تفسير سورة البقرة

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. سورة البقرة بحول الله ومعونته السورة مدنية نزلت في مدد شتى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾[ البقرة : ٢٨١ ] ويقال لسورة البقرة فسطاط القرآن، وذلك لعظمها وبهائها، وما تضمنت من الأحكام، والمواعظ، وفيها خمسمائة حكم، وخمسة عشرة مثلا، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش )
( ت ) وها أنا إن شاء الله أذكر أصل الحديث بكماله لما اشتمل عليه من الفوائد العظيمة، خرج الحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اعملوا بالقرآن، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله، وإلى أولي العلم من بعدي، كي ما يخبرونكم، وآمنوا بالتوراة، والإنجيل، والزبور، وما أوتي النبيون من ربهم، وليسعكم القرآن، وما فيه من البيان، فإنه شافع مشفع، وماحل مصدق، وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش ) ما حل بالمهملة أي ساع وقيل خصم انتهى من السلاح، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( تجيء البقرة، وآل عمران، يوم القيامة كأنهما غيايتان بينهما شرق، أو غمامتان سوداوان أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما ).
( ت ) أصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة )، قال معاوية : بلغني أن البطلة السحرة فقوله صلى الله عليه وسلم :( غمامتان ) يعني سحابتين بيضاوين، والغيايتان بالغين المعجمة، أبو عبيد : الغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه، وهو مثل السحابة، وفرقان بكسر الفاء أي جماعتان انتهى من السلاح. وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة فيها آية هي سيدة آي القرآن هي آية الكرسي )، وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان ).
( ت )، وعن ابن عباس قال :( بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فقال له : هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب، وخواتم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته ) رواه مسلم، والنسائي، والنقيض بالنون والقاف هو الصوت، انتهى من " السلاح " وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية وقيل وست وثمانون آية، وقيل وسبع وثمانون.

«البيت الّذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان» «١».
ت: وعن ابن عبّاس قال: بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه، فقال له: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك فاتحة الكتاب، وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته» رواه مسلم، والنسائيّ «٢»، والنقيض بالنون والقاف: هو الصوت انتهى من «السلاح».
وعدد آي سورة البقرة مائتان، وخمس وثمانون آية، وقيل: وستّ وثمانون آية، وقيل: وسبع وثمانون.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
قوله تعالى: الم: اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين «٣» فقال
(١) الحديث بهذا اللفظ عن عبد الله بن المغفل ذكره الهيثمي في «معجم الزوائد» (٦/ ٣١٥)، وقال: رواه الطبراني، وفيه عدي بن الفضل، وهو ضعيف.
أما الحديث الذي ورد عن أبي هريرة في هذا المعنى، فأخرجه مسلم (١/ ٥٣٩) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة».
(٢) أخرجه مسلم (١/ ٥٥٤)، كتاب: «الإيمان»، باب: في ذكر سدرة المنتهى، حديث (٢٥٤/ ٨٠٦)، والنسائي في «الكبرى» (٥/ ١٥)، كتاب «فضائل القرآن»، باب «الآيتان من آخر سورة البقرة»، حديث (٨٠٢١)، والبغوي في «شرح السنة» (٢/ ٢٣- بتحقيقنا)، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
(٣) إنه مما علم باستقراء كتاب الله تعالى أن تسعا وعشرين سورة من القرآن الكريم قد افتتحت بحروف مقطعة، من جنس كلام العرب.
وبداية، فإن هذه الحروف لم ينقل عن العرب دلالات لها، ولو كانت لها دلالات لتواتر النقل عليها، ولنقل ذلك علماء الصحابة وأئمتهم، وهذا الأمر- أعني افتتاح السور بها- لهو في حد ذاته نوع من التحدي للقيام بالكشف عن أسرارها والتفكر فيها.
ولما لم يذكر عن الغرب لها دلالات فقد كان للعلماء بشأنها موقفان: أولهما: ذهب الشعبي وسفيان الثوري، وجماعة من أهل الحديث إلى أنها سر الله في القرآن، وهي من المتشابه. وثانيهما: وهو ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم: أنه يجب أن يتكلم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها.
وقد كان لابن عباس ترجمان القرآن النصيب الأوفر من الأقوال في هذه الأحرف.
وجاء المفسرون من بعده، فاتسعوا في تحديد معاني هذه الفواتح، فقد ذكروا منها: أنها: -
180
الشَّعْبِيُّ، وسفيانُ الثوريُّ، وجماعةٌ من المحدِّثين: هي سر اللَّه في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد اللَّه بعلمه، ولا يجب أن يُتكلَّم فيها، ولكن يؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت «١»، وقال الجمهور من العلماء، بل يجب أن يُتكلَّم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرَّج عليها، واختلفوا في ذلك على اثنَيْ عَشَرَ قولاً.
فقال عليٌّ، وابن عَبَّاس رضي اللَّه عنهما: الحروف المقطَّعة في القرآن: هي اسم اللَّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها «٢».
وقال ابن عبَّاس أيضًا: هي أسماء اللَّه أقسم بها «٣»، وقال أيضًا: هي حروف تدلُّ على: أَنَا اللَّهُ أعلم، أنا الله أرى «٤»، وقال قوم:
- ١- اسم الله الأعظم.
٢- قسم أقسم الله به وهو من أسمائه.
٣- أسماء للسور التي وردت فيها.
٤- اسم من أسماء القرآن.
٥- فواتح يفتح الله بها القرآن.
٦- لكل كتاب سر، وسر القرآن فواتحه.
٧- حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
٨- حروف هجاء موضوع.
٩- حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة.
١٠- ابتدئت بذلك السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين.
١١- علامات لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاب يفتتح بالحروف المقطعة.
١٢- حروف من حساب الجمل.
ينظر: «البرهان» (١/ ١٦٩)، و «جامع البيان» (١/ ٢٠٥)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٨١)، و «مفاتيح الغيب» (٢/ ٣)، و «البحر المحيط» (١/ ١٥٤).
(١) ذكره السمرقندي في تفسيره (١/ ٨٧)، والبغوي (١/ ٤٤)، وابن عطية الأندلسي (١/ ٨٢)، والقرطبي (١/ ١٣٣- ١٣٤).
(٢) أخرجه ابن جرير (١/ ١١٩)، (٢٣٣) مختصرا. وذكره السمرقندي في «تفسيره» (١/ ٨٧)، عن علي بلفظ «وهو اسم من أسماء الله تعالى». وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٨٢)، وابن كثير (١/ ٣٦)، القرطبي (١/ ١٣٤)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٥٤)، بلفظ «اسم الله أعظم»، وعزاه لابن جريج وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه ابن جرير (١/ ١١٩) (٢٣٦)، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ٨٢)، والبغوي (١/ ٤٤)، بلفظ «أنها أقسام» عن ابن عباس، والماوردي في «تفسيره» (١/ ٦٤) وابن كثير (١/ ٣٦)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٥٤)، وعزاه لابن مردويه.
(٤) أخرجه ابن جرير (١/ ١١٩) برقم (٢٣٩) بلفظ: «أنا الله أعلم». وفي (٦/ ٥٢٥) برقم (١٧٥٣٤)، -
181
هي حسابُ أَبِي جَاد «١» لتدلَّ على مدَّة ملّة محمّد صلّى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حُيَيِّ بن أَخْطب «٢»، وهو قول أبي العالية وغيره «٣».
ت: وإِليه مال السُّهَيْلِيُّ «٤» في «الرَّوْضِ الأُنُفِ»، فانظره.
قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: الاسمُ من «ذَلِكَ» : الذال، والألف، واللام لبعد المشار إليه، والكاف للخطاب.
واختلف في «ذَلِكَ» هنا فقيل: هو بمعنى «هَذَا»، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن، وذلك أنه قد يشار بذلك إلى حاضرٍ تعلَّق به بعضُ غَيْبَةٍ، وقيل: هو على بابه، إِشارةً إِلى غائب.
واختلفوا في ذلك الغائب فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل غير ذلك انظره.
- بلفظ: «أنا الله أرى». والسيوطي في «الدر» (١/ ٥٤)، بلفظ: «أنا الله أعلم»، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس. وفي (٣/ ٥٣٤)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والبيهقي في «الأسماء والصفات»، وابن النجار في «تاريخه»، وذكره القرطبي (١/ ١٣٥)، وابن كثير (١/ ٣٦)، وابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ٨٢).
(١) وأبو جاد: الكلمة الأولى من الكلمات الثماني التي تجمع حروف الهجاء العربية. ويقال: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لقي أعرابيّا فسأله: هل تحسن القراءة؟ فقال: نعم، قال: فاقرأ أم القرآن، فقال الأعرابي: والله ما أحسن البنات فكيف الأم؟!، فضربه عمر، وأسلمه إلى الكتّاب، فمكث حينا ثم هرب، ولما رجع إلى أهله أنشدهم [الوافر] :
أتيت مهاجرين فعلموني ثلاثة أسطر متتابعات
وخطوا لي أبا جاد وقالوا تعلم سعفصا وقريشيات
وما أنا والكتابة والتهجي وما حظ البنين مع البنات
ينظر: «المعجم الكبير» (١/ ٢٢، ٢٣).
(٢) حييّ بن أخطب النضري: جاهلي، من الأشداء العتاة. كان ينعت ب «سيد الحاضر والبادي». أدرك الإسلام، وآذى المسلمين فأسروه يوم «قريظة». ثم قتلوه. ينظر: «سيرة ابن هشام» (٢/ ١٤٨- ١٤٩)، «تهذيب الأسماء» (١/ ١٧١)، و «الأعلام» (٢/ ٢٩٢).
(٣) ذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ٨٢) والسيوطي في «الدر» (١/ ٥٦)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....]
(٤) عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي السهيلي: حافظ، عالم باللغة والسير، ضرير. ولد في «مالقة»، وعمي وعمره (١٧ سنة). ونبغ فاتصل خبره بصاحب «مراكش» فطلبه إليها وأكرمه، فأقام يصنّف كتبه، من كتبه «الروض الأنف» في شرح «السيرة النبوية» لابن هشام، وغيرها من الكتب في التفسير. ولد سنة (٥٠٨ هـ.)، وتوفي سنة (٥٨١ هـ.).
انظر: «وفيات الأعيان» (١/ ٢٨)، «نكت الهميان» (١٨٧)، «زاد المسافر» (٩٦) «الأعلام» (٣/ ٣١٣).
182
ولا رَيْبَ فِيهِ: معناه: لا شكّ فيه، وهُدىً: معناه إِرشادٌ وبيانٌ، وقوله:
لِلْمُتَّقِينَ: اللفظ مأخوذ من «وقى»، والمعنى: الذين يَتَّقُونَ اللَّه تعالى بامتثال أوامره، واجتناب معاصيه، كان ذلك وقايةً بينهم وبين عذابه.
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
يُؤْمِنُونَ: معناه يُصَدِّقون، وقوله: بِالْغَيْبِ قالت طائفةٌ: معناه: يُصَدِّقون، إِذا غَابُوا وَخَلَوْا، لا كالمنافقين الَّذين يؤمنون إذَا حضروا، ويكْفُرُونَ إِذا غابوا، وقال آخرون: معناه:
يصدِّقون بما غاب عنهم مما أخبرتْ به الشرائعُ، وقوله: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ معناه:
يظهرونها ويثبتونها كما يقال: أُقِيمَتِ السُّوقُ.
ت: وقال أبو عبد اللَّه النَّحْوِيُّ في اختصاره لتفسيرِ الطَّبَرِيِّ: إِقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإِقبال عليها. انتهى.
قال ص «١» : يقيمون الصلاةَ من التقويمِ ومنه: أَقَمْتُ العُودَ، أو الإِْدَامَةِ ومنه: قامتِ السُّوقُ، أو التشميرِ والنهوضِ ومنه: قام بالأمر. انتهى.
وقوله تعالى/: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ: الرزْقُ «٢» عند أهل السنة ما صحّ الانتفاع ١٠ أ
(١) «المجيد» ص ٨٤.
(٢) اختلف العلماء في تعريف الرزق في عرف الشرع، فقال أبو الحسين البصري من المعتزلة: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به، فإذا قلنا: قد رزقنا الله تعالى الأموال. فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالا فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص.
واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقا.
وقال الأشاعرة: الحرام قد يكون رزقا، وحجتهم من وجهين:
الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظا ونصيبا، فوجب أن يكون رزقا له.
الثاني: أنه تعالى قال: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا.
وقد احتج المعتزلة بالكتاب، والسنة، والمعنى:
أما الكتاب فعدة وجوه:
أحدها: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: ٣] مدحهم الله تعالى على الإنفاق مما رزقهم، فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وهذا باطل بالاتفاق.
ثانيها: قالوا: لو كان الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب منه لقوله سبحانه: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [المنافقون: ١٠]، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه، بل يجب عليه-
183
به، حلالا كان أو حراما، ويُنْفِقُونَ: معناه هنا: يؤْتُونَ ما ألزمهُمُ الشرعُ من زكاةٍ، وما ندبهم إِلَيْهِ من غير ذلك.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤ الى ٧]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: اختلف المتأوِّلون من المراد بهذه الآية والتي قبلها، فقال قوم: الآيتان جميعاً في جميع المؤمنينَ، وقال آخرون: هما في مُؤْمِنِي أهْلِ الكتاب، وقال آخرون: الآية الأولى في مُؤْمِنِي العربِ، والثانيةُ في مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام «١» وفيه نزلت.
- رده فدل ذلك على أن الحرام لا يكون رزقا.
ثالثها: استدلوا بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: ٥٩]. فبين سبحانه أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله فثبت أن الحرام لا يكون رزقا.
وأما السنة، فما رواه أبو الحسين البصري بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرة، فقال له: يا رسول الله! إن الله كتب علي الشقوة، فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي، فائذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال عليه السلام «لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت، أي عدو الله: لقد رزقك الله رزقا طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئا ضربتك ضربا وجيعا» وأما المعنى، فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام، وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال: إنه رزقه إياه ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالا قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان الكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكلاب والخنازير، وقال: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: ٦] فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضا من العباد، وكذلك هاهنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقا أيضا، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا لأن قوله عليه السلام: «فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه» صريح في أن الرزق قد يكون حراما. وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض اللغة، وهو أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ. والله أعلم. ينظر:
«الفخر الرازي» (٢/ ٢٨، ٢٩).
(١) هو: عبد الله بن سلام بن الحارث.. من ذرية يوسف (عليه السلام). أبو يوسف، حليف النوافل من الخزرج «الإسرائيلي»، الأنصاري. -
184
وقوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ: يعني القرآن، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يعني: الكتب السالفة، ويُوقِنُونَ معناه: يعلَمُونَ عِلْماً متمكِّناً في نفوسهم، واليقين أعلى درجات العلم.
وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ إِشارة إِلى المذكورين، والهدى هنا:
الإِرشاد، والفلاحُ: الظَّفَر بالبغية، وإدراك الأمل.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ... إلى عَظِيمٌ: اختلف فيمن نزلَتْ هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامَّة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها، فقال قوم: هي فيمن سبق في علْمِ اللَّه، أنه لا يؤمِنُ، وقال ابن عَبَّاسٍ: نزَلَتْ في حُيَيٍّ بْنِ أَخْطَبَ، وأَبِي ياسِرِ بنِ أَخْطَبَ، وكعب بن الأَشْرَفِ «١»، ونظرائهم «٢».
والقولُ الأول هو المعتمد عليه.
وقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ معناه: معتدلٌ عندهم، والإِنذار: إعلام بتخويف، هذا حدُّه، وقوله تعالى: خَتَمَ: مأخوذ من الخَتْم، وهو الطبعُ، والخاتَمُ: الطابَعُ قال في مختصر الطبريِّ: والصحيح أن هذا الطبع حقيقة «٣»
- قال ابن الأثير في «الأسد» : كان إسلامه لما قدم النبي المدينة مهاجرا. روى عنه ابناه يوسف، ومحمد، وأنس بن مالك، وزرارة بن أوفى، وكان قد ذكر قبل ذلك أنه كان اسمه في الجاهلية «الحصين»، فسماه رسول الله حين أسلم عبد الله. توفي سنة (٤٣) هـ.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ٢٦٤)، «الإصابة» (٤/ ٨٠)، «الثقات» (٣/ ٢٢٨)، «نقعة الصديان» (٢٤٥)، «عنوان النجابة» (١٢٤)، «شذرات الذهب» (١/ ٤٠)، «تقريب التهذيب» (١/ ٤٢٢)، «تهذيب التهذيب» (٥/ ٢٤٩).
(١) كعب بن الأشرف الطائي، من بني نبهان، شاعر جاهلي. كانت أمه من «بني النضير» فدان باليهودية.
وكان سيدا في أخواله. أدرك الإسلام ولم يسلم، وأكثر من هجوم النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وتحريض القبائل عليهم وإيذائهم، والتشبيب بنسائهم، وخرج إلى مكة بعد وقعة «بدر» فندب قتلى قريش فيها، وحض على الأخذ بثأرهم، وعاد إلى المدينة. وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقتله، فانطلق إليه خمسة من الأنصار فقتلوه في ظاهر حصنه سنة (٣ هـ.) وحملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة.
ينظر: «الروض الأنف» (٢/ ١٢٣)، «إمتاع الأسماع» (١/ ١٠٧)، «ابن الأثير» (٢/ ٥٣)، «الطبري» (٣/ ٢)، «الأعلام» (٥/ ٢٢٥).
(٢) الطبري (١/ ١٤١) برقم (٢٩٥) وذكره السمرقندي (١/ ٩١- ٩٢)، وابن عطية الأندلسي (١/ ٨٧)، والماوردي (١/ ٧٢)، والقرطبي (١/ ١٦٠)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٦٥)، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم. وذكره ابن كثير (١/ ٤٥).
(٣) قال ابن فارس في «فقه اللغة» : الحقيقة من قولنا: حقّ الشيء إذا وجب. واشتقاقه من الشيء المحقق، -
185
لا أنه مجاز «١» فقد جاء عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ العَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً، نُكِتَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ، وَنَزَعَ واستغفر، صُقِلَ «٢» قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ، زَادَتْ حتى تَغَلَّقَ قلبه، فذلك
وهو المحكم يقال: ثوب محقّق النّسج: أي محكمه. فالحقيقة: الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة، ولا تمثيل، ولا تقديم فيه، ولا تأخير كقول القائل: أحمد الله على نعمه وإحسانه. وهذا أكثر الكلام، وأكثر آي القرآن وشعر العرب على هذا.
وينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٢/ ١٥٢)، «سلاسل الذهب» له ص (١٨٢)، «التمهيد» للأسنوي ص (١٨٥)، «نهاية السول» له (٢/ ١٤٥)، «منهاج العقول» للبدخشي (١/ ٣٢٧)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري» (ص ٤٦).
(١) المجاز مأخوذ من جاز يجوز إذا استنّ ماضيا، تقول: جاز بنا فلان، وجاز علينا فارس هذا هو الأصل.
ثم تقول: يجوز أن تفعل كذا: أي ينفذ ولا يرد ولا يمنع. وتقول: عندنا دراهم وضح وازنة، وأخرى تجوز جواز الوازنة: أي: إن هذه وإن لم تكن وازنة فهي تجوز مجازها وجوازها لقربها منها.
فهذا تأويل قولنا: «مجاز» يعني: أن الكلام الحقيقي يمضي لسننه لا يعترض عليه، وقد يكون غيره يجوز جوازه لقربه منه، إلا أن فيه من تشبيه واستعارة وكفّ ما ليس في الأوّل وذلك كقولنا: عطاء فلان مزن واكف. فهذا تشبيه، وقد جاز مجاز قوله: عطاؤه كثير واف. ومن هذا قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: ١٦]. فهذا استعارة.
وقال ابن جني في «الخصائص» : الحقيقية ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان بضد ذلك، وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة: وهي الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، فإن عدمت الثلاثة تعيّنت الحقيقة فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم في الفرس: «هو بحر»، فالمعاني الثلاثة موجودة فيه.
ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٢/ ١٥٨)، «سلاسل الذهب» له ص (١٩٠)، «التمهيد» للأسنوي ص (١٨٥)، «نهاية السول» له (٢/ ١٤٥)، «منهاج العقول» للبدخشي (١/ ٣٥٤)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص (٤٧)، «التحصيل من المحصول» للأرموي، (١/ ٢٢١)، «المستصفى» للغزالي (١/ ٣٤١)، «حاشية البناني» (١/ ٣٠٤)، «الإبهاج» لابن السبكي (١/ ٢٧٣)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٢/ ١٥٢)، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص (٣٨٧)، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٣٩٩)، «المعتمد» لأبي الحسين (١/ ١٤، ٢/ ٤٠٥)، «الإحكام في أصول الأحكام» (٤/ ٤٣٧)، «التحرير» لابن الهمام ص (١٦٠)، «تيسير التحرير لأمير بادشاه» (١/ ٧٣، ٢/ ٣)، «كشف الأسرار» للنسفي (١/ ٢٢٦)، «حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى» (١/ ١٣٨)، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (١/ ٧٢)، «حاشية نسمات الأسحار» لابن عابدين ص (٩٨)، «شرح مختصر المنار» للكوراني ص (٥٩)، «الوجيز» للكراماستي ص (٨)، «ميزان الأصول» للسمرقندي (١/ ٥٢٧)، «تقريب الوصول» لابن جزي ص (٧٣)، «إرشاد الفحول» للشوكاني ص (٢٢)، «نشر البنود» للشنقيطي (١/ ١٢٤)، «الكوكب المنير» للفتوحي ص (٣٩- ٥٦)، «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (٢/ ٢).
(٢) الصّقل: الجلاء. ينظر: «لسان العرب» (٢٤٧٣).
186
الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ» «١» [المطففين: ١٤] » انتهى.
والغِشَاوَةُ: الغطاء المغشي الساتر، وقوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: معناه:
لِمخالفتِكَ يا محمَّد، وكفرهم بالله، وعَظِيمٌ: معناه بالإضافة إلى عذاب دونه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٢]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ... إِلَى وَما يَشْعُرُونَ: هذه الآية نزلت في المنافقين، وسَمَّى اللَّهُ تعالى يوم القيامة اليَوْمَ الآخِرَ لأنه لا ليل بعده، ولا يقالُ يوم إِلا لما تقدَّمه ليل، واختلف المتأوِّلون في قوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ، فقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى يُخَادِعُون رسول اللَّه «٢»، فأضافَ الأمرَ إلى اللَّه تجوُّزاً لتعلُّق رسوله به، ومخادعتُهم هي تحيُّلهم في أن يُفْشِيَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون إليهم أسرارهم.
ع «٣» : تقول: خادَعْتُ الرجُلَ بمعنى: أعملْتُ التحيُّل عليه، فَخَدَعْتُهُ، بمعنى:
تمَّت عليه الحيلة، ونفذ فيه المرادُ، وقال جماعةٌ: بل يخادعون اللَّهَ والمؤمنين بإِظهارهم من الإِيمان خلافَ ما أبطنوا من الكفر، وإِنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب، وَما يَشْعُرُونَ بذلك، معناه: وما يعلمون علْمَ تفطُّن وتَهَدٍّ، وهي لفظة مأخوذة من
(١) أخرجه أحمد (٢/ ٢٩٧)، والترمذي (٥/ ٤٣٤)، كتاب «تفسير القرآن»، باب ومن سورة ويل للمطففين، حديث (٣٣٣٤)، والنسائي في «التفسير» (٢/ ٥٠٥)، رقم (٦٧٨)، وفي «الكبرى» (٦/ ١١٠)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يفعل من بلي بذنب وما يقول، حديث (١٠٢٥١)، وابن ماجه (٢/ ١٤١٨)، كتاب «الزهد» باب ذكر الذنوب، حديث (٤٢٤٤)، والطبري في «تفسيره» (٣٠/ ٦٢)، والحاكم (٢/ ٥١٧)، وابن حبان (٣/ ٢١٠)، رقم (٩٣٠)، و (١٧٧١- موارد)، كلهم من طريق محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: حديث حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٣٩) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان».
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ٩٠)، والقرطبي (١/ ١٧٠). [.....]
(٣) «المحرر الوجيز» (١/ ٩٠).
187
الشِّعَار كأن الشيء المتفطَّن له شعار للنَّفْس، وقولهم: لَيْتَ شِعْرِي: معناه: ليت فطنتي تُدْرِكُ.
واختلف، ما الذي نَفَى/ اللَّه عنهم أنْ يشعروا له؟ فقالت طائفة: وما يَشْعُرُونَ أنَّ ضرَرَ تلْكَ المخادَعَةِ راجعٌ عليهم لخلودهم في النَّار، وقال آخرون: وما يَشْعُرُونَ أنَّ اللَّه يكشف لك سرّهم ومخادعتهم في قولهم: آمَنَّا.
قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أي: في عقائدهم فسادٌ «١»، وهم المنافقون، وذلك إما أن يكون شكًّا، وإما جحدًا بسبب حسدهم مع علمهم بصحَّة ما يجحدون، وقال قوم: المَرَضُ غمّهم بظهوره صلّى الله عليه وسلم، فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً، قيل: هو دعاءٌ عليهم، وقيل:
هو خبر أنَّ اللَّه قد فعل بهم ذلك، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحْيِ، ويظهر من البراهين.
ت: لما تكلَّم ع: على تفسير قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح: ٦]. قال «٢» : كُلُّ ما كان بلفظ دعاء من جهة اللَّه عزَّ وجلَّ، فَإنَّما هو بمعنى إيجاب الشيء لأَنَّ اللَّه تعالى لا يدعو على مخلوقاته، وهي في قبضته، ومن هذا: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الهمزة: ١]، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: ١]، وهي كلها أحكام تامَّة تضمنها خبره تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، أي: مؤلم، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي:
بالكفر وموالاةِ الكفرةِ ولقول المنافقين: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ثلاثُ تأويلاتٍ:
أحدها: جحد أنهم يفسدون، وهذا استمرار منهم على النِّفاق.
والثاني: أنّ يقروا بموالاة الكُفَّار ويدَّعون أنها صلاحٌ من حيث هم قرابةٌ توصل.
والثالث: أنهم يصلحون بين الكفار والمؤمنين.
(١) وفي تفسير «المرض» قال ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وقتادة، وجميع المفسرين: أي شك ونفاق. وقال الزجاج: المرض في القلب: كل ما خرج به الإنسان من الصحة في الدين.
ينظر: «الوسيط» (١/ ٨٧)، «صحيفة ابن أبي طلحة» (ص ٧٨)، و «معاني الزجاج» (١/ ٨٦)، ونسبه إلى أبي عبيدة، و «غريب القرآن» (ص ٤١)، و «الدر المنثور» (١/ ٣٠) عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والربيع، وينظر: «مجاز القرآن» (١/ ٣٢)، و «الزاهر» (١/ ٥٨٦).
(٢) «المحرر الوجيز» (٣/ ٧٣).
188
و «أَلاَ» : استفتاحُ كلامٍ، و «لكن» : حرف استدراك، ويحتمل أن يراد هنا: لا يَشْعُرُونَ أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد: لا يشعرون أن الله يفضحهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣ الى ١٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ... الآية: المعنى: صدِّقوا بمحمَّد وشرعه كما صدَّقَ المهاجرون والمحقِّقون من أهل يثرب، قالوا: أنكون كالذين خَفَّت عقولهم، والسفه: الخفَّة والرقَّة الداعيةُ إِلى الخفة، يقال: ثوب سَفِيهٌ، إِذا كان رقيقًا هَلْهَلَ النَّسْجِ، وهذا القول إِنما كانوا يقولونه في خفاء، فَأَطْلَعَ اللَّه عليه نبيَّه عليه السلام، والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقَّة الحلوم وفساد البصائرِ إِنما هو في حيِّزهم وصفةٌ لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء لِلرَّيْنِ الَّذي على قلوبهم.
وقوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا... الآية: هذه كانت حالَ المنافقين: إِظهارُ الإيمان للمؤمنين، وإِظهار الكفر في خلواتهم، وكان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم يعرض عنهم، ويَدَعُهُمْ في غمرة الاشتباه مخافة أن يتحدَّثَ الناسُ عنه أنه يقتُلُ أصحابه حَسْبَمَا وقع في قِصَّة عبد اللَّه بن أُبَيٍّ ابْنِ سَلُول «١»، قال مَالِكٌ: النِّفَاقُ في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الزندقةُ اليَوْمَ، واختلف المفسِّرون في المراد بشياطينهم، فقال ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما: هم رؤساء الكفر «٢»، وقيل: الكُهَّان، قال البخاريُّ: قال مجاهدٌ: إِلى شَياطِينِهِمْ، أي:
أصحابهم من المنافقين والمشركين «٣».
قال ص «٤» : شياطينهم: جمع شيطانٍ، وهو كل متمرّد من الجنّ والإنس
(١) عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد الخزرجي، أبو الحباب، المشهور ب «ابن سلول»، وسلول جدته لأبيه، من «خزاعة»، رأس المنافقين في الإسلام، من أهل المدينة. كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم. كان كلما نزلت بالمسلمين نازلة شمت بهم، وكلما سمع بسيئة نشرها. لما مات تقدّم النبي صلّى الله عليه وسلم فصلّى عليه ولم يكن ذلك من رأي «عمر» فنزلت: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة: ٨٤]. ينظر: «الأعلام» (٤/ ٦٥)، «طبقات ابن سعد» (٣/ ٩٠)، «جمهرة الأنساب» (٣٣٥).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ١٦٣) برقم (٣٤٩)، وذكره القرطبي (١/ ١٧٩).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ١٦٤) برقم (٣٥٥)، وذكره البغوي في «التفسير» (١/ ٥١)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٧٠)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وذكره ابن كثير (١/ ٥١).
(٤) «المجيد في إعراب القرآن المجيد» (ص ١١٨).
189
والدوابِّ. قاله ابن عبَّاس، وأنثاه شيطانة. انتهى.
ت: ويجب على المؤمن أن يجتنب هذه الأخلاق الذميمة، وقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ».
رواه أبو داود «١»، وفيه عنه صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا، كَانَ له يوم القيامة لسانان ١١ أمن نَارٍ». انتهى. / من سنن أبي داود «٢».
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ: اختلف المفسِّرون في هذا الاستهزاء، فقال جمهور العلماء:
هي تسمية العُقُوبة باسم الذَّنْب، والعربُ تستعمل ذلك كثيرًا، وقال قوم: إن اللَّه سبحانه يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البَشَر هُزْءٌ روي أنَّ النَّارَ تجمد كما تَجْمُدُ الإِهالة «٣»، فيمشون عليها، ويظنون أنها منجاة، فتخسف بهم، وما روي أن أبواب النَّار تفتح لهم، فيذهبون إِلى الخروج، نحا هذا المنحى ابنُ عَبَّاس والحسن.
ت: وقوله تعالى: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد: ١٣] يقوِّي هذا المنحى، وهكذا نص عليه في اختصار الطبريِّ. انتهى.
وقيل: استهزاؤه بهم هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية، ويَمُدُّهُمْ، أي:
يزيدهم في الطغيان، وقال مجاهد: معناه: يملي لهم «٤»، والطغيان الغلوّ وتعدّي الحدّ
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٦٨٤)، كتاب «الأدب»، باب في ذي الوجهين، حديث (٤٨٧٢)، من طريق أبي الزِّنَادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعا بهذا اللفظ، وأخرجه البخاري (١٠/ ٤٨٩)، كتاب «الأدب»، باب ما قيل في ذي الوجهين، حديث (٦٠٥٨)، ومسلم (٤/ ١٩٥٨)، كتاب «فضائل الصحابة»، باب خيار الناس، حديث (١٩٩/ ٢٥٢٦)، بلفظ: «تجدون من شر الناس... »
الحديث.
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ٦٨٤- ٦٨٥)، كتاب «الأدب»، باب في ذي الوجهين، حديث (٤٨٧٣)، والدارمي (٢/ ٣١٤)، كتاب «الرقاق»، باب ما قيل في ذي الوجهين، والبخاري في «الأدب المفرد» (١٨٨)، وابن حبان (١٩٧٩- موارد)، والطيالسي (٢/ ٥٩- منحة)، رقم (٦١٧٥)، وابن أبي شيبة (٨/ ٥٥٨) رقم (٥٥١٥)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٥٢٣- بتحقيقنا)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤/ ٢٢٩)، رقم (٤٨٨١)، كلهم من طريق شريك بن عبد الله، عن الركين، عن نعيم بن حنظلة، عن عمار بن ياسر مرفوعا، وصححه ابن حبان.
وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (٣/ ١٣٧) : وسنده حسن.
(٣) الإهالة: الدّهن. ينظر: «عمدة الحفاظ» (١/ ١٥٣).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ١٦٨) برقم (٣٦٤) عن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم. وبرقم (٣٦٥) عن مجاهد، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٧٠) عن ابن مسعود.
190
كما يقال: طغى الماء، وطغت النّار ويَعْمَهُونَ: معناه: يتردَّدون حيرةً، والعَمَهُ الحَيْرَةُ من جهة النّظر، والعامة الذي كأنه لا يبصر.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً... إلى قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ: قال الفَخْر «١» : اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفْسِهِ لأن الغرض من المَثَل تشبيه الخَفِيِّ بِالجَلِيِّ، والغائب بالشاهدِ، فيتأكَّد الوقوفُ على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل وذلك هو النهاية في الإِيضاح ألا ترى أنَّ الترغيب والترهيب إِذا وقع مجرَّداً عن ضرب مَثَلٍ، لم يتأكَّد وقوعه في القلب كتأكُّده مع ضرب المثل، ولهذا أكثر اللَّه تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه الأمثالَ، قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: ٢١] انتهى.
والمَثَل والمِثْل والمَثِيلُ واحدٌ، معناه: الشبيه، قاله أهل اللغة.
واسْتَوْقَدَ: قيل: معناه أوقد.
واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل الذي استوقد ناراً فقالت فرقةٌ:
هي فيمن كان آمن، ثم كفر بالنفاقِ، فإِيمانه بمنزلة النار أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها، وذهابِ النور، وقالت فرقةٌ، منهم قتادة: نطقهم ب «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» والقُرْآنِ كإِضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها «٢»، قال جمهورُ النحاة: جواب «لَمَّا» :
«ذَهَبَ» ويعود الضمير من نورهم على «الذي»، وعلى هذا القولِ يتمُّ تمثيل المنافق بالمستوقِدِ لأنَّ بقاء المستوقِدِ في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الخلاف المتقدِّم.
وقال قومٌ «٣» : جوابُ «لَمَّا» مضمرٌ، وهو «طُفِئَتْ»، فالضمير في «نُورِهِمْ» على هذا
(١) «مفاتيح الغيب» (٢/ ٦٦).
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ١٠٠).
(٣) ومن هؤلاء أبو القاسم الزمخشري، فقد قال عن جواب «لما». «محذوف... كأن قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في-[.....]
191
للمنافقين، والإخبار بهذا هو عن حال لهم تكونُ في الآخرة، وهو قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ... الآيةَ [الحديد: ١٣] وهذا القول غير قويٍّ.
والأصم: الذي لا يسمع، والأبكم: الذي لا ينطق، ولا يفهم، فإِذا فهم، فهو الأخرس، وقيل: الأبكم والأخرس واحدٌ، ووصفهم بهذه الصفات إِذْ أعمالهم من الخطإ وعدم الإِجابة كأعمال من هذه صفته.
و «صُمٌّ» : رفع على خبر الابتداء، إما على تقدير تكرير «أُولَئِكَ»، أو إِضمارهم.
وقوله تعالى: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ قيل: معناه: لا يؤمنون بوجْهٍ، وهذا إنما يصح أنْ لو كانت الآية في معيَّنينِ، وقيل: معناه: فهم لا يرجعونَ ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيحُ.
أَوْ كَصَيِّبٍ: «أَوْ» : للتخيير، معناه مثِّلوهم بهذا أو بهذا، والصَّيِّبُ المطر من:
١١ ب صَابَ يَصُوبُ، إِذا/ انحط من عُلْو إِلى سفل.
وظُلُماتٌ: بالجمع: إِشارة إِلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، ومن حيث تتراكب وتتزيد جُمِعَتْ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفوس بخلاف السحاب والمطر، إذا انجلى دجنه، فإنه سارٌّ جميل.
واختلف العلماء في «الرَّعْدِ»، فقال ابن عباس ومجاهد وشَهْرُ بن حَوْشَبٍ «١» وغيرهم: هو مَلَكٌ يزجرُ السحابَ بهذا الصوتِ المسموعِ كلَّما خالفتْ سحابةٌ، صاح بها، فإِذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه، فهي الصواعقُ، واسم هذا الملك: الرّعد «٢».
- إحياء النار..» وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب، وجعل جملة قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ مستأنفة أو بدلا من جملة التمثيل.
وقد رد عليه أبو حيان- كما ذكر السمين عنه- بوجهين: أحدهما: أن هذا تقدير مع وجود ما يغني عنه، فلا حاجة إليه إذ التقديرات إنما تكون عند الضرورات. والثاني: أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية.
ينظر: «الكشاف» (١/ ٧٣)، و «البحر المحيط» (١/ ٢١٣)، و «الدر المصون» (١/ ١٣٢).
(١) شهر بن حوشب الأشعري، فقيه قارئ، من رجال الحديث. شامي الأصل، سكن «العراق»، وكان يتزيّا بزي الجند، ويسمع الغناء بالآلات. وولي بيت المال مدة، وهو متروك الحديث. وكان ظريفا، قال له رجل: إني أحبك، فقال: ولم لا تحبني وأنا أخوك في كتاب الله، ووزيرك على دين الله، ومؤنتي على غيرك.
ينظر: «الأعلام» (٣/ ١٧٨)، «تهذيب التهذيب» (٤/ ٣٦٩)، و «التاج» (١/ ٢١٤).
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ١٠٢)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٥٣)، والقرطبي (١/ ١٨٧).
192
وقيل: الرَّعْدُ مَلَكٌ، وهذا الصوت تسبيحُهُ.
وقيل: الرعد: اسم الصوْتِ المسموعِ قاله عليُّ بن أبي طالب «١».
وأكثر العلماء على أن الرعد ملكٌ، وذلك صوته يسبِّح ويزجرُ السحابَ.
واختلفوا في البَرْقِ.
فقال علي بن أبي طالب وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «هُوَ مِخْرَاقُ حَدِيدٍ بِيَدِ المَلَكِ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ» وهذا أصحُّ ما روي فيه «٢».
وقال ابن عبَّاس: هو سَوط نور بيد المَلَكِ يزجي به السحَابَ «٣»، وروي عنه: أنَّ البرق ملك يتراءى «٤».
واختلف المتأوّلون في المقصد بهذا المثل، وكيف تترتب أحوالُ المنافقينَ المُوَازِنَةُ لما في المَثَل من الظلماتِ والرعْدِ والبرقِ والصواعِقِ.
فقال جمهور المفسِّرين: مَثَّلَ اللَّه تعالى القُرْآنَ بالصَّيِّبِ، فما فيه من الإشكال عليهم والعمى هو الظلماتُ، وما فيه من الوعيدِ والزجْرِ هو الرعْدُ، وما فيه من النُّور والحُجَج الباهرة هو البَرْقُ، وتخوُّفهم ورَوْعُهُمْ وحَذَرُهم هو جَعْلُ أصابعهم في آذانهم، وفَضْحُ نفاقهم، واشتهارُ كفرهم، وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها من الجهادِ والزكاةِ ونحوه هي الصواعقُ، وهذا كله صحيحٌ بيِّن.
وقال ابنُ مسعود: إِن المنافقين في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانُوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن، فضرب اللَّه المثل لهم «٥»، وهذا وفاقٌ لقول الجمهور.
ومُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ معناه: بعقابهم، يقال: أحاط السلطان بفلانٍ، إِذا أخذه أخذًا حاصرًا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: ٤٢].
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٥٣)، وابن عطية (١/ ١٠٢)، والقرطبي (١/ ١٨٧).
(٢) أخرجه البيهقي في «سننه» (٣/ ٣٦٣)، كتاب «صلاة الاستسقاء»، باب ما جاء في الرعد، عن علي موقوفا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٩٦)، وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب «المطر»، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، والخرائطي في «مكارم الأخلاق».
(٣) ذكره الماوردي في «التفسير» (١/ ٨٢)، والبغوي (١/ ٥٣)، والقرطبي (١/ ١٨٧).
(٤) ذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١٠٢)، والقرطبي (١/ ١٨٨).
(٥) ذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١٠٣).
193
ويَكادُ فعل ينفي المعنى مع إِيجابه، ويوجبه مع النفي «١»، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخَطْفُ: الانتزاعُ بسرعة، ومعنى يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل البَرْقَ في المثل الزجْرَ والوعيدَ، قال:
يكاد ذلك يصيبهم.
و «كُلَّمَا» : ظرفٌ، والعامل فيه «مَشَوْا»، و «قَامُوا» معناه: ثَبَتُوا، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عَبَّاس وغيره: كلَّما سمع المنافقون القرآن، وظهرت لهم الحججُ، أنسوا ومشوا معه، فإذا نَزَلَ من القرآن ما يعمهون فيه، ويضلون به، أو يكلَّفونه، قاموا، أي:
ثَبَتُوا على نفاقهم.
وروي عن ابن مسعودٍ أنَّ معنى الآية: كلَّما صلُحَتْ أحوالهم في زروعهم ومواشِيهِمْ، وتوالَتْ عليهم النّعم، قالوا: دين محمَّد دِينٌ مبارَكٌ، وإِذا نزلت بهم مصيبةٌ أَو أصابتهم شدَّة، سَخِطُوه وثَبَتُوا في نفاقهم «٢».
ووحَّد السمع لأنه مصدر يقع للواحد والجمع.
١٢ أوقوله سبحانه: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لفظه العمومُ، ومعناه عند/ المتكلِّمين: فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه، وقديرٌ بمعنى قَادِرٍ، وفيه مبالغةٌ، وخَصَّ هنا سبحانه صفتَهُ الَّتي هي القدرةُ- بالذِّكُر لأنه قد تقدَّم ذكر فعلٍ مضمَّنه الوعيدُ والإِخافةُ، فكان ذكر القدرة مناسباً لذلك.
(١) وزعم جماعة منهم ابن جني وأبو البقاء وابن عطية أنّ نفيها إثبات وإثباتها نفي، حتى ألغز بعضهم فيها فقال: [الطويل]
أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة جرت في لساني جرهم وثمود
إذا نفيت- والله أعلم- أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود
وحكوا عن ذي الرمة أنه لمّا أنشد قوله: [الطويل]
إذا غيّر النأي المحبّين لم يكد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح
عيب عليه لأنه قال: لم يكد يبرح فيكون قد برح، فغيّره إلى قوله: «لم يزل» أو ما هو بمعناه، والذي غرّ هؤلاء قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: ٧١] قالوا: فهي هنا منفيّة وخبرها مثبت في المعنى، لأن الذبح وقع لقوله: فَذَبَحُوها. والجواب عن هذه الآية من وجهين:
أحدهما: أنه يحمل على اختلاف وقتين، أي: ذبحوها في وقت، وما كادوا يفعلون في وقت آخر.
والثاني: أنه عبّر بنفي مقاربة الفعل عن شدّة تعنّتهم وعسرهم في الفعل. وأمّا ما حكوه عن ذي الرّمّة فقد غلّط الجمهور ذا الرّمة في رجوعه عن قوله وقالوا: هو أبلغ وأحسن ممّا غيّره إليه.
ينظر: «الدر المصون» (١/ ١٤٠).
(٢) ينظر: ابن عطية (١/ ١٠٤).
194

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٤]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ... الآيَةَ: «يَا» : حرفُ نداءٍ، وفيه تنبيهٌ، و «أَيُّ» هو المنادى، قال مجاهد: يا أَيُّهَا النَّاسُ حيث وقع في القرآن مكّيّ، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مدنيٌّ «١».
قال ع «٢» : قد تقدَّم في أول السورة أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المدنيّ:
يا أَيُّهَا النَّاسُ.
وأما قوله في: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فصحيح.
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: معناه: وحِّدوه، وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم إِذ كانت العرب مقرة بأن اللَّه خلقها، فذكر ذلك سبحانه حجةً عليهم، ولعل في هذه الآية قال فيها كثيرٌ من المفسِّرين: هي بمعنى إيجاب التقوى، وليست من اللَّه تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع، وفي «مختصر الطَّبَرِيِّ» : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عن مجاهد، أي: لعلَّكم تطيعون «٣»، والتقوَى التوقِّي من عذاب اللَّه بعبادته، وهي من الوقاية، وأما «لَعَلَّ» هنا، فهي بمعنى «كَيْ» أو «لامِ كَيْ»، أي: لتتقوا، أوْ لكَيْ تتقوا، وليست هنا من اللَّه تعالى بمعنى الترجِّي، وإنما هي بمعنى كَيْ، وقد تجيء بمعنى «كَيْ» في اللغة قال الشاعر: [الطويل]
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ موثق «٤»
(١) ينظر المصدر السابق، والقرطبي (١/ ١٩٤).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٠٥).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ١٩٦) برقم (٤٧٤)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٧٤)، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ.
(٤) وبعده:
فلمّا كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الملا متألّق
وهما بلا نسبة في «تفسير الطبري» (١/ ٣٦٤)، و «القرطبي» (١/ ٢٢٧، ١٢/ ٢٨٢)، و «زاد المسير» (١/ ٤٨)، و «الدر المصون» (١/ ٤٧)، و «الحماسة البصرية» (١/ ٥٦). والشاهد فيه «لعل» : استعملها-[.....]
195
انتهى.
قال ع «١» : وقال سيبويه «٢» : ورؤساءُ اللِّسَان: هي على بابها، والترجِّي والتوقُّع إنما هو في حيز البشر، أي: إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم، رجَوْتُمْ لأنفسكم التقوى، و «لَعَلَّ» : متعلِّقة بقوله: «اعبدوا»، ويتجه تعلُّقها ب «خَلَقَكُمْ» أي: لَمَّا وُلِدَ كلُّ مولود على الفطرة، فهو إِن تأمله متأمِّل، توقَّع له ورجا أن يكون متقياً، و «تَتَّقُونَ» : مأخوذ من الوقاية، وجعل بمعنى «صَيَّرَ» في هذه الآية لتعدِّيها إِلى مفعولين، و «فِرَاشاً» معناه: تفترشونها، و «السَّمَاء» قيل: هو اسم مفرد، جمعه سماوات، وقيل: هو جمعٌ، واحده سَمَاوَة، وكلُّ ما ارتفع عليك في الهواء، فهو سماء، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ يريد السحاب، سمي بذلك تجوُّزاً لَمَّا كان يلي السماء، وقد سَمَّوُا المطر سماءً للمجاورة ومنه قول الشاعر: [الوافر]
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأَرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا «٣»
فتجوز أيضاً في «رَعَيْنَاهُ».
وواحد الأنداد نِدٌّ، وهو المقاوم والمضاهي، واختلف المتأوّلون من المخطاب بهذه الآية، فقالتْ جماعة من المفسِّرين: المخاطَبُ جميع المشركين، فقوله سبحانه على هذا:
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يريد العلم الخاصَّ في أنه تعالى خلق، وأنزل الماء، وأخرج الرزق، وقيل: المراد كفَّار بني إسرائيل، فالمعنى: وأنتم تعلَمُون من الكتب التي عندكم أنّ الله لا
- الشاعر هنا مجردة من الشك بمعنى «لام كي». يقول: كفوا الحروب لنكف، ولو كانت «لعل» هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق. ينظر: «أمالي ابن الشجري» (١: ٧١)، والملا: الصحراء، والأرض الواسعة.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٠٥).
(٢) عمرو بن عثمان بن قنير الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب «سيبويه» : إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو. ولد في إحدى قرى «شيراز»، وقدم «البصرة»، فلزم الخليل بن أحمد، ففاقه، وصنف كتابه المسمى «كتاب سيبويه» في النحو. لم يصنع قبله ولا بعده مثله، ناظر الكسائي وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم. كان أنيقا جميلا، توفي شابا، ولد سنة (١٤٨ هـ.) وتوفي سنة (١٨٠ هـ.).
ينظر: «ابن خلكان» (١: ٣٨٥)، «البداية والنهاية» (١٠: ١٧٦)، «الأعلام» (٥/ ٨١).
(٣) البيت لمعود الحكماء. انظر: «تأويل مشكل القرآن» (١٣٥)، الأصبهاني (٢١٤)، الصاحبي (٦٣)، «معجم الشعراء» (٣٩١)، «المفضليات» (٣٥٩)، «الصناعتين» (٢١٢)، «معجم مقاييس اللغة» (٣/ ٩٨)، «العمدة» (١/ ٢٣٧)، وفيه النسبة لجرير بن عطية، «معاهد التنصيص» (٢/ ٢٦٠).
والشاهد فيه: الاستخدام، وهو أن يراد بلفظ له معنيان: أحدهما، ثم يراد بضمير الآخر، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما، ثم يراد بالآخر الآخر، فالأول كما في البيت هنا، فإنه أراد بالسماء الغيث، وبالضمير الراجع إليه من «رعيناه» النبت.
196
ندَّ له، وقال ابنْ فُورَكَ «١» : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ، أي: في شكٍّ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ:
الضمير في «مِثْلِهِ» عند الجمهور: عائد على القرآن «٢»، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ، أي: مَنْ شهدكم وحضركم من عون ونصير قاله ابنُ عَبَّاس «٣» : إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أي: فيما قلتم من أنَّكم تقدرون على معارضته. ويؤيِّد هذا القول ما حكي عنهم في آية أخرى: / ١٢ ب لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٣١]، وفي قوله جل وعلا: وَلَنْ تَفْعَلُوا إِثَارةٌ لِهِمَمِهِمْ، وتحريكٌ لنفوسهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن.
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ: أمر بالإيمانِ وطاعةِ اللَّه، قال الفَخْر «٤» ولما ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلم وإِذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار، واتقاءُ النار يوجب ترك العناد فأقيم قوله: فَاتَّقُوا النَّارَ مُقَامَ قوله: «واتركوا العِنَادَ»، ووصف النار بأنها تتقد بالناس والحجارة وذلك يدلُّ على قوتها، نجَّانا اللَّه منها برحمته الواسعة.
وقرَنَ اللَّه سبحانه النَّاسَ بالحجارة لأنهم اتخذوها في الدنيا أصناماً يعبدونها قال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨] فإحدى الآيتين مفسِّرة للأخرى، وهذا كتعذيب مانعي الزكاة بنوع ما منعوا، انتهى.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٠٦). وابن فورك هو: محمد بن الحسين بن فورك، أبو بكر الأصفهاني، المتكلم، الأصولي، الأديب، النحوي، الواعظ، أخذ طريقة أبي الحسن الأشعري، عن أبي الحسين الباهلي وغيره، أحيى الله تعالى به أنواعا من العلوم، وبلغت مصنفاته الشيء الكثير، وجرت له مناظرات عظيمة. مات سنة (٤٠٦). انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ١٩٠)، «طبقات السبكي» (٣/ ٥٢)، «تبيين كذب المفتري» ص (٢٣٢). «الأعلام» (٦/ ٣١٣)، «مرآة الجنان» (٣/ ١٧)، «النجوم الزاهرة» (٤/ ٢٤٠).
(٢) وقال قوم آخرون: إن معنى قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: من مثل محمد من البشر لأن محمدا بشر مثلكم، يعني لأنه لم يكن قرأ الكتب ولا درس، فأتوا بسورة فيها حق من مثل محمد، كما جاء بذلك صلّى الله عليه وسلم.
ينظر: «تفسير الطبري» (١/ ٣٧٤)، و «بحر العلوم» للسمرقندي (١/ ١٠٢).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٢٠٢) برقم (٤٩٦)، وذكره ابن عطية (١/ ١٠٧)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٧٧)، وعزاه لابن جرير، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم.
(٤) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٢/ ١١٢).
197

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ... الآية.
بَشِّرِ: مأخوذ من البَشَرَةِ لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثرٌ في بَشَرة الوجه، والأغلب استعمال البِشَارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيَّدة به كما قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة: ٣٤] ومتى أطلق لفظ البِشَارة، فإِنما يحمل على الخير، وفي قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ردٌّ على من يقول: إِن لفظة الإِيمان بمجرَّدها تقتضي الطاعاتِ لأنه لو كان كذلك، ما أعادها، وجَنَّاتٍ جمع جَنَّة، وهي بستان الشجرِ والنخلِ، وبستانُ الكَرْم، يقال له الفِرْدَوسُ، وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أَنَّ ثِيَابَ الجَنَّةِ تَشَقَّقُ عَنْهَا ثَمَرُ الجَنَّةِ» «١»، وروى التِّرْمِذِيُّ عن أبي هريرةَ عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «مَا فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلاَّ وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن «٢». انتهى من «التَّذْكِرَةِ» «٣».
ت: وفي الباب عن ابن عبَّاس، وجرِيرِ بن عبد اللَّهِ، وغيرهما: وسمِّيتِ الجنةُ جنَّةً لأنها تجنُّ من دخلها «٤» أي: تستره، ومنه المِجَنُّ، وَالْجَنَنُ، وجنّة اللّيل.
ومِنْ تَحْتِهَا معناه من تحت الأشجار التي يتضمَّنها ذِكْر الجنة.
ت: ومن أعظم البِشَارات أنَّ هذه الأمة هم ثلثا أهْلِ الجنَّة، وقد خرَّج أبو بكر بن أبي شيبة «٥» عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ ثُلُثَا أهل الجنّة، إنّ أهل
(١) تقدم تخريجه.
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٧١- ٦٧٢)، كتاب «صفة الجنة»
، باب ما جاء في صفة شجرة الجنة، حديث (٢٥٢٥)، وأبو يعلى (١١/ ٥٧)، رقم (٦١٩٥)، وابن حبان (٢٦٢٤- موارد)، وأبو نعيم في «صفة الجنة» (٣/ ٢٤٠)، رقم (٤٠٠)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٥/ ١٠٨)، كلهم من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: حسن غريب. وصححه ابن حبان.
(٣) «التذكرة»، تحقيق الدكتور السيد الجميلي، ص (٦٠٧)، وفيها قول الترمذي: حديث حسن غريب.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٠٨).
(٥) عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبس (بموحدة)، مولاهم، أبو بكر بن أبي شيبة، الكوفي الحافظ. أحد الأعلام، وصاحب «المصنف». عن شريك، وهشيم، وابن المبارك، وجرير بن-
198
الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، وَإِنَّ أُمَّتِي مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُونَ صَفًّا» «١»، وخرَّج ابن ماجه والترمذيُّ عن بُرَيْدة بن حُصَيْب «٢» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أَهْلُ الجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ»، قال أبو عيسى:
هذا حديث حسن «٣».
- عبد الحميد، وابن عيينة، وخلق. وعنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وأبو زرعة، وعثمان بن خرّزاذ، وأحمد بن علي المروزي، وخلق. قال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ منه. وقال الخطيب: كان متقنا حافظا، صنف التفسير وغيره. وقال نفطويه: اجتمع في مجلسه نحو ثلاثين ألفا.
قال البخاري: مات سنة خمس وثلاثين ومائتين.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٩٤)، و «تهذيب التهذيب» (٦/ ٢)، و «الجرح والتعديل» (٥/ ٧٣٧). [.....]
(١) أخرجه ابن أبي شيبة (١١/ ٤٧٠).
(٢) هو: بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح بن عدي بن سهم بن مازن بن الحارث بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر... أبو عبد الله.
وقيل: أبو سهل. وقيل: أبو ساسان. وقيل أبو الحصيب. الأسلمي. قال ابن الأثير في «الأسد» : أسلم حين مر به النبي صلّى الله عليه وسلم مهاجرا هو ومن معه، وكانوا نحو ثمانين بيتا، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، فصلوا خلفه، وأقام بأرض قومه ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد «أحد»، فشهد معه مشاهده، وشهد الحديبية وبيعة الرضوان تحت الشجرة.
وكان من ساكني «المدينة» ثم تحول إلى «البصرة»، وابتنى بها دارا، ثم خرج منها غازيا إلى «خراسان» فأقام ب «مرو» حتى مات ودفن بها، وبقي ولده بها.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٢٠٩)، «الإصابة» (١/ ١٥١)، «الثقات» (٣/ ٢٩)، «الجرح والتعديل» (٢/ ٤٢٤)، «سير أعلام النبلاء» (٢/ ٤٦٩)، «الجمع بين رجال الصحيحين» (١/ ٦١)، «مشاهير علماء الأمصار» (٦٠)، «تقريب التهذيب» (١/ ٩٦).
(٣) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٨٣)، كتاب «صفة الجنة»، باب ما جاء في صف أهل الجنة، حديث (٢٥٤٦)، وأحمد (٥/ ٣٤٧)، كلاهما من طريق ضرار بن مرة، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي هذا الحديث عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا، ومنهم من قال: عن سليمان بن بريدة، عن أبيه. اهـ.
قلت: أما الطريق المرسل والذي أشار إليه الترمذي، فأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٥٤٨)، رقم (١٥٧٢) من طريق سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا.
وأخرجه ابن ماجه (٢/ ١٤٣٣- ١٤٣٤)، كتاب «الزهد»، باب صفة أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، حديث (٤٢٨٩)، والدارمي (٢/ ٣٣٧)، كتاب «الرقاق»، باب في صفوف أهل الجنة، والحاكم (١/ ٨٢) من طرق عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه مرفوعا. وعند الدارمي: عن علقمة، عن سليمان قال: أراه عن أبيه. وللحديث شاهد من حديث أبي موسى.
ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٧٣)، وقال: رواه الطبراني، وفيه القاسم بن غصن، وهو ضعيف. -
199
انتهى من «التذْكرة» «١» للقرطبيِّ.
والْأَنْهارُ: المياه في مجاريها المتطاولة الواسعَةِ مأخوذةٌ من أنْهَرْتُ، أي:
وسّعت ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسم اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ» «٢». ومعناه: ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهْرِ، ونسب الجري إِلى النهر، وإِنما يجري الماء تجوّزا كما قال سبحانه: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد إِنما تجري على سطْح أرض الجنة منضبطةً.
وقولهم: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ: إِشارة إِلى الجنس، أي: هذا من الجنس الذي ١٣ أرزقنا منه من قبل، والكلام يحتمل/ أن يكون تعجباً منهم، وهو قولُ ابنِ عَبَّاس «٣»، ويحتمل أن يكون خَبَراً من بعضهم لبعْضٍ قاله جماعة من المفسِّرين، وقال الحسنُ، ومجاهدٌ: يرزقُونَ الثمرةَ، ثم يرزقُونَ بعْدَها مثْلَ صورتها، والطَّعْم مختلفٌ، فهم يتعجَّبون لذلك، ويخبر بعضهم بعضاً «٤»، وقال ابن عبَّاس: ليس في الجنة شيْءٌ ممّا في الدنيا سوى
- وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ٢١٥) : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه القاسم بن غصن، عن موسى الجهني، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منهم ثمانون صفا» قالا: هذا خطأ إنما هو موسى الجهني، عن الشعبي، عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسل. قالا: والخطأ من القاسم. قلت: ما حال القاسم؟؟! قالا: ليس بقوي.
(١) ينظر: «التذكرة» (٢/ ٥٠٦).
(٢) أخرجه أحمد (٣/ ٤٦٣- ٤٦٤)، والبخاري (٩/ ٦٧٢)، كتاب «الذبائح والصيد»، باب إذا أصاب القوم غنيمة... ، حديث (٥٥٤٣)، ومسلم (٣/ ١٥٥٨)، كتاب «الأضاحي»، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، حديث (٢٠/ ١٩٦٨)، وأبو داود (٣/ ٢٤٧)، كتاب «الأضاحي»، باب في الذبيحة بالمروة، حديث (٢٨٢١)، والترمذي (٤/ ٨١)، كتاب «الأحكام والفوائد»، باب ما جاء في الزكاة بالقصب وغيره، حديث (١٤٩١)، والنسائي (٧/ ٢٢٦)، كتاب «الضحايا»، باب في الذبح بالسن، وابن ماجة (٢/ ١٠٦١)، كتاب «الذبائح»، باب ما يذكى به، حديث (٣١٧٨). والدارمي (٢/ ٨٤)، كتاب «الأضاحي»، باب: في البهيمة إذا ندت، وعبد الرزاق (٤/ ٤٦٥- ٤٦٦)، رقم (٨٤٨١)، والطيالسي (٩٦٣)، وابن الجارود (٨٩٥)، والحميدي (١/ ١٩٩)، رقم (٤١٠)، وابن حبان (٥٨٥٦- الإحسان)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤/ ١٨٣)، والطبراني في «الكبير» (٤/ ٣٢١)، رقم (٤٣٨٠، ٤٣٨١، ٤٣٨٢، ٤٣٨٣، ٤٣٨٤)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ١٨- بتحقيقنا)، من طريق عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: قلت يا رسول الله، إنا نلقى العدو غدا، وليس معنا مدى، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا ما لم يكن سنّا، أو ظفرا، وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة».
(٣) ذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١٠٩)، والماوردي (١/ ٨٦)، وابن كثير (١/ ٦٢).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٢٠٩) برقم (٥٢٨)، وعبد الرزاق في تفسيره (١/ ٤١)، وذكره البغوي في «التفسير» -
200
الأسماءِ، وأما الذوات فمتباينة «١»، وقال بعض المتأوِّلين: المعنى أنهم يرون الثمر، فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون: هذا الذي رزقْنَا مِنْ قبل في الدنيا، وقال قومٌ: إن ثمر الجنة إِذا قطف منه شيء، خرج في الحين في موضعه مثله، فهذا إِشارة إِلى الخارج في موضع المجني.
وقوله تعالى: مُتَشابِهاً قال ابن عباس وغيره: معناه يشبه بعضه بعضاً في المنظر، ويختلف في الطعم «٢»، وأَزْواجٌ: جمع زوج، ويقال في المرأة: زوجة، والأول أشهر، ومُطَهَّرَةٌ: أبلغ من طَاهِرَة، أي: مُطَهَّرة من الحَيْض، والبُزَاق، وسائر أقذار الآدميَّات، والخلودُ: الدوامُ، وخرَّج ابن ماجة عن أسامة بن زيد «٣» قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ لأَِصْحَابِهِ: «أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الجَنَّةَ لاَ خَطَرَ «٤» لَهَا هِيَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، نور
- (١/ ٥٦)، وابن عطية الأندلسي (١/ ١٠٩)، والماوردي (١/ ٨٦)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٨٣)، وعزاه لوكيع، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وذكره ابن كثير (١/ ٦٣).
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢١٠) برقم (٥٣٥)، وذكره السمرقندي (١/ ١٠٤)، والبغوي في التفسير (١/ ٥٦)، وابن عطية الأندلسي (١/ ١٠٩)، والماوردي (١/ ٨٦)، والقرطبي (١/ ٢٠٦)، وابن كثير (١/ ٦٣)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٨٢)، وعزاه لمسدد، وهناد في «الزهد»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث».
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٢٠٩) برقم (٥٢٤)، وذكره البغوي في التفسير (١/ ٥٦)، وابن عطية (١/ ١٠٩)، والماوردي (١/ ٨٦)، وابن كثير (١/ ٦٣).
(٣) أسامة بن زيد بن شراحيل بن عبد العزى بن زيد بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر، أبو يزيد، وأبو خارجة، وأبو محمد، وأبو زيد الحب بن الحب الكلبي.
أمه: أم أيمن حاضنة النبي صلّى الله عليه وسلم. ولد في الإسلام، ومناقبه كثيرة، وأحاديثه شهيرة، وكان سكن «المزة» من عمل «دمشق»، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى «المدينة» فمات بها ب «الجرف».
روى ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن أسامة بن زيد لأحب إليّ (أو من أحب الناس إليّ)، وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا».
قيل: توفي في آخر خلافة معاوية، وقيل: مات سنة (٥٤).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٧٩)، «الإصابة» (١/ ٢٩)، «الاستيعاب» (١/ ٧٥)، «الاستبصار» (٣٤)، «الكاشف» (١/ ١٠٤)، «صفة الصفوة» (١/ ٥٢١)، «بقي بن مخلد» (٣٣)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ١٣)، «التاريخ الكبير» (٢/ ٢٠)، «التاريخ لابن معين» (٣/ ٢٢).
(٤) قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا خطر لها» أي لا عوض لها ولا مثل. والخطر بالتحريك- في الأصل: الرّهن وما يخاطر عليه. ومثل الشيء، وعدله، ولا يقال إلا في الشيء الذي له قدر ومزيّة.
ينظر: «النهاية» (٢/ ٤٦).
201
يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامِ أَبَدٍ فِي حَبْرةٍ «١» وَنَضْرَةٍ، فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ»، قَالُوا:
نَحْنُ المُشَمِّرُونَ لَهَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ» «٢» انتهى من «التذْكرَةِ» «٣».
وقوله: لا خَطَرَ لها بفتح الطاء: قيل: معناه: لا عِوَضَ لها.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها: لما كان الجليلُ القدْرِ في الشاهد لا يمنعه من الخَوْضِ في نازل القوْلِ إِلا الحَيَاء من ذلكَ، رَدَّ اللَّه بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا على القائلين كيف يضرب الله مثلا
(١) الحبرة: النّعمة وسعة العيش، وكذلك الحبور. ينظر: «النهاية» (١/ ٣٢٧). [.....]
(٢) أخرجه ابن ماجه (٢/ ١٤٤٨- ١٤٤٩)، كتاب «الزهد»، باب صفة الجنة، حديث (٤٣٣٢)، وابن حبان (٢٦٢٠- موارد)، والطبراني في «الكبير» (١/ ١٦٢- ١٦٣)، رقم (٣٨٨)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (١/ ٣٠٤)، وأبو نعيم في «صفة الجنة»، رقم (٢٤)، والبيهقي في «البعث والنشور» (ص ٢٣٣)، رقم (٣٩١)، كلهم من طريق الضحاك المعافري، عن سليمان بن موسى، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد مرفوعا.
وقال البوصيري في «الزوائد» : في إسناده مقال، والضحاك المعافري ذكره ابن حبان في «الثقات» اهـ.
قال الحافظ في «التقريب» (١/ ٣٧٤) : الضحاك المعافري مقبول. اهـ.
يعني عند المتابعة، وإلا فهو لين كما ذكره هو في مقدمة «التقريب».
والحديث ذكره الهندي في «كنز العمال» (١٤/ ٤٦١)، وعزاه إلى ابن ماجة، وأبي يعلى، والنسائي، وابن حبان، وأبي بكر بن أبي داود في «البعث»، والروياني، والرامهرمزي، والطبراني، والبيهقي في «البعث»، وسعيد بن منصور، عن أسامة بن زيد.
تنبيه: عزاه الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (١/ ٥٩) إلى ابن ماجة فقط، ولم يعزه للنسائي في «الصغرى»، ولا في «الكبرى»، وأظن أن عزوه للنسائي خطأ من المتقي الهندي.
(٣) ينظر: «التذكرة» (٥٩٦).
202
بالذُّبَابِ ونحوه.
واختلف في قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، هل هو من قول الكافرين أو خبرٌ من اللَّه تعالى؟ ولا خلاف أن قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ من قول اللَّه تعالى، والفسْقُ: الخروجُ عن الشيء، يقال: فَسَقَتِ الفَأْرَةُ، إِذا خرجَتْ من جحرها، والرُّطَبَةُ، إِذا خرجَتْ من قِشْرها، والفِسْقُ في عرف استعمال الشرْعِ: الخروجُ من طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ بكُفْر أو عصيان.
قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ: النَّقْضُ: ردُّ ما أبرم على أوله غير مبرمٍ، والعهدُ: في هذه الآية: التقدُّم في الشيء، والوَصَاةُ به، وظاهرٌ مما قبل وبعد أنه في جميع الكُفَّار.
ع «١» : وكل عهد جائزٌ بيْنَ المسلمين، فنقضه لا يحلُّ بهذه الآية، والخاسر الذي نَقَصَ نفسه حظَّها من الفلاحِ والفوزِ، والخسرانُ النقْصُ، كان في ميزانٍ أو غيره.
قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ: هو تقريرٌ وتوبيخٌ، أي: كيف تَكْفُرون، ونعمه عليكم وقدرته هذه، والواو في قوله: وَكُنْتُمْ واو الحال.
واختلف في قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً... الآية.
فقال ابن عبَّاس، وابن مسعود، ومجاهد: المعنى: كنتم أمواتاً معدومِينَ قبل أن تخلقوا دارسين كما يقال للشيء الدَّارِسِ: ميِّت، ثم خلقكم وأخرجكم إِلى الدنيا، فأحياكم، ثم يميتكم/ الموتَ المعهُودَ، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة «٢»، وهذا التأويل هو ١٣ ب أولى ما قيل لأنه هو الذي لا محيد للكفار عن الإِقرار به، والضميرُ في «إِلَيْهِ» عائد على اللَّه تعالى، أي: إلى ثوابه أو عقابه، وخَلَقَ: معناه: اخترع، وأوجد بعد العدم، ولَكُمْ: معناه: لِلاِعتبار ويَدُلُّ عليه ما قبله وما بعده من نَصْب العِبَرِ: الإِحياء والإِماتة والاستواء إلى السماء وتسويتِها.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: «ثُمَّ» هنا: لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١١٣).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٢٢٢- ٢٢٣) برقم (٥٧٦- ٥٨٠) بنحوه، عن ابن عباس، ومجاهد. وذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١١٤)، والماوردي (١/ ٩٠)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٨٩)، والقرطبي (١/ ٢١٣).
203
في نفسه، واسْتَوى: قال قومٌ: معناه: علا دون كَيْفٍ، ولا تحديدٍ، هذا اختيار الطبريِّ، والتقديرُ: علا أمره وقدرته وسلطانه، وقال ابن كَيْسَان: معناه: قصد إلى السماء.
ع «١» : أي: بخلقه، واختراعه، والقاعدةُ في هذه الآية ونحوها منع النّقْلَة وحلولِ الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان.
وفَسَوَّاهُنَّ: قيل: جعلهن سواءً، وقيل: سوى سطوحَهُنَّ بالإملاس، وقال الثعلبيُّ «٢» : فَسَوَّاهُنَّ، أي: خلقهن. انتهى. وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خُلِقَ قبل السماء، وذلك صحيحٌ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة «المُؤْمِنِ»، وفي «النازعات».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً: «إِذْ» ليست بزائدةٍ عند الجمهور، وإِنما هي معلَّقة بفعل مقدَّر، تقديره: واذكر إِذ قال، وإِضافةُ «رَبٍّ» إِلى محمد صلّى الله عليه وسلم، ومخاطبتُهُ بالكاف- تشريفٌ منه سبحانه لنبيِّه، وإِظهار لاِختصاصه به، و «الملائكةُ» : واحدها ملَكٌ، والهاء في «ملائكة» لتأنيث الجُموعِ غير حقيقيٍّ، وقيل: هي للمبالغة كعلّامة ونسّابة، والأول أبين.
وجاعِلٌ في هذه الآية بمعنى خَالِقٍ، وقال الحسن وقتادة: جاعلٌ بمعنى فاعل «٣»، وقال ابن سابط «٤» عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ الأَرْضَ هُنَا هِيَ مَكَّةُ لأَنَّ الأَرْضَ دحيت
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١١٥).
(٢) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم، أبو إسحاق النيسابوري الثعلبي. كان إماما كبيرا، حافظا للغة بارعا في العربية، روى عن أبي طاهر بن خزيمة، وأبي محمد المخلدي. أخذ عنه الواحدي. له: «العرائس في قصص الأنبياء» وكتاب «ربيع المذكرين». توفي (٤٢٧ هـ.).
ينظر ترجمته في: «بغية الوعاة» (١/ ٣٥٦)، و «النجوم الزاهرة» (٤/ ٢٨٣)، و «طبقات المفسرين» للداوودي (١/ ٦٦).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٢٣٥) برقم (٥٩٧)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٩٣)، عن الحسن، وعزاه لابن جرير.
(٤) عبد الرحمن بن سابط القرشي، الجمحي، المكي، عن عمر، ومعاذ مرسلا، وعن عائشة بواسطة، في-
204
مِنْ تَحْتِهَا وَلأنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ قَبْرَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ بين المقام والرّكن» «١».
وخَلِيفَةً: معناه: من يخلف.
قال ابن عبَّاس: كانت الجن قبل بني آدم في الأرض، فأفسدوا، وسَفَكُوا الدماء، فبعث اللَّه إِليهم قبيلاً من الملائكة قتلهم، وألْحَقَ فَلَّهُمْ «٢»، بجزائرِ البحار، ورؤوسِ الجبالِ، وجعل آدم وذريته خليفةً «٣»، وقال ابن مسعود: إنما معناه: خليفةٌ مني في الحُكْمِ «٤».
وقوله تعالى: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها... الآيةَ: قد علمنا قطعًا أن الملائكة لا تعلم الغيْبَ، ولا تسبق القول، وذلك عَامٌّ في جميع الملائكة، لأن قوله تعالى: لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الأنبياء: ٢٧] خرج على جهة المدح لهم، قال القاضي ابن الطَّيِّب «٥» : فهذه قرينة العموم، فلا يصح مع هذين الشرطَيْن إِلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة نبأٌ ومقدِّمة.
قال ابن زيد وغيره: إن اللَّه تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكونُ من ذريته قومٌ يفسدونَ، ويسفكون الدماء «٦» فقالوا لذلك هذه المقالةَ: إِما على طريق التعجُّب من استخلاف الله
- مسلم فرد حديث، وسعد، وجابر، وعنه علقمة بن مرثد، وابن جريج، والليث، وخلق. وثقه ابن معين وقال: لم يسمع من أبي أمامة، والدارقطني، قال ابن سعد: مات بمكة سنة ثماني عشرة ومائة. ينظر: «الخلاصة» (٢/ ١٣٣)، «تهذيب التهذيب» (٦/ ١٨٠)، «الثقات» (٧/ ٦٩).
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١/ ٤٤٨- شاكر)، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» (١/ ٧٠) من طريق عطاء عن ابن سابط به مرفوعا.
وقال ابن كثير: وهذا مرسل، وفي سنده ضعف.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٩٥)، وزاد نسبته إلى ابن عساكر.
(٢) الفلّ: المنهزمون. ينظر: «لسان العرب» (٣٤٦٦).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٢٣٦) برقم (٦٠١)، وصححه الحاكم (٢/ ٢٦١)، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٩٣).
(٤) ذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١١٦)، والماوردي (١/ ٩٥).
(٥) محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر: قاض من كبار علماء الكلام انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة، ولد في «البصرة» سنة (٣٣٨) هـ. ، وسكن «بغداد» فتوفي فيها سنة (٤٠٣. هـ.)، كان جيد الاستنباط، سريع الجواب. من تصانيفه: «إعجاز القرآن»، و «الإنصاف»، و «مناقب الأئمة»، و «دقائق الكلام»، و «الملل والنحل»، و «هداية المرشدين»، وغير ذلك.
ينظر: «الأعلام» (٦/ ١٧٦)، «وفيات الأعيان» (١/ ٤٨١)، «قضاة الأندلس» (٣٧- ٤٠)، «تاريخ بغداد» (٥/ ٣٧٩). [.....]
(٦) أخرجه الطبري (١/ ٢٤٤) برقم (٦١٤- ٦١٥- ٦١٦)، عن ابن زيد، وابن إسحاق، وابن جريج، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٩٤)، عن ابن زيد، وعزاه لابن جرير.
205
من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفُهُ اللَّهُ في أرضه وينعم علَيْه بذلك، وإِما على طريق الاِستعظامِ والإِكبار للفصلَيْن جميعاً الاستخلاف، والعصيان.
١٤ أوقال أحمد بن يَحْيَى/ ثَعْلَبٌ «١» وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأَتْ، وعلمت ما كان من إفساد الجِنِّ، وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها... «٢»
الآية على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة يا ربَّنَا على طريقة من تقدَّم من الجِنِّ أم لا؟
وقال آخرون: كان اللَّه تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرضِ خلْقاً يفسدون، ويسفكون الدماء، فلما قال لهم سبحانه بعد ذلك: إِنِّي جاعِلٌ قالوا: رَبَّنَا، أَتَجْعَلُ فِيها... الآيةَ على جهة الاسترشاد والاستعلام، هل هذا الخليفةُ هو الذي كان أعلمهم به سبحانه قبل، أو غيره؟ ونحو هذا في «مختصر الطبريِّ»، قال: وقولهم:
أَتَجْعَلُ فِيها ليس بإنكار لفعله عز وجلّ وحكمه، بل استخبارٌ، هل يكون الأمر هكذا، وقد وجَّهه بعضهم بأنهم استعظموا الإِفسادَ وسفْكَ الدماء فكأنهم سألوا عن وجه الحكمة في ذلك إذ علموا أنه عز وجل لا يفعل إِلا حكمة. انتهى.
ت: والعقيدة أن الملائكة معصومون، فلا يقع منهم ما يوجب نقصانًا من رتبتهم، وشريف منزلتهم- صلوات اللَّه وسلامُهُ على جميعهم- والسفك صبُّ الدَّمِ، هذا عُرْفُه، وقولهم: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ.
قال بعض المتأوّلين: هو على جهة الاستفهام كأنهم أرادوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ... الآيةَ، أم نتغير عن هذه الحال؟
قال ع «٣» : وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحْضِ في قولهم: أَتَجْعَلُ.
وقال آخرون: معناه: التمدُّح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم كما قال يوسُفُ:
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: ٥٥]، وهذا يحسن مع التعجُّب والاستعظام لأن يستخلف الله
(١) هو: أبو العباس أحمد بن يحيى بن يسار، وقيل: سيار الشيباني، المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة. صنف: «المصون في النحو»، و «معاني القرآن»، و «ما تلحن فيه العامة»، و «الفصيح» وغيرها. توفي (٢٩١ هـ).
ينظر ترجمته في: «وفيات الأعيان» (١/ ٣٠)، و «بغية الوعاة» (١/ ٢٩٦)، و «غاية النهاية» (١/ ١٤٨).
(٢) ينظر: ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١١٧).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١١٨).
206
من يعصيه في قولهم: أَتَجْعَلُ، وعلى هذا أدَّبهم بقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، ومعنى: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ: ننزِّهك عما لا يليق بصفاتك، وقال ابن عبَّاس وابن مسعود: تسبيحُ الملائكةِ صلاتهم للَّه سبحانه «١»، وقال قتادةُ: تسبيحهم قولهم: «سبحانَ اللَّهِ» على عرفه «٢» في اللغة، وبِحَمْدِكَ: معناه نَصِلُ التسبيح بالحمدِ، ويحتمل أن يكون قولهم: بِحَمْدِكَ اعتراضا بين الكلامين كأنهم قالوا: ونحن نسبِّح ونقدِّس، وأنت المحمود في الهداية إِلى ذلك، وخرَّج مسلم في صحيحه عن أبي ذَرٍّ «٣» قال: قال لِي رسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى؟ إِنَّ أَحَبَّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى:
«سبحان الله وَبِحَمْدِهِ»
، وفي رواية: «سُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلَّم، أَيُّ الكَلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:
مَا اصطفى اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ»
«٤» وفي صحيحَي البخاريِّ ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله العظيم» «٥» وهذا الحديث
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٤٨) برقم (٦١٩)، وذكره البغوي (١/ ٦٠)، وابن عطية الأندلسي (١/ ١١٨)، والقرطبي (١/ ٢٣٦)، وابن كثير (١/ ٧١).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٢٤٨) برقم (٦٢٠)، وعبد الرزاق في التفسير (١/ ٤٢)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٩٥).
(٣) قيل هو: جندب بن جنادة بن سكن. وقيل: عبد الله، وقيل: اسمه: برير وقيل بالتصغير، والاختلاف في أبيه كذلك، وشهرته: أبو ذر الغفاري. قلت: كان من كبار الصحابة وفضلائهم ومشاهيرهم وزهادهم، قديم الإسلام، قويّا في الحق، صادق اللهجة. ولا يتسع المقام للحديث عنه، وقد ألفت في سيرته المؤلفات الكثيرة. توفي ب «الربذة» سنة (٣١ أو ٣٢).
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٣٥٧)، «الإصابة» (٧/ ٦٠)، «بقي بن مخلد» (١٥)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ١٦٤)، «حلية الأولياء» (١/ ١٢٧)، «تهذيب الكمال» (١٦٠٣)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٤٢٠)، «تهذيب التهذيب» (١٢/ ٩٠)، «الزهد» لوكيع (٣٣)، «شذرات الذهب» (١/ ٣١).
(٤) أخرجه مسلم (٤/ ٢٠٩٣- ٢٠٩٤)، كتاب «الذكر والدعاء»، باب فضل سبحان الله وبحمده، حديث (٨٤، ٨٥/ ٢٧٣١)، من طريق عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر به.
(٥) أخرجه البخاري (١١/ ٢١٠)، كتاب «الدعوات»، باب فضل التسبيح، حديث (٦٤٠٦)، و (١١/ ٥٧٥)، كتاب «الأيمان والنذور»، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى، حديث (٦٦٨٢)، و (١٣/ ٥٤٧)، كتاب «التوحيد»، باب قول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، حديث (٧٥٦٣)، ومسلم (٤/ ٢٠٧٢)، كتاب «الذكر والدعاء»، باب فضل التهليل، والتسبيح، والدعاء، حديث (٣١/ ٢٦٩٤)، والترمذي (٥/ ٥١٢)، كتاب «الدعوات»، باب (٦٠)، حديث (٣٤٦٧)، وابن ماجة (٢/ ١٢٥١)، كتاب «الأدب»، باب فضل التسبيح، حديث (٣٨٠٦)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٢٠٧- ٢٠٨)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يثقل الميزان، حديث (١٠٦٦٦)، وأحمد (٢/ ٢٣٢)، وأبو يعلى (١٠/ ٤٨٣)، رقم (٦٠٩٦)، وابن حبان (٣/ ١١٢- ١١٣)، رقم (٨٣١)، (٣/-
207
به ختم البخاريُّ رحمه اللَّه. انتهى.
وَنُقَدِّسُ لَكَ: قال الضَّحَّاك وغيره: معناه: نُطَهِّرُ أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك، والتقديسُ: التطهير بلا خلافٍ «١»، ومنه الأرض المقدَّسة، أي: المطهَّرة، وقال آخرون:
وَنُقَدِّسُ لَكَ: معناه: نقدِّسك، أي: نعظِّمك ونطهِّر ذكرك ممَّا لا يليقُ به، قاله مجاهد وغيره «٢».
وقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.
قال ابن عبَّاس: كان إِبليس- لعنه اللَّه- قد أُعْجِبَ بنفسه، ودخله الكِبْرُ لما جعله الله ١٤ ب خَازِنَ السماء الدنيا/، واعتقد أن ذلك لمزيَّة له، فلما قالت الملائكة: ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك، وهي لا تعلم أنَّ في نفْسِ إِبليسَ خلافَ ذلك، قال اللَّه سبحانه: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني ما في نفس إِبْلِيسَ «٣».
وقال قتادة: لما قالتِ الملائكةُ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، وقد علم اللَّه أنَّ في مَنْ يستخلفُ في الأرض أنبياءَ وفضلاءَ وأهلَ طاعةٍ، قال لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، يعني: أفعالَ الفضلاء «٤».
- ١٢١- ١٢٢)، رقم (٨٤١)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص ٤٩٩)، وفي «شعب الإيمان» (١/ ٤٢٠)، رقم (٥٩١)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٨١- بتحقيقنا)، وابن الجوزي في «مشيخته» (ص ٨٧)، كلهم من طريق محمد بن فضيل، ثنا عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٤٩) برقم (٦٢٥)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٩٥)، عن ابن عباس، وذكره ابن كثير (١/ ٧١).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٢٤٩) برقم (٦٢٣)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٩٥)، وابن كثير (١/ ٧١).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٢٤٩) برقم (٦٢٦)، وقال أحمد شاكر: بشر بن عمارة ضعيف، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (١/ ٢/ ٨١) : تعرف وتنكر.
وقال النسائي في «الضعفاء» ص ٦: ضعيف. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن حبان في كتاب:
«المجروحين» (ص ١٢٥) رقم، (١٣٢) : كان يخطىء حتى خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد، ولم يكن يعلم الحديث ولا صناعته، وأما شيخه أبو روق فهو عطية بن الحارث الهمداني، وهو ثقة، وقال أحمد والنسائي: «لا بأس به»، وقد أشار ابن كثير إليه بالانقطاع لأجل اختلافهم في سماع الضحاك بن مزاحم الهلالي من ابن عباس وقد رجح أحمد شاكر في «شرح المسند» (٢٢٦٢) سماعه منه، ثم قال:
وكفى ببشر بن عمارة ضعفا في الإسناد إلى نكارة السياق الذي رواه وغرابته. اهـ.
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٢٥٠) برقم (٦٣٩)، وقال أحمد شاكر: ذكره ابن كثير (١/ ١٣٠)، و «الدر المنثور» (١/ ٤٦)، و «الشوكاني» (١/ ٥٠). [.....]
208
وقوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها: معناه: عرَّف، وتعليم آدم هنا عند قومٍ إِلهامُ علمه ضرورةً، وقال قوم: بل تعليمٌ بقولٍ إما بواسطة مَلَكٍ، أو بتكليمٍ قبل هبوطه الأرضَ، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خَاصَّته.
ت: قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة: تعليمه سبحانه لآِدم الأسماء كلَّها، إِنما كان بالعلْم اللدنيِّ بلا واسطة. انتهى من كتابه الذي شرح فيه بعض أحاديث البخاريِّ، وكل ما أنقله عنه، فمنه، واختلف المتأوِّلون في قوله: الْأَسْماءَ:
فقال جمهور الأُمَّة: علَّمه التسميات، وقال قومٌ: عرض عليه الأشخاص، والأول أبين ولفظة عَلَّمَ تعطي ذلك.
ثم اختلف الجمهورُ في أيِّ الأسماء علَّمه، فقال ابن عبَّاسٍ، وقتادة، ومجاهدٌ: علَّمه اسم كلِّ شيء من جميع المخلوقات دقيقها، وجليلها «١»، وقال الطبريُّ «٢» : علَّمه أسماء ذريته، والملائكة ورجَّحه بقوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ وقال أكثر العلماء: عَلَّمه تعالى منافعَ كلِّ شيء، ولما يصلَح.
وقيل غير هذا.
واختلف المتأوِّلون، هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟.
وأَنْبِئُونِي: معناه: أخبروني، والنبأ: الخبر، وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليفُ ما لا يطاقُ «٣»، ويتقرَّر جوازه لأنه سبحانه عَلِمَ أنهم لا يعلمون.
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٥٢) برقم (٦٤٦- ٦٤٧- ٦٤٨- ٦٤٩- ٦٥٦)، وعبد الرزاق في تفسيره (١/ ٤٢- ٤٣)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٠٠- ١٠١).
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (١/ ٤٨٥).
(٣) حاصل ما في شرح «المواقف»، أشار إليه «الخالي» هو أن ما لا يطاق على ثلاث مراتب:
الأولى: ما يمكن في نفسه لكن يمتنع من العبد لعلم الله (تعالى) بعدم وقوعه، كإيمان أبي لهب، وهي المرتبة الأولى من مراتب ما لا يطاق فإن هذا مقدور للمكلف بالنظر إلى ذاته، وممتنع له بالنظر إلى علم الله (تعالى) بعدم وقوعه، ومعنى كونه مقدورا أنه يجوز تعلق القدرة الحادثة أي قدرة المكلف به لا أنه متعلق القدرة بالفعل لأن القدرة الحادثة لا تتعلق بمثل هذا الفعل لأن القدرة الحادثة عندنا مع الفعل لا قبله، فلا يتصور تعلقه بما لم يقع. ثم إن التكليف بهذا المحال جائز وواقع اتفاقا، ولا خلاف فيه للمعتزلة.
الثانية: ما يمكن في نفسه لكن يمتنع من العبد عادة، كخلق الأجسام، وحمل الجبل، والطيران إلى-
209
وقال المحقِّقون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليفِ، إِنما هو على جهة التقرير والتوقيف.
وقوله تعالى: هؤُلاءِ ظاهره حضورُ أشخاصٍ، وذلك عند العرض على الملائكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ أن الاسم هو المسمى كما ذهب إِليه مَكِّيٌّ والمَهْدَوِيُّ.
والذي يظهر أن اللَّه تعالى علَّم آدم الأسماء، وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً، ثم عرض تلك على الملائكة، وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلَّمها آدم، ثم إِن آدم قال لهم: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا.
وَهَؤُلاءِ: مبنيٌّ على الكسر، وكُنْتُمْ في موضع الجزمِ بالشرْطِ، والجواب عند سيبويه: فيما قبله، وعند المبرِّد: محذوفٌ تقديره: إِن كنتمْ صادِقِينَ، فَأَنْبِئوني، وقال ابن عبَّاس وابن مسعود وناس من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم: معنى الآية: إِنْ كنتم صادِقِينَ في أنَّ الخليفةَ يُفْسِدُ ويسفك «١».
ت: وفي النفس من هذا القول شيءٌ، والملائكة منزَّهون معصومون كما تقدَّم، والصواب ما تقدَّم من التفسير عند قوله تعالى: أَتَجْعَلُ فِيها... الآية.
- السماء. وهذه المرتبة الوسطى من مراتب ما لا يطاق، والتكليف بهذا جائز عندنا وإن لم يقع، كما دل عليه الاستقراء، وقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] وما يتوهم من ظاهر بعض الآيات أنه تكليف بهذا المحال، كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: ٢٣] فهو للتعجيز لا للتكليف، ومنعت المعتزلة جواز التكليف لكونه قبيحا منه تعالى عقلا عندهم كما في الشاهد فإن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمنى المشي إلى أقصى البلاد، عد سفيها، وقبح ذلك في بداهة العقول. والجواب: أنه لا يقبح منه تعالى شيء، ولا يجب عليه، إذ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، والمفهوم من كلام صاحب «التوضيح» أن مذهب الماتريدية هنا كمذهب المعتزلة إلا أن عدم جوازه عند الماتريدية بناء على أنه لا يليق من حكمته وفضله. وعند المعتزلة بناء على أن الأصلح واجب على الله (تعالى).
الثالثة: ما يمكن في نفسه ولكن يمتنع لنفس مفهومه، كجمع الضدين، وقلب الحقائق. وهي المرتبة القصوى من مراتب ما لا يطاق، والتكليف به لا يقع ولا يجوز بالاتفاق، أما أنه لا يقع قط فلأنه لم يوجد بالاستقراء، وأما أنه لا يجوز فلأن جواز التكليف فرع تصوره، ولا يمكن تصوره. وفي شرح «المواقف» أن بعضا منا قالوا بوقوع تصوره، فما ذكره صاحب «المواقف» من أن جواز التكليف بالممتنع لذاته فرع تصوره يشعر بأن هؤلاء يجوزونه.
ينظر: «نشر الطوالع» (٢٩٥- ٢٩٧)، و «البرهان» (١/ ١٠٢)، و «المنخول» (ص ٢٢)، و «المحصول» (١/ ٢/ ٣٥٧)، والمتصفي» (١/ ٧٤).
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٥٥) برقم (٦٧٢)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٠١).
210
وقال آخرون: إِن كنتم صادِقِينَ في أنِّي إِن استخلفتكم، سبَّحتم بحَمْدِي، وقدَّستم لي.
وقال/ قوم: معناه: إن كنتم صادقين في جوابِ السؤال، عالمين بالأسماء. ١٥ أوسُبْحانَكَ: معناه تنزيهاً لك وتبرئةً أنْ يعلم أحدٌ من علمك إِلا ما علمته، والعَلِيمُ: معناه: العَالِمُ، ويزيد عليه معنى من المبالغةِ والتكثيرِ في المعلوماتِ، والحكيمُ:
معناه: الحاكِمُ وبينهما مزية المبالغةِ، وقيل: معناه: المُحْكِمُ، وقال قوم: الحَكِيمُ المانعُ من الفساد، ومنه حَكَمَةُ الفرسِ مانعته.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
وقوله تعالى: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: أَنْبِئْهُمْ: معناه: أخبرهم، والضمير في «أَنْبِئْهُمْ» عائدٌ على الملائكة بإجماعٍ، والضميرُ في «أَسْمَائِهِمْ» مختلَفٌ فيه حَسَبَ الاختلاف في الأسماء التي علَّمها آدم، قال بعض العلماء: إنَّ في قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ نبوءةً لآدم عليه السلام إِذ أمره اللَّه سبحانه أن ينبىء الملائكة بما ليس عندهم من علم اللَّه عز وجَلَّ.
وقوله تعالى: أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: معناه: ما غاب عنكم لأنَّ اللَّه تعالى لا يغيبُ عنه شيء، الكلُّ معلوم له.
واختلف في قوله تعالى: مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
فقال طائفة: ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع، «وإِذْ» من قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ معطوفةٌ على «إذِ» المتقدِّمة، وقولُ «١» اللَّه تعالى
(١) كلام الله تعالى صفة أزلية قديمة قائمة بذاته (تعالى)، منافية للسكوت والآفة- كما في الخرس- ليست من جنس الأصوات والحروف. بل بها آمر ناه. يدل عليها بالعبارات أو الكتابة أو الإشارة. فتلك الصفة واحدة في ذاتها، وإن اختلفت العبارات الدالة عليها، كما إذا ذكر الله بألسنة مختلفة، فالصفة: هي الأمر القائم بالغير، فهو جنس في التعريف أو كالجنس، بناء على الخلاف في المفهومات الاصطلاحية: هل هي حدود أو رسوم.
الأول: مبني على أنها وإن كان أمرا اصطلاحيا طارئا على المعنى اللغوي للكلام إذ الكلام في اللغة القول. يقال: أتى بكلام طيب، أي قول، إلا أنه ليست وراء ما اصطلح عليه المصطلح أمر آخر. فذلك-
211
وخطابه للملائكةِ متقرِّر قديم في الأَزَلِ بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته.
- الذي ذكر في تعريف تلك الصفة هو ذاتياتها بحسب الاصطلاح.
والثاني: مبني على أن لها قبل المعنى الاصطلاحي معنى وضع الواضع اللفظ ليدل عليه، فذلك المعنى ثان بعد أول، فهو عارض والتعريف بالعوارض رسم. وجزم البعض من المحققين بأنها رسوم لأن الاطلاع على ذاتيات تلك الصفات غير ممكن. والحد ما تركب من الذاتيات: الجنس، والفصل. وحيث إن الذاتيات لم يطلع عليها فلا تكون إلا رسوما لأنها بخواص هذه الصفات فقط لأن الخواص مأخوذة في تعريف الصفات حيث أخذ في تعريف صفة الكلام أنها تتعلق دلالة... وفي تعريف صفة القدرة أنها تتعلق تعلق تأثير.
وعلى كل ف «صفة» يشمل الصفة القديمة والحادثة. «قديمة» : فصل أو كالفصل- مخرج لغير الصفة القديمة، وهو الصفة الحادثة. ثم الأقوال في القديم والأزلي ثلاثة:
الأول: القديم هو الذي لا ابتداء لوجوده. والأزلي: ما لا أول له، عدميا كان أو وجوديا. فكل قديم أزلي ولا عكس.
الثاني: القديم هو القائم بنفسه الذي لا أول لوجوده. والأزلي: ما لا أول له عدميا كان أو وجوديا، قائما بنفسه أو غيره.
الثالث: القديم والأزلي: ما لا أول له، عدميا كان أو وجوديا، قائما بنفسه أولا.
فعلى الأول: الصفات السلبية لا توصف بالقدم، وتوصف بالأزلية، بخلاف ذات الله تعالى والصفات الثبوتية فإنها توصف بالقدم والأزلية.
وعلى الثاني: الصفات مطلقا لا توصف بالقدم، وتوصف بالأزلية، بخلاف ذاته تعالى فإنها توصف بكل منهما.
وعلى الثالث: كل من الذات والصفات مطلقا يوصف بالقدم والأزلية. فالقديم في التعريف صحيح على الرأي الأول والثالث، بخلافه على الثاني «قائمة بذاته». وللقيام معنيان:
قيام: بمعنى التبعية في التحيز كما في العرض بالنسبة لجوهره. وليس قيام صفة الله بذاته على هذا النحو إذ لا تحيز للذات حتى تتبعها الصفة فيه. وقيام: بمعنى آخر هو اختصاص الناعت بالمنعوت.
وهو المراد بقيام الصفة بذاته تعالى.
«ليس بحرف ولا صوت» : لأنه معنى نفسي، وتلك أعراض مشروط حدوث بعضها بانقضاء البعض إذ امتناع التكلم بالحرف الثاني بدون انقضاء الحرف الأول بدهي خلافا للحنابلة، والحشوية، والكرامية القائلين بأن كلامه منتظم من كلمات قائمة بذاته تعالى. قديم عند الحنابلة، حادث عند الكرامية. «منافية للسكوت والآفة» : السكوت عدم التكلم مع القدرة عليه.
والآفة: عدم مطاوعة الآلة، إما بحسب الفطرة كما في الخرس، أو من جهة ضعفها كما في الطفولية.
ولقائل أن يقول: هذا إنما يصدق على الكلام اللفظي دون النفسي إذ السكوت والخرس إنما ينافيان التلفظ.
ويجاب بأن المراد ب «السكوت والآفة» : الباطنيان، بأن لا يريد في نفسه الكلام، أو لا يقدر عليه، ويتلخص في أنه كما أن الكلام لفظي ونفسي، كذلك ضده، وهو السكوت والخرس: لفظي وباطني، -
212
ت: ما ذكره- رحمه اللَّه- هو عقيدةُ أهل السنة، وها أنا أنقل من كلام الأئمة، إن شاء اللَّه، ما يتبيَّن به كلامه، ويزيده وضوحاً، قال ابن رُشْدٍ: قوله صلّى الله عليه وسلم: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خلق» «١» لا يفهم منه أن لله عز وجلّ كلمات غير تامّات لأن
- والمراد الثاني منهما حيث أريد بالكلام الكلام النفسي، فالله منزه عن الاتصاف بالخرس والآفة. «هو بها آمر ناه» : فهو صفة واحدة تتكثر بحسب التعلقات. فالكلام باعتبار تعلقه بشيء خبر، وبآخر أمر أو نهي. وبهذا يخرج العلم والقدرة. وهكذا سائر الصفات الوجودية غير الكلام لأنه لا أمر ولا نهي بواحدة منها.
وغير الأشاعرة يقولون: الكلام هو اللفظ المنتظم من الحروف والأصوات، وينفون الصفة النفسية وهم في ذلك قد انقسموا إلى قسمين:
القسم الأول: كلامه ألفاظ قائمة بذاته، وهي قديمة، وهم بعض الحنابلة، أو حادثة، وهم الكرامية.
والقسم الثاني: يقول: كلام الله ألفاظ قائمة بالغير. وهم المعتزلة. فالحنابلة يعرفونه: بأنه المؤلف من الكلمات القديمة القائمة بذاته تعالى. والكرامية يعرفونه: بأنه هو المؤلف من الكلمات الحادثة القائمة بذاته تعالى. وحيث إن المعتزلة لم يعرفوه بالصفة النفسية، فليس عندهم سوى الألفاظ وهي حادثة لأنها مرتبة، ويستحيل قيام الحادث بالقديم. فهم يقولون: إن كلامه ألفاظ قائمة بغيره، فهم يتجوزون بمتكلم عن موجد وخالق للكلام. وعليه فالمعتزلة لا يثبتون كلاما لله لا نفسيا، كما أثبته الأشاعرة.
ولا لفظيا حادثا كما قالت الكرامية، بل يثبتون كلاما لا على أنه متصف به، بل على أنه مخلوق قائم بغيره.
فالكلام عند المعتزلة هو المؤلف من الكلمات المسموعة الحادثة القائمة بغير الذات. فقد خالفوا جميع الفرق.
ينظر: تحقيق «صفة الكلام» لشيخنا حافظ مهدي ص ٥٢- ٥٤.
(١) أخرجه مالك (٢/ ٩٧٨)، كتاب «الاستئذان»، باب ما يؤمر به من الكلام في السفر، حديث (٣٤)، ومسلم (٤/ ٢٠٨٠- ٢٠٨١)، كتاب «الذكر والدعاء»، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، حديث (٥٤/ ٢٧٠٨)، والترمذي (٥/ ٤٩٦)، كتاب «الدعوات»، باب ما يقول إذا نزل منزلا، حديث (٣٤٣٧)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ١٤٤)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول إذا نزل منزلا، حديث (١٠٣٦٤)، وأحمد (٦/ ٣٧٧)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة»، رقم (٥٣٣)، وابن خزيمة (٤/ ١٥٠- ١٥١)، رقم (٢٥٦٧)، وابن حبان (٦/ ٤١٨)، رقم (٢٧٠٠)، والبيهقي (٥/ ٢٥٣)، كتاب «الحج»، باب ما يقول إذا نزل منزلا، كلهم من طريق يعقوب بن عبد الله الأشج، عن بسر بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من نزل منزلا فليقل... » فذكرت الحديث.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقال: وروى مالك بن أنس هذا الحديث أنه بلغه، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، فذكر نحو هذا الحديث.
وروى ابن عجلان هذا الحديث عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، ويقول: عن سعيد بن المسيب، عن خولة. -
213
كلماته هي قوله، وكلامه هو صفةٌ من صفات ذاتِهِ يستحيلُ عليها النقص، وفي الحديث بيان واضح على أن كلماته عز وجل غير مخلوقة إذ لا يستعاذ بمخلوقٍ، وهذا هو قول أهل السنة، والحقّ أن كلام اللَّه عزَّ وجلَّ صفة من صفات ذاته قديمٌ غيرُ مخلوقٍ لأن الكلام هو، المعنى القائِمُ في النفسِ، والنطقُ به عبارةٌ عنه قال اللَّه عزَّ وجلَّ: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [المجادلة: ٨] فأخبر أن القول معنًى يقوم في النفْسِ، وتقول: في نَفْسِي كَلاَمٌ، أريد أن أعلمك به، فحقيقة كلام الرجل هو المفهومُ من كلامه، وأما الذي تسمعه منه، فهو عبارة عنه وكذلك كلام الله عز وجلّ القديمُ الذي هو صفة من صفاتِ ذاته هو المفهوم من قراءة القارئ لا نَفْسُ قراءته التي تسمعها لأنَّ نفس قراءته التي تسمعها مُحْدَثَةٌ، لم تكن حتى قرأ بها، فكانت، وهذا كله بيِّن إلا لمن أعمى اللَّه بصيرته. انتهى بلفظه من «البَيَانِ».
وقال الغَزَّالِيُّ «١» بعد كلامٍ له نحو ما تقدَّم لابن رشد: وكما عقل قيامُ طلبِ التعلُّم وإرادته بذات الوالدِ قبل أن يخلق ولده حتى إذا خلق ولده، وعقل، وخلق اللَّه سبحانه له علْماً بما في قلْب أبيه من الطَّلَب، صار مأموراً بذلك الطلب الذي قام بذاتِ أبيه، ودام وجوده إِلى وقت معرفة ولده، فليعقل قيام الطلب الذي دلَّ عليه قوله عزَّ وجلَّ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ/ [طه: ١٢] بذات اللَّه تعالى، ومصير موسى عليه السلام سامعا لذلك الكلام
- وحديث الليث أصح من رواية ابن عجلان. اهـ. وهذا توضيح وشرح لكلام الترمذي رحمه الله: أما رواية مالك، فهي في «الموطأ» (٢/ ٩٧٨)، عن الثقة عنده، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج به. أما رواية محمد بن عجلان، فأخرجها ابن ماجة (٢/ ١١٧٤)، كتاب «الطب»، باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه، حديث (٣٥٤٧)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ١٤٤)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول إذا نزل منزلا، حديث (١٠٣٩٥)، كلاهما من طريق محمد بن عجلان، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن مالك، عن خولة بنت حكيم به.
وقد ورد هذا الحديث، عن سعيد بن المسيب مرسلا.
أخرجه عبد الرزاق (٩٢٦٠)، والنسائي (٦/ ١٤٤- الكبرى)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول إذا نزل منزلا، كلاهما من طريق ابن عجلان، عن يعقوب بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب مرسلا.
(١) محمد بن محمد بن محمد، حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي، ولد سنة (٤٥٠)، أخذ عن الإمام، ولازمه، حتى صار أنظر أهل زمانه وجلس للإقراء في حياة إمامه وصنف «الإحياء» المشهور، و «البسيط»، وهو كالمختصر للنهاية، وله «الوجيز»، و «المستصفى»، وغيرها. توفي سنة (٥٠٥).
انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ٢٩٣)، «وفيات الأعيان» (٣/ ٣٥٣)، «الأعلام» (٧/ ٢٤٧)، و «اللباب» (٢/ ١٧٠)، و «شذرات الذهب» (٤/ ١٠)، و «النجوم الزاهرة» (٥/ ٢٠٣)، «العبر» (٤/ ١٠).
214
مخاطَباً به بعد وجوده إذ خلقت له معرفة بذلك الطلبِ، ومعرفةُ بذلك الكلامِ القديمِ.
انتهى بلفظه من «الإحياء».
وقوله: لِلْمَلائِكَةِ عمومٌ فيهم، والسجودُ في كلام العرب: الخضوعُ والتذلُّل، وغايته وضعه الوجْه بالأرض، والجمهور على أنَّ سجود الملائكة لآدم إيماءٌ وخضوعٌ، ولا تدفع الآية أنْ يكونوا بلغوا غاية السجود، وقوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: ٢٩] لا دليل فيه لأن الجاثي على ركبتيه واقعٌ، واختُلِفَ في حال السجودِ لآدم.
فقال ابن عَبَّاسٍ: تعبَّدهم اللَّه بالسجود لآدم، والعبادةُ في ذلك للَّهِ «١»، وقالَ عليُّ بْنُ أبي طَالِبِ، وابنُ مَسْعُودٍ، وابن عبَّاس أيضاً: كان سجودَ تحيَّة كسجود أبوَيْ يوسُفَ عليه السلام له، لا سجودَ عبادة «٢»، وقال الشَّعبيُّ: إنما كان آدم كالقِبْلة «٣»، ومعنى لِآدَمَ:
إلى آدَمَ.
ع «٤» : وفي هذه الوجوهِ كلِّها كرامةٌ لآدم عليه السلام.
وقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ نصبٌ على الاستثناءِ المتَّصِلِ لأنه من الملائكة على قوله الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازناً ومَلَكاً على سماء الدنيا والأرض، واسمه عزازيل قال ابن عباس «٥».
وقال ابن زيد والحسن: هو أبو الجِنِّ كما آدمُ أبو البشر، ولم يكُ قطُّ ملَكاً «٦»، وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضا، قال: واسمه الحارث «٧».
(١) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٢٤)، والسيوطي في «الدر» (١/ ١٠٢) بنحوه.
(٢) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٢٤)، والسيوطي في «الدر» (١/ ١٠٢)، بنحوه عن ابن عباس.
(٣) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٢٤). [.....]
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٢٤).
(٥) أخرجه البيهقي في «الشعب» (١/ ١٧٠) برقم (١٤٦- ١٤٧) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٠٢- ١٠٣)، وعزا أحدهما لابن أبي الدنيا في «مكايد الشيطان»، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب: «الأضداد»، والبيهقي في «الشعب»، والثاني عزاه لوكيع، وابن المنذر، والبيهقي.
(٦) أخرجه الطبري (١/ ٢٦٤) رقم (٧٠١)، عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في تفسيره (١/ ١٢٤)، والقرطبي (١/ ٢٥١).
(٧) أخرجه الطبري (١/ ٢٦٥) برقم (٧٠٤)، عن السدي، وذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١٢٤)، والقرطبي (١/ ٢٥١)، والسيوطي في «الدر» (١/ ١٠٣)، عن السدي، بلفظ «كان اسم إبليس الحرث».
215
وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ: كان من الْجِنِّ الذين كانوا في الأرض، وقاتلتهم الملائكةُ فسَبَوْهُ صغيراً، وتعبَّد مع الملائكة، وخُوطِبَ معها، وحكاه الطبريّ عن ابن مسعود «١».
والاستثناء على هذا الأقوال منقطعٌ واحتجَّ بعض أصحاب هذا القول بأن اللَّه تعالى قال في صفة الملائكة: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: ٦] ورجَّح الطبريُّ قَوْلَ من قال: إن إِبليسَ كان من الملائكَةِ، وقال «٢» : ليس في خلقه مِنْ نارٍ، ولا في تركيبِ الشَّهْوَةِ والنسلِ فيه حينَ غُضِبَ عليه ما يدْفَعُ أنه كان من الملائكة، وقوله تعالى:
كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: ٥٠] يتخرَّج على أنه عمل عملهم، فكان منهم في هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جِنًّا لاستتارها قال اللَّه تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: ١٥٨] وقال الأعشى في ذكر سليمانَ عليه السلام: [الطويل]
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ المَلاَئِكِ تِسْعَةً قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلونَ بِلاَ أَجْرِ «٣»
أو على أن يكون نسبه إلى الجَنَّةِ كما ينسب إلى البَصْرَةِ بِصْرِيَّ.
قال عِيَاضٌ: ومما يذكرونه قصَّةُ إبليس، وأنه كان من الملائكة، ورئيساً فيهم، ومن خُزَّان الجَنَّة إلى ما حكَوْه، وهذا لم يتفقْ عليه، بل الأكثر ينفون ذلك، وأنه أبو الجن.
انتهى من «الشِّفا» «٤».
وإِبْلِيسُ: لا ينصرفُ لأنه اسم أعجميٌّ قال الزَّجَّاج: ووزنه فِعْلِيلُ، وقال ابن عبَّاس وغيره: هو مشتقٌّ من أُبْلِسَ، إِذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفعيل «٥»، ولم
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٦٣) برقم (٦٩٨)، وذكره القرطبي (١/ ٢٥١).
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (١/ ٥٠٨).
(٣) البيت للأعشى وقبله:
ولو كان شيء خالدا أو معمّرا لكان سليمان البريء من الدّهر
براه إلهي واصطفاه عباده وملّكه ما بين ثريا إلى مصر
ينظر: «ملحق ديوانه» (٢٤٣)، و «اللسان» (جنن)، و «تفسير الطبري» (١/ ٥٠٦)، و «القرطبي» (١/ ٢٩٥)، و «البحر المحيط» (١/ ٣٠٤)، و «الدر المصون» (١/ ١٨٦)، و «روح المعاني» (١/ ٢٣٠) وقال: وكون الملائكة لا يستكبرون- وهو قد استكبر- لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم- وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا- وفي «عقيدة أبي المعين النسفي» ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله (تعالى) الصفات الملكية، وألبسه ثياب الصفات الشيطانية، فعصى عند ذلك، والملك ما دام ملكا لا يعصي.
(٤) ينظر: «الشفا» ص (٨٥٨).
(٥) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٢٥).
216
تصرفه هذه الفرقةُ لشذوذه وقلَّته، ومنه قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: ٤٤] أيْ:
يائسون من الخير، مبعدون منه فيما يرون، وأَبى: معناه: امتنَعَ من فعْلِ ما أمر به، وَاسْتَكْبَرَ: دخل في الكبرياءِ، والإبَاءَةُ مقدَّمة على الاِستكبارِ في ظهورهما عليه، والاستكبارُ والأَنَفَة مقدَّمة في معتقده، وروى ابْنُ القاسم «١» عن مَالكٍ أنه قال: بَلَغَنِي أنَّ أوَّلَ معْصيَةٍ كانت الحسدُ، والكِبْرُ، والشُّحُّ، حسد إِبليسُ آدم، وتكبَّر، وشحّ آدم/ في أكله ١٦ أمن شجرة قد نُهِيَ عن قربها «٢».
ت: إِطلاق الشحِّ على آدم فيه ما لا يخفى عليك، والواجب اعتقاد تنزيه الأنبياء عن كل ما يحُطُّ من رتبتهم، وقد قال اللَّه تعالى في حق آدَمَ: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥].
وقوله تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ: قالت فِرقَةٌ: معناه: وصار من الكافرين، وردَّه ابن فُورَكَ، وقال جمهور المتأوِّلين: معنى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ، أيْ: في علْمِ اللَّهِ تعالى، وقال أبو العالية: معناه: من العاصين «٣»، وذهب الطبريُّ إِلى أن اللَّه تعالى أراد بقصة إبْلِيسَ تقريعَ أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمّد صلّى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوءته، ومع تقدُّم نعم اللَّه عليهم، وعلى أسلافهم.
ت: ولفظ الطبريِّ «٤» : وفي هذا تقريعٌ لليهود إذ أبوا الإسلام مع علمهم بنبوءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من التوراة والكُتُبِ حَسَداً له، ولبني إِسماعيل كما امتنع إِبليسُ من السجود حَسَداً لآدَم وتكبُّراً عن الحق وقبولِهِ، فاليهود نظراء إِبْليسَ في كُفْرهم وكِبْرهم وحَسَدهم وتَرْكِهِمْ الانقيادَ لأمر اللَّه تعالى. انتهى من «مختصر الطبريِّ» لأبي عبد اللَّه اللَّخْمِيِّ النحْويِّ.
واختلف، هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً؟ على قولَيْن بين أهل السنة، ولا خلاف أنه
(١) عبد الرحمن بن القاسم العتقي: جمع بين الزهد والعلم، وتفقه بمالك ونظرائه، وصحب مالكا عشرين سنة، وعاش بعده اثنتي عشرة سنة، مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومات ب «مصر» سنة إحدى وتسعين ومائة.
ينظر: «الطبقات» للشيرازي (١٥٠).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٢٥).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٢٦٦) برقم (٧٠٥).
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (١/ ٥١٠).
217
كان عالماً باللَّه قبل كفره، ولا خلاف أن اللَّه تعالى أخرج إبليس عند كفره، وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: اسْكُنْ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)
قوله تعالى: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ: اسْكُنْ: معناه: لاَزِمِ الإقامةَ، ولفظه لفظ الأمر، ومعناه الإِذن، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام، هل هي جنةُ الخُلْدِ، أو جنةٌ أخرى.
ت: والأول هو مذهب أهل السنة والجماعة.
وَكُلا مِنْها، أي: من الجنةِ، والرغَد: العيشَ الدارَّ الهنيَّ، و «حَيْثُ» مبنيةٌ على الضمِّ.
وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ: معناه لا تقرباها بأكْلٍ، والهاءُ في «هَذِهِ» بدلٌ من الياء، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرةٍ معيَّنة واحدة، واختلف في هذه الشجرة، ما هي؟ فقال ابن عَبَّاس، وابن مسعود: هي الكَرْم «١»، وقيل: هي شجرة التِّين «٢»، وقيل: السنبلة «٣» وقيل غير ذلك.
وقوله: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ: الظالمُ في اللغة: الذي يضع الشيء في غير موضعه، والظلم في أحكام الشرع على مراتب: أعلاها الشِّرْكُ، ثم ظُلْمُ المعاصي وهي مراتب، وفَأَزَلَّهُمَا: مأخوذ من الزَّلَلِ، وهو في الآية مجازٌ لأنه في الرأْي والنَّظر، وإنما حقيقة الزَّلَلِ في القَدَمِ، وقرأ حمزة «٤» :«فأَزَالَهُمَا» مأخوذ من الزوال، ولا خلاف بين
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٦٩- ٢٧٠) برقم (٧٣٠) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٠٧). [.....]
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٢٧٠) برقم (٧٤٠) عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم بلفظ «التينة» وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٧٠) بلفظ: «التين»، والشوكاني في «تفسيره» (١/ ١٣٠).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٢٦٩) عن عدد من الصحابة والتابعين، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٠٧)، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ.
(٤) ينظر: «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٣٨٨)، و «الحجة للقراء السبعة» (٢/ ١٤)، و «طيبة النشر» (٤/ ١٨)، و «العنوان» (٦٩)، و «إعراب القراءات السبع وعللها» (١/ ٨١)، و «حجة القراءات» (٩٤)، و «شرح شعلة» (٢٦١)، و «معاني القراءات» للأزهري (١/ ١٤٧)، وقد قرأ بها الحسن وأبو رجاء. ينظر: «البحر المحيط» (١/ ٣١٣)، و «القرطبي» (١/ ٢١٣).
218
العلماء أن إبليس اللعينَ هو متولِّي إغواء آدم- عليه السلام-، واختلف في الكيفيَّة.
فقال ابن عباس، وابن مسعود، وجمهور العلماء: أغواهما مشافهةً «١» بدليل قوله تعالى: وَقاسَمَهُما [الأعراف: ٢١] والمقاسمة ظاهرها المشافهةُ.
وقالت طائفةٌ: إن إبليس لم يدخُلِ الجنةَ بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانِهِ، وسُلْطَانه، ووَسَاوِسِهِ التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ/» «٢».
ت: وإلى هذا القوْلِ نَحَا المَازِرِيُّ «٣» في بعض أجوبته، ومن ابتلي بشيء من
- وحمزة هو: حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل التيمي الزيات. أحد القراء السبعة. كان عالما بالقراءات. انعقد الإجماع على تلقي قراءته بالقبول.
قال الثوري: ما قرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر.
ينظر: «الأعلام» (٢/ ٢٧٧)، «تهذيب التهذيب» (٣/ ٢٧)، «وفيات الأعيان» (١/ ١٦٧).
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٧٢) رقم (٧٤١)، عن ابن عباس، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٠٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وذكره الشوكاني في «تفسيره» (١/ ١٣١)، كلاهما عن ابن عباس.
(٢) أخرجه البخاري (٤/ ٣٢٦)، كتاب «الاعتكاف»، باب هل يخرج المعتكف، حديث (٢٠٣٥)، وباب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، حديث (٢٠٣٨)، وباب هل يدرأ المعتكف عن نفسه، حديث (٢٠٣٩)، و (٦/ ٢٤٢- ٢٤٣)، كتاب «فرض الخمس»، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم حديث (٣١٠١)، و (٦/ ٣٨٧- ٣٨٨)، كتاب «بدء الخلق»، باب صفة إبليس وجنوده، حديث (٣٢٨١)، و (١٠/ ٦١٣- ٦١٤)، كتاب «الأدب» باب التكبير والتسبيح عند التعجب، حديث (٦٢١٩)، و (١٣/ ١٦٩)، كتاب «الأحكام»، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء، حديث (٧١٧١)، ومسلم (٤/ ١٧١٢)، كتاب «السلام»، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة... ، حديث (٢٥/ ٢١٧٥)، وأبو داود (١/ ٧٤٩)، كتاب «الصيام»، باب المعتكف يدخل البيت لحاجته، حديث (٢٤٧٠، ٢٤٧١)، وابن ماجة (١/ ٥٦٥- ٥٦٦)، كتاب «الصيام»، باب في المعتكف يزوره أهله في المسجد، حديث (١٧٧٩)، وأحمد (٦/ ٣٣٧)، وعبد الرزاق (٨٠٦٥)، وابن خزيمة (٣/ ٣٤٩)، رقم (٢٢٣٣، ٢٢٣٤)، وابن حبان (٣٦٧١)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١/ ٢٩- ٣٠)، والبيهقي (٤/ ٣٢١)، كتاب «الصيام»، باب المعتكف يخرج إلى باب المسجد، والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٣٩٧- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري، عن علي بن الحسين، عن صفية بنت حيي به.
(٣) المازري: هو محمد بن علي بن عمر التميمي، المازري، يعرف ب «الإمام»، ويكنى بأبي عبد الله، أصله، من «مازر» مدينة في جزيرة «صقلية»، خاتمة العلماء المحققين والأئمة الأعلام المجتهدين، الحافظ النظار، كان واسع الباع في العلم والاطلاع مع حدة في الذهن ورسوخ تام حتى بلغ درجة الاجتهاد، أخذ عن أبي الحسن اللخمي وغيره وعنه أخذ ما لا يعد، منهم: أبو محمد عبد السلام، وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم، وله مؤلفات منها: «شرح التلقين» ليس للمالكية كتاب مثله، و «شرح البرهان» -
219
وسوسة هذا اللعينِ فأعظم الأدوية له الثقَةُ باللَّه، والتعوُّذ به، والإعراض عن هذا اللعين، وعدمُ الالتفاتِ إليه، ما أمكن قال ابن عطاءِ اللَّه «١» في «لَطَائِفِ المِنَنِ» : كان بي وسواسٌ في الوضوءِ، فقال لي الشيخُ أبو العبَّاس المُرْسِيُّ «٢» : إن كنت لا تترك هذه الوسوسةَ لا تَعْدُ تَأْتِينَا، فَشَقَّ ذلك علَيَّ، وقطع اللَّه الوسواسَ عني، وكان الشيخ أبو العباس يُلَقِّنُ للوسواسِ: سُبْحَانَ المَلِكِ الخَلاَّقِ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: ١٦، ١٧] انتهى.
قال عِيَاضٌ: في «الشِّفا» «٣» وأما قصة آدم عليه السلام، وقوله تعالى: فَأَكَلا مِنْها [طه: ١٢١] بعد قوله: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ، وقوله تعالى: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الأعراف: ٢٢] وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: ١٢١] أي: جهل، وقيل: أخطأ، فإن اللَّه تعالى قد أخبر بعذره بقوله:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] قال ابن عبَّاس: نسي عداوة إِبليس، وما عهد اللَّه إِليه من ذلك «٤» بقوله: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ...
[طه: ١١٧] الآيَة، وقيل: نسي ذلك بما أظهر لهما، وقال ابن عباس: إنما سمي الإنسان إنساناً لأنه عهد إِليه فنسي «٥»، وقيل: لم يقصد المخالفة استحلالا لها، ولكنهما اغترا بِحَلِفِ إِبليس لهما: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: ٢١] وتوهَّما أن أحداً لا يحلف
- لأبي المعالي الجويني المسمى «إيضاح المحصول من برهان الأصول».
ولد سنة (٤٤٣) هـ، وتوفي سنة (٥٣٦ هـ.) ينظر: «شجرة النور» ص (١٢٧)، «الديباج» (ص ٢٧٩).
(١) أحمد بن محمد بن عبد الكريم، أبو الفضل تاج الدين، ابن عطاء الله الإسكندري: متصوف شاذلي، من العلماء، كان من أشد خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية. له تصانيف منها: «الحكم العطائية» في التصوف، و «تاج العروس» في الوصايا والعظات، و «لطائف المنن في مناقب المرسي وأبي الحسن» توفي ب «القاهرة». وينسب إليه كتاب «مفتاح الفلاح»، وليس من تآليفه.
ينظر: «الأعلام» (١/ ٢٢١ و ٢٢٢)، «الدرر الكامنة» (١/ ٢٧٣)، «كشف الظنون» (٦٧٥).
(٢) أحمد بن عمر المرسي، أبو العباس، شهاب الدين: فقيه متصوف، من أهل الإسكندرية، أصله من «مرسية» من «الأندلس».
ينظر: «الأعلام» (١/ ١٨٦)، «النجوم الزاهرة» (٧/ ٣٧١).
(٣) ينظر: «الشفا» ص (٨٢٢، ٨٢٣).
(٤) ذكره الماوردي في «التفسير» (٣/ ٤٣٠) بنحوه، والقرطبي (٦/ ٤٢٩١).
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ٤٦٥) برقم (٢٤٣٨٠)، والحاكم (٢/ ٣٨٠- ٣٨١)، وصححه، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي في «الدر» (٤/ ٥٥٣)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في «الصغير» وابن منده في «التوحيد»، والحاكم.
220
باللَّه حانِثاً، وقد روي عذر آدم مثل هذا في بعض الآثار، وقال ابن جُبَيْر: حلف باللَّه لهما حتى غَرَّهُمَا، والمؤمن يخدع، وقد قيل: نسي، ولم ينو المخالفَةَ فلذلك قال تعالى:
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] أَيْ: قَصْداً للمخالفةِ وأكثر المفسرين «١» على أن العزمَ هنا الحزمُ والصبرُ، وقال ابن فُورَكَ وغيره: إِنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوءة، ودليل ذلك قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه: ١٢١، ١٢٢] فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وقيل: بل أكلها، وهو متأوِّل، وهو لا يعلم أنَّها الشجرة التي نهي عنها، لأنه تأول نهي اللَّه تعالى عن شجرة مخصوصةٍ، لا على الجنْسِ، ولهذا قيل: إنما كانت التوبةُ من ترك التحفُّظ، لا من المخالفة، وقيل: تأول أن اللَّه تعالى لم ينهه عنها نَهْيَ تحريمٍ. انتهى بلفظه فجزاه اللَّه خيرًا، ولقد جعل اللَّه في شِفَاهُ شِفَاءً.
والضمير في عَنْها يعود على الجنة، وهنا محذوفٌ يدلُّ عليه الظاهر تقديره: فَأَكَلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ. وقوله تعالى: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ: قيل: معناه: مِنْ نعمة الجنَّةِ إلى شقاء الدنيا، وقيل: من رفعة المنزلةِ إلى سُفْل مكانة الذنب.
ت: وفي هذا القول ما فيه، بل الصوابُ ما أشار إليه صاحب «التَّنْوِيرِ» بأن إخراج آدَم لم يكن إهانة له، بل لما سبق في علمه سبحانه من إكرام آدم وجعله في الأرض خليفةً، هو وأخيارَ ذرّيته، قائمين فيها بما يجبُ للَّه من عبادتِهِ، والهبوطُ النزولُ من عُلْو إلى سُفْل، واختلف من المخاطَبُ بالهبوط.
فقال السُّدِّيُّ/ وغيره: آدم، وحَوَّاء، وإِبليس، والحيّة التي أدخلت إبليس في فمها، ١٧ أوقال «٢» الحسن: آدم، وحواء والوسوسة «٣».
وبَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ جملةٌ في موضع الحال، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، أيْ: موضع استقرار، وقيل: المراد الاستقرار في القبور، والمتاع: ما يستمتع به من
(١) قال السمين الحلبي: «قال قتادة: صبرا، وقال غيره: حزما. وهذه غلطة. والأولى في تفسيرها: ولم نجد له تصميما على ما همّ به. وقال شمر: العزم والعزيمة: ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله.
ينظر: «عمدة الحفاظ»
(٣/ ٨٧). [.....]
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٢٧٨) برقم (٧٦٠)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١١٠) عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وذكره ابن كثير (١/ ٢٠٦)، والماوردي (١/ ١٠٧) والشوكاني في «تفسيره» (١/ ١٣١).
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ١٢٩)، والقرطبي (١/ ٢٧٢).
221
أكل، ولُبْس، وحَدِيثٍ، وأنس، وغيرِ ذلك.
واختلف في «الحِينِ» هنا.
فقالت فرقةٌ: إلى المَوْتِ، وهذا قولُ من يقول: المستقرُّ هو المُقام في الدنيا، وقالت فرقة: إِلى حِينٍ: إلى يومِ القيامةِ، وهذا هو قول من يقول: المستَقَرُّ هو في القبور، والحِينُ المدَّة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان «١» والالتزامات سَنَةٌ قال اللَّه تعالى:
تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم: ٢٥] وقيل: أقصرها ستَّةُ أشهر لأن من النخل ما يطعم في كلِّ ستة أشهر.
وفي قوله تعالى: إِلى حِينٍ فائدةٌ لآدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها، ومنتقلٌ إِلى الجنة التي وعد بالرجوع إِليها، وهي لغير آدم دالَّة على المعاد، وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سَرَنْدِيبَ «٢»، وأن حواء نزلَتْ بِجُدَّةَ «٣»، وأن الحية نزلت بأصبهان «٤»،
(١) الأيمان لغة: جمع يمين، وهو القوة، وفي الصحاح: اليمين: القسم، والجمع: الأيمن، والأيمان.
انظر: «الصحاح» (٦/ ٢٢٢١)، «المصباح المنير» (٢/ ١٠٥٧)، و «المغرب» (٢/ ٣٩٩)، «لسان العرب» (٣/ ٤٦٢)، «القاموس المحيط» (٤/ ٢٨١).
واصطلاحا:
عرفه الحنفية بأنه: عقد قوي به عزم الحالف على فعل شيء أو تركه.
وعرفه الشافعية بأنه: تحقيق غير ثابت ماضيا كان أو مستقبلا، نفيا أو إثباتا، ممكنا أو ممتنعا، صادقة أو كاذبة، على العلم بالحال أو الجهل به.
وعرفه المالكية بأنه: تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته.
وعرفه الحنابلة بأنه: توكيد حكم (أي: محلوف عليه)، بذكر معظم، أو هو: المحلوف به على وجه مخصوص.
ينظر: «تبيين الحقائق» (٣/ ١٠٧)، «شرح فتح القدير» (٤/ ٢)، «مغني المحتاج» (٤/ ٣٢٠)، «المحلى على المنهاج» (٤/ ٣٧٠)، «حاشية الدسوقي» (٢/ ١١٢)، «شرح منتهى الإرادات» (٣/ ٤١٩).
(٢) سرنديب جزيرة عظيمة بأقصى بلاد الهند. يقال: ثمانون فرسخا في مثلها، فيها الجبل الذي هبط عليه آدم- عليه السلام- يقال له: الرهون، وهو ذاهب في السماء يراه البحريون من مسافة أيام كثيرة. وفيه أثر آدم وقبره، وهي قدم واحدة مغموسة في الحجر طولها نحو سبعين ذراعا. ينظر: «مراصد الاطلاع» (٢/ ٧١٠).
(٣) جدّة بالتشديد: بلد على ساحل بحر اليمن، هو فرضة «مكة». ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ٣١٨).
(٤) أصبهان منهم من يفتح الهمزة وهو الأكثر الأشهر، وكسرها آخرون. أصبهان: لفظ معرّب من سباهان بمعنى الجيش، فيكون معناه على حذف المضاف مدينة «الجيش» : مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها. وأصبهان: اسم للإقليم بأسره. ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ٨٧).
222
وقيل: بِمَيْسَانَ «١»، وأن إبليسَ نزل عند الأُبُلَّةِ «٢».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ: المعنى: فقال الكلماتِ، فتابَ اللَّه علَيْه عنْد ذلك، وقرأ ابن كثير «٣» «آدَمَ» بالنصب «مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ» بالرفع، واختلف المتأوِّلون في الكلماتِ، فقال الحسنُ بن أبي الحسن: هي قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا... «٤» الآية [الأعراف: ٢٣]، وقالت طائفة: إِنَّ آدم رأى مكتوباً على ساق العرش: محمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ، فتشفَّع به، فهي الكلماتُ «٥»، وسئل بعض سَلَفِ المسلمين عمَّا ينبغي أن يقوله المُذْنِبُ، فقال: يقول ما قاله أبواه: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: ٢٣] وما قاله موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: ١٦] وما قال يونس: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ٨٧] وتَابَ عَلَيْهِ: معناه: راجعٌ به، والتوبةُ، من اللَّه تعالى الرجوعُ على عبده بالرحمةِ والتوفيقِ، والتوبةُ من العبد الرجوعُ عن المعصيةِ، والندمُ على الذنب، مع تركه فيما يستأنف.
ت: يعني: مع العزم على تركه فيما يستقبل، وإنما خص اللَّه تعالى آدم بالذكْرِ في التلقِّي، والتوبة، وحواءُ مشارِكَةٌ له في ذلك بإجماع لأنه المخاطَبُ في أول القصَّة، فكملت القصة بذكُره وحْدَه وأيضاً: فَلأَنَّ المرأة حُرْمَةٌ ومستورةٌ، فأراد اللَّه تعالَى السِّتْر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ [طه: ١٢١] وبنية التَّوَّاب للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: هُوَ التَّوَّابُ تأكيدٌ فائدتُهُ أنَّ التوبة على العبد إنما هي
(١) «ميسان» : كورة واسعة كثيرة القرى والنخل، بين «البصرة» و «واسط» قصبتها «ميسان».
ينظر: «مراصد الاطلاع» (٣/ ١٣٤٣).
(٢) «الأبلّة» : بلدة على شاطىء دجلة «البصرة» العظمى، في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة «البصرة».
ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ١٨).
(٣) عبد الله بن كثير الداري المكي، أبو معبد: أحد القرّاء السبعة. كان قاضي الجماعة ب «مكة». وكانت حرفته العطارة. ويسمون العطار «داريّا». فعرف ب «الداري». وهو فارسي الأصل، ولد سنة (٤٥ هـ.)
ب «مكة» وتوفي سنة (١٢٠ هـ.) بها أيضا.
ينظر: «وفيات الأعيان» (١: ٢٥٠)، «الأعلام» (٤/ ١١٥).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٢٨١) برقم (٧٧٨)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١١٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وذكره ابن كثير (١/ ٨١).
(٥) ينظر: القرطبي (١/ ٢٧٦).
223
نعمة من اللَّه تعالى، لا من العبد وحده لئلاَّ يعجب التائبُ، بل الواجب عليه شكر اللَّه تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علَّق بكل أمر منهما حكمًا غير حكم الآخر، فعلَّق بالأول العداوة، وبالثاني إتيان الهدى.
ت: وهذه الآية تبين أن هبوط آدم كان هبوط تَكْرِمَةٍ لما ينشأ عن ذلك من أنواع الخيرات، وفنون العبادات.
١٧ ب وجَمِيعاً: حالٌ من الضمير/ في «اهبطوا»، واختلف في المقصود بهذا الخطاب.
فقيل: آدم، وحواء، وإبليس، وذريَّتهم، وقيل: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص في آدم وحواء لأن إبليس لا يأتيه هُدًى، والأول أصح لأن إبليس مخاطَبٌ بالإيمان بإجماع «١».
«وإِنْ» في قوله: فَإِمَّا هي للشرط، دخلت «مَا» عليها مؤكِّدة ليصح دخول النون المشدَّدة، واختلف في معنى قوله: هُدىً فقيل: بيان وإرشاد، والصواب أن يقال: بيان ودعاءٌ، وقالت فرقة: الهُدَى الرسُلُ، وهي إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر هو فَمَنْ بعده.
(١) يطلق الإجماع في اللّغة، على معنيين:
أحدهما: العزم، يقال: أجمعت المسير والأمر، وأجمعت عليه أي: عزمت.
ثانيهما: الاتّفاق، ومنه يقال: أجمع القوم على كذا، إذا اتّفقوا، قال في «القاموس» : الإجماع: الاتّفاق، والعزم على الأمر.
عرّفه الرازيّ في «المحصول» والإجماع اصطلاحا بأنه: عبارة عن اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلم على أمر من الأمور.
وعرّفه الآمديّ بقوله: عبارة عن اتّفاق جملة أهل الحلّ والعقد من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم في عصر من الأعصار على واقعة من الوقائع.
وعرّفه النّظّام من المعتزلة بقوله: هو كلّ قول قامت حجّته حتّى قول الواحد.
وعرّفه سراج الدين الأرمويّ في «التحصيل» بقوله: هو اتّفاق المسلمين المجتهدين في أحكام الشّرع على أمر ما من اعتقاد، أو قول، أو فعل.
ويمكن أن يعرّف بأنّه اتفاق المجتهدين من هذه الأمّة بعد وفاة محمّد صلّى الله عليه وسلم في عصر على أمر شرعيّ.
ينظر: «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ٦٧٠)، «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٤٣٥)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ١٧٩)، «سلاسل الذهب» للزركشي ص (٣٣٧)، «التمهيد» للأسنوي ص (٤٥١)، «نهاية السول» له (٣/ ٢٣٧)، «زوائد الأصول» له ص (٣٦٢)، «منهاج العقول» (٢/ ٣٧٧).
224
وقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ: شرطٌ، جوابه: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، قال سيبوَيْهِ: والشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ.
وقوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: يحتمل فيما بين أيديهم من الدنيا، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم منها، ويحتمل: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يوم القيامة، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه.
ت: وهذا هو الظاهر، وعليه اقتصر في اختصار الطبريِّ، ولفظه عن ابن زيد:
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، أي: لا خوف عليهم أمامهم «١»، قال: وليس شيء أعظم في صدر من يموت مما بعد الموتِ فأمَّنهم سبحانه منه، وسلّاهم عن الدنيا. انتهى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا... الآية: لما كانت لفظة الكُفْرِ يشترك فيها كفر النعمِ، وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلودٌ، بيَّن سبحانه أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله:
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا... والآياتُ هنا يحتمل أن يريد بها المتلوَّة، ويحتمل أن يريد العلاماتِ المنصوبَةَ، والصُّحْبَةُ الاقتران بالشيْءِ في حالةٍ مَّا زمنا.
قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ: إسْرَائِيلَ: هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ- عليهم السلام- وإِسْرَا: هو بالعبرانية عبد، وإِيلُ: اسم اللَّه تعالى، فمعناه عَبْدُ اللَّهِ، والذِّكْرُ في كلام العَرَبِ على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضدّ النسيان، والنعمة هنا اسم «٢» جنس، فهي مفردة بمعنى الجَمْعِ، قال ابن عَبَّاس، وجمهور العلماء:
الخِطَابُ لجميع بني إسرائيل في مدَّة النبيِّ صلّى الله عليه وسلم.
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٨٥) برقم (٧٩٦).
(٢) الجنس: هو جملة الشيء ومجموع أفراده، وهو أعم من النوع، وقد استعمل النحاة هذا التعبير في مجال الدلالة على الشيوع والعمومية في النوع الواحد. وقد أطلق النحاة هذا اللفظ في مجال تقسيم العلم وذكر أنواعه، فقالوا: العلم: علم شخص أو جنس. واستعملوه أيضا في اسم الجنس الذي قسموه إلى ثلاثة أقسام:
١- اسم جنس جمعي. ٢- اسم جنس إفرادي. ٣- اسم جنس آحادي.
«معجم المصطلحات النحوية والصرفية»، د. محمد سمير نجيب اللبدي، (ص ٥٥- ٥٦). [.....]
225
وقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ: أمر وجوابه، وهذا العهد في قول جمهور العلماءِ عامٌّ «١» في جميع أوامره سبحانه ونواهيه ووصاياه لهم، فيدخل في ذلك ذكر محمّد صلّى الله عليه وسلم الذي في التوراة، والرهبةُ يتضمَّن الأمر بها معنى التهديد، وأسند الترمذيُّ الحَكِيمُ «٢» في «نَوَادِرِ الأصول» له عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «قَالَ رَبُّكُمْ سُبْحَانَهُ: لاَ أَجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلاَ أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، فَمَنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا، أَخَفْتُهُ فِي الآخِرَةِ» «٣». انتهى من «التذكرة» للقرطبيّ، ورواه ابن المبارك «٤» في
(١) عرفه أبو الحسين البصريّ في «المعتمد» بقوله: «هو اللّفظ المستغرق لما يصلح له». وزاد الإمام الرّازي على هذا التّعريف في «المحصول» :«... بوضع واحد»، وعليه جرى البيضاويّ في «منهاجه».
وعرّفه إمام الحرمين الجوينيّ في «الورقات» بقوله: «العام: ما عمّ شيئين فصاعدا». وإلى ذلك أيضا ذهب الإمام الغزّاليّ حيث عرّفه بأنّه: «اللّفظ الواحد الدّالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا».
ويرى سيف الدّين الآمديّ أنّ العامّ هو: «اللّفظ الواحد الدّالّ على قسمين فصاعدا مطلقا معا».
واختار ابن الحاجب: «أن العامّ ما دلّ على مسميّات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة».
ينظر: «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ٣٤١٨)، و «البحر المحيط» للزركشي (٣/ ٥)، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٢/ ١٨٥)، و «سلاسل الذهب» للزركشي (ص ٢١٩)، و «التمهيد» للإسنوي (ص ٢٩٧)، و «نهاية السول» له (٢/ ٣١٢)، و «زوائد الأصول» له (ص ٢٤٨)، و «منهاج العقول» للبدخشي: (٢/ ٧٥)، و «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (ص ٦٩)، و «التحصيل من المحصول» للأرموي: (١/ ٣٤٣)، و «المنخول» للغزالي (ص ١٣٨)، و «المستصفى» له (٢/ ٣٢)، و «حاشية البناني» (١/ ٣٩٢)، و «الإبهاج» لابن السبكي (٢/ ٨٢)، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٢/ ٢٥٤)، و «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (ص ٣٢٦)، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٥٠٥)، و «المعتمد» لأبي الحسين (١/ ١٨٩)، و «إحكام الفصول في أحكام الأصول» للباجي (ص ٢٣٠).
(٢) محمد بن علي بن الحسن بن بشر، أبو عبد الله، الحكيم الترمذي: باحث صوفي، عالم بالحديث وأصول الدين من أهل «ترمذ» نفي منها بسبب تصنيفه كتابا خالف فيه ما عليه أهلها، فشهدوا عليه بالكفر. وقيل: اتهم باتباع طريقة الصوفية في الإشارات ودعوى الكشف. وقيل: فضّل الولاية على النبوة، ورد بعض العلماء هذه التهمة عنه. أما كتبه، فمنها: «نوادر الأصول في أحاديث الرسول»، و «الفروق».
ينظر: «الأعلام» (٦/ ٢٧٢)، «مفتاح السعادة» (٢/ ١٧٠)، «طبقات السبكي» (٢/ ٢٠)، «الرسالة المستطرفة» (٤٣).
(٣) أخرجه ابن حبان (٢٤٩٤- موارد)، والبزار (٤/ ٧٤- «كشف» )، حديث (٣٢٣٣).
(٤) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، أحد الأئمة الأعلام وشيوخ الإسلام. روى عن حميد، وإسماعيل، وغيرهم. كتب عن أربعة آلاف شيخ وروى عن ألف، عالم المشرق والمغرب، وكان ثقة، ولد سنة (١١٨ هـ.)، وتوفي سنة (١٨١ هـ.).
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٩٣) (٣٧٦٧)، و «الحلية» (٨/ ١٦٢- ١٩٠)، و «الوفيات» (٣/ ٣٢- ٣٤).
226
«رَقَائِقِهِ» من طريق الحسن البصريِّ، وفيه: قَالَ اللَّهُ: «وَعِزَّتِي، لاَ أَجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلاَ أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ فَإذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَإذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» «١». انتهى، ورواه أيضاً الترمذيُّ الحكيمُ في كتاب «خَتْمِ الأَوْلِيَاءِ» قال صاحب «الكَلِمِ الفَارِقِيَّةِ، والحِكَمِ الحقيقيَّة» :«بقدر ما يدخل القلب من التعظيم والحرمة/ ١٨ أتنبعث الجوارح في الطاعة والخدمة». انتهى.
وآمِنُوا: معناه: صدّقوا، ومُصَدِّقاً نصبٌ على الحال من الضمير في أَنْزَلْتُ، وبِما أَنْزَلْتُ كناية عن القرآن، ولِما مَعَكُمْ، يعني: التوراةَ.
وقوله: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ هذا من مفهوم الخطاب الذي المذكور فيه والمسكوت عنه حكمها واحدٌ، وَحُذِّرُوا البدارَ إلى الكفر به إِذ على الأول كِفْلٌ من فعل المقتدى به، ونصب «أَوَّلَ» على خبر «كَانَ».
ع «٢» : وقد كان كَفَر قبلهم كفار قريشٍ، وإِنما معناه من أهل الكتاب إِذ هم منظورٌ إِليهم في مثل هذا، واختلف في الضمير في «به»، فقيل: يعود على محمّد صلّى الله عليه وسلم، وقيل: على القرآن، وقيل: على التوراة، واختلف في الثمن الذي نُهُوا أن يشتروه بالآياتِ.
فقالتْ طائفةٌ: إن الأحبار كانوا يُعلِّمُونَ دينَهم بالأجرة، فَنُهُوا عن ذلك، وفي كتبهم:
«عَلِّمْ مَجَّاناً كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّاناً»، أي: باطلاً بغير أجرة.
وقيل: كانت للأخبار مأكلة يأكلونها على العِلْمِ.
وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رُشاً على تغييرِ صفَةِ محمَّد صلّى الله عليه وسلم في التوراة، فنُهُوا عن ذلك.
وقال قوم: معنى الآية: ولا تشتروا بأوامري، ونواهِيَّ، وآياتي ثمناً قليلاً، يعني:
الدنيا ومدَّتها والعيش الذي هو نزْرٌ «٣» لا خَطَر له، وقد تقدَّم نظير قوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، وبيْنَ «اتقون»، و «ارهبون» فرق إن الرهبة مقرونٌ بها وعيدٌ بالغ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٥٠، ٥١) رقم (١٥٧) عن الحسن مرسلا.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٣٤).
(٣) النّزر: القليل التّافه. ينظر: «لسان العرب» (٤٣٩٣).
وقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، أي: لا تخلطوا، قال أبو العاليةِ: قالت اليهود: محمَّد نبيٌّ مبعوثٌ، لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق، وقولهم: إلى غيرنا باطلٌ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ، أي: أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم «١»، وفي هذهِ الألفاظ دليل على تغليظ الذنب على من وقع فيه، مع العلم به، وأنه أعصى من الجاهل، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملةٌ في موضع الحال.
قال ص «٢» : وَتَكْتُمُوا مجزومٌ معطوف على تَلْبِسُوا، والمعنى النهْيُ عن كلٍّ من الفعلين. انتهى.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: معناه: أظهروا هيئَتَها، وأديموها بشروطها، والزكاة في هذه الآية هي المفروضة، وهي مأخوذة من النماء، وقيل: من التطهير.
وقوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ: قيل: إنما خص الركوع بالذِّكْر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوعٌ.
ت: وفي هذا القول نظرٌ، وقد قال تعالى في «مَرْيم» : اسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: ٤٣]، وقالت فرقة: إنما قال: مَعَ لأن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتضِ شهود الجماعة، فأمرهم بقوله: مَعَ شهود الجماعة.
ت: وهذا القول هو الذي عوَّل عليه ع: في قصَّة مرْيَمَ «٣» - عليها السلام-، والركوع الانحناء بالشخص.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
وقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ خرج مخرج الاستفهامِ، ومعناه التوبيخُ، و «البِرُّ» يجمع وجوه الخيرِ والطاعاتِ، وتَنْسَوْنَ معناه تتركون أنفسكم.
قال ابنُ عَبَّاس: كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلِّديهم باتباع التوراة، وكانوا هم
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٩٤) برقم (٨٢٩) بلفظ «كتموا بعث محمد صلّى الله عليه وسلم». وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٣٥).
(٢) «المجيد» ص ٢٣٠.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٣٤).
228
يخالفونها في جحدهم منها صفة محمّد صلّى الله عليه وسلم «١».
وقالت فرقة: كان الأحبار إذا استرشدَهُمْ أحد من العرب في اتّباع محمّد صلّى الله عليه وسلم، دلُّوه على ذلك، وهم لا يفعلونه.
ت: وخرَّج الحافظُ أبو نُعَيْمٍ أحمد بن عبد اللَّه الأصبهانيُّ «٢» في كتاب «رِيَاضَةِ المُتَعَلِّمِينَ» قال: حدَّثنا أبو بكر بن خَلاَّد «٣»، حدَّثنا الحارث بن أبي أُسَامَةَ «٤»، حدثنا أبو النَّضْرِ «٥» /، حدثنا محمَّد بن عبد اللَّه بن علي بن زيْدٍ عن أنس بن مالك- رضي اللَّه ١٨ أعنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالاً تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: الخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، وَيَنْسُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب أفلا يعقلون» «٦». انتهى.
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٩٦) برقم (٨٤٠) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٢٦)، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٢) أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، أبو نعيم: حافظ، مؤرخ، من الثقات في الحفظ والرواية. ولد ومات في «أصبهان». من تصانيفه «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء»، و «معرفة الصحابة».
ينظر: «الأعلام» (١/ ١٥٧)، «ابن خلكان» (١/ ٢٦)، «ميزان الاعتدال» (١/ ٥٢)، «طبقات الشافعية» (٣/ ٧).
(٣) محمد بن خلاد بن كثير الباهلي، أبو بكر البصري. عن ابن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وابن فضيل، وطبقتهم. وعنه مسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وزكريا خياط السنة. قال ابن حبان في «الثقات» : مات سنة تسع وثلاثين ومائتين.
ينظر: «خلاصة تذهيب تهذيب الكمال» (٢/ ٤٠١)، «تهذيب التهذيب» (٩/ ١٥٢)، «الثقات» (٩/ ٨٦).
(٤) اسم أبي أسامة: داهر: ونعت الحارث بأنه الحافظ، الصّدوق، العالم، مسند العراق، أبو محمد التّميمي، مولاهم البغدادي الخصيب، صاحب «المسند» المشهور، ولم يرتّبه على الصّحابة، ولا على الأبواب. ولد في سنة ستّ وثمانين ومئة.
ذكره ابن حبان في «الثقات». وقال الدارقطني: صدوق.
توفي الحارث يوم «عرفة» سنة اثنين وثمانين ومئتين. ينظر: «سير أعلام النبلاء» (١٣/ ٣٨٨- ٣٩٠). [.....]
(٥) هاشم بن القاسم الليثي، أبو النضر الخراساني، قيصر، الحافظ. عن شعبة، وابن أبي ذئب، وحريز بن عثمان، وخلق. وعنه أحمد، وإسحاق، ويحيى، وابن المديني، وخلق. قال العجلي: ثقة، صاحب سنة. كان أهل «بغداد» يفتخرون به. قال مطين: مات سنة سبع ومائتين. ينظر: «خلاصة تهذيب التهذيب» (٣/ ١١٠)، و «تهذيب التهذيب» (١١/ ١٨)، و «الكاشف» (٣/ ٢١٧)، و «الجرح والتعديل» (٦/ ٤٤٦).
(٦) أخرجه أحمد (٣/ ١٢٠، ١٨٠، ٢٣١، ٢٣٩)، وابن المبارك في «الزهد» (٨١٩)، وأبو يعلى (٧/ ٦٩)، رقم (٣٩٩٢)، من طريق حماد عن علي بن زيد، عن أنس به. -
229
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ: قال مقاتل «١» : معناه: على طلب الآخرة، وقيل:
استعينوا بالصبر على الطاعات، وعن الشهوات على نيلِ رضوانِ اللَّه سبحانه، وبالصلاةِ على نيل رضوانِ اللَّه، وحطِّ الذنوب، وعلى مصائب الدهْر أيضاً ومنه الحديثُ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذَا حَزَبَهُ «٢» أَمْرٌ، فَزِعَ إلَى الصَّلاَةِ» «٣»، ومنْهُ ما روي أنَّ عبد اللَّه بن عباس نُعِيَ له أخوه قُثَمُ «٤» وهو في سفر، فاسترجع، وتنحى عن الطريق، وصلى، ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأُ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ «٥»، وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوْمُ «٦»، ومنه قيل لرمضانَ شهْرُ الصبْرِ، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكْرِ لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهواتِ، ويزهِّد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنْكَرِ، وتُخشِّع، ويقرأُ فيها القرآن الذي يذكِّر بالآخرة، وقال قومٌ: الصبر على بابه، والصلاة الدعاءُ، وتجيء الآية على هذا القولِ مشْبِهةً لقوله تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا
وأخرجه أبو يعلي (٧/ ١٨٠)، رقم (٤١٦٠)، وابن حبان. (٣٥- موارد) من طريق مالك بن دينار، عن أنس به.
وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٨/ ١٧٢)، من طريق سليمان التيمي، عن أنس به.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٦٤)، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبزار، وابن أبي داود في «البعث»، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان».
(١) مقاتل بن سليمان الأزدي، أبو الحسن الخراساني، المفسر عن الضحاك، ومجاهد. وعنه ابن عيينة، وعلي بن الجعد. قال الشافعي: الناس عيال عليه في التفسير. قال ابن المبارك: ما أحسن تفسيره لو كان ثقة. وقال الحربي: لم يسمع من مجاهد شيئا. وقال أبو حنيفة: مشبّه. وكذّبه وكيع. قال ابن حبان:
كان يأخذ عن اليهود علم الكتاب، وكان مشبّها يكذب. قيل: مات سنة خمسين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ٥٣- ٥٤)، «تهذيب التهذيب» (١٠/ ٢٨٥).
(٢) أي إذا نزل به منهم أو أصابه غمّ.
ينظر: «النهاية» (١/ ٣٧٧).
(٣) أخرجه أحمد (٥/ ٣٨٨)، وأبو داود (١/ ٤٢٠- ٤٢١) كتاب «الصلاة»، باب وقت قيام النبي صلّى الله عليه وسلم من الليل، حديث (١٣١٩)، من حديث حذيفة.
(٤) قثم (بضم أوله، وفتح المثلاثة) ابن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، صحابي، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، واستشهد في غزو «سمرقند» وقبره بها.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٣٥٩)، «تهذيب الكمال» (٢/ ١١٢٤)، «تهذيب التهذيب» (٨/ ٣٦١)، «تقريب التهذيب» (٢/ ١٢٣).
(٥) أخرجه الطبري (١/ ٢٩٩) برقم (٨٥٢)، وقال أحمد شاكر: «إسناده صحيح» وأخرجه البيهقي في «الشعب» (٧/ ١١٤) برقم (٩٦٨٢)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٣١)، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «الشعب».
(٦) أخرجه البيهقي في «الشعب» (٧/ ١١٣) برقم (٩٦٨٠).
230
وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الأنفال: ٤٥] لأن الثبات هو الصبر، وذكر اللَّه هو الدعاءُ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا حمَّاد بن سَلَمَةَ «١» عن ثابتٍ البُنَانِيِّ «٢» عن صِلَةَ بْنِ أشْيَمِ «٣» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ صلى صَلاَةً، لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إيَّاه» «٤» وأسند ابن المبارك عن عقبة بن عامر الجُهَنِيِّ قال: سَمِعْتُ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ صلى صَلاَةً غَيْرَ سَاهٍ، وَلاَ لاَهٍ، كُفِّرَ عَنْهُ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ شَيْءٍ» «٥». انتهي.
وهذان الحديثان يُبَيِّنَانِ ما جاء في «صحيح البخاريِّ» عن عثمانَ حيثُ توضَّأَ ثلاثًا ثلاثاً، ثم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا، ثُمَّ صلى ركعتين لا
(١) حمّاد بن سلمة بن دينار الرّبعي، أو التّميمي، أو القرشي، مولاهم، أبو سلمة البصري، أحد الأعلام.
عن ثابت، وسماك، وسلمة بن كهيل، وابن أبي مليكة، وقتادة، وحميد، وخلق. وعنه ابن جريح، وابن إسحاق شيخاه، وشعبة، ومالك، وحبّان بن هلال، والقعنبيّ، وأمم. قال القطان: إذا رأيت الرجل يقع في حماد فاتهمه على الإسلام. وقال ابن المبارك: ما رأيت أشبه بمسالك الأول من حماد.
وقال وهيب بن خالد: كان حماد بن سلمة سيدنا وأعلمنا. قال حماد: من طلب العلم لغير الله مكر به.
توفي سنة سبع وستين ومائة.
ينظر: «الخلاصة»
(١/ ٢٥٢)، «تهذيب التهذيب» (٣/ ١١)، و «الثقات» (٦/ ٢١٦).
(٢) ثابت بن أسلم البناني، مولاهم، أبو محمد البصري، أحد الأعلام. قال ابن المديني: له نحو مائتين وخمسين حديثا. وقال حماد بن زيد: ما رأيت أعبد من ثابت. وقال شعبة: كان يختم في كل يوم وليلة ويصوم الدهر. وثقه النسائي، وأحمد، والعجلي. قال ابن عليّة: مات سنة سبع وعشرين ومائة عن ست وثمانين سنة.
ينظر: «طبقات ابن سعد» (١/ ٤٧٨ و ٧/ ٢٣١)، «الوافي بالوفيات» (١٠/ ٤٦١)، «الحلية» (٢/ ٣١٨)، «سير الأعلام» (٥/ ٢٢٠)، «تذكرة الحفاظ» (١٢٥)، «لسان الميزان» (٧/ ١٨٧)، «ميزان الاعتدال» (١/ ٣٦٢)، «تهذيب الكمال» (١/ ١٧٠)، «خلاصة تهذيب الكمال» (١/ ١٤٧).
(٣) الزاهد، العابد، القدوة، أبو الصهباء، العدوي، البصري، زوج العالمة معاذة العدوية.
حدث عنه: أهله معاذة، والحسن، وحميد بن هلال، وثابت البناني، وغيرهم.
ينظر: «سير الأعلام» (٣/ ٤٩٧).
(٤) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٤٠٢) رقم (١١٤٣)، وابن شاهين في «الصحابة» كما في «الإصابة» (٣/ ٢٦٠) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن صلة بن أشيم به مرسلا.
(٥) أخرجه ابن المبارك (ص ٤٠٢- ٤٠٣)، رقم (١١٤٥)، والطبراني في «الكبير» (١٧/ ٣٢٦- ٣٢٧)، رقم (٩٠٢) من طريق ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن ربيعة بن قيس، عن عقبة بن عامر مرفوعا.
وأخرجه الطبراني (١٧/ ٣٢٧)، رقم (٩٠٣)، من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن رجل، عن ربيعة بن قيس، عن عقبة بن عامر به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٢/ ٢٧٨)، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» بإسنادين في أحدهما ابن لهيعة، وفيه كلام. [.....]
231
يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» «١». انتهى.
والضمير في قوله تعالى: وَإِنَّها قيل: يعود على الصلاة، وقيل: على العبادة التي تضمنها بالمعنى ذكر الصبْرِ والصلاة.
قال ص «٢» :«وإنَّهَا» الضمير للصلاة، وهو القاعدة في أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل. انتهى.
ثم ذكر أبو حَيَّان «٣» وجوهاً أُخَرَ نحو ما تقدَّم.
وكَبِيرَةٌ: معناه: ثقيلةٌ شاقَّة، والخَاشِعُونَ: المتواضعون المخبتُونَ، والخشوعُ هيئة في النفْسِ يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع.
ويَظُنُّونَ في هذه الآية، قال الجمهور: معناه: يوقنُونَ، والظنُّ في كلام العرب قاعدته الشَّكُّ مع ميلٍ إلى أحد معتقديه، وقد يقع موقع اليقين، لكنه لا يقع فيما قد خرج إلى الحِسِّ لا تقول العرب في رجل مَرْئِيٍّ أظن هذا إنسانًا، وإنَّمَا تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس كهذه الآية وكقوله تعالى: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف: ٥٣].
قال ص «٤» : قلتُ: وما ذكره ابن عَطيَّةَ هو معنى ما ذكره الزّجّاج «٥» في معانيه ١٩ أعن بعْض أهل العلْمِ أنَّ الظنَّ يقع في معنى العلْمِ الذي لم تشاهدْه/، وإِنْ كان قد قامت في نفسك حقيقتُهُ، قال: وهذا مذهبٌ إلا أن أهل اللغة لم يذكروه، قال: وسمعته من أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي «٦»،
(١) أخرجه البخاري (١/ ٢٥٩)، كتاب «الوضوء»، باب الوضوء ثلاثا، الحديث (١٥٩)، (١٦٠)، (١٦٤)، (١٩٣٤)، (٦٤٣٣)، ومسلم (١/ ٢٠٥)، كتاب «الطهارة»، باب صفة الوضوء وكماله، الحديث (٤/ ٢٢٦)، وأبو داود (١/ ٧٨- ٨١)، كتاب «الطهارة»، باب صفة وضوء النبي صلّى الله عليه وسلم، الحديث (١٠٦)، (١١٠)، وابن ماجة (١/ ١٠٥)، كتاب «الطهارة»، باب ثواب الطهور، الحديث (٢٨٥)، والنسائي (١/ ٦٤)، كتاب «الطهارة»، باب المضمضة والاستنشاق، وباب بأي اليدين يتمضمض، والبيهقي (١/ ٤٩)، كتاب «الطهارة»، باب سنة التكرار في المضمضة والاستنشاق، والدارقطني (١/ ٨٣)، كتاب «الطهارة»، باب وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(٢) «المجيد» ص ٢٣٣.
(٣) ينظر: «البحر المحيط» (١/ ٣٤١).
(٤) «المجيد» (٢٣٥).
(٥) ينظر: «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (١/ ١٢٦).
(٦) أبو إسحاق: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم بن بابك الجهضمي الأزدي: مولى آل جرير بن حازم. أصله من «البصرة»، وبها نشأ، واستوطن «بغداد» وتفقه بابن-
232
رواه عن زيد بن أسْلَمَ «١». انتهى.
والمُلاَقَاةُ هي لِلثوابِ أو العقابِ، ويصحُّ أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل السنة، وورد بها متواتر الحديث.
وراجِعُونَ: قيل: معناه: بالموْتِ، وقيل: بالحشرِ والخروجِ إلى الحساب والعرضِ، ويقوِّي هذا القوْل الآيةُ المتقدِّمة قوله تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ... الآية: قد تكرَّر هذا النداءُ والتذكيرُ بالنعمة، وفائدةُ ذلك أن الخطاب الأول يصحُّ أن يكون للمؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرِّر إنما هو للكافرين بدلالة ما بعده وأيضاً: فإن فيه تقويةَ التوقيف، وتأكيدَ الحضِّ على أيَادِي اللَّه سبحانه، وحُسْن خطابهم بقوله سبحانه: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيلٌ لهم، وفي الكلام اتساعٌ، قال قتادة وغيره: المعنى:
على عَالَمِ زمانِهِمُ الذي كانتْ فيه النبوءةُ المتكرِّرة، لأن الله تعالى يقول لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «٢» [آل عمران: ١١٠].
وَاتَّقُوا يَوْماً، أي: عذابَ يوم، أو هولَ يومٍ ويصح أن يكون يوماً نصبه على
- المعدّل، وكان يقول: أفخر على الناس برجلين ب «البصرة» : ابن المعدل: يعلّمني الفقه، وابن المديني:
يعلمني الحديث.
ينظر: «الديباج المذهب» (١/ ٢٨٣- ٢٨٤).
(١) زيد بن أسلم العدوي، مولاهم، المدني، أحد الأعلام. عن أبيه، وابن عمر، وجابر، وعائشة، وأبي هريرة، وقال ابن معين: لم يسمع منه، ولا من جابر، وعنه بنوه، وداود بن قيس، ومعمر وروح بن القاسم. قال مالك: كان زيد يحدّث من تلقاء نفسه، فإذا قام فلا يتجرىء عليه أحد. وثقه أحمد، ويعقوب بن شيبة. مات سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة.
ينظر: «الخلاصة» (١/ ٣٤٩)، «تهذيب التهذيب» (٣/ ٣٩٥)، «الكاشف» (١/ ١٣٦)، «تاريخ البخاري الكبير» (٣/ ٣٨٧)، «تاريخ البخاري الصغير» (١/ ١٣٧)، «الجرح والتعديل» (٣/ ٢٥٠٩)، «ميزان الاعتدال» (٢/ ٩٨)، «الثقات» (٦/ ٢٤٦).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣٠٣) برقم (٨٦٩) بلفظ «فضلهم على عالم ذلك الزمان» وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٣٣) بلفظ «فضلوا على العالم الذي كانوا فيه، ولكل زمان عالم» وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد.
الظرف «١»، ولا تَجْزِي: معناه: لا تغني، وقال السُّدِّيُّ: معناه: لا تقضي ويقوِّيه قوله: شَيْئاً، وفي الكلام حذفٌ، التقدير: لا تجزي فيه، وفي مختصر الطبريِّ: أي:
واتقوا يوماً لا تقضي نفْسٌ عن نفس شيئاً، ولا تغني غَنَاءً، وأَحَدُنَا اليومَ قد يقضي عن قريبه دَيْناً، وأما في الآخرة، فيسر المرء أن يترتَّب له على قريبه حقٌّ لأنَّ القضاء هناك من الحسنات والسيئات كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. انتهى.
والشَّفَاعَةُ: مأخوذة من الشَّفْع، وهما الاثنان لأن الشافع والمشفوع له شَفْعٌ وسبب هذه الآية أنَّ بني إسرائيل قالوا: «نَحْنُ أبناءُ أنبياء الله، وسيشفع لنا أبناؤنا»، وهذا إنما هو في حق الكافرين للإجماع، وتواترِ الأحاديث بالشفاعة في المؤمنين.
وقوله تعالى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ: قال أبو العالية: العَدْلُ: الفدية.
قال ع «٢» : عدل الشيْءِ هو الذي يساويه قيمةً وقدراً، وإن لم يكن من جنسه، والعِدْلُ بكسر العين: هو الذي يساوي الشيء من جنسه، وفي جرمه، والضمير في قوله:
وَلا هُمْ عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآيةُ، ويحتمل أن يعود على النفسينِ المتقدِّمِ ذكرُهما لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنْسِ، وهو جمع، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فإِن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلَّص إِلاَّ بأن يشفع له، أو ينصر، أو يفتدى.
ت: أو يمنّ عليه إلا أنَّ الكافرَ ليس هو بأهلٍ لإنْ يمنّ عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٩]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
وقوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: أي: خلَّصناكم، وَآل: أصْلُهُ أَهْل قلبت الهاء أَلِفاً ولذلك رَدَّها التصغيرُ إلى الأصل، فقيل: أُهَيْل، وآلُ الرجل قرابته، وشيعته، وأتباعه، وفرعونُ: اسمٌ لكلِّ من ملك من العَمَالِقَةِ بمصر، وفرعون موسى، قيل:
(١) ويكون المفعول حينئذ محذوفا، وتقديره: واتقوا العذاب في يوم صفته كيت وكيت. وقد منع أبو البقاء كونه ظرفا، قال: لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة. والجواب عنه- كما يقول السمين الحلبي-:
أن الأمر بالحذر من الأسباب المؤدية إلى العذاب في يوم القيامة.
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٢١٤)، «التبيان في إعراب القرآن» لأبي البقاء العكبري، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الشام للتراث، بيروت لبنان، (١/ ٦٠).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٣٩).
234
اسمه مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّان، وقال ابْن إِسحاق: اسمه الوليدُ بْنُ مُصْعب، وروي أنه كان من أهل إِصْطَخْر «١» وَرَدَ مِصْرَ، فاتفق له فيها المُلْك، وكان أصل كون بني إِسرائيل بمصر نزولَ إسرائيل بها زمَنَ ابنه يُوسُفَ عليهما السلام.
ويَسُومُونَكُمْ: معناه: يأخذونكم به، ويُلْزمُونَكم إياه، والجملة في موضعِ نصبٍ على الحال، أي: سائمين/ لكم سُوءَ العذاب، وسوءُ العذاب أشدُّه وأصعبه، وكان فرعون ١٩ ب على ما روي قد رأى في منامه ناراً خرجَتْ من بيت المقْدِس، فأحرقت بيوتَ مِصْرَ، فأولت له رؤياه أنَّ مولوداً من بني إسرائيل ينشأ، فيخرب مُلْكَ فرعون على يَدَيْهِ، وقال ابن إسْحَاق، وابن عبَّاس، وغيرهما: إن الكهنة والمنجِّمين قالُوا لفرعون: قد أظلك زمانُ مولودٍ من بني إسرائيل يخرب مُلْكَك «٢».
ويُذَبِّحُونَ بدلٌ من: «يَسُومُونَ»، وَفِي ذلِكُمْ: إشارةٌ إلى جملة الأمر، وبَلاءٌ معناه: امتحان واختبار، ويكون البلاء في الخير والشر.
وحكى الطبريُّ وغيره في كيفية نجاتهم أن موسى- عليه السلام- أوحي إلَيْه أن يسري من مصر ببني إِسرائيل، فأمرهم موسى أن يستعيروا الحُلِيَّ والمتاعَ من القِبْطِ «٣»، وأحل اللَّه ذلك لبني إسرائيل، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون رَأْيِ موسى- عليه السلام- وهو الأشبه به، فسرى بهم موسى من أول الليْلِ، فأعلم بهم فرعون، فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الدِّيَكَةُ، فلم يَصِحْ تلك الليلة بمصر دِيكٌ حتى أصبح، وأمات اللَّه تلك الليلةَ كثيراً من أبناء القِبطِ، فاشتغلوا بالدَّفْنِ، وخرجوا في الأتباع مشرِّقين، وذهب موسى عليه السلام إلى ناحية البحر حتى بلغه، وكانت عدة بني إِسرائيل نيِّفاً على ستِّمائة ألف، وكانت عِدَّة فرعون أَلْفَ ألْفٍ ومِائَتَي ألْفٍ، وحكي غير هذا مما اختصرته لقلَّة ثبوته، فلما لحق فرعَوْنُ موسى، ظن بنو إِسرائيل أنهم غير ناجين، فقال يُوشَعُ بْنُ نُونٍ لموسى: أين أُمِرْتَ؟ فقال:
هكذا، وأشار إلى البحر، فركض يُوشَعُ فرسه حتى بلغ الغَمْرَ «٤»، ثم رجع، فقال لموسى: أين أُمِرْتَ؟ فو الله: ما كَذَبْتَ، ولا كُذِبْتَ، فأشار إِلى البحر، وأوحى الله تعالى
(١) إصطخر: بلدة بفارس، يقال: إن كور «فارس»، الخمسة، أكبرها وأصلها كورة «إصطخر»، ينظر:
«مراصد الاطلاع» (١/ ٨٧).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣١١) برقم (٨٩٣)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٣٣)، وعزاه لابن جرير.
(٣) القبط: جيل بمصر. وقيل: هم أهل مصر. ينظر: «لسان العرب» (٣٥١٤)، و «النهاية» (٤/ ٦). [.....]
(٤) غمر البحر: معظمه، والغمر: الماء الكثير، وقيل: الكثير المغرّق. ينظر: «لسان العرب» (٣٢٩٣، ٣٢٩٤).
235
إليه أنِ اضرب بعصاك البَحْرَ، وأوحى اللَّه إلى البحر أن انفرِقْ لموسى إذا ضربك، فبات البَحْرُ تلك الليلة يضطرب، فحينَ أصبَحَ، ضرَبَ موسى البحر، وكناه أبا خالد، فانفلَقَ، وكان ذلك في يوم عاشوراء.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
وقوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ... الآية: فَرَقْنا: معناه: جعلْنَاه فِرَقاً، ومعنى بِكُمُ أي: بسببكم، والبحر هو بحر القُلْزُمِ «١» ولم يفرق البحر عَرْضاً من ضفَّة إلى ضفَّة، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة، وكان ذلك الفرق يُقَرِّبُ موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرةٍ بسبب جبالٍ وأوغار حائلة، وقيل:
انفرق البحْرُ عَرْضاً على اثني عَشَرَ طَريِقاً طريق لكلِّ سبط، فلما دخلوها، قالَتْ كل طائفة: غَرِقَ أصحابنا، وجَزِعُوا، فقال موسى- عليه السلام-: اللهمَّ، أَعِنِّي على أخلاقهِمُ السَّيئة، فأوْحَى اللَّه إِلَيْه أَنْ أدِرْ عصَاك على البَحْر، فأدارها، فصار في الماء فتوحٌ كالطَّاق «٢»، يرى بعضهم بعضًا، وجازوا وجبريلُ في ساقتهم على مَاذِيَانةٍ «٣» يحث بني إسرائيل، ويقول لآلِ فرْعَوْنَ: مَهْلاً حتى يلحق آخركم أوَّلَكُم، فلما وصل فرعونُ إلى البحر، أراد الدخول، فنفر فرسُهُ، فتعرَّض له جبريلُ بالرَّمَكَة «٤»، فأتبعها الفرَسُ، ودخَل آلُ فرعَوْن، وميكائلُ يحثهم، فلما لم يبق إلا ميكائلُ في ساقتهم على الضّفَّة وحده، انطبق البحر عليهم، فغرقوا.
(١) بحر القلزم: شعبة من بحر الهند، أوّله من بلاد البربر والسودان والحبش من جهة الجنوب، ومن جهة الشمال «عدن» وبلاد العرب حتى يقطع آخره عند «القلزم»، وهي مدينة صغيرة على أرض مصر.
ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ١٦٦).
(٢) هو ما عطف وجعل كالقوس من الأبنية.
ينظر: «لسان العرب» (٢٧٢٥)، و «المعجم الوسيط» (٥٧٧).
(٣) قيل: إن الماذيان هو النهر الكبير، وهذه الكلمة ليست بعربية، قال ابن الأثير: وهي سواديّة.
ينظر: «النهاية» (٤/ ٣١٣). ، «اللسان» (٤١٦٤) (حزن).
(٤) الرّمكة: الفرس والبرذونة التي تتخذ للنسل، معرّب، والجمع رمك.
ينظر: «لسان العرب» (١٧٣٣).
236
وتَنْظُرُونَ: قيل: معناه بأبصاركم لقُرْبِ بعضهم من بعضٍ، وقيل: ببصائركم للاعتبار لأنهم كانوا في شُغُلٍ.
قال الطبريُّ: وفي أخبار القرآن على لسان النبيّ صلّى الله عليه وسلم بهذه المغيَّبات التي لم تكُنْ من علم العَرَب، ولا وقعتْ إلا في خفيِّ علْمِ بني إسرائيل دليلٌ واضحٌ عند بني إسرائيل، وقائم/ عليهم بنبوءة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. ٢٠ أوموسى: اسم أَعْجميٌّ، قال ابن إِسحاقَ: هو مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهرَ بْنِ قَاهَثَ بْنِ لاَوى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الخليل صلّى الله عليه وسلم «١».
وخص الليالي بالذكْرِ في قوله تعالى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِذ الليلة أقدم من اليوم، وقبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخُ، قال النقَّاش: وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم لأنه لو ذكر الأيام، لأَمْكَن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نصَّ على الليالي، اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلةً بأيامها.
قال ع «٢» : حدثني أبي- رضي الله عنه- قال: سمعتُ الشيخَ الزاهد الإِمام الواعظَ أبا الفضل بْنَ الجوهَرِيِّ- رحمه اللَّه- يعظُ النَّاسَ بهذا المعنى في الخلوة باللَّه سبحانه، والدنوِّ منه في الصلاة، ونحوه، وأنَّ ذلك يشغل عن كل طعامٍ وشرابٍ، ويقول:
أين حال موسى في القرب من اللَّه، ووصالِ ثمانين من الدهْرِ من قوله، حين سار إلى الخَضِرِ لفتاه في بعض يوم: آتِنا غَداءَنا [الكهف: ٦٢].
ت: وأيضاً في الأثر أنَّ موسى لم يصبه، أو لم يشك ما شكاه من النَّصَب حتى جاوز الموضع الذي وعد فيه لقاء الخَضِرِ عليهما السلام.
قال ع «٣» : وكل المفسِّرين على أن الأربعين كلَّها ميعاد.
وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي: إلهاً، والضمير في بَعْدِهِ يعود على موسى، وقيل: على انطلاقه للتكليمِ إذ المواعدة تقتضيه، وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام، لما خرج ببني إسرائيل من مصْرَ، قال لهم: إن اللَّه تعالى سينجِّيكم من آل فرعَوْنَ، وينفلكم حُلِيَّهُمْ، ويروى أن استعارتهم للحُلِيِّ كانت بغير إذن موسى- عليه
(١) ينظر: «النكت والعيون» (١/ ١٢٠).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٤٢).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٤٢).
237
السلام- وهو الأشبه به، ويؤيِّده ما في سورة طه في قولهم لموسى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً [طه: ٨٧]، فظاهرُهُ أنهم أخبروه بما لم يتقدَّم له به شعورٌ، ثم قال لهم موسى: إنه سينزل اللَّه عليَّ كتابًا فيه التحليلُ والتحريمُ والهدى لكم، فلما جازوا البحر، طلبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب، فخرج لميعاد ربه وحده، وقد أعلمهم بالأربعين ليلةً، فعدوا عشرين يوماً بعشرين ليلة، وقالوا: هذه أربعون من الدهر، وقد أَخْلَفَنَا المَوْعِدَ، وبدا تعنُّتهم وخلافُهم، وكان السامريُّ رجلاً من بني إسرائيل يسمى موسى بْنَ ظفر، ويقال: إِنه ابْنُ خالِ موسى، وقيل: لم يكن من بني إسرائيل، بل كان غريباً فيهم، والأول أصحُّ، وكان قد عرف جبريلَ عليه السلام وقت عبورهم، قالت طائفة: أنكَرَ هَيْئَتَهُ، فعرف أنه ملَكٌ، وقالت طائفة: كانت أم السامريِّ ولدته عام الذبْحِ، فجعلته في غَارٍ وأطبقت عليه، فكان جبريل عليه السلام يَغْذُوهُ بأصبع نفسه، فيجد في أصبع لَبَناً وفي أصبع عَسَلاً، وفي أصبع سَمْناً، فلما رآه وقت جواز البحْرِ، عرفه، فأخذ من تحت حافرِ فرسه قبضةَ ترابٍ، وألقى في روعِهِ أنه لن يلقيها على شيء، ويقول له: كن كذا إلا كان، فَلَمَّا خرج موسى لميعاده، قال هارون لبنِي إسرائيل: إِن ذلك الحُلِيَّ والمتاعَ الذي استعرتم من القِبْط لا يحلُّ لكم، فَجِيئوا به حتى تأكله النار التي كانت العادةُ أن تنزل على القرابين.
وقيل: بل أوقد لهم ناراً، وأمرهم بطرح جميعِ ذلك فيها، فجعلوا يطرحون.
وقيل: بل أمرهم أن يضعوه في حُفْرة دُون نار حتى يجيء موسى، وروي، وهو الأصحُّ الأكثر أنه ألقى الناسُ الحُلِيَّ في حفرة، أو نحوِها، وجاء السامريُّ، / فطرح القبضة، وقال: كن عجلاً.
وقيل: إن السامريَّ كان في أصله من قوم يعبدون البقر، وكان يعجبه ذلك.
وقيل: بل كانت بنو إسرائيل قد مرَّت مع موسى على قوم يعبدون البَقَرَ.
ت: والذي في القرآن: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف: ١٣٨]، قيل:
كانت على صور البقر، قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨]، فوعاها السامريُّ، وعلم أن من تلك الجهة يفتنون، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل، وظلَّت منهم طائفةٌ يعبدونه، فاعتزلهم هارونُ بمن تبعه، فجاء موسى من ميعاده، فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه، إن شاء اللَّه تعالى، ثم أوحى اللَّه إِليه أنه لن يتوب على بني إِسرائيل حتى يقتلوا أنفسهم، ففعلَتْ بنو إِسرائيل ذلك، فروي أنهم لبسوا السلاح مَنْ عَبَدَ منهم، ومن لم يَعْبُد، وألقى اللَّه عليهم الظلام، فقتل بعضهم بعضاً، يقتل الأب ابنه،
238
والأخ أخاه، فلما استحر فيهم القتْلُ، وبلغ سبعين ألفاً، عفا اللَّه عنهم، وجعل من مات شهيداً، وتاب على البقية فذلك قوله سبحانه: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ وقال بعض المفسِّرين:
وقف الذين عبدوا العجْلَ صفًّا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح، فقتلوهم، وقالت طائفة: جلس الذين عبدوا بالأفْنِيَةِ، وخرج يُوشَعُ بنُ نُونٍ ينادي: ملعونٌ مَن حَلَّ حُبْوَتَهُ «١»، وجعل الذين لم يعبدوه يقتلونهم، وموسى صلّى الله عليه وسلم في خلالِ ذلك يدعو لقومه، ويَرْغَبُ في العفو عنهم، وإِنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال لأنهم لم يغيِّروا المُنْكَرَ حين عُبِدَ العِجْلُ.
وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحالِ، والعفو تغطيةُ الأثر، وإِذهابُ الحالِ الأول من الذنب أو غيره.
ت: ومنه الحديثُ: «فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تعفي أَثَرَهَا».
قال ع «٢» : ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذَّنْبِ، والكتابُ هنا هو التوراةُ بإجماع، واختلف في الفُرْقَانِ هنا، فقال الزجَّاج وغيره: هو التوراة أيضاً كرر المعنى لاختلاف اللفظ، وقال آخرون: الكتاب التوراةُ، والفرقانُ سائر الآيات التي أوتي موسى عليه السلام لأنها فَرَقَتْ بين الحق والباطل، واختلف هل بقي العجْلُ مِنْ ذَهَب؟
فقال ذلك الجمهور، وقال الحسن بن أبي الحسن: صار لحماً ودماً، والأول أصحُّ.
ت: وقوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ عن أبي العالية: إلى خالقكم «٣» مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الخَلْقَ، أي: خلقهم، فالبريئة: فَعِيلَةٌ بمعنى مفعولة. انتهى من «مختصر أبي عبد الله اللّخميّ النحوي للطبريّ».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى: يريد السبعين الذين اختارهم موسى، واختلف
(١) الحبوة والحبوة: الثوب الذي يحتبى به، والاحتباء هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها. ينظر: «لسان العرب» (٧٦٥).
(٢) «المحرر الوجيز» (١/ ١٤٤).
(٣) السيوطي في «الدر» (١/ ١٣٦)، وعزاه لابن أبي حاتم.
239
في وقت اختيارهمْ.
فحكى أكثر المفسِّرين أن ذلك بعد عبادة العجل، فاختارهم ليستغفِروا لبني إسرائيل، وحكى النقَّاش وغيره أنه اختارهم حين خَرَجَ من البحْرِ، وطلب بالميعاد، والأول أصح.
وقصة السبعين أنَّ موسى عليه السلام، لما رجع من تكليم اللَّه تعالى، ووجد العجْلَ قد عُبِدَ، قالتْ له طائفة ممَّن لم يعبد العجلَ: نحن لم نكْفُرْ، ونحن أصحابك، ولكنْ أسمعْنَا كلام ربِّك، فأوحى اللَّه إِليه أن اختَرْ منهم سَبْعِينَ، فلم يجد إلا ستِّين، فأوحى إليه أن اختر من الشباب عَشَرةً، ففعل، فأصبحوا شيوخاً، وكان قد اختار ستَّةً من كلِّ سبط، فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحُّوا فيمن يتأخَّر، فأُوحِيَ إِليه أنَّ من تأخّر له أجر من ٢١ أمضى، فتأخَّر يوشَعُ بْنُ نُونٍ، وكَالُوثُ بْنُ يُوفَنَّا، وذهب موسى عليه السلام/ بالسبْعين، بعد أن أمرهم أن يتجنَّبوا النساء ثلاثاً، ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى الجَبَلَ، فألقي عليهم الغمام، قال النَّقَّاش: غشيتهم سحابة، وحِيلَ بينهم وبين موسى بالنور، فوقعوا سجوداً، قال السُّدِّيُّ وغيره: وَسَمِعوا كلامَ اللَّهِ يأمر وينهى، فلم يطيقوا سماعه، واختلطتْ أذهانهم، ورَغِبُوا أن يكون موسى يسمع ويعبِّر لهم، ففعل، فلما فرغوا، وخرجوا، بدَّلت منهم طائفةٌ ما سمعت من كلام اللَّهِ، فذلك قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة: ٧٥] واضطرب إيمانهم، وامتحنهم اللَّه تعالى بذلك، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، ولم يطلبوا من الرؤية محالاً أما إِنه عند أهل السُّنَّة «١» ممتنعٌ في الدنيا من طريق السمع،
(١) اتفقت كلمة الأشاعرة على جواز رؤيته (تعالى) عقلا في الدنيا والآخرة، بمعنى أنه تعالى يجوز أن ينكشف لعباده المؤمنين من غير ارتسام صورة، ولا اتصال شعاع، ولا حصول في جهة ومقابلة.
واستدلوا على ذلك بأدلة نقلية وأدلة عقلية، فلنذكر الأدلة النقلية لأنها الأصل في هذا الباب، وهي أكثر من أن تحصى، والمعتمد منها عند أهل السنة قوله تعالى حكاية عن سيدنا موسى- عليه السلام- في ميقات المناجاة: قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: ١٤٣].
تنطق الآية الكريمة بمسألة تتعلق بالذات الأقدس، وهي مسألة الرؤية، ولم يحدد النطق الكريم الحكم فيها، بل ترك لذوي العقول البحث.
فكان القول بجوازها ووقوعها، وكان القول باستحالتها وعدم وقوعها، ولم يكن لصاحب كل قول من الآية الكريمة ما يعتمد عليه صريحا، بل كل مستند له هو الركون إلى اللغة تارة، واللجوء إلى الدليل العقلي أخرى. غير أن أهل السنة نظروا إلى ظروف الآية وما سيقت لأجله، فكانت عضدا قويا ركنوا إليه. -
240
فأخذتهم حينئذ الصاعقةُ، فاحترقوا وماتوا موْتَ همودٍ يعتبر به الغير، وقال قتادة: ماتوا،
- فالآية الكريمة تقول: لقد وعى موسى- عليه السلام- لمناجاتنا، ورفعناه إلى هذا المستوي واتصل بالأفق الأعلى، وانتهى من الإنسانية إلى الذروة العليا، وشهد من أمر الله ما لم يصل غيره إلى تعقله بأقوى الأدلة والبراهين، وأنزله هذه المنزلة، ووقف في ساحة جلاله وحظائر قدسه ومساقط أنوار جماله وذاق حلاوة خطابه.
أليس يطلب إلى ربه أن يمتعه بالنظر إلى ذاته الأقدس ليجمع بين حلاوة الكلام وجمال الرؤية، ويؤيد أن الحامل لموسى- عليه السلام- على طلب الرؤية عوامل الشوق ما روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: «جاء موسى- عليه السلام- ومعه السبعون رجلا، وصعد موسى الجبل، وبقي السبعون في أسفل الجبل، فكلم الله موسى، وكتب له في الألواح كتابا، وقربه نجيّا، فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، نعم طلبها بعامل الشوق، وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، ولم يكن موسى قد جرى في هذه القضية على غير المألوف، حيث جعل النظر مسببا عن الرؤية، والحال أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته، فهي متأخرة عنها إذ الغرض رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ: مكني من رؤيتك، فأنظر إليك، وأراك، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم. نعم أقدم موسى على طلب النظر إلى الذات الأقدس، وانتظر ما يكون من أمر الله، وقد وقع عليه عمود من الغمام، وتغشى الجبل جلال الرب وسمع النطق الكريم لَنْ تَرانِي عند هذه الآية الكريمة تقف المعتزلة رافعة الرأس، ولو أنهم لاحظوا ما كان من حب موسى واصطفاء الله له، لم ينصرف ذهنهم إلى المنع من مطالعة الذات الأقدس، بل المتبادر إلى الذهن «لن تقوى على رؤيتي وأنت على ما أنت عليه، لتوقفها على استعداد في الرائي، ولم يوجد في موسى- عليه السلام- وقت الطلب يشهد لهذا ما أخرجه الترمذي في «نوادر الأصول» عن ابن عباس «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية فقال: قال الله تعالى: «يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسامهم».
كذلك يدل على أن التأبيد المستفاد من قوله تعالى: لَنْ تَرانِي إنما هو موقوف على عدم تغيير الحال يؤيد ذلك ما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس، وفيه يقول: «يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا، قال موسى:
رب أن أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا»
وقد نبّه جل شأنه بقوله: لَنْ تَرانِي على وجود المانع، وهو الضعف عن تحملها، حيث أراه ضعف من هو أقوى منه وتفتته عند ما تجلى عليه الرب وغشيه ذو الجلال والإكرام.
فكان الجبل وتماسكه وعاد الجبل متقوص الأركان متداخل الأجزاء سقيم القوام، وكان موسى فاقد الحياة لطلبه هذه المرئية من الانكشاف، وهو باق على حاله.
أفاق موسى واسترد حياته، وقال: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: ١٤٣] أنزهك من أن أسألك شيئا بغير إذنك تبت عن الإقدام وأنا أول المؤمنين بأن لا يراك أحد في هذه النشأة، وليس كما يزعم الخصم من أن التوبة دليل العصيان، فكان موسى يعلم امتناعها وقد طلبها وهي ممتنعة. بل تاب من طلب الرؤية بغير إذن، وكيف لا يتوب وهو الرب صاحب الجبروت، وهو موسى المصطفى الكليم.
وقد قيل قديما: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) - إلى هنا كان حتما أن نبين أن أهل السنة كانوا في غيبة عن أدلة الجواز، لكن دفعهم أن ما سيكون من الأدلة على الوقوع سمعي فحسب، قد يأتيها الخصم بمنع إمكان المطلوب لأجل هذا مهدوا الطريق للوقوع، فبرهنوا على الجواز بالأدلة النقلية والعقلية، -
241
وذهبت أرواحهم، ثم رُدُّوا لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود، جعل موسى
- وكان سلوكهم بهذا الطريق كافيا في الاستدلال على الوقوع بالدليل النقلي، وتفصيل ذلك مذكور في كتب العقائد.
وكذلك اتفقت كلمة الأشاعرة على وقوع رؤيته (تعالى) في الآخرة، واستدلوا على ذلك بالكتاب، والسنة، والإجماع:
أما دلالة الكتاب: فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: ٢٢- ٢٣] فالآية صريحة في أن وجوه المؤمنين المخلصين يوم القيامة متهللة من عظيم المسرة، يشاهد عليها نضرة النعيم. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أن تراه مستغرقة في مطالعة جماله، بحيث تغفل عما سواه ففي حديث جابر، وقد رواه ابن ماجة: «فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحجب عنهم» والحجاب من قبلهم لا من قبله (عز وجل)، فهذا يدل على أن المراد من النظر حقيقته، وهو الرؤية.
ووجه الاحتجاج في الآية الكريمة: أن النظر في الآية جاء موصولا بإلى، وكل ما كان كذلك فهو بمعنى الرؤية، فالنظر في الآية بمعنى الرؤية.
أما الصغرى، فدليلها الآية، وأما الكبرى، فيستدل لها بشهادة النقل عن أئمة اللغة وتتبع موارد الاستعمال، فقد نقل عن أهل اللغة أن للنظر معان عدة يتميز بعضها عن بعض بواسطة التعدية فقد جاء النظر بمعنى الانتظار متعديا بنفسه قال الله تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: ١٣] أي:
انتظرونا، وقول الشاعر: [الوافر]
وإن يك صدر هذا اليوم ولى فإن غدا لناظره قريب
أي ينتظره.
وجاء بمعنى التفكر ويستعمل ب «في» يقال: نظرت في الأمر الفلاني، أي تفكرت فيه: وجاء بمعنى الرأفة والتعطف، ويتعدى باللام، يقال: نظر الأمير لفلان، أي رأف به وتعطف.
وجاء بمعنى الرؤية، ويستعمل ب «إلى» قال الشاعر: [الطويل]
نظرت إلى من أحسن الله وجهه فيا نظرة كادت على رامق تقضي
ومثل ذلك النظر في الآية إذ جاء موصولا ب «إلى»، فيجب حمله على الرؤية، فتكون واقعة في ذلك اليوم، وهو المطلوب. ولا يعكر أن النظر المستعمل ب «إلى» يأتي بمعنى آخر غير الرؤية كالتأخير كما في قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: ٢٨٠]. لأن لفظة «إلى» في الآية ليست صلة للنظر، بل لبيان المدة.
وقد اعترضت المعتزلة هذا الدليل، فمنعت صغراه (النظر في الآية موصول بإلى) قالوا: لا نسلم أن النظر في الآية موصول ب «إلى» لأنها ليست حرفا، بل هي اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء، ومفعول به للنظر، يشهد لذلك ما قيل عن أهل اللغة أن الآلاء واحدها آلى، وأيلى، وألو، وألى، وإلى. قال الأعشى:
أبيض لا يرهبه النزال ولا يقطع رحما ولا يخون إليّ
أي نعمة أو بمعنى «عند» يؤيده قول الشاعر:
فهل لكم فيما إلى فإنني طبيب بما أعيى النطاس حذيما
أي فيما عند. -[.....]
242
يناشد ربَّه فيهم، ويقول: أيْ ربِّ، كيف أرجع إِلى بني إِسرائيل دونهم، فيَهْلِكُون، ولا يؤمنون بي أبداً، وقد خرجوا، وهم الأخيار.
قال ع «١» : يعني: هم بحال الخير وقْتَ الخروج، وقال قومٌ: بل ظن موسى أنَّ السبعين، إِنما عوقبوا بِسَبَبِ عبادة العجْلِ، فذلك قوله: أَتُهْلِكُنا [الأعراف: ١٥٥]، يعني السبعين: بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الأعراف: ١٥٥] يعني: عَبَدَةَ العجلِ، وقال ابن فورك:
يحتمل أن تكون معاقبة السبعين لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه بقولهم لموسى:
أَرِنَا [النساء: ١٥٣] وليس ذلك من مقدورِ موسى عليه السلام.
قال ع «٢» : ومن قال: إن السبعين سَمِعُوا ما سمع موسى، فقد أخطأ، وأذهب فضيلةَ موسى، واختصاصه بالتكليم.
وجَهْرَةً: مصدر في موضع الحالِ «٣»، والجهرُ العلانيةُ، ومنه الجهر ضد السر،
- ومعنى الآية على الأول: منتظرة نعمة ربها، وعلى الثاني: عند ربها منتظرة نعمته.
أجاب أهل السنة عند المنع:
أولا: لو أريد من النظر في الآية انتظار النعمة لما خص بإسناده إلى الوجوه التي هي محل الأعين- بالباصرة، ولم يكن للتعدية بالظرف معنى فإن المؤمنين في دار الدنيا منتظرون نعمته تعالى، وكذلك الكفار.
ثانيا: أن جعل «إلى» بمعنى النعمة في هذا المقام يخالف المعقول لأن الانتظار يعد من الآلام كيف وقد قيل: إنه الموت الأحمر؟! ويخالف المنقول أيضا إذ روي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى جناته وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجه الله غدوة وعشية» ثم قرأ (عليه الصلاة والسلام) : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: ٢٢- ٢٣] والله ما نسخها منذ أنزلها.
ثالثا: إن الانتظار أمارة الغم وعدم الاطمئنان، وقد قيل كما سبق أنه الموت الأحمر، وهذا يخالف ما سيقت لأجله الآية من التبشير للمؤمنين بالإنعام وحسن الحال وفراغ البال، وذلك إنما يكون برؤيته تعالى، فإنها من أجلّ النعم والكرامات المستتبعة لنضارة الوجوه.
وما يقوله المعتزلة من أن ترتب الغم على الانتظار أمر عادي يجوز تخلفه في الآخرة حيث إنها دار خوارق العادات، على أنه إنما يكون غما إذا لم يكن مقطوعا بما يترتب عليه من حصول النعم كيف وهو وعد من لا يخلف وعده، فمدفوع بأن هذا خروج عن السنن الكونية فقد جرت عادة الله (تعالى) أن يبشر خلقه وينذرهم بما يعلمونه لذة وعذابا بحسب العادة، ولذا لم يقع التبشير بالنار والإنذار بالجنة مع إمكان أن يخلق الله اللذة في النار والعذاب والألم في الجنة.
ينظر: الرؤية لشيخنا عبد الفضيل طلبة ص ٤٠ وما بعدها.
(١) «المحرر الوجيز» (١/ ١٤٧).
(٢) السابق.
(٣) قوله تعالى: جَهْرَةً فيه قولان:
243
وجَهَرَ الرَّجُلُ الأَمْرَ: كشفه، وفي «مختصر الطبريِّ» عن ابن عبَّاس: جَهْرَةً: قال علانيةً «١»، وعن الربيع: جَهْرَةً: عياناً «٢». انتهى.
وقوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: أجاب اللَّه تعالى فيهم رغبةَ موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمودِ، أو الموت ليستوفوا آجالهم، وتاب عليهم، والبعث هنا الإثارة، ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أي: على هذه النعمة، والترجِّي إِنَّمَا هو في حق البَشَر.
وذكر المفسِّرون في تظليل الغمامِ أنَّ بني إِسرائيل، لما كان من أمرهم ما كان من القتل، وبقي منهم من بقي، حصلوا في فحص «٣» التِّيه بَيْن مصْر والشَّام، فأُمِرُوا بقتال الجَبَّارين، فَعَصَوْا، وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: ٢٤] فدعا موسى عليهم، فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحْص أربعين سَنَةً يتيهون في مقدارِ خَمْسَة فراسِخَ أو ستَّةٍ، روي أنهم كانوا يمشون النهار كلَّه، وينزلون للمبيت، فيصبحون حيثُ كانوا بكرةَ أَمْسِ، فندم موسى على دعائه عليهم، فقيل له: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: ٢٦].
- أحدهما: أنها مصدر وفيها حينئذ قولان:
أحدهما: أنّ ناصبها محذوف، وهو من لفظها، تقديره: جهرتم جهرة، نقله أبو البقاء.
والثاني: أنها مصدر من نوع الفعل فتنتصب انتصاب القرفصاء من قولك: «قعد القرفصاء»، «واشتمل الصمّاء»، فإنها نوع من الرؤية، وبه بدأ الزمخشري.
والثاني: أنها مصدر واقع موقع الحال، وفيها حينئذ أربعة أقوال:
أحدهما: أنه حال من فاعل «نرى» أي: ذوي جهرة، قاله الزمخشري.
والثاني: أنّها حال من فاعل «قلتم»، أي: قلتم ذلك مجاهرين، قاله أبو البقاء، وقال بعضهم: فيكون في الكلام تقديم وتأخير، أي: قلتم جهرة لن نؤمن لك، ومثل هذا لا يقال فيه تقديم وتأخير، بل أتى بمفعول القول ثم بالحال من فاعله، فهو نظير: «ضربت هندا قائما».
والثالث: أنّها حال من اسم الله تعالى، أي: نراه ظاهرا غير مستور.
والرابع: أنّها حال من فاعل «نؤمن» نقله ابن عطية، ولا معنى له، والصحيح من هذه الأقوال الستة الثاني.
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٢٢٩).
(١) أخرجه الطبري (١/ ٣٣٨) برقم (٩٤٨)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٣٦)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣٣٩) برقم (٩٤٩).
(٣) الفحص: ما استوى من الأرض. وفي حديث كعب: «إن الله بارك في الشام، وخص بالتقديس من فحص الأردن إلى رفح» والفحص- هنا- ما بسط من نهر الأردن، وكشف من نواحيه. ينظر: «لسان العرب» (٣٣٥٦).
244
وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التِّيه، ونشأ بنوهم على خير طاعة، فهم الذين خرجوا من فحْصِ التيه، وقاتلوا الجَبَّارين، وإذ كان جميعُهم في التيه، قالوا لموسى: من لنا بالطعامِ؟ قال: اللَّه، فأنزل اللَّه عليهم المَنَّ والسلوى، قالوا: مَنْ لنا من حَرِّ الشمس؟
فظلَّل عليهم الغمامَ، قالوا: بِمَ نستصْبِحُ بالليل، فضَرَبَ لهم عمودَ نُورٍ في وَسَطَ مَحَلَّتهم، وذكر مكِّيٌّ عمود نار، قالوا: من لنا بالماء؟ / فأمر موسى بضرب الحَجَرِ، قالوا: من لنا ٢١ ب باللباس، فَأُعْطُوا ألاَّ يبلى لهم ثوبٌ، ولا يَخْلَقَ، ولا يَدْرَنَ، وأن تنمو صِغَارُهَا حَسَب نُمُوِّ الصبيانِ، والمَنُّ صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ هذا قول فرقةٍ، وقيل: هو عسل، وقيل: شراب حُلْوٌ، وقيل: الذي ينزل اليوْمَ على الشجَر، وروي أنَّ المَنَّ كان ينزل عليهم من طُلُوع الفَجْر إلى طُلُوع الشمس كالثلج، فيأخذ منه الرجُلُ ما يكفيه ليومه، فإِنِ ادَّخَرَ، فسد عليه إِلا في يوم الجمعة فإِنهم كانوا يدَّخرون ليوم السبْتِ، فلا يفسد عليهم لأن يوم السبت يومُ عبادةٍ.
والسلوى طيرٌ بإِجماع المفسّرين، فقيل: هو السّمانى.
وقيل: طائر مثل السّمانى.
وقيل: طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجَنُوب.
ص «١» : قال ابن عطيَّة: وغلط الهُذَلِيُّ «٢» في إِطلاقه السلوى على العَسَلِ حيث قال: [الطويل]
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ عَهْداً لأنْتُمُ أَلَذُّ مِنَ السلوى إِذَا مَا نَشُورُهَا
«٣» ت «٤» : قد نقل صاحبُ المختصر أنه يطلق على العَسَلِ لغةً فلا وجه
(١) «المجيد» ص (٢٥٩).
(٢) خويلد بن خالد بن محرّث، أبو ذؤيب، من بني هذيل بن مدركة، من «مضر» : شاعر فحل، مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وسكن «المدينة»، واشترك في الغزو والفتوح. وعاش إلى أيام عثمان.
قال البغدادي: هو أشعر هذيل من غير مدافعة. وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم ليلة وفاته، فأدركه وهو مسجّى، وشهد دفنه.
ينظر: «الأغاني» (٦/ ٥٦)، «الشعر والشعراء» (٢٥٢)، و «خزانة البغدادي» (١/ ٢٠٣)، و «الأعلام» (٢/ ٣٢٥).
(٣) البيت لأبي ذؤيب، وأنشده ابن منظور في «اللسان» لخالد بن زهير ينظر: «ديوان الهذليين» (١/ ١٥٨)، و «اللسان» (سلا)، و «البحر المحيط» (١/ ٣٦٤)، و «القرطبي» (١/ ٤٠٧)، و «الدر المصون» (١/ ٢٣٠)، و «روح المعاني» (١/ ٢٦٤).
(٤) لا زال الكلام للصفاقسي.
245
لتغليظه لأنَّ إِجماع المفسِّرين لا يمنع من إِطلاقِهِ لغةً بمعنى آخر في غير الآية. انتهى.
وقوله تعالى: كُلُوا... الآية: معناه: وقلنا: كلوا، فحذف اختصارا لدلالة الظاهر عليه، والطَّيِّبَاتُ، هنا جَمَعَتِ الحلال واللذيذ.
ص «١» : وقوله: وَما ظَلَمُونا: قدَّر ابن عطية قبل هذه الجملةِ محذوفًا، أي:
فَعَصوْا، وما ظَلَمُونا، وقدَّر غيره: فظَلَمُوا، ومَا ظَلَمُونَا، ولا حاجَة إِلى ذلك لأن ما تقدَّم عنهم من القبائِح يُغْنِي عنه. انتهى.
ت: وقول أبي حَيَّان: «لا حاجة إلى هذا التقدير... » إِلى آخره: يُرَدُّ بأن المحذوفاتِ في الكلام الفصيحِ هذا شأنها لا بد من دليل في اللفظ يدلُّ عليها إلا أنه يختلف ذلك في الوضوحِ والخفاءِ، فأما حذف ما لا دليل عليه، فإنه لا يجوز.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ.
الْقَرْيَةَ: المدينةُ سمِّيت بذلك لأنها تَقَرَّتْ، أي: اجتمعت ومنه: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ، أي: جمعته، والإِشارة بهذه إِلى بيت المقدس في قول الجمهور.
وقيل: إلى أريحا، وهي قريبٌ من بيت المَقْدِس، قال عمر بن شبّة «٢» : كانت
(١) «المجيد» (ص ٢٥٩).
(٢) عمر بن شبّة- واسمه زيد- بن عبيدة بن ريطة النميري، البصري، أبو زيد، شاعر، راوية، مؤرخ، حافظ للحديث، من أهل «البصرة». توفي ب «سمراء» سنة (٢٦٢) هـ، له تصانيف، منها: «كتاب الكتاب»، و «النسب»، و «أخبار بني نمير»، و «أخبار المدينة» جزء منه، و «تاريخ البصرة»، و «أمراء الكوفة»، و «أمراء البصرة»، و «أمراء المدينة»، و «أمراء مكة»، و «كتاب السلطان»، و «مقتل عثمان»، و «السقيفة»، و «جمهرة أشعار العرب»، و «الشعر والشعراء»، و «الأغاني».
ينظر: «الأعلام» (٥/ ٤٧- ٤٨)، و «تهذيب التهذيب» (٧/ ٤٦٠)، و «الوفيات» (١/ ٣٧٨). [.....]
246
قاعدةً، ومسْكنَ ملوكٍ، ولما خرج ذريةُ بني إِسرائيل من التِّيه، أُمِرُوا بدخول القرية المشار إِلَيْها، وأما الشيوخ، فماتوا فيه، وروي أن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التِّيه، وحكى الزجَّاج «١» عن بعضهم أنهما لم يكونا في التِّيه لأنه عَذَابٌ، والأول أكْثَرُ.
ت: لكن ظاهر قوله: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: ٢٥] يقوِّي ما حكاهُ الزجَّاج، وهكذا قال الإمام الفخر»
. انتهى.
وفَكُلُوا: إِباحة، وتقدَّم معنى الرَّغَد، وهي أرض مباركة عظيمة الغلّة، فلذلك قال: رَغَداً.
والْبابَ: قال مجاهد: هو باب في مدينة بَيْت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطّة «٣»، وسُجَّداً: قال ابن عبَّاس: معناه: ركوعاً «٤»، وقيل: متواضعين خضوعاً، والسجودُ يعم هذا كلَّه، وحِطَّة: فِعْلَةٌ من حَطَّ يَحُطُّ، ورفعه على خبر ابتداء «٥» كأنهم قالوا: سؤالُنَا حِطَّة لذنُوبِنَا، قال عكرمة و، غيره: أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا: «لا إِله إِلاَّ اللَّهُ» لتحطَّ بها ذنوبُهُمْ «٦»، وقال ابن عَبَّاس: قيل/ لهم: استغفروا، وقولوا ما يحطُّ ذنوبكم «٧».
ت: قال أحمد بن نصرٍ «٨» الدَّاوُودِيُّ في «تفسيره» :«وروي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم سار
(١) ينظر: «معاني القرآن» (٢/ ١٦٥).
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١١/ ١٥٩).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٣٣٩) برقم (١٠٠٤).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٣٣٩) برقم (١٠٠٨)، والحاكم (٢/ ٢٦٢)، وصححه، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٣٨)، وعزاه لوكيع، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم.
(٥) قال الزجاج: ولو قرىء «حطة» كان وجهها في العربية، كأنهم قيل لهم: قولوا: احطط عنا ذنوبنا حطة.
معاني القرآن (١/ ١٣٩).
وقد فات الزجاج أن إبراهيم بن أبي عبلة قرأها بالنصب، كما في «المحرر الوجيز» (١/ ١٥٠)، و «البحر المحيط» (١/ ٣٨٤)، و «الدر المصون» (١/ ٢٣٢)، و «الشواذ» لابن خالويه (ص ١٣).
(٦) أخرجه الطبري (١/ ٣٤٠) برقم (١٠١٦)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٣٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم. كلاهما عن عكرمة. وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (١/ ٤٧)، بلفظ: «لا إله إلّا الله».
(٧) أخرجه الطبري (١/ ٣٤١) برقم (١٠١٧)، بلفظ: «أمروا أن يستغفروا».
(٨) أحمد بن نصر، أبو حفص الداودي، فقيه مالكي. له كتاب «الأموال» في أحكام أموال المغانم والأراضي التي يتغلب عليها المسلمون.
ينظر: «الأعلام» (١/ ٢٦٤).
247
مَعَ أَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: قُولُوا: نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ، إِنَّهَا للْحِطَّةُ الَّتِي عُرِضَتْ على بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَقُولُوهَا» انتهى.
وحكي عن ابن مَسْعود وغيره أنهم أمروا بالسُّجود، وأن يقولوا: حِطَّةٌ، فَدَخَلُوا يزْحفُونَ على أَسْتَاهِهِمْ، ويَقُولُونَ: حِنْطَةٌ حَبَّةٌ حَمْرَاءُ فِي شَعْرَةٍ، ويروى غير هذا من الألفاظ.
وقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ عِدَةٌ: المعنى: إِذا غُفِرَتِ الخطايا بدخولكم وقولِكُمْ، زِيدَ بعد ذلك لمن أحسن، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أُمِرَ، وقال: لا إله إلا اللَّه، فقيل: هم المراد ب الْمُحْسِنِينَ هنا.
وقوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا... الآية.
روي أنهم لما جاءوا الباب، دخلوا من قبل أدبارهم القهقرى، وفي الحديث: أنهم دَخَلوا يَزْحَفُونَ على أَسْتَاهِهِمْ، وبدَّلوا، فقالوا: حَبَّة في شَعْرَة، وقيل: قالوا: حِنْطَة حبَّة حمراء في شَعْرة، وقيل: شعيرة، وحكى الطبريُّ أنهم قالوا: «هَطِّي شَمْقَاثَا أَزْبَه» وتفسيره ما تقدَّم وفي اختصار الطبريِّ، وعن مجاهد قال: أمر موسى قومَهُ أنْ يدخلوا الباب سُجَّداً، ويقولُوا: حِطَّة، وطؤطئ لهم البابُ ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حِنْطَة «١».
وذكر عزَّ وجلَّ فعل سلفهم تنبيها أنّ تكذيبهم لمحمّد صلّى الله عليه وسلم جَارٍ على طريق سلَفهم في خلافهم على أنبيائهم، واستخفافهم بهم، واستهزائهم بأمر ربِّهم. انتهى.
والرِّجْز العَذَابُ، قال ابن زيد وغيره: فبعث اللَّه على الذينَ بدَّلوا الطاعونَ، فأذهب منهم سبْعِينَ أَلْفاً، وقال ابن عبَّاس «٢» : أمات اللَّه منهم في ساعةٍ واحدةٍ نيِّفاً على عشرينَ ألفا.
واسْتَسْقى: معناه: طلب السُّقْيَا، وَعُرْفُ «استفعل» طلَبُ الشيءِ، وقد جاء في غير ذلك كقوله تعالى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: ٦]، وكان هذا الاستسقاءُ في فحْصِ التيه، فأمره اللَّه تعالى بضرب الحَجَر آيةً منه، وكان الحَجَرُ من جبل الطور على قدر رأس
(١) أخرجه الطبري (١/ ٣٤٤) برقم (١٠٢٨)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٣٩)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣٤٥) برقم (١٠٤١) بنحوه. وذكره الماوردي في «التفسير» (١/ ١٢٧) بنحوه.
248
الشاة، يلقى في كِسْر جُوَالِقَ «١»، ويرحل به، فإذا نزلُوا وضع في وَسَط محلَّتهم، وضربه موسى، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحَجَر لكنَّهم كانوا يجدُونه في كلِّ مرحلة في منزلته من المرحَلَة الأولى، وهذا أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجراً مربَّعاً منْفَصِلاً تطَّرد من كلِّ جهة منه ثلاثُ عُيُونٍ، إِذا ضربه موسى، وإِذا استغنَوْا عن الماءِ، ورحَلُوا، جفَّت العيون، وفي الكلام حذفٌ تقديره: فضربه، فانفجرت، والانفجار: انصداع شيء عن شَيْء ومنه: الفَجْر، والانبجاس في الماء أقلُّ من الانفجار.
وأُناسٍ: اسم جمع، لا واحد له من لفظه، ومعناه هنا: كلُّ سِبْطٍ لأن الأسباط في بني إِسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرِّية الاثْنَيْ عَشَرَ أولادُ يعقُوبَ عليه السلام.
وقوله سبحانه: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ... الآية.
ت: رُوِّينَا من طريق أنس، بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إنَّ اللَّهَ ليرضى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» رواه مُسْلِمٌ، والترمذيُّ، والنسائِيُّ «٢». انتهى.
والمَشْرَبُ: موضع الشُّرْب، وكان لكلِّ سبطٍ عَيْنٌ من تلك العيون، لا يتعداها.
وَلا تَعْثَوْا: معناه: ولا تُفْرِطُوا في الْفَسَادِ.
ص «٣» : مُفْسِدِينَ: حالٌ مؤكِّدة لأن: «لاَ تَعْثَوْا» : معناه: / لا تفسدوا. ٢٢ ب انتهى.
(١) الجوالق والجوالق: وعاء من الأوعية معروف معرب.
ينظر: «لسان العرب» (٦٦٢).
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ٢٠٩٥)، كتاب «الذكر والدعاء»، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، حديث (٨٩/ ٢٧٣٤)، والترمذي (٤/ ٢٦٥)، كتاب «الأطعمة»، باب ما جاء في الحمد على الطعام إذا فرغ منه، حديث (١٨١٦)، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٠٢) كتاب «الدعاء بعد الأكل»، باب ثواب الحمد لله، حديث (٦٨٩٩)، وأحمد (٣/ ١٠٠، ١١٧)، وأخرجه أيضا الترمذي في «الشمائل»، رقم (١٩٥)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٦٥- بتحقيقنا)، كلهم من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ولا نعرفه إلا من حديث زكريا بن أبي زائدة.
(٣) «المجيد» (ص ٢٧١).
249

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦١ الى ٦٤]

وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ... الآيةَ: كان هذا القول منهم في التيه حينَ ملُّوا المَنَّ والسلوى، وتذكَّروا عيشهم الأول بمصْرَ، قال ابنُ عَبَّاس وأكثر المفسِّرين: الفُومُ: الحِنْطَة «١»، وقال قتادة، وعطاء: الفوم: جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز «٢»، وقال الضحَّاك: الفوم: الثُّوم، وهي قراءة عبد اللَّه بن مسعود، وروي ذلك عن ابن عبَّاس «٣»، والثاء تُبْدَلُ من الفاءِ كما قالوا: مَغَاثِيرُ ومَغَافِير «٤».
ت: قال أحمد بن نصر الدَّاوُوديُّ: وهذا القولُ أشبه لما ذكر معه، أي: من العَدَسِ والبَصَلِ. انتهى.
وأَدْنى: قال عليُّ بن سليمان الأخْفَشُ «٥». مأخوذٌ من الدّنيء البيّن الدناءة بمعنى:
(١) أخرجه الطبري (١/ ٣٥٢) برقم (١٠٧٦) قال أحمد شاكر: «ابن كريب» ضعيف، وقد بين القول في ضعفه في «شرح المسند» (٢٥٧١). وأبوه كريب بن أبي مسلم «تابعي ثقة». اهـ.
وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٤١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣٥١) برقم (١٠٧١) عن قتادة.
(٣) ذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٤١) عن ابن عباس بنحوه، وعزاه لابن أبي حاتم. وذكره في موضع آخر عن ابن عباس بلفظ «قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفا من قراءة ابن مسعود هذا أحدها: «من بقلها وقثائها وثومها» وعزاه في هذا الموضوع لابن أبي داود.
(٤) المغافير: صمغ شبيه بالناطف ينضحه العرفط والرمث. الواحد مغفور ومغثور.
ينظر: «لسان العرب» (٣٢٧٥).
(٥) علي بن سليمان بن الفضل، أبو المحاسن، المعروف ب «الأخفش الأصغر» : نحوي، من العلماء. من أهل بغداد، أقام ب «مصر» سنة (٢٨٧- ٣٠٠ هـ.)، وخرج إلى «حلب»، ثم عاد إلى «بغداد»، وتوفي بها وهو ابن ٨٠ سنة. له تصانيف، منها: «شرح سيبويه»، و «الأنواء»، و «المهذب»، وكان ابن الرومي مكثرا من هجوه. توفي سنة (٣١٥ هـ.).
انظر: «بغية الوعاة» (٣٣٨)، و «وفيات الأعيان» (١: ٣٣٢)، و «الأعلام» (٤/ ٢٩١).
250
الأَخَسِّ، إلا أنه خُفِّفَت همزته، وقال غيره: هو مأخوذ من الدُّون، أي: الأحط فأصله أَدْوَن، ومعنى الآية: أَتَسْتَبْدِلُونَ البَقْلَ، والْقِثَّاءَ، والفُومَ، وَالعَدَسَ، والبَصَلَ الَّتي هى أدنى بالمَنِّ والسلْوَى الذي هو خيرٌ.
وجمهور النَّاس يقرءون «مِصْراً» بالتنوين «١»، قال مجاهدٌ وغيره: أراد مِصْراً من الأمصار غير معيَّن «٢»، واستدلُّوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهَرَتْ به الرواياتُ أنهم سكنوا الشَّام بعد التيه، وقالت طائفة: أراد مِصْرَ فِرْعَونَ بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أنَّ اللَّه أورَثَ بني إسْرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، قال في «مختصر الطبريِّ» : وعلى أن المراد مصْر التي خرجُوا منها، فالمعنى: إنَّ الذي تطلُبُونَ كان في البَلَد الَّذي كان فيه عذابُكُم، واستعبادكم، وأسْركم، ثمَّ قال: والأظهر أنهم مُذْ خرجوا من مصْر، لم يرجعوا إليها، واللَّه أعلم. انتهى.
وقوله تعالى: فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم، ووَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ «٣» معناه: الزموها كما قالت العرب: ضربة لازب، وَباؤُ بِغَضَبٍ: معناه: مروا متحمِّلين له، قال الطبري: باءوا به، أي: رجعوا به، واحتملوه، ولا بد أن يوصل بَاءَ بخير أو بشرٍّ. انتهى.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأشارة ب ذلِكَ إلى ضرب الذلَّة وما بعدهُ، وقوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ تعظيم
(١) وقرأ «مصر» بغير تنوين في هذه الآية الأعمش، كما في مختصر الشواذ لابن خالويه (ص ١٤).
كما قرأ بها طلحة بن مصرف والحسن وأبان بن تغلب، وقيل: هي كذلك في مصحف أبي بن كعب ومصحف عبد الله وبعض مصحاف عثمان. كما في «البحر المحيط» (١/ ٣٩٦- ٣٩٧)، و «الدر المصون» (١/ ٢٤١).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣٥٤) برقم (١٠٨٥) بلفظ: «مصرا من الأمصار، زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر» اهـ.
(٣) قوله تعالى: الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ يعني: فقر النفس. قال السمين الحلبي: والمراد بها هنا الجزية والصغار. «عمدة الحفاظ» (٢/ ٢٣٩). وقال الحسن وقتادة: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ هي أنهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال عطاء بن السائب: هي الكستينج (لبس اليهود) وزي اليهودية، والْمَسْكَنَةُ: زي الفقر، فترى المثرى منهم يتباءس مخافة أن يضاعف عليه الجزية، ولا يوجد يهودي غني النفس.
ينظر: «الوسيط» (١/ ١٤٧)، و «الطبري» (٢/ ١٣٧)، و «البغوي» (١/ ٦٦)، و «ابن كثير» (١/ ١٠٢)، و «الدر المنثور» (١/ ٧٣).
251
للشنعة «١»، والذَّنْب، ولم يجرم نبيٌّ قطُّ ما يوجبُ قتله، وإنما التسليطُ عليهم بالقَتْل كرامةٌ لهم، وزيادةٌ لهم في منازلهم صلى اللَّه عليهمْ كَمَثَلِ مَنْ يُقْتَلُ في سبيلِ اللَّهِ من المؤمنين، والباء في «بِمَا» باء السبب.
ويَعْتَدُونَ: معناه: يتجاوزون الحُدُود، والاعتداء هو تجاوُزُ الحدِّ.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ... الآية.
اختلف في المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا في هذه الآية.
فقالت فرقة: الذين آمنوا هم المؤمنون حقّا بنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم، وقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يكون فيهم بمعنى مَنْ ثَبَتَ ودَامَ، وفي سائر الفرق: بمعنى: مَنْ دخَلَ فيه، وقال السُّدِّيُّ: هم أهل الحنيفيَّة ممَّن لم يلحق محمّدا صلّى الله عليه وسلم، والذين هَادُوا، ومن عطف عليهم كذلك ممَّن لم يلحق محمّدا صلّى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهودُ، وسُمُّوا بذلك لقولهم:
هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: ١٥٦]، أي: تبنا، وَالنَّصارى لفظةٌ مشتقَّة من/ النَّصْرِ.
قال ص «٢» : وَالصَّابِئِينَ: قرأ الأكثر بالهمز صَبَأَ النَّجْمُ، والسِّنُّ، إِذا خرج، أي: خَرَجُوا من دينٍ مشهورٍ إِلى غيره، وقرأ نافع «٣» بغير همز، فيحتمل أن يكون من المهموز المُسَهَّل، فيكون بمعنى الأول، ويحتمل أن يكون مِنْ صَبَا غيْرَ مهموزٍ، أي: مَالَ ومنه: [الهزج]
إلى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي... وهند مثلها يصبي «٤»
انتهى.
قال ع «٥» : والصّابئ في اللغة: من خرج من دين إلى دين.
وأما المشار إليهم في قوله تعالى: وَالصَّابِئِينَ فقال السديُّ: هم فرقة من أهل
(١) الشّنعة: الاسم من الشناعة، وشنع الأمر أو الشيء شناعة وشنعا وشنعا وشنوعا: قبح.
ينظر: «لسان العرب» (٢٣٣٩).
(٢) «المجيد» (ص ٢٨٠).
(٣) ينظر: «السبعة» (١٥٧)، و «الحجة للقراء السبعة» (٢/ ٩٤)، و «حجة القراءات» (١٠٠)، و «شرح شعلة» (٢٦٥)، و «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٣٩٦).
(٤) البيت لزيد بن ضبة، وهي في «اللسان» صبا.
(٥) «المحرر الوجيز» (١/ ١٥٧).
252
الكتاب «١»، وقال مجاهد: هم قوم لا دِينَ لهم «٢»، وقال ابنُ جْرَيْج «٣» : هم قوم تركب دينهم بين اليهوديَّة والمجوسيَّة «٤»، وقال ابنُ زَيْد: هم قومٌ يقولون لا إله إلا اللَّه، وليس لهم عمل ولا كتابٌ كانوا بجزيرةِ المَوْصِلِ «٥»، وقال الحسنُ بْنُ أبي الحسن، وقتادة: هم قوم يعبدون الملائكةَ، ويصلُّون الخمْسَ إلى القبلة، ويقرءون الزَّبُور رَآهُمْ زيادُ بن أبي سفيان «٦»، فأراد وضع الجزْيَة عنْهم حتَّى عُرِّفَ أنهم يعبدون الملائكَةَ «٧».
وقوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ... الآية: الطُّورَ: اسم الجبلِ الَّذي نُوجِيَ موسى عليه السلام عليه. قاله ابنُ عبَّاس «٨»، وقال مجاهدٌ وغيره: الطُّورَ: اسمٌ لكلِّ جبلٍ «٩»، وقصص هذه الآية أنَّ موسى عليه السلام، لما جاء إلى بني إسرائيل من عنْد اللَّه تعالى بالألواح، فيها التوراة، قال لهم: خُذُوهَا، والتزموها، فقَالُوا: لا، إِلاَّ أنْ يكلَّمنا اللَّهُ بهَا كما كلَّمك، فصُعِقُوا، ثم أُحْيُوا، فقال لهم: خُذُوها، فقالوا: لاَ، فأمر اللَّه الملائكَةَ، فاقتلعت جَبَلاً من جبالِ فِلَسْطِينَ «١٠» طولُه فَرْسَخٌ في مثله، وكذلك كان
(١) أخرجه الطبري (١/ ٣٦١) برقم (١١١٢)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٤٦)، وعزاه لوكيع.
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣٦٠) برقم (١١٠١) بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (١/ ٤٧)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٤٥)، وعزاه لوكيع، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....]
(٣) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالد المكي، الفقيه، أحد الأعلام. عن ابن أبي مليكة، وعكرمة مرسلا، وعن طاوس مسألة، ومجاهد، ونافع، وخلق، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري أكبر منه، والأوزاعي، والسفيانان، وخلق. قال أبو نعيم: مات سنة خمسين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ١٢)، «تهذيب التهذيب» (٦/ ٤٠٢)، «تهذيب الكمال» (٢/ ١٧٨)، «الكاشف» (٢/ ٢١٠)، «الثقات» (٧/ ٩٣).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٣٦٠) برقم (١١٠٧).
(٥) أخرجه الطبري (١/ ٣٦٠) برقم (١١٠٨).
(٦) زياد بن أبيه، وأبيه أبو سفيان، أمير من الدهاة، القادة الفاتحين، الولاة من أهل «الطائف» أدرك النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يره، وأسلم في عهد أبي بكر، ولد في (اهـ.) قال الشعبي: ما رأيت أحدا أخطب من زياد، توفي في (٥٣ هـ.)
ينظر: «ميزان الاعتدال» (١: ٣٥٥)، «الأعلام» (٣/ ٥٣).
(٧) أخرجه الطبري (١/ ٣٦١) برقم (١١٠٩)، (١١١٠) عن الحسن وقتادة.
(٨) أخرجه الطبري (١/ ٣٦٦- ٣٦٧) برقم (١١٢٥).
(٩) أخرجه الطبري (١/ ٣٦٦) برقم (١١١٨)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٤٦)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(١٠) فلسطين: آخر كور «الشام» من ناحية «مصر»، قصبتها «بيت المقدس»، ومن مشهور مدنها «عسقلان»، -
253
عسْكَرهم، فجعل عليهم مثْلَ الظُّلَّة، وأخرج اللَّه تعالى البَحْرَ من ورائهم، وأضرم نَاراً من بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم: خذوها، وعليكُم الميثَاقُ، ولا تضيِّعوها، وإِلا سقط علَيْكم الجبَلُ، وأغرقكم البَحْر، وأحرقتكم النارُ، فَسَجَدُوا توبةً للَّه سبحانه، وأخذوا التوراةَ بالميثاقِ، قال الطبريُّ عن بعض العلماء: لو أخذوها أوَّلَ مرَّة، لم يكُنْ عليهم ميثاقٌ، وكانت سجدتهم على شِقٍّ لأنهم كانوا يرقبون الجَبَل خوْفاً، فلما رحمهم اللَّه سبحانه، قالوا: لا سجدَةَ أفضلُ من سَجْدة تقبَّلها اللَّه، ورَحِمَ بها، فأَمَرُّوا سجودَهم على شِقٍّ واحدٍ.
قال ع «١» : والذي لا يصحُّ سواه أن اللَّه تعالى اخترع وقْتَ سجودهم الإِيمان في قلوبهم، لا أنهم آمنوا كُرْهاً، وقلوبهم غيرُ مطمئنة، قال: وقد اختصرْتُ ما سرد في قصصِ هذه الآية، وقصدت أَصَحَّهُ الذي تقتضيه ألفاظُ الآية، وخلط بعْضُ الناس صَعْقَةَ هذه القصَّة بصَعْقة السبعين.
وبِقُوَّةٍ: قال ابن عباس: معناه: بجِدٍّ واجتهاد «٢».
وقال ابن زيد: معناه: بتصديق وتحقيق «٣».
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ، أي: تدبُّروه واحْفَظُوا أوامره ووعيدَهُ، ولا تنسوه، ولا تضيِّعوه.
وقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ... الآية: تولَّى: أصله الإِعراض والإِدبار عن الشيء بالجِسْمِ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمورِ، والأديانِ، والمعتقداتِ اتِّساعاً ومجازاً، وتَوَلِّيهِمْ من بعد ذلك: إما بالمعاصِي، فكان فضل اللَّه بالتوبة والإِمهال إِلَيْها، وإما أن يكون تَوَلِّيهم بالكُفْر، فلم يعاجلْهم سبحانه بالهَلاَكِ لِيَكُونَ من ذرِّيَّتهم من يؤمن.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
- و «الرملة»، و «غزة»، و «أرسوف»، و «قيسارية»، و «نابلس»، و «أريحا»، و «عمان» و «يافا»، و «بيت جبرين»، وهي أول أجناد «الشام»، أولها من ناحية الغرب «رفح» وآخرها «اللجون» من ناحية الغور.
ينظر: «مراصد الاطلاع» (٣/ ١٠٤٢).
(١) «المحرر الوجيز» (١/ ١٥٩).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣٦٧) برقم (١١٣١) عن السدي، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٤٦) وعزاه لابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٣٦٨) برقم (١١٣٢) بلفظ: «خذوا الكتاب الذي جاء به موسى بصدق وبحق».
254
وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ... الآية: علمتمْ:
معناه: عرفتم، والسَّبْتُ مأْخوذٌ من السُّبُوت الَّذِي هو الراحةُ والدَّعَة، وإِما من السبت، وهو القَطْع لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتمَّت خِلْقَتُها، وقصَّة اعتدائهم فيه/ أن الله عز وجلّ أمر ٢٣ ب موسى عليه السلام بيَوْمِ الجُمُعَةِ، وعرَّفه فَضْلَه، كما أمر به سائر الأنبياءِ صلواتُ اللَّه عَلَيْهِمْ، فذكر موسى ذلك لبني إِسرائيل عن اللَّه سبحانه، وأمرهم بالتشرُّع فيه، فأبوا وتعدَّوْه إلى يوم السَّبْت، فأوحى اللَّه إلى موسى أنْ دَعْهم، وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم بأنْ أمرهم بترك العَمَل فيه، وحرَّم عليهم صَيْدَ الحِيتَانِ، وشدَّد عليهم المِحْنَة بأن كانت الحِيتَانُ تأتي يوم السبْتِ حتى تخرج إلى الأفنية، قاله الحسن بن أبي الحسن.
وقيل حتى تخرج خراطيمُهَا من الماء، وذلك إِما بإِلهامٍ من اللَّه تعالى، أو بأمر لا يعلَّل، وإما بأن ألهمها معنى الأَمَنَةِ التي في اليومِ، مع تكراره كما فَهِمَ حمام مَكَّة الأَمَنَةَ، وكان أمر بني إِسرائيل بِأَيْلَةَ «١» على البحْر، فَإِذا ذهب السَّبْت، ذهبت الحيتان، فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقُوا على ذلك زماناً حتى اشْتَهَوُا الحُوتَ، فعَمَدَ رجُلٌ يوم السبْتِ، فربط حوتاً بخزمة «٢»، وضرب له وَتِداً بالساحل، فلما ذهب السَّبْتُ، جاء، فأخذه، فسَمِع قومٌ بفعْلِهِ، فصنعوا مثْلَ ما صنع.
وقيل: بل حفر رجُلٌ في غير السَّبْت حَفِيراً يخرج إِلَيْه البحر، فإِذا كان يوم السبت، خرج الحوت، وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر، ذهب الماء من طريق الحفير، وبقي الحوت، فجاء بعد السبت، فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك حتى صادره يوم السبت علانيةً، وباعوه في الأسواقِ، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إِسرائيل فرقةٌ نهَتْ عن ذلك، فنجَتْ من العقوبة، وكانت منهم فرقةٌ لم تَعْصِ، ولم تَنْهَ، فقيل:
نجت مع الناهين، وقيل: هلَكَتْ مع العاصين.
وكُونُوا: لفظةُ أمر، وهو أمر التكوينِ كقوله تعالى لكُلِّ شَيْءٍ: كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] قال ابن الحاجب «٣»
(١) أيلة: مدينة على ساحل بحر «القلزم» مما يلي «الشام». قيل: هي آخر الحجاز وأول «الشام». وهي مدينة اليهود، الذين اعتدوا في السبت. ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ١٣٨).
(٢) الخزم: شجر له ليف تتخذ من لحائه الحبال، الواحدة خزمة.
ينظر: «لسان العرب» (١١٥٣). [.....]
(٣) عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو، جمال الدين ابن الحاجب: فقيه مالكي، من كبار-
255
في مختصره الكَبِيرِ المسمى ب «منتهى الوُصُولِ» «١» : صيغةُ: افعل، وما في معناها قد صَحَّ إِطلاقها بإزاء خمسةَ عَشَرَ محملاً.
الوجوبُ: أَقِمِ الصَّلاةَ [الإسراء: ٧٨] والنَّدْبُ: فَكاتِبُوهُمْ [النور: ٣٣].
والإِرشادُ: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة: ٢٨٢] والإِباحةُ: فَاصْطادُوا [المائدة: ٢].
والتأديب: «كُلْ مِمَّا يَلِيكَ». والامتنانُ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأنعام: ١٤٢].
والإِكرامُ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ [ق: ٣٤] والتَّهديد: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] والإِنذار: تَمَتَّعُوا [إبراهيم: ٣٠] والتسخيرُ: كُونُوا قِرَدَةً [الأعراف: ١٦٦] والإِهانة:
كُونُوا حِجارَةً [الإسراء: ٥٠] والتَّسويةُ: فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا [الطور: ١٦] والدعاءُ:
اغْفِرْ لَنا [آل عمران: ١٤٧] والتمنِّي: [الطويل] :
... أَلاَ انجلي... «٢»
وكمالُ القدرة: كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢]. انتهى.
وزاد غيره كونها للتعجيزِ، أعني: صيغةَ «افعل».
قال ابن الحاجِبِ: وقد اتفق على أنها مجازٌ فيما عَدَا الوُجُوبَ والنَّدْبَ والإِباحةَ والتهديدَ، ثم الجمهورُ على أنها حقيقةٌ في الوجوب «٣». انتهى.
- العلماء بالعربية، كردي الأصل. ولد في «أسنا» (من صعيد مصر) ونشأ في «القاهرة»، وسكن «دمشق»، وكان أبوه حاجبا، فعرف به، له تصانيف كثيرة منها: «الكافية» في النحو، و «الشافية» في الصرف. ولد سنة (٥٧٠ هـ.)، وتوفي سنة (٦٤٦ هـ.).
ينظر: «وفيات» (١: ٣١٤)، «الطالع السعيد» (١٨٨)، «مفتاح السعادة» (١: ١١٧)، «غاية النهاية» (١: ٥٠٨)، «الأعلام» (٤/ ٢١١).
(١) ينظر: «البرهان» (١/ ٢١٢)، «المحصول» (١/ ٢/ ٦٢)، «الأحكام» للآمدي (١/ ١٢٢)، «المستصفى» (١/ ٤٢٠)، «التمهيد» للأسنوي (٢٦٩)، «المنخول» (١٠٥)، «شرح العضد» (٢/ ٧٩)، «شرح الكوكب» (٢/ ٤١)، «المعتمد» (١/ ٥٧)، «التبصرة» (٢٧)، «كشف الأسرار» (١/ ١٠٧)، «حاشية البناني» (١/ ٣١٦)، «فواتح الرحموت» (١/ ٣٧٢)، «تيسير التحرير» (١/ ٣٥١)، «أصول السرخسي» (١/ ١٥)، «الوصول إلى الأصول» (١/ ١٣٣)، «تقريب الوصول» (٩٣)، «ميزان الأصول» (١/ ٢١٧).
(٢) البيت لامرىء القيس في ديوانه ص (١٨) و «الأزهية» ص (٢٧١) و «خزانة الأدب» (٢/ ٣٢٦، ٣٢٧) و «سرّ صناعة الإعراب» (٢/ ٥١٣)، و «لسان العرب» (١١/ ٣٦١) (شلل) و «المقاصد النحويّة» (٤/ ٣١٧) وبلا نسبة في «أوضح المسالك» (٤/ ٩٣) و «جواهر الأدب» ص (٧٨) و «رصف المباني» ص (٧٩) و «شرح الأشموني» (٢/ ٤٩٣).
(٣) ولطلب الفعل صيغ مختلفة نوردها فيما يلي:
256
وخاسِئِينَ: معناه: مُبْعَدِينَ أذلاَّء صاغِرِينَ كما يقال للكَلْب، وللمطْرُود:
اخسأ، وروي في قصصهم أنَّ اللَّه تعالى مسخ العاصِينَ قردَةً في الليل، فأصبح الناجون
- ١- فعل الأمر: وذلك بصيغته المعروفة مثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [الحج: ٧٨].
٢- صيغة المضارع المقترن ب «لام الأمر» مثل قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥].
ومثل: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: ٢٩].
ومثل: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق: ٧].
٣- صيغة المصدر القائم مقام فعل الأمر: مثل قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [المائدة: ٨٩].
ومثل قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: ٤].
٤- جملة خبرية يراد بها الطلب: مثل قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: ٢٣٣].
إذ ليس المراد من هذا النّصّ الإخبار عن حصول الإرضاع من الوالدات لأولادهن، وإنما المراد هو أمر الوالدات بإرضاع أولادهن، وطلب إيجاده منهن.
ومثل قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: ١٤١].
فإن الظاهر من هذه الآية أنها للخبر، وإنما المراد بها أمر المؤمنين ألا يمكّنوا الكافرين من التّجبّر عليهم، والتّكبّر بأية صفة كانت.
ومثل قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشّيخان: «لا تنكح البكر حتّى تستأذن».
وقد اتّفق الأصوليون على أنّ صيغة الأمر تستعمل في مدلولات كثيرة، لكن لا تدلّ على واحد من هذه المدلولات بعينه إلا بقرينة، وهذه المدلولات هي كما ذكرها المصنف رحمه الله.
وقد اختلفت آراء العلماء في تعداد هذه الصّيغ زيادة، ونقصا، وسبب ذلك تداخل هذه الصّيغ مع بعضها، واختلاف وجهات النّظر في المعنى، وفي القرينة الّتي تحدّد وجه الاستعمال.
واتّسعت دائرة الاختلاف بين العلماء والأصوليين فيما يدلّ عليه الأمر حقيقة حيث إنّ دوران الأمر على أوجه كثيرة- كما سبق- لا يدلّ على أنّه حقيقة في كلّ منها.
فإذا ورد أمر من الأوامر في القرآن الكريم، أو في السّنّة النّبويّة، فهل يعتبر هذا الأمر دالّا على الوجوب؟
أم النّدب؟ أم الإباحة؟ أم لمعنى آخر؟
إن خصوصيّة التّعجيز، والتّحقير، والتّسخير... وغير هذه المعاني غير مستفاد من مجرّد صيغة الأمر، بل إنّما تفهم هذه المعاني من القرائن، وعليه فلا خلاف في أنّ صيغة الأمر ليست حقيقيّة في جميع الوجوه السّابقة.
وللعلماء آراء متعدّدة في دلالة الصيغة على الوجوب، أو على الندب، أو على غيرهما، فقد اتفق العلماء على أن صيغة الأمر لا تدلّ على أي معنى من المعاني المتقدمة إلا بقرينة، كما قلنا سابقا.
وقد اختلفوا فيما إذا تجرّدت هذه الصّيغة عن القرينة، فهل تدل على الوجوب؟ أم على النّدب؟ أم على الإباحة؟
المذهب الأوّل: وهو لجمهور العلماء حيث ذهبوا إلى أن صيغة «افعل» تدلّ على الوجوب حقيقة، -
257
إلى مساجِدِهِمْ، ومجتمعاتِهِمْ، فلم يروا أحداً من الهالكينَ، فقالوا: إِن للنَّاس لشأناً، ففتحوا عليهم الأبوابَ لما كانت مغْلَقة باللَّيْل، فوجدوهم قردَةً يعرفون الرجُلَ والمرأة.
وقيل: إن الناجينَ كانُوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القريَةَ بجِدَارٍ تَبَرِّياً منهم، فأصبحوا، ولم تفتحْ مدينةُ الهالكين، فتسوَّروا عليهم الجدارَ، فإِذَا هم قردةٌ يثبُ بعضهم ٢٤ أعلى بعض/.
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وثبت أنَّ المُسُوخَ لا تنسل، ولا تأكل، ولا تشرَبُ، ولا تعيشُ أكثَرَ من ثلاثة أيام «١»، ووقع في كتاب مسلم عنه صلّى الله عليه وسلم «أنّ أمّة من الأمم فقدت، وأراها
- مجازا فيما سواه، أي: في النّدب والإباحة، وسائر المعاني المستعملة فيها الصيغة، وهذا مذهب الشافعي، واختاره ابن الحاجب في «المختصر»، والبيضاويّ في «المنهاج».
المذهب الثّاني: ويعزى لأبي هاشم الجبّائي، وهو وجه عند الشافعية حيث ذهبوا إلى أن صيغة الأمر حقيقة في الندب، مجاز فيما سواه.
المذهب الثّالث: يرى أن صيغة الأمر حقيقة في الإباحة، وهو التخيير بين الفعل والتّرك، فهي لا تدلّ إلا على الجواز حقيقة لأنه هو المتيقن، فعند خلوّه عن القرينة يكون حقيقته في الإباحة، مجازا فيما سواها.
المذهب الرّابع: ويعزى للماتريديّ حيث يرى أن صيغة الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو الطّلب لأن كلا من الوجوب والندب طلب، ويزاد قيد الجزم في جانب الوجوب لأنه الطلب الجازم، والندب غير جازم.
المذهب الخامس: وفيه تكون صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب والنّدب اشتراكا لفظيّا.
المذهب السّادس: يرى أن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب، والنّدب، والإباحة.
المذهب السّابع: يرى أن صيغة الأمر حقيقة في القدر المشترك بين هذه الأنواع الثلاثة، وهو الإذن. نصّ عليه أبو عمرو بن الحاجب.
المذهب الثّامن: وإليه ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، والآمديّ حيث كانوا يتوقّفون عن القول بأن الصيغة تدلّ على الوجوب، أو على الندب لأن الصيغة استعملت في الوجوب تارة، وفي النّدب أخرى، فقالوا بالتوقّف.
قال الآمديّ: ومنهم من توقّف، وهو مذهب الأشعري (رحمه الله تعالى) ومن تبعه من أصحابه كالقاضي أبي بكر، والغزالي، وغيرهما، وهو الأصح.
المذهب التّاسع: يرى أن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب، والندب، والإباحة، والإرشاد، والتهديد.
وقيل: صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب، والنّدب، والتحريم، والكراهة، والإباحة فهي مشتركة بين الأحكام الخمسة، ووجهة دلالة الصيغة على التحريم والكراهة فإنها تستعمل في التّهديد، وهو يستلزم ترك الفعل المهدّد عليه، وهو إما محرم، أو مكروه.
ينظر: «الإحكام» للآمدي (٢/ ٩)، و «التيسير شرح التحرير» (٢/ ٤٩).
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ١٤٧) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
258
الفأر»، وظاهر هذا أنَّ المسوخ تنسل، فإن كان أراد هذا، فهو ظنّ منه صلّى الله عليه وسلم في أمر لا مَدْخَلَ له في التبليغِ، ثم أوحي إِلَيْه بعد ذلك أنَّ المسوخ لا تنسل ونظير ما قلناه نزوله صلّى الله عليه وسلم على مياهِ بَدْرٍ وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: إذا أخبرتكم عنِ اللَّهِ تعالى، فهو كما أخبرتكم، وإذا أخبرتكم برأْيِي في أمور الدنيا، فإنما أنا بشر مثلكم، والضمير في فَجَعَلْناها يَحتَمِلُ عوده على المسخة والعقوبة، ويحتمل علَى الأُمَّة الَّتِي مُسِخَتْ، ويحتمل على القِرَدَةِ، ويحتمل على القرية إِذ معنى الكلام يقتضيها، والنَّكال:
الزجر بالعقاب، ولِما بَيْنَ يَدَيْها. قال السُّدِّيُّ: ما بين يَدَيِ المسخة مَا قَبْلَهَا من ذنوب القَوْم، وما خَلْفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب «١»، وقال غيره: ما بين يدَيْها من حضرها من الناجين، وما خلفها، أي: لمن يجيءُ بعدها «٢»، وقال ابن عبَّاس: لما بين يديها وما خلْفَها من القرى «٣».
وَمَوْعِظَةً: من الاتعاظ، والازدجار، ولِلْمُتَّقِينَ: معناه: الذين نَهَوْا وَنَجَوْا، وقالتْ فرقةٌ: معناه: لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، واللفظ يَعُمُّ كُلَّ مُتَّقٍ من كلِّ أُمَّةٍ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٣]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ... الآية: المراد تذكيرهم بنقْضِ سلفهم للميثاقِ، وسبب هذه القصَّة على ما روي أن رجلاً من بني إسرائيل أَسَنّ، وكان له مالٌ، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل: أخوه، وقيل: ابنا عمه، وقيل: ورثةٌ غيْرُ معيَّنين، فقتله ليرثه، وألقاه في سبط آخر غير سبطه ليأخذ ديته، ويلطّخهم بدمه.
(١) ذكره ابن عطية في «التفسير» (١/ ١٦١)، والماوردي (١/ ١٣٦).
(٢) ذكره ابن عطية في «التفسير» (١/ ١٦١).
(٣) ذكره ابن عطية (١/ ١٦١)، وقد رجح هذا الخبر الذي رواه ابن عباس.
259
وقيل: كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاهُ إِلى باب إِحدى القريتَيْن، وهي التي لم يُقْتَلْ فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلاً، فتعلَّق بالسبط، أوْ بسكَّان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء «١» حتى دخلوا في السِّلاح، فقال أهل النهى، منهم: أَنَقْتَتِلُ ورسُولُ اللَّهِ معنا، فذهبوا إلى موسى عليه السلام، فقصُّوا علَيْهِ القصَّة، وسألوهُ البيانَ، فأوحى اللَّه تعالى إِليه أن يذبحوا بقرةً، فيُضْرَبُ القتيل ببعضها، فيحيى ويُخْبِرُ بقاتله، فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، فكان جوابهم أنْ قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً وهذا القول منهم ظاهره فسادُ اعتقادٍ مِمَّنْ قاله، ولا يصحُّ إيمان من يقول لِنبيٍّ قد ظهرتْ معجزته، وقال: إن اللَّه يأمرُ بكذا: أنتخذُنَا هُزُواً، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لوجب تكفيره.
وذهب قوم إلى أنَّ ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء، وقول موسى عليه السلام: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
أحدهما: الاستعاذةُ من الجهل في أن يخبر عن اللَّه تعالى مستهزئاً.
والآخر: من الجهل كما جهلوا في قولهم.
٢٤ ب وقوله تعالى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ/... الآيةَ: هذا تعنيتٌ منهم، وقلَّةُ طواعية، ولو امتثلوا الأمر، فاستعرضوا بقرةً فذبحُوها، لَقَضَوْا ما أمروا به، ولكن شدَّدوا، فشَدَّدَ اللَّهُ علَيْهم قاله ابن عَبَّاسٍ وغيره «٢».
والفارض: المسنَّة الهَرِمَة، والبِكْر من البقر: التي لم تلدْ من الصغر، ورفعت «عَوَانٌ» على خبر ابتداءِ مضمرٍ، تقديره: هي عَوَانٌ، والعَوَانُ التي قد وَلَدَتْ مرَّةً بعد مرّة.
قال م: قال الجَوْهَرِيُّ «٣» : والعَوَانُ: النَّصَفُ في سِنِّها من كل شيْء، والجمعُ عون. انتهى.
(١) اللّحاء- ممدود-: الملاحاة كالسّباب، ولاحى الرّجل وملاحاة ولحاء: شاتمه. ولاحيته ملاحاة ولحاء:
إذا نازعته. ينظر: «لسان العرب» (٤٠١٥).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣٨٩) برقم (١٢٣٩)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٥١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. كلاهما عن ابن عباس.
(٣) إسماعيل بن حماد الجوهري، كان من أعاجيب الزمان ذكاء، وفطنة، وعلما، كان إماما في اللغة والأدب، قرأ على ابن علي الفارسي، والسيرافي. له: «الصحاح»، و «مقدمة في النحو»، مات سنة ٣٩٣ هـ.
ينظر: «البغية» (١/ ٤٤٦، ٤٤٧). [.....]
260
ت: قال الشيخُ زين الدين عبد الرحيم بن حُسَيْنٍ العَراقيُّ «١» في نظمه لغريب القُرآن جمع أبي حيان: [الرجز]
معنى «عَوَانٌ» نَصَفٌ بَيْنَ الصِّغَرْ وَبَيْنَ مَا قَدْ بَلَغَتْ سِنَّ الْكِبَرْ
وكل ما نقلته عن العِرَاقِيِّ منظوماً، فمن أرجوزته هذه.
وقوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ تجديدٌ للأمر، وتأكيدٌ وتنبيهٌ على ترك التعنُّت، فما تركوه. قال ابنُ زَيْد: وجمهورُ الناسِ في قوله: صَفْراءُ أنَّها كانت كلُّها صفراء، وفي «مختصر الطبريِّ» : فاقِعٌ لَوْنُها أي: صافٍ لونُها. انتهى.
والفقوعُ مختصٌّ بالصفرة كما خُصَّ أحمر بقانئ، وأسْوَدُ بحالِك، وأبْيَضُ بناصِع، وأخْضَرُ بناضِرٍ، قال ابن عبَّاس وغيره: الصفرة تسر النفْسَ، وسأَلُوا بعد هذا كلِّه عن ما هي سؤال متحيِّرين، قد أحسُّوا مقْتَ المعصية «٢».
وفي استثنائهمْ في هذا السؤالِ الأخيرِ إنابةٌ مَّا، وانقيادٌ، ودليلُ ندمٍ وحِرْصٌ على موافقة الأمر. ورُوِيَ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «لَوْلاَ مَا استثنوا، مَا اهتدوا إليها أبدا» «٣».
(١) عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم، محدث الديار المصرية، ذو التصانيف المفيدة، زين الدين أبو الفضل، العراقي الأصل، الكردي. ولد سنة (٧٢٥)، أحب الحديث، وسمع كثيرا، وولع بتخريج أحاديث «الإحياء»، ورافق الزيلعي الحنفي، وكان مفرط الذكاء، أكثر الرحلة والسماع، أخذ عنه الهيثمي، وغيره كابن حجر وبرهان الدين الحلبي، صنف «ألفية الحديث» وعمل نكتا على ابن الصلاح، وشرع في تكملة شرح الترمذي تذييلا على ابن سيد الناس. ت (٨٠٦).
ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (٤/ ٢٩)، «الضوء اللامع» (٤/ ١٧١)، «إنباء الغمر» (٥/ ١٧٠).
(٢) ذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١٦٣).
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١/ ٢٢٣)، رقم (٧٢٧)، والبزار (٣/ ٤٠- كشف)، رقم (٢١٨٨)، وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» (١/ ١١١)، كلهم من طريق عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن بني إسرائيل قالوا: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة: ٧٠] لما أعطوا، ولكن استثنوا» وقال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٦/ ٣١٩) : رواه البزار، وفيه عباد بن منصور، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات.
وقال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ١٥٠)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
وللحديث شاهد مرسل عن عكرمة.
ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ١٥٠)، وعزاه إلى سعيد بن منصور، والفريابي، وابن المنذر.
261
وقوله: لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ، أي: غير مذللة بالعمل والرياضة، وتُثِيرُ الْأَرْضَ معناه: بالحراثة، وهي عند قوم جملةٌ في موضعِ رفعٍ على صفة البقرة، أي: لا ذلول مثيرة، وقال قوم: «تُثِيرُ» فعلٌ مستأنفٌ والمعنى إيجاب الحرث، وأنها كانت تحرُثُ، ولا تسقي، ومُسَلَّمَةٌ: بناء مبالغة من السلامة قال ابن عبَّاس وغيره: معناه: من العيوب «١»، وقال مجاهد: معناه: من الشّيات والألوان «٢»، وقيل: من العمل «٣».
ولا شِيَةَ فِيها، أي: لا خلاف في لونها هي صفراء كلُّها قاله ابن زيد وغيره، والمُوَشَّى المختلِطُ الألوان، ومنه: وَشْيُ الثَّوْب: تزينه بالألوان، والثَّوْرُ الأَشْيَهُ الذي فيه بلقة يقال: فرس أَبْلَقُ، وكبش أَخْرَجُ، وتَيْسٌ أَبْرَق، وكَلْبٌ أبقع، وثور أشبه كل ذلك بمعنى البلقة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شدَّدوا، فشدَّد اللَّه عليهم، ودينُ اللَّه يُسْر، والتعمُّق في سؤال الأنبياء مذمومٌ، وقصَّة وجود هذه البقرة على ما روي أنَّ رجلاً من بني إِسرائيل ولد له ابنٌ، وكانت له عِجْلَةٌ، فأرسلها في غيضة «٤»، وقال: اللهم، إني قد استودعتُكَ هذه العِجْلَةَ لهذا الصبيِّ، ومات الرجُلُ، فلما كبر الصبيُّ، قالت له أمه: إِن أباك كان قد استودع اللَّه عِجْلَةً لكَ، فاذهب، فخذْها، فلما رأَتْه البقَرَة، جاءت إلَيْه حتى أخذ بقرنَيْها، وكانت مستوحشةً، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على الصِّفَة التي أمروا بها، فلمَّا وجدت البقرة، ساموا صاحبها، فاشتطّ عليهم، فأتوا به موسى ٢٥ أعليه السلام وقالوا له: إِن هذا اشتطَّ علينا، فقال لهم موسى: أرضُوهُ في مِلْكِه. / فاشتروها منه بوزنها مرّة قاله عبيدة السّلمانيّ «٥»،
(١) أخرجه الطبري (١/ ٣٩٤- ٣٩٥) برقم (١٢٦٢- ١٢٦٣- ١٢٦٤)، عن قتادة وأبي العالية، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٥٢) عن أبي العالية، وعزاه لابن جرير.
(٢) ذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١٩٤).
(٣) ذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١٦٤).
(٤) الغيضة: الأجمة، وهي مغيض ماء يجتمع فينبت فيه الشجر. ينظر: «لسان العرب» (٣٣٢٧).
(٥) أخرجه الطبري (١/ ٣٩٨) برقم (١٢٩٠) عن عبيدة السلماني من طريق محمد بن سيرين. كما أخرجه عبد الرزاق في التفسير (١/ ٤٩).
وهو عبيدة بن عمرو السّلماني، قبيلة من «مراد». مات النبي صلّى الله عليه وسلم وهو في الطريق. عن علي، وابن مسعود. وعنه الشعبي، والنخعي، وابن سيرين. قال ابن عيينة: كان يوازي شريحا في القضاء والعلم.
قال أبو مسهر: مات سنة اثنتين وسبعين. وقال الترمذي: سنة ثلاث.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٢٠٧)، «طبقات ابن سعد» (٦/ ٩٣)، «سير أعلام النبلاء» (٤/ ٤٠)، «العبر» (١/ ٧٩)، و «التقريب» (١/ ٥٤٧).
262
وقيل: بوزنها مرتَيْنِ «١». وقيل: بوزنها عشْرَ مرَّات «٢»، وقال مجاهد: كانت لرجل يبَرُّ أمه، وأخذت منه بملء جلدها دنانير «٣».
والْآنَ: مبنيٌّ على الفتح «٤»، معناه: هذا الوقت، وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل، وجِئْتَ بِالْحَقِّ: معناه عن من جعلهم عُصَاةً: بيَّنْتَ لنا غاية البيانِ، وهذه الآية تعطي أن الذَّبْح أصل في البقر، وإن نحرت أَجْزَأَ.
وقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ: عبارة عن تثبُّطهم في ذَبْحِها، وقلَّة مبادرتهم إلى أمر اللَّه تعالى، وقال محمَّد بن كَعْب القُرَظِيُّ: كان ذلك منهم لغلاء البقرة «٥»، وقيل: كان
(١) ذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ١٦٤)، ولم يذكر له سندا.
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٣٩٨) برقم (١٢٨٢) عن السدي.
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٣٩٨) برقم (١٢٨٤) بلفظ: «كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له، فباعها بملء جلدها ذهبا». عن مجاهد. اهـ.
(٤) واختلف في علّة بنائه، فقال الزجاج: «لأنّه تضمّن معنى الإشارة لأنّ معنى أفعل الآن أي: هذا الوقت». وقيل: لأنه أشبه الحرف في لزوم لفظ واحد، من حيث إنه لا يثنّى ولا يجمع ولا يصغّر.
وقيل: لأنه تضمّن معنى حرف التعريف وهو الألف واللام كأمس، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه ولم يعهد معرّف بأل إلّا معربا، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في «الذي» و «التي» وبابهما، ويعزى هذا للفارسي. وهو مردود بأنّ التضمين اختصار، فكيف يختصر الشيء، ثم يؤتى بمثل لفظه.
وهو لازم للظرفيّة ولا يتصرّف غالبا، وقد وقع مبتدأ في قوله- عليه السلام-: «فهو يهوي في قعرها الآن حين انتهى» فالآن مبتدأ، وبني على الفتح لما تقدّم، و «حين» خبره، بني لإضافته إلى غير متمكّن، ومجرورا في قوله:
أإلى الآن لا يبين ارعواء...
وادعى بعضهم إعرابه مستدلا بقوله:
كأنّهما ملآن لم يتغيّرا وقد مرّ للدارين من بعدنا عصر
يريد: «من الآن» فجرّه بالكسرة، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر. وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماض، وأن أصله آن بمعنى حان فدخلت عليه أل زائدة واستصحب بناؤه على الفتح، وجعله مثل قولهم: «ما رأيته مذ شبّ إلى دبّ» وقوله عليه السلام: «وأنهاكم عن قيل وقال»، وردّ عليه بأنّ أل لا تدخل على المنقول من فعل ماض، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره، وعنه قول آخر أنّ أصله «أوان» فحذفت الألف ثم قلبت الواو ألفا، فعلى هذا ألفه عن واو، وقد أدخله الراغب في باب «أين» فتكون ألفه عن ياء، والصواب الأول.
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٢٦٠، ٢٦١).
(٥) أخرجه الطبري (١/ ٣٩٧) برقم (١٢٧٩) بلفظ: «من كثرة قيمتها» قال العلامة أحمد شاكر: «وفيه أبو معشر بن عبد الرحمن السندي المدني، وهو ضعيف». ، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٥٢)، وعزاه لابن جرير، وذكره الشوكاني في «تفسيره» (١/ ١٦٣).
263
ذلك خوف الفضيحة في أمر القاتل «١».
وفَادَّارَأْتُمْ: معناه: تدافعتم قتل القتيل، وفِيها، أي: في النَّفْس.
وقوله تعالى: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
: آية من اللَّه تعالى على يدَيْ موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيلَ، فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه، وقيل: ضربوا قبره لأن ابن عباس ذكر أنَّ أمر القتيل وقع قَبْل جواز البَحْر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنَةً.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى...
الآيةَ: في هذه الآية حض على العبرة، ودلالةٌ على البعث في الآخرة، وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل حينئذ، حكي لمحمّد صلّى الله عليه وسلم، ليعتبر به إلى يوم القيامة.
وذهب الطبريُّ إلى أنها خطاب لمعاصري محمّد صلّى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله:
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
، وروي أن هذا القتيل لما حَيِيَ، وأخبر بقاتله، عاد ميتا كما كان.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
وقوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ... الآية: أي: صلبت وجفَّت، وهي عبارة عن خلوِّها من الإنابة والإذعان لآيات اللَّه تعالى، قال قتادة وغيره: المراد قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم، وما ركبوه بعد ذلك «٢»، و «أَوْ» : لا يصحُّ أن تكون هنا للشكِّ، فقيل: هي بمعنى «الواو»، وقيل: للإضراب، وقيل: للإبهام، وقيل غير ذلك «٣».
(١) أخرجه الطبري (١/ ٣٩٩) برقم (١٢٩٢) عن وهب بن منبه كان يقول: «إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة، إنما قالوا لموسى «أتتخذونا هزوا» لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها»، وذكره ابن عطية في تفسيره (١/ ١٦٥)، والقرطبي (١/ ٣٨٧)، عن وهب بن منبه. [.....]
(٢) ذكره ابن عطية الأندلسي في تفسيره (١/ ١٦٦) عن أبي العالية وقتادة.
(٣) في «أو» خمسة أقوال:
أظهرها: أنها للتفصيل بمعنى أنّ النّاظرين في حال هؤلاء منهم من يشبّههم بحال المستوقد الذي هذه صفته، ومنهم من يشبّههم بأصحاب صيّب هذه صفته.
الثاني: أنها للإبهام، أي: إن الله أبهم على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء.
264
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ... الآية: معذرةٌ للحجارة، وتفضيلٌ لها على قلوبهم، قال قتادة: عذر اللَّه تعالى الحجارة، ولم يعذِر شقيَّ بني آدم «١».
ت: وروى البَزَّار عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ العَيْنِ، وَقَسَاوَةُ القَلْبِ، وَطُولُ الأَمَلِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا» «٢». انتهى من «الكوكب الدّرّيّ» لأبي
- الثالث: أنها للشّكّ، بمعنى أن الناظر يشكّ في تشبيههم.
الرابع: أنها للإباحة.
الخامس: أنها للتخيير، أي: أبيح للناس أن يشبّهوهم بكذا أو بكذا، وخيّروا في ذلك. وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين:
أحدهما: كونها بمعنى الواو، وأنشدوا: [البسيط]
جاء الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربّه موسى على قدر
والثاني: كونها بمعنى بل، وأنشدوا: [الطويل]
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحى وصورتها أو أنت في العين أملح
أي: بل أنت.
ينظر: «الدر المصون» (١/ ١٣٤- ١٣٥).
(١) أخرجه الطبري (١/ ٤٠٨) برقم (١٣٢٣)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٥٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(٢) أخرجه البزار (٣٢٣٠- كشف)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ١٢٥) من طريق هانىء بن المتوكل عن عبد الله بن سليمان عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مرفوعا.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ففيه هانىء بن المتوكل. قال ابن حبان:
كثرت المناكير في روايته، لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن الجوزي: وعبد الله بن سليمان مجهول.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٢٢٩)، وقال: رواه البزار، وفيه هانىء بن المتوكل، وهو ضعيف.
وتعقب السيوطي ابن الجوزي في «اللآلئ» (٢/ ٣١٢) بما لا طائل تحته، فقال: أورده في «الميزان» في ترجمة هانىء، وقال: حديث منكر. اهـ.
والحديث ذكره الحافظ في «اللسان» (٦/ ١٨٦- ١٨٧) وقال: أورده البزار في مسنده، وقال:
عبد الله بن سليمان روى أحاديث لم يتابع عليها. وأما هانىء فقال ابن القطان: لا يعرف حاله. كذا قال. وقال أبو حاتم الرازي: أدركته ولم أكتب عنه. اهـ. وللحديث طريق آخر:
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٣/ ١٠٩٩)، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (١/ ٢٤٦)، (٢/ ٣٢٣)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ١٢٥) كلهم من طريق سليمان بن عمرو النخعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مرفوعا.
وقال ابن عدي: هذا الحديث وضعه سليمان على إسحاق.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أبو داود النخعي، قال أحمد ويحيى: كان يضع الأحاديث، قال ابن عدي: وضع هذا على إسحاق. وللحديث طريق ثالث:
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٦/ ١٧٥) من طريق الحسن بن عثمان: ثنا أبو سعيد المازني، ثنا-
265
العباس أحمد بن سَعْد التُّجِيبِيِّ، قال الغَزَّاليُّ في «المِنْهَاج» : واعلم أن أول الذنب قسوةٌ، وآخره، والعياذ باللَّه، شؤمٌ وشِقْوَةٌ، وسوادُ القلْب يكون من الذنوب، وعلامةُ سواد القلب ألاَّ تجد للذنوب مفزعاً، ولا للطاعات موقعاً، ولا للموعظة منجعاً. انتهى.
وقيل في هبوط الحجارة: تفيُّؤ ظلالها، وقيل: إن اللَّه تعالى يخلُقُ في بعض الأحجار خشيةً وحياةً، يهبط بها من عُلْوٍ تواضعاً، وقال مجاهد: ما تردى حجرٌ من رأسِ جبلٍ، ولا تَفَجَّرَ نهر من حَجَر، ولا خَرَج ماء منه، إلا من خشية الله عز وجلّ نزل بذلك القرآن «١»، وقال مثله ابْنُ جُرَيْجٍ «٢».
وقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ... الآية: الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلم وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار ٢٥ ب الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطابِ التقرير/ على أمر فيه بُعْد إذ قد سلف لأسلاف هؤلاء اليهودِ أفاعيلُ سوءٍ، وهؤلاء على ذلك السَّنَن.
وتحريفُ الشيء: إِمالته من حالٍ إلى حال، وذهب ابن عبَّاس إلى أن تحريفهم وتبديلهم إِنما هو بالتأويل، ولفْظُ التوراة باق «٣»، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدَّلوا ألفاظاً من تلقائهم، وأنَّ ذلك ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن اللَّه تعالى ضَمِنَ حفظه.
قلْتُ: وعن ابن إسحاق أن المراد ب «الفريقِ» هنا طائفةٌ من السبعين الذين سمعوا كلامَ اللَّه مع موسى. انتهى من «مختصر الطبريِّ» وهذا يحتاج إلى سند صحيح.
- حجاج بن منهال عن صالح المري عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا.
وقال أبو نعيم: تفرد برفعه متصلا عن صالح حجاج.
وهذا الشاهد ذكره السيوطي في «اللآلئ» (٢/ ٣١٣)، ولم يتكلم عليه.
وقال ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (٢/ ٣٠١) قلت: فيه مضعفون. اهـ.
يقصد رحمه الله صالح المري ويزيد الرقاشي. وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧/ ٤٠٧) رقم (١٠٧٨٣) عن محمد بن واسع من قوله.
(١) أخرجه الطبري (١/ ٤٠٨) برقم (١٣٢١)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٥٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٤٠٨) برقم (١٣٢٦)، وذكره القرطبي (١/ ٣٩٥).
(٣) ذكره ابن عطية (١/ ١٦٨).
266

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]

وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
وقوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا... الآية: المعنى: وهم أيضاً، إذا لُقُوا يفعلون هذا، فكيف يُطْمَع في إيمانهم، ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنَفاً فيه كشف سرائرهم ورد في التفسير أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْنَا قَصَبَةَ «١» المَدِينَةِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ»، فقال كَعْبُ بن الأشْرَفِ وأشباهه: اذهبوا وتحسَّسوا أخبارَ من آمَنَ بمحمَّد، وقولوا لهم: آمنا، واكفروا إِذا رجعتم، فنزلتْ هذه الآية، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في المنافقين من اليهود «٢»، وروي عنه أيضاً أنها نزلَتْ في قومٍ من اليهود، قالوا لبعض المؤمنين: نحن نؤمن أنه نبيٌّ، ولكن ليس إلَيْنا، وإنما هو إليكم خاصّة، فلما دخلوا، قال بعضهم: لم تُقِرُّونَ بنبوءته «٣»، وقال أبو العالية وقتادةُ: إِن بعض اليهود تكلَّم بما في التوراة من صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال لهم كفرةُ الأحبار: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: عرَّفكم من صفة محمَّد صلّى الله عليه وسلم «٤».
ولِيُحَاجُّوكُمْ: من الحجة، وعِنْدَ رَبِّكُمْ: معناه: في الآخرة.
وقول تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ: قيل: هو من قول الأحبار لَلأتباعِ، وقيل: هو خطابٌ من اللَّه تعالى للمؤمنين، أي: أفلا تعقلون أن بني إِسرائيل لا يؤمنون، وهم بهذه الأحوال.
وأُمِّيُّونَ هنا: عبارةٌ عن عامَّة اليهود، وجهلتهم، أي: أنهم لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضَّلاَل، والأُمِّيُّ في اللغة: الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتابٍ نُسِبَ إلى الأُمِّ إِما لأنه بحالِ أمِّه من عَدَمِ الكتب، لا بحال أبيه إذ النساء ليس من شغلهن الكَتْبُ قاله الطبريُّ وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها، لم ينتقل عنها.
والْكِتابَ: التوراة.
(١) قصبة البلد: مدينته، وقيل: معظمه، والقصبة: جوف الحصن، يبنى فيه بناء هو أوسطه، والقصبة:
القرية. وقصبة القرية: وسطها.
ينظر: «لسان العرب» (٣٦٤١).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٤١٣) برقم (١٣٣٩)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٥٧)، وعزاه لابن جرير.
وذكره ابن عطية الأندلسي في «التفسير» (١/ ١٦٨).
(٣) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٦٨).
(٤) ذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٥٨)، وعزاه لعبد بن حميد.
والأَمَانِيُّ: جمع أُمْنِيَّة، واختلف في معنى أَمانِيَّ، فقالت طائفة: هي هاهنا من:
تمنَّى الرجل، إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكْتُب ولا يقرأ، وإنما يقول بظنِّه شيئاً سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب.
وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
تمنى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ... وَآخِرَهُ لاقى حِمَامَ المَقْادِرِ «١»
فمعنى الآية: أنهم لا يَعْلَمُون الكتاب إِلاَّ سماع شيْءٍ يتلى، لا عِلْمَ لهم بصحَّته.
وقال الطبريُّ: هي من تَمَنَّى الرجُلِ، إذا حدَّث بحديث مختلَقٍ كذبٍ، أي: لا يعلمون الكتاب إِلا سماعَ أشياء مختلَقَةٍ من أحبارهم، يظنُّونها من الكتاب.
ص «٢» : وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ: «إن» : نافية بمعنى «ما». انتهى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ... الآية.
٢٦ أقال الخليلُ: «الوَيْلُ» : شِدَّةُ الشر، وهو مصدر، / لا فِعْلَ له، ويجمع على وَيْلاَتٍ، والأحسن فيه إِذا انفصل: الرفْعُ لأنه يقتضي الوقُوعَ، ويصحُّ النصب على معنى الدُّعَاء، أي: ألزمه اللَّه وَيْلاً، ووَيْلٌ ووَيْحٌ ووَيْسٌ تتقاربُ في المعنى، وقد فرق بينها قوم.
وروى سفيانُ، وعطاءُ بنُ يَسارٍ أن الوَيْلَ في هذه الآية وادٍ يجري بفناءِ جهنَّم من صديد أهل النار «٣».
(١) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (١/ ١٦٩) و «البحر المحيط» (١/ ٤٣٦)، و «الدر المصون» (١/ ٢٦٩). [.....]
(٢) «المجيد» ص ٣٠٨.
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٤٢٣) برقم (١٣٩٩) بلفظ «واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لا نماعت من شدة حره»، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٥٩)، وعزاه لابن مبارك في «الزهد»، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث».
268
وروى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «أنه وادٍ في جهنَّم بيْن جبَلَيْنِ يَهْوِي فيه الهاوِي أربعِينَ خَرِيفاً» «١».
وروى عثمانُ بن عفّان عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «أنه جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ النَّار» «٢»، والذين يكْتُبُونَ:
هم الأحبار والرؤساء.
وبِأَيْدِيهِمْ قال ابن السَّرَّاج «٣» : هي كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، والذي بدّلوه هو صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم ليستديمُوا رياستهم ومكاسبهم، وذكر السُّدِّيُّ أنهم كانوا يكتبون كتبا يبدّلون فيها صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم ويبيعونَهَا من الأَعراب، ويبثُّونها في أتباعهم، ويقولون هي من عبد اللَّه «٤»، والثَّمَنُ: قيل: عَرَضُ الدنيا، وقيل: الرُّشَا والمآكل التي كانت لهم، ويَكْسِبُونَ معناه: من المعاصي، وقيل: من المال الذي تضمنه ذكر الثَّمَن.
وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً... الآية: روى ابن زَيْد وغيره أنَّ سببها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ، ثمّ تخلفونا أنتم،
(١) أخرجه الترمذي (٥/ ٣٢٠) كتاب «تفسير القرآن»، باب سورة الأنبياء، حديث (٣١٦٤)، وأحمد (٣/ ٧٥)، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» رقم (٩٢٤)، وأبو يعلى (٢/ ٥٢٣) رقم (١٣٨٣)، وابن حبان (٢٦١٠- موارد)، والطبري (٢٩/ ١٥٥)، والحاكم (٤/ ٥٩٦)، ونعيم بن حماد في «زوائده» على «الزهد» لابن المبارك رقم (٣٣٤)، والبيهقي في «البعث والنشور» (ص ٢٧١) رقم (٤٦٤) من طرق عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي قلت: وسنده ضعيف لضعف دراج كما هو معروف، وبعضهم يقبل حديثه عن أبي الهيثم.
قال الحافظ في «التقريب» (١/ ٢٣٥) : دراج صدوق في حديثه عن أبي الهيثم، ضعيف.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ١٥٩)، وزاد نسبته إلى هناد، وابن أبي الدنيا في «صفة النار»، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.
(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (١/ ٤٢٢) عن عثمان.
(٣) محمد بن السري بن سهل، أبو بكر: أحد أئمة الأدب والعربية. من أهل «بغداد»، كان يلثغ بالراء فيجعلها غينا. ويقال: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله. مات شابا. وكان عارفا بالموسيقى. من كتبه: «الأصول» في النحو، و «شرح كتاب سيبويه»، و «الشعر والشعراء»، و «الخط والهجاء»، و «المواصلات والمذكرات في الأخبار». توفي في سنة ٣١٦ هـ.
ينظر: «بغية الوعاة» (٤٤)، و «طبقات النحويين واللغويين» (١٢٢)، و «نزهة الألباء» (٣١٣)، و «الأعلام» (٦/ ١٣٦).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٤٢٢) برقم (١٣٩١)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٦٦٠)، وعزاه لابن أبي حاتم.
269
فَقَالَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا لاَ نَخْلُفُكُمْ» فنزلَتْ هذه الآية «١».
قال أهل التفسير: العهد في هذه الآية: الميثاقُ والموعد، و «بلى» رد بعد النفْيِ بمنزلة «نَعَمْ» بعد الإِيجاب «٢»، وقالت طائفة: السيئة هنا الشرك كقوله تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: ٩٠] والخَطِيئاتُ: كبائر الذنوب، قال الحسن بن أبي الحسن، والسُّدِّيُّ: كل ما توعد اللَّه عليه بالنار، فهي الخطيئة المحيطَةُ «٣»، والخلودُ في هذه الآية على الإِطلاق والتأبيد في الكُفَّار، ومستعار بمعنى الطُّول في العُصَاة، وإِن علم انقطاعه.
قال محمَّد بن عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ في مختصره للطبريِّ: أجمعتِ الأمَّة على تخليد مَنْ مات كافراً، وتظاهرت الرواياتُ الصحيحةُ عن الرسول صلّى الله عليه وسلم والسلفِ الصالح، بأن عصاة أهل التوحيد لا يخلَّدون في النار، ونطق القرآن ب إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ١١٦] لكن من خاف على لَحْمه ودَمِه، اجتنب كل ما جاء فيه الوعيدُ، ولم يتجاسَرْ على المعاصي اتكالا على ما يرى لنفسه من التوحيد، فقد كان السلف وخيار الأمة يخافُون سلْب الإِيمان على أنفسهم، ويخافون النفاقَ عليها، وقد تظاهرتْ بذلك عنهم الأخبار. انتهى.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا... الآية: يدلُّ هذا التقسيم على أن قوله تعالى:
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً... الآية في الكفار، لا في العصاة ويدل على ذلك أيضاً قوله:
وَأَحاطَتْ لأن العاصي مؤمنٌ، فلم تحط به خطيئاته ويدل على ذلك أيضاً أن الردَّ كان على كُفَّارٍ ادَّعَوْا أنَّ النَّارَ لا تَمَسُّهم إلا أياماً معدودةً، فهم المراد بالخلود، والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)
(١) أخرجه الطبري (١/ ٤٢٦) برقم (١٤٦٢). وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٦٣)، وعزاه لابن جرير.
(٢) ينظر: «مغني اللبيب» ص ١١٣، ص ٣٤٦، ص ٣٤٨.
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٤٣٠) برقم (١٤٣٨) عن الحسن، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٦٤)، وعزاه لوكيع.
270
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ... الآية: أخذ اللَّه سبحانه الميثاق عليهم على لسان موسى- عليه السلام- وغيره من أنبيائهم، وأخْذ الميثاق قولٌ، فالمعنى:
قلنا لهم: لاَ تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ... الآية، قال سيبوَيْهِ: «لا تعبدون: متلق لقسم» والمعنى: وإذ استحلفناهم، واللَّهِ/ لا تعبدونَ إلاَّ اللَّه، وفي الإحسان تدخل أنواع برّ ٢٦ ب الوالدين كلُّها، واليُتْم في بَنِي آدمَ: فَقْدُ الأب، وفي البهائم فقد الأمّ، وقال صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ شَيْءَ لَهُ»، وقيل: هو الذي له بُلْغَةٌ، والآية تتضمَّن الرأفة باليتامى، وحيطة أموالهم، والحضّ على الصدقة، والمواساة، وتفقُّد المساكين.
وقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً: أمر عطف على ما تضمَّنه لاَ تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وما بعده، وقرأ حمزة والكسَائِيُّ «١» :«حَسَناً» بفتح الحاء والسين، قال الأخفش «٢» :
وهما بمعنى واحدٍ، وقال الزجَّاج «٣» وغيره: بل المعنى في القراءة الثانية، وقولوا «قَوْلاً حَسَناً» بفتح الحاء والسين، أو قولاً ذا حُسْن بضم الحاء وسكون السين في الأولى قال ابن عبَّاس: معنى الكلام قولُوا للنَّاس: لا إله إلا اللَّه، ومُرُوهم بها «٤»، وقال ابن جُرَيْجٍ:
قولوا لهم حُسْناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمَّد صلّى الله عليه وسلم «٥»، وقال سفيان الثّوريّ «٦» :
(١) ينظر: «العنوان»، (٧٠)، و «حجة القراءات» (١٠٣)، و «الحجة» (٢/ ١٢٦)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٤٤)، و «شرح شعلة» (٢٦٧)، و «إتحاف» (١/ ٤٠١)، و «معاني القراءات» للأزهري (١/ ١٦٠).
والكسائي هو: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي، أبو الحسن الكسائي: إمام في اللغة والنحو والقراءة. من تصانيفه: «معاني القرآن»، و «المصادر»، و «الحروف»، و «القراءات»، و «النوادر»، و «المتشابه في القرآن»، و «ما يلحن فيه العوام». توفي ب «الري» في «العراق» سنة ١٨٩ هـ.
ينظر: «ابن خلكان» (١/ ٣٣٠)، «تاريخ بغداد» (١١/ ٤٠٣)، «الأعلام» (٤/ ٢٨٣).
(٢) «معاني القرآن» (١/ ٣٠٨)، و «المحتسب» (٢/ ٣٦٣).
(٣) «معاني القرآن» (١/ ١٦٤).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٤٣٢) برقم (١٤٥٠) من طريق سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٦٥)، وعزاه لابن جرير.
(٥) ذكره ابن عطية في تفسيره (١/ ١٧٣) عن ابن جريج. [.....]
(٦) سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهب بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الحارث بن مالك بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة على الصحيح، وقيل: من ثور همدان، الثوري، أبو عبد الله الكوفي، أحد الأئمة الأعلام، كان من الفضلاء، وكان لا يسمع شيئا إلّا حفظه، كان متقنا ضابطا زاهدا ورعا. ولد سنة سبع وسبعين، وتوفي ب «البصرة» سنة ١٦١ هـ. -
271
معناه: مروهم بالمَعْروف، وانهوهم عن المُنْكَر «١»، وقال أبو العالية: قولوا لهم الطيبَ من القول، وحاورُوهم بأحسن ما تُحِبُّونَ أن تحاوروا به «٢»، وهذا حضٌّ على مكارم الأخلاق، وزكاتُهم هي التي كانوا يَضعُونها، وتنزل النار على ما تقبّل منها، دون ما لم يتقبل.
٢٧ أوقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ... الآية: خطابٌ لمعاصري النبيِّ صلّى الله عليه وسلم أسند إليهم تولّي أسلافهم إِذ هم كلُّهم بتلك السبيل، قال نحوه ابنُ عَبَّاس وغيره «٣». والمراد بالقليلِ المستثنى جميعُ مؤمنيهم قديماً من أسلافهم، وحديثاً كابن سَلاَمٍ وغيره، والقِلَّة على هذا هي في عدد الأشخاصِ، ويحتمل أن تكون القِلَّة في الإِيمان، والأول أقوى.
ص «٤» : إِلَّا قَلِيلًا: منصوب على الاستثناء، وهو الأفصح لأنه استثناءٌ من موجب، وروي عن أبي عَمرو «٥» :«إلاَّ قَلِيلٌ» بالرفع، ووجَّهه ابن عطية على بدل قليل من ضمير: «تَوَلَّيتُمْ» على أن معنى «تَوَلَّيْتُم» النفي، أي: لم يف بالميثاق إلا قليل، ورد بمنع النحويِّين البدل من الموجب لأن البدل يحل محلَّ المبدل منه، فلو قلْت: قام إلا زيد، لم يجز لأن «إِلاَّ» لا تدخل في الموجب، وتأويله الإِيجاب بالنفْي يلزم في كل موجب باعتبار نفي ضده أو نقيضه فيجوز إِذَنْ: «قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيْدٌ» على تأويل: «لَمْ يَجْلِسُوا إِلاَّ زَيْدٌ» ولم تبن العَرَب على ذلك كلامها، وإِنما أجازوا: «قام القَوْمُ إِلاَّ زَيْدٌ» بالرفع على الصفة، وقد عقد سيبوَيْه «٦» لذلك بابا في كتابه. انتهى.
ودِماءَكُمْ: جمع دَمٍ، وهو اسمٌ منقوصٌ. أصله «دَمَيٌ» وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
- ينظر: «الخلاصة» (١/ ٣٩٦) (٢٥٨٤)، «ابن سعد» (٦/ ٢٥٧- ٢٦٠)، و «الحلية» (٦/ ٣٥٦- ٤٩٣)، و (٧/ ٣- ١٤١).
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ١٧٣) عن سفيان الثوري.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ١٧٣) عن أبي العالية.
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٤٣٨) برقم (١٤٦٥) بلفظ: «أي تركتم ذلك كله»، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٦٥)، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٤) «المجيد» ص ٣١٩.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٧٣)، و «البحر المحيط» (١/ ٤٥٥)، و «الدر المصون» (١/ ٢٨٠)، و «حاشية الشيخ زادة على البيضاوي» (١/ ٣٤٥).
وهو زيان (وقيل غير ذلك) أبو عمرو بن العلاء، البصري، أحد القراء السبعة، قرأ على سعيد بن جبير، وشيبة بن نصاح، وعاصم بن أبي النجود، روى القراءة عنه عرضا وسماعا حسين بن علي الجعفي، وخارجة بن مصعب، مات سنة ١٥٤ هـ.
ينظر: «غاية النهاية» (١/ ٢٨٨)، و «طبقات الزبيدي» (ص ٣٥).
(٦) ينظر: «الكتاب» (٢/ ٣٣٠- ٣٣١).
272
: معناه: ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغْي، وكذلك حكم كلّ جماعة تخاطب بهذا اللفظ في القول.
وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ، أي: خَلفَاً بعد سَلَف، أن هذا الميثاق أخذ عليكم، وقوله: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ قيل: الخطابُ يُرادُ به من سلف منهم، والمعنى: وأنتم شهود، أي: حُضور أخْذ الميثاق والإِقرار.
وقيل: المراد: من كان في مدة محمّد صلّى الله عليه وسلم والمعنى: وأنتم شهداء، أي: بيِّنةَ أن الميثاق أخذ على أسلافكم، فمنْ بعدهم منْكُمْ.
وقوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ... الآية: هؤُلاءِ دالَّةٌ على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردًّا إلى الأسلاف، قيل: تقدير الكلام: / يا هؤلاء، فحذف ٢٧ ب حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبوَيْه «١»، مع المبهمات.
وقال الأستاذ الأَجَلُّ أبو الحسن بن أحمد «٢»...
(١) إلى مذهب سيبويه والبصريين أشار ابن مالك بقوله: [الرجز]
وذاك في اسم الجنس والمشار له قلّ، ومن يمنعه فانصر عاذله
أي: ذاك التعرّي من حرف النداء يكون مع اسم الجنس، واسم الإشارة- كما في الآية- قليلا، وهو مذهب الكوفيين، وأما من منع الحذف معهما- وهم البصريون وسيبويه- فهم محجوجون بما روي من أشعار العرب مما لا يمكن ردّه، فمما ورد في اسم الإشارة قوله: [الطويل]
إذا هملت عيني لها قال صاحبي بمثلك- هذا- لوعة وغرام
وقوله: [البسيط]
إنّ الألى وصفوا قومي لهم فبهم هذا- اعتصم، تلق من عاداك مخذولا
وقوله: [الخفيف]
ذا، أرعواء، فليس بعد اشتعال الر رأس شيبا إلى الصّبا من سبيل
وجعل منه قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ- هؤُلاءِ- تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٨٥].
واعلم أن هذا الحذف مع اسم الجنس واسم الإشارة مقيس مطرد عند الكوفيين، وأما مذهب البصريين وسيبويه فشاذ أو ضرورة كما أشار المصنف إليه بمنع سيبويه الحذف.
(٢) قال أبو حيان: وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، من أهل بلدنا «غرناطة»، يعرف بابن الباذش، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد مؤلف كتاب «الإقناع» في القراءات، وله اختيارات في النحو، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي، وعلق عنه في النحو على كتاب «الجمل» و «الإيضاح»، ومسائل من «كتاب سيبويه».
وقال السيوطي: وفي «تاريخ غرناطة» : أوحد في زمانه إتقانا ومعرفة، وتفرّدا بعلم العربيّة، ومشاركة في غيرها. حسن الخطّ، كبير الفضل، مشاركا في الحديث، عالما بأسماء رجاله ونقلته، مع الدين والفضل-
273
٢٨ أشيخنا «١» : هؤُلاءِ: رفع بالابتداء، وأَنْتُمْ: خبر، وتَقْتُلُونَ، حال بها تَمَّ المعنى، وهي المقصود.
ص «٢» : قال الشيخ أبو حَيَّان: ما نقله ابن عطية عن شيخه أبي الحسن بن البَادْش من جعله هؤُلاءِ مبتدأ، وأَنْتُمْ خبر مقدَّم، لا أدري ما العلَّة في ذلك، وفي عدوله عن جعل أَنْتُمْ مبتدأ، وهؤُلاءِ الخبر، إلى عكسه. انتهى.
ت: قيل: العلة في ذلك دخولُ هاء التنبيه عليه لاختصاصها بأول الكلام ويدلُّ على ذلك قولهم: «هَأَنَذَا قَائِماً»، ولم يقولوا: «أَنَا هَذَا قَائِماً»، قال معناه ابنُ هِشَامٍ «٣»، ف «قَائِماً»، في المثال المتقدِّم نصب على الحال. انتهى.
وهذه الآية خطابٌ لقُرَيْظة، والنضير، وبني قَيْنُقَاع، وذلك أن النَّضِيرَ وقُرَيْظة حَالَفَت الأوسَ، وبني قَيْنُقَاع حالفتِ الخزرج، فكانوا إِذا وقعتِ الحربُ بين بني قَيْلَة، ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها، فقتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة، وهم قد خالَفُوها بالقتَالِ، والإِخراج.
والديارُ: مباني الإِقامة، وقال الخليلُ: «مَحَلَّةِ القَوْمِ: دَارُهُمْ».
ومعنى تَظاهَرُونَ: تتعاونون، والْعُدْوانِ: تجاوز الحدود، والظلم.
- والزّهد والانقباض عن أهل الدنيا، قرأ على نعم الخلف وغيره. وحدّث عن القاضي عياض وغيره، وأمّ بجامع «غرناطة».
وصنّف: شرح «كتاب سيبويه»، و «المقتضب» وشرح «أصول ابن السّراج»، وشرح «الإيضاح»، وشرح «الجمل»، وشرح «الكافي» للنحاس. توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
ينظر: «البحر المحيط» (١/ ٤٥٨)، و «بغية الوعاة» (٢/ ١٤٢- ١٤٣).
(١) هذا من كلام ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ١٧٤).
(٢) «المجيد» ص ٣٢٢.
(٣) عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام، من أئمة العربية، قال ابن خلدون: ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر ب «مصر» عالم بالعربية يقال له: «ابن هشام»، أنحى من سيبويه. من تصانيفه: «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب- ط» و «عمدة الطالب في تحقيق تصريف ابن الحاجب»، و «الجامع الصغير»، و «الجامع الكبير»، وغيرها، وتوفي سنة ٥٦٧ هـ.
ب «مصر».
ينظر: «الأعلام» (٤/ ١٤٧)، «الدرر الكامنة» (٢/ ٣٠٨)، «النجوم الزاهرة» (١٠/ ٣٣٦). [.....]
274
وقرأ حمزة «١» :«أسرى تفدوهم»، وأُسارى: جمع أَسِيرٍ، مأخوذ من الأَسْر، وهو الشَّدُّ، ثم كثر استعماله حتى لزم، وإن لم يكنْ ثَمَّ رَبْطٌ ولا شَدٌّ، وأَسِيرٌ: فَعِيلِ:
بمعنى مفعول، وتُفادُوهُمْ: معناه في اللغة: تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً، وقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: يقال: فدى، إِذا أعطى مالاً، وأخذ رجلاً، وفادى، إِذا أعطى رجلاً، وأخذ رجُلاً فتُفْدُوهم: معناه بالمالِ، وتُفَادُوهم، أي: مفادات الأسير بالأسير. انتهى.
ت: وفي الحديث من قوْل العَبَّاس رضي اللَّه عنه: «فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وعَقِيلاً»، وظاهره لا فَرْق بينهما.
وقوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ... الآية: والذي آمنوا به فداءُ الأسارى، والذي كَفَرُوا به قتْلُ بعضهم بعضاً، وإِخراجُهُمْ من ديارهم، وهذا توبيخٌ لهم وبيانٌ لقبح فعلهم، والخِزْيُ: الفضيحة، والعقوبة، فقيل: خزيهم: ضرْبُ الجزية عليهم غابَر الدهر، وقيل: قتل قريظة، وإِجلاءُ النضير، وقيل: الخزْيُ الذي تتوعَّد به الأمة من الناس هو غلبة العدوّ.
والدُّنْيا: مأخوذةٌ من دَنَا يدْنُو، وأصل الياء فيها واوٌ، ولكن أبدلتْ فرقاً بين الأسماء والصفات، وأَشَدِّ الْعَذابِ: الخلودُ في جهنم.
وقوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قرأ نافعٌ، وابن كَثِير «٢» بياءٍ على ذِكْر الغائب، فالخطاب بالآية لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم والآية واعظةٌ لهم بالمعنى، إذ اللَّه تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص.
وقرأ الباقون بتاء على الخطاب لمن تقدَّم ذكره في الآية قبل هذا وهو قوله:
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ... الآية، وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم فقد رُوِيَ أنَّ عمر بن الخَطَّاب- رضي اللَّه عنه- قال: «إِنَّ بنِي إِسرائيل قد مضَوْا، وأنتم الذين تُعْنَوْنَ بهذا، يا أمة محمّد يريد هذا، وما يجري مجراه «٣» /.
(١) وقرأ الجماعة غير حمزة «أسارى»، وقرأ هو أسرى، وقرىء «أسارى» بفتح الهمزة.
ينظر: «الحجة للقراء السبعة» (٢/ ١٤٣)، و «حجة القراءات» (١٠٤)، و «العنوان» (٧٠)، و «إتحاف» (١/ ٤٠٢)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٤٥)، و «شرح شعلة» (٢٦٨)، و «البحر المحيط» (١/ ٤٥٩).
(٢) ينظر: «حجة القراءات» (١٠٥)، وشرح «طيبة النشر»، (٤/ ٤٠)، وشرح «شعلة» (٢٦٦)، و «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٤٠٣).
(٣) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٧٦).
275

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٦ الى ٨٨]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ... الآية: جعل اللَّه ترك الآخرةِ، وأخْذَ الدنيا عوضاً عنها، مع قدرتهم على التمسُّك بالآخرة- بمنزلة من أخذها، ثم باعها بالدنيا، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ، في الآخرة، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ لا في الدنيا، ولا في الآخرة.
ص «١» : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: «اللام» في «لَقَدْ» : يحتمل أن تكون توكيداً، ويحتمل أن تكون جواب قسم، وموسى هو المفعول الأول، والكتاب الثانِي، وعكس السّهيليّ.
ومَرْيَمَ: معناه في السُّرْيانية: الخَادَم، وسميت به أمُّ عيسى، فصار علما عليها.
انتهى.
والْكِتابَ: التوراةُ.
وَقَفَّيْنا: مأخوذ من القَفَا تقول: قَفَيْتُ فُلاَناً بِفُلاَنٍ، إِذا جئْتَ به من قبل قَفَاه، ومنه: قَفَا يَقْفُو، إِذا اتبع، وكلُّ رسول جاء بعد موسى، فإِنما جاء بإِثبات التوراة، والأمر بلزومها إلى عيسَى- عليهم السلام-.
والْبَيِّناتِ: الحججُ التي أعطاها اللَّه عيسى.
وقيل: هي آياته من إحياء، وإبراء، وخَلْق طَيْرٍ، وقيل: هي الإِنجيل، والآية تعم ذلك.
وَأَيَّدْناهُ: معناه: قويْناه، والأَيْدُ القوة.
قال ابن عبَّاس: رُوح القدس: هو الاسم الذي كان يُحْيِي به الموتى «٢»، وقال ابن زِيْد: هو الإِنجيل كما سمَّى اللَّه تعالَى القرآن رُوحاً «٣»، وقال السُّدِّيُّ، والضّحّاك،
(١) «المجيد» (ص ٣٣١).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٤٤٩) برقم (١٤٩٤)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٦٧).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٤٤٩) برقم (١٤٩٣) عن ابن زيد.
276
والربيع، وقتادة: بِرُوحِ الْقُدُسِ: جبريلُ- عليه السلام «١» - وهذا أصحُّ الأقوال، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم لِحَسَّان: «اهج قُرَيْشاً، وَرُوحُ القُدُسِ مَعكَ» «٢» ومرةً قال له: «وجبريل معك»، وفَكُلَّما: ظرف والعامل فيه: اسْتَكْبَرْتُمْ، وظاهر الكلامِ الاستفهامُ، ومعناه التوبيخُ روي أن بني إِسرائيل كانوا يقتلون في اليومِ ثلاثمائة نبيٍّ، ثم تقوم سوقُهم آخر النهار، وروي سبعين نبيًّا، ثم تقومُ سوق بَقْلِهِمْ آخر النهار.
والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحقٍّ، وهو في هذه الآية من ذلك لأنهم إنما كانوا يَهْوَوْنَ الشهوات، ومعنى: قُلُوبُنا غُلْفٌ، أي: عليها غشاوات، فهي لا تفقه، قاله ابن عبَّاس. ثم بيَّن تعالى سبب نُفُورهم عن الإِيمان إِنما هو أنهم لُعِنُوا بما تقدَّم من كفرِهِم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنْبِ بذنْب أعظم منه، واللعن: الإبعاد والطرد.
وفَقَلِيلًا: نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره: فإِيماناً قَلِيلاً مَّا يؤمنون، والضمير في «يؤمنون» لحاضري محمّد صلّى الله عليه وسلم منْهُمْ ومَا في قوله: مَّا يُؤْمِنُونَ زائدةٌ موكّدة «٣».
(١) أخرجه الطبري (١/ ٤٤٨) بأرقام (١٤٨٨- ١٤٨٩- ١٤٩٠- ١٤٩١) عن قتادة، والسدي، والضحاك، والربيع.
(٢) أخرجه البخاري (٦/ ٣٥١) كتاب «بدء الخلق»، باب ذكر الملائكة، حديث (٣٢١٣)، (٧/ ٤٨٠) كتاب «المغازي»، باب مرجع النبي صلّى الله عليه وسلم من الأحزاب، حديث (٤١٢٣، ٤١٢٤)، (١٠/ ٥٦٢) كتاب «الأدب»، باب هجاء المشركين، حديث (٦١٥٣)، ومسلم (٤/ ١٩٣٣) كتاب «فضائل الصحابة»، باب فضائل حسابن بن ثابت، حديث (١٥٣/ ٢٤٨٦)، وأحمد (٤/ ٢٩٩، ٣٠٢)، وابن حبان (٧١٤٦)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤/ ٢٩٨)، والبيهقي (١٠/ ٢٣٧)، والطبراني في «الكبير» (٣٥٨٨، ٣٥٨٩، ٣٥٩٠) كلهم من طريق عدي بن ثابت عن البراء بن عازب به.
(٣) قال السمين الحلبي: في نصب «قليلا» ستة أوجه:
أحدها وهو الأظهر: أنه نعت لمصدر محذوف أي: فإيمانا قليلا يؤمنون.
الثاني: أنه حال من ضمير ذلك المصدر المحذوف أي: فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلّته، وقد تقدّم أنه مذهب سيبويه وتقدّم تقريره.
الثالث: أنه صفة لزمان محذوف، أي: فزمانا قليلا يؤمنون، وهو كقوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ.
الرابع: أنه على إسقاط الخافض والأصل: فبقليل يؤمنون، فلمّا حذف حرف الجرّ انتصب، ويعزى لأبي عبيدة.
الخامس: أن يكون حالا من فاعل «يؤمنون»، أي فجمعا قليلا يؤمنون أي المؤمن فيهم قليل، قال معناه ابن عباس وقتادة. إلا أن المهدوي قال: «ذهب قتادة إلى أنّ المعنى: فقليل منهم من يؤمن»، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع «قليل». قلت: لا يلزم الرفع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لما تقدّم من أنّ نصبه على الحال واف بهذا المعنى. و «ما» على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد. -
277

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٩ الى ٩١]

وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ... الآية الكتاب: القرآن، ومُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ: يعني التوراة، ويَسْتَفْتِحُونَ معناه أن بني إِسرائيل كانوا قبل مَبْعَثِ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما علموا عنْدَهُمْ من صفته، وذكر وقته، وظنُّوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوْسَ والخَزْرجَ، فغلبتهم العَرَبُ، قالوا لهم: لو قد خرج النبيُّ الذي أظلَّ وقتُهُ، لقاتلْنَاكُم معه، واستنصرنا عليكم به، ويَسْتَفْتِحُونَ: معناه يستنصرون، قال أحمد بن نصر الداوديّ: ومنه: «عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالفَتْحِ»، أي: بالنصر. انتهى.
وروى أبو بكر/ محمد بن حُسَيْنٍ الاْجُرِّيُّ «١» عن ابن عبَّاس، قال: كانت يهود خيبر
- السادس: أن تكون «ما» نافية أي: فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا، ومثله: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [السجدة: ٩]، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [النمل: ٦٢]، وهذا قوي من جهة المعنى، وإنما يضعف شيئا من جهة تقدّم ما في حيّزها عليها، قاله أبو البقاء، وإليه ذهب ابن الأنباري، إلا أنّ تقديم ما في حيزها عليها لم يجزه البصريون، وأجازه الكوفيون. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكون «ما» مصدرية، لأن «قليلا» يبقى بلا ناصب». يعني أنّك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها، ويكون المصدر مرفوعا ب «قليلا» على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ
[الذاريات: ١٧] فإنّ «ما» هناك يجوز أن تكون مصدرية لأنّ «قليلا» منصوب ب كان. وقال الزمخشري:
«ويجوز أن تكون القلّة بمعنى العدم».
قال أبو حيان: «وما ذهب إليه من أنّ «قليلا» يراد به النفي فصحيح، لكن في غير هذا التركيب»، أعني قوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة: ٨٨] لأنّ «قليلا» انتصب بالفعل المثبت فصار نظير «قمت قليلا» أي: قمت قياما قليلا، ولا يذهب ذاهب إلى أنّك إذا أتيت بفعل مثبت وجعلت «قليلا» منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكليّة، وإنما الذي نقل النحويون: أنّه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم: «أقلّ رجل يقول ذلك، وقلّما يقوم زيد»، وإذا تقرّر هذا فحمل القلة على النفي المحض هنا ليس بصحيح» انتهى. قلت:
ما قاله أبو القاسم الزمخشري- رحمه الله- من أنّ معنى التقليل هنا النفي قد قال به الواحديّ قبله، فإنه قال: «أي: لا قليلا ولا كثيرا، كما تقول: قلّما يفعل كذا، أي: ما يفعله أصلا».
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٢٩٧).
(١) محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر الآجري: فقيه شافعي، محدث، نسبته إلى «آجر» (من قرى-
278
يُقَاتِلُونَ غَطَفَانَ، فكُلَّمَا التقوا، هزمت اليهودَ، فَعَاذَ اليهودُ يوماً بالدعاء، فقالوا: اللهم، إِنا نسألكَ بحَقِّ محمَّدٍ النبيِّ الأُمِّيِّ الذي وعدتَّنَا أن تخرجَهُ لَنَا في آخر الزمان إِلاَّ نَصَرْتَنا علَيْهم، فكانوا إِذا التقوا، دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم كَفَرُوا به، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، والاستفتاحُ: الاستنصار، ووقع ليهود المدينة نحو هذا مع الأنصار قُبَيْل الإِسلام «١». انتهى من تأليف حسن بن عليِّ بن عبد المَلْكِ الرّهونيِّ المعروفِ بابْنِ القَطَّان، وهو كتابٌ نفيسٌ جِدًّا ألَّفه في معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلم وآيات نبوءته.
وروي أن قريظة والنضير وجميعَ يَهُودِ الحجازِ في ذلك الوقْتِ كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبيِّ المنتظر، كانت نقلتهم إلى الحجاز، وسُكْناهم به، فإِنهم كانوا علموا صُقع «٢» المَبْعَث، وما عرفوا هو محمّد صلّى الله عليه وسلم وشرعه ويظهر في هذه الآية العنادُ منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة وفَلَعْنَةُ اللَّهِ إبعاده لهم، وخزيهم لذلك.
وبئس: أصله «بَئِسَ»، سُهِّلت الهمزة، ونقلت حركتها إلى الباء، و «مَا» عند سيبويه «٣» : فَاعِلَةٌ ب «بِئْسَ» والتقدير: بِئْسَ الذي اشتروا به أنفسُهُمْ.
- «بغداد» ) ولد فيها، وحدث ب «بغداد» قبل سنة ٣٣٠، ثم انتقل إلى «مكة»، فتنسك وتوفي فيها ٣٦٠ هـ، له تصانيف كثيرة، منها: «أخبار عمر بن عبد العزيز»، و «أخلاق حملة القرآن».
ينظر: «الأعلام» (٦/ ٩٧)، «وفيات الأعيان» (١: ٤٨٨)، و «الرسالة المستطرفة» (٣٢)، و «صفة الصفوة» (٢/ ٢٦٥)، و «النجوم الزاهرة» (٤/ ٦٠).
(١) أخرجه الحاكم (٢/ ٢٦٣) وقال الذهبي: عبد الملك متروك هالك.
(٢) الصّقع:
ناحية الأرض والبيت وفلان من أهل هذا الصقع، أي من أهل هذه الناحية.
ينظر: «لسان العرب» (٢٤٧٢). [.....]
(٣) ذهب الفراء إلى أنها مع «بئس» شيء واحد ركّب تركيب «حبّذا»، نقله ابن عطية، ونقل عنه المهدوي أنه يجوّز أن تكون «ما» مع بئس بمنزلة كلّما، فظاهر هذين النقلين أنها لا محلّ لها. وذهب الجمهور إلى أنّ لها محلا، ثم اختلفوا: محلّها رفع أو نصب؟ فذهب الأخفش إلى أنها في محلّ نصب على التمييز والجملة بعدها في محلّ نصب صفة لها، وفاعل بئس مضمر تفسّره «ما»، والمخصوص بالذمّ هو قوله:
«أن يكفروا» لأنه في تأويل مصدر، والتقدير: بئس هو شيئا اشتروا به كفرهم، وفيه قال الفارسي في أحد قوليه، واختاره الزمخشري، ويجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذمّ محذوفا، و «اشتروا» صفة له في محلّ رفع تقديره: بئس شيئا شيء أو كفر اشتروا به، كقوله: [الطويل] لنعم الفتى أضحى بأكناف حائل أي: فتى أضحى، و «أن يكفروا» بدل من ذلك المحذوف، أو خبر مبتدأ محذوف أي: هو أن يكفروا.
وذهب الكسائي إلى أنّ «ما» منصوبة المحلّ أيضا، لكنه قدّر بعدها «ما» أخرى موصولة بمعنى الذي، وجعل الجملة من قوله: «اشتروا» صلتها، و «ما» هذه الموصولة هي المخصوص بالذمّ، والتقدير: بئس-
279
واشْتَرَوْا: بمعنى: باعوا.
وبِما أَنْزَلَ اللَّهُ، يعني به القرآن، ويحتمل التوراة، ويحتمل أن يراد الجميع من توراة، وإِنجيل، وقرآن لأن الكفر بالبعض يستلزمُ الكفر بالكلِّ، ومِنْ فَضْلِهِ، يعني:
من النبوءة والرسالة، ومَنْ يَشاءُ، يعني به محمّدا صلّى الله عليه وسلم لأنهم حَسَدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب، ويدخل في المعنى عيسى صلّى الله عليه وسلم لأنهم كفروا به بَغْياً، واللَّه قد تفضَّل عليه.
وفَباؤُ: معناه: مَضَوْا متحمِّلين لما يذكر أنهم بَاءُوا به.
وقال البخاريّ: قال قتادة: فَباؤُ: معناه: انقلبوا «١». انتهى.
- شيئا الذي اشتروا به أنفسهم، فلا محلّ ل «اشتروا» على هذا، ويكون «أن يكفروا» على هذا القول خبرا لمبتدأ محذوف كما تقدّم، فتلخّص في الجملة الواقعة بعد «ما» على القول بنصبها ثلاثة أقوال، أحدها:
أنها صفة لها فتكون في محلّ نصب أو صلة ل «ما» المحذوفة فلا محلّ لها أو صفة للمخصوص بالذم فتكون في محلّ رفع.
وذهب سيبويه إلى أنّ موضعها رفع على أنّها فاعل بئس، فقال سيبويه: هي معرفة تامة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذمّ على هذا محذوف أي شيء اشتروا به أنفسهم، وعزي هذا القول أيضا للكسائي. وذهب الفراء والكسائي أيضا إلى أنّ «ما» موصولة بمعنى الذي والجملة بعدها صلتها، ونقله ابن عطية عن سيبويه، وهو أحد قولي الفارسي، والتقدير: بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، فأن يكفروا هو المخصوص بالذمّ.
قال أبو حيان: «وما نقله ابن عطية عن سيبويه وهم عليه». ونقل المهدوي وابن عطية عن الكسائي أيضا أن «ما» يجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: بئس اشتراؤهم، فتكون «ما» وما في حيّزها في محلّ رفع.
قال ابن عطية: «وهذا معترض بأنّ «بئس» لا تدخل على اسم معيّن يتعرّف بالإضافة للضمير».
قال أبو حيان: «وهذا لا يلزم إلا إذا نصّ أنه مرفوع بئس، أمّا إذا جعله المخصوص بالذمّ وجعل فاعل «بئس» مضمرا والتمييز محذوف لفهم المعنى، والتقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم فلا يلزم الاعتراض».
قلت: وبهذا- أعني بجعل فاعل بئس مضمرا فيها- جوّز أبو البقاء في «ما» أن تكون مصدرية، فإنه قال:
«والرابع أن تكون مصدرية أي: بئس شراؤهم، وفاعل بئس على هذا مضمر لأنّ المصدر هاهنا مخصوص ليس بجنس» يعني فلا يكون فاعلا، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في «به» على «ما» والمصدرية لا يعود عليها، لأنها حرف عند الجمهور، وتقدير أدلّة كلّ فريق مذكور في المطوّلات. فهذه نهاية القول في «بئسما» و «نعمّا» والله أعلم.
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٢٩٩- ٣٠٠)، و «الكتاب» (١/ ٤٧٦).
(١) علقه البخاري في «صحيحه» (٨/ ١١) كتاب «التفسير» وقال الحافظ في «الفتح» (٨/ ١٢) : وصله عبد بن حميد.
280
وبِغَضَبٍ معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلم على غَضَبٍ متقدِّم من اللَّه تعالى عليهم، قيل: لعبادتهم العِجْلَ.
وقيل: لكفرهم بعيسى- عليه السلام- فالمعنى: على غَضَبٍ قد باءَ به أسلافهم، حظُّ هؤلاءِ منْهُ وافرٌ بسبب رضاهم بتلك الأفعال، وتصويبهم لها.
ومُهِينٌ: مأخوذ من «الهَوَانِ»، وهو الخلود في النَّار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين، إنما عذابه كعذابِ الذي يقام عليه الحدُّ، لا هوان فيه، بل هو تطهيرٌ له.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، يعني لليهود: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ على محمّد صلّى الله عليه وسلم، وهو القرآن، قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعنون: التوراةَ، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ قال قتادة: أي: بما بعده «١»، قال الفَرَّاء «٢». أي: بما سواه «٣»، ويعني به:
القرآن، ووصف تعالى القرآن بأنه الحق ومُصَدِّقاً: حالٌ مؤكِّدة عند سيبَوَيْهِ.
وقوله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ردٌّ من اللَّه تعالى عليهم، وتكذيب لهم في ذلك، واحتجاج عليهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٢ الى ٩٥]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)
وقوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ: بِالْبَيِّناتِ: التوراة، والعصا، وفرق البحر، وسائر الآيات، وخُذُوا ما/ آتَيْناكُمْ: يعني: التوراة والشرع بِقُوَّةٍ، أي: ٢٩ ب
(١) أخرجه الطبري (١/ ٤٦٣) برقم (١٥٥٩)، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٧٩).
(٢) هو: يحيى بن زياد بن عبد الله بن مروان، الديلمي، إمام العربية، أبو زكريا، المعروف ب «الفراء»، كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، كان يميل إلى الاعتزال، من تصانيفه: «معاني القرآن» و «المذكر والمؤنث»، و «الحدود» في الإعراب وغيرها. توفي (٢٠٧ هـ.).
ينظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» (١٤/ ١٤٩)، و «بغية الوعاة» (٢/ ٣٣٣)، و «النجوم الزاهرة» (٢/ ٨٥).
(٣) ينظر: «معاني الفراء» (١/ ٦٠)، و «الطبري» (٢/ ٣٤٨)، و «الوسيط» (١/ ١٧٤)، و «بحر العلوم» (١/ ١٣٧).
281
بعزمٍ، ونشاطٍ. وجِدٍّ.
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ: أي: حبَّ العجْلِ، والمعنى: جُعِلَتْ قلوبهم تَشْربه، وهذا تشبيهٌ ومجازٌ عبارة عن تمكُّن أمر العِجْل في قلوبهم.
وقوله تعالى: بِكُفْرِهِمْ يحتمل أن تكون باء السببِ، ويحتمل أن تكون بمعنى «مَعَ».
وقوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أمر لمحمّد صلّى الله عليه وسلم أن يوبِّخهم لأنَّه بئس هذه الأشياء التي فَعَلْتُمْ، وأمركم بها إِيمانُكُم الذي زعمتُمْ في قولكم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا.
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ... الآية: أمر لمحمّد صلّى الله عليه وسلم أنْ يوبِّخهم، والمعنى: إِن كان لكم نعيمُهَا وحُظْوَتُهَا، وخيرها، فذلك يقتضي حرْصَكُم على الوصُول إِليها، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، والدَّارُ: اسمُ «كان»، و «خالصة» : خبرها ومِنْ دُونِ النَّاسِ يحتملُ أن يراد ب «النَّاس» : محمّد صلّى الله عليه وسلم، ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم، وهذه آية بيّنة أعطاها الله رسوله محمّدا صلّى الله عليه وسلم لأن اليهود قالَتْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨]، وشبه ذلك من القول، فأمر اللَّه نبيَّه أن يدعوهم إلى تمنِّي الموت، وأن يعلمهم أنه من تمنَّاه منهم مات، ففعل النبيّ صلّى الله عليه وسلم ذلك، فعلموا صدْقَهُ، فَأَحْجَمُوا عن تمنِّيه فَرَقاً من اللَّه لِقبحِ أفعالهم ومعرفتهم بكذبِهم، وحرصاً منهم على الحَيَاة، وقيل: إِن اللَّه تعالى منعهم من التمنِّي، وقصرهم على الإِمساك عنه لتظهر الآية لنبيّه صلّى الله عليه وسلم.
ت: قال عِيَاضٌ «١» : ومن الوجوه البَيِّنة في إِعجاز القُرْآن آيٌ وردتْ بتعجيز قومٍ في قضايا «٢»، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فَعَلُوا ولا قَدَرُوا على ذلك كقوله تعالى لليهود: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً «٣»... الآية: قال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَاج «٤» في هذه الآية: أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحَّة الرسالة لأنهُ قال لهم:
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وأعلمهم أنهم لَنْ يتمنَّوْهُ أبداً، فلم يتمنَّهُ وَاحِدٌ منهم، وعن النبيِّ صلى الله
(١) ينظر: «الشفا» (ص ٣٨٢- ٣٨٣).
(٢) قضايا: جمع قضية، وهي الحادثة الواقعة في حكم قضاء الله (تعالى) وقدره.
(٣) خالصة: خاصة بكم.
(٤) «معاني القرآن» (١/ ١٧٦).
282
تعالى عليه وسلم «والَّذي نَفُسِي بيَدِهِ، لا يقولها رجُلٌ منهم إلا غصَّ بِرِيقِهِ» «١»، يعني:
يموتُ مكانه، قال أبو محمَّدٍ الأصيليُّ «٢» : من أَعجب أمرهم أنَّهُ لا تُوجَدُ منهم جماعةٌ ولا واحدٌ من يومِ أَمَرَ اللَّهُ تعالى بذلك نبيَّهُ يقدَّم عليه «٣»، ولا يجيب إليه، وهذا موجودٌ مشاهَدٌ لمن أراد أن يمتحنه منهم. انتهى من «الشّفا».
والمراد بقوله: فَتَمَنَّوُا: أريدوهُ بقلوبكم، واسْألوهُ، هذا قَوْلُ جماعة من المفسِّرين، وقال ابن عبَّاس: المراد به السؤالُ فقطْ، وإِن لم يكن بالقَلْب «٤»، ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم، وأنهم لا يتمنَّونه أبداً، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إِلى الأيدي إِذ الأَكْثَرُ من كسب «٥» العبد الخير والشرَّ، إِنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك.
(١) ينظر: «تفسير ابن كثير» (١/ ١٨٢)، الغصة: ما تقف في الحلق، فتمنع النفس حتى تهلكه، وغص بريقه: وقع الموت به سريعا.
وقد ورد هذا موقوفا على ابن عباس، أخرجه الطبري وابن أبي حاتم وينظر: «الدر المنثور» (١/ ١٧٣).
(٢) عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر، أبو محمد، الأموي، المعروف بالأصيلي: عالم بالحديث، والفقه. من أهل «أصيلة» (في «المغرب» ) أصله من كورة «شبدونة» ولد فيها سنة ٣٢٤ هـ، ورحل به أبوه إلى «أصيلا» من بلاد العدوة، فنشأ فيها، ويقال: ولد في «أصيلا». رحل في طلب العلم، فطاف في «الأندلس» والمشرق، ودخل «بغداد» سنة ٣٥١ هـ، وعاد إلى «الأندلس» في آخر أيام المستنصر، فمات ب «قرطبة»، له كتاب «الدلائل على أمهات المسائل» في اختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة.
ينظر: «الأعلام» (٤/ ٦٣)، و «جذوة المقتبس» (٢٣٩).
(٣) يقدم عليه أي: على تمني الموت. ولا يجيب إليه: أي إلى تمنيه، إذا قيل له: تمنه.
(٤) ذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٧٢) بلفظ: «فاسألوا الموت»، وعزاه لابن جرير.
وذكره ابن عطية الأندلسي في «التفسير» (١/ ١٨١) بلفظ: «السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب». قاله ابن عباس. [.....]
(٥) الكسب أصله في اللغة: الجمع، قاله الجوهري: وهو طلب الرزق، يقال: كسبت شيئا واكتسبته بمعنى، وكسبت أهلي خيرا، وكسبت الرجل مالا فكسب، وهذا مما جاء على فعلته ففعل. والكواسب:
الجوارح، وتكسب: تكلف الكسب، والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: عقد القلب وعزمه، كقوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: ٢٢٥] أي بما عزمتم عليه وقصدتموه.
الوجه الثاني: من الكسب: كسب المال من التجارة، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [البقرة: ٢٦٧]. فالأول للتجار، والثاني للزراع.
الوجه الثالث: من الكسب: السعي والعمل، كقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: ٢٨٦] وقوله: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: ٣٩] وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ [الأنعام: ٧٠] فهذا كله للعمل، واختلف الناس في الكسب والاكتساب، هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق؟ -
283
وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ: ظاهره الخبر، ومضمَّنه الوعيدُ لأن اللَّه سبحانه عليمٌ بالظالمينَ، وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)
- فقالت طائفة: معناهما واحد.
قال أبو الحسن علي بن أحمد: وهو الصحيح عند أهل اللغة لا فرق بينهما، وقال ذو الرمة: [البسيط] ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب.
وقال الآخرون: الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، ولا يقال:
يكتسب، قال الحطيئة: [البسيط]
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر هداك مليك الناس يا عمر
قلت: والاكتساب: افتعال، وهو يستدعي اهتماما وتعملا واجتهادا، وأما الكسب فيصح نسبته بأدنى شيء، ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أو في سعي. وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا ما لها فيه اجتهاد واهتمام.
والقائلون بالكسب اختلفوا في حقيقته، فقالت المعتزلة: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالا، وليس للرب منع فيه، ولا هو خالق فعله، ولا مكونه، ولا مريد له.
وقالت الأشعرية: هو مقارنة قدرة العبد لفعله الاختياري في محل واحد هو العبد، بمعنى أنه متى خلق الله القدرة التي هي العرض مقارنة لذلك الفعل، كان ذلك الفعل اختياريا ومكسوبا للعبد بدون أن يكون لقدرته فيه مدخل أصلا، وإن لم يخلق الله تلك القدرة المقارنة للفعل، بل خلق الفعل في العبد فقط، كان ذلك الفعل اضطراريا، ولم يكن مكسوبا للعبد. وهذا الفريق صرح بأن العبد مجبور في الباطن مختار في الظاهر، فهو عنده مجبور في صورة مختار.
ولا يخفى أن هذا المذهب ومذهب الجبرية واحد معنى، فيلزم على كل من المذهبين ما يلزم على الآخر، والتستر بقالب الاختيار، وصورته الظاهرية، المخالفة للواقع لا يفيد.
وقال العلامة الأمير: الكسب هو صرف إرادة العبد إلى الفعل، وهو أمر اعتباري، لا يحتاج لخلق وإيجاد، وبيان ذلك: أن العبد إذا توجهت إرادته لفعل من أفعاله كالصلاة، أوجد الله (تعالى) في العبد شيئين مقترنين أحدهما فعله بالمعنى الحاصل بالمصدر أي حركاته وسكناته. والثاني قدرته المتعلقة بفعله تعلق مقارنة، وتعلقه المذكور هو فعله بالمعنى المصدري، فالسبب هو توجه إرادة العبد، والمسبب شيئان وجوديان أوجدهما المولى تعالى مقترنين وهما فعل العبد وقدرته، فلا يناسب حينئذ جعل أحدهما علة أو شرطا لآخر، وإنما السبب أو الشرط في إيجاد المؤثر لهما إرادة العبد، لكنه عادي لا عقلي. فإذا قصد العبد فعل الخير خلق الله (تعالى) فيه قدرة فعل الخير، وخلق الخير معها. وإن قصد فعل الشر خلق الله (تعالى) فيه قدرة فعل الشر، وخلق الشر معها. فكان هو المفوت لقدرة فعل الخير لقصده فعل الشر فيستحق الذم.
ينظر: «أفعال العباد» لشيخنا عبد الرحمن إبراهيم ص ٥١- ٥٤.
284
وقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ... الآية: وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم، وأن لا خير لهم عند اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: قيل: المعنى: / وأحرصُ من الذين أشركوا ٣٠ ألأن مشركِي العَرَبِ لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، والضمير في أَحَدُهُمْ يعودُ في هذا القول على اليهودِ، وقيل: إِن الكلام تَمَّ في حياةٍ، ثم استؤنف الإِخبار عن طائفة من المشركين أنهم يودُّ أحدهم لو يُعمَّر ألف سنَةٍ، والزحزحة الإبعاد والتنحية، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وعيدٌ.
وقوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ... الآيةَ: أجمع أهل التفْسير أن اليهود قالتْ: جبريلُ عدوُّنا، واختلف في كيفيَّة ذلك، فقيل: إن يهود فدك «١» قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم:
«نَسْأَلُكَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ عَرَفْتَهَا، اتبعناك، فَسَأَلُوهُ عَمَّا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ، فَقَالَ:
لُحُومُ الإِبِلِ، وأَلْبَانُهَا، وَسَأَلُوهُ عَنِ الشَّبَهِ فِي الوَلَدِ، فَقَالَ: أَيُّ مَاءٍ عَلاَ، كَانَ لَهُ الشَّبَهُ، وَسَأَلُوهُ عَنْ نَوْمِهِ، فَقَالَ: تَنَامُ عَيْنِي، وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي، وَسَأَلُوهُ عَنْ مَنْ يَجِيئُهُ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَقَالَ: جِبْرِيلُ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ، قَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا لأنَّهُ مَلَكُ الحَرْبِ، وَالشَّدَائِدِ، وَالجَدْبِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَجِيئُكَ مِيكَائِيلُ مَلَكُ الرَّحْمَةِ، وَالخِصْب، والأَمْطَار، لاتَّبَعْنَاكَ»
.
وَفِي جِبْرِيلَ لغاتٌ:
جِبْرِيلُ «٢» بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع، وجبريل، بفتح الجيم
(١) بالتحريك، وآخره كاف: قرية ب «الحجاز»، بينها وبين «المدينة» يومان. وقيل: ثلاثة، أفاءها الله (تعالى) على رسوله (عليه السلام) صلحا. فيها عين فوّارة ونخل.
ينظر: «مراصد الاطلاع» (٣/ ١٠٢٠)
(٢) قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص: «جبريل» بكسر الجيم والراء، جعلوا (جبريل) اسما واحدا على وزن (قطمير)، وحجتهم قول الشاعر:
وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء
وقرأ حمزة والكسائي: «جبرئيل» بفتح الجيم والراء مهموزا، قال الشاعر:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
وحجتهم ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما جبرئيل وميكائيل» كقولك عبد الله وعبد الرحمن، (جبر) هو العبد، و (إيل) هو الله، فأضيف (جبر) إليه وبني فقيل (جبرئيل).
وقرأ ابن كثير «جبريل» بفتح الجيم وكسر الراء مثل (سمويل) وهو اسم طائر. قال عبد الله بن كثير:
رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنام فأقرأني «جبريل» فأنا لا أقرأ إلا كذلك.
وقرأ يحيى عن أبي بكر: «جبرئل» على وزن (جبرعل) وهذه لغة تميم وقيس.
ينظر: «العنوان في القراءات السبع» (٧١)، و «حجة القراءات» (١٠٧)، و «الحجة» (٢/ ١٦٣)، و «شرح طيبة النشر» (٤/ ٥٠)، و «شرح شعلة» (٢٧٠)، و «معاني القراءات» للأزهري (١/ ١٦٧).
285
وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه أنه قال: رأيْتُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في النَّوْمِ وهو يَقُرَأُ: جَبْرِيلَ وَمِيكَالَ، فلا أزال أقرأها أبداً كذلك.
ت: يعني، واللَّه أعلم: مع اعتماده على روايتها، قال الثعلبيُّ: والصحيح المشهورُ عن ابْن كَثِيرٍ ما تقدَّم من فتح الجيم، لا ما حُكِيَ عنه في الرؤْيَا من كَسْرها.
انتهى.
وذكر ابن عبَّاس وغيره أنَّ جِبْر، ومِيك، وإِسْرَاف هي كلُّها بالأعجميَّة بمعنى عَبْد وممْلُوك، وإِيلُ: اللَّهُ «١».
وقوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ الضمير في «إِنَّهُ» عائد على اللَّه تعالى، وفي «نَزَّلَهُ» عائدٌ على «جِبْرِيل»، أي: بالقرآن، وسائر الوحْي، وقيل: الضمير في «إنَّهُ» عائدٌ على جبريل، وفي «نَزَّلَهُ» عائد على القرآن، وخص القلب بالذِّكْر لأنه موضع العقْل والعلْم، وتلقِّي المعارف.
وبِإِذْنِ اللَّهِ: معناه: بعلْمه وتمكينه إِياه من هذه المنزلة، ومُصَدِّقاً: حال من ضمير القرآن في «نزّله»، ولِما بَيْنَ يَدَيْهِ: ما تقدَّمه من كتب اللَّه تعالى، وَهُدىً، أي: إرشاد.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٨ الى ١٠٤]
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ١٨٣).
286
وقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ... الآيةَ: وعيدٌ وذمٌّ لمعادِي جبريلَ، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوةَ اللَّهِ لهم، وعطف جبريل وميكائل على الملائكة، وقد كان ذكْر الملائكة عمَّهما تشريفاً لهما وقيل: خُصَّا لأن اليهود ذكروهما، ونزلَتِ الآية بسببهما فذكرا لئلا تقول اليهود: إِنا لم نُعَادِ اللَّه، وجميعَ ملائكتِهِ، وعداوة العبد الله هي مَعْصِيَتُهُ، وترْكُ طاعته، ومعاداةُ أوليائه، وعداوةُ اللَّه للعبْدِ تعذيبُهُ وإظهار أثر العداوة عليه.
وقوله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً... الآيةَ: قال سيبوَيْه «١» :«الواو للعطف، دخلت عليها ألف الاستفهام»، والنبذ: الطَّرْح، ومنه المنبوذ، والعَهْد الذي نبَذُوه: هو ما أُخِذَ عليهم في التوراة من أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو محمّد صلّى الله عليه وسلم ومُصَدِّقٌ: نعْتٌ لرسولٍ، وكتابُ اللَّه: القُرْآن، وقيل: التوراة لأن مخالفتها نبذ لها، ووَراءَ ظُهُورِهِمْ مَثَلٌ لأن ما يجعل ظهريًّا، فقد زال النظَر إِلَيْه جملةً، والعرب تقول: جَعَلَ هذا الأمر وراء ظهره، ودبر أذنه.
وكَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ: تشبيهٌ بمن لا يَعْلَم/ فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على ٣٠ ب عِلْمٍ.
وقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ... الآية: يعني اليهود، وتَتْلُوا: قال عطاءٌ: معناه: تقرأ «٢»، وقال ابن عبَّاس: تَتْلُوا: تتبع «٣»، وعَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أي: على عهد مُلْكِ سليمانَ، وقال الطبريّ: اتَّبَعُوا: بمعنى: فضلّوا، وعَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أي: على شرعه ونبوءته، والَّذي تلته الشياطينُ، قيل: إِنهم كانوا يلقون إِلى الكهنة الكَلِمَةَ من الحَقِّ معها المائةُ من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سُلَيْمَانُ، ودفَنَه تحْت كرسيِّه، فلما مات، أخرجته الشياطينُ، وقالت: إن ذلك كان علم سليمان.
(١) اختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال فقال الأخفش: إن الهمزة للاستفهام والواو زائدة، وهذا على رأيه في جواز زيادتها. وقال الكسائي: هي «أو» العاطفة التي بمعنى بل، وإنما حركت الواو ويؤيده قراءة من قرأها ساكنة. وقال البصريون هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف، والزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف شيئا يعطف عليه ما بعده، لذلك قدره هنا: أكفروا بالآيات البينات، وكلما عاهدوا. ينظر: «الدر المصون» (١/ ٣١٦)، و «الكتاب» (٣/ ١٨٩).
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ١٨٥) بلفظ: «تقرأ من التلاوة» عن عطاء.
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٤٩٢) برقم (١٦٥٨)، وقال العلامة أحمد شاكر: ووقع في المطبوعة «العبقري» وهو تصحيف، وتصحيحه كالآتي: الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي- ضعيف قال أبو زرعة «لا يصدق»، وهو مترجم في «لسان الميزان»، و «ابن أبي حاتم» (١/ ٢/ ٦١- ٦٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ١٨٥)، والسيوطي في «الدر» (١/ ١٨٣)، وعزاه لابن جرير.
287
وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لما ذَكَر سليمانَ- عليه السلام- في الأنبياء، قال بعضُ اليهود: انظروا إلى محمَّد يذكر سليمانَ في الأنبياء، وما كان إِلا ساحراً.
وقوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تبرئةٌ من اللَّه تعالى لسليمان- عليه السلام.
والسِّحْرُ والعمل به كفْرٌ، ويقتلُ السَّاحر عند مالك كُفْراً، ولا يستتابُ كالزنديقِ، وقال الشافعيُّ: يسأل عن سِحْره، فإِن كان كُفراً، استتيب منه، فإِن تاب، وإِلا قتل، وقال مالكٌ فيمَنْ يعقدُ الرجَالَ عن النساءِ: يعاقَبُ، ولا يُقْتَلُ، والناس المعلَّمون: أتباعُ الشياطين من بني إِسرائيل، وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ: «مَا» عطْفٌ على السِّحْر، فهي مفعولةٌ، وهذا على القول بأن اللَّه تعالى أنزل السِّحْرَ على الملكَيْن ليكفر به من اتبعه، ويؤمن به من تركه، أو على قول مجاهد وغيره أنَّ اللَّه تعالى أنزل على الملكَيْن الشيْءَ الذي يفرق به بين المرء وزوجه، دون السِّحْر، أو «١» على القول أن اللَّه تعالى أنزل السحر عليهما ليُعْلَم على جهة التحذير منه، والنهْيِ عنه.
قال ع «٢» : والتعليمُ على هذا القول، إِنما هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل:
«إِنَّمَا» عطف على «ما» في قوله: مَا تَتْلُوا، وقيل: «ما» نافية، ردٌّ على قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وذلك أنَّ اليهود قالُوا: إن اللَّه تعالى أنزل جبريلَ وميكَائلَ بالسِّحْر، فنفى اللَّه ذلك.
ت: قال عِيَاضٌ: والقِرَاءَةُ بكسر اللام من الملكَيْن شاذَّة «٣»، وبَابِل: قُطْر من الأرض، وهَارُوتُ ومَارُوتُ: بدل من الملكَيْن، وما يذكر في قصتهما مع الزُّهرةِ كُلُّه ضعيفٌ وكذا قال: ع «٤» ت: قال عياض «٥» : وأما ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسِّرون في قصَّة
(١) أخرجه الطبري (١/ ٤٩٩) برقم (١٦٨٠)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١٨٣)، وابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٨٦).
(٢) «المحرر الوجيز» (١/ ١٨٦).
(٣) وقرأ بها الحسن بن علي وابن عباس، كما في مختصر الشواذ ص ١٦ وقرأ بها أيضا أبو الأسود الدؤلي، والضحاك، وابن أبزى.
ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٨٦)، و «البحر المحيط» (١/ ٤٩٧)، و «الدر المصون» (١/ ٣٢١).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٨٧).
(٥) ينظر: «الشفا» (ص ٨٥٣- ٨٥٥).
288
هَارُوت ومَارُوت. وما رُوِيَ عن عليٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ- رضي اللَّه عنهما- في خَبَرِهما، وابتلائهما، فاعلم- أكرمك اللَّه- أن هذه الأخبار لم يُرْو منها سقيمٌ ولا صحيحٌ عن رسولِ الله صلّى الله عليه وسلم، وليس «١» هو شَيْئاً يؤخذ بقياسٍ، والذي منه في القرآن، اختلف المفسِّرون في معناه، وأنكَرَ ما قال بعضهم فيه كثيرٌ من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود، وافترائهم «٢» كما نصَّه اللَّه أول الآيات. انتهى. انظره.
وقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ... الآية: ذكر ابْنُ الأعرابيِّ «٣» في «اليَاقُوتَةِ» أنَّ يُعَلِّمانِ بمعنى «يُعْلِمَانِ «٤»، ويشعران» كما قال كعب بن زهير «٥» :[الطويل]
(١) وليس هو أي ما تضمنته قصتهما. يؤخذ بقياس: يستنبط بقياس أي ليس مما يجري فيه القياس على غيره، مما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة فلا ينبغي الخوض فيه نفيا أو إثباتا.
قال في «نسيم الرياض» : وهذا الذي ذكره من أنه لم يرد فيه حديث ضعيف، ولا صحيح ردوه- كما نقله السيوطي في «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» - بأنه ورد من طرق كثيرة منها ما في مسند أحمد، عن ابن عمر (رضي الله عنهما) مرفوعا ورواه ابن حبان، والبيهقي، وابن جرير وابن حميد في «مسنده»، وابن أبي الدنيا وغيرهم من طرق عديدة.
وقال ابن حجر في «شرح البخاري» : إن له طرقا تفيد العلم بصحته. وكذا في حواشي البرهان الحلبي، وذكره مسندا عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أنه سمعه صلّى الله عليه وسلم يقول: «لما أهبط الله (تعالى) آدم إلى الأرض، قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها! وقالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم. فقال الله تعالى: هلما بملكين يهبطان الأرض. قالوا: ربنا هاروت وماروت. فأهبطا، فتمثلت لهما الزهرة امرأة حسنة من البشر فراوداها عن نفسها، فقالت: لا، والله، حتى تتكلما بهذه الكلمة من الشرك، فأبيا.
فذهبت وأتت بابن جار لها تحمله، فراوداها. فقالت: لا، حتى تقتلا هذا الصبي فقالا: لا. ثم راوداها مرة أخرى، فأتت بقدح خمر، فقالت: لا، حتى تشرباه. فشربا وسكرا، فتكلما بكلمة الكفر، وقتلا الصبي، فخيرهما الله (تعالى) بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا: «فعلقا بين السماء والأرض»
. قال الخفاجي: وقد جمع السيوطي طرق هذا الحديث في تأليف مستقل، فبلغت نيفا وعشرين طريقا. [.....]
(٢) هذه الأخبار التي ذكرها بعض المفسرين منقولة من كتب اليهود في الإسرائيليات وافترائهم وكذبهم على أنبياء الله تعالى وملائكته.
(٣) محمد بن زياد، المعروف ب «ابن الأعرابي»، راوية، ناسب، علامة باللغة، ولد ١٥٠ هـ من أهل «الكوفة»، كان أحول، لم ير أحد في علم الشعر أغزر منه. له تصانيف منها: «أسماء الخيل وفرسانها»، و «الأنواء» و «الفاضل» و «البشر» وغيرها. وتوفي ٢٣١ هـ.
ينظر: «وفيات الأعيان» (١/ ٤٩٢)، و «تاريخ بغداد» (٥/ ٢٨٢)، و «المقتبس» (٦/ ٣- ٩)، و «نزهة الألباء» (٢٠٧)، و «الأعلام» (٦/ ١٣١).
(٤) وهي قراءة طلحة بن مصرف، كما في «مختصر الشواذ» (ص ١٦)، و «البحر المحيط» (١/ ٤٩٨)، و «الدر المصون» (١/ ٣٢٢).
(٥) كعب بن زهير بن أبي سلمى المازني، أبو المصرب. شاهر عالي الطبقة من أهل «نجد»، له «ديوان-
289
تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أنَّكَ مُدْرِكِي وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ «١»
وحَمَلَ هذه الآية على أن الملكين إِنما نزلا يُعْلِمَانِ بالسَّحْر، وينهَيَان عنه، وقال الجمهورُ: بل التعليمُ على عرفه.
٣١ أص «٢» : وقوله تعالى: مِنْ أَحَدٍ: «مِنْ» هنا زائدةٌ مع المفعول لتأكيد/ استغراق الجنْس لأن أحداً من ألفاظ العموم. انتهى.
ويُفَرِّقُونَ: معناه فرقةَ العِصْمَة، وقيل: معناه يُؤْخِّذُونَ «٣» الرجُلَ عن المرأة حتى لا يَقْدِرَ على وطْئها، فهي أيضا فرقة، وبِإِذْنِ اللَّهِ: معناه: بعلمه، وتمكينه، ويَضُرُّهُمْ: معناه: في الآخرة، والضميرُ في علموا عائدٌ على بني إِسرائيل، وقال:
اشْتَراهُ لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أنْ يعُلَّمُوا، والخَلاَقُ: النصيب والحظُّ وهو هنا بمعنى الجاه والقَدْرِ، واللامُ في قوله: «لَمَن» للقسمِ المؤذنة بأنَّ الكلام قَسَمٌ لا شرط.
م: وَلَبِئْسَ مَا: أبو البقاء «٤» : جواب قسم محذوف، والمخصوص بالذم
شعر» كان ممن اشتهر في الجاهلية، ولما ظهر الإسلام هجا النبي صلّى الله عليه وسلم وأقام يشبب بنساء المسلمين، فهدر النبي دمه، فجاءه «كعب» مستأمنا، وقد أسلم، وأنشده لاميته المشهورة التي مطلعها: «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول» فعفا عنه النبي صلّى الله عليه وسلم وخلع عليه بردته. وهو من أعرق الناس في الشعر.
ينظر: «الأعلام» (٥/ ٢٢٦).
(١) البيت في ملحق ديوانه (٢٥٨)، و «أمالي المرتضى» (٢/ ٧٧)، و «المحرر الوجيز» (١/ ١٨٧)، و «تفسير القرطبي» (٢/ ٥٤)، و «الدر المصون» (٣٢٢). ويروى ملفقا من بيتين لأسيد بن أبي إياس الهذلي في «شرح أشعار الهذليين» (٢/ ٦٢٧) وبلا نسبة في «شرح الأشموني» (١/ ١٥٨) و «شرح شذور الذهب» (ص ٤٦٨) و «مغني اللبيب» (ص ٢/ ٥٩٤).
والشاهد فيه استعمال الفعل «تعلّم» بمعنى «اعلم»، فنصب به مفعولين بواسطة «أنّ» المصدريّة المؤكّدة، وهذا هو الأكثر في تعدّي هذا الفعل.
(٢) «المجيد» (ص ٣٦١).
(٣) التأخيذ: حبس السواحر أزواجهن عن غيرهن من النساء. والتأخيذ- أيضا-: أن تحتال المرأة بحيل في منع زوجها من جماع غيرها، يقال: لفلانة أخذة تؤخذ بها الرجال عن النساء.
ينظر: «لسان العرب» (٣٦).
(٤) «التبيان» (١/ ١٠١) وأبو البقاء هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين، الإمام محبّ الدين، أبو البقاء العكبريّ، البغداديّ الضّرير، النحويّ، الحنبليّ، صاحب الإعراب. قال القفطي: أصله من «عكبرا»، وقرأ بالرّوايات على أبي الحسن البطائحيّ، وتفقّه بالقاضي أبي يعلى الفرّاء، ولازمه حتى برع في المذهب والخلاف والأصول، وقرأ العربيّة على يحيى بن نجاح وابن الخشّاب حتى حاز قصب السّبق، وصار فيها من الرّؤساء المتقدّمين، وقصده الناس من الأقطار، وأقرأ النّحو، واللّغة، والمذهب، والخلاف، والفرائض، والحساب. ينظر: «بغية الوعاة» (٢/ ٣٨، ٣٩).
290
محذوف، أي: السحر أو الكفر، والضمير في «بِهِ» عائدٌ على السحر، أو الكفر. انتهى.
وشَرَوْا: معناه: باعوا، والضمير في «يَعْلَمُونَ» عائدٌ على بني إسرائيل اتفاقا، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا: يعني: الذين اشْتَرُوا السِّحْرَ، وجوابُ: «لَوْ» : لَمَثُوبَةٌ، والمثوبةُ عند الجمهور: بمعنى الثواب.
وقوله سبحانه: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يحتمل نفْيَ العلْمِ عنهم، ويحتمل: لو كانوا يعلمون عِلْماً ينفع.
وقرأ جمهورُ النَّاس «١» : راعِنا من المراعاة بمعنى: فَاعِلْنَا، أي: ارعنا نَرْعَكَ، وفي هذا جَفَاءٌ أنْ يُخَاطِب به أحدٌ نبيِّهُ، وقد حضَّ اللَّه تعالى على خَفْض الصوت عنده، وتعزيرِهِ وتوقيرِهِ، وقالتْ طائفةٌ: هي لغةٌ للعرب، فكانت اليهودُ تصرفها إلى الرُّعُونَة يظهرون أنهم يريدون المراعاة، ويُبْطِنُون أنهم يريدونَ الرُّعُونَة التي هي الجَهْلُ، فنهى اللَّه المؤمنين عن هذا القول سَدًّا للذريعةِ «٢» لئلاَّ يتطرق منه اليهود إِلى المحظور، وانْظُرْنا: معناه: انتظرنا، وأمهل علَيْنا، ويحتمل أن يكون المعنى: تفقَّدنا من النَّظَر، والظاهرُ عنْدي استدعاءُ نظر العَيْن المقترِنِ بتدبُّر الحال، ولما نهى اللَّه تعالى في هذه الآية، وأمر، حض بَعْدُ على السمع الذي في ضمنه الطاعةِ، وأَعلَمَ أنَّ لمن خالف أمره، فكفر- عذاباً أليماً، وهو المؤلم، وَاسْمَعُوا: معطوفٌ على قُولُوا، لا على معمولها.
(١) وفي مصحف عبد الله وقراءته، وقراءة أبي: «راعونا» على إسناد الفعل لضمير الجمع، وذكر أيضا أن في مصحف عبد الله (ارعونا) خاطبوه بذلك إكبارا وتعظيما إذ أقاموه مقام الجمع، وقرأ الحسن وابن أبي ليلى، وأبو حيوة، وابن محيصن: «راعنا» بالتنوين جعله صفة لمصدر محذوف، أي: قولا راعنا، وهو على سبيل النسب كلابن، وتامر.
ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ١٨٩)، و «البحر المحيط» (١/ ٥٠٨)، و «الدر المصون» (١/ ٣٣٢)، و «مختصر الشواذ» (ص ١٦)، و «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٤١١).
(٢) وسدّ الذّرائع: هي التّوصّل بما هو مصلحة إلى مفسدة، كما يرى الشاطبي، أو وسيلة وطريقة إلى الشيء، عن شمس الدين ابن القيم، فالشاطبي يقتصر على الذّرائع سدّا، وابن القيم يشملها سدّا وفتحا.
فسدّ الذرائع وسيلة مباحة يتوصّل بها إلى ممنوع مشتمل على مفسدة.
قال الباجيّ: ذهب مالك إلى المنع من سدّ الذّرائع، وهي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصّل بها إلى فعل المحظور، مثل: أن يبيع السّلعة بمائة إلى أجل، ويشتريها بخمسين نقدا، فهذا قد توصل إلى خمسين بذكر السلعة.
291

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٦]

مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)
وقوله سبحانه: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ... الآية: يتناول لفظُ الآيةِ كلَّ خير، والرحمةُ في هذه الآية عامَّة لجميعِ أنواعها، وقال قومٌ: الرحمة القرآن.
وقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها... الآية: النَّسْخُ في كلام العرب، على وجهين:
أحدهما: النَّقْل كنقل كتابٍ من آخر، وهذا لا مدْخَل له في هذه الآية، وورد في كتاب اللَّه تعالى في قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: ٢٩].
الثاني: الإِزالةُ، وهو الذي في هذه الآية، وهو منقسمٌ في اللغة على ضَرْبَيْنِ:
أحدهما: يثبت الناسخ بعد المنسوخ كقولهم: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ.
والآخر: لا يثبت كقولهم: نَسَخَتِ الرِّيحُ الأَثَرَ.
وورد النسخ في الشَّرْع حسب هذَيْن الضربَيْن وحَدُّ «النَّاسِخ» عنْد حُذَّاق أهل السنة:
الْخِطَابُ الدالُّ على ارتفاع الحُكْمِ الثَّابتِ بالخطابِ المتقدِّمِ على وجْهٍ لولاه لكان ثَابِتاً، مع تراخيه عنه.
ت: قال ابن الحاجِبِ: والنَسْخُ لغةً: الإِزالة، وفي الاصطلاح: رفع الحُكْمِ الشرعيِّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّر «١». انتهى من «مختصره الكبير».
(١) ينظر: «البرهان» لإمام الحرمين (٢/ ١٢٩٣)، «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٦٣)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ١٥)، «سلاسل الذهب» للزركشي (ص ٢٩٠)، «التمهيد» للأسنوي (ص ٤٣٥)، «نهاية السول» له (٢/ ٥٤٨)، «زوائد الأصول» له (ص ٣٠٨)، «منهاج العقول» للبدخشي (٢/ ٢٢٤)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (ص ٨٧)، «التحصيل من المحصول» للأرموي (٢/ ٧)، «المنخول» للغزالي (ص ٢٨٨)، «المستصفى» له (١/ ١٠٧)، «حاشية البناني» (٢/ ٧٤)، «الإبهاج» لابن السبكي (٢/ ٢٢٦)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٣/ ١٢٩)، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (٢/ ١٠٦)، «المعتمد» لأبي الحسين (١/ ٣٦٣)، «إحكام الفصول في أحكام الأصول» للباجي (ص ٣٨٩)، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٤/ ٤٦٣)، «أعلام الموقعين» لابن القيم (١/ ٢٩)، «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (٣/ ٤٩)، «ميزان الأصول» للسمرقندي (٢/ ٦٢١، ٩٨١)، «حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى» (٢/ ١٨٥)، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (٢/ ٣٤)، «شرح المنار» لابن ملك (ص ٩١)، «الموافقات» للشاطبي (٣/-
292
والنسْخُ جائز على اللَّه تعالى عقلاً لأنه لا يلزم عنه محالٌ «١»، ولا تتغيرُ صفة من صفاته تعالى/، وليست الأوامر متعلِّقة بالإِرادة، فيلزم من النسْخ أنَّ الإِرادة تغيَّرت، ولا ٣١ ب النسخ لطروء علْم، بل اللَّه تعالى يعلم إلى أيِّ وقت ينتهي أمره بالحكم الأول، ويعلم نسخه له بالثاني، والبَدَاءُ لا يجوزُ على اللَّه تعالى لأنه لا يكون إلا لطروءِ علْمٍ أو لتغيُّر إِرادة وذلك محالٌ في جهة اللَّه تعالى، وجعلت اليهود النسْخَ والبَدَاءَ واحداً، فلم يجوِّزوه، فضَلُّوا.
والمنسوخُ عند أئمتنا: الحُكْم الثابتُ نفسُه، لا ما ذهْبت إِلَيْه المعتزلةُ من أنه مثل الحُكْم الثَّابت فيما يستقبلُ، والذي قادهم إلى ذلك مذهَبُهم في أنّ الأوامر مرادة، وأن
- ١٠٢)، «تقريب الوصول» لابن جزيّ (ص ١٢٥)، «شرح مختصر المنار» للكوراني (ص ٩١)، «نشر البنود» للشنقيطي (٢/ ٢٨٠)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (ص ٤٦٢).
وينظر: «تهذيب اللغة» (٧/ ١٨١)، «لسان العرب» (٦/ ٤٤٠٧)، «تاج العروس» (٢/ ٢٨٢)، «معيار العقول في علم الأصول» لابن المرتضى (١/ ١٧٢)، «كشف الأسرار» (٣/ ١٥٤)، «حواشي المنار» (٧٠٨)، «العدة» (٣/ ٧٧٨)، «الحدود» للباجي (ص ٤٩)، «اللمع» (ص ٣٠)، «الوصول» لابن برهان (٢/ ٧)، «روضة الناظر» (٢٦)، «الرسالة» للشافعي (١٢٨)، «المغني» للخبازي (٢٥٠)، «المسودة» (١٩٥)، «شرح تنقيح الفصول» (٣٠١)، «تقريب الوصول» (١٢٥)، «المنتهى» لابن الحاجب (١١٣).
(١) أجمع أهل الشرائع طرّا من المسلمين والنصارى واليهود على جوازه عقلا، وخالف في ذلك الشمعونية من اليهود متمسكين بشبه واهية.
احتج الجمهور بدليل عقلي حاصله: أن المخالف لا يخلو حاله من أحد أمرين: أما إن يكون ممن يوافق على أن الله (تعالى) هو الفاعل المختار، له أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير نظر إلى حكمة وغرض.
وإما أن يكون ممن يعتبر المصلحة في أفعاله (تعالى)، فإن كان الأول، فليس في العقل ما يمنع من أن يأمر الله بشيء في وقت وينهى عنه في وقت آخر، كأمره بالصوم في اليوم الأخير من رمضان، ونهيه عنه في اليوم الأول من شوال. وإن كان الثاني، فلا يمتنع أن يعلم الله أن في الفعل مصلحة في وقت، فيأمر به، وأن في الفعل مضرة في وقت آخر، فينهى عنه فإن المصلحة مما تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. أما اختلافها بالأشخاص فإنا نرى الغنى مصلحة لبعض الناس، والفقر مفسدة له، بينما نرى الفقر مصلحة للبعض الآخر، والغنى مفسدة له يدلنا على ذلك قول الرسول الأمين فيما يرويه عن رب العالمين: «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلّا الفقر، ولو أغنيته لأفسده. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده» وأما اختلافها بحسب الأحوال والأزمان، فإنا نرى الشدة والغلظة نافعة في زمان دون زمان، لا ينفع فيه إلا المداراة والمساهلة. ومثل ذلك المريض يكون تناول الدواء مفيدا له حين مرضه، فيأمره الطبيب بتناوله، ويكون مضرا له بعد سلامته، فينهاه الطبيب عنه حينئذ، أو كالغذاء الجيد لا تتحمله معدة المريض الضعيف، فينهى عنه. فإذا شفي من مرضه وسلمت معدته واحتاج إلى ما يعيد قوته، حتم عليه الطبيب تناول ما كان يمنعه عنه. واعتبر ذلك في تربية الطفل يعطى من الغذاء الخفيف ما يناسبه حتى إذا شب زيد له من متين الغذاء بمقداره. ومنع من رضاع أمه إذ كان ذلك لا يناسب بعد كبره. ينظر: «النسخ» لشيخنا إمام إبراهيم عيسى ص ٢٠. [.....]
293
الحُسْن صفةٌ نفسيَّةٌ للحَسَنِ، ومراد اللَّه تعالى حَسَنٌ «١»، وقد قامت الأدلَّة على أنَّ الأوامر لا
(١) لا قبح عقلا وشرعا في شيء من الأشياء من حيث كونه مخلوقا لله (تعالى)، سواء كانت أفعال العباد أو لا لأن مالك الأمور كلها يفعل ما يشاء. وأما أفعال العباد من حيث كونها مكسوبة للعباد، فقد تتصف بالحسن والقبح الشرعيين. هذا عند الأشاعرة، وأما المعتزلة فقد قالوا: القبيح قبيح في نفسه، فيقبح من الله (تعالى) كما يقبح منا، وكذا الحسن، وقد يدركان بالعقل، فوقع الاختلاف بين الفريقين في أن العقل هل له حكم في حسن الأفعال وقبحها أم لا. بل الحاكم بهما الشرع فقط؟! وتفصيل المقام على ما في شرح «المواقف» : أن العلماء قد ذكروا أن الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان: الأول:
كون الفعل صفة كمال كالعلم، وكونه صفة نقصان كالجهل، ولا نزاع بين الفريقين في أن الحسن والقبح بهذا المعنى يدركان بالعقل فإن العقل يحتم بأن العلم حسن، والجهل قبيح، ولا يتوقف على حكم الشرع بالحسن والقبح فيهما. والمعنى الثاني: كون الفعل ملائما للغرض أو منافرا له، فما وافق الغرض كان حسنا، وما خالفه كان قبيحا، وما خلا منهما لا يكون حسنا ولا قبيحا. وقد يعبر عن الحسن والقبح بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة، فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، والقبيح: ما فيه مفسدة، وما خلا عنهما لا يكون حسنا ولا قبيحا. ولا نزاع في أن الحسن والقبح بهذا المعنى أيضا عقليان، أي يدركان بالعقل، لكن هذا المعنى يختلف بالاعتبار فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه وموافق لغرضهم، ومفسدة لأوليائه ومخالف لغرضهم، والمعنى الثالث: كون الفعل متعلق المدح عاجلا والثواب آجلا، وكونه متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا. وهذا المعنى الثالث هو محل النزاع، فالحسن والقبح بهذا المعنى عند الأشعري شرعي وذلك لأنهما لا يكونان لذات الفعل، وليس للفعل صفة لأجلها يكون الفعل حسنا وقبيحا بهذا المعنى الثالث حتى يدرك العقل ما به الحسن والقبح، ويحكم بالحسن والقبح، بل كل ما أمر الشارع به فهو حسن، وكل ما نهى الشارع عنه قبيح، حتى لو عكس الأمر لانعكس الحال. وقالت المعتزلة: للفعل في نفسه (أي مع قطع النظر عن الشرع) جهة محسنة مقتضية لاستحقاق فاعله مدحا وثوابا أو مقبحة مقتضية لاستحقاق فاعله ذما وعقابا. ثم إن تلك الجهة المقتضية لهما هو ذات الفعل عند جمهور المتقدمين منهم، وصفة حقيقة زائدة على ذات الفعل عند بعض المتقدمين منهم. وقال الجبائي منهم: ليس حسن الأفعال وقبحها لذواتها ولا لصفات حقيقية لها، بل لوجوه واعتبارات وأوصاف إضافية تختلف بحسب الاعتبار كما في لطم اليتيم للتأديب. ثم إن المعتزلة قالوا: إن من الحسن والقبح ما يدركه العقل ضرورة من غير نظر واستدلال، كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار. ومنهما ما يدركه العقل بالنظر والاستدلال، كقبح الصدق الضار، وحسن الكذب النافع. ومنهما ما لا يدركه العقل لا بالضرورة ولا بالاستدلال، كحسن صوم آخر رمضان، وقبح صوم أول شوال، لكن إذا ورد به الشرع، وعلم أن ثمة جهة محسنة ومقبحة، فإدراكه الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بأمره ونهيه. وللماتريدية موافقة للمعتزلة في أن حسن بعض أفعال العباد وقبحها يكونان لذات الفعل أو لصفة له، ويعرفان عقلا كما يعرفان شرعا.
ينظر: «نشر الطوالع» (ص ٢٧٨- ٢٨٠)، «البحر المحيط» للزركشي (١/ ١٤٣، ١٦٨)، «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ٨٧)، «سلاسل الذهب» للزركشي (٩٧)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ٧٦)، «التمهيد» للأسنوي (٦١- ٦٢)، «نهاية السول» له (١/ ٨٨)، «زوائد الأصول» له (١٩٥)، «منهاج العقول» للبدخشي (١/ ٦٧٠)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (٧)، «التحصيل من المحصول» للأرموي (١/ ١٧٥- ١٨٠)، «المنخول» للغزالي (٨)، «المستصفى» له (١/ ٥٥)، «حاشية البناني» (١/-
294
ترتبطُ بالإِرادة، وعلى أن الحُسْن والقُبْح في الأحكام، إِنما هو من جهة الشرع، لا بصفة نفسيَّة، والتخصيصُ من العموم يوهم أنه نسْخ، وليس «١» به لأن المخصَّص لم يتناولْه العمومُ قطُّ، ولو تناوله العموم، لكان نسخاً، والنسخ لا يجوز في الأخبار «٢»، وإِنما هو
- ٦٤)، «الإبهاج» لابن السبكي (١/ ٦١، ١٣٨)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (١/ ٨٧- ٨٨)، «تخريج الفروع» (٢٤٤)، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٧٧- ٨١)، «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٣٢٧)، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (١/ ١٧٣)، «نسمات الأسحار» لابن عابدين (٤٥)، «شرح المنار» لابن ملك (٣٥)، «ميزان الأصول» للسمرقندي (١/ ١٥٠- ١٥١)، «الكوكب المنير» للفتوحي (٩٥).
(١) معلوم أن التخصيص والنسخ يشتركان في أن كل واحد منهما بيان ما لم يرد باللفظ، إلا أنهما يفترقان في أمور، وهي أن التخصيص يبين أن العام لم يتناول المخصوص، والنسخ يرفع بعد الثبوت وأن التخصيص لا يرد إلا على العام، والنسخ يرد عليه وعلى غيره. وأنه يجب أن يكون متصلا، والنسخ لا يكون إلا متراخيا. وأنه لا يجوز إلى أن لا يبقى شيء، والنسخ يجوز. وأنه قد يكون بأدلة السمع وغيرها، والنسخ لا يجوز إلا بالسمع. وأنه يكون معلوما ومجهولا. والنسخ لا يكون إلا معلوما. وأنه لا يخرج المخصوص منه من كونه معمولا به في مستقبل الزمان، والنسخ يخرج المنسوخ عن ذلك. وأنه يرد في الأخبار والأحكام، والنسخ لا يرد إلا في الأحكام. وأن دليل الخصوص يقبل التعليل ودليل النسخ لا يقبله.
ينظر: «النسخ» لشيخنا إمام إبراهيم عيسى ص ٩١.
(٢) تنوعت آراء الأصوليين في موضوع النسخ، فمنهم من ذهب إلى أن النسخ كما يكون في الأوامر والنواهي يكون في الأخبار. وينسب لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والسدي حيث قالا: «قد يدخل النسخ على الأمر والنهي وعلى جميع الأخبار» ولم يفصلا، وتابعهما على هذا القول جماعة.
قال أبو جعفر: «وهذا القول عظيم جدا يئول إلى الكفر» لأن قائلا لو قال: «قام فلان» ثم قال: «لم يقم» ثم قال: «نسخته» لكان كاذبا.
وبعضهم ذهب إلى أن أمر الناسخ والمنسوخ موكول إلى الإمام، فله أن ينسخ ما شاء. وهذا القول أعظم لأن النسخ لم يكن إلى النبي صلّى الله عليه وسلم إلا بالوحي من الله (تعالى) إما بقرآن مثله على قول قوم، وإما بوحي من غير القرآن، فلما ارتفع هذا بموت النبي صلّى الله عليه وسلم ارتفع النسخ.
ومنهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر والنواهي، وأما الأخبار فيفصل فيها بين ما فيه حكم، فيجوز النسخ فيه، وبين ما لا حكم فيه، فلا يجوز.
ومنهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر والنواهي خاصة.
وهذا المذهب حكاه هبة الله بن سلامة عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة بن عمار.
وهناك مذهب خامس، عليه أئمة العلماء، وهو أن النسخ إنما يكون في المتعبدات لأن لله (عز وجل) أن يتعبد خلقه بما شاء إلى أي وقت شاء، ثم يتعبدهم بغير ذلك، فيكون النسخ في الأوامر والنواهي وما كان في معناهما مثل قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور: ٣] وقوله تعالى في سورة يوسف- عليه السلام-: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً [يوسف: ٤٧] فالأولى مثال للخبر الذي بمعنى النهي لأن المعنى. لا تنكحوا زانية ولا مشركة. -
295
مختصٌّ بالأوامر والنواهي، ورد بعض المعترضين الأمر خبراً بأن قال: أليس معناه وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أنْ تَفْعَلُوا كذا، فهذا خبر، والجوابُ أن يقال: إِن في ضمن المعنَى: إِلاَّ أنْ أنْسَخَهُ عنْكُم، وأرفعه، فكما تضمَّن لفظ الأمر ذلك الإِخبار كذلك تضمَّن هذا الاستثناءُ، وصور النسخ تختلفُ، فقد ينسخ الأثقل إِلى الأَخَفِّ، وبالعكس، وقد ينسخ المثلُ بمثلهِ ثِقَلاً وخِفَّةً، وقد ينسخ الشيء لا إِلى بدل، وقد تُنْسَخُ التلاوة دون الحُكْم، وبالعكس، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نَسْخ أحدهما دون الآخر، ونسْخُ القرآن بالقرآن، وينسخ خبر الواحدِ بخبر الواحدِ وهذا كله مُتَّفَقٌ عليه، وحُذَّاق الأئمَّة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجودٌ في قوله- عليه السلام- «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» «١»، وهو ظاهر مسائل مالك.
- والثانية مثال للخبر الذي بمعنى الأمر لأن المعنى «ازرعوا» وهذا المذهب عزي إلى الضحاك بن مزاحم.
ينظر: «النسخ» لشيخنا إمام عيسى. (ص ١٨- ١٩).
(١) أخرجه أبو داود (٣/ ٢٩٠) كتاب «الوصايا»، باب الوصية للوارث، حديث (٢٨٧٠)، والترمذي (٤/ ٤٣٣) كتاب «الوصايا»، باب لا وصية لوارث، حديث (٢١٢٠)، وابن ماجه (٢/ ٩٠٥) كتاب «الوصايا»، باب لا وصية لوارث، حديث (٢٧١٣)، وأحمد (٥/ ٢٦٧)، والطيالسي (٢/ ١١٧- منحة) رقم (٢٤٠٧)، وسعيد بن منصور (٤٢٧)، والدولابي في «الكنى» (١/ ٦٤)، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (١/ ٢٢٧)، والبيهقي (٦/ ٢٦٤) كتاب «الوصايا»، باب نسخ الوصية للوالدين، كلهم من إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة الباهلي. قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: «إنّ الله (تبارك وتعالى) قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث».
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن الجارود في «المنتقى» رقم (٩٤٩) من طريق الوليد بن مسلم قال: ثنا ابن جابر، ثنا سليم بن عامر، سمعت أبا أمامة، فذكر الحديث.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة وهم: عمرو بن خارجة، وأنس بن مالك، وابن عباس، وجابر، وعلي، وعبد الله بن عمرو، ومعقل بن يسار، وزيد بن أرقم، والبراء، ومجاهد مرسلا.
حديث خارجة: أخرجه الترمذي (٤/ ٤٣٤) كتاب «الوصايا»، باب لا وصية لوارث، حديث (٢١٢١)، والنسائي (٦/ ٢٤٧)، كتاب «الوصايا»، باب إبطال الوصية للوارث وابن ماجة (٢/ ٩٠٥) كتاب «الوصايا»، باب لا وصية لوارث، وأحمد (٤/ ١٨٦، ١٨٧)، والدارمي (٢/ ٤١٩) كتاب «الوصايا»، باب الوصية للوارث، والطيالسي (١٣١٧)، وأبو يعلى (٣/ ٧٨) رقم (١٥٠٨)، والبيهقي (٦/ ٢٦٤) كتاب «الوصايا»، باب نسخ الوصية للوالدين، كلهم من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة أن النبي صلّى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها، وإن لعابها يسيل بين كتفي، فسمعته يقول: «إن الله (عز وجل) أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث».
قال الترمذي: حسن صحيح.
وللحديث طريق آخر. -
296
ت: ويعني بالسنةِ الناسخة للقرآن الخَبَرَ المتواترَ القطعيّ، وقد أشار إلى أن هذا
- أخرجه الدارقطني (٤/ ١٥٢) كتاب الوصايا، حديث (١٠)، والبيهقي (٦/ ٢٦٤) كتاب «الوصايا»، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين، عن طريق زياد بن عبد الله عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن بن عمرو بن خارجة مرفوعا بلفظ: «لا وصية لوارث، إلا أن يجيز الورثة».
وضعف البيهقي سنده: وأخرجه الطبراني في «الكبير» (٤/ ٢٠٢) رقم (٤١٤٠) من طريق عبد الملك بن قدامة الجمحي عن أبيه عن خارجة بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوم الفتح وأنا عند ناقته: «ليس لوارث وصية، قد أعطى الله (عز وجل) كل ذي حق حقه، وللعاهر الحجر».
وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحي، وثقه ابن معين، وضعفه الناس. اهـ.
قلت: ووثقه أيضا يعقوب بن سفيان فقال في «المعرفة والتاريخ» (١/ ٤٣٥) :«مديني ثقة».
لكن عبد الملك هذا ضعفه الجمهور: قال البخاري في «الضعفاء» (٢٢٠) : يعرف وينكر.
وقال أبو زرعة الرازي: منكر الحديث «سؤالات البرذعي» (ص ٣٥٦).
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث «علل الحديث» (٢٤٣٥).
وقال النسائي: مدني ليس بالقوي «الضعفاء والمتروكين» (٤٠٣).
وقال الدارقطني: مدني يترك «سؤالات البرقاني» (٣٠١).
حديث أنس: أخرجه ابن ماجه (٢/ ٩٠٦) كتاب «الوصايا» باب لا وصية لوارث، حديث (٢٧١٤)، والدارقطني (٤/ ٧٠) كتاب «الفرائض»، حديث (٨)، والبيهقي (٦/ ٢٦٤- ٢٦٥) كتاب «الوصايا»، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين. من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن سعيد بن أبي سعيد عن أنس به.
قال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ٣٦٨) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
حديث ابن عباس:
أخرجه الدارقطني (٤/ ٩٧) كتاب الفرائض، حديث (٨٩)، والبيهقي (٦/ ٢٦٣) كتاب «الوصايا»، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين. من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. قال البيهقي: عطاء: هو الخراساني، لم يدرك ابن عباس ولم يره. قاله أبو داود وغيره.
وأخرجه البيهقي (٦/ ٢٦٣- ٢٦٤) من طريق يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس.
قال الحافظ في «التلخيص» (٣/ ٩٢) : حديث حسن.
حديث جابر:
أخرجه الدارقطني (٤/ ٩٧) كتاب «الفرائض»، حديث (٩٠) من طريق فضل بن سهل: ثنى إسحاق بن إبراهيم الهروي، ثنا سفيان عن عمرو عن جابر به.
قال الدارقطني: الصواب مرسل.
قال أبو الطيب آبادي في «التعليق المغني» (٤/ ٩٧) : إسحاق بن إبراهيم الهروي، ثم البغدادي، أبو موسى، وثقه ابن معين وغيره، وقال عبد الله بن علي بن المديني: سمعت أبي يقول: أبو موسى الهروي روى عن سفيان عن عمرو عن جابر: «لا وصية... الحديث».
كأنه سفيان عن عمرو مرسلا، «كذا في الميزان» اهـ.
297
الحديث مُتَوَاتِرٌ، ذكره عند تفسير قوله تعالى: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة: ١٨٠]،
- وللحديث طريق آخر: أخرجه الدارقطني (٤/ ١٥٢) كتاب «الوصايا»، حديث (١٢) من طريق نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث، ولا إقرار بدين».
حديث علي:
أخرجه الدارقطني (٤/ ٩٧) كتاب الفرائض، حديث (٩١)، من طريق يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الدين قبل الوصية، ولا وصية لوارث».
ومن طريق يحيى أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٧/ ١٩٠) ويحيى بن أبي أنيسة. قال أحمد: متروك الحديث.
وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه.
وقال ابن معين: ليس بشيء.
وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، وليس بذاك.
وقال النسائي: متروك الحديث.
وأسند ذلك ابن عدي في «الكامل» عنهم.
حديث عبد الله بن عمرو:
أخرجه الدارقطني (٤/ ٩٨) كتاب «الفرائض»، حديث (٩٣)، وابن عدي في «الكامل» (٢/ ٨١٧) من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر: «لا وصية لوارث، إلا أن يجيز الورثة».
حديث معقل بن يسار:
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٥/ ٢١١) من طريق علي بن الحسن بن يعمر: ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: قال معقل بن يسار: كنا بمنى وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب ولعاب ناقته بين كتفي، ففهمت من كلامه قال: «لا وصية لوارث».
قال ابن عدي: هذا الحديث باطل بهذا الإسناد.
حديث زيد بن أرقم والبراء:
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٦/ ٣٥٠) من طريق موسى بن عثمان الحضرمي عن أبي إسحاق عن البراء وزيد بن أرقم قالا: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم غدير «خم» ونحن نرفع غصن الشجرة عن رأسه فقال:
«إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهلي، لعن الله من ادعى إلى غير أبيه، ولعن الله من تولى غير مواليه.
الولد للفراش وللعاهر الحجر. ليس لوارث وصية»
. قال ابن عدي: موسى بن عثمان: حديثه ليس بمحفوظ.
وقال أبو حاتم: متروك. ينظر: «اللسان» (٦/ ١٢٥)، و «الميزان» (٤/ ٢١٤).
مرسل مجاهد:
أخرجه البيهقي (٦/ ٢٦٤) كتاب «الوصايا»، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين، من طريق الشافعي عن ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد به.
298
واختلف القُرَّاء في قراءة قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «نَنْسَأْهَا» بنون مفتوحةٍ، وأخرى ساكنة، وسين مفتوحة، وألف بعدها مهموزةٍ، وهذا بمعنى التأخير، وأما قراءة نافعٍ والجمهورِ: «نُنْسِهَا» من النسيان «١»، وقرأَتْ ذلك فرقةٌ إِلاَّ أنها همزت بعد السين «٢»، فهذه بمعنى التأخير والنِّسْيَان في كلام العربِ يجيء في الأغلب ضدَّ الذكر، وقد يجيء بمعنى التَّرْك، فالمعاني الثلاثة مقولَةٌ في هذه القراءات، فما كان منها يترتَّب في لفظةَ النسيان الذي هو ضدُّ الذكْر، فمعنى الآية به: ما ننسَخْ/ من آيةٍ أو نقدِّر نسيانَكَ لها، فإنّا ٣٢ أنأتي بخيرٍ منها لكُمْ أو مثلها في المنفعة، وما كان على معنى الترك، أو على معنى التأخيرِ، فيترتَّب فيه معانٍ، انظرها، إِنْ شئْتَ فإِنِّي آثرت الاختصار.
ع «٣» : والصحيح أن نسيان النبيّ صلّى الله عليه وسلم لِمَا أراد اللَّه أن يَنْسَاهُ، ولم يرد أن يثبته قرآناً- جائزٌ، فأما النِّسْيَان الذي هو آفة في البشر، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلم معصومٌ منْه قبل التبليغ، وبعد التبليغ، ما لم يحفظْه أحد من أصْحابه، وأما بعد أن يحفظ، فجائز علَيْه ما يجوز على البشر لأنه صلّى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ، وأدَّى الأمانة ومنه الحديثُ، حِينَ أَسْقَطَ آيَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ: «أَفِي القَوْمِ أُبَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي؟ قَالَ:
حَسِبْتُ أنّها رفعت فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: لَمْ تُرْفَعْ، وَلَكِنِّي نُسِّيتُهَا»
«٤».
وقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ: معناه: التقرير، ومعنى الآية، أن اللَّه تعالى ينسخ ما شاء، ويثبت ما شاء، ويفعل في أحكامه ما شاء، هو قدير على ذلك، وعلى كلِّ شيء، وهذا لإِنْكَارِ اليَهُودِ النَّسْخَ، وقوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ عمومٌ، معناه الخصوصُ، إِذ لا تدخل فيه الصفاتُ القديمةُ بدليل العقل، ولا المحالاتُ لأنها ليستْ بأشياء، والشيء في كلام العرب: الموجود، وقَدِيرٌ: اسم فاعل على المبالغةِ، قال القُشَيْرِيُّ «٥» : وإِن من علم
(١) ينظر: «السبعة» (١٦٨)، و «الكشف» (١/ ٢٥٧)، و «حجة القراءات» (١٠٩)، و «العنوان» (٧١)، و «الحجة» (٢/ ١٨٠)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٥٤، ٥٥)، و «شرح شعلة» (٢٧٢)، و «معاني القراءات» (١/ ١٦٩)، و «إتحاف» (١/ ٤١١).
(٢) وقد ذكر أبو حيان في البحر اثنتي عشرة قراءة لهذه اللفظة. ينظر: «البحر المحيط» (١/ ٥١٣).
(٣) «المحرر الوجيز» (١/ ١٩٤).
(٤) أخرجه أحمد (٣/ ٤٠٧) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢/ ٧٢) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(٥) عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد، أبو القاسم القشيري، النيسابوري، أخذ عن أبي علي الدقاق، وأبي عبد الرحمن السلمي، ودرس الفقه على أبي بكر الطوسي، وقرأ الكلام على ابن فورك، وأبي إسحاق الأسفراييني، قال ابن السمعاني: لم ير أبو القاسم مثل نفسه في كماله وبراعته.
صنف التفسير الكبير، والرسالة. ولد سنة ٣٧٦، ومات سنة ٤٦٥.
299
أن مولاه قديرٌ على ما يريد، قَطَعَ رجاءه عن الأغيار كما قال تعالى عن إِبراهيم- عليه السلام-: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم: ٣٧] قال أهل الإِشارة:
معناه: سهلت طريقهم إِليك، وقطَعْت رجاءهم عن سواك، ثم قال: لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، [إبراهيم: ٣٧] أي: شغلتهم بخدمتك، وأنت أولى بهم، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: ٣٧]، أي: إِذا احتاجوا شيئاً، فذلل عبادك لهم، وأوصل بكرمك رعايتهم إليهم فإِنك على ذلك قديرٌ، وإِن من لزم بابه أوصل إليه محابَّه، وكفاه أسبابه، وذلل لهُ كلَّ صعب، وأورده كلَّ سهل عذبٍ من غير قطعِ شُقَّة، ولا تحمل مشقة انتهى من «التحبير».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
وقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... الآيةَ: المُلْك السلطانُ، ونفوذُ الأمرِ، والإِرادةِ، وجَمْع الضمير في لَكُمْ دالٌ على أن المراد بخطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم خطابُ أمته.
وقوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ... الآيةَ: قال أبو العالية: إِن هذه الآية نزلَتْ حين قال بعض الصحابة للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لَيْتَ ذُنُوبَنَا جَرَتْ مجرى ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم: «قَدْ أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْراً مِمَّا أعطى بَنِي إِسْرَائِيلَ»، وتَلاَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء: ١١٠]، وقال ابنُ عَبَّاس: سَبَبُهَا أنَّ رافع بن حريملة اليهوديّ سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلم تفجيرَ عُيونٍ، وغير ذلك «١»، وقيل غير هذا، وما سئل موسى- عليه السلام- هو أَنْ يرى اللَّه جهرةً.
وكنى عن الإِعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدّل، وضَلَّ: أخطأ (٣٢ ب الطريق، والسواء مِنْ/ كل شيءٍ الوسَطُ، والمعظَمُ ومنه: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ
- انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ٢٥٤)، «طبقات السبكي» (٣/ ٢٤٣)، «تاريخ بغداد» (١١/ ٨٣)، «الأعلام» (٤/ ١٨٠). [.....]
(١) أخرجه الطبريّ (١/ ٥٣٠) برقم (١٧٨٠) وقال أحمد شاكر في المطبوعة: «من قولهم»، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام (٢/ ١٩٧) اهـ. وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٢٠١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، ولابن إسحاق.
[الصافات: ٥٥] وقال حَسَّانُ بنُ ثابتٍ في رثاء النبيِّ صلّى الله عليه وسلم [الكامل] :
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِه... بَعْدَ المُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ «١»
والسبيلُ: عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله تعالى لعباده.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
وقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً...
الآيةَ: قال ابنُ عَبَّاس: المراد ابنا أَخْطَبَ حُيَيٌّ وأَبُو يَاسِرً، أي: وأتباعهما «٢»، واختلف في سبب هذه الآيةِ، فقيل: إن حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ «٣»، وعمّار بن ياسر «٤» أتيا بيت
(١) ينظر: «ديوانه» ص (٦٦)، و «لسان العرب» (١٤/ ٤١٢) (سوا)، وبلا نسبة من «المقتضب» (٢/ ٢٧٤)، و «السيرة مع الروض» (٤/ ٢٦٦)، و «مجاز القرآن» (١/ ٥٠)، و «الكامل» (٣/ ١٣٦٩).
وينظر: «تفسير الطبري» (١/ ٣٦٨)، و «القرطبي» (٢/ ٧٠)، «الدر المصون» (١/ ٣٤٠).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٥٣٤) برقم (١٧٩١)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٢٠١)، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم. وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٩٦).
(٣) حذيفة بن اليمان (واسم اليمان حسل، وقيل: حسيل) بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة فروة، ابن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض. أبو عبد الله العبسي، واليمان لقب: حسل والده.
وقيل: لقب جروة بن الحارث. وقيل له ذلك لأنه حالف الأنصار وهم من اليمن. من كبار الصحابة.
صاحب سر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنافقين. روى عنه ابنه أبو عبيدة، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وقيس بن أبي حازم، وأبي وائل، وزيد بن وهب، وغيرهم. توفي سنة (٣٦) بعد وفاة عثمان بأربعين ليلة.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٤٦٨)، «الإصابة» (١/ ٣٣٢)، «الثقات» (٣/ ٨٠)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ١٢٥)، «الكاشف» (١/ ٢١٠)، «العبر» (١/ ٢٥)، «الاستيعاب» (١/ ٣٤٤).
(٤) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم... المذحجي أبو اليقظان.
العنسي. حليف بني مخزوم. هو من السابقين الأولين إلى الإسلام... وأمه سميّة، وهي أول من استشهد في سبيل الله (عز وجل) وأبوه وأمه من السابقين، وكان إسلام عمار بعد بضعة وثلاثين، وهو ممن عذب في الله. قال عمار: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ورسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها فقلت: ما تريد؟ فقال: ما تريد أنت؟ قلت: أريد أن أدخل على محمد وأسمع منه كلامه. فقال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا. وهو من مشاهير الصحابة رضي الله عنه.
قتل مع علي ب «صفين» سنة (٣٧)، وله (٩٣ سنة).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٤/ ١٢٩)، «الإصابة» (٤/ ٣٧٣)، «الثقات» (٣/ ٣٠٢)، «الاستيعاب» -
301
المِدْرَاس «١»، فأراد اليهودُ صرْفَهما عن دينهما، فثبتا عليه، ونزلت الآية، وقيل: إن هذه الآية تابعةٌ في المعنى لما تقدَّم من نَهْيِ اللَّه عزَّ وجلَّ عن متابعة أقوال اليهود في: راعِنا [البقرة: ١٠٤] وغيره، وأنهم لا يودُّون أن ينزل على المؤمنين خيْرٌ، ويودُّون أن يردوهم كفاراً من بعد ما تبيَّن لهم الحق، وهو نبوءة محمّد صلّى الله عليه وسلم.
ت: وقد جاءَتْ أحاديث صحيحةٌ في النهيِ عن الحسدِ، فمنْها حديثُ مالكٍ في الموطَّإ عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّهِ إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهُجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ» «٢» وأسند أبو عمر بن عبد البَرِّ عن الزُّبَيْر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، حَالِقَتَا الدِّينِ، لاَ حَالِقَتَا الشَّعْرِ» «٣». انتهى من «التمهيد».
- (٣/ ١١٣٥)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣٩٤)، «التاريخ الصغير» (١/ ٧٩)، «الجرح والتعديل» (٦/ ٣٨٩).
(١) المدراس: البيت الذي يدرس فيه القرآن، وكذلك مدراس اليهود، وهو المقصود هنا.
ينظر: «لسان العرب» (١٣٦٠).
(٢) أخرجه البخاري (١٠/ ٤٩٦) في الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (٦٠٦٥)، وباب الهجرة (٧٠٧٦). ومسلم (٤/ ١٩٨٣- ١٩٨٤) في البر والصلة، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر (٢٣- ٢٤/ ٢٥٥٩) وأبو داود (٢/ ٦٩٥) في الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم (٤٩١٠)، والترمذي (٤/ ٩٠) في البر والصلة، باب ما جاء في الحسد (١٩٣٥)، ومالك في الموطأ (٢/ ٩٠٧) في المهاجرة، باب ما جاء في حسن الخلق، باب ما جاء في المهاجرة (١٤). وأحمد (٣/ ١٩٩، ٢٠١، ٢٢٥، ٢٧٧، ٢٨٣). والحميدي (١١٨٣)، والطيالسي (٢١٩٠) وعبد الرزاق (٢٠٢٢٢)، وأبو يعلى (٣٢٦١) والبيهقي (١٠/ ٢٣٢) والبغوي في شرح السنة بتحقيقنا (٦/ ٤٩٠) برقم (٣٤١٦) من طرق عن أنس.
(٣) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٦٤) كتاب «صفة القيامة»، باب (٥٦) رقم (٢٥١٠)، وأحمد (١/ ١٦٥، ١٦٧)، وابن عبد البر في «التمهيد» (٦/ ١٢٠) كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد أن مولى الزبير حدثه أن الزبير بن العوام حدثه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال، فذكره. وقال الترمذي: هذا حديث قد اختلفوا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فروى بعضهم عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد، عن مولى الزبير عن النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن الزبير. اهـ.
والطريق المرسل الذي أشار إليه الترمذي: أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (٦/ ١٢١). وهذا الحديث أخرجه البزار (٢/ ٤١٨، ٤١٩- كشف) رقم (٢٠٠٢) من طريق موسى بن خلف عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد مولى لآل الزبير عن ابن الزبير به.
وقال البزار: هكذا رواه موسى بن خلف، ورواه هشام صاحب الدستوائي عن يحيى عن يعيش عن مولى للزبير عن الزبير. وقال الهيثمي في «المجمع» (٨/ ٣٣) : وإسناده جيد.
قلت: وفيه نظر كما سيأتي فقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ٣٢٧) رقم (٢٥٠٠) : سئل أبو زرعة عن حديث رواه موسى بن خلف عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش مولى ابن الزبير عن الزبير أن النبي صلّى الله عليه وسلم-
302
والعَفْوُ: تركُ العُقُوبةِ، والصفْح: الإِعراض عن المُذْنِبِ كأنَّه يولي صفحة العُنُق، قال ابنُ عَبَّاس: هذه الآية منسوخةٌ بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [التوبة: ٢٩] الآيةَ إلى قوله: صاغِرُونَ «١».
وقيل: بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «٢» [التوبة: ٥]، وقال قوم: ليس هذا حدَّ المنسوخِ لأن هذا في نفْس الأمر كان التوقيفَ على مدَّته.
ت: وينبغي للمؤمن أَن يتأدَّب بآداب هذه الآية، وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال: «أَلاَ أَدُلُّكُمْ على مَا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
«تَحْلُمُ على مَنْ جَهِلَ عَلَيْكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ» خرَّجه النسائيُّ «٣». انتهى من «الكوكب الدرِّيِّ» لأبي العبَّاس أحمد بن سعيد التُّجِيبِيِّ.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: مقتضاه في هذا الموضِعِ: وَعْدٌ للمؤمنين.
وقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ... الآية: قال الطبريُّ «٤» : إِنما أمر اللَّه المؤمنين هنا بالصَّلاة والزَّكاة ليحطَّ ما تقدَّم من ميلهم إِلى قول اليهودِ: راعِنا [البقرة: ١٠٤] لأنَّ ذلك نَهْيٌ عن نوعه، وقوله: تَجِدُوهُ، أي: تجدوا ثوابه، وروى ابن المبارك في «رَقَائِقِهِ» بسنده قال: «جَاءَ رجل من الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي لاَ أُحِبُّ المَوْتَ؟ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَقَدِّمْ مَالَكَ بَيْنَ يديك فإنّ
قال، فذكر الحديث، قال أبو زرعة: رواه علي بن المبارك، وشيبان، وحرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد بن هشام أن مولى لآل الزبير حدثه أن الزبير حدثه عن النبي صلّى الله عليه وسلم. قال أبو زرعة: الصحيح هذا، وحديث موسى بن خلف وهم.
(١) أخرجه الطبري (١/ ٥٣٦) برقم (١٧٩٩)، والبيهقي في «الدلائل» (٢/ ٥٨٢)، وذكره ابن عطية في تفسيره (١/ ١٩٦)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٠٢)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل». وذكره الشوكاني في «تفسيره» (١/ ١٩٤).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٥٣٦) برقم (١٧٩٩) عن ابن عباس، وعبد الرزاق في تفسيره (١/ ٥٥) عن قتادة، والبيهقي في «الدلائل» (٢/ ٥٨٢) عن ابن عباس، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٢٠٢) عن ابن عباس، وعزاه لابن جرير، والبيهقي في «الدلائل»، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وذكره الشوكاني في «تفسيره» (١/ ١٩٤).
(٣) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨/ ١٩٢) من حديث عبادة بن الصامت، وقال: رواه البزار، وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب.
(٤) «تفسير الطبري» (٢/ ٥٠٦). [.....]
303
المَرْءَ مَعَ مَالِهِ، إِنْ قَدَّمَهُ، أَحَبَّ أَنْ يلحقه، وإن خلفه، أحبّ التّخلّف» «١». انتهى.
٣٣ أوقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خبرٌ في اللفظ، معناه الوعد والوعيد/.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٥]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
وقوله تعالى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، معناه: قال اليهودُ:
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقال النصارى: لن يدخل الجنة إِلا من كان نصارى، فجمع قولهم. ودلَّ تفريقُ نوعَيْهم على تفريقِ قولَيْهم، وهذا هو الإِيجازُ واللفُّ.
وهُوداً: جمعُ هَائِدٍ «٢»، ومعناه: التائبُ الراجعُ، وكذَّبهم اللَّه تعالى، وجعل قولهم أمنيَّةً، وأمر نبيَّه- عليه السلام- بدعائهم إِلى إِظهار البُرْهان، وهو الدليلُ الذي يوقع اليقينَ، وقولهم: «لَنْ» نفي حسُنت بعده «بلى» إذ هي ردٌّ بالإيجاب في جواب النفي، حرف مرتجل لذلك، وأَسْلَمَ: معناه: استسلم، وخضَع، ودان، وخص الوجْهَ بالذكْر لكونه أشرف الأعضاء، وفيه يظهر أثر العِزِّ والذُّلِّ، وَهُوَ مُحْسِنٌ: جملة في موضعِ الحالِ.
وقوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ... الآية: معناه: أنه ادعى كلُّ فريقٍ أنه أحقُّ برحمةِ اللَّه من الآخر، وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم فتسابُّوا، وكَفَرَ اليهودُ بعيسى وبملَّته، وبالإِنجيلِ، وكَفَر النصارى بموسى وبالتَّوراة.
ع «٣» : وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها لأن الإِنجيلَ يتضمَّن صدْقَ موسى، وتقرير التَّوْراة، والتوراةَ تتضمَّن التبشير بعيسى، وكلاهما يتضمّن صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلم،
(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٢٢٤) رقم (٦٣٤) عن عبد الله بن عبيد به.
(٢) ينظر: «عمدة الحفاظ» (٤/ ٣٠٧).
(٣) «المحرر الوجيز» (١/ ١٩٨).
304
فعنفهم اللَّه تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلافُ ما قالوا.
وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ تنبيه لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم على ملازمة القُرْآن، والوقوف عند حدوده، والكتَابُ الذي يتلونه، قيل: هو التوراةُ والإِنجيل، فالألف واللام للْجِنْسِ، وقيل: التوراةِ لأن النصارى تمتثلُها.
وقوله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: كفار العَرَبِ لأنهم لا كتابَ لهم، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ... الآية، أي: فيثيب من كان على شيءٍ، ويعاقب من كان على غَيْر شيء، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ... الآيةَ، أي: لا أحد أظلم من هؤلاء، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: المراد النصارَى الذين كانِوا يؤذون من يصلِّي ببَيْت المَقْدِسِ «١»، وقال ابن زَيْد: المراد كُفَّار قريش حين صدّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن المسجِدِ الحرامِ «٢»، وهذه الآية تتناوَلُ كلَّ من منع من مسجد إِلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ... الايةَ: فمن جعل الآية في النصارى، روى أنَّه مَرَّ زمَنٌ بعْد ذلك لا يدخل نصرانيٌّ بيْتَ المَقْدِس إِلا أوجع ضرباً، قاله قتادةُ والسُّدِّيُّ «٣»، ومن جعلها في قريش، قال: كذلك نودي بأمر النبيِّ صلّى الله عليه وسلم أَلاَّ يَحُجَّ مُشْرِكٌ، وَأَلاَّ يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ «٤» وفَأَيْنَما «٥» شرط، وتُوَلُّوا جزم به،
(١) أخرجه الطبري (١/ ٥٤٤) برقم (١٨٢٢) بلفظ: «إنهم النصارى»، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ١٩٩)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٠٤)، وعزاه لابن جرير، ولفظه السيوطي: «هم النصارى».
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٥٤٦) برقم (١٨٢٨) وذكره ابن كثير (١/ ١٥٦) ورجح قول ابن زيد. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ١٩٩)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ١٠٧)، ولفظه «نزلت في مشركي مكة، وأراد بالمساجد المسجد الحرام، منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبية»، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٢٠٤)، وعزاه لابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٥٤٧) برقم (١٨٢٩) عن قتادة وبرقم (١٨٣١) عن السدي. وذكره ابن عطية في تفسيره (١/ ١٩٩) عن قتادة والسدي.
(٤) أخرجه البخاري (٣/ ٤٨٣)، كتاب «الحج»، باب لا يطوف بالبيت عريان، الحديث (١٦٢٢)، ومسلم (٢/ ٩٨٢)، كتاب «الحج»، باب لا يحج البيت مشرك، الحديث (٤٣٥/ ١٣٤٧) واللفظ له، من حديث أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، في الحجّة التي أمره عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: «لا يحجّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يطوف بالبيت عريان».
(٥) «أين» هنا اسم شرط بمعنى «إن» و «ما» مزيدة عليها «وتولوا» مجزوم بها وزيادة «ما» ليست لازمة لها بدليل قوله: -
305
وفَثَمَّ: جوابه، ووَجْهُ اللَّهِ: معناه: الذي وجَّهنا إِلَيْه كما تقولُ: سافَرْتُ في وجه كذا، أي: في جهة كذا، ويتجه في بعض المواضِعِ من القرآن كهذه الآية أن يراد بالوجْهِ الجِهَةُ الَّتي فيها رضَاهُ، وعلَيْها ثوابُه كما تقول تصدَّقت لوجْهِ اللَّهِ، ويتَّجه في هذه الآية خاصَّة أن يراد بالوجه الجهةُ الَّتي وجهنا إليها في القبلة، واختلف في سبب نزولِ هذه الآية، ٣٣ ب فقال ابنُ عُمَرَ: نزلَتْ هذه الآية في صلاة النافلةِ في السفَرِ، / حيث توجَّهت بالإِنسان دابَّته «١»، وقال النَّخَعِيُّ: الآية عامَّة، أينما تولوا في متصرَّفاتكم ومساعِيكُمْ، فثَمَّ وجْه اللَّه، أي: موضع رضاه، وثوابه، وجهة رحمته الَّتي يوصِّل إِليها بالطاعة «٢»، وقال عبد اللَّه بن عامِرِ بنِ ربيعَةَ «٣» : نَزَلَتْ فيمن اجتهد في القبلة «٤»، فأخطأ، ووَرَدَ في ذلكَ حديثٌ رواه عامرُ بن ربيعة، قال: «كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فتحرى قَوْمٌ القبلة،
- أين تضرب بنا العداة تجدنا...
وهي ظرف مكان، والناصب لها ما بعدها، وتكون اسم استفهام أيضا فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام ك «من»
و «ما» وزعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة وهي مبنية على الفتح لتضمنه معنى حرف الشرط أو الاستفهام. ينظر «الدر المصون» (١/ ٣٥٠).
(١) الطبري (١/ ٥٥٠) (١٨٣٩- ١٨٤٠) وروي بإسنادين عن ابن عمر أولهما من طريق أبي كريب قال حدثنا ابن إدريس قال حدثنا عبد الملك عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. وثانيهما من طريق أبي السائب قال حدثنا ابن فضيل عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. اهـ.
وقال أحمد شاكر: «والحديث رواه أحمد أيضا (٤٧١٤) عن يحيى القطان عن عبد الملك بن أبي سليمان بنحوه ورواه مسلم (١/ ١٩٥) من طريق يحيى وآخرين. وكذلك رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (٢/ ٤) بأسانيد من طريق عبد الملك» اهـ.
وذكره البغوي في «التفسير» (١/ ١٠٨) وذكره ابن عطية (١/ ٢٠٠)، وابن كثير (١/ ١٥٨) والشوكاني في «التفسير» (١/ ١٩٧).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٥٥١) برقم (١٨٤٤) عن المثنى قال: حدثني الحجاج، قال: حدثنا حماد، قال:
قلت للنخعي: إني كنت استيقظت- أو قال: أيقظت- شك الطبري- فكان في السماء سحاب، فصليت لغير القبلة؟ قال: مضت صلاتك، يقول الله (عز وجل) : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. اهـ.
وذكره ابن عطية في تفسيره (١/ ٢٠٠).
(٣) عبد الله بن عامر بن ربيعة بن مالك بن عامر.. حليف بني عدي بن كعب ثم حليف الخطاب والد عمرو. وهو من عنز بن وائل. أبو محمود. العنزي. الأصغر. العدوي. ولد على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، وقيل: ولد سنة ٦، وتوفي سنة (٨٥ هـ.)
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ٢٨٧)، «الإصابة» (٤/ ٨٩)، «الثقات» (٣/ ٢١٩)، «الجرح والتعديل» (٥/ ١٢٢)، «بقي بن مخلد» (٦٤٧).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٥٥١) برقم (١٨٤٥)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٠٠) والشوكاني في «فتح القدير» (١/ ١٩٧).
306
وأَعْلَمُوا عَلاَمَاتً، فَلَمَّا أَصْبَحُوا، رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أخطئوها، فعرّفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت هذه الآية» «١».
(١) أخرجه أبو داود الطيالسي (ص- ١٥٦)، الحديث (١١٤٥)، والترمذي (٢/ ١٧٦)، كتاب «الصلاة»، باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، الحديث (٣٤٥)، وابن ماجة (١/ ٣٢٦)، كتاب «إقامة الصلاة»، باب من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم، الحديث (١٠٢٠)، والدارقطني (١/ ٢٧٢) :
كتاب «الصلاة»، باب الاجتهاد في القبلة، الحديث (٥)، وأبو نعيم (١/ ١٧٩)، والبيهقي (٢/ ١١)، كتاب «الصلاة»، باب استبيان الخطأ بعد الاجتهاد، وعبد بن حميد (ص- ١٣٠)، رقم (٣١٦)، والطبري في «تفسيره» (٢/ ٥٣١)، والعقيلي في «الضعفاء» (١/ ٣١)، من رواية الربيع بن السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه به، وقال الترمذي: (ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد، أبو الربيع السمان يضعف في الحديث).
وقال العقيلي: وأما حديث عامر بن ربيعة، فليس يروى من وجه يثبت متنه، وقد توبع أبو الربيع السمان.
تابعه عمرو بن قيس عند الطيالسي، وسعد بن سعيد، عند عبد بن حميد لتنحصر علة الحديث في عاصم بن عبيد الله.
وعاصم بن عبيد الله: قال الحافظ: ضعيف.
ينظر: «التقريب» (١/ ٣٨٥).
وقال العلامة أحمد شاكر في «تعليقه على الطبري» (٢/ ٥٣١)، حديث ضعيف.
وقد وردت القصة من وجه آخر من حديث جابر بن عبد الله: أخرجه الحاكم (١/ ٢٠٦)، كتاب «الصلاة»، والدارقطني (١/ ٢٧٢)، والبيهقي (٢/ ١٠)، من طريق داود بن عمرو، ثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر فأصابنا غيم... » فذكره، قال الدارقطني: (كذا قال: عن محمد بن سالم وقال غيره: عن محمد بن يزيد، عن محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء، وهما ضعيفان).
وقال الحاكم: (رواته محتج بهم كلهم، غير محمد بن سالم، فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح).
وأخرجه الدارقطني (١/ ٢٧٢)، والبيهقي (٢/ ١١)، أيضا من طريق أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري قال: وجدت في كتاب أبي: ثنا عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر (رضي الله عنهما) قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة... » فذكر الحديث، وفيه: «فأتينا النبي صلّى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك، فسكت وأنزل الله (عز وجل) :
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي حيث كنتم»
.
قال البيهقي: (وكذلك رواه الحسن بن علي بن شبيب العمري، ومحمد بن محمد بن سليمان الباغندي، عن أحمد بن عبيد الله، ولم نعلم لهذا الحديث إسنادا صحيحا قويا، وذلك لأن عاصم بن عبيد الله بن عمر العمري، ومحمد بن عبيد الله العزرمي، ومحمد بن سالم الكوفي، كلهم ضعفاء، والطريق إلى عبد الملك العزرمي غير واضح لما فيه من الوجادة وغيرها، وفي حديثه أيضا نزول الآية في ذلك، وصحيح عن عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن الآية إنما نزلت في التطوع خاصة، حيث توجه بك بعيرك). [.....]
307
وقيلَ: نزلت الآية حين صُدَّ رسولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلم عن البيت.
وواسِعٌ: معناه مُتَّسِعُ الرحمة، عَلِيمٌ أين يضعها، وقيل: واسِعٌ: معناه هنا أنه يوسِّع على عباده في الحُكْم دينُهُ يُسْرٌ، عَلِيمٌ بالنيَّات التي هي ملاك العمل.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
وقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ... الآية: اختلف على مَنْ يعود ضميرُ «قَالُوا»، فقيل: على النصارى، وهو الأشبه، وقيل: على اليهود لأنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ، وقيل: على كفرة العربِ لأنهم قالوا: الملائكة بنَاتُ اللَّه.
ت: وقال أبو عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ: ويحتمل أن يعني بالآية كلُّ من تقدَّم ذكره من الكفرة، وقد تقدَّم ذكر اليهود والنصارى والذين لا يعلمون، وهم المشركون، وكلُّهم قد ادعى للَّه ولداً، تعالى اللَّه عن قولهم. انتهى من «مختصر الطبريّ».
وسُبْحانَهُ: مصدر، معناه: تنزيهاً له وتبرئةً مما قالوا، والقُنُوتُ في اللغة:
الطاعةُ، والقنوتُ: طول القيام، فمعنى الآية: إن المخلوقات تقنُتُ للَّه، أي: تخشع، وتطيع، والكفار قنوتُهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم، وقيل: الكافر يسجد ظلُّه، وهو كاره، وبَدِيعُ: مصروف من مبدع، والمبدع: المخترع المنشئ، وخص السَّموات والأرضَ بالذكْر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جلّ وعلا.
وقَضى: معناه: قدَّر، وقد يجيء بمعنى: أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنَيَانِ، والأمر: واحد الأمور، وليس هو هنا بمصدر أَمَرَ يَأْمُرُ، وتلخيص المعتَقَدِ في هذه الآية أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودِهَا، قادراً مع تأخُّر المقدورات، عالماً مع تأخُّر وقوع المعلوماتِ، فكلُّ ما في الآية ممَّا يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأموراتِ إِذ المحدَثَاتُ تجيء بعد أنْ لم تكنْ، وكل ما يستند إِلى اللَّه تعالى من قدرةٍ وعلمٍ وأمر، فهو قديمٌ لم يزَلْ، والمعنى الَّذي تقتضيه عبارةُ كُنْ هو قديمٌ قائمٌ بالذاتِ، والوضوح التامُّ في هذه المسألة [لا] يحتاج أكثر من هذا البَسْط.
ت: وقد قدَّمنا ما يزيدُ هذا المعنى وضُوحاً عند قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة: ٣٤]، فانظره.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٨ الى ١٢٠]

وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ... الآية: قال الربيعُ والسُّدِّيَّ: هم كفار العرب «١»، وقد طلب عبد اللَّه بن أمية وغيره من النبيّ صلّى الله عليه وسلم نحو هذا، وقال مجاهدٌ: هم النصارى «٢»، وقال ابن عباس: المراد من كان على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم من اليهود لأنَّ رافع بن حُرَيْمِلَةَ قال للنبيّ/ صلّى الله عليه وسلم: أسمعنا كلام الله «٣»، وقيل: الإشارة إلى ٣٤ أجميع هذه الطوائف لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة، ولَوْلا تحضيضٌ بمعنى «هَلاَّ»، والآية هنا العلامة الدالَّة، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم اليهودُ والنصارى في قول من جعل الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ كفَّارَ العرب، وهم اليهودُ في قول مَنْ جعل الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ النصارَى، وهم الأمم السالفة في قول من جعل الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ العربَ والنصارى واليهُودَ وتشابه القلوب هنا في طَلَب ما لا يصحّ أو في الكفر.
وقوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم، وقرينةٌ أخرى أنَّ الكلام مدْحٌ لهم.
وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً، أي: لمن آمن، ونذيراً لمن كفر، وقرأ نافع وحده «٤» ولا تسأل، أي: لا تسأل عن شدَّة عذابهم كما تقول: فلانٌ لا تَسْأَلْ عَنْه، تعني أنه في نهاية تشهره من خيْرٍ أو شرٍّ.
ت: وزاد في «مختصر الطبرِّي»، قال: وتحتمل هذه القراءة معنى آخر، وهو،
(١) أخرجه الطبري (١/ ٥٦٠) برقم (١٨٦٦) عن الربيع بلفظ: «هم كفار العرب»، وبرقم (١٨٦٧) عن السدي: «فهم العرب» اهـ.
وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٠٢).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٥٦٠) برقم (١٨٦٢)، (١٨٦٣) من طريقين عن مجاهد.
وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٠٢)، والبغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٠٩).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٥٦٠) برقم (١٨٦٤) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٠٢)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٠٨)، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير وابن أبي حاتم. وذكره الشوكاني في «تفسيره» (١/ ١٩٩).
(٤) ينظر: «السبعة» (١٦٩)، و «الكشف» (١/ ٢٦٢)، و «حجة القراءات» (١١١)، و «الحجة للقراء السبعة» (٢/ ٢٠٩)، و «العنوان» (٧١)، و «شرح طيبة النشر» (٤/ ٦٠)، و «معاني القراءات» (١/ ١٧٠)، و «شرح شعلة» (٢٧٤)، و «إتحاف» (١/ ٤١٤).
309
واللَّه أعلم، أظهر، أي: ولا تسأل عنهم سؤالَ مكْتَرِثٍ «١» بما أصابهم، أو بما هم عليه من الكُفْر الذي يوردهم الجحيمَ نظيرَ قوله عز وجل: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨]، وأما ما روي عن محمَّد بن كعب القُرَظِيِّ ومن وافقه من أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم سَأَلَ، مَا فَعَلَ أَبَوَايَ؟ فنَزَلَتِ الآيةُ في ذلك، فهو بعيدٌ، ولا يتصل أيضاً بمعنى مَا قبله. انتهى.
وقرأ باقي السبعة: «وَلاَ تسأل» بضم التاء واللام.
والْجَحِيمِ: إحدى طبقات النار.
وقوله تعالى: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، أي: ما أنت عليه يا محمَّد من هدى اللَّه هو الهدَى الحقيقيُّ، لا ما يدعيه هؤلاء، ثم قال تعالى لنبيِّه: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ فهذا شرط خوطب به النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأمته معه داخلةٌ فيه.
ت: والأدب أن يقال: خوطب به صلّى الله عليه وسلم والمراد أمّته لوجود عصمته صلّى الله عليه وسلم وكذلك الجواب في سائر ما أشبه هذا المعنى من الآيِ، وقد نبَّه- رحمه اللَّه- على هذا المعنى في نظيرتها كما سيأتي، وكان الأولى أن ينبِّه على ذلك هنا أيضاً، وقد أجاب عِيَاضٌ عن الآيِ الواردةِ في القرآن ممَّا يوهمُ ظاهره إِشكالاً، فقال- رحمه اللَّه-: اعلم، وفَّقنا اللَّه وإياك، أنه- عليه السلام- لا يصحُّ ولا يجوز علَيْه ألاَّ يبلغ، وأن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك ولا أن يتقوَّل «٢» على اللَّه ما لا يجبُ أو يفترى عليه، أو يضل، أو يختم على قلبه «٣»، أو يطيع الكافرين، لكن اللَّه أمره بالمكاشفةِ والبيان «٤» في البلاغ للمخالِفِينَ، وإن إِبلاغه، إِنْ لم يكُنْ بهذا البيان فكأنه ما بلَّغ، وطيَّب نفسه، وقوَّى قلبه بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «٥» [المائدة: ٦٧] كما قال لموسى وهارون- عليها السلام-: لاَ تَخافا [طه: ٤٦] لتشتد بصائرهم «٦» في الإبلاغ وإظهار دين الله، ويذهب
(١) يقال: ما أكترث به، أي ما أبالي، ولا يستعمل إلا في النفي، فإن ورد في إثبات فهو شاذ.
ينظر: «لسان العرب» (٣٨٤٨) (كرث).
(٢) أي: يكذب عليه ويفتري.
(٣) يختم على قلبه: يطبع عليه ما يمنعه عن قبول الحق.
(٤) بالمكاشفة والبيان: بكشفه له وتبيينه.
(٥) «ويعصمك من الناس» : أي يحميك ويصونك عنهم حتى لا يقدر أحد على شيء يضرك.
(٦) تشتد: تقوى، وتزيد شدة. بصائرهم: المقصود بهم موسى، وهارون، ومحمد. أي: يكونون على بصيرة ويقين في أمورهم.
310
عنهمْ خَوْفُ العدوِّ المضعف لليقين، وأما قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ... [الحاقة: ٤٤] الآية، وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ [الإسراء: ٧٥]، فمعناه: أنّ هذا جزاء من فعل هذا، وجزاؤك لو كنت ممن يفعله، وهو صلّى الله عليه وسلم لا يفعله، وكذلك قوله تعالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [الأنعام: ١١٦] فالمراد غيره، كما قال:
إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية [آل عمران: ١٤٩] وقوله: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشورى: ٢٤]، ولَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] وما أشبهه، فالمراد غيره، وأن هذا حال مَنْ أشرك، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلم لا يَجُوزُ عليه هذا، وقوله تعالَى: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: ١]، فليس فيه أنه أطاعهم، واللَّه يَنْهَاهُ عما يشاء، ويأمره بما يشاء كما قال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ... [الأنعام: ٥٢] الآية، وما كان طَرَدَهُمْ- عليه السلام- ولا كَانَ من الظالمين. انتهى من «الشِّفَا» «١».
ص «٢» : وَلَئِنِ: هذه اللام هي الموطّئة والمؤذنة، وهي مشعرة بقسم مقدّر قبلها. انتهى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢١ الى ١٢٤]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ... الآية: قال قتادة: المراد ب «الَّذِينَ» في هذا الموضع: من أسلم من أمّة النبيّ صلّى الله عليه وسلم، والكتابُ على هذا: التأويل القرآن «٣»، وقال ابنُ زَيْد: المراد مَنْ أسلم من بني إِسرائيل «٤»، والكتاب على هذا التأويل: التوراة، وآتَيْناهُمُ: معناه: أعطيناهم، ويَتْلُونَهُ: معناه: يتبعونه حقَّ اتباعه بامتثال الأمر والنهي، قال أحمد بن نَصْر الدَّاوُودِيُّ: وهذا قول ابن عباس، قال عِكْرِمَةُ: يقال: فلانٌ يتلو فلاناً، أي: يتبعه ومنه: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشمس: ٢] أي: تبعها. انتهى.
(١) ينظر: «الشفا» (ص ٧١٧، ٧١٨).
(٢) «المجيد» (ص ٣٩٦).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٥٦٦) برقم (١٨٨٠)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٠٤)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢١٠)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٠٤). [.....]
311
وللَّه دَرُّ مَنِ اتبع كلامَ ربِّهِ، واقتفى سُنَّة نبيِّه، وإِن قلَّ عِلْمُهُ، قال القُضَاعِيُّ في اختصاره لِ «المدارك» : قال في ترجمة سُحْنُون «١» : كان سُحْنُون يقول: مَثَلُ العلْمِ القليلِ في الرجُلِ الصالحِ مَثَلُ العَيْنِ العَذْبَةِ في الأرض العَذْبة، يزرع علَيْها صاحبُها ما ينتفعُ به، ومَثَلُ العلْمِ الكثيرِ في الرجُلِ الطالحِ مَثَلُ العَيْن الخَرَّارة في السَّبِخَةِ تهرُّ الليلَ والنَّهارَ، ولا ينتفعُ بها. انتهى.
وقيل: يَتْلُونَهُ: يقرءونه حقَّ قراءته، وهذا أيضاً يتضمَّن الاِتّباع والامتثال، وحَقَّ «٢» : مصدرٌ، وهو بمعنَى أفْعل، والضمير في «بِهِ» عائدٌ على «الكتاب»، وقيل:
يعود على محمَّد صلّى الله عليه وسلم لأن مُتَّبِعِي التوراةِ يجدُونه فيها، فيؤمنون به، والضميرُ في يَكْفُرْ بِهِ يحتمل من العود ما ذكر في الأول.
وقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ... الآية: تقدّم بيان نظيرها، ومعنى: لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ: أنه ليستْ ثَمَّ، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحَدَّ، فيردّ، وأما الشفاعةُ التي هي في تعجيلِ الحسَابِ، فليستْ بنافعة لهؤلاءِ الكَفَرة.
ت: ولم ينبِّه- رحمه اللَّه- على هذا في التي تقدَّمت أولَ السورة، وابْتَلى معناه: اختبر، وفي «مختَصَرِ الطَّبريِّ» : ابْتَلى، أي: اختبر، والاختبارُ من اللَّه عزَّ وجلَّ لعباده على علْمٍ منه سبحانه بباطِنِ أمرهم وظاهره، وإنما يبتليهم ليظهر منهم سابق علمه
(١) هو الإمام سحنون، أبو سعيد عبد السلام بن سعيد التنوخي، القيرواني، الفقيه، الحافظ، العابد، الورع، المتفق على فضله وإمامته، اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، أخذ العلم عن أئمة من أهل المشرق والمغرب. وأخذ عنه من أئمة الرواة نحو سبعمائة، انتهت إليه الرياسة في العلم، وعليه المعول في المشكلات، وإليه الرحلة، ومدونته عليها الاعتماد في المذهب المالكي. ولد رحمه الله سنة ١٦٠ هـ. وتوفي سنة ٢٤٠ هـ. وقبره ب «القيروان».
ينظر: «الديباج» (٢/ ٣٠)، و «الشجرة الزكية» (ص ٦٩).
(٢) فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه نصب على المصدر، وأصله: «تلاوة حقا» ثم قدم الوصف وأضيف إلى المصدر، وصار نظير: «ضربت شديد الضرب» أي: ضربا شديدا، فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه.
الثاني: أنه حال من فاعل يتلونه، أي: يتلونه محقين.
الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، وقال ابن عطية: و «حق» مصدر، والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى أفعل، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى ضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: «رجل واحد أمه، ونسيج وحده» يعني أنه في قوة أفعل التفضيل بمعنى أحق التلاوة، وكأنه يرى أن إضافة أفعل غير محضة، ولا حاجة إلى تقدير عامل فيه، لأن ما قبله يطلبه. ينظر: «الدر المصون» (١/ ٣٥٨).
312
فيهم، وقد روي ذلك عن عليٍّ- رضي اللَّه عنه- في قوله عز وجَلَّ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد: ٣١] فقال رضي اللَّه عنه: إِن اللَّه عزَّ وجلَّ لم يزلْ عالماً بأخبارِهِمْ وخُبْرِهِمْ وما هُمْ عليه، وإن قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ، أي: حتى نسوقَكُم إِلى سابقِ علْمِي فيكم. انتهى، وهو كلام حسنٌ.
وقد نبه ع: على هذا المعنى فيما يأتي، والعقيدةُ أنَّ علمه سبحانه قديمٌ، عَلِمَ كلَّ شيء قبْلَ كونه، فجرى على قَدَرِهِ لا يكون من عباده قولٌ ولا عملٌ إلا وقد قضاه، وسبق علمه به سبحانه لا إله إلا هو.
وإِبْراهِيمَ: يقال: إِنَّ تفسيره بالعربيَّةِ أَبٌ رَحِيمٌ، واختلف أهل التأويل في «الكلمات»، فقال ابن عَبَّاس: هي ثلاثُونَ سَهْماً هي الإسلام كلُّه، لم يتمَّه أحدٌ كاملاً إلا إبراهيمُ- عليه السلام- منْها في «براءة» : التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ... الآية [التوبة: ١١٢]، وعشرة في «الأحزاب» : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ... الآية [الأحزاب: ٣٥]، وعَشَرة في سَأَلَ سائِلٌ «١» [المعارج: ١].
ت: وقيل غير هذا.
وفي «البخاريِّ» : أنه اختتن، وهو ابن ثمانينَ سنَةً بالقَدُومِ «٢»، قال الراوي: فأوحى اللَّه إليه إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً والإِمام القُدْوة.
وإِنما سمِّيت هذه الخصالُ كلماتٍ لأنها/ اقترنتْ بها أوامر هي كلمات، وروي أن ٣٥ أ
(١) أخرجه الطبري (١/ ٥٧٢) برقم (١٩٠٩- ١٩١٠- ١٩١١)، والحاكم (٢/ ٥٥٢)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وصححه الذهبي. وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ١١١)، وابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ٢٠٥)، وابن كثير (١/ ١٦٥)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢١١)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، وابن عساكر، وذكره الشوكاني في «تفسيره» (١/ ٢٠٤).
(٢) أخرجه البخاري (٦/ ٤٤٧) كتاب «أحاديث الأنبياء»، باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا حديث (٣٣٥٦)، ومسلم (٤/ ١٨٣٩) كتاب «الفضائل»، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلم، حديث (١٥١/ ٢٣٧٠)، وأحمد (٢/ ٤١٨)، والبيهقي (٨/ ٣٢٥) كتاب «الأشربة»، باب السلطان يكره على الاختتان. كلهم من طريق أبي الزِّنَادِ عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اختتن إبراهيم على رأس ثمانين سنة، واختتن بالقدوم».
وللحديث طريق آخر عن أبي هريرة: أخرجه أبو يعلى (١٠/ ٣٨٣- ٣٨٤) رقم (٥٩٨١) من طريق محمَّد بنِ عَمْرٍو عن أَبي سَلَمَةَ عن أبي هريرة به.
313
إبراهيم، لما أتمَّ هذه الكلماتِ أو أتمَّها اللَّه عليه، كتب اللَّه له البراءة من النَّار، فذلك قوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: ٣٧]. وقول إبراهيم عليه السلام: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي هو على جهةِ الرغباءِ إلى اللَّه، أي: ومن ذريتي، يا ربِّ، فاجعل.
وقوله تعالى: قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، أي: قال الله، والعهد فيما قال مجاهد: الإمامة «١».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٦]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
وقوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ، أي: الكعبة مَثابَةً «٢»، يحتملُ مِنْ ثَابَ إِذا رجع، ويحتمل أن تكون من الثواب، أي: يثابون هناك، وَأَمْناً للناسِ والطيرِ والوُحُوشِ إذ جعل اللَّه لها حرمةً في النفوس بحيث يَلْقَى الرجُلُ بها قاتِلَ أبيه، فلا يهيجه، وقَرَأَ جمهور الناس: «واتخذوا»، بكسر الخاء على جهة الأمر لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، وقرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، «واتخذوا» «٣» بفتح الخاء على جهة الخبر عن مَنِ اتخذه مِنْ متبعي إبراهيم- عليه السلام- ومقام إبراهيم في قول ابن عَبَّاس، وقتادة، وغيرهما، وخرَّجه البُخَارِيُّ هو الحَجَر الذي ارتفع عليه إِبراهيم حينَ ضَعُف عن رفْع الحجارةِ الَّتي كان إِسماعيلُ يناوله إِياها في بنَاء البَيْت، وغَرِقَتْ قدماه فيه، ومُصَلًّى: موضع صلاة.
ص «٤» : مِنْ مَقامِ: مِنْ تبعيضيةٌ على الأظهر، أو بمعنى: «في» أو زائدة
(١) أخرجه الطبري (١/ ٥٧٨) برقم (١٩٤٨) بلفظ: «لا يكون إمام ظالما» من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٠٦)، كما ذكر المصنف.
(٢) قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ قيل: مكانا يثوبون إليه كل وقت على ممر الأيام وتكرر الأعوام، لا يملون منه. وقيل: مكانا يكسبون فيه الثواب.
قال السمين: ولا شك أنه موجود فيه الأمران. ومنه: إن فلانا لمثابة ولمثابا، أي تأتيه الناس لمعروفه، ويرجعون إليه مرة أخرى.
ينظر: «عمدة الحفاظ» (١/ ٣٣٩)، و «غريب القرآن» لابن قتيبة (٦٣).
(٣) ينظر: «حجة القراءات» (١١٣)، و «الحجة» (٢/ ٢٢٠)، و «العنوان» (٧١)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٦٧)، و «إتحاف» (١/ ٤١٧).
(٤) «المجيد» (ص ٤٠٢).
314
على مذهب الأخفش، والمقامُ: مَفْعَلٌ من القيامِ، والمراد به هنا المكانُ، انتهى، يعني:
المكانَ الذي فيه الحَجَر المسمى بالمقام.
وقوله تعالى: وَعَهِدْنا: العَهْدُ في اللغة: على أقسام، هذا منها، الوصية بمعنى الأمر، وطَهِّرا: قيل: معناه: ابنياه وأسِّساه على طَهَارَةٍ ونيَّةِ طَهَارَةٍ، وقال مجاهدٌ: هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان «١»، ولِلطَّائِفِينَ ظاهره: أهل الطوافِ، وَقَالَهُ عطاء وغيره «٢»، وقال ابن جُبَيْر: معناه: للغرباءِ الطارئِينَ على مكَّة «٣»، وَالْعاكِفِينَ: قال ابن جُبَيْر: هم أهل البلد المقيمُونَ «٤»، وقال عطاء: هم المجاورُونَ بمكَّة «٥»، وقال ابنُ عبَّاس:
المصَلُّون «٦»، وقال غيره المعتكفُونَ، والعكُوف في اللغة: الملازمة.
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، أيْ: من الجبابرة والعدُوِّ المستأصل، وروي أن اللَّه تعالى، لما دعاه إِبراهيم، أمر جبريل، فاقتلع فِلَسْطِينَ، وقيل:
بقعة من الأرْدُنِّ «٧»، فطاف بها حَوْلَ البيتِ سبْعاً، وأنزلها بِوَج «٨»، فسمِّيت الطَّائِفَ «٩» بسبب الطواف.
وقوله تعالى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا... الآية: قال أبيُّ بن كَعْب، وابن إسحاقَ، وغيرهما: هذا القَوْلُ من اللَّه عزَّ وجلَّ لإِبراهيم «١٠»، وقال ابنُ عَبَّاس، وغيره:
(١) أخرجه الطبري (١/ ٥٨٨) برقم (٢٠١٦) بلفظ: «من الأوثان»، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ٢٠٨).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٥٨٨) برقم (٢٠٢٠) بلفظ: «إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين». وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ٢٠٨).
(٣) أخرجه الطبري (١/ ٥٨٨) برقم (٢٠١٩) بلفظ: «من أتاه من غربة»، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٠٨).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٥٨٩) برقم (٢٠٢٣)، وابن عطية الأندلسي في «التفسير» (١/ ٢٠٨).
(٥) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ٢٠٨).
(٦) أخرجه الطبري (١/ ٥٨٩) برقم (٢٠٢٥)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٠٨). [.....]
(٧) الأردن: كورة واسعة منها «الغور»، و «طبريّة»، و «صور»، و «عكّا»، وما بين ذلك.
ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ٥٤).
(٨) بالفتح، ثم التشديد: واد موضع بالطائف به كانت غزاة النبي عليه السلام. ينظر: «مراصد الاطلاع» (٣/ ١٤٢٦).
(٩) كانت تسمى قديما «وجّ»، وسمّيت «الطائف» لما أطيف عليها الحائط وهي ناحية ذات نخيل وأعناب ومزارع وأودية، وهي على ظهر جبل غزوان. ينظر: «مراصد الاطلاع» (٢/ ٨٧٧).
(١٠) أخرجه الطبري (١/ ٥٩٤) برقم (٢٠٣٥) عن أبي بن كعب، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٠٩)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٣٣)، والشوكاني في «التفسير» (١/ ٢٠٨).
315
هذا القول من إِبراهيم «١».
قال ع «٢» : فكأنَّ إِبراهيم دعا للمؤمنين، وعلى الكافرين، وفي «مختصر الطبريِّ» : وقرأ بعضهم، «فأُمْتِعْهُ» بالجزم، والقَطْع على الدعاء «٣»، ورآه دعاءً من إِبراهيم، وروي ذلك عن أبي العالية، كان ابنُ عبَّاس يقول: ذلك قولُ إبراهيم، سأل ربَّه أنَّ من كَفَر به، فأمتعه قليلاً يقول: فارزقه قليلاً، ثم اضطره إِلى عذاب النارِ، أي: أَلْجِئْهُ. انتهى، وعلى هذِهِ القراءةِ يجيءُ قولُ ابن عبّاس، لا على قراءة الجمهور، وقَلِيلًا: معناه: مُدَّة العُمُر لأن متاع الدنيا قليلٌ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
وقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ... الآية: القواعدُ: جمع قاعدةٍ، وهي الأساس.
ص «٤» : القواعدُ، قال الكسائيُّ والفَرَّاء: هي الجُدُر، وقال أبو عُبَيْدة: هي الأساس. انتهى.
واختلفوا في قصص البَيْت، فقيل: إِن آدم أمر بِبِنَائِهِ، ثم دثر، ودرس حتى دلَّ عليه
(١) أخرجه الطبري (١/ ٥٩٤) برقم (٢٠٣٧)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٢٣٣)، والشوكاني في «التفسير» (١/ ٢٠٨).
(٢) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٠٩).
(٣) وهي قراءة شاذة، كما في «المحتسب» (١/ ١٠٤)، ونسبها لابن عباس- رضي الله عنهما- قال ابن جني: فيحتمل أمرين:
أحدهما: - وهو الظاهر- أن يكون الفاعل في «قال» ضمير إبراهيم عليه السلام، أي قال إبراهيم أيضا:
ومن كفر فأمتعه يا رب ثم اضطره يا رب...
وأما الآخر فهو أن يكون الفاعل في «قال» ضمير اسم الله تعالى أي: فأمتعه يا خالق، أو فأمتعه يا قادر، أو يا مالك، أو يا إله، يخاطب بذلك نفسه (عز وجل)، فجرى هذا على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه، كقراءة من قرأ: قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: ٢٥٩] أي: أعلم يا إنسان.
وكقول الأعشى: [البسيط] وهل تطيق وداعا أيها الرجل.
(٤) «المجيد» (ص ٤٠٨).
316
إبراهيم، فرفع قواعده، وقيل: إِن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر اللَّه، وقيل غير هذا.
ع «١» : والذي يصحُّ من هذا كلِّه أن اللَّه سبحانه أمر إبراهيم برفع قواعد البيت، / ٣٥ ب وجَائِزٌ قِدَمُهُ، وجَائز أن يكون ذلك ابتداءً، ولا يرجح شيء من ذلك إِلا بسند يقطع العُذْر.
وَإِسْماعِيلُ: عطْفٌ على إِبْراهِيمُ، والتقديرُ: يقولاَنِ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أي: السميع لدعائنا، العليمُ بنيَّاتنا، وخصَّا هاتين الصفتين لتناسبهما مع حالهما، وقولهما: اجْعَلْنا بمعنى: صيِّرنا مُسْلِمَيْن، وكذلك كانا، وإنما أرادا التثبيتَ والدوامَ، والإِسلام في هذا الموضعِ. الإِيمانُ والأعمالُ جميعاً، «ومِنْ» في قوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا للتبعيض لأن اللَّه تعالى قد كان أعلمه أنَّ منهم ظالمين، والأُمَّة: الجماعةُ، وَأَرِنا قالتْ طائفةٌ: من رؤية البصَرِ، وقالت طائفةٌ: من رؤية القلبِ، وهذا لا يصحُّ، قال قتادة: المناسكُ معالم الحجِّ، واختلف في معنى طلبهم التوبةَ، وهم أنبياء معصومُونَ، فقالتْ طائفةٌ: طلبا التثْبيتَ والدوامَ، وقيل: أرادا من بعدهما مِنَ الذُّرِّيَّة، وقيل، وهو الأحسن إِنهما لما عرفا المناسكَ، وبنيا البيتَ، أرادا أن يسنا للناس أنَّ تلك المواطنَ مكانُ التنصُّل من الذنوبِ، وطلبِ التوبة.
وقال الطبريُّ: إِنه ليس أحد من خلق اللَّه إِلا بينه وبين اللَّه معانٍ يحب أنْ تكون أحسن ممَّا هي، وأجمعت الأمة على عصْمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر الَّتي فيها رذيلةٌ، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومُونَ من الجميع «٢»، وأنّ قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنِّي لأَتُوبُ فِي اليَوْمِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ سَبْعِينَ
(١) «المحرر الوجيز» (١/ ٢١٠).
(٢) وفي «شرح المواقف» : أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم عن تعمد الكذب في دعوى الرسالة وما يبلغونه من الله (تعالى) إلى الخلائق، وفي جواز صدور الكذب عنهم فيما ذكر على سبيل السهو والنسيان خلاف، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق وكثير من الأئمة لدلالة المعجزة على صدقهم في تبليغ الأحكام. وجوز القاضي أبو بكر، وقال: إنما دلت المعجزة على صدقه فيما هو متذكر له عامد إليه، وأما ما كان من النسيان وفلتات اللسان، فلا دلالة للمعجزة على الصدق فيه، فلا يلزم من الكذب هناك نقص لدلالتها. وأما ما سوى الكذب في التبليغ، فهو إما كفر أو غيره من المعاصي، أما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم عنه قبل النبوة وبعدها.
وجوز الشيعة إظهار الكفر وقاية لنفسه عند الهلاك، وذلك باطل لأنه يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية لضعفهم وقلة موافقتهم وكثرة مخالفتهم عند دعوتهم أولا. وأيضا منقوض بدعوة إبراهيم وموسى (عليهما السلام) في زمن نمرود وفرعون مع شدة خوف الهلاك. وأما غير الكفر فإما كبائر أو صغائر، وكل منهما إما أن يصدر عمدا أو سهوا، فالأقسام أربعة، وكل واحد منهما إما قبل البعثة أو بعدها،
317
مَرَّةً»، إِنَّما هُوَ رُجُوعُهُ مِنْ حَالَةٍ إلى أَرْفَعَ مِنْهَا لِتَزَيُّدِ علومه، وإطلاعه على أمر ربه، فهو يتوب من منزلة إلى أعلى، والتوبةُ هنا لُغَوِيَّةٌ، وقوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ...
الآية: هذا هو الذي أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلم بقوله: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وبشرى عيسى»، ومعنى مِنْهُمْ، أي: يعرفُوهُ، ويتحقَّقوا فضلَه، ويشفق عليهم، ويحرص.
ت: وقد تواتَرَتْ أخبار نبيِّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم وبعثته في الكتب السالفة، وعَلِمَ بذلك الأحْبارُ، وأخبروا به، وبتعيين الزَّمَن الذي يبعث فيه.
وقد روى البيهقيّ أحمد بن الحسين «١»...
- فالأقسام ثمانية. أما صدور الكبائر عنهم عمدا، فمنعه الجمهور من محققي الأشاعرة والمعتزلة، وأما صدورها عنهم سهوا أو على سبيل الخطأ في التأويل، فجوزه الأكثرون، والمختار خلافه. وأما الصغائر عمدا فجوزه الجمهور خلافا للجبائي. وأما صدورها سهوا، فهو جائز باتفاق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه، إلا الصغائر التي تدل على الخسة ودناءة الهمة، كسرقة حبة أو لقمة فإنها لا تجوز أصلا، عمدا ولا سهوا. وهذا كله بعد الاتصاف بالنبوة. وأما قبلها فعند أكثر أصحابنا وجمع من المعتزلة لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة (أقول: أي عمدا كان أو سهوا) وقال أكثر المعتزلة: تمتنع الكبيرة وإن تاب عنها لأن صدور الكبيرة يوجب النفرة ممن ارتكبها، والمنفور عنه لا يتبعه الناس، فتفوت مصلحة البعثة. وفي «شرح العقائد» : ومن المعتزلة من منع ما ينفر الطباع عن متابعتهم، سواء كان ذنبا لهم أو لا، كعهر الأمهات، أي كونهن زانيات، والفجور في الآباء ودنائتهم أو استرذالهم. كذا في شرح «المواقف». وفي شرح «العقائد» : أنه الحق. ولعل ضميري الجمع في «دنائتهم، واسترذالهم» راجعان إلى الأنبياء، ولا يبعد رجوعهما إلى الآباء. وعند الروافض: لا يجوز صغيرة ولا كبيرة، لا عمدا ولا سهوا، ولا خطأ في التأويل قبل الوحي وبعده. والمفهوم من شرح «العقائد» : أن الشيعة كالروافض في هذا الحكم إلا أنهم جوزوا إظهار الكفر عند خوف الهلاك.
تنبيه: العصمة عندنا على ما يقتضيه أصلنا من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء: ألا يخلق الله (تعالى) فيهم ذنبا. وهي عند الفلاسفة بناء على ما ذهبوا إليه من القول بإيجاب الفعل عند استعداد القوابل ملكة، أي صفة نفسانية راسخة تمنع صاحبها من الفجور، وتحصل هذه الصفة النفسانية ابتداء بالعلم بمعايب المعاصي ومناقب الطاعات، وتتأكد وتترسخ هذه الصفة في الأنبياء بتتابع الوحي إليهم بالأوامر والنواهي، والاعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر وترك الأولى فإن الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا، أي غير راسخة ثم تصير ملكات، أي راسخة في محلها، كذا في شرح «المواقف».
ينظر: «نشر الطوالع» (٣٣٨- ٣٤٢).
(١) أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، الإمام الحافظ الكبير، أبو بكر البيهقي سمع الكثير ورحل وجمع وصنف، مولده سنة ٣٨٤، تفقه على ناصر العمري، وأخذ علم الحديث عن أبي عبد الله الحاكم، وكان كثير التحقيق والإنصاف، قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منه إلا البيهقي، فإن له على الشافعي منه لتصانيفه في نصرة مذهبه، ومن تصانيفه: «السنن الكبير»، و «السنن الصغير»، -
318
وغيره عن طلحة بن عُبَيْد اللَّه «١» - رضي اللَّه عنه- قَالَ: «حَضَرْتُ سُوقَ بصرى، فَإِذَا رَاهِبٌ في صومعة، يقول: سَلُوا أَهْلَ هَذَا المَوْسِمِ، أفيهِمْ مَنْ هو مِنْ هذا الحَرَمِ؟ قَالَ:
قُلْتُ: أَنَا، فما تَشَاءُ؟ قَالَ: هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ؟ قُلْتُ: ومَنْ أَحْمَدُ؟ قَالَ: أحمدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ إلى نَخْلٍ وَسِبَاخٍ، إِذَا كَانَ، فَلاَ تُسْبَقَنَّ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، وَأَسْرَعْتُ اللَّحَاق بِمَكَّةَ، فَسَأَلْتَ، هَلْ ظَهَرَ بَعْدِي أَمْرٌ؟ فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ الأُمِّيُّ قَدْ تَنَبَّأَ، وَتَبِعَهُ أبو بَكْرِ بْنُ أبِي قُحَافَةَ، فَمَشَيْتُ إلى أَبِي بَكْرٍ، وَأَدْخَلَنِي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمْتُ»
«٢»، وقد روى العُذْرِيُّ وغيره عن أبي بكر- رضي اللَّه عنه- أنَّه قَالَ: «لقيتُ شيخاً باليمن، فقال لي: أنْتَ حَرَمِيٌّ، فقلت: نعم، فقال: وأحسبكَ قُرَشِيًّا، قلت: نعم، قال: بَقِيَتْ لِي فيكَ واحدةٌ، اكشف لي عن بَطْنك، قُلْتُ: لا أفعل، أو تخبرني لِمَ ذلك، قال: أجدُ في العلْمِ الصحيحِ أن نبيًّا يبعثُ في الحرمين يقارنه على أمره فتًى وكَهْل، أمَّا الفتى، فخوَّاض غمراتٍ، ودفَّاع مُعْضِلاَتٍ، وأما الكَهْل، فأبيضُ نحيفٌ على بطنه شَامَةٌ، وعلى فَخِذِهِ اليسرى علامةٌ، وما عليك أنْ تريني ما سألتُكَ عَنْه، فقد تكامَلَتْ فيك الصِّفَةُ، إِلا/ ما خَفِيَ علَيَّ؟ قال أبو بكر: فكَشَفْتُ له عَنْ بطني، فرأى شامَةً سوداء فوق سُرَّتي، فقالَ: أَنْتَ هو وربِّ الكعبة، إِني متقدِّم إِليك في أمْرٍ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قال: إِيَّاكَ، والمَيْلَ عن الهدى،
- و «دلائل النبوة» وغيرها. مات سنة ٤٥٨.
ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ٢٢٠)، «الأعلام» (١/ ١١٣).
(١) هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب... أبو محمد القرشي. التيمي، أحد العشرة. يعرف ب «طلحة الخير».
قال ابن حجر في «الإصابة» هو أحد العشرة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد الستة أصحاب الشورى. روى عن النبي، وعنه: بنوه يحيى، وموسى، وعيسى، وقيس بن أبي حازم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والأحنف، ومالك بن أبي عامر، وغيرهم... وكان عند وقعة بدر في تجارة في «الشام»، فضرب له النبي بسهمه وأجره، وشهد «أحدا»، وأبلى فيها بلاء حسنا، ووقى النبي بنفسه، واتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصبعه. توفي في جمادى الأولى سنة (٣٦).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ٨٥)، «البداية والنهاية» (٧/ ٤٧)، «تهذيب التهذيب» (٥/ ٢٠)، «التحفة اللطيفة» (٢/ ٢٦٤)، «شذرات الذهب» (١/ ٤٢، ٤٣، ٥٩)، «الإصابة» (٣/ ٢٩٠)، «التعديل والتجريح» (٤٢١)، «الاستبصار» (١١٦، ١٣٤، ١٦٠)، «التاريخ الصغير» (٦٩، ٧٥)، «الرياض المستطابة» (١٣٥)، «الرياض النضرة» (١/ ٣٣)، «تهذيب الكمال» (٢/ ٦٢٨). [.....]
(٢) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٢/ ١٦٥- ١٦٦) عن طلحة بن عبيد الله.
319
وعليك بالتمسُّك بالطريقةِ الوسطى، وخَفِ اللَّه فيما خَوَّلَكَ، وأعطى، قال أبو بكر: فلمَّا ودعتُهُ، قال: أَتَحْمِلُ عنِّي إِلى ذلك النبيِّ أبياتاً، قلت: نعم، فأنشأ الشيخ يَقُولُ: [الطويل]
أَلَمْ تَرَ أَنِّي قَدْ سَئِمْتُ مُعَاشِرِي وَنَفْسِي وَقَدْ أَصْبَحْتُ فِي الحَيِّ عَاهِنَا
حَيِيتُ وَفِي الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ عِبْرَةٌ ثَلاَثَ مِئينَ بَعْدَ تِسْعِينَ آمِنَا
وَقَدْ خَمَدَتْ مِنِّي شَرَارَةُ قُوَّتِي وَأُلْفِيتُ شَيْخاً لاَ أُطِيقُ الشِّوَاحِنَا
وَأَنْتَ وَرَبِّ الَبْيتِ تَأْتِي مُحَمَّداً لِعَامِكَ هَذَا قَدْ أَقَامَ البَرَاهِنَا
فَحَيِّ رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي فَإِنَّنِي على دِينِهِ أَحْيَا وَإِنْ كُنْتُ قَاطِنَا
قال أبو بكر: فحفظْتُ شعره، وقدمت مكّة، وقد بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فجاءني صناديد «١» قُرَيْشٍ، وقالوا: يا أبا بكْرٍ، يتيمُ أَبِي طالِبٍ، يَزْعُم أنه نبيٌّ، قال: فجئت إلى منزل النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقرعْتُ علَيْه، فخرَجَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، فُقِدْتَ مِنْ مَنَازِلِ قَوْمِكَ، وَتَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَآمِنْ بِاللَّهِ، فَقُلْتُ وَمَا دَلِيلُكَ؟ قَالَ: الشَّيْخُ الَّراهِبُ الَّذِي لَقِيتَهُ بِاليَمَنِ، قُلْتُ: وَكَمْ مِنْ شَيْخٍ لَقِيتُ! قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الشَّيْخَ الَّذِي أَفَادَكَ الأَبْيَاتَ، قُلْتُ: وَمَنْ أَخْبَرَكَ بِهَا؟ قَالَ: الرُّوحُ الأمِينُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي الأَنْبِيَاءَ قَبْلِي، قُلْتُ: مُدَّ يَمِينَكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فانصرفت وَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَشَدُّ مِنْ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَرَحاً بِإِسْلاَمِي». انتهى من تأليف ابن القَطَّان في «الآيات والمعجزات».
ويَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، أي: آيات القرآن، والْكِتابَ: القرآن، قال قتادة:
وَالْحِكْمَةَ السنة «٢»، وروى ابن وهْب «٣» عن مالكٍ أن الْحِكْمَةَ: الفقْهُ في الدين «٤»، والفهم الذي هو سجيَّة ونور من الله تعالى.
(١) هم أشرافهم وعظماؤهم، واحدها صنديد. ينظر: «لسان العرب» (٢٥٠٧).
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٦٠٧) برقم (٢٠٨٣) وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (١/ ٢١٢) والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٥٥)، وعزاه لعبد بن حميد، ابن جرير. وذكره ابن كثير (١/ ١٨٤).
(٣) ابن وهب هو أبو محمد، عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي، مولاهم. روى عن علماء كثيرين منهم مالك، والليث، وابن أبي ذئب، والسفيانان. وقرأ على نافع بن أبي نعيم، تفقه بمالك، والليث، وابن أبي دينار، وأبي حازم، وغيرهم. له مصنفات كثيرة، منها: سماعه من مالك، وجامعه الكبير، وكان مولده سنة خمس ب «مصر» وتوفي يوم الأحد لخمس بقين من شعبان سنة سبع وتسعين ومائة.
ينظر: «الديباج المذهب» (١/ ٤١٣)، و «تذكرة الحفاظ» (١/ ٢٧٧)، و «البداية والنهاية» (١٠/ ٢٤٠).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٦٠٧) برقم (٢٠٨٤)، وذكره ابن عطية (١/ ٢١٢)، وابن كثير (١/ ١٨٤).
320
ت: ونقل عِيَاضٌ في «مداركه» عن مالك أن الْحِكْمَةَ نورٌ يقذفه اللَّه في قلب العبد، وقال أيضاً: يقع في قلبي أنَّ الْحِكْمَةَ الفقْهُ في دين اللَّه، وأمر يدخلُه اللَّه القلُوبَ من رحمته وفَضْله، وقال أيضاً: الْحِكْمَةَ التفكُّر في أمر اللَّه، والاتِّباعُ له، والفقْه في الدِّين، والعمل به. انتهى.
وقد أشار ع: إلى هذا عند قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ «١» [البقرة: ٢٦٩].
ت: والظاهر أن المراد ب الْحِكْمَةَ هنا: ما قاله قتادة، فتأمَّله.
وَيُزَكِّيهِمْ: معناه يطَهِّرهم، وينمِّيهم بالخَيْر، والْعَزِيزُ: الّذي يغلب، ويتم مراده، والْحَكِيمُ: المصيب مواقع الفعل، المحكم لها.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٣]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)
وقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ... الآية: «من» : استفهام، والمعنى:
ومن يزهد منها، ويربأ بنفسه عنها إِلا مَنْ سفه نفسه، والملَّة: الشريعة والطريقَةُ، وسَفِهَ من السَّفَه الَّذي معناه الرِّقَّة والْخِفَّة، واصطفى من الصَّفْوَة، معناه: تخيَّر الأصفى، ومعنى هذا الاِصطفاءِ أنه نبأه، واتَّخذه خليلاً.
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ: قيل: المعنى أنه في عمل الآخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضافٍ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ كان هذا القول من اللَّه تعالى حين ابتلاه بالكوكبِ والقمرِ والشمس والإِسلامُ هنا على أتمِّ وجوهِهِ، والضميرُ في «بِهَا» عائدٌ على كلمته التي هي أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وقيلَ: على الملة، والأول أصوبُ لأنه أقرب مذكور.
وَيَعْقُوبُ: قيل: عطْفٌ على إِبْراهِيمُ، وقيل: مقطوعٌ منفردٌ بقوله: يَا بَنِيَّ، والتقدير: ويعقوب قال: يا بنيّ/. ٣٦ ب
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٣٦٤).
321
واصْطَفى هنا: معناه: تخيَّر صفوةَ الأديان.
وقوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: إِيجاز بليغ، وذلك أنَّ المقصود من أمرهم بالإِسلام الدوامُ علَيْه، فأتى بلفظ موجَزٍ يقتضي المقصودَ، ويتضمَّن وعظاً وتذكيراً بالموت، وذلك أن المرء يتحقَّق أنه يموت، ولا يدري متى، فإِذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إِلاَّ وهو عليه، فقد توجَّه من وقت الأمر دائباً لازماً.
وقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ هذا الخطابُ لليهودِ والنصارَى الذين انتحلوا الأنبياءَ- صلوات اللَّه عليهم- ونَسَبوهم إِلَى اليهوديَّة والنصرانية، فردَّ اللَّه عليهم وكذَّبهم، وأعلمهم أنهم كانُوا على الحنيفيَّة الإِسلامِ، وقال لهم على جهة التقريرِ والتوبيخ: أَشهدتُّمْ يعقوبَ بما أوصى، فتدَّعُونَ عنْ علْمٍ أَم لم تشهدوا، بل أنتم تفترُونَ، «وأم» «١» : للاستفهامِ في صدرِ الكلامِ، لغةٌ يمانيَةٌ، وحكى الطبريُّ أنَّ «أَمْ» يستفهم
(١) في «أم» هذه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو المشهور أنها منقطعة، والمنقطعة تقدر ب «بل» وهمزة الاستفهام، وبعضهم يقدرها ببل وحدها، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال له، ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ، فيؤول معناه إلى النفي أي: بل أكنتم شهداء يعني لم تكونوا.
الثاني: أنها بمعنى همزة الاستفهام وهو قول ابن عطية والطبري، لا أنهما اختلفا في محلها: فإن ابن عطية قال: وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية، وقال الطبري: إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره/.
قال أبو حيان في قول ابن عطية: ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال، وقال في قول الطبري: وهذا أيضا قول غريب.
الثالث: أنها متصلة وهو قول الزمخشري، قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك: وقيل الخطاب لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية، فالآية منافية لقولهم فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟ ولكن الوجه أن تكون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء؟
قال أبو حيان: ولا أعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره لو قلت: «أم زيد» تريد: «أقام عمرو أم زيد» لم يجز، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دل عليه دليل كقولك: «بلى وعمرا» لمن قال: لم يضرب زيدا، وقوله- تعالى-: فَانْفَجَرَتْ [البقرة: ٦٠] أي فضرب فانفجرت وندر حذفه مع أو كقوله: [الطويل]
فهل لك أو من والد لك قبلنا.............................
أي: من أخ أو والد، ومع حتى كقوله: [الطويل].
322
بها في وسط كلامٍ قد تقدَّمَ صدره، وهذا منه، وشُهَداءَ: جمع شاهدٍ، أي: حاضر، ومعنى الآية حضر يعقوب مقدّمات الموت.
ومِنْ بَعْدِي، أي: من بَعْدِ مَوْتِي، ودخل إِسماعيل في الآباء لأنه عَمَّ.
وقد أطلق النبيُّ صلّى الله عليه وسلم على العَبَّاس اسم الأب، فقال: «هذا بقية آبائي» «١»، وقال:
«رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي» الحَدِيثَ «٢»، وقال: «أَنَا ابن الذِّبِيحَيْنِ» «٣»، على القول الشهيرِ في أنَّ إِسحاق هو الذبيحُ.
ت: وفي تشهيره نظَرٌ، بل الراجحُ أنه إِسماعيل على ما هو معلومٌ في موضعه، وسيأتي إِنْ شاء الله تعالى.
- فوا عجبا حتّى كليب تسبّني كأنّ أباها نهشل أو مجاشع
أي: يسبني الناس حتى كليب على نظر فيه، وإنما الجائز حذف «أم» مع ما عطفت كقوله: [الطويل]
دعاني إليها القلب إنّي لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها
أي: أم في، وإنما جاز ذلك، لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه، ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دل عليها المعنى، ألا ترى إلى قوله: تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] كيف حذف، «والبرد» انتهى.
ينظر: «الكتاب» (٣/ ١٨)، و «ابن يعيش» (٨/ ١٨)، و «المقتضب» (٢/ ٤١)، و «الأشموني» (٣/ ١١٦)، و «البحر المحيط» (١/ ٥٧٢)، و «الدر المصون» (١/ ٣٧٧- ٣٧٨).
(١) أخرجه الطبراني في «الصغير» (١/ ٢٠٧) من حديث الحسن بن علي مرفوعا بلفظ: «احفظوني في العباس، فإنه بقية آبائي».
وقال: لا يروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب إلا بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في «المجمع» (٩/ ٢٧٢) : رواه الطبراني في «الصغير»، و «الأوسط»، وفيه جماعة لم أعرفهم.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» كما في «تخريج الكشاف» للزيلعي (١/ ٩٠) عن ابن عباس بمثل حديث الحسن.
وقد روي هذا الحديث مرسلا عن مجاهد: أخرجه ابن أبي شيبة (٦/ ٣٨٢) كتاب «الفضائل»، باب فضائل العباس، حديث (٣٢٢١٢)، وعبد الرزاق (٢/ ١٣٢) كلاهما من طريق ابن عيينة عن داود بن سابور عن مجاهد عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا.
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة (١٤/ ٤٨٤) كتاب «المغازي»، باب فتح مكة عن عكرمة مرسلا بلفظ: «ردوا عليّ أبي فإن عم الرجل صنو أبيه».
وذكره الهندي في «كنز العمال» (٣٠١٩٥)، وعزاه إلى ابن أبي شيبة.
(٣) الحديث لا أصل له بهذا اللفظ.
قال الزيلعي في «تخريج الكشاف» (٣/ ١٧٧) : غريب، والخلاف في تعيين الذبيح، هل هو إسماعيل أم إسحاق منذ عهد الصحابة (رضي الله عنهم)، والأحاديث التي وردت في تعيين أحدهما لا يصح منها شيء.
323

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٨]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)
وقوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ... الآية، يعني بالأُمَّةِ الأنبياءَ المذكورينَ، والمخاطَبُ في هذه الآية اليهودُ والنصارى، وقولهم: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا نظير قولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١]، والحنيف في الدين: الذي مال عن الأديان المكروهة إِلى الحقِّ، ويجيء الحنيفُ في الدين بمعنى المستقيمِ على جميع طاعاتِ اللَّهِ.
قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ... الآية: هذا الخطاب لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا: يعني القرآن، والْأَسْباطِ هم ولَدُ يعقوبَ، وهم: رُوبِيل، وشَمْعُون، ولاَوي، ويَهُوذَا، وريالُون، ويشحر، ودنية بنته، وأمهم ليا، ثم خَلَف على أختها رَاحِيل، فولَدَتْ له يوسُفَ، وبِنْ يَامِين، ووُلِدَ له من سُرِّيَّتَيْنِ:
ذان، وتفثالا، وجاد، واشر.
والسِّبْطُ في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، فسُمُّوا الأسباط لأنه كان من كل واحدٍ منهم سبط.
ولا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أي: لا نؤمن ببعض، ونكفر ببعض كما تفعلون، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ، أيْ: فإن صَدَّقوا تصديقاً مثْلَ تصديقكم، فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا، أي: أعرضوا، يعني: اليهودَ والنصارى، فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ، أي: في مشاقَّةٍ ومخالفةٍ لَكَ، هم في شِقٍّ، وأنت في شِقٍّ، وقيل: شَاقَّ معناه: شَقَّ كل واحدٍ وصل ما بينَه وبين صاحبه، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إِياهم، ويغلبه عليهم، فكان ذلك في قَتْل بني قَيْنُقَاعَ، وبني قريظة، وإِجلاء النَّضِير.
وهذا الوَعْدُ وانتجازه من أعلام نبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم.
والسَّمِيعُ لقول كل قائل، والْعَلِيمُ بما ينفذه في عباده، وصِبْغَةَ اللَّهِ:
شريعتُهُ ودينُهُ وسنَّته، وفطْرته، قال كَثِيرٌ من المفسّرين/: وذلك أن النصارى لهم ماء ٣٧ أيصبغون فيه أولادهم، فهذا ينظر إلى ذلك. وقيل: سمي الدِّين صبغةً استعارةً من حيث تظهر أعْمَالُهُ وسِمَتُهُ على المتدِّين كما يظهر الصِّبْغ في الثَّوْب وغيره، ونصب الصِّبْغة على الإِغراء «١».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٩ الى ١٤١]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
وقوله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ... الآية: معنى الآية: قل يا محمَّد لهؤلاءِ اليهودِ والنصارى: أتحاجُّوننا في اللَّه، أي: أتجادلونَنَا في دِينِهِ، والقُرْب منه، والحُظْوة لديه سُبْحانه، والرب واحدٌ، وكلٌّ مجازًى بعمله، ثم وبَّخهم بقوله: وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ، أي: ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدَّعون ما نَحْن أولى به منْكُمْ.
وقوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ عطْفٌ على ألف الاستفهامِ المتقدِّمة، وهذه القراءة بالتاء من فوقُ قراءةُ ابن عامر، وحمزةَ، وغيرهما، وقرأ نافعٌ وغيره بالياء من أسفل «٢»، «وأَمْ» على هذه القراءةِ مقطوعةٌ، ووقفهم تعالى على موضعِ الإنقطاعِ في الحجّة لأنهم إن قالوا:
(١) وفي انتصاب «صبغة» أربعة أوجه:
أحدها: أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد، وهذا اختاره الزمخشري، وقال: هو الذي ذكر سيبويه والقول ما قالت حذام انتهى. قوله واختلف حينئذ عن ماذا انتصب هذا المصدر؟ فقيل عن قوله: قُولُوا آمَنَّا [البقرة: ١٣٦]، وقيل عن قوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: ١٣٦]، وقيل عن قوله: فَقَدِ اهْتَدَوْا [البقرة: ١٣٧].
الثاني: أن انتصابها على الإغراء أي: الزموا صبغة الله.
قال أبو حيان: وهذا ينافره آخر الآية، وهو قوله: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ [البقرة: ١٣٨] إلا أن يقدر هنا قول، وهو تقدير لا حاجة إليه، ولا دليل من الكلام عليه.
الثالث: أنها بدل من «ملة»، وهذا ضعيف إذ قد وقع الفصل بينهما بجمل كثيرة.
الرابع: انتصابها بإضمار فعل أي: اتبعوا صبغة الله، ذكره أبو البقاء مع وجه الإغراء، وهو في الحقيقة ليس زائدا، فإن الإغراء أيضا هو نصب بإضمار فعل.
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٣٨٨).
(٢) ينظر: «السبعة» (١٧١)، و «الحجة» (٢/ ٢٢٨)، و «معاني القراءات» (١/ ١٨٠)، و «العنوان» (٧٢)، و «حجة القراءات» (١١٥)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٧١)، و «شرح شعلة» (٢٧٨)، و «إتحاف» (١/ ٤١٩).
إنَّ الأنبياء المذكُورين على اليهوديَّة والنصرانية، كَذَبوا لأنه قد عُلِمَ أن هذين الدينَيْن حَدَثَا بعدهم، وإِن قالوا: لم يكونوا على اليهودية والنصرانية، قيل لهم: فهلُمُّوا إِلى دينهم إِذ تقرّون بالحق.
وقوله تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ تقريرٌ على فساد دعواهم إذ لا جواب لمفطورٍ إلا أن اللَّه تعالى أعلم، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً، أيْ: لا أحد أظلم منه، وإياهم أراد تعالى بكتمانِ الشهادةِ، قال مجاهد وغيره: فالذي كتموه هو ما في كتبِهِمْ مِنْ أنَّ الأنبياء على الحنيفيَّة، لا على ما ادعوه «١»، وقال قتادةُ وغيره: هو ما عندهم من الأمر بتصديق النبيّ صلّى الله عليه وسلم «٢» والأولُ أشبه بسياقِ الآيةِ، «ومِن» متعلِّقةٌ ب «عِنْده»، ويحتمل أن تتعلق ب «كَتَمَ».
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ... الآيةَ: فيه وعيد وإِعلام أنه لا يترك أمرهم سدًى، والغافل:
الذي لا يفطنُ للأمور إهْمالاً منه، مأخوذ من الأرض الغُفْلِ، وهي التي لا مَعْلَمَ بها.
وقوله تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ... الآية: كرَّرها عن قرب لأنها تضمَّنت معنى التهْديدِ والتخويفِ، ولترداد ذكرهم أيضا في معنى غير الأول.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ... الآية: اختلف في تعْيينِ هؤلاء السفهاءِ، فقال ابن عبَّاس: هم الأحبارُ، وذلك أنهم جاءوا إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمَّد، ما ولاَّك عَنْ قبلتنا، ارجع إليها، ونؤمنْ بك «٣»، يريدُونَ فتنتَهُ، وقيل: اليهود والمنافقُونَ، وقالت فرقة: هم كفّار قريش.
(١) ذكره ابن عطية (١/ ٢١٧) عن مجاهد، والحسن، والربيع. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (١/ ٦٢٧) برقم (٢١٤٢) من طريق معمر عن قتادة. وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (١/ ٦٠) بنحوه. وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٢٦٠)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. وذكره ابن عطية في «التفسير» (١/ ٢١٧).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٧) برقم (٢١٦٧)، وذكره ابن عطية (١/ ٢١٨).
326
ووَلَّاهُمْ: معناه: صرفهم، ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ: إِشارة إِلى هداية اللَّه تعالى هذه الأمة إلى قبلة إِبراهيم، وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ، أيْ كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته، جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، أي: عدولاً روي ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتظاهَرَتْ به عباراتُ المفسِّرين، والوَسَط: الخيارُ والأعلى من الشيء، وواسطة القلادةِ أنفَسُ حَجَر فيها ومنه قوله تعالى: قالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: ٢٨].
وشُهَداءَ: جمع شاهدٍ، والمراد بالناسِ هنا في قول جماعة: جميع الجنس، وأن أمة محمّد صلّى الله عليه وسلم تشهدُ يوم القيامة للأنبياءِ على أممهم بالتبليغِ، وروي في هذا المعنى حديثٌ صحيحٌ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم وروي عنه أنَّ أُمته تشهدُ لكُلِّ نبيٍّ نَاكَرَهُ قومه «١».
ت: وهذا الحديثُ خرَّجه البخاريُّ، وابن ماجة، وابن المبارك في «رقائقه» وغيرهم قائلا صلّى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً... الآية.
وكون الرسولِ شهيداً، قيل: معناه: بأعمالكم يوم القيامة، وقيل: «عليكم» بمعنى «لَكُمْ»، أي: يَشْهَدُ لَكُمْ بالإِيمان.
وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ... الآية: قال قتادةُ وغيره: القِبْلة هنا بيْتُ المَقْدِس «٢»، أي: إِلا فِتْنَةً لنعلَمَ من يتبعك مِنَ العربِ الذين لم يألفوا إِلا مسجد مكَّة أو من اليهود على ما قاله الضّحّاك الذين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إِنْ صَلَيْتَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، اتبعناك»، فأمره اللَّه بالصَّلاة إِليه، امتحانا لهم، فلم يؤمنوا «٣».
وقال ابنُ عَبَّاس: القبلة في الآيَةِ: الكعبةُ «٤»، وكُنْتَ عَلَيْها بمعنى: أَنْتَ عليها كقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: ١١٠]، بمعنى: أنتم.
وَمَا جَعَلْنَاهَا وَصَرَّفْنَاكَ إلَيْهَا إلا فتنةً، وروي في ذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما حُوِّل إِلى الكعبة، أكْثَرَ في ذلك اليهودُ والمنافقونَ، وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلتِ الآية، ومعنى: لِنَعْلَمَ، أي ليعلم رسولِي والمؤمنون به، والقاعدة نَفْيُ استقبال العلْمِ بعد أنْ
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٢٤٧) كتاب «التفسير»، باب «ذرية من حملنا مع نوح» حديث (٤٧١٢) ومسلم (١/ ١٨٤) كتاب «الإيمان» باب أدنى أهل الجنة منزلة حديث (٣٢٧/ ١٩٤) من حديث أبي هريرة.
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ١٤) برقم (٢٢٠٦) عن السدي، وذكره ابن عطية (١/ ٢١٩). وذكره الشوكاني (١/ ٢١٨) عن عطاء.
(٣) ذكره ابن عطية (١/ ٢١٩).
(٤) ذكره ابن عطية (١/ ٢٢٠).
327
لم يكن، ويَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ عبارةٌ عن المرتدِّ، والرجوعُ على العَقِبِ أَسوأُ حالات الراجع.
وقوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ... الآية: الضمير في «كَانَتْ» راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس، أو إلى التحويلة إلى الكعبة، حَسْبما تقدَّم من الخلاف في القبلة، «وكَبِيرَة» هنا معناه: شاقَّة صعبةٌ، تكبُرُ في الصدور، ولما حُوِّلَتِ القبلة، كان من قول اليهود: يا محمَّدُ، إن كانَتِ الأولى حقاً، فأنتَ الآنَ على باطلٍ، وإن كانتْ هذه حقًّا، فكنْتَ في الأولى على ضلالٍ، فَوَجَمَتْ نفوسُ بعْضِ المؤمنين، وأشْفَقُوا على مَنْ مات قبل التحويل من صلاتِهِمُ السالفة، فنزلَتْ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، أي: صلاتكم، قاله ابن عبَّاس وغيره «١»، وسمَّى الصلاة إِيماناً لَمَّا كانَتْ صادرةً عن الإيمان ولأن الإِيمان هو القطب الذي عليه تدور الأعمال، فذكره إِذ هو الأصل، ولئلاَّ يندرج في اسم الصلاة صلاةُ المنافقين إِلى بيت المَقْدِسِ، فذكر المعنَى الَّذي هو ملاك الأمر، وأيْضاً سُمِّيتْ إِيماناً إِذ هي من شُعَب الإِيمان.
ت: وفي العتبية من سماع ابن القاسم «٢»، قال مالكٌ: قال اللَّهُ تبارَكَ وتعالى:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ قال: هي صلاة المؤمنين إلى بيت المَقْدِس، قال ابنُ رُشْد وعلى هذا القول أكثر أهل التفسير، وقد قيل: إن المعنى في ذلك، وما كان اللَّه ليضيعَ إِيمانكم بفَرْضِ الصلاة عليكم إلى بيْتِ المقدِسِ. انتهى من «البَيَان».
والرَّأْفَةُ: أعلى منازل الرحْمَة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٥]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٢٠) برقم (٢٢٣٢). وذكره ابن عطية (١/ ٢٢١).
(٢) ابن القاسم هو: أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بالولاء، المعروف بابن القاسم، ولد ب «مصر» سنة ١٢٨ هـ. وقيل: سنة ١٣٢ هـ. وقيل غير ذلك، سافر إلى «المدينة» فصحب الإمام مالكا، وتفقه عليه، وروى عنه وعن الليث بن سعد، وعبد العزيز بن الماجشون، وغيرهم، وروى عنه أصبغ، وسحنون، وعيسى بن دينار، وغيرهم.
ومن مؤلفاته: «كتاب المدونة»، وهي التي أخذها عنه سحنون، وهي من أجل كتب الفقه المالكي، توفي ب «مصر» سنة ١٩١ هـ.
ينظر: «الديباج المذهب» (١/ ٤٦٥)، «شذرات الذهب» (١/ ٣٢٩)، «وفيات الأعيان» (٣/ ٣٦٢).
328
وقوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ... الآية: المقْصِد تقلُّب البصر، وأيضاً: فالوجه يتقلَّب بتقلُّب البصر، قال قتادة وغيره: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الدعاءِ إلى اللَّه تعالى أنْ يحوِّله إِلى قبلة مكَّة «١»، ومعنى التقلُّب نحو السماء: أنَّ السماء جهةٌ قد تعوَّد العالَمُ منْها الرحمةَ كالمطر، والأنوار، والوَحْي، فهم يجعلون رغبتهم حيْثُ توالَتِ النعَمُ.
قال ص: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ: يدلُّ على تقدير حالٍ، أي: قد نرى تقلُّب وجهك في السماءِ طالباً قبلةً غير التي أنت مستقبلها، فلنولينّك. انتهى.
وتَرْضاها: معناه: تحبّها/، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يحبّ الكعبة والتحوّل عن بيت ٣٨ أالمقدس لوجوه ثلاثة رُوِيَتْ:
أحدها: لقول اليهودِ: «مَا عَلِمَ محمَّدٌ دينَهُ حتَّى اتبعنا» قاله مجاهد.
الثاني «٢» : ليصيب قبلة إِبراهيمَ- عليه السلام- قاله ابن عَبَّاس «٣».
الثالث: ليستألف العربَ لمحبَّتها في الكعبة، قاله الربيعة والسُّدِّيُّ «٤».
ع «٥» : والميزابُ هو قبلة المدينةِ والشامِ، وهنالك قبلةُ أهل الأندلسِ بتأريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلةٌ من كل أُفُقٍ.
وقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ... الآية: أمر بالتحوُّل، ونسخ لقبلة الشام، وشَطْرَ: نصبٌ على الظرف، ومعناه: نحو، وتلقاء، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا: أمر
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٢٢) برقم (٢٢٣٥)، (٢٢٣٦) عن قتادة من طريقين وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (١/ ٦٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٢١).
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٢٣) برقم (٢٢٣٩) بنحوه. وذكره ابن عطية (١/ ٢٢١)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٦٩)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٢٣) برقم (٢٢٤١) بنحوه. وذكره ابن عطية (١/ ٢٢١).
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٢٢) برقم (٢٢٣٧) عن الربيع، وبرقم (٢٢٣٨) عن السدي. وذكره ابن عطية (١/ ٢٢).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٢٢٢)، والميزاب: المثعب، فارسي معرب، والجمع مآزيب إذا همز، وميازيب إذا لم يهمز. ينظر: «لسان العرب» (٤٨٢٣) (وزب)، و «الوسيط» (٤٠٧).
329
للأمة ناسخٌ.
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ... الآية: المعنى: أن اليهود والنصارى يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم أمام الأمم، وأن استقبالها هو الحقُّ الواجب على الجميع اتباعا لمحمَّد صلّى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتبهم، وتضمَّنت الآيةُ الوعيد.
وقوله جلَّت قدرته: وَلَئِنْ أَتَيْتَ... الآية: أعلَمَ اللَّه تعالى نبيَّه- عليه السلام- حين قالَتْ له اليهودُ: راجِعْ بيْتَ المَقْدِسِ، ونؤمن بكَ أن ذلك مخادَعَةٌ منهم، وأنهم لا يتَّبعون له قِبْلَةً، يعني: جملتهم لأن البعض قد اتبع، كعبد اللَّه بن سَلاَمٍ وغيره، وأنهم لا يؤمنون بدينه، أي: فلا تُصْغِ إِليهم، والآية هنا العَلاَمَةُ.
وقوله جلَّت عظمته: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ... لفظ خبرٍ يتضمَّن الأمر، أي: فلا تركنْ إِلى شيء من ذلك، وَما بَعْضُهُمْ... الآية، قال ابن زيد وغيره: المعنى ليستِ اليهودُ متبعةً قبلة النصارى، ولا النصارى متبعةً قبلةَ اليهودِ، فهذا «١» إِعلام باختلافهم، وتدابرهم، وضلالهم، وقبلةُ النصارى مَشْرِقُ الشمْسِ، وقبلةُ اليهود بيْتُ المَقْدِسِ.
وقوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ... الآية: خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم والمرادُ أمته، وما ورد من هذا النوع الّذي يوهم من النبيّ صلّى الله عليه وسلم ظُلْماً متوقّعاً، فهو محمولٌ على إِرادة أمته لعصمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقَطْعاً أن ذلك لا يكُونُ منْه، وإِنما المرادُ مَنْ يمكنُ أنْ يَقَعَ ذلكَ منه، وخوطب النبيّ صلّى الله عليه وسلم تعظيماً للأمر، قال الفَخْر «٢» : ودلَّت هذه الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشدُّ من توجُّهه على غيرهم لأن قوله: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يدلُّ على ذلك. انتهى، وهو حَسَنٌ.
ص: وَلَئِنْ أَتَيْتَ: لام «لَئِنْ» مؤذنةٌ بقَسَمٍ مقدَّرٍ قبلها، ولهذا كان الجواب:
له مَّا تَبِعُوا، ولو كان للشرط، لدخلت الفاء، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة جواب القسم عليه، ومن ثم جاء فعل الشرط ماضياً، لأنه إِذا حذف جوابه، وجب فعله لفظا.
انتهى.
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٢٧) برقم (٢٢٦٣)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٢٣)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٧٠) عن السديّ. وذكره الشوكاني في «تفسيره» عن السديّ كذلك. [.....]
(٢) «التفسير الكبير» (٤/ ١١٦).
330

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ... الآية: الضمير في يعرفونه عائدٌ على الحق في القبلة، والتحوُّل إلى الكعبة، قال ابن عبَّاس وغيره «١»، وقال مجاهدٌ وغيره:
هو عائدٌ على محمّد صلّى الله عليه وسلم، أي: يعرفون صدْقَه ونبوَّته «٢».
ت: بل وصفاتِهِ.
وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ: الفريقُ: الجماعةُ، وخص، [لأن] منهم من أسلم ولم يكتم والإشارة بالحق إلى ما تقدَّم على الخلاف في ضمير يَعْرِفُونَهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ظاهرٌ في صحَّة الكفر عناداً.
وقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، أي: هو الحق، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ:
الخطاب للنبيّ/ صلّى الله عليه وسلم والمرادُ أمَّته، وامترى في الشيء، إِذا شك فيه ومنه: المراء، لأن ٣٨ ب هذا يشك في قول هذا.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٨ الى ١٥١]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
وقوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
: الوجهةُ: من المواجهة كالقبلة، والمعنى: ولكلِّ صاحبِ ملَّة وجهةٌ هو مولِّيها نفْسَه، قاله ابن عبّاس وغيره «٣».
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢/ ٢٨) برقم (٢٢٦٧) عن ابن عباس، كما أخرج عدة آثار بهذا المعنى عن قتادة، والربيع، والسدي وغيرهم.
والأثر ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٢٣)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٧٠).
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ٢٢٤).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٣١) برقم (٢٢٨٠) عن الربيع وبرقم (٢٢٨١) عن عطاء وبرقم (٢٢٨٣) عن ابن عباس.
وذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ٢٢٤)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٢٧١)، وعن ابن عباس، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
331
وقرأ ابن عامر «١» :«هُوَ مَولاَّهَا»، أيْ: اللَّه مُوَلِّيها إياهم، ثم أمر تعالى عباده باستباق الخَيْرات، والبدارِ، إلى سبيل النجاة، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده أَن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ فُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الخَيْرِ فَلْيَنْتَهُزْهُ «٢»، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي، متى يُغْلَقُ عَنْهُ». انتهى.
ثم وعظهم سبحانه بذكْر الحشر موعظةً تتضمَّن وعيداً وتحذيراً.
ص: «أينما» ظرفٌ مضمَّن معنى الشرط في موضعِ خَبَرِ «كان». انتهى.
وقوله: أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
يعني به البعْثَ من القبور.
وقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ معناه: حيثُ كنْتَ، وأَنى توجَّهْتَ من مشارقِ الأرض، ومغاربِها، وكرَّرت هذه الآية تأكيداً من اللَّه سبحانه لأن موقع التحويلِ كان صَعْباً في نفوسهم جدًّا، فأكَّد الأمر ليرى الناسُ التهمُّم به، فيخفَّ عليهم وتسكُنَ نفوسُهم إليه.
وقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ... الآية: المعنى: عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لذلك لئلاَّ يكون للناسِ عليكم حجةٌ، والمراد ب «النَّاس» العمومُ في اليهودِ والعربِ وغيرهم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، أي: من المذكورين ممَّن تكلَّم في النازلة في قولهم: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة: ١٤٢].
وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي... الآية: [فيه] تحقيرٌ لشأنهم، وأمر باطراح أمرهم، ومراعاة أمره سبحانه، قال الفَخْر «٣» : وهذه الآية تدلُّ على أن الواجب علَى المَرْء في كلِّ أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه خشيةَ ربه تعالى، وأن يعلم أنه ليس في أيدي الخَلْقِ شيء البتَّةَ وألاَّ يكون مشتغل القَلْب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم. انتهى.
(١) وحجته في هذه القراءة أنه: قدر له أن يتولاها، ولم يسند إلى فاعل بعينه، فيجوز أن يكون «هو» كناية عن الاسم الذي أضيفت إليه «كل». وهو الفاعل، ويجوز أن يكون فاعل التولية «الله»، و «هو» كناية عنه. والتقدير: ولكل ذي ملة قبلة الله موليها وجهه. ثم ردّ ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله.
ينظر: «حجة القراءات» (١١٧)، و «الحجة للقراء السبعة» (٢/ ٢٣٠)، و «العنوان» (٧٢)، و «شرح طيبة النشر» (٤/ ٧٤، ٧٥)، و «شرح شعلة» (٢٧٨)، و «معاني القراءات» (١/ ١٨١)، و «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٤٢٢).
(٢) النهزة: الفرصة، وانتهزتها: اغتنمتها. ينظر: «النهاية» (٥/ ١٣٥).
(٣) «التفسير الكبير» (٤/ ١٢٧).
332
قال ص: إِلَّا الَّذِينَ استثناءٌ متَّصِلٌ، قاله ابن عباس وغيره، أي: لئلاَّ تكون حجةٌ من اليهود المعاندين القائلين ما ترك قبلتنا، وتوجَّه للكعبة إِلاَّ حبًّا لبلده، وقيل:
منقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم فإِنهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبَه، وزعم أبو عُبَيْدة مَعْمَرُ بْنُ المثنى: إن «إِلاَّ» في الآية بمعنى «الواو»، قال ومنه: [الوافر] :
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوه لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ «١»
أي: والَّذين ظلموا، وَالفَرْقَدَان، ورُدَّ بأنَّ «إِلاَّ» بمعنى الواو ولا يقوم علَيْه دليلٌ.
انتهى.
وقوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أمر باستقبال القبْلَة، وهو شرطٌ في الفرض إِلاَّ في القتالِ حالة الالتحامِ، وفي النوافل إِلا في السفرِ الطويلِ للرَّاكب، والقدرةُ على اليقينِ في مصادفتها تَمْنَعُ من الاِجتهادِ، وعلى الاِجتهادِ تَمْنَعُ من التقليد.
وقوله سبحانه: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عطْفٌ على قوله: «لَئِلاَّ» وقيل: هو في موضع رفع بالاِبتداء، والخبرُ مضمرٌ، تقديره: ولأتمَّ نعمتي عليكم، عرَّفتكم قبلتي، ونحوهُ، وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ترجٍّ في حقِّ البشر، والكافُ في قوله: «كَمَا» ردٌّ على قوله:
«وَلأُتِمَّ»، أي: إِتماماً كما، وهذا أحسنُ الأقوال، أي: لأتم نعمتي عليكم في بيان سُنَّة إِبراهيم عليه السلام/ كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ إِجابة لدعوته في قوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: ١٢٩]. ٣٩ أ
(١) البيت لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (ص ١٧٨) و «الكتاب» (٢/ ٣٣٤) و «لسان العرب» (١٥/ ٤٣٢) (ألا) و «الممتع في التصريف» (١/ ٥١) والحضرمي بن عامر في «تذكرة النحاة» (ص ٩٠) و «حماسة البحتري» (ص ١٥١) و «الحماسة البصرية» (٢/ ٤١٨) و «شرح أبيات سيبويه» (٢/ ٤٦) و «المؤتلف والمختلف» (ص ٨٥) ولعمرو أو لحضرمي في «خزانة الأدب» (٣/ ٤٢١) و «الدرر» (٣/ ١٧٠) و «شرح شواهد المغني» (١/ ٢١٦) وبلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (٨/ ١٨٠) و «أمالي المرتضى» (٢/ ٨٨) و «الإنصاف» (١/ ٢٦٨) و «الجنى الداني» (ص ٥١٩) و «خزانة الأدب» (٩/ ٣٢١، ٣٢٢) و «رصف المباني» (ص ٩٢) و «شرح الأشموني» (١/ ٢٣٤) و «شرح المفصل» (٢/ ٨٩) و «العقد الفريد» (٣/ ١٠٧، ١٣٣) و «فصل المقال» (ص ٢٥٧) و «مغني اللبيب» (١/ ٧٢) و «المقتضب» (٤/ ٤٠٩) و «همع الهوامع» (١/ ٢٢٩).
واستشهد به على نعت «كلّ» بقوله: «إلّا الفرقدان» على تقدير «غير». وفيه ردّ على المبرد الذي زعم أنّ الوصف ب «إلّا» لم يجىء إلّا فيما يجوز فيه البدل. ف «إلّا الفرقدان» صفة، ولا يمكن فيه البدل.
(والفرقدان) نجمان قريبان من القطب، لا يفارق أحدهما الآخر.
333
وقيل: الكاف من «كمَا» رَدٌّ على «تَهْتَدُونَ»، أي: اهتداء كما.
قال الفَخْر «١» : وهنا تأويلٌ ثالثٌ، وهو أن الكاف متعلِّقة بما بعدها، أي: كما أرسلنا فيكم رسولاً، وأوليتكم هذه النعم، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي... الآيةَ. انتهى.
ت: وهذا التأويل نقله الدَّاوُودِيُّ عن الفراء. انتهى، وهذه الآية خطاب لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم وآياتِنا يعني: القرآن، ويُزَكِّيكُمْ، أي: يطهركم من الكفر، وينمّيكم بالطاعة، والْكِتابَ: القرآن، والْحِكْمَةَ: ما يتلقّى عنه صلّى الله عليه وسلم من سنَّةٍ، وفقْهٍ، ودينٍ، وما لم تكونوا تعلمون قصص من سلف، وقصص ما يأتي من الغيوب.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٣]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)
قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ... الآية: قال سعيد بن جُبَيْر: معنى الآية:
اذكروني بالطاعةِ، أذكركم بالثواب «٢».
ت: وفي تفسير أحمد بن نصر الداوديّ: وعن ابن جُبَيْر: اذكروني بطاعتِي، أذكرْكُمْ بمغفرتي «٣»، وروي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ، فَقَدْ ذَكَر اللَّهَ، وإِنْ قلَّت صلاته، وصيامه، وتلاوته القُرآن، ومن عَصَى اللَّه، فقد نَسِيَ اللَّه، وإِن كَثُرَتْ صلاته، وصيامه، وتلاوته القرآن» «٤». انتهى.
(١) ينظر: «التفسير الكبير» (٤/ ١٢٩)، و «الدر المصون» (١/ ٤٠٩- ٤١١).
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ٢٢٦).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٤٠) برقم (٢٣١٨)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٢٦)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٧٣)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأخرجه ابن المبارك في كتاب «الزهد» باب ذكر الله تبارك وتعالى، (٩٢٨)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ١٢٨).
(٤) أخرجه الطبراني في «الكبير» (٢٢/ ١٥٤) رقم (٤١٣) من طريق الهيثم بن جماز عن الحارث بن حسان، عن زاذان عن واقد مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم به مرفوعا. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢/ ٢٦١)، وقال: وفيه الهيثم بن جماز، وهو متروك.
وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١/ ٤٤٦) رقم (١٩٢٤)، وعزاه إلى الحسن بن سفيان، والطبراني، وابن عساكر عن واقد.
وللحديث شاهد مرسل: أخرجه ابن المبارك (ص ١٧) رقم (٧٠)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١/ ٤٥٢) رقم (٦٨٧)، وسعيد بن منصور رقم (٢٣٠) عن خالد بن أبي عمران مرسلا.
وزاد نسبته السيوطي في «الدر» (١/ ١٤٩) إلى ابن المنذر.
334
وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن أنس بن مالك، قال: مَا مِنْ بُقْعَةٍ يُذْكَرُ اللَّهُ عَلَيْهَا بصَلاةٍ أو بذكْرٍ إِلاَّ افتخرت على ما حَوْلَهَا من البِقَاعِ، واستبشَرَتْ بذكْر اللَّه إِلى منتهاها منْ سبعِ أرَضِينَ، وما مِنْ عَبْدٍ يقومُ يصلِّي إِلا تزخرفَتْ له الأرض «١». قال ابنُ المُبَارك: وأخبرنا المسعوديُّ عن عَوْنِ بنِ عبدِ اللَّهِ «٢»، قال: الذاكِرُ في الغافِلِينَ كالمقاتل خَلْف الفارِّين «٣». انتهى.
وقال الربيعُ والسِّدّي: المعنى: اذكروني بالدعاءِ والتسبيحِ «٤» ونحوه، وفي صحيح البخاريِّ ومسلمٍ وغيرهما عن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه-، قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم:
يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإِ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلإِ خَيْرٍ منهم... » «٥» الحديث. انتهى.
(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص (١١٥) رقم (٣٣٩) عن أنس بن مالك موقوفا.
وأخرجه أبو يعلى (٧/ ١٤٣) رقم (٤١١٠) من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٨١- ٨٢) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. اهـ.
وزاد نسبته المناوي في «فيض القدير» (٥/ ٤٧٥) إلى البيهقي في «شعب الإيمان».
(٢) عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله، الكوفي، الزاهد. عن أبيه، وعائشة، وابن عباس. وعنه قتادة، وأبو الزبير، والزهري. وثقه أحمد وابن معين، ورماه ابن سعد بالإرجاء. قال البخاري: مات بعد العشرين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٣٠٩)، و «تهذيب التهذيب» (٨/ ١٧١)، و «الكاشف» (٢/ ٣٥٨)، و «تاريخ الثقات» (٣٧٧). [.....]
(٣) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ١٢٢) رقم (٣٥٧).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢/ ٤٠) برقم (٢٣١٩)، (٢٣٢٠)، وذكره ابن عطية في تفسيره (١/ ٢٢٦).
(٥) أخرجه البخاري (١٣/ ٣٩٥) كتاب «التوحيد»، باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، حديث (٧٤٠٥)، ومسلم (٤/ ٢٠٦١) كتاب «الذكر والدعاء»، باب الحث على ذكر الله (تعالى)، حديث (٢١/ ٢٦٧٥)، والترمذي (٥/ ٥٨١) كتاب «الدعوات»، باب في حسن الظن بالله (عز وجل)، حديث (٣٦٠٣)، وابن ماجة (٢/ ١٢٥٥- ١٢٥٦) كتاب «الأدب»، باب فضل العمل، حديث (٣٨٢٢)، وأحمد (٢/ ٢٥١، ٤١٣)، وابن خزيمة في «التوحيد» (ص ٧)، وابن حبان (٣/ ٩٣) رقم (٨١١)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٨١- بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرجه مسلم (٤/ ٢٠٦١) كتاب «الذكر والدعاء»، باب الحث على ذكر الله (تعالى)، حديث-
335
وَاشْكُرُوا لِي، أي: نعمي وأيادِيَّ، وَلا تَكْفُرُونِ: أي: نعمي وأياديَّ.
ت: وعن جابر قَالَ: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ على عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ إِلاَّ وَقَدْ أدى شُكْرَهَا، فَإِنْ قالها الثانيةَ، جدَّد اللَّهُ لها ثوابَهَا، فَإن قالها الثالثةَ، غفر اللَّه له ذُنوبَه» رواه الحاكمُ في «المستَدْرَكِ»، وقال: صحيح»
. انتهى من «السِّلاح».
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، أي: بمعونته وإنجاده.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٤ الى ١٥٧]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ... الآية: سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأُحُدٍ من المؤمنين: مَاتَ فلانٌ، ماتَ فلانٌ، فكره اللَّه سبحانه أن تُحَطَّ منزلةُ الشهداءِ إِلى منزلة غيرهم، فنزلَتْ هذه الآية، وأيضاً: فإِن المؤمنين صَعْبٌ عليهم فراقُ إِخوانهم وقراباتِهِمْ، فنزلَتِ الآيةُ مسلِّية لهم، تعظِّم منزلة الشهداءِ، وتخبر عن حقيقةِ حالِهِمْ، فصاروا مغبوطين لا محزوناً لهم ويظهر ذلك من حديث أُمِّ حارثَةَ في السِّيَرِ.
ت: وخرَّجه البخاريُّ في «صحيحه» عن أنسٍ، قال: «أُصِيبَ حارثةُ يوم بَدْر أصابه غَرْبُ «٢» سَهْمٍ، وهو غلامٌ، فجاءَتْ أُمُّهُ إِلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله/، قد
- (٢٦٧٥)، والبخاري في «خلق أفعال العباد» (ص ٨٥)، وأحمد (٢/ ٥١٦، ٥٢٤) من طريق زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.
(١) أخرجه الحاكم (١/ ٥٠٧- ٥٠٨)، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (٤/ ٩٨) رقم (٤٤٠٢) من طريق عبد الرحمن بن قيس: نا محمد بن أبي حميد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فقال: ليس بصحيح قال أبو زرعة: عبد الرحمن بن قيس كذاب.
والحديث ذكره الذهبي في «الميزان» (٢/ ٥٨٣)، وقال: منكر. اهـ.
وعبد الرحمن بن قيس: قال الحافظ في «التقريب» (١/ ٤٩٦) : متروك كذبه أبو زرعة وغيره.
(٢) أي لا يعرف راميه يقال: سهم غرب، بفتح الراء وسكونها، وبالإضافة، وغير الإضافة. وقيل: هو بالسكون إذا أتاه من حيث لا يدري، وبالفتح إذا رماه فأصاب غيره.
ينظر: «النهاية» (٣/ ٣٥٠- ٣٥١).
336
عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ، وَأَحْتَسِب، وَإِن تَكُن الأخرى، ترى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: وَيْحَكِ، أَوَ هُبِلْتِ، أَو جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هَيَ إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى... » الحديثَ «١». انتهى.
ع «٢» : والفرق بين الشهيدِ وغيرهِ إِنما هو الرِّزْقُ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى فضَّلهم بدوام حالِهِمُ التي كانَتْ في الدنيا فرزَقهُم.
ت: وللشهيدِ أحوالٌ شريفةٌ منها ما خرَّجه الترمذيُّ وابن ماجة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، ويرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، ومَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ الْعِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقْرِبَائِهِ». قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ، زاد ابن ماجَة: «ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ» «٣»، قال القرطبيُّ في «تذكرته» «٤» : هكذا وقع في نسخ الترمذيِّ وابن ماجة: «ستَّ خِصَالٍ» وهي في متن الحديث سَبْعٌ، وعلى ما في ابن ماجة: «ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ» تكون ثمانياً، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سَلْمَان النَّجَّاد «٥» بسنده عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ ثَمَانِ خِصَالٍ» انتهى. وخرّج الترمذيّ، والنسائيّ عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشَّهِيدُ لاَ يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ القَرْصَةِ» «٦» انتهى.
(١) أخرجه البخاري (٧/ ٣٥٥) كتاب «المغازي»، باب فضل من شهد بدرا، حديث (٣٩٨٢)، (١١/ ٤٢٣) كتاب «الرقاق» باب صفة الجنة والنار، حديث (٦٥٥٠) من حديث أنس.
(٢) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٢٧).
(٣) أخرجه الترمذي (٤/ ١٨٧- ١٨٨) كتاب «فضائل الجهاد»، باب في ثواب الشهيد، حديث (١٦٦٣)، وابن ماجة (٢/ ٩٣٥- ٩٣٦) كتاب «الجهاد»، باب فضل الشهادة في سبيل الله، حديث (٢٧٩٩) كلاهما من طريق بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب مرفوعا.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
(٤) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (١/ ٢١٨).
(٥) الإمام المحدّث الحافظ الفقيه المفتي، شيخ العراق، أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن بن إسرائيل، البغدادي الحنبليّ النّجّاد.
ولد سنة ثلاث وخمسين ومئتين، سمع أبا داود السّجستاني، ارتحل إليه، وهو خاتمة أصحابه، وصنف ديوانا كبيرا في السنن، مات النّجّاد- رحمه الله تعالى- في ذي الحجّة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة.
ينظر: «سير أعلام النبلاء» (١٥/ ٥٠٢- ٥٠٤).
(٦) أخرجه الترمذي (٤/ ١٩٠) كتاب «فضائل الجهاد»، باب ما جاء في فضل المرابط، حديث (١٦٦٨)، والنسائي (٦/ ٣٦) كتاب «الجهاد»، باب ما يجد الشهيد من الألم، حديث (٣١٦١)، وابن ماجه (٢/-
337
ع «١» : روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ» «٢»، وروي: «أَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ»، ورويَ: «أنهم في قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ»، إِلى كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوالٌ لِطَوَائِفَ، أو للجميع في أوقات متغايرة.
ت: وكذا ذكر شَبِيبُ بن إِبراهيم في كتاب «الإِفصاح» أنَّ المنعَّمين على جهاتٍ مختلفةٍ بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم، قال صاحب «التذكرة» : وهذا قول حَسَنٌ، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع. انتهى.
قال ع «٣» : وجمهور العلماء على أنهم في الجَنَّة ويؤيّده قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم لأمِّ حَارِثَةَ: «إِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى».
وقال مجاهد: هم خارجُ الجَنَّةِ ويعلَّقون من شجرِهَا «٤»، وفي «مختصر الطبريِّ»، قال: ونهى عزَّ وجَلَّ أنْ يقال لِمَنْ يقتلُ في سبيلِ اللَّهِ أموات، وأعلم سبحانه أنه أحياء،
- ٩٣٧) كتاب «الجهاد»، باب فضل الشهادة في سبيل الله، حديث (٢٨٠٢)، والدارمي (٢/ ٢٠٥) كتاب «الجهاد»، باب فضل الشهيد، وأحمد (٢/ ٢٩٧)، والبيهقي (٩/ ١٦٤) كتاب «السير»، باب فضل الشهادة في سبيل الله (عز وجل)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٥١٦- بتحقيقنا) كلهم من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وللحديث شاهد من حديث أبي قتادة: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥/ ٢٩٧) وقال: رواه الطبراني، وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف.
وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٧/ ١٤٢) من طريق إسحاق العنبري: ثنا يعلى بن عبيد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث الثوري، تفرد به إسحاق عن يعلى. اهـ.
وإسحاق العنبري: قال الذهبي في «المغني» (١/ ٧٢) رقم (٥٧٤) : قال الأزدي: لا تحل الرواية عنه كذاب. اهـ. وللحديث شاهد من حديث سنان بن سنة الأسلمي: أخرجه ابن ماجة (١/ ٥٦١) كتاب «الصيام»، باب فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر، حديث (١٧٦٥)، والدارمي (٢/ ٩٥).
وقال البوصيري: إسناده صحيح.
(١) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٢٧). [.....]
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ١٧٦) كتاب «فضائل الجهاد»، باب ما جاء في ثواب الشهداء، حديث (١٦٤١).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٢٢٧).
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٤٢) برقم (٢٣٢٣) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٢٨٥)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
338
ولكنْ لا شعورَ لَنَا بذلك إذ لا نُشَاهِدُ باطنَ أمرهم، وخُصُّوا مِنْ بين سائر المُؤمنين، بأنهم في البَرْزَخِ يرزَقُون من مطاعِم الجَنَّة ما يُرْزَقُ المؤمنون من أهْل الجنة على أنه قد ورد في الحديثِ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ»، ومعنى: «يُعَلَّق» : يأكل ومنه قوله: ما ذقْتُ عَلاقاً، أي: مأكلاً، فقد عم المؤمنين بأنهم يرزقُونَ في البرزخ من رزق الجنة، ولكن لا يمتنعُ أن يخصَّ الشهداء من ذلك بقَدْر لا يناله غيرهم، واللَّه أعلم.
انتهى.
وروى النسائيُّ أن رجلاً قال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ المُؤْمِنِينَ يُفْتَنُون فِي قُبُورِهِمُ إِلاَّ الشَّهِيدَ؟ قَالَ: كفى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ على رَأْسِهِ فِتْنَةً» «١». انتهى.
ت: وحديثُ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ» خرَّجه مالك رحمه اللَّه. قال الدَّاووديُّ: وحديث مالكٍ، هذا أصحُّ ما جاء في الأرواح، والذي روي أنها تجعل في حواصِلِ طيرٍ لا يصحُّ في النقل. انتهى.
قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» «٢» : والأشبه قولُ من قال: كَطَيْرٍ أو كصُوَرِ طيرٍ لموافقته لحديثِ «الموطَّإ»، هذا/ وأسند أبو عمر هذه الأحاديثَ، ولم يذكر مطعناً في ٤٠ أإسنادها. انتهى.
ثم أعلمهم تعالى أن الدنيا دارُ بلاءٍ ومحنةٍ، ثم وعد على الصَّبْر، فقال:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: نمتحنكم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ، أي: من الأعداء في الحروبِ، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ أي بالجوانحِ «٣»، والمصائبِ، وَالْأَنْفُسِ بالموت، والقَتْل، وَالثَّمَراتِ بالعَاهَاتِ، والمرادُ بشيءٍ من هذا وشيءٍ من هذا، واكتفى بالأول إِيجازاً، ثم وصف سبحانه الصابرين الَّذين بشَّرهم بقوله: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، فجعل سبحانه هذه الكلماتِ ملجأً لذوي المصائبِ لما جمعتْ من المعاني المباركةِ من توحِيدِ اللَّهِ سبحانه، والإِقرار له بالعبودية، والبعثِ من القبور، واليقين
(١) أخرجه النسائي (٤/ ٩٩) كتاب «الجنائز»، باب الشهيد، حديث (٢٠٥٣) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم به مرفوعا.
وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي.
(٢) ينظر: «التمهيد» (١١/ ٦٤).
(٣) الجائحة: الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة. ينظر: «لسان العرب» (٧١٩) (جوح).
339
بأنَّ رجوع الأمر كلِّه إِليه كما هو له، قال الفَخْرُ «١» : قال أبو بَكْرٍ الوَرَّاق «٢» : إِنَّا لِلَّهِ:
إقرارٌ منَّا له بالمُلْكِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إِقرارٌ على أنفسنا بالهلاكِ.
واعلم أن قوله: إِنَّا لِلَّهِ يدلُّ على كونه راضيًا بكلِّ ما نَزَلَ به، ووردَتْ أخبارٌ كثيرة في هذا الباب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فمنِ استرجع عند المصيبة، جَبَر اللَّه مصيبته، وأحْسَنَ عقباه، وجعل له خَلَفاً صالحاً يرضَاهُ. انتهى.
وروي: «أنّ مصباح رسول الله صلّى الله عليه وسلم انطفأ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، فَقِيلَ: أَمُصِيبَةٌ هِيَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ كُلُّ مَا آذَى المُؤْمِنَ، فَهُوَ مُصِيبَةٌ» «٣». قال النوويُّ «٤» : ورُوِّينَا في «كتاب ابن السُّنِّيِّ» «٥» عن أبي هريرة، قال: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليسترجعْ أحدُكُمْ في كلِّ شيء، حتى في شِسْعِ «٦» نَعْلِه فَإِنها من المصائِبِ» «٧». انتهى من «الحلية».
(١) «التفسير الكبير» (٤/ ١٤٠).
(٢) الإمام المحدّث، أبو بكر، محمد بن إسماعيل بن العبّاس البغداديّ المستملي الورّاق. سمع أباه، والحسن بن الطّيّب، وعمر بن أبي غيلان، وأحمد بن الحسن الصّوفي، ومحمد بن محمد الباغندي، والبغوي.
وعنه: الدّارقطني، والبرقاني، وأبو محمد الخلّال، وأحمد بن عمر القاضي، وأبو محمد الجوهري وعدّة.
ولد سنة ثلاث وتسعين ومئتين، ومات في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة.
ينظر: «سير أعلام النبلاء» (١٦/ ٣٨٨، ٣٨٩).
(٣) ينظر: «تفسير القرطبي» (٢/ ١٧٥).
(٤) «الأذكار» (ص ١٥٨).
(٥) الإمام الحافظ الثقة الرّحال، أبو بكر، أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الهاشميّ الجعفريّ، مولاهم الدّينوري، المشهور ب «ابن السّنّي»، ولد في حدود سنة ثمانين ومئتين.
وهو الذي اختصر «سنن النّسائي»، واقتصر على رواية المختصر، وسمّاه «المجتبى»، وجمع وصنّف كتاب «يوم وليلة». توفي آخر سنة أربع وستين وثلاثمائة. ينظر: «سير أعلام النبلاء» (١٦/ ٢٥٥- ٢٥٦).
(٦) الشّسع: أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام: السّير الذي يعقد فيه الشّسع.
ينظر: «النهاية» (٢/ ٤٧٢).
(٧) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٣٤٦)، وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣/ ٢٣١) رقم (٣٣٥١)، وعزاه لمسدد.
340
وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ... الآية: نِعَمٌ من اللَّه تعالى على الصابرين المسترجعين، وصلوات اللَّه على عبده: عفْوُهُ، ورحمتُه، وبركته، وتشريفه إِياه في الدنيا والآخرة، وكرَّر الرحْمَة، وهي من أعظم أجزاء الصلاة، لمَّا اختلف اللَّفْظ تأكيداً منه تعالى وشهد لهم بالاهتداء.
ت: وفي «صحيح البخاري» : وقال عُمَرُ: نِعْمَ العدلان، ونَعْمُ العِلاَوة «١» الَّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ، قالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ... إلى الْمُهْتَدُونَ «٢»، قال النوويُّ في «الحلية» «٣» : ورُوِّينا في سنن ابن ماجة، والبيهقيِّ بإِسناد حَسَنٍ عن عمرو بن حزم «٤» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إلّا كساه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الكَرَامَةِ يَوْم القِيَامَةِ» «٥»، ورُوِّينا في كتاب الترمذيِّ، والسنن الكَبيِرِ للبيهقيِّ عن ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ عزى مُصَابًا، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» إسناده ضعيف «٦»، وروّينا في
(١) العلاوة: ما عولي فوق الحمل وزيد عليه. ينظر: «النهاية» (٣/ ٢٩٥)، و «الوسيط» (٦٣١). [.....]
(٢) أخرجه البخاري (٣/ ٢٠٥) كتاب «الجنائز»، باب الصبر عند الصدمة الأولى، عن عمر تعليقا.
ووصله الحاكم (٢/ ٢٧٠) من طريق جرير عن منصور عن سعيد بن المسيب عن عمر به.
وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولا أعلم خلافا بين أئمتنا أن سعيد بن المسيب أدرك أيام عمر (رضي الله عنه)، وإنما اختلفوا في سماعه منه. اهـ وله طريق آخر عن عمر بنحوه: ذكره الحافظ في «الفتح» (٣/ ٢٠٥)، وعزاه إلى عبد بن حميد.
(٣) «الأذكار» (ص ١٨٠).
(٤) عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري، الخزرجي، أبو الضحاك، المدني، شهد الخندق، وولي بعض أمور «اليمن». له أحاديث. وعنه ابنه محمد، وزياد بن نعيم. قال المدائني: مات سنة إحدى وخمسين.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٢٨٢- ٢٨٣)، و «تهذيب التهذيب» (٨/ ٢٠)، و «الكاشف» (٣٢٦)، و «تقريب التهذيب» (٢/ ٦٨).
(٥) أخرجه ابن ماجة (١/ ٥١١) كتاب «الجنائز» باب ما جاء في ثواب من عزى مصابا، حديث (١٦٠١)، والبيهقي (٤/ ٥٩) كتاب «الجنائز»، باب ما يستحب من تعزية أهل الميت من طريق قيس أبي عمارة، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مرفوعا.
وقال البوصيري: في إسناده قيس أبو عمارة، ذكره ابن حبان في «الثقات»، وقال الذهبي في «الكاشف» :
ثقة. وقال البخاري: فيه نظر، وباقي رجاله على شرط مسلم.
(٦) أخرجه الترمذي (٣/ ٣٨٥) كتاب «الجنائز»، باب ما جاء في أجر من عزى مصابا، حديث (١٠٧٣)، وابن ماجة (١/ ٥١١) كتاب «الجنائز»، باب ما جاء في ثواب من عزى مصابا، حديث (١٦٠٢) من طريق محمد بن سوقة عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله بن مسعود به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث علي بن عاصم، ورواه بعضهم عن محمد بن سوقة بهذا الإسناد موقوفا اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث «المصابيح» (١/ ٨٦) : قلت: أخرجه الترمذي، وابن ماجه-
341
كتاب الترمذيِّ أيضاً عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ عزى ثكلى، كُسِيَ بِرِدَاءٍ فِي الجَنَّةِ». قال الترمذيُّ ليس إِسناده بالقَوِيِّ «١». انتهى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ: الصَّفَا: جمع صَفَاةٍ، وهي الصَّخْرة العَظيمة، والمَرْوَة واحدةُ المَرْوِ، وهي الحجارة الصِّغَار الَّتي فيها لين، ومِنْ شَعائِرِ اللَّهِ معناه: معالمه، ومواضع عبادته، وقال مجاهدٌ: ذلك راجعٌ إِلى القول، أي:
مما أشعركم اللَّه بفضله: مأخوذٌ من شَعَرْتُ، إِذا تحسّست «٢».
وحَجَّ: معناه: قصد، وتكرّر، واعْتَمَرَ: زار وتكرّر مأخوذ من عمرت ٤٠ ب الموضعَ، والجُنَاحُ: الإِثمُ، والمَيْلُ عن الحقِّ والطاعةِ، ومن اللفظةِ الجناح/ لأنه في شِقٍّ ومنه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: ٦١]، ويَطَّوَّفَ: أصله يتطوَّف، فقوله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ... الآيةَ: خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما، وقوله: فَلا جُناحَ ليس المقصودُ منه إباحة الطوافِ لمن شاءه لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيمُ، وإِنما المقصودُ رفْعُ ما وقع في نفوسِ قومٍ من العربِ من أنَّ الطوَافَ بينهما فيه حرجٌ، وإِعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غيرُ صوابٍ، وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله
من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم. ورجاله رجال «الصحيحين» إلا علي بن عاصم فإنه ضعيف عندهم. قال الترمذي بعد تخريجه: «لا نعرفه مرفوعا إلا عن علي بن عاصم».
ورواه بعضهم عن محمد بن سوقة شيخ علي بن عاصم موقوفا على عبد الله بن مسعود. وقال الترمذي أيضا: «أنكروه على علي بن عاصم، وعدوه من غلطه».
وقال أبو أحمد بن عدي: رواه جماعة متابعة لعلي بن عاصم، سرقه بعضهم منه، وأخطأ فيه بعضهم.
وأخرجه ابن عدي من حديث أنس بلفظ: «من عزّى أخاه المسلم من مصيبته كساه الله حلّة»، وسنده ضعيف.
وأخرجه أبو الشيخ في «كتاب الثواب» من حديث جابر بمعناه، وأبو يعلى من حديث أبي برزة بلفظ آخر. وقد قلنا: إن الحديث إذا تعددت طرقه يقوى بعضها ببعض، وإذا قوي كيف يحسن أن يطلق عليه:
إنه مخلتق؟! اهـ.
(١) أخرجه الترمذي (٣/ ٣٧٨- ٣٧٩)، كتاب «الجنائز»، باب آخر في فضل التعزية، حديث (١٠٧٦)، من حديث أبي برزة.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي.
وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي.
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ٢٢٩).
342
عنها-: «أنَّ ذَلِكَ فِي الأنْصارِ».
ومذهبُ مالكٍ والشافعيِّ «١» أنَّ السعْيَ بينهما فرضٌ لا يجزىء تاركه، إِلاَّ العودة، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «٢» والدليلُ على ركنيَّته ما رُويَ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ
(١) من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة لما روى «الدارقطني» و «البيهقي» بإسناد حسن أنه صلّى الله عليه وسلم استقبل الناس في المسعى. وقال: «يا أيّها النّاس اسعوا فإنّ السّعي قد كتب عليكم»، أي فرض، وأصل السعي: الإسراع، والمراد به هنا: مطلق المشي.
ويشترط لصحة السعي شروط ستة:
الأوّل: البدء بالصفا في الأوتار، وبالمروة في الأشفاع للاتباع مع خبر «خذوا عنّي مناسككم»، وخبر «ابدءوا بما بدأ الله به»، فلو خالف الساعي ذلك لم يصح.
الثاني: كونه سبع مرات يقينا، للاتباع بحسب الذهاب من الصفا إلى المروة مرّة، والإياب من المروة إلى الصفا مرة أخرى، ولا بد أن تكون السبع متيقنة، فلو شك الساعي في العدد، فإن كان قبل الفراغ، بنى على الأقل وجوبا، وإن كان بعد الفراغ لم يؤثر.
الثالث: أن يقطع الساعي المسافة بين الصفا والمروة في كل مرّة، فلو بقي منها شيء لم يكف.
الرابع: أن يكون قطع المسافة من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن.
نعم لو انحرف قليلا في سعيه عن محلّ السعي لم يضر، كما نصّ عليه الشافعيّ- رضي الله عنه-.
الخامس: أن يكون بعد طواف الإفاضة أو طواف القدوم لأنه الوارد من فعله صلّى الله عليه وسلم، ونقل «الماوردي» الإجماع على ذلك.
ومحلّ كونه يقع صحيحا بعد طواف القدوم إذا لم يكن الساعي قد وقف بعرفة بعد طواف القدوم، فلو وقف بها بعد طواف القدوم، وقبل السعي، لم يصح سعيه، إلا بعد طواف الإفاضة لدخول طواف الفرض، فلا يجوز أن يسعى بعد طواف نفل مع إمكانه بعد طواف الفرض.
ومن فعل السعي بعد طواف القدوم لم تسنّ له إعادته بعد طواف الإفاضة، بل تكره إعادته لأنه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه لم يسعوا إلا بعد طواف القدوم.
نعم تجب إعادة السعي على صبي ورقيق إذا كملا قبل الوقوف بعرفة، أو في أثنائه، كما تقدّم.
السادس: عدم الصارف، فلو حصل السعي بقصد المسابقة مثلا لم يصح.
ويندب في السعي أمور: منها: أن يخرج من باب الصفا عقب الفراغ من صلاة الطواف واستلام الحجر وتقبيله. ومنها: أن يرقى الذكر على الصفا والمروة قدر قامة فإنه صلّى الله عليه وسلم رقى على كلّ منهما- حتى رأى البيت. رواه مسلم. أما النساء والخناثى، فلا يسنّ لهم ذلك إلا إذا خلا المحلّ عن الرجال الأجانب.
ومنها: الذكر الوارد عند كل منهما. ومنها: أن يكون متطهرا من الحدث والخبث، مستور العورة.
ومنها: عدم الركوب إلا لعذر. ومنها: أن يهرول الذكر في وسط المسافة ذهابا وإيابا، وأما في أوّل المسافة وآخرها، فيمشي على حسب عادته، كما أن المرأة والخنثى لا يهرولان مطلقا. ومنها: اتصال السعي بالطواف، واتصال أشواط بعضها ببعض من غير تفريق. ومنها: أن يتحرز من إيذاء الغير وألا يشتغل بما يشغل القلب، كالنظر إلى الساعين.
ويكره للساعي أن يقف في أثناء سعيه بلا عذر لحديث أو غيره، وأن يصلّي بعده ركعتين.
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤٨).
343
اللَّهَ كَتَبَ عَلَيكُمُ السَّعْيَ، فاسعوا»، صحَّحه الدارقطنيُّ «١» ويعضِّده المعنى، فإنه شعار، أي: معلم لا يخلو عنه الحجُّ والعمرة، فكان ركناً كالطواف. انتهى.
وَمَنْ تَطَوَّعَ: أي: زاد بِرًّا بعد الواجبِ في جميع الأعمال، وقال بعضهم: معناه:
من تطوَّع بحجٍّ أو عمرةٍ بعد حجَّةِ الفريضةِ، ومعنى شاكِرٌ، أي: يبذل الثوابَ والجزاءَ، عَلِيمٌ: بالنيات والأعمال لا يضيعُ معه لعاملٍ عمل.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنْزَلْنا... الآيةَ: المراد ب «الذين» : أحبار اليهود «٢»، ورهبانُ النصارى الذين كتموا أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم وتتناول الآية بَعْدُ كلَّ من كتم علمًا من دين اللَّه يُحْتَاجُ إلى بَثِّهِ، وذلك مفسّر في قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ، فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القيامة بلجام من النّار» «٣».
(١) أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان، البغدادي الدارقطني، الحافظ الكبير، ولد سنة ٣٠٦، تفقه بأبي سعيد الإصطخري، صنف المصنفات المفيدة، منها السنن والعلل وغيرهما، قال الحاكم: صار أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع، وإماما في النحو، والقراءة، وأشهد أنه لم يخلق على أديم الأرض مثله. مات سنة ٣٨٥.
انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ١٦١)، «تاريخ بغداد» (١٢/ ٣٤)، «وفيات الأعيان» (٢/ ٤٥٩).
(٢) ينظر: «الطبري» (٣/ ٢٤٩)، و «معاني الزجاج» (١/ ٢١٨)، و «الدر المنثور» (١/ ١٦٢)، عن مجاهد والسدي وقتادة، وابن كثير (١/ ٢٠٠) عن أبي العالية، و «غرائب النيسابوري» (٢/ ٦٧) عن ابن عباس، و «أسباب النزول» للواحدي (ص ٣١)، و «أسباب النزول» للسيوطي (ص ٢٧).
(٣) ورد من حديث أبي هريرة، وحديث عبدُ اللَّه بن عمرو بن العاص، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعمرو بن عبسة، وطلق بن علي.
فأما حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود (٢/ ٣٤٥) في العلم، باب كراهية منع العلم (٣٦٥٨)، والترمذي (٥/ ٢٩) في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم (٢٦٤٩)، وابن ماجه (١/ ٩٦) في «المقدمة»، باب من سئل عن علم فكتمه (٢٦١)، وأحمد في «المسند» (٢/ ٢٦٣، ٣٠٥، ٣٤٤، ٣٥٣، ٤٩٥)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٩/ ٥٥)، والطيالسي (٢٥٣٤)، وأبو يعلى (١١/ ٢٦٨)، برقم (٦٣٨٣)، وابن حبان (٩٥- موارد)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (٤٣٢)، من طريقين: حماد بن سلمة، وعمارة بن زاذان، وعن علي بن الحكم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: حديث حسن. وقال العقيلي في «الضعفاء» (١/ ٧٤)، إسناده صالح.
وقال الذهبي في «الكبائر» (ص ١٢٢) : إسناده صحيح، رواه عطاء بن أبي هريرة.
وقال الحافظ في «القول المسدد» ص ٤٥ بعد ما أورد الحديث من طريق أبي داود: والحديث وإن لم-
344
- يكن في نهاية الصحة. لكنه صالح للحجة.
وأخرجه أحمد (٢/ ٢٩٦، ٤٩٩، ٥٠٨)، وابن أبي شيبة (١٩/ ٥٥)، والخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (٢/ ٢٦٨)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (١٣٤، ١٣٥)، من طريق الحجاج بن أرطأة، عن عطاء به.
وأخرجه الحاكم (١/ ١٠١) من طريق القاسم بن محمد بن حماد، عن أحمد بن عبد الله، عن محمد بن ثور، عن ابن جريج قال: جاء الأعمش إلى عطاء فسأله عن حديث فحدثه، فقلنا له: تحدث هذا وهو عراقي؟ قال: لأني سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ممن سئل....» فذكره.
وقال الحاكم: هذا حديث تداوله الناس بأسانيد كثيرة، تجمع ويذاكر بها. وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي. وتعقبه العراقي كما في «شرح الإحياء» رقم ٥٦ بقوله: لا يصح من هذا الطريق لضعف القاسم بن محمد بن حماد الدلال الكوفي. قال الدارقطني:
حدثنا عنه وهو ضعيف. فلهذا لم أخرجه من هذا الوجه. قال الدارقطني في الجزء السابع من «الأفراد» :
وإنما يعرف هذا من حديث علي بن الحكم، عن عطاء، عن أبي هريرة.
وأخرجه البيهقي في «المدخل» (٥٧٤)، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (١/ ٢٣٨) برقم (١٤٠)، من طريق سماك بن حرب، عن عطاء به.
وقال البغوي: هذا حديث حسن.
وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (٤/ ٤١٠)، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (١٣٧)، من طريق الحسن بن شعيب قال نا إسماعيل بن إبراهيم نا صغدي بن سنان، عن ابن جريج عن عطاء به.
وقال ابن الجوزي (١/ ١٠٦) : صغدي، قال يحيى: ليس بشيء.
وأخرجه الطبراني في «الصغير» (١/ ١١٤)، وابن عدي في «الكامل» (٤/ ١٣٩٥)، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل» (١٣٦)، من طريق صدقة بن موسى الدقيقي عن مالك بن دينار، عن عطاء به.
قال الطبراني، وابن عدي: لم يروه عن مالك غير صدقة. ونقل ابن الجوزي قول يحيى في صدقة: ليس بشيء.
وأخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (٦)، وابن الجوزي في «العلل» (١٤٠)، وابن عدي في «الكامل» (٤/ ١٥٩٦)، من طريقين عن ليث بن أبي سليم عن عطاء به.
وقال ابن عدي: وهذا لا أعلم رفعه عن ليث غير عبد الرحمن بن أبي الجويني- الراوي عنه عنده، وعند ابن عبد البر- ورواه جرير الرازي، وغيره عن ليث موقوفا.
وأخرجه ابن ماجة (١/ ٩٨) في «المقدمة»، باب من سئل عن علم فكتمه (٢٦٦)، والعقيلي (١/ ٧٤) من طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، قال: أخبرنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة به.
وقال الحافظ العراقي في «الشرح» : وله طريق آخر صحيح من رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة أورده ابن ماجة. وقال العلامة ابن القيم في «تهذيب السنن» (٥/ ٢٥١) : وهؤلاء كلهم ثقات، وعزاه لابن خزيمة أيضا.
وقال العقيلي في ترجمة الكرابيسي: ليس لحديثه أصل مسند، إنما هو موقوف من حديث ابن عون.
أما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه ابن حبان (٩٦- موارد)، وابن عبد البر (٨)، والحاكم-[.....]
345
قال ابن العربيِّ «١» : وللآية تحقيقٌ، وهو أن العَالِمَ إِذا قصد الكتمانَ، عصى، وإِذا لم يقصده، لم يلزمْهُ التبليغُ، إذا عرف أن معه غيره، وقد كان أبو بكر وعمر لا يحدِّثان بكلِّ ما سمعا من النبيِّ صلّى الله عليه وسلم إِلاَّ عند الحاجةِ، وكان الزُّبَيْرُ أقلَّهم حديثاً، ثم قال ابنُ العَرَبِيِّ: فأما من سئل، فقد وجَبَ عليه التبليغُ لهذه الآية، وأما إِن لم يُسْأل، فلا يلزمُ التبليغ إِلا في القرآن وحْده، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم في فضيلةِ التبْلِيغِ بأنَّه قال: «نَضَّرَ اللَّهُ امرأ سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» «٢» انتهى من «أحكام القرآن».
- في المستدرك» (١/ ١٠٢)، والخطيب في «التاريخ» (٥/ ٣٨- ٣٩)، وابن المبارك في «الزهد» (١١٩)، والبيهقي في «المدخل» (٥٧٥)، وابن الجوزي في «العلل» (١٢٣)، من طرق عن ابن وهب قال: حدثني عبد الله بن عياش بن عباس، عن أبيه، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو رفعه به.
وصححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، وقال ابن الجوزي: فيه عبد الله بن وهب الفسوي قال ابن حبان: دجال يضع الحديث.
وقال المنذري في «المختصر» (٥/ ٢٥١) : وهذا إسناد صحيح. وقد ظن أبو الفرج بن الجوزي أن هذا هو ابن وهب النسوي الذي قال فيه ابن حبان: يضع الحديث، فضعف الحديث به، وهذا من غلطاته، بل هو ابن وهب الإمام العلم، والدليل عليه: أن الحديث من رواية أصبغ بن الفرج، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، وغيرهما من أصحاب ابن وهب عنه. والنسوي متأخر. من طبقة يحيى بن صاعد. والعجب من أبي الفرج كيف خفي عليه هذا؟ وقد ساقها من طريق أصبغ، وابن عبد الحكم، عن ابن وهب.
وقال الهيثمي في «المجمع» (١/ ١٦٦). رواه الطبراني في «الكبير»، و «الأوسط»، ورجاله موثقون.
وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الخطيب في «التاريخ» (٦/ ٧٧)، وابن عبد البر (٩)، وابن عدي في «الكامل» (٣/ ١٠٦٢، ١٢٩٣، ٦/ ٢١٧٤)، وابن الجوزي في «العلل» (١١٥- ١١٨)، وابن حبان في «المجروحين» (٣/ ٩٧) من طرق عنه.
وعزاه الهيثمي في «المجمع» (١/ ١٦٣) للطبراني في «الكبير»، و «الأوسط»، وقال في إسناد «الكبير» :
سوار بن مصعب وهو متروك، وفي إسناد «الأوسط» : النضر بن سعيد ضعفه العقيلي.
(١) ينظر: «الأحكام» (١/ ٤٩).
(٢) ورد من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وجبير بن مطعم، فأما حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي (٥/ ٣٣) في «العلم»، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (٢٦٥٧، ٢٦٥٨)، وابن ماجة (١/ ٨٥) في «المقدمة»، باب من بلغ علما (٢٣٢)، والحميدي في «مسنده» (٨٨)، وأحمد (١/ ٤٣٧)، والشافعي في «مسنده» (١/ ١٦)، وأبو يعلى (٢٦/ ٥، ٥٢٩٦)، وابن حبان (٧٤، ٧٥، ٧٦) موارد، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» برقم (٦، ٧، ٨)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١٨٨، ١٨٩، ١٩٠، ١٩١)، وأبو نعيم في «الحلية» (٧/ ٣٣١)، والخطيب في «الكفاية» (ص ١٧٣)، وفي «شرف أصحاب الحديث». ص (١٨، ١٩)، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (١/ ١٥- ١٦، ٤٣)، وفي «الدلائل» (٦/ ٥٤٠)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٤١٩، ١٤٢٠)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (٢/ ٩، ١٠)، وأبو الشيخ في «الأمثال» (٢٠٤)، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (٢/ ٩٠)، والحاكم في «معرفة علوم الحديث» ص ٣٢٢ من طرق عنه. -
346
والْبَيِّناتِ وَالْهُدى: أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم ثم يعمُّ بعدُ كلَّ ما يكتم من خير، وفِي الْكِتابِ يراد به التوراةُ والإنجيلُ، ويدخل القرآن في عموم الآية.
واختلف في «اللاَّعِنينَ».
فقال قتادة، والربيع: الملائِكةُ والمؤمنون «١»، وهذا ظاهرٌ واضحٌ، وقيل: الحشرات والبهائمُ «٢»، وقيل: جميع المخلوقات ما عدا الثقلين الجنّ
- وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما حديث زيد بن ثابت أخرجه أبو داود (٢/ ٣٤٦)، في «العلم»، باب فضل نشر العلم (٣٦٦٠)، والترمذي (٢٦٥٦)، وابن ماجة (٢٣٠)، وأحمد (٥/ ١٨٣)، وابن حبان (٧٢- ٧٣) موارد، والدارمي (١/ ٧٥)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢/ ٢٣٢)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١٨٤، ١٨٥، ١٨٦، ١٨٧)، وابن أبي عاصم في «السنة» (٩٤)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (٢/ ١١)، والرامهرمزي (٣، ٤)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص ١٧، ١٨)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (٢/ ٧١).
وقال الترمذي: حديث حسن.
وأما حديث جبير بن مطعم:
فأخرجه ابن ماجة (٢٣١)، وأحمد (٤/ ٨٠، ٨٢)، والدارمي (١/ ٧٤- ٧٥)، والطبراني في «الكبير» (١٥٤١)، وأبو يعلى في «مسنده» (٧٤١٣)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٤٢١)، والطحاوي في «المشكل» (٢/ ٢٣٢)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (٢/ ١٠)، وابن حبان في «المجروحين» (١/ ٤- ٥)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١٩٥)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ٨٧)، من طرق عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه.
وأخرجه ابن ماجة (٢٣١)، والطبراني في «الكبير» (١٥٤٢)، والطحاوي في «المشكل» (٢/ ٢٣٢)، من طريق ابن إسحاق، وعن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الزهري، عن محمد بن جبير به.
وقال البوصيري في «الزوائد» (١/ ٩٩) : هذا إسناد ضعيف لضعف عبد السلام... وأخرجه الطبراني (١٥٤٣)، وابن أبي حاتم (١/ ١٠) من طريق ابن إسحاق، عن عمرو بن أبي عمرو، عن محمد بن جبير، عن أبيه به.
وأخرجه أبو يعلى في «مسنده» (٧٤١٤)، والحاكم (١/ ٨٧- ٨٨)، من طريق ابن إسحاق، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الرحمن بن الحويرث، عن محمد بن جبير به.
وتابعه عليه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو به، أخرجه الدارمي في «سننه» (١/ ٧٤).
وأخرجه الطبرانيّ (١٥٤٤)، والحاكم (١/ ٨٧) من طريق نعيم بن حماد قال: ثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن محمد بن جبير. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٥٩) برقم (٢٣٩٣- ٢٣٩٤- ٢٣٩٥)، عن قتادة، والربيع، وذكره ابن عطية (١/ ٢٣١)، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (١/ ٦٥) عن قتادة بلفظ: «الملائكة».
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٥٨) برقم (٢٣٨٥ إلى ٢٣٩٢) عن مجاهد، وعكرمة، أما الأخبار التي عن مجاهد رويت بأسانيد مختلفة.
وذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ٢٣١)، والبغوي في «التفسير» (١/ ١٣٤) عن مجاهد.
347
والإِنْسَ «١»، وهذان القولانِ لا يقتضيهما اللفظُ، ولا يثبتان إلا بسندٍ يقطعُ العُذْر، ثم استثنى اللَّه سبحانه التائبين.
وَأَصْلَحُوا، أي: في أعمالهم وأقوالهم.
وَبَيَّنُوا، أي: أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ... الآية: هذه الآية محكمةٌ في الذين وَافَوْا على كفرهم، واختلف في معنى قوله: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ: والكُفَّار لا يلعنُون أنفسهم.
فقال قتادة، والربيع: المراد ب النَّاسِ: المؤمنون خاصَّة «٢»، وقال أبو العالية:
معنى ذلك في الآخرة «٣».
وقوله: خالِدِينَ فِيها، أي: في اللعنة، وقيل: في النار، وعاد الضمير علَيْها، وإِن لم يَجْرِ لها ذكر لثبوتها في المعنى.
وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، أي: لا يُؤَخَّرون عن العذاب، ويحتمل أن يكون من النّظر ٤١ أنحو قوله تعالى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ/ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: ٧٧] والأول أظهر لأن النظر بالعين إنما يعدَّى ب «إلى» إلا شاذًّا في الشعر.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٤]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لاَّ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٦٠) برقم (٢٣٩٦)، وإسناد هذا الخبر: «حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال:
حدثنا أسباط عن السدي قال:
قال البراء بن عازب » ثم ذكر الخبر بنحوه.
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٦٢) برقم (٢٤٠٠- ٢٤٠١) بإسنادين مختلفين أحدهما: عن قتادة، والآخر عن الربيع. وذكره ابن عطية (١/ ٢٣٢)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٩٨) عن قتادة.
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٦٢) برقم (٢٤٠٢) بلفظ: «إن الكافر يوقف يوم القيامة، فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون». وذكره ابن عطية (١/ ٢٣٢)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ١٣٤)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٩٨)، وعزاه لابن جرير.
348
وقوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ... الآية: إِعلام بالوحدانيّة.
قال عطاءٌ: لما نزلَتْ هذه الآية بالمدينَةِ، قال كفَّار قريشٍ بمكَّة: ما الدليلُ على هذا، وما آيته، وعلامته «١» ؟ ونحوه عن ابن المُسَيَّب «٢»، فنزل عنْد ذلك قولُه تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... الآية، أي: في اختراعها وإنشائها.
وَالنَّهارِ: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقضي بذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَسَوَادُ الَّليْلِ» «٣»، وهذا هو مقتضى الفقْهِ في
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٣٢).
(٢) المصدر السابق.
(٣) ورد ذلك من حديث عدي بن حاتم، وسهل بن سعد: فأما حديث عدي بن حاتم: فأخرجه البخاري (٤/ ١٥٧) في الصوم: باب قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ... ، وفي (٨/ ٣١) في التفسير، باب: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ... (٤٥٠٩)، ومسلم (٢/ ٧٦٦) في الصيام: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (٣٣- ١٠٩٠)، وأبو داود (١/ ٧١٧) في الصيام، باب في وقت السحور (٢٣٤٩)، والترمذي (٥/ ١٩٥) في التفسير: باب ومن سورة البقرة (٢٩٧٠، ٢٩٧١)، وأحمد (٤/ ٣٧٧)، وابن أبي شبية في «مصنفه» (٣/ ٢٨٩) برقم (٩٠٧٩)، وابن جرير في «تفسيره» (٢٩٨٩)، والدارمي (٢/ ٥، ٦)، في الصوم، باب متى يمسك المتسحر من الطعام والشراب، والطبراني في «الكبير» (١٧/ ٧٩، ٨٠) برقم (١٧٦)، والبيهقي (٤/ ٢١٥) من طريق الشعبي، عن عدي بن حاتم به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٣٦٠)، فزاد في نسبته إلى سفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وابن المنذر.
وأخرجه البخاري في التفسير (٤٥١٠)، والنسائي (٤/ ١٤٨) في الصيام: باب قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، وابن جرير (٢٩٨٩)، والطبراني (١٧٧، ١٧٨) من طريق مطرف عن الشعبي، عن عدي قال: قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا، إن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا، بل هو سواد الليل، وبياض النهار. وصحّحه ابن خزيمة (٣/ ٢٠٩) برقم (١٩٢٦)، وذكره السيوطي في «الدر»، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
وأخرجه أحمد (٤/ ٣٧٧)، والطبراني في «الكبير» (١٧٢، ١٧٣، ١٧٤، ١٧٥)، وابن جرير (٢٩٨٨) من طريق مجالد: حدثني عامر حدثني عدي بن حاتم. قال: علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلاة والصيام.
فقال: صل كذا، وصل كذا، وصم كذا. فإذا غابت الشمس فكل واشرب، حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وصم ثلاثين يوما، إلا أن ترى الهلال قبل ذلك. فأخذت خيطين من شعر أسود وأبيض، فكنت أبصر فيهما فلا يتبين لي، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فضحك، فقال:
يا ابن حاتم، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل.
وأما حديث سهل بن سعد: فأخرجه البخاري البخاري (٤/ ١٥٧) في الصوم، باب قول الله تعالى: وَكُلُوا-
349
الأيْمَانِ ونحوها، وأما على ظاهر اللغة، وأخذه من السعة، فهو من الإِسْفَار، وقال الزَّجَّاج في «كتاب الأنوار» : أَوَّلُ النهارِ ذُرُورُ الشمسِ، قال: وزعم النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ «١» أن أول النهار ابتداءُ طلوعِ الشمسِ، ولا يعدُّ ما قبل ذلك من النَّهار.
قال ع «٢» : وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم هو الحَكَم.
وَالْفُلْكِ: السُّفُن، ومفرده وجمعه بلفظ واحد.
وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ يعني به الأمطارَ، وَبَثَّ: معناه: فرق، وبسط، ودَابَّةٍ: تجمع الحيوان كلّه.
وتَصْرِيفِ الرِّياحِ: إِرسالها عقيماً، وملقَّحة وَصِرًّا ونَصْراً وهلاكاً وجنوباً وشَمالاً وغير ذلك، والرِّيَاحُ: جمع ريحٍ، وجاءت في القرآن مجموعةً مع الرحمة، مفردةً مع العذاب، إِلا في «يُونُسُ» في قوله سبحانَه: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: ٢٢] وهذا، أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديثِ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ، يَقُولُ:
اللَّهُمَّ، اجعلها رِيَاحاً، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً»
«٣»، وذلك لأن ريح العذابِ شديدة ملتئمة
- وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ... (١٩١٧)، و (٨/ ٣١) في التفسير، باب: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ... (٤٥١١). ومسلم (٢/ ٧٦٧) في الصيام: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (٣٥/ ١٠٩١)، والنسائي في «الكبرى»، ذكره المزي في «تحفة الأشراف» (٤/ ١٢١)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢/ ٥٣). وأبو يعلى في «مسنده» (٧٥٤٠)، وابن جرير (٢٩٩٠)، والبيهقي (٤/ ٢١٥) في الصيام، باب الوقت الذي يحرم فيه الطعام على الصّائم من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: لما نزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ قال: فكان الرجل إذا أراد الصوم، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رئيهما، فأنزل الله بعد ذلك: مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنما يعني بذلك: اللّيل والنهار.
(١) النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد المازني، التميمي، أبو الحسن: أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة، ولد ب «مرو» (من بلاد «خراسان» ) سنة ١٢٢ هـ. من مصنفاته: «الصفات» كبير، من صفات الإنسان، والبيوت، والجبال، والإبل، والغنم، والطير، والكواكب، والزروع، و «كتاب السلاح»، و «المعاني» و «غريب الحديث» و «الأنواء». وتوفي ب «مرو» سنة ٢٠٣ هـ.
ينظر: «الأعلام» (٨/ ٣٣)، و «وفيات الأعيان» (٢/ ١٦١)، و «غاية النهاية» (٢/ ٣٤١). [.....]
(٢) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٣٣).
(٣) أخرجه أبو يعلى (٤/ ٣٤١) رقم (٢٤٥٦) من طريق حسين بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ١٣٨)، وقال: رواه الطبراني، وفيه حسين بن قيس. الملقب بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ.
والحديث ذكره الحافظ في «المطالب العالية» رقم (٣٣٧١)، وعزاه إلى مسدد وأبي يعلى.
350
الأجزاء، كأنها جسمٌ واحدٌ، وريح الرحمة لينة تجيء من هاهنا وهاهنا متقطِّعة، فلذلك يقال هي رياحٌ، وهو معنى نشر، وأفردت مع الفلك لأن ريح إِجراء السُّفُن، إنما هي واحدةٌ متصلة، ثم وصفت بالطِّيبِ، فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، وهي لفظة من ذوات الواوِ، يقال: رِيحٌ، وأَرْوَاحٌ، ولا يقال: «أَرْيَاحٌ»، وإِنما يقال: رِيَاحٌ من جِهة الكَسْرة، وطلب تناسب الياء معها، وقد لُحِّن في هذه اللفظة عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلاَلِ بْنِ جَرِيرٍ «١»، فاستعمل «الأَرْيَاحَ» في شعره، ولُحِّنَ في ذلك، وقال له أبو حَاتِمٍ «٢» : إِنَّ الأرياحَ لا يجوزُ، فقال: أما تَسْمَعُ قولهم: رِيَاح، فقال أبو حَاتِمٍ: هذا خلافُ ذلك، فقال: صدَقْتَ، ورَجَع.
وَالسَّحابِ: جمع سحابَةٍ، سمي بذلك لأنه ينسحبُ، وتسخيره بعثه من مكانٍ إلى آخر، فهذه آيات.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً... الآية: النّدّ: النظير،
(١) عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلاَلِ بْنِ جَرِيرٍ بن عطية الكلبي، اليربوعي، التميمي: شاعر مقدم، فصيح. من أهل «اليمامة». كان يسكن بادية «البصرة»، ويزور الخلفاء من بني العباس، فيجزلون صلته. وبقي إلى أيام الواثق، وعمي قبل موته. وهو من أحفاد جرير الشاعر. وكان النحويون في البصرة يأخذون اللغة عنه. له أخبار. وهو القائل: [الطويل]
«بدأتم فأحسنتم، فأثنيت جاهدا وإن عدتم أثنيت، والعود أحمد»
والقائل: [الطويل]
«وما النفس إلا نطفة بقرارة إذا لم تكدّر كان صفوا غديرها»
وجمع من نظمه «ديوان شعر» حققه ونشره شاكر العاشور. ينظر: «الأعلام» (٥/ ٣٧)، و «تاريخ بغداد» (١٢/ ٢٨٢).
(٢) سهل بن محمد بن عثمان الجشمي السجستاني: من كبار العلماء باللغة والشعر؟ من أهل «البصرة» كان المبرد يلازم القراءة عليه. له نيف وثلاثون كتابا، منها كتاب «المعمرين»، و «النخلة»، و «ما تلحن فيه العامة»، و «الشجر والنبات»، و «الطير» و «الأضداد»، و «الوحوش»، و «الحشرات»، و «الشوق إلى الوطن»، و «العشب والبقل»، و «الفرق بين الآدميين وكل ذي روح»، و «المختصر» في النحو على مذهب الأخفش وسيبويه. وله شعر جيد.
ينظر: «الأعلام» (٣/ ١٤٣)، و «الفهرست» لابن النديم (١/ ٥٨)، و «الوفيات» (١/ ٢١٨).
351
والمقاوم، قال مجاهد، وقتادة: المراد بالأنداد: الأوثانُ «١» كَحُبِّ اللَّهِ، أي: كحبِّكم للَّه، أو كحبِّهم حسبما قَدَّر كلَّ وجه منْها فرقةٌ، ومعنى: كَحُبِّهِمْ، أي: يسوُّون بين محبَّة اللَّه، ومحبَّة الأوثان، ثم أخبر أن المؤمنين أشدُّ حبًّا للَّه، لإِخلاصهم، وتيقُّنهم الحق.
وقوله تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أي: ولو ترى، يا محمَّد، الذين ظلموا في حال رؤيتهمُ العذابَ، وفزعهم منْه، واستعظامِهِمْ له، لأقرُّوا أن القوة للَّه، أو لعلمتَ أنَّ القوَّة للَّه جميعاً، فجواب «لَوْ» : مضمَرٌ على التقديرين «٢»، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم/ علم
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٧١) برقم (٢٤١٤- ٢٤١٥) بإسنادين مختلفين أحدهما: عن قتادة، ومجاهد بلفظ:
«من الكفار لأوثانهم». وذكره ابن عطية (١/ ٢٣٤) والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٠٣- ٣٠٤).
(٢) جواب «لو» محذوف، واختلف في تقديره، ولا يظهر ذلك إلا بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة: قرأ ابن عامر ونافع: «ولو ترى» بتاء الخطاب، «أن القوة» و «أن الله» بفتحهما، وقرأ ابن عامر: «إذ يرون» بضم الياء، والباقون بفتحهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون: «ولو يرى» بياء الغيبة، «أنّ القوة» و «أنّ الله» بفتحهما، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة ويعقوب وأبو جعفر: «ولو ترى» بالخطاب، «إنّ القوة» و «إن الله» بكسرهما، وقرأت طائفة: «ولو يرى» بياء الغيبة، «إن القوة» و «إن الله» بكسرهما. إذا تقرّر ذلك فقد اختلفوا في تقدير جواب لو، فمنهم من قدّره قبل قوله: «أن القوة» ومنهم من قدّره بعد قوله: «وأنّ الله شديد العذاب» وهو قول أبي الحسن الأخفش والمبرد. أمّا من قدّره قبل «أنّ القوة» فيكون «أنّ القوة» معمولا لذلك الجواب. وتقديره على قراءة ترى- بالخطاب- وفتح أنّ وأنّ: لعلمت أيها السامع أنّ القوة لله جميعا، والمراد بهذا الخطاب: إمّا النبيّ عليه السلام وإمّا كلّ سامع. وعلى قراءة الكسر في «إنّ» يكون التقدير: لقلت إنّ القوة لله جميعا، والخلاف في المراد بالخطاب كما تقدّم، أو كون التقدير: لاستعظمت حالهم، وإنما كسرت «إنّ» لأنّ فيها معنى التعليل نحو قولك: لو قدمت على زيد لأحسن إليك إنّه مكرم للضّيفان، فقولك: «إنه مكرم للضّيفان» علّة لقولك:
«أحسن إليك».
وقال ابن عطية: «تقديره: ولو ترى الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقرّوا أنّ القوة لله جميعا».
وناقشه الشيخ فقال: «كان ينبغي أن يقول: في وقت رؤيتهم العذاب فيأتي بمرادف «إذ» وهو الوقت لا الحال، وأيضا فتقديره لجواب «لو» غير مرتّب على ما يلي «لو» لأنّ رؤية السامع أو النبي عليه السلام الظالمين في وقت رؤيتهم لا يترتّب عليها إقرارهم بأنّ القوة لله جميعا، وهو نظير قولك: «يا زيد لو ترى عمرا في وقت ضربه لأقرّ أنّ الله قادر عليه» فإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد. انتهى.
وتقديره على قراءة «يرى» بالغيبة: لعلموا أن القوة، إنّ كان فاعل «يرى» «الذين ظلموا»، وإن كان ضميرا يعود على السامع فيقدّر: لعلم أنّ القوة.
وأمّا من قدّره بعد قوله: شديد العذاب فتقديره على قراءة «ترى» بالخطاب: لاستعظمت ما حلّ بهم، ويكون فتح «أنّ» على أنه مفعول من أجله، أي: لأنّ القوة لله جميعا، وكسرها على معنى التعليل نحو:
«أكرم زيدا إنه عالم، وأهن عمرا إنّه جاهل»، أو تكون جملة معترضة بين «لو» وجوابها المحذوف.
وتقديره على قراءة «ولو يرى» بالغيبة إن كان فاعل «يرى» ضمير السامع: لاستعظم ذلك، وإنّ كان فاعله-
352
ذَلِكَ، ولكنْ خوطبَ، والمرادُ أمته.
وقرأ حمزةُ وغيره «١» بالياء، أي: ولو يرى في الدنيا الذين ظلموا حالَهُمْ في الآخرة، إِذ يرون العذاب، لعلموا أن القوة لله.
والَّذِينَ اتُّبِعُوا بفتح التاء والباء: هم العَبَدة لغير اللَّه الضالُّون المقلِّدون لرؤسائهم، أو للشياطينِ، وتبرِّيهم هو بأنْ قالوا إِنا لم نضلَّ هؤلاء، بل كفروا بإرادتهم.
والسَّبَبُ في اللغة: الحبلُ الرابط الموصِّل، فيقال في كلِّ ما يتمسَّك به فَيَصِلُ بين شيئين، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، أي: الأتباع.
والكَرَّة: العودة إِلى حال قد كانَتْ كذلك، يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ... الآيةَ: يحتمل
- «الذين» كان التقدير: لا ستعظموا ما حلّ بهم، ويكون فتح «أنّ» على أنها معمولة ليرى، على أن يكون الفاعل «الذين ظلموا»، والرؤية هنا تحتمل أن تكون من رؤية القلب فتسدّ «أنّ» مسدّ مفعولهما، وأن تكون من رؤية البصر فتكون في موضع مفعول واحد.
وأمّا قراءة «يرى الذين» بالغيبة وكسر «إنّ» و «إنّ» فيكون الجواب قولا محذوفا وكسرتا لوقوعهما بعد القول، فتقديره على كون الفاعل ضمير الرأي: لقال إنّ القوة وعلى كونه «الذين» : لقالوا، ويكون مفعول «يرى» محذوفا أي: لو يرى حالهم. ويحتمل أن يكون الجواب: لاستعظم أو لا ستعظموا على حسب القولين، وإنما كسرتا استئنافا، وحذف جواب «لو» شائع مستفيض، وكثر حذفه في القرآن.
وفائدة حذفه استعظامه وذهاب النفس كلّ مذهب فيه بخلاف ما لو ذكر، فإنّ السامع يقصر همّه عليه، وقد ورد في أشعارهم ونثرهم حذفه كثيرا. قال امرؤ القيس: [الطويل]
وجدّك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
وقال النابغة: [الطويل]
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلّا ليال قلائل
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٤٢٨- ٤٢٩)، و «البحر المحيط» (١/ ٦٤٥- ٦٤٦).
(١) قراءة أهل مكة والكوفة وأبي عمرو بالياء التحتية «يرى»، وهو اختيار أبي عبيد. وقراءة أهل المدينة وأهل الشام بالفوقية. والمقصود بأهل مكة: ابن كثير، وأهل الكوفة: عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف العاشر، وأبو عامر بالياء التحتية، وابن جماز عن أبي جعفر، وليس من أهل الشام من يقرأ بياء الغيبة، والمقصود به ابن عامر.
وأما الذين يقرءون بتاء الخطاب، فهم: نافع، وابن وردان عن أبي جعفر، ويعقوب البصري.
والمخاطب: السامع، أو الرسول صلّى الله عليه وسلم. و «الذين» مفعول به. أما اختيار أبي عبيد لإحدى القراءتين فلا يطعن في الأخرى لأن القراءة سنة متبعة.
ينظر: «حجة القراءات» (١٢٠)، و «السبعة» (١٧٣)، و «الحجة» (٢/ ٢٥٨)، و «العنوان» (٧٢)، و «شرح طيبة النشر» (٤/ ٨٠)، و «معاني القراءات» (١/ ١٨٦)، و «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٤٢٥).
353
أن يكون من رؤية البَصَر، ويحتمل رؤية القلب، أي: يريهم اللَّه أعمالهم الفاسدة الَّتي ارتكبوها.
وقال ابنُ مَسْعود: أعمالهم الصالحة التي تركوها «١»، والحَسْرَة: أعلى درجات النَّدامة، والهَمِّ بما فات، وهي مشتقَّة من الشيء الحَسِيرِ الذي انقطع، وذهبت قوَّته، وقيل:
من حَسَر، إِذا كشف.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٧٠]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً... الآية: الخطابُ عامٌّ، و «ما» بمعنى «الَّذِي»، «وحَلاَلاً» : حال من الضمير العائد على «مَا»، و «طَيِّباً» :
نعتٌ، ويصح أن يكون حالاً من الضمير في «كُلُواْ»، تقديره: مستطيبِينَ، والطَّيِّبُ عند مالك: الحلال فهو هنا تأكيدٌ لاختلاف اللفظِ، وهو عند الشافعيِّ: المستَلَذُّ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القَذِرِ.
قال الفَخْر «٢» : الحلالُ هو المباحُ الذي انحلَّتْ عقدة الحَظْر عنه، وأصله من الحَلِّ الذي هو نقيضُ العَقْد. انتهى.
وخُطُواتِ: جمع خطوةٍ، والمعنى: النهْيُ عن اتباع الشيطان، وسلوكِ سبله، وطرائقه.
قال ابن عَبَّاس: خطواته: أَعماله «٣»، وقال غيره: آثاره «٤».
ع «٥» : وكلُّ ما عدا السنَنَ والشرائعَ من البِدَعِ والمعاصِي، فهي خطوات الشيطان.
(١) ذكره ابن عطية (١/ ٢٣٦) عن ابن مسعود، والسدي.
(٢) ينظر: «التفسير الكبير» (٥/ ٣).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٨١) برقم (٢٤٤٦) بلفظ: «عمله»، وذكره ابن عطية في التفسير (١/ ٢٣٧)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٠٥).
(٤) ينظر: «المحرر» (١/ ٢٣٧).
(٥) ينظر: «المحرر» (١/ ٢٣٧).
وعَدُوّ: يقع للمفرد والمثنى والجمع.
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ... الآية: «إنما» هاهنا: للحصر، وأمر الشيطان:
إما بقوله في زَمَن الكهنة، وإما بوسوسته.
والسوء: مصدرٌ من: سَاءَ يَسُوءُ، وهي المعاصِي، وما تسوء عاقبته، وَالْفَحْشاءِ: قيل: الزنا، وقيل: ما تفاحَشَ ذكره، وأصل الفُحْش: قُبْحِ المنظر، ثم استعملت اللفظة فيما يستقبحُ، والشَّرْعُ: هو الذي يُحَسِّنُ ويُقَبِّحُ، فكُّل ما نهتْ عنه الشريعةُ، فهو من الفحشاء.
وما لاَ تَعْلَمُونَ: قال الطبري «١» : يريد: ما حرموا من البَحِيرة، والسِّائبة، ونحوها، وجعلوه شرعاً.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ، يعني: كفَّارَ العرب، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في اليهود «٢»، والألفُ في قوله سبحانه: أَوَلَوْ كانَ: للاستفهامِ لأن غاية الفساد في الاِلتزامِ أنْ يقولوا: نتبع آباءنا، ولو كانوا لا يعقلون، فقُرِّرُوا على التزامهم هذا إذ هذه حال آبائهم.
وقوةُ ألفاظ هذه الآية تُعطِي إِبْطَال التقليد، وأجمعتِ الأمَّة على إبطاله في العقائد.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧١]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية: المرادُ تشبيهُ واعظِ الكافرينَ، وداعِيهِمْ بالراعي الذي يَنْعِقُ بالغَنَمِ أو الإِبل، فلا تسمع إِلا دعاءه، ونداءه، ولا تَفْقَهُ ما يقول هكذا فسر ابن عباس، وعكْرمة، والسُّدِّيُّ «٣»، وسيبويه «٤»، فذكَرَ تعالى بعْضَ هذه الجملة، وبعضَ هذه، ودَلَّ المذْكُور على المحذوفِ، وهذه نهايةُ الإِيجاز.
والنَّعِيقُ: زجْر الغَنَم، والصِّيَاحُ بها.
(١) «تفسير الطبري» (٣/ ٣٠٣). [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٨٣)، برقم (٢٤٥٥)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٣٨)، وابن كثير (١/ ٢٠٤).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢/ ٨٤- ٨٥) عن ابن عباس، والسدي، وعكرمة، وكذا أخرجه سفيان الثوري في «التفسير» (١/ ٥٥) عن عكرمة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٢٨)، وابن كثير في «التفسير» (١/ ٢٠٤)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٠٦- ٣٠٧).
(٤) ينظر: «الكتاب» (١/ ١٠٨).

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٣]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا/ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ... الآية: الطَّيِّب:
هنا يجمع الحلال المستلَذَّ، والآية تشير بتبعيض «مِنْ» إلى أن الحرام رزْقٌ، وحضّ سبحانه على الشكر، والمعنى: في كل حالةٍ، وفي «مصابيح البَغَوِيِّ» عن أبي دَاوُدَ والنَّسائِيِّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كَالصَّائِمِ الصَّابِرِ» «١». انتهى.
قال القُشَيْرِيُّ: قال أهل العلْمِ بالأصول: نِعَمُ اللَّهِ تعالى على ضربَيْن: نعمةُ نَفْعٍ، ونعمةُ دَفْعٍ، فنعمةُ النفْعِ: ما أولاهم، ونعمةُ الدفع: ما زوى عنهم، وليس كلّ إنعامه
(١) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٥٣)، كتاب «صفة القيامة»، باب (٤٣) رقم (٢٤٨٦)، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري، ثنا محمد بن معن، حدثني أبي عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة بن مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وأخرجه الحاكم (٤/ ١٣٦) من طريق عمر بن علي المقدمي، عن محمد بن معن به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن حبان (٩٥٢- موارد) من طريق معتمر بن سليمان، عن معمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به.
وهذا سند منقطع كما أفاد الحافظ في «الفتح» (٩/ ٥٨٣)، وقال: لكن في الرواية انقطاع خفي على ابن حبان، فقد رويناه في مسند مسدد عن معتمر، عن معمر، عن رجل من بني غفار عن المقبري اهـ.
والطريق الذي ذكره الحافظ وعزاه لمسدد: أخرجه عبد الرزاق (١٠/ ٤٢٤) رقم (١٩٥٧٣)، وأحمد (٢/ ٢٨٣)، والبيهقي (٤/ ٣٠٦) كتاب «الصيام»، باب ما جاء في الطاعم الشاكر. كلهم من طريق معمر عن رجل من بني غفار، عن المقبري، عن أبي هريرة به. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة: فأخرجه أحمد (٢/ ٢٨٩)، والحاكم (٤/ ١٣٦) من طريق محمد بن عبد الله بن أبي حرة عن عمه حكيم عن سليمان الأغر عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن ماجة (١/ ٥٦١) كتاب «الصيام»، باب فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر، حديث (١٧٦٤) من طريق عبد الله بن عبد الله الأموي، عن معن بن محمد عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة به.
وللحديث شاهد آخر من حديث عائشة: أخرجه الحاكم (٢/ ١٢) من طريق عبد العزيز بن يحيى: ثنا سليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس بالمؤمن الذي يبيت وجاره جائع إلى جنبه».
وسكت عنه الحاكم، وقال الذّهبي: عبد العزيز ليس بثقة.
وقال ابن حجر في «التقريب» (١/ ٥٢٣) : متروك كذبه إبراهيم بن المنذر.
356
سبحانه انتظام أسبابِ الدنيا، والتمكُّنَ منها، بل ألطافُ اللَّه تعالى فيما زوى عنهم من الدُّنْيَا أكثرُ، وإن قرب العبد من الربِّ تعالى على حسب تباعُدِهِ من الدنيا. انتهى من «التَّحْبير».
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتابهِ المسمى ب «بهجة المجالس». قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ على عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرَهَا، وَمَا عَلَمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً على ذَنْبٍ إِلاَّ غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْبَسُ الثَّوْبَ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، فَمَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ حتى يُغْفَرَ لَهُ» «١» قال أبو عُمَر: مكتوبٌ في التوراةِ: «اشكر لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ على مَنْ شَكَرَكَ فَإِنَّهُ لاَ زَوَالَ لِلنِّعَمِ، إِذَا شُكِرَتْ، وَلاَ مُقَامَ لَهَا، إِذَا كُفِرَتْ». انتهى.
«وإِنْ» من قوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: شرطٌ، والمراد بهذا الشرط التثبيتُ، وهزُّ النفوس كما تقول: افعل كَذَا، إِنْ كنْتَ رجلاً، و «إِنَّمَا» هاهنا حاصرة، ولفظ الميتة عمومٌ، والمعنى مخصِّص لأنَّ الحوتَ لم يدخُلْ قطُّ في هذا العموم، وفي مسند البزّار عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ المَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ، وَثَمَنَهُ» «٢» انتهى من «الكوكب الدُّرِّيِّ» للإمام أبي العباس أحمد بن سعد التّجيبيّ.
(١) تقدم تخريجه.
(٢) لقد أبعد المصنف (رحمه الله) النجعة في هذا الحديث، حيث إن هذا الحديث بهذا اللفظ قد أخرجه أبو داود (٢/ ٣٠١) كتاب «البيوع»، باب في ثمن الخمر والميتة، حديث (٣٤٨٥) من حديث أبي هريرة مرفوعا.
وللحديث شاهد من حديث جابر: أخرجه البخاري (٤/ ٤٢٤) كتاب «البيوع»، باب بيع الميتة: والأصنام حديث (٢٢٣٦)، ومسلم (٣/ ١٢٠٧) كتاب «المساقاة»، باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام حديث (٧١/ ١٥٨١)، وأحمد (٣/ ٣٢٤، ٣٢٦)، وأبو داود (٣/ ٧٥٦- ٧٥٧) كتاب «البيوع»، باب في ثمن الخمر، والميتة حديث (٣٤٨٦). والترمذي (٣/ ٥٩١) كتاب «البيوع»، باب ما جاء في بيع جلود الميتة والأصنام، حديث (١٢٩٧)، والنسائي (٧/ ٣٠٩- ٣١٠)، كتاب «البيوع»، باب بيع الخنزير، وابن ماجة (٢/ ٧٣٢)، كتاب «التجارات»، باب ما لا يحل بيعه حديث (٢١٦٧)، وأبو يعلى (٣/ ٣٩٥- ٣٩٦) رقم (١٨٧٣)، وابن الجارود (٥٧٨)، والبيهقي (٦/ ١٢) كتاب «البيوع»، باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير والأصنام. والبغوي في «شرح السنة» (٤/ ٢١٨- بتحقيقنا) من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح عن جابر به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي الباب عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، ويحيى بن عباد، وأنس بن مالك:
حديث عمر بن الخطاب:
أخرجه البخاري (٤/ ٤٨٣) كتاب «البيوع» باب لا يذاب شحم الميتة ويباع ودكه، حديث (٢٢٢٣)، -
357
وَالدَّمَ يراد به المسفوحُ لأن ما خالط اللحْمَ، فغير محرَّم بإِجماع.
ت: بل فيه خلافٌ شاذٌّ، ذكره ابن الحاجبِ، وغيره، والمشهورُ: أظهر لقول
- ومسلم (٣/ ١٢٠٨) كتاب «المساقاة»، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، حديث (١/ ١٨٥٢)، والنسائي (٧/ ١٧٧)، كتاب «الفرع والعتيرة»، باب النهي عن الانتفاع بما حرم الله (عز وجل). وابن ماجة (٢/ ١١٢٢)، كتاب «الأشربة»، باب التجارة في الخمر، حديث (٣٣٨٣).
والدارمي (٢/ ١١٥) كتاب «الأشربة»، باب النهي عن الخمر وشرائها. وأحمد (١/ ٢٥)، والحميدي (١/ ٩) رقم (١٣)، وعبد الرزاق (٨/ ١٩٥- ١٩٦) رقم (١٤٨٥٤)، وابن الجارود رقم (٥٧٧)، وأبو يعلى (١/ ١٧٨) رقم (٢٠٠). والبغوي في «شرح السنة» (٤/ ٢٢٠- ٢٢١- بتحقيقنا) كلهم من طريق طاوس، عن ابن عباس قال: بلغ عمر أن فلانا باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها».
حديث ابن عباس:
أخرجه أحمد (١/ ٣٤٧، ٢٩٣)، وأبو داود (٢/ ٢- ٣)، كتاب «البيوع»، باب في ثمن الخمر والميتة حديث (٣٤٨٨)، والبيهقي (٦/ ١٣) كتاب «البيوع»، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحل أكله. كلهم من طريق أبي الوليد، عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا عند الركن قال: فرفع بصره إلى السماء فضحك، فقال: «لعن الله اليهود.. ثلاثا، إن الله تعالى حرم عليهم الشّحوم فباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه».
حديث أبي هريرة:
أخرجه البخاري (٤/ ٤٨٤) كتاب «البيوع»، باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع، ودكه حديث (٢٢٢٤)، ومسلم (٣/ ١٢٠٨) كتاب «المساقاة»، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، حديث (١٥٨٣) من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله يهودا حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها».
حديث عبد الله بن عمر:
أخرجه أحمد (٢/ ٢١٣) عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الفتح يقول: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يدهن به الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هي حرام»، ثم قال: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوها، ثم باعوها، فأكلوا ثمنها».
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٤/ ٩٤)، وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط»، إلا أنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وثمن الخنزير، وعن مهر البغي، وعن عسب الفحل. ورجال أحمد ثقات وإسناد الطبراني حسن.
حديث يحيى بن عباد:
ذكره الهيثمي في «المجمع» (٤/ ٩٢) عنه، قال: أهدي للنبي صلّى الله عليه وسلم زق خمر بعد ما حرمت فلما أتي بها النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنّ الخمر قد حرمت»، فقال بعضهم: لو باعوها فأعطوا ثمنها فقراء المسلمين، فأمر بها النبي صلّى الله عليه وسلم فأهريقت في وادي من أودية «المدينة»، وقال: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم شحومها فباعوها، وأكلوا أثمانها».
قال الهيثمي: رواه الطبراني في «الأوسط»، وفيه أشعث بن سوار، وهو ثقة، وفيه كلام. -
358
عائشةَ- رضي اللَّه عنها-: «لَوْ حُرِّمَ غَيْرُ المَسْفُوحِ، لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي العُرُوقِ، وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ اللَّحْمَ، وَالبُرْمَةُ تَعْلُوهَا الصُّفْرَةُ». انتهى.
وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
قال ابن عبَّاس وغيره: المراد ما ذُبِحَ للأنْصَاب والأوثان «١»، وأُهِلَّ بِهِ: معناه صِيحِ به ومنه: استهلالُ المولودِ، وجرَتْ عادة العرب بالصياحِ باسم المقصودِ بالذبيحةِ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النيَّة التي هي علَّة التحريم.
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال قتادة وغيره: غيْرَ قاصدِ فسادٍ «٢» وتعدٍّ بأن يجدَ عن هذه المحرَّمات مندوحةً، ويأكلها، وأصحاب هذا القول يجيزونَ الأكل منها في كلِّ سفر، مع الضرورة، وقال مجاهد وغيره: المعنى: غير باغٍ على المسلمين، وعَادٍ عليهم، فيدخل في الباغِي والعادِي قُطَّاعُ السبل، والخارجُ على السلطانِ، والمسافر في قَطْع الرحمِ، والغَارَةُ على المسلمين، وما شاكله، ولغير هؤلاء: هي الرخصة «٣».
- حديث أنس بن مالك:
أخرجه أحمد (٣/ ٢١٧)، وأبو يعلى (٥/ ٣٨٢) رقم (٣٠٤٢). وابن حبان (١١١٩- موارد)، من طريق عبد الرزاق وهو في «مصنفه» (٩/ ٢١١- ٢١٢) رقم (١٦٩٧٠)، من حديث أنس بن مالك مرفوعا بلفظ: «قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشّحوم فباعوها، وأكلوا أثمانها».
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٩٠) برقم (٢٤٧٩- ٢٤٨١) بإسنادين مختلفين عن ابن عباس بنحوه، وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٠) والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٠٨)، وعزاه لابن المنذر، وابن جرير.
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٩٢) برقم (٢٤٩٥) بنحوه. وذكره ابن عطية في «التفسير» (١/ ٢٤٠)، والبغوي في «التفسير» (١/ ١٤١)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٠٨)، وعزاه لعبد بن حميد.
(٣) الرخصة (بسكون الخاء وحكي ضمها) في اللغة: التيسير والتسهيل. قال الجوهري: الرخصة في الأمر:
خلاف التشديد فيه، ومن ذلك رخص الشعر إذا سهل وتيسر.
وفي الاصطلاح: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر.
وتنقسم الرخصة إلى أربعة أقسام:
الأول: الإيجاب، ويمثل له بوجوب أكل الميتة للمضطر الثابت بقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] مع قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: ١٧٣] على خلاف قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ... [المائدة: ٣] إلخ فهو رخصة لأنه حكم ثبت على خلاف الدليل لعذر هو حفظ الحياة.
الثاني: الندب، كقصر الصلاة الرباعية في السفر الثابت بقوله صلّى الله عليه وسلم: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» على خلاف الدليل الموجب للإتمام، وهو فعله صلّى الله عليه وسلم مع قوله صلّى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» المبين للعدد المطلوب في قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ.
الثالث: الإباحة، كإباحة السلم الثابت بقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى-
359
قال مالك «١» - رحمه اللَّه-: يأكل المضطَرُّ شِبَعَهُ، وفي «الموطّإ» وهو لكثير من ٤٢ ب العلماءِ أنه يتزوَّد، إِذا خشي الضرورة فيما بين يديه/ من مفازةٍ وقَفْرٍ.
قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «٢»، وقد قال العلماء: إِنَّ من اضطرَّ إلى أكل الميتةِ، والدمِ، ولحمِ الخنزيرِ، فلم يأكلْ، دخل النَّار إِلا أنْ يَغْفِرَ اللَّه له. انتهى. والمعنى: أنه لم يأكلْ حتى مات جوعاً، فهو عاصٍ، وكأنه قتل نفسه، وقد قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ... [النساء: ٢٩] الآية إِلى قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً [النساء: ٣٠] قال ابن العربيِّ: وإذا دامتِ المَخْمَصة «٣»، فلا خلاف في جواز شبع المضطَرِّ، وإن كانت نادرةً، ففي شبعه قوْلانِ: أحدهما لمالك: يأكل حتى يَشْبَعَ، ويتضلَّع، وقال غيره: يأكل بمقدارِ سدّ الرّمق، وبه قال ابن حبيب «٤»،
أجل معلوم» على خلاف قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك» الدال على حرمة بيع المعدوم. للحاجة إلى هذا النوع من المعاملة. وإن شئت فارجع إلى كتب الفروع لتقف على حكمة مشرعية السلم.
الرابع: خلاف الأولى، كالفطر في نهار رمضان (للمسافر الذي لا يتأذى بالصوم) المشروع بقوله تعالى:
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٤] على خلاف قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥] دفعا للمشقة. وكان خلاف الأولى لقوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: ١٨٤].
ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (١/ ٣٢٥- ٣٢٦)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ١٢٢)، «التمهيد»، للأسنوي (٧٠)، «نهاية السول» له (١/ ١٢٠)، «منهاج العقول» للبدخشي (١/ ٩٣)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (١٩)، «التحصيل من المحصول» للأرموي (١/ ١٧٩)، «المستصفى» للغزالي (١/ ٩٨)، «حاشية البناني» (١/ ١١٩- ١٢٣)، «الإبهاج» لابن السبكي (١/ ٨١)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (١/ ١٨٥).
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٩١- ٩٢) بإسنادين عن مجاهد. وسعيد بن منصور في سننه (٢/ ٦٤٥) برقم (٢٤٣) وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٠).
(٢) ينظر: «الأحكام» (١/ ٥٦). [.....]
(٣) المخمصة: مفعلة من الخمص، وهو ضمور البطن، ومنه: رجل خامص، وخمصان البطن، وامرأة خمصانة، ولما كان الجوع يؤدي إلى ضمور البطن عبّر به عنه: أي فمن اضطر في مجاعة.
ينظر: «عمدة الحفاظ» (١/ ٦١٧).
لأن الضرورة تقدر بقدرها، فأكل الميتة محظور، ولكن إبقاء مهجة الإنسان عند المخمصة ضرورة، وليست أقل من المحظور، فيباح المحظور لأجل الضرورة، فعليه الأكل لإبقاء روحه، فلو لم تبح الضرورات المحظورات لما تحقق الضرر، والضرر يزال.
(٤) ابن حبيب: هو أبو مروان عبد الملك بن حبيب، كان إماما في الحديث، والفقه، واللغة، والنحو، انتهت إليه رئاسة العلم في الأندلس، ولد في «ألبيرة»، وسكن «قرطبة»، وتفقه بابن الماجشون، ومطرف، وعبد الله بن عبد الحكم، وغيرهم، له مؤلفات تزيد على ألف كتاب، أشهرها:
«الواضحة»، توفي عام ٢٣٨ هـ، وقيل ٢٣٩ هـ.
360
وابن الماجشون «١». انتهى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ... الآية.
قال ابن عَبَّاس وغيره: المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمْر محمّد صلّى الله عليه وسلم، والْكِتابِ: التوراة والإِنجيل «٢».
ع «٣» : وهذه الآية وإِن كانَتْ نزلَتْ في الأحبار، فإِنها تتناوَلُ من علماء المسلمين مَنْ كتم الحقَّ مختاراً لذلك بسبب دُنْيَا يصيبُهَا، وفي ذكر البَطْنِ تنبيهٌ على مذمَّتهم بأنهم باعوا آخرتهم بحظِّهم من المطعم الذي لا خَطَرَ له، وعلى هُجْنَتِهمْ «٤» بطاعة بُطُونهم، قال الرَّبِيع وغيره: سمى مأكولهم ناراً لأنه يؤول بهم إِلى النار «٥»، وقيل: يأكلون النار في جَهَنَّمَ حقيقةً.
ت: وينبغي لأهل العلْمِ التنزُّه عن أخْذ شيء من المتعلِّمين على تعليم العلْم، بل يلتمسُونَ الأجر من اللَّه عزَّ وجلَّ «٦»، وقد قال تعالى لنبيِّه- عليه السلام-:
ينظر ترجمته في: «شجرة النور الزكية» (ص ٧٤)، «الديباج» (ص ١٥٤)، «شذرات الذهب» (٢/ ٩٠).
(١) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، كنيته أبو مروان، والماجشون هو أبو سلمة، والماجشون: المورد بالفارسية، سمي بذلك لحمرة في وجهه.
كان عبد الملك فقيها فصيحا، دارت عليه الفتوى في أيامه إلى أن مات، كما دارت على أبيه قبله، فهو فقيه تفقه بأبيه وبمالك، وغيرهما، وتفقه به خلق كأحمد بن المعذل، وابن حبيب، توفي عبد الملك سنة اثنتي عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: أربع عشرة ومائتين هجرية.
ينظر: «الديباج المذهب» (٢/ ٦)، و «ترتيب المدارك» (٢/ ٣٦٠)، و «وفيات الأعيان» (٢/ ٣٤٠)، و «شجرة النور الزكية» (١/ ٥٦).
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٩٤) برقم (٢٥٠٢- ٢٥٠٣- ٢٥٠٤) عن قتادة، والربيع، والسدي. وذكره ابن عطية في التفسير (١/ ٢٤١).
(٣) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٤١).
(٤) الهجنة من الكلام: ما يعيبك، وتقول: لا تفعل كذا فيكون عليك هجنة. ينظر: «لسان العرب» (٤٦٢٥- ٤٦٢٦).
(٥) ينظر: «المحرر» (١/ ٢٤١).
(٦) «تفسير الطبري» (٣/ ٣٣٠).
361
قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً... [الأنعام: ٩٠] الآية، وفي سنن أبي دَاوُدَ، عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «١»، قال: «عَلَّمْتُ نَاساً مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الكِتَابَ، وَالقُرْآنَ، وأهدى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْساً، فَقُلْتُ:
لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لآتِيَنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلم، فَلأسْأَلَنَّهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ أهدى إِلَيَّ قَوْساً مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقاً مِنْ نَارٍ، فاقبلها»
، وَفِي روايةٍ: «فَقُلْتُ مَا ترى فِيهَا، يَا رَسُولَ اللَّهُ؟ قَالَ: جَمْرَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْكَ تَقَلَّدْتَهَا أَوْ تَعَلَّقْتَهَا» «٢».
انتهى.
وقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ: قيل: هي عبارةٌ عن الغضب عليهم، وإِزالة الرضَا عنهم إِذ في غير موضعٍ من القُرآن ما ظاهره أن اللَّه تعالى يكلِّم الكافرين، وقال الطبريُّ وغيره: المعنى: لا يكلِّمهم بما يحبُّونَهُ.
وَلا يُزَكِّيهِمْ، أي: لا يطهِّرهم من موجباتِ العذابِ، وقيل: المعنى: لا يسمِّيهم أزكياء.
وقوله تعالى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ: قال جمهور المفسِّرين: «ما» تعجُّب، وهو في حيِّز المخاطبين، أي: هم أهلٌ أن تَعْجَبُوا منْهم، وممَّا يطول مُكْثُهم في النَّار، وفي التنزيل: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] وأَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مريم: ٣٨].
(١) هو: عبادة بن الصامت بن قيس بن صرم بن فهر بن قيس بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، أبو الوليد الأنصاري، الخزرجي.
من مناقبه: نزل فيه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [سورة المائدة:
الآية ٥١] لما تبرأ من حلفه مع بني قينقاع لما خانوا المسلمين في غزوة الخندق.
توفي سنة ٣٤ بالرملة. وقيل: ببيت المقدس. وقيل: عاش إلى سنة «٤٥».
ينظر ترجمته في: «الثقات» (٣/ ٣٠٢)، «أسد الغابة» (٣/ ١٦٠)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣٩٤)، «أصحاب بدر» (١٨٤)، «الإصابة» (٤/ ٢٧)، «الطبقات» (٩٩، ٣٠٢)، «المصباح المضيء» (١/ ٨٥)، «الجرح والتعديل» (٦/ ٩٥)، «تقريب التهذيب» (١/ ٣٩٥)، «الاستيعاب» (٢/ ٨٠٧)، «تهذيب التهذيب» (٥/ ١١١)، «التاريخ الصغير» (١/ ٤١، ٤٢، ٦٥، ٦٦)، «التاريخ الكبير» (٦/ ٩٢)، «الوافي بالوفيات» (١٦/ ٦١٨)، «الطبقات الكبرى» (٩/ ١٠٧)، «تهذيب الكمال» (٢/ ٦٥٥)، «طبقات الحفاظ» (٤٥)، «الأعلام» (٣/ ٢٥٨)، «الرياض المستطاب» (٢٠٧).
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ٢٨٥) كتاب «الإجارة»، باب في كسب المعلم، حديث (٣٤١٦)، وابن ماجة (٢/ ٧٢٩- ٧٣٠) كتاب «التجارات»، باب الأجر على تعليم القرآن، حديث (٢١٥٧)، وأحمد (٥/ ٣١٥)، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (١٨٣) من طريق المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت به.
362
وقال قتادة، والحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْر، والربيع: أظهر التعجُّب من صبرهم على النار لَمَّا عملوا عملَ مَنْ وَطَّن نفْسه علَيْها «١»، وتقديره ما أجرأَهم علَى النَّارِ إِذ يعملون عملاً يؤدِّي إِليها، وذهب مَعْمَرُ بْنُ المثنى إِلى أن «ما» استفهامٌ، معناه: أيُّ شَيْءٍ صبرهم عَلَى النار «٢»، والأول أظهر.
وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ... الآية: المعنى: ذلك الأمر بأنَّ اللَّه نزَّل الكتابَ بالحَقِّ، فكفروا/ به، والإشارة إلى وجوب النّار لهم.
والْكِتابَ: القرآن، وبِالْحَقِّ، أي: بالإخبار الحقّ، أي: الصادقة.
والَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ هم اليهودُ والنصارى، في قول السُّدِّيِّ «٣»، وقيل:
هم كفَّار العرب لقول بعضهم: هو سِحْرٌ، وبعