تمثيله بجنة يعلم مقدار فضله على الأول الممثل بحبة، ولعل فضل أحدهما على الآخر كفضل الجنة على الحبة، ومما يزيد في الفرق أن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة، ولتأكيد الإشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق على الأول أتى بالربوة وهي المرتفع من الأرض، والثالث الانفاق بالله تعالى وهو عن مقام شهود الذات وهو إنفاق النفس بعد تزكيها وإليه الإشارة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ والنفس مكتسبة بهذا الاعتبار وجزاء الانفاق الأول الأضعاف إلى سبعمائة وتزيد لأن يد الطول طويلة، وجزاء الثاني الجنة الصفاتية المثمرة للإضعاف وجزاء الثالث الحكمة اللازمة للوجود الموهوب بعد البذل وهي الخير العظيم الكثير لأنها أخص صفاته تعالى، وصاحب هذا الإنفاق لا يزال ينفق من الحكم
41
الإلهية والعلوم اللدنية لارتفاع البين وشهود العين وقد نبه سبحانه في أثناء ذلك على أن الإنفاق يبطله المنّ والأذى لأنه إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه كونه موافقا للأمر- وهو حال له بالنسبة إليه تعالى- وكونه مزيلا لرذائل البخل- وهو حال له بالنسبة إلى المنفق نفسه- وكونه نافعا مريحا- وهو حال له بالنسبة إلى المستحق- فإذا منّ صاحبه وآذى فقد خالف أمر الله تعالى وأتى بما ينافي راحة المستحق ونفعه وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله تعالى وكلها رذائل أردأ من البخل ولهذا كان القول الجميل خيرا من الصدقة المتبوعة بالأذى بل لا نسبة وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل، فالآية بيان لحكم كلي شامل لجميع أفراد النفقات أو ما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله تعالى أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ متعلق بالمال أو بالأفعال بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية، والنذر عقد القلب على شيء والتزامه على وجه مخصوص قيل: وأصله الخوف لأن الشخص يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير أو خوف وقوع أمر خطير ومنه نذر الدم وهو العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال عمرو بن معدي كرب:
هم (ينذرون دمي) وأن ذر إن لقيت بأن أشدا
وفعله كضرب ونصر، وعن يونس فيما حكاه الأخفش تقول العرب: نذر على نفسه نذرا ونذرت مالي فأنا أنذره نذرا فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم، والفاء داخلة في الجواب إن كانت ما شرطية وصلة في الخبر إن كانت موصولة وتوحيد الضمير مع أن متعلق العلم متعدد لاتحاد المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو وهي لأحد الشيئين، وقال ابن عطية: إن التوحيد باعتبار المذكور وكأنه لم يعتبر المذكور لاعتبار المرجع النفقة والنذر المذكورين دون المصدرين المفهومين من فعليهما وهما المتعاطفان- بأو دونهما، وعلى تسليم أن عطف الفعلين مستلزم لعطفهما لا ينبغي اعتبارهما أيضا لأن الضمير مذكر قطعا وهما مذكر ومؤنث، واعتبار أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ولا يخفى ما فيه فإن مثل هذا الضمير قد يعتبر فيه حال المقدم مراعاة للأولية كما في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: ١١] وقد يعتبر فيه حال المؤخر مراعاة للقرب كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء: ١١٢] وكل منهما سائغ شائع في الفصيح وما نحن فيه من الثاني إن اعتبر المذكور صريحا والتزام التأويل في جميع ما ورد تعسف مستغنى عنه كما لا يخفى، نعم جوز إرجاع الضمير إلى ما لكن على تقدير كونها موصولة كما قاله غير واحد.
وَما لِلظَّالِمِينَ أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمنّ والأذى، والمتحرين للخبيث في الإنفاق، والمنفقين في باطل والناذرين في معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق، والباخلين بالصدقة مما آتاهم الله تعالى من فضله، وخصهم أبو سليمان الدمشقي بالمنفقين بالمنّ والأذى والرياء والمبذرين في المعصية ومقاتل بالمشركين ولعل التعميم أولى مِنْ أَنْصارٍ أي أعوان ينصرونه من بأس الله تعالى لا شفاعة ولا مدافعة وهو جمع نصير- كحبيب، وأحباب- أو ناصر- كشاهد وأشهاد- والإتيان به جمعا على طريق المقابلة فلا يرد أن نفي الأنصار لا يفيد نفي الناصر وهو المراد.
والقول- بأن هذا إنما يحتاج إليه إذا جعلت مِنْ زائدة ولك أن تجعلها تبعيضية أي شيء من الأنصار ليس بشيء كما يخفى والجملة استئناف مقرر للوعيد المشتمل عليه مضمون ما قبله، ونفي أن يكون للظالم على رأي مقاتل ناصر مطلقا ظاهر، وأما على تقدير أخذ المظالم عاما أو خاصا بما قاله أبو سليمان فيحتاج إلى القول بأن الآية خارجة مخرج الترهيب لما أن العاصي غير المشرك كيف ما كانت معصيته يجوز أن يكون له ناصر يشفع له عند ربه،
42
واستدل بالآية على مشروعية النذر والوفاء به ما لم يكن معصية وإلا فلا وفاء،
فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه، ويكره ما يكفر اليمين»
وتفصيل الكلام في النذر يأتي بعد إن شاء الله تعالى.
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أي تظهروا إعطاءها، قال الكلبي: لما نزلت وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الآية قالوا: يا رسول الله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت، فالجملة نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما، والمراد من الصدقات على ما ذهب إليه جمهور المفسرين صدقات التطوع، وقيل:
الصدقات المفروضة، وقيل: العموم فَنِعِمَّا هِيَ- الفاء- جواب للشرط،- ونعم- فعل ماض، وما كما قال ابن جني: نكرة تامة منصوبة على أنها تمييز وهي مبتدأ عائد للصدقات على حذف مضاف أي إبداؤها أو لا حذف، والجملة خبر عن هي، والرابط العموم، وقرأ ابن كثير، وورش، وحفص بكسر النون والعين للاتباع وهي لغة هذيل قيل:
ويحتمل أنه سكن ثم كسر لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل كعلم، وقرأ أبو عمرو، وقالون: وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين، وروي عنهم الإسكان أيضا- واختاره أبو عبيدة- وحكاه لغة، والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان حتى جعله بعضهم من وهم الرواة، وممن أنكره المبرد، والزجاج، والفارسي لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حدة وَإِنْ تُخْفُوها أي تسروها والضمير المنصوب إما للصدقات مطلقا وإما إليها لفظا لا معنى بناء على أن المراد بالصدقات المبدأة المفروضة وبالمخفاة المتطوع بها فيكون من باب- عندي درهم ونصفه- أي نصف درهم آخر، وفي جمع الإبداء والإخفاء من أنواع البديع الطباق اللفظي كما أن في قوله تعالى: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ الطباق المعنوي لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء قيل: ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه لا بد منه في الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغني ربما يدّعي الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس، وتخصيص الفقراء بالذكر اهتماما بشأنهم، وقيل: إن المبداة لما كانت الزكاة لم يذكر فيها الفقراء لأن مصرفها غير مخصوص بهم، والمخفاة لما كانت التطوع بين أن مصارفها الفقراء فقط وليس بشيء لأنه بعد تسليم أن المبداة زكاة والمخفاة تطوع لا نسلم أن مصارف الثانية الفقراء فقط- ودون إثبات ذلك الموت الأحمر- وكأنه لهذا فسر بعضهم الفقراء بالمصارف فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فالإخفاء خَيْرٌ لَكُمْ من الإبداء، وخَيْرٌ لَكُمْ من جملة الخيور، والأول هو الذي دلت عليه الآثار والأحاديث في أفضلية الإخفاء أكثر من أن تحصى.
أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة أن أبا ذر قال: يا رسول الله أيّ الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة سر إلى فقير أو جهد من مقل ثم قرأ الآية»،
وأخرج الطبراني مرفوعا «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب».
وأخرج البخاري «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله- إلى أن قال- ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»
والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان كل من صدقتي السر والعلانية تطوعا ممن لم يعرف بمال وإلا فإبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وأمن نفسه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا» وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أي والله يكفر أو الإخفاء، والإسناد مجازي، ومِنْ تبعيضية لأن الصدقات لا يكفر بها جميع السيئات،
43
وقيل: مزيدة على رأي الأخفش، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية ابن عياش، ويعقوب- «نكفّر» - بالنون مرفوعا على أنه جملة مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي ونحن نكفر، وقيل: لا حاجة إلى تقدير المبتدأ، والفعل نفسه معطوف على محل ما بعد الفاء لأنه وحده مرفوع لأن الفاء الرابطة مانعة من جزمه لئلا يتعدد الرابط، وقرأ حمزة. والكسائي- نكفر- بالنون مجزوما بالعطف على محل الفاء مع ما بعدها لأنه جواب الشرط قاله غير واحد، واستشكله البدر الدماميني بأنه صريح في أن الفاء، وما دخلت عليه في محل جزم، وقد تقرر أن الجملة لا تكون ذات محل من الإعراب إلا إذا كانت واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال المفرد حتى تكون الجملة واقعة موقع ذات محل من الإعراب وذلك لأن جواب الشرط إنما يكون جملة ولا يصح أن يكون مفردا فالموضع للجملة بالأصالة وادعى أن جزم الفعل ليس بالعطف على محل الجملة وإنما هو لكونه مضارعا وقع صدر جملة معطوفة على جملة جواب الشرط الجازم وهي لو صدرت بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة المعطوف عليها وهو جزم صدرها إذا كان فعلا مضارعا ويمكن دفعه بالعناية فتدبر، وقرئ- وتكفر- بالتاء مرفوعا ومجزوما على حسب ما علمت والفعل للصدقات وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ في صدقاتكم من الإبداء والإخفاء خَبِيرٌ عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك كله، ففي الجملة ترغيب في الإعلان والإسرار وإن اختلفا في الأفضلية، ويجوز أن يكون الكلام مساقا للترغيب في الثاني لقربه ولكون الخبرة بالإبداء ليس فيها كثير مدح.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ أي لا يجب عليك أيها الرسول أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن المنهيين عن هاتيك الرذائل مهديين إلى الائتمار والانتهاء- إن أنت إلا بشير ونذير، وما عليه إلا البلاغ المبين- وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي بهدايته الخاصة الموصلة إلى المطلوب قطعا مَنْ يَشاءُ هدايته منهم، والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن. وأبو علي الجبائي، وهو مبني على رجوع ضمير هُداهُمْ إلى المخاطبين في تلك الآيات السابقة، والذي يستدعيه سبب النزول رجوعه إلى الكفار،
فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية»
وأخرج ابن جرير عنه قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تصدقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ
أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام وحينئذ لا التفات، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط، والآية حث على الصدقة أيضا ولكن بوجه آخر والارتباط على التقديرين ظاهر، وجعلها مرتبطة- بقوله سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٦٩] إشارة إلى قسم آخر من الناس لم يؤتها- ليس بشيء وَما تُنْفِقُوا في وجوه البر مِنْ خَيْرٍ أي مال فَلِأَنْفُسِكُمْ أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم «فلا تيمموا الخبيث» ولا تبطلوه بالمنّ والأذى ورئاء الناس، أو فلا تمنعوه عن الفقراء كيف كانوا فإن نفعكم به دينيّ ونفع الكافر منهم دنيوي، وما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية، مَنْ تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ استثناء من أعم العلل وأعم الأحوال أي ما تنفقون بسبب من الأسباب إلا لهذا السبب، أو في حال من الأحوال إلا في هذه الحال، والجملة إما حال أو معطوفة على ما قبلها على معنى وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فإنما يكون لكم لا عليكم
44
إذا كان حالكم أن لا تنفقوا إلا لأجل طلب وجه الله تعالى، أو الا طالبين وجهه سبحانه لا مؤذين ولا مانين ولا مرائين ولا متيممين الخبيث، أو على معنى ليست نفقتكم إلا لكذا أو حال كذا فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث أو تمنعونها فقراء المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وقيل: إنه نفي بمعنى النهي أي لا تنفقوا إلا كذا وإقحام الوجه للتعظيم ودفع الشركة لأنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أجلّ من قولك: فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقا، وأيضا قول القائل: فعلت هذا الفعل لفلان يحتمل الشركة وأنه قد فعله له ولغيره ومتى قال: فعلته لوجهه انقطع عرق الشركة عرفا، وجعله كثير من الخلق بمعنى الذات وبعضهم حمله هنا على الرضا وجعل الآية على حد إلا ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: ٢٠٧، ٢٦٥، النساء: ١١٤] تعالى والسلف بعد أن نزهوا فوضوا كعادتهم في المتشابه وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي تعطون جزاءه وافرا وافيا كما تشعر به صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- والمراد نفي أن يكون لهم عذر في مخالفة الأمر المشار إليه في الإنفاق، فالجملة تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الأمر فكأنه قيل: كيف يمنّ أو يقصر فيما يرجع إليه نفعه أو كيف يفعل ذلك فيما لو عوض وزيادة، وهي بهذا الاعتبار أمر مستقل، وقيل: إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء استجابة
لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا»
والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن معها إليكم لتضمنها معنى التأدية وإسنادها إلى ما مجازي وحقيقته ما سمعت، والآية بناء على سبب النزول دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير الواجبة أمر مقرر، وأما الواجبة التي للإمام أخذها كالزكاة فلا يجوز، وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يجوزه، وظاهر قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان:
٨] يؤيده إذ الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون شيئا مما وعدتم، والجملة حال من ضمير إِلَيْكُمْ والعامل يوف لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام ولهذا حذف أي اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء، والجملة استئناف مبني على السؤال، وجوز أن يكون الجار متعلقا بقوله تعالى: وَما تُنْفِقُوا، وقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ اعتراض أي وما ننفقوا للفقراء الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حبسهم الجهاد أو العمل في مرضاة الله تعالى يوف إليكم ولا يخفى بعده لا يَسْتَطِيعُونَ لاشتغالهم بذلك ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي مشيا فيها وذهابا للتكسب والتجارة وهم أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم، قاله ابن عباس. ومحمد بن كعب القرظي- وكانوا نحوا من ثلاثمائة ويزيدون وينقصون من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعن سعيد بن جبير هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمنى فجعل لهم في أموال المسلمين حقا ولعل المقصود في الروايتين بيان بعض أفراد هذا المفهوم ودخوله فيه إذ ذاك دخولا أوليا لا الحصر إذ هذا الحكم باق إلى يوم الدين يَحْسَبُهُمُ أي يظنهم الْجاهِلُ الذي لا خبرة له بحالهم.
أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي من أجل تعففهم على المسألة- فمن- للتعليل وأتى بها لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد الفاعل، وقيل: لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم، والتعفف ترك الشيء وهو اتحاد الفاعل، وقيل: لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم، والتعفف ترك الشيء
45
والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه، ومفعوله محذوف اختصارا كما أشرنا إليه، وحال هذه الجملة كحال سابقتها تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أي تعرف فقرهم واضطرارهم بالعلامة الظاهرة عليهم كالتخشع والجهد ورثاثة الحال.
أخرج أبو نعيم عن فضالة بن عبيد قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين».
وأخرج هو أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «كان من أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء» والخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم، ووزن- سيما- عفلا لأنها من الوسم بمعنى السمة نقلت الفاء إلى موضع العين وقلبت ياء لوقوعها بعد كسرة لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي إلحاحا وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده، وقيل: سمي الإلحاح بذلك لأنه يغطي القلب كما يغطي اللحاف من تحته. ونصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال أو على الحال أي ملحفين، والمعنى أنهم لا يسألون أصلا- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وإليه ذهب الفراء، والزجاج، وأكثر أرباب المعاني- وعليه يكون النفي متوجها لأمرين على حد قول الأعشى:
لا يغمز الساق من- أين ومن وصب- ولا يغص على- شرسوفه الصغر
واعترض بأن هذا إنما يحسن إذا كان القيد لازما للمقيد أو كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيه بطريق برهاني وما هنا ليس كذلك إذ الإلحاف ليس لازما للسؤال ولا كلازمه، وأجيب بأن هذا مسلم إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه وهو كذلك هنا لأن التعفف حتى يظنوا أغنياء يقتضي عدم السؤال رأسا، وأيضا تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ مؤيد لذلك إذ لو سألوا لعرفوا بالسؤال واستغنى عن العرفان- بالسيما- وقيل: المراد إنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا، ومن الناس من جعل المنصوب مفعولا مطلقا للنفي أي يتركون السؤال إلحاحا أي ملحين في الترك وهو كما ترى وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم به وهو ترغيب في الإنفاق لا سيما على هؤلاء،
أخرج البخاري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف،
واقرؤوا إن شئتم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، وتقديم الظرف مراعاة للفواصل أو إيماء للمبالغة.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة، فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد بما بعده جميع الأحوال، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار، وانتصاب سِرًّا وَعَلانِيَةً على أنهما مصدران في موضع الحال أي مسرّين ومعلنين، أو على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه، أو نعتان لمصدر محذوف أي إنفاقا سرا، والباء بمعنى في، واختلف فيمن نزلت،
فأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما، وسرا درهما وعلانية درهما،
وفي رواية الكلبي، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما حملك على هذا؟ قال: حملني أن استوجب على الله تعالى الذي وعدني فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ألا إن ذلك لك»
.
وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أن الآية كلها في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة، وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والواحدي من طريق حسن بن عبد الله الصنعاني أنه سمع ابن
46
عباس رضي الله تعالى عنهما يقول في هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلخ هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله تعالى- وهو قول أبي أمامة، وأبي الدرداء، ومكحول، والأوزاعي، ورباح بن يزيد- ولا يأبى ذلك ذكر السر والعلانية كما لا يخفى، وقال بعضهم: إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية، وتعقبه الإمام السيوطي- بأن حديث تصدقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وخبر أنّ الآية نزلت فيه- لم أقف عليه وكان من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحق قال: لما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إن بعض الطمع فقر وإن بعض اليأس غنى وإنكم تجمعون مالا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون واعلموا أن بعضا من الشح شعبة من النفاق فأنفقوا خيرا لأنفسكم فأين أصحاب هذه الآية وقرأ الآية الكريمة، وأنت تعلم أنها لا دلالة فيها على المدعى فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ المخبوء لهم في خزائن الفضل عِنْدَ رَبِّهِمْ والفاء داخلة في حيز الموصول للدلالة على سببية ما قبلها، وقيل: للعطف والخبر محذوف أي- ومنهم الذين- إلخ، ولذلك جوز الوقف على علانية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تقدم تفسيره والإشارة في الآيات ظاهرة.
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يأخذونه فيعم سائر أنواع الانتفاع والتعبير عنه بالأكل لأنه معظم ما قصد به، والربا في الأصل الزيادة من قولهم: ربا الشيء يربو إذا زاد، وفي الشرع عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال وإنما يكتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة من يفخم وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع فصار اللفظ به على طبق المعنى في كون كل منهما مشتملا على زيادة غير مستحقة فأخذ لفظ الربا الحرف الزائد وهو الألف بسبب اللفظ الذي يشابهه وهو واو الجمع حيث زيدت فيه الألف كما يأخذ معنى لفظ الربا بمشابهته معنى لفظ البيع لاشتمال المعنيين على معاوضة المال بالمال بالرضا- وإن كان أحد العوضين أزيد- وقيل: الكتابة بالواو والألف لأن للفظ نصيبا منهما، وإنما لم تكتب الصلاة والزكاة بهما لئلا يكون في مظنة الالتباس بالجمع، وقال الفراء: إنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط لغتهم- ربوا- بواو ساكنة فكتب كذلك وهذا مذهب البصريين، وأجاز الكوفيون كتابته وكذا تثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله، قال أبو البقاء: وهو خطأ عندنا لا يَقُومُونَ أي يوم القيامة- وبه قرئ كما في الدر المنثور.
إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أي إلا قياما كقيام المتخبط المصروع في الدنيا- والتخبط- تفعل بمعنى فعل وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة، ثم تجوز به عن كل ضرب غير محمود، وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار،
فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إياك الذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة. وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط» ثم قرأ الآية،
وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه، ولعل الله تعالى جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له كما جعل لبعض المطيعين أمارة تليق به يعرف بها كرامة له، ويشهد لذلك- أن هذه الأمة- يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء- وإلى هذا ذهب ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة- واختاره الزجاج- وقال ابن عطية: المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة: قد جن، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات مِنَ الْمَسِّ أي الجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا جن وأصله اللمس باليد وسمي به لأن
47
الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسد ويحدث الجنون، وهذا لا ينافي ما ذكره الأطباء من أن ذلك من غلبة مرة السوداء وما ذكروه سبب قريب- وما تشير إليه الآية سبب بعيد- وليس بمطرد أيضا بل ولا منعكس فقد يحصل مس ولا يحصل جنون كما إذا كان المزاج قويا وقد يحصل جنون ولم يحصل مس كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبي، والجنون الحاصل بالمس قد يقع أحيانا، وله عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها، وقد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضا على أتم وجه وربما استولى ذلك البخار على الحواس وعطلها، واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلا، وهذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعد منكره مكابرا منكرا للمشاهدات.
وقال المعتزلة. والقفال من الشافعية: إن كون الصرع والجنون من الشيطان- باطل لأنه لا يقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم: ٢٢] الآية وما هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله وليس لذلك حقيقة- وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة بقواطع الشرع
فقد ورد «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا» وفي بعض الطرق «إلا طعن الشيطان في خاصرته»
ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وابنها لقول أمها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: ٣٦]
وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين»
وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة والسلام أنه حدث من شأنه معهم قال: «فجاءني طائر كأنه جمل قبعثري فاحتملني على خافية من خوافيه»
إلى غير ذلك من الآثار، وفي لقط المرجان في أحكام الجان كثير منها، واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطا طويلا لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم وبذلك ونحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، والآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدعاهم لا تدل عليه إذ السلطان المنفي فيها إنما هو القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك، ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من الشيطان بل وقوعه بالفعل،
وخبر «الطاعون من وخز أعدائكم الجن»
صريح في ذلك، وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبط والمس حيث قال: إن الهواء إذا تعفن تعفنا مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية باقية على هوائيتها أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما عرف في الكلام أجسام حية لا ترى اما الغالب عليها الهوائية أو النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا نزل واحد منها طبعا، أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه، أو ضرب وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية وما في الشخص من الاستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب العادية في المسببات- ألم شديد مهلك غالبا مظهر للدماميل والبثرات في الأكثر بسبب إفساده للمزاج المستعد، وبهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب- وهو تحقيق حسن لم نجده لغيره كما لم نجد ما حققناه في شأن المس- لأحد سوانا فليحفظ.
والجار والمجرور متعلق بما قبله من الفعل المنفي بناء- على أن ما قبل إِلَّا يعمل فيما بعدها إذا كان ظرفا كما في الدر المصون أي لا يقومون من جهة المس الذي بهم بسبب- أكلهم الربا- أو- بيقوم- أو- يتخبطه-
48
ذلِكَ إشارة إلى الأكل أو إلى ما نزل بهم من العذاب بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أرادوا نظمهما في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فحيث حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حل بيع درهم بدرهمين إلا أنهم جعلوا الربا أصلا في الحل وشبهوا البيع به روما للمبالغة كما في قوله:
ومهمه مغبرة أرجاؤه... كأن (لون أرضه سماؤه)
وقيل: يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا جملة مستأنفة من الله تعالى ردا عليهم وإنكارا لتسويتهم، وحاصله أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان على أن بين البابين فرقا، وهو أن من باع ثوبا يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابله شيء من الثوب، وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال حتى يكون في مقابله المال، وقيل: الفرق بينهما أن أحد الدرهمين في الثاني ضائع حتما وفي الأول منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها، وجوز أن تكون الجملة من تتمة كلام الكفار إنكارا للشريعة وردا لها أي مثل هذا من الفرق بين المتماثلات لا يكون عند الله تعالى فهي حينئذ حالية، وفيها- قد- مقدرة ولا يخفى أنه من البعد بمكان، والظاهر عموم البيع والربا في كل بيع وفي كل ربا إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا، وقيل: هما مجملان فلا يقدم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: من آخر ما أنزل آية الربا وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي فمن بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا واستحلاله، و «من» شرطية أو موصولة، مَوْعِظَةٌ فاعل جاء وسقطت التاء للفصل وكون التأنيث مجازيا مع ما في الموعظة معنى من التذكير، وقرأ أبيّ، والحسن: جاءته بإلحاق التاء مِنْ رَبِّهِ متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وعلى التقديرين فيه تعظيم لشأنها وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة إذ فيه إشعار بإصلاح عبده ومِنَ لابتداء الغاية أو للتبعيض وحذف المضاف فَانْتَهى عطف على جاءه أي فاتعظ بلا تراخ وتبع النهي فَلَهُ ما سَلَفَ أي
ما تقدم أخذه قبل التحريم لا يسترد منه، وهذا هو المروي عن الباقر،
وسعيد بن جبير، وقيل: المراد لا مؤاخذة عليه في الدنيا ولا في الآخرة فيما تقدم له أخذه من الربا قبل، والفاء إما للجواب أو صلة في الخبر، وما في موضع الرفع بالظرف إن جعلت مِنَ موصولة، وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي من يشترط الاعتماد، وكون المرفوع اسم حدث، ومن لا يشترطهما يجوز كونه فاعل الظرف وَأَمْرُهُ أي المنتهى بعد التحريم إِلَى اللَّهِ إن شاء عصمه من الربا فلم يفعل وإن شاء لم يفعل، وقيل: المراد أنه يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية أو يحكم في شأنه يوم القيامة بما شاء لا اعتراض لكم عليه.
ومن الناس من جعل الضمير المجرور لما سَلَفَ أو للربا وكلاهما خلاف الظاهر وَمَنْ عادَ أي رجع إلى ما سلف ذكره من فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع فَأُولئِكَ إشارة إلى- من عاد- والجمع باعتبار المعنى أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ أي ماكثون أبدا لكفرهم، والجملة مقررة لما قبلها وجعل الزمخشري متعلق- عاد- الربا فاستدل بالآية على تخليد مرتكب الكبيرة وعلى ما ذكرنا- وهو التفسير المأثور- لا يبقى للاستدلال بها مساغ، واعترض بأن الخلود لو جعل جزاء للاستحلال بقي جزاء مرتكب الفعل من غير استحلال غير مذكور في الكلام أصلا لا عبارة ولا إشارة مع أنه المقصود الأهم بخلاف ما لو جعل ذلك
49
جزاء الفعل فإن المقصود يكون مذكورا صريحا مع إفادته جزاء الاستحلال وأنه أمر فوق الخلود، وأجيب بأن ما يكفر مستحلّه لا يكون إلا من كبائر المحرمات وجزاؤها معلوم ولذا لم ينبه عليه لظهوره، وقال بعض المحققين في الجواب: إن جعل ذلك إشارة إلى الأكل كان الجزاء القيام المذكور من القبور إلى الموقف وكفى به نكالا، ثم أخبر أن حاملهم على الأكل كان هذا القول فأشعر الوصف أولا أن الوعيد به ثم ذكر موجب اجترائهم فدل على أنه وعيد كل آكل سواء كان حامله عليه ذلك القول أو لا.
وأما قوله سبحانه: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى وقوله تعالى: وَمَنْ عادَ فهو في القائل المعتقد وإن جعل إشارة إلى القيام المذكور فالجزاء ما يفهم من ضم الفعل إلى القول فإنه لو لم يكن له مدخل في التعذيب لم يحسن في معرض الوعيد، والقول بأن المتعلق الربا والآية محمولة على التغليظ خلاف الظاهر فتدبر.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه،
أخرج أحمد، وابن ماجه، وابن جريج، والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ».
وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال: سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق، ولعل هذا مخرج الغالب، وعن الضحاك أن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه فلا يبقى لأهله منه شيء وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يزيدها ويضاعف ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة.
أخرج البخاري. ومسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب- ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا- فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرج الشافعي، وأحمد مثل ذلك.
والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب في الربا زيادة في المال ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال، فبين سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان- كذا قيل- وجعلوه وجها لتعقيب آيات الإنفاق بآية الربا.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ لا يرتضي كُلَّ كَفَّارٍ متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد له أَثِيمٍ منهمك في ارتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد، واختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله، وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال؟ أعاذنا الله تعالى من ذلك.
فقد أخرج الطبراني، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «درهم ربا أشد على الله تعالى من ست وثلاثين زنية» وقال: «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به»
وأخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الربا سبعون بابا أدناها مثل أن يقع الرجل على أمه وإنّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه».
وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد الله الحسين رضي الله تعالى عنه قال: «درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام».
وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه».
50
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما وجب الإيمان به وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ على الوجه الذي أمروا به وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تخصيصهما بالذكر مع اندارجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما، فإن الأولى أعظم الأعمال البدنية. والثانية أفضل الأعمال المالية لَهُمْ أَجْرُهُمْ الموعود لهم حال كونه عِنْدَ رَبِّهِمْ وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لوفور حظهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر اتَّقُوا اللَّهَ أي قوا أنفسكم عقابه وَذَرُوا أي اتركوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا لكم عند الناس إِنْ كُنْتُمْ
51
مُؤْمِنِينَ
عن صميم القلب فإن دليله امتثال ما أمرتم به وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله، ومِنَ تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل بقي، وقيل: متعلقة- يبقي وقرأ الحسن بقي بقلب الياء ألفا على لغة طيء، والآية كما قال السدي: نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه ابن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني عمرة وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة من الربا فتركوها حين نزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو، وربيعة بن عمرو، وحبيب بن عمير وكلهم إخوة وهم الطالبون، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صالح ثقيفا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما فقال بنو المغيرة: والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل- ويقال- عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بني عمرو بن عمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، فكتب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن أعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله تعالى ورسوله
وذلك قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف فَأْذَنُوا أي فأيقنوا- وبذلك قرأ الحسن- وهو التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وهو كحرب المرتدين على الأول وكحرب البغاة على الثاني، وقيل: لا حرب حقيقة وإنما هو تهديد وتخويف- وجمهور المفسرين على الأول- وقرأ حمزة. وعاصم في رواية ابن عياش فآذنوا بالمد أي فأعلموا بها أنفسكم أو بعضكم بعضا أو غيركم، وهذا مستلزم لعلمهم بالحرب على أتم وجه وتنكير- حرب- للتعظيم، ولذا لم يقل بحرب الله تعالى بالإضافة، أخرج أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يدي لنا بحرب الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. وَإِنْ تُبْتُمْ عما يوجب الحرب فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ تأخذونها لا غير لا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزيادة وَلا تُظْلَمُونَ أنتم من قبلهم بالنقص من رأس المال أو به وبنحو المطل، وقرأ المفضل عن عاصم- لا تظلمون- الأول بالبناء للمفعول والثاني بالبناء للفاعل على عكس القراءة الأولى، والجملة إما مستأنفة- وهو الظاهر- وإما في محل نصب على الحال من الضمير في لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار لوقوعه خبرا- وهو رأي الأخفش- ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم المرتدون ومالهم المكسوب في حال الردة فيء للمسلمين عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وكذا سائر أموالهم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعندنا هو لورثتهم ولا شيء لهم على كل حال وإن كان مع الاعتراف فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم يكد تسلم لهم رؤوسهم فكيف برؤوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما،
فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه، ومثله عن الصادق رضي الله تعالى عنه،
وأما عند غيرهما فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم ولا يمكنون من التصرفات رأسا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شيء من أموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم، قال المولى أبو السعود. وغيره: واستدل بالآية على أن الممتنع عن أداء الدين مع القدرة ظالم يعاقب بالحبس وغيره وقد فصل ذلك الفقهاء أتم تفصيل وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ أي إن وقع المطلوب- ذا إعسار لضيق حال من جهة عدم المال على- إن- كان تامة، وجوز بعض الكوفيين- إن- تكون ناقصة،
52
وذُو اسمها والخبر محذوف أي- وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو غريما أو من غرمائكم.
وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه ذا عسرة. وقرئ- ومن كان ذا عسرة- وعلى القراءتين كانَ ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود للغريم، وإن لم يذكر، والآية نزلت- كما قال الكلبي: حين قالت بنو المغيرة لبني عمرو بن عمير: نحن اليوم أهل عسرة فأخّرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فَنَظِرَةٌ الفاء جواب الشرط- ونظرة- مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة أو فاعل بفعل مضمر أي فتجب نظرة، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي- فالأمر، أو فالواجب نظرة، والنظرة كالنظرة- بسكون الظاء الانتظار، والمراد به الإمهال والتأخير، وقرأ عطاء فناظره بإضافة ناظر إلى ضمير ذُو عُسْرَةٍ أي فالمستحق ناظره أي منتظره وممهله وصاحب نظرته على طريق- لابن، وتامر- وعنه أيضا- فناظره- أمر من المفاعلة أي فسامحه بالنظرة إِلى مَيْسَرَةٍ أي إلى وقت أو وجود يسار، وقرأ حمزة، ونافع- ميسرة- بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة، وقرئ بهما مضافين بحذف التاء وإقامة الإضافة مقامها فاندفع ما أورد على هذه القراءة بأن مفعلا بالضم معدوم أو شاذ وحاصله أنها مفعلة لا مفعل، وأجيب أيضا بأنه معدوم في الآحاد وهذا جمع ميسرة- كما قيل في مكرم- جمع مكرمة، وقيل: أصله ميسورة فخففت بحذف الواو بدلالة الضمة عليها وَأَنْ تَصَدَّقُوا بحذف إحدى التاءين، وقرئ بتشديد الصاد على أن أصله تتصدقوا فقلبت التاء الثانية صادا وأدغمت أي وتصدقكم على معسري غرمائكم برؤوس أموالكم كلا أو بعضا خَيْرٌ لَكُمْ أي أكثر ثوابا من الإنظار، أو خير مما تأخذونه لنفاد ذلك وبقاء هذا.
أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: النظرة واجبة وخير الله تعالى الصدقة على النظرة، وقيل: المراد بالتصدق الإنظار لما
أخرج أحمد عن عمران بن الحصين قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة»
وضعفه الإمام مع مخالفته للمأثور بأن وجوب الإنظار ثبت بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة زائدة وبأن قوله سبحانه: خَيْرٌ لَكُمْ لا يليق بالواجب بل بالمندوب، واستدل بإطلاق الآية من قال بوجوب إنظار المعسر مطلقا سواء كان الدين دين ربا أم لا. وهو الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه، والحسن، والضحاك، وأئمة أهل البيت، وذهب شريح، وإبراهيم النخعي، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عنه إلى أنه لا يجب إلا في دين الربا خاصة وتأولوا الآية على ذلك. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جواب «إن» محذوف- أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه- وفيه تحريض على الفعل وَاتَّقُوا يَوْماً. وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيبا تُرْجَعُونَ فِيهِ على البناء للمفعول من الرجع، وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل: في التهويل، وقرئ- يرجعون- على طريق الالتفات، وقرأ أبيّ- تصيرون- وعبد الله- تردون. إِلَى اللَّهِ أي حكمه وفصله ثُمَّ تُوَفَّى أي تعطى كملا كُلُّ نَفْسٍ كسبت خيرا أو شرا ما كَسَبَتْ أي جزاء ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى، وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن، ولك أن تقول: إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله.
أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية وَاتَّقُوا يَوْماً إلخ آخر ما نزل من القرآن، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل: تسع ليال، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات،
53
وقيل: أحدا وعشرين يوما، وقيل: أحدا وثمانين يوما ثم مات- بنفسي هو- حيا وميتا صلّى الله عليه وسلم.
روي أنه قال: اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وفي رواية أخرى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «جاءني جبرائيل فقال: اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة»
ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري. وأبو عبيد. وابن جرير. والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم آية الربا، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب- كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي- أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عز من قائل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى وبما جاء منه إِذا تَدايَنْتُمْ أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا بِدَيْنٍ فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصا لأن تَدايَنْتُمْ يجيء بمعنى تعاملتم بدين، وبمعنى تجازيتم، ولا يرد عليه أن السياق يرفعه لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا الفطن، وقيل: ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل: فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب الكلام، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ [المائدة: ٨] وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفى به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس، وقيل: ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل، وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك إِلى أَجَلٍ أي وقت وهو متعلق بتداينتم، ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل مُسَمًّى بالأيام أو الأشهر، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض فَاكْتُبُوهُ أي الدين بأجله لأنه أرفق وأوثق والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: ٢٨٣] والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك، وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخاري عنه أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه- ثم قرأ الآية- واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالا، ومفعول- يكتب- محذوف ثقة بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للايذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعا للتهمة، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب- أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص- ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا- بكاتب- أو بفعله، والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم، فالكلام- كما قال الطيبي- مسوق لمعنى، ومدمج فيه آخر بإشارة النص- وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة إلا من كان فقيها- ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون، ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا يحب المفسدين.
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما ذكر أَنْ يَكْتُبَ بين المتداينين كتاب الدين كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أي لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق وتفضل به عليه وهو متعلق- بيكتب- والكلام على حد- وأحسن كما أحسن الله تعالى إليك- أي- لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لأجل أن الله تعالى تفضل عليه
54
وميزه- ويجوز أن يتعلق الكاف- بأن يكتب- على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير أن يكتب كتابة مثل ما علمه الله تعالى أو أن يكتبه أي الكتب مثل ما علمه الله تعالى وبينه له بقوله سبحانه: بِالْعَدْلِ وجوز أن يتعلق بقوله تعالى: فَلْيَكْتُبْ والفاء غير مانعة كما في وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: ٣] لأنها صلة في المعنى، والأمر بالكتابة بعد النهي عن الأداء منها على الأول للتأكيد، واحتيج إليه لأن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده صريحا على الأصح فأكده بذكره صريحا اعتناء بشأن الكتابة، ومن هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في مسألة جهالة الأجل، وأما على الوجه الثاني فلا تأكيد وإنما هو أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الامتناع من المطلقة وهذا لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الامتناع عن المطلق لا يدل على الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيدا، وادعاه بعضهم لأنه إذا كان الامتناع عن مطلق الكتابة منهيا فلأن يكون الامتناع عن الكتابة الشرعية منهيا بطريق الأولى، والنهي عن الامتناع عن الكتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحا للتوكيد، وأيضا إذا ورد مطلق ومقيد الحادثة واحدة يحمل المطلق على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليفيد التأكيد فلم لم يحمل النهي عن الامتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة المقيدة للتأكيد، وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا يخفى؟! و «ما» قيل: إما مصدرية أو كافة- وجوز أن تكون موصولة أو موصوفة- وعليهما فالضمير لها، وعلى الأولين للكاتب، وقدر بعضهم على كل تقدير المفعول الثاني لعلم كتابة الوثائق فافهم وَلْيُمْلِلِ من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه وفعله أمللت، وقد يبدل أحد المضاعفين ياء ويتبعه المصدر فيه وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال: إملاء فهو والإملال بمعنى أي، وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر لا غيره وانفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى وَلْيَتَّقِ أي الذي عليه الحق اللَّهَ رَبَّهُ جمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر بالجلال والجمال وَلا يَبْخَسْ أي لا ينقص مِنْهُ أي من الحق الذي يمليه على الكاتب شَيْئاً وإن كان حقيرا، وقرئ «شيا» بطرح الهمزة و «شيّا» بالتشديد. وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن جبير، وقيل: يجوز أن يرجع ضمير- يتق- للكاتب وليس بشيء لأن ضمير يبخس لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة، وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهي عن كليهما، وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل، وإرجاع كل منهما تفكيك لا يدل عليه دليل، وإنما شدد في تكليف المملي حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ما أمكن، وفي مِنْهُ وجهان: أحدهما أن يكون متعلقا ببخس ومن- لابتداء الغاية، وثانيهما أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصب حالا. وشَيْئاً إما مفعول به وإما مصدر فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الأمر والنهي لغيره، وعليه متعلق بمحذوف أي وجب والحق فاعل، وجوز أن يكون عَلَيْهِ خبرا مقدما، الْحَقُّ مبتدأ مؤخرا فتكون الجملة اسمية، وعلى التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول سَفِيهاً أي عاجزا أحمق قاله ابن زيد، أو جاهلا بالإملال قاله مجاهد، أو مبذرا لماله ومفسدا لدينه قاله الشافعي أَوْ ضَعِيفاً أي
صبيا، أو شيخا خرفا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ جملة معطوفة على مفرد هو خبر كان لتأويلها بالمفرد أي- أو غير مستطيع
55
للاملاء بنفسه لخرس- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة وسائر العوارض المانعة، والضمير البارز توكيد للضمير المستتر في- أن يمل- وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، وقيل: إن الضمير فاعل- ليمل- وتغيير الأسلوب اعتناء بشأن النفي، ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم، ومثله الفك في قوله تعالى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أي متولي أمره وإن لم يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيّم والوكيل والمترجم، والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين الإقرار على الغير فاعرفه بِالْعَدْلِ بين صاحب الحق والمولى عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعين ما كلف به من غير الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس، واستدل بعضهم- بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذميا ولا فاسقا وأنه يجوز أن يكون عبدا أو امرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا العدالة ذكره ابن الفرس- وليس بشيء كما لا يخفى.
ومن الناس من استدل بقوله سبحانه: فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ على وجوب الكتابة وإلى ذلك ذهب الشعبي، والجبائي، والرماني إلا أنهم قالوا: إنها واجبة على الكفاية- وإليه يميل كلام الحسن- وقال مجاهد، والضحاك: واجب عليه أن يكتب إذا أمر، وقيل: هي مندوبة، وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك.
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما، وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي اشهدوا، وفي اختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك، والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك مِنْ رِجالِكُمْ متعلق باستشهدوا- ومِنْ لابتداء الغاية أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين، ومِنْ تبعيضية والخطاب للمؤمنين المصدر بهم الآية، وفي ذكر الرجال مضافا إلى ضمير المخاطبين دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في الشاهدين، والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء بمنزلة البهائم، وأيضا خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في محله، وذهب الإمامية إلى عدم اشتراط الحرية في قبول الشهادة وإنما الشرط فيه عندهم الإسلام والعدالة، وإلى ذلك ذهب شريح، وابن سيرين، وأبو ثور، وعثمان البتي وهو خلاف المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه- فإنه لم يجوز شهادة العبد في شيء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض، وأجاز ذلك قياسا الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وإن اختلفت مللهم.
فَإِنْ لَمْ يَكُونا أي الشهيدان رَجُلَيْنِ أي لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم النفي وإلا لم يصح قوله تعالى: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فان لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وامرأتان، أو فرجل وامرأتان يشهدون. أو يكفون، أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فليستشهد رجل وامرأتان، أو فليكن رجل وامرأتان شهودا، وإن جعلت- يكن- تامة استغنى عن تقدير شهود، وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص عندنا، وعند الشافعي في الأموال خاصة لا في غيرها كعقد النكاح، وقال مالك: لا تجوز شهادة أولئك في الحدود ولا القصاص، ولا الولاء ولا الإحصان، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق، وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا به في الولادة والبكارة والاستهلال وما يجري مجرى ذلك ما بين في الكتب الفقهية، وقرئ- «وامرأتان» - بهمزة ساكنة، ولعل ذلك لاجتماع المتحركات مِمَّنْ تَرْضَوْنَ متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به
56
فلا يرد ما في البحر من أن جعله صفة للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين، وقيل: هو صفة لشهيدين- وضعف بالفصل الواقع بينهما، وقيل: بدل من- رجالكم- بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا، واختار أبو حيان تعلقه- باستشهدوا- ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط المرأتين وتعليله- وهو كما ترى- والخطاب للمؤمنين وقيل: للحكام ولم يقل من المرضيين لافهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر مِنَ الشُّهَداءِ متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب.
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن، وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك، واعترض بأن النسيان وعدم الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى: فَتُذَكِّرَ قيل: والنكتة في إيثار أَنْ تَضِلَّ إلخ على- أن تذكر إن ضلت- الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار بحيث صار ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا إليه، وإِحْداهُما الثانية يجوز أن تكون فاعل- تذكر- وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية، ويجوز أن تكون مفعولا لتذكر- والأخرى- فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى- كما وهم- حتى يتعين الأول بل من قبيل- أرضعت الصغرى الكبرى- لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال ولهذا- كما قيل- عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي لو أخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي، وذكر غير واحد أن العدول عن- فتذكرها- الأخرى- وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمش- إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال- بإحداهما- بعينها والتذكير بالأخرى، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير إِحْداهُما الأولى راجعا إلى الشهادتين، وضمير إِحْداهُما الأخرى إلى المرأتين فالمعنى- أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما- وأيده الطبرسي بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال: ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه: ضَلُّوا عَنَّا [الأعراف: ٣٧] أي ضاعوا منا، وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأسا وليس بشيء إذ لا يكون لاحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الانتظام، وما ذكر في التأييد ينبىء عن قلة الاطلاع على اللغة.
ففي نهاية ابن الأثير وغيرها إطلاق الضال على الناسي، وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير، والضحاك، والربيع، والسدي، وغيرهم، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل: إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى فَتُذَكِّرَ إلخ فتجعل إحداهما اخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصورا من جهة المعنى
57
واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بيّن، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكرا مجاز عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه- وبعد التجوز ليس على ظاهره- لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر البتة معهما، وقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضا- والتزام توجيه مثل ذلك، وعرضه في سوق القبول- لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول، ولقد رأيت في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار- إحدى- معرضا بما ذكره المغربي فقال:
يا رأس أهل العلوم السادة البرره ومن نداه على كل الورى نشره
ما سر تكرار- إحدى- دون تذكرها في آية لذوي الاشهاد في البقرة
وظاهر الحال إيجاز الضمير على تكرار إِحْداهُما لو أنه ذكره
وحمل الاحدى على نفس الشهادة في أولاهما ليس مرضيا لدى المهرة
فغص بفكرك لاستخراج جوهره من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
«فأجاب القاضي» :
يا من فوائده بالعلم منتشره ومن فضائله في الكون مشتهره
يا من تفرد في كشف العلوم لقد وافى سؤالك والأسرار مستتره
(تضل إحداهما) فالقول محتمل كليهما فهي للاظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضيا تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رددتم عليه الحل فهو كما أشرتم ليس مرضيا لمن سبره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به والله أعلم في الفحوى بما ذكره
وقرئ «أن تضّل» بالبناء للمفعول والتأنيث، وقرئ- «فتذاكر» - وقرأ ابن كثير، ويعقوب، وأبو عمرو، والحسن- «فتذكر» - بسكون الذال وكسر الكاف، وحمزة أَنْ تَضِلَّ على الشرط فتذكر بالرفع وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لالتقاء الساكنين، والفاء في الجزاء قيل: لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة، وقيل: لا تقدير لأن الجزاء إذا كان مضارعا مثبتا يجوز فيه الفاء وتركه، وقيل: الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير- الذاكرة- وإِحْداهُما بدل عنه أو عن الضمير في فَتُذَكِّرَ وقال بعض المحققين: الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما- تذكر إحداهما الأخرى- وعليه كلام كثير من المعربين، والقائلون عن ذلك تفرقوا أيدي سبأ لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع بقوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: ٩٥] ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفرادا وتثنية والله تعالى الملهم للرشاد فتدبر وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة أو لتحملها- وهو المروي عن ابن عباس، والحسن رضي الله تعالى عنهم- وخص ذلك مجاهد. وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم احتياجه إلى ارتكاب المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم فإن ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة، وما صلة وهي قاعدة مطردة بعد إِذا وَلا تَسْئَمُوا أي تملوا أو تضجروا، ومنه قول زهير:
58
أَنْ تَكْتُبُوهُ أي الدين، أو الحق- أو الكتاب المشعر به الفعل والمنسبك مفعول به- لتسأموا- ويتعدى بنفسه، وقيل: يتعدى بحرف الجر وحذف للعلم به، وقيل: المراد من- السأم- الكسل إلا أنه كني به عنه لأنه وقع في القرآن صفة للمنافقين كقوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
[النساء: ١٤٢] ولذا وقع
في الحديث «لا يقول المؤمن كسلت وإنما يقول ثقلت»
وقرئ- و «لا يسأموا» - «أن يكتبوه» بالياء فيهما صَغِيراً أَوْ كَبِيراً حالان من الضمير أي على كل حال قليلا أو كثيرا مجملا أو مفصلا، وقيل: منصوبان على أنهما خبرا كان المضمرة وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى إِلى أَجَلِهِ حال من الهاء في- تكتبوه- أي مستقرا في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به وليس متعلقا بتكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى الأجل إذ هي مما ينقضي في زمن يسير ذلِكُمْ أي الكتب- وهو الأقرب- أو الإشهاد- وهو الأبعد- أو جميع ما ذكر- وهو الأحسن- والخطاب للمؤمنين أَقْسَطُ أي أعدل عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه سبحانه. وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها وهما مبنيان من أقسط وأقام على رأي سيبويه فإنه يجيز بناء أفعل من الأفعال من غير شذوذ، وقيل: من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، وقال أبو حيان: قسط يكون بمعنى جار وعدل، وأقسط بمعنى عدل لا غير حكاه ابن القطاع- وعليه لا حاجة إلى رأي سيبويه في أقسط- وقيل: هو من قسط بوزن كرم بمعنى صار ذا قسط أي عدل، وإنما صحت الواو في أقوم ولم يقل أقام لأنها لم تقلب في فعل التعجب نحو ما أقومه لجموده إذ هو لا يتصرف وأفعل التفضيل يناسبه معنى فحمل عليه وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك، قيل: وهذا حكمة خلق اللوح المحفوظ، والكرام الكاتبين مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام، وحرف الجر مقدر هنا- وهو إلى كما سمعت- وقيل: مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام، وحرف الجر مقدر هنا- وهو إلى كما سمعت- وقيل: اللام، وقيل: من، وقيل في، ولكل وجهة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ استثناء منقطع من الأمر بالكتابة فقوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ إلى هنا جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه أي لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يدا بيد- كذا قيل.
وفي الدر المصون يجوز أن يكون استثناء متصلا من الاستشهاد فيكون قد أمر بالاستشهاد في كل حال إلا في حال حضور التجارة، وقيل: إنه استثناء من هذا وذاك وهو منقطع أيضا أي لكن التجارة الحاضرة يجوز فيها عدم الاستشهاد والكتابة وقيل: غير ذلك- ولعل الأول أولى- ونصب عاصم تجارة على أنها خبر تكون واسمها مستتر فيها يعود إلى التجارة- كما قال الفراء- وعود الضمير في مثل ذلك على متأخر لفظا ورتبة جار في فصيح الكلام، وقال بعضهم: يعود إلى المداينة والمعاملة المفهومة من الكلام، وعليه فالتجارة مصدر لئلا يلزم الأخبار عن المعنى بالعين، ورفعها الباقون على أنها اسم تَكُونَ والخبر جملة تُدِيرُونَها ويجوز أن تكون تَكُونَ تامة فجملة تُدِيرُونَها صفة فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أي فلا مضرة عليكم أو لا إثم في عدم كتابتكم لها لبعد ذلك عن التنازع والنسيان، أو لأن في تكليفكم الكتابة حينئذ مشقة جدا وإدخال الفاء للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ أي هذا التبايع المذكور أو مطلقا وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ نهي عن المضارة- والفعل يحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول- والدليل عليه قراءة عمر رضي الله تعالى عنه- ولا يضار- بالفك والكسر، وقراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالفك والفتح- والمعنى على الأول- نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان، وعلى الثاني النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أولا يعطى
59
الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مؤونة المجيء من بلد، ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه ابن جرير عن الربيع قال:
لما نزلت هذه الآية وَلا يَأْبَ كاتِبٌ إلخ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي فيقول: إني مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى غيري فيلزمه ويقول: إنك قد أمرت أن تكتب لي فلا يدعه ويضاره بذلك، وهو يجد غيره فأنزل الله تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ الحسن- ولا يضار- بالكسر وقرئ بالرفع على أنه نفي بمعنى النهي وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من الضرار أو منه ومن غيره وبعيد وقوعه منكم فَإِنَّهُ أي ذلك الفعل فُسُوقٌ بِكُمْ أي خروج عن طاعة متلبس بكم، وجوز كون الباء للظرفية، قيل: وهو أبلغ إذ جعلوا محلا للفسق وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أحكامه المتضمنة لمصالحكم وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك «فان قيل» كيف كرر سبحانه الاسم الجليل في الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله: فما للنوى جذ النوى قطع النوى حتى قيل: سلط الله تعالى عليه شاة تأكل نواه؟ أجيب بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح، فالمستحسن كل تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير، وما في البيت من القسم الثاني لأن- جذ النوى قطع النوى- فيه بمعنى واحد وما في الآية درة تاج القسم الأول لأن اتَّقُوا اللَّهَ حث على تقوى الله تعالى وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وعد بإنعامه سبحانه وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعظيم لشأنه عز شأنه، ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبرا وإنشاء، ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالا من فاعل اتَّقُوا أي اتقوا الله مضمونا لكم التعليم، ويجوز أن تكون حالا مقدرة، والأولى ما قدمنا لقلة اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع حالا بالواو.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب لكم حسبما بين قبل، والجملة عطف على فعل الشرط أو حال.
وقرأ أبو العالية كتبا، والحسن، وابن عباس- كتابا جمع كاتب فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي فالذي يستوثق به. أو فعليكم، أو فليؤخذ، أو فالمشروع رهان. وهو جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول- وليس هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب في شرعية الارتهان
لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رهن درعه في المدينة من يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما في البخاري
- بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مظنة إعوازها، وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر. وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز في السفر إلا عند فقد الكاتب، وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقا وإعوازا، والجمهور على وجوب القبض في تمام الرهن، وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم الراهن بالعقد تسليمه ويشترط عنده بقاؤه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على أحد هذين الوجهين مثلا كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب إلى ذلك لما في الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو علي:
فالخبز واللحم لهن راهن... وقهوة راووقها ساكب
وفي التعبير- بمقبوضة- دون تقبضونها إيماء إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرئ- فرهن- كسقف وهو جمع رهن أيضا، وقرئ بسكون الهاء تخفيفا فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن، وقرأ أبي- فإن أو من- أي أمنه
60
الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن التوثق من مثله، وبَعْضاً على هذا منصوب بنزع الخافض- كما قيل- فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وهو المديون وعبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للاعلام ولحمله على الأداء أَمانَتَهُ أي دينه، والضمير لرب الدين أو للمديون باعتبار أنه عليه، والأمانة مصدر أطلق على الدين الذي في الذمة وإنما سمي أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان به.
وقرئ- «الذيتمن» - بقلب الهمزة ياء، وعن عاصم أنه قرأ- «الذتمن» - بإدغام الياء في الستار، وقيل هو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا يدغم، ورد بأنه مسموع في كلام العرب، وقد نقل ابن مالك جوازه لأنه قال: إنه مقصور على السماع، ومنه قراءة ابن محيصن- «اتمن» - ونقل الصاغاني أن القول بجوازه مذهب الكوفيين، وورد مثله في كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وهي من الفصحاء المشهود لهم،
ففي البخاري عنها كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرني فأتزر فالمخطئ مخطئ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الخيانة وإنكار الحق، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى، وقد أمر سبحانه- بالتقوى- عند الوفاء حسبما أمر بها عند الإقرار تعظيما لحقوق العباد وتحذيرا عما يوجب وقوع الفساد.
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ أي لا تخفوها بالامتناع عن أدائها إذا دعيتم إليها وهو خطاب للشهود المؤمنين كما روي عن سعيد بن جبير وغيره وجعله خطابا للمديونين على معنى لا تكتموا شهادتكم على أنفسكم بأن تقروا بالحق عند المعاملة، أو لا تحتالوا بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه عند المرافعة خلاف الظاهر المأثور عن السلف الصالح، وقرئ يكتموا على الغيبة وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ الضمير في أنه راجع إلى مَنْ وهو الظاهر، وقيل: إنه ضمير الشأن والجملة بعده مفسرة له، وآثِمٌ خبر إن وقلبه فاعل له لاعتماده ولا يجيء هذا على القول بإن الضمير للشأن لأنه لا يفسر إلا بالجملة والوصف مع مرفوعه ليس بجملة عند البصري. والكوفي يجيز ذلك، وقيل: إنه خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر، والجملة خبر إن وعليه يجوز أن يكون الضمير للشأن وأن يكون- لمن- وقيل: آثِمٌ خبر إن وفيه ضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير- إنه- وقلبه بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل، وقيل: آثِمٌ مبتدأ وقلبه فاعل سد مسد الخبر، والجملة خبر إن، وهذا جائز عند الفراء من الكوفيين، والأخفش من البصريين وجمهور النحاة لا يجوّزونه وأضاف الآثم إلى القلب مع أنه لو قيل: فَإِنَّهُ آثِمٌ لتم المعنى مع الاختصار، لأن الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإسناد الفعل بالجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي؟ ولأن الإثم وإن كان منسوبا إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الإسناد إلى هذا الجزء المخصوص متجوزا به عن الكل لأنه أشرف الأجزاء ورئيسها، وفعله أعظم من أفعال سائر الجوارح، فيكون في الكلام تنبيه على أن الكتمان من أعظم الذنوب، وقيل: أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقة ومعدن اقترافه، وقيل: للإشارة إلى أن أثر الكتمان يظهر في قلبه كما جاء
في الخبر «إذا أذنب العبد يحدث في قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه»،
أو للإشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله،
فقد ورد «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»
والكل ليس بشيء كما لا يخفى، وقرئ قلبه بالنصب على التشبيه بالمفعول به.
وآثِمٌ صفة مشبهة، وجوز أبو حيان كونه بدلا من اسم إن بدل بعض من كل، وبعضهم كونه تمييزا واستبعده أبو البقاء، وقرأ ابن أبي عبلة آثِمٌ قَلْبُهُ أي جعله آثما وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
من كتمان الشهادة وأدائها على وجهها وغير ذلك عَلِيمٌ فيجازيكم بذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
61
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما كيف كانت أي كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لأحد أن يقول المال مالي أتصرف به كيف شئت، ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما قبلها وَإِنْ تُبْدُوا أي تظهروا للناس ما فِي أَنْفُسِكُمْ أي ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة أَوْ تُخْفُوهُ بأن لا تظهروه.
يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي يجازيكم به يوم القيامة، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان، وإلى هذا الإشارة
بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم»
أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافا لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا: إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: ٢٢٥] لأنا نقول: المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضا من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
فالآية على ما قررنا محكمة، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجا بما
أخرجه أحمد، ومسلم عن أبي هريرة قال: «لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة: ٢٨٥] الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] إلخ، وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وابن مسعود، وعائشة رضي الله تعالى عنهم،
وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- أحسبه ابن عمر إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قال: نسختها الآية التي بعدها، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه، ويكون الحديث إخبارا عما كان بعد النسخ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني.
ومن هنا قال الطبرسي: وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد، وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها» فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفا، والحكم الشرعي المفهوم من الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة: ١٠٩] كأنه قيل: كيف يحمل ما في أنفسكم على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم
62
التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام
وقال: «أخطأت أم أصبت يا رسول الله؟ فقال له صلّى الله عليه وسلم: أصبت بعضها وأخطأت بعضها»
ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى، وقيل: معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه، ويؤول إلى قولنا إن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرا أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك- يحاسبكم به الله- وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال: نزلت في الشهادة، وقيل: الآية على ظاهرها، و «ما في أنفسكم» على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى «يحاسبكم» يخبركم به الله تعالى يوم القيامة، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم، وجميع هذه الأقوال لا تخلو عن نظر فتدبر، وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب.
وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به، وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى:
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران: ٢٩] فلما قيل: إن المعلق- بما في أنفسهم- هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية، وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية فَيَغْفِرُ بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من عباده وَيُعَذِّبُ بعدله. مَنْ يَشاءُ أن يعذبه من عباده، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه، وقرأ غير ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنصبهما بإضمار- أن- وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق، والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك:
والفعل من بعد الجزا إن يقترن بالفاء أو الواو بتثليث قمن
وقرأ ابن مسعود- «يغفر»، و «يعذب» - بالجزم بغير فاء- ووجهه عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر- وأما عند غيره فالجزم على أنهما بدل من يُحاسِبْكُمْ بدل البعض من الكل أو الاشتمال، فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول عليه- بيحاسبكم- ومطلق الحساب جامع لهما فان اعتبر جمعه لهما على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلي لأفراده يكون بدل اشتمال كذا قيل، وقيل: إن أريد بيحاسبكم معناه الحقيقي فالبدل بدل اشتمال- كأحب زيدا علمه- وإن
63
أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض- كضربت زيدا رأسه- وقيل: غير ذلك، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال قال:
ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد، واعترضه الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل وقد قيل بهما في قوله:
متى تأتنا- تلمم- بنا في ديارنا تجد خير نار عندها خير موقد
فإنهم جعلوا الإلمام بدلا من الإتيان إما بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه أو اشتمال لأنه نزول خفيف، وروي عن أبي عمرو إدغام الراء في اللام، وطعن الزمخشري- على عادته في الطعن- في القراءات السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الفائت بالإدغام في اللام وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجع بكونه إثباتا ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له- وممن روي ذلك عنه- أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراءات إمام في اللغات، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازما على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعا، منهم الكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرواسي، ولسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر آمَنَ الرَّسُولُ قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى عز وجل في هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة، الزكاة، والطلاق، والحيض والإيلاء، والجهاد، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدين، والربا، ختمها بهذا تعظيما لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل، وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بالفعل وذكره صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكي عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده.
أخرج الحاكم. والبيهقي عن أنس قال: «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آمَنَ الرَّسُولُ قال عليه الصلاة والسلام: وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة- وهي شاهد لحديث أنس- «فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن»
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانا تفصيليا، وأجمله إجلالا لمحله صلى الله تعالى عليه وسلم وإشعارا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة
64
والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه، وفي تقديم الانتهاء على الابتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف وَالْمُؤْمِنُونَ يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه، ويدل عليه ما
أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ- وآمن المؤمنون-
وعليه يكون قوله تعالى: كُلٌّ آمَنَ جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر، وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ، وكُلٌّ مبتدأ ثان، وآمَنَ خبره، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون كُلٌّ تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها- ورجح الوجه الأول- بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم حينئذ يكون أصلا في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لكون جملتهم اسمية ومؤكدة، وعورض بأن في الثاني إيذانا بتعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتأكيدا للإشعار بما بين إيمانه صلى الله تعالى عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشئ عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب ويلزم على الأول أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلّى الله عليه وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله تعالى عليه وسلم اللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الاسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك، وتوحيد الضمير في آمَنَ مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى:
وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل: ٨٧] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله- آمن- بِاللَّهِ أي صدق به وبصفاته ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك وَمَلائِكَتِهِ من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى: وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالا وإنما لم يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة: ١٧٧] إلخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرا ما يختصر فيها، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وكتابه- بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع- على ما ذهب إليه إمام الحرمين والزمخشري- وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداء فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد- وهذا المبحث من معضلات علم المعاني- وقد فرغ من تحقيقه هناك.
65
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير كُلٌّ مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع- ولعله أولى- والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير آمَنَ أو مرفوعة على أنها خبر آخر- لكل- أي يقولون، أو يقول: لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها، ومن اعتبر إدراج الرسول في كُلٌّ واستبعد هذا قال: بالتغليب هاهنا، ومن لم يستعبد إذ كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى: وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة: ١٣٦] إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات، وقرأ يعقوب. وأبو عمرو في رواية عنه- لا يفرق- بالياء على لفظ كُلٌّ وقرئ لا يفرقون حملا على معناه، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا، والكلام على أَحَدٍ وإدخال بَيْنَ عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَقالُوا عطف على آمَنَ والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم سَمِعْنا أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع وَأَطَعْنا وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأمر والنواهي، وقيل: سَمِعْنا ما جاءنا من الحق وتيقّنا بصحته، وأَطَعْنا ما فيه من الأمر والنهي غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك، أو نسألك غفرانك ذلك، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به- ولعل الأول أولى- لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسئول أقرب إلى الإجابة والقبول، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي، والجملة قيل: معطوفة على مقدر أي فمنك المبتدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل.
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة سيقت إخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بماله عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجيء- والتكليف- إلزام ما فيه كلفة ومشقة، والوسع- ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه- لا يكلف نفسا- من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنّة على هذه الأمة خاصة.
66
وقرأ ابن أبي عبلة «وسعها» - بفتح السين (١) والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فبطريق الأولى، وقيل: إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى.
لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته- قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس سره- وهو الذي ذهب إليه الكثير، وقيل: يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم- ولا يخفى أنه بعيد- من جهة- قريب من أخرى- والضمير في لَها للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر، ومبين ما الأولى الخير لدلالة اللام الدالة على النفع عليه، ومبين ما الثانية الشر لدلالة- على- الدالة على الضر عليه: وإيراد الاكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال.
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف، وقيل: استيفاء لحكاية الأقوال، وفي البحر- وهو المروي عن الحسن- أن ذلك على تقدير الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم، ولذلك قيل وقد تقدم:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من فيض جودك ما علمتني الطلبا
والمؤاخذة: المعاقبة، وفاعل هنا بمعنى فعل، وقيل: المفاعلة على بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف، واختلفوا في المراد من النسيان والخطأ على وجوه، الأول أن المراد من الأول الترك ومنه قوله:
ولم أك عند الجود للجود قاليا ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا
والمراد من الثاني العصيان لأن المعاصي توصف بالخطأ الذي هو ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدا كأنه قيل: ربنا لا تعاقبنا على ترك الواجبات وفعل المنهيات، الثاني أن المراد منهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال
(١) قوله: بفتح السين كذا بالأصل ولعله محرف عن فتح الواو لأن الواو مثلث كما في القاموس اهـ مصححه.
67
إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير، الثالث أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر، أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه.
ويؤيد ذلك مفهوم
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني، وقال النووي حديث حسن: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه»
وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام ونعمة يعتد بها رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي عبثا ثقيلا يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه.
والمراد به التكاليف الشاقة، وقيل: الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه، وقرئ آصارا على الجمع، وقرأ أبيّ- ولا تحمّل- بالتشديد للمبالغة كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا
في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا، أو على أنه صفة لإصرا أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا- وهو ما كلفه بنو إسرائيل- من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم. وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها، وقيل: من البدن وصرف ربع المال في الزكاة.
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجاز باعتبار ما يؤدي إليه، وجوز أن يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة، وقيل: هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي، والتشديد هاهنا لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير وَاعْفُ عَنَّا أي امح آثار دنوبنا بترك العقوبة.
وَاغْفِرْ لَنا بستر القبيح وإظهار الجميل وَارْحَمْنا وتعطف علينا بما يوجب المزيد، وقيل: اعْفُ عَنَّا من الأفعال وَاغْفِرْ لَنا من الأقوال وَارْحَمْنا بثقل الميزان، وقيل: وَاعْفُ عَنَّا في سكرات الموت وَاغْفِرْ لَنا في ظلمة القبور وَارْحَمْنا في أهوال يوم النشور، قال أبو حيان: ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ رَبَّنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء- فاعف عنا- مقابلا لقوله تعالى: لا تُؤاخِذْنا وَاغْفِرْ لَنا لقوله سبحانه: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَارْحَمْنا لقوله عز شأنه: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ والعفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب أَنْتَ مَوْلانا أي مالكنا وسيدنا، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال: مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء:
وإن صخرا- لمولانا وسيدنا- وإن صخرا إذا اشتوا لمنحار
وخطؤوا من قال: سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى- كما قاله ابن أبيك- ولي فيه تردد قيل: والجملة على معنى القول أي قولوا أنت مولانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق
68
الكفرة وأتى بالفاء إيذانا بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم علي وأنت البطل فاحم الجار.
(ومن باب الاشارة في هذه الآيات) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه وَما فِي الْأَرْضِ أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ يشهده بأسمائه وظواهره يُحاسِبْكُمْ بِهِ وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيئاته وعدم رسوخها في ذاته وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لفساد اعتقاده ووجود شكه، أو رسوخ سيئاته في نفسه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب آمَنَ الرَّسُولُ الكامل الأكمل بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ يرد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق وَقالُوا سَمِعْنا أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ بالفناء فيك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات لَها ما كَسَبَتْ من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ وتوجهت إليه بالقصد من السوء رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة أَوْ أَخْطَأْنا بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من معاينة الغيوب كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك وَاعْفُ عَنَّا سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها سيئات حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك وَاغْفِرْ لَنا ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر وَارْحَمْنا بالوجود الموهوب بعد الفناء أَنْتَ مَوْلانا أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم، هذا
وقد أخرج مسلم، والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله تعالى عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت،
واخرج أبو سعيد، والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ منها،
وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين،
وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»
وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان»
وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة اجزأتاه عن قيام الليل»
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إن
69
الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء»
وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن، وأخرج مسدد عن عمر رضي الله تعالى عنه،
والدارمي عن علي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال: ما كنت أرى أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من سورة البقرة.
والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله تعالى. اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعا عما بتوفيقك أردناه، وصلّ وسلم على خليفتك الأعظم، وكنزك المطلسم، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح.
70
سورة آل عمران
«وهي مائتا آية» أخرج ابن الضريس، والنحاس، والبيهقي من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة، واسمها في التوراة- كما روى سعيد بن منصور- طيبة، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة الزهراوين- وتسمى الأمان، والكنز، والمعنية، والمجادلة، وسورة الاستغفار، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم، وتكررت آية قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ [البقرة: ١٣٦] بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له، فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم- والسورة التي هي فيها- جديرة بالتقديم.
وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة في صفة النار: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: ٢٤] مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا، وقال في آخر هذه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: ١٣٣] فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة، مما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: ١٣٠، ٢٢٠] وافتتحت الأولى بقوله سبحانه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: ٤] وختمت آل عمران بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران: ١٩٩] وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة: ٢٤٥، الحديد: ١١] الآية: يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: ١٨١] وهذا مما يقوي التلازم أيضا، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: ١٢٩] الآية وهنا لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: ١٦٤] الآية إلى غير ذلك.
71
Icon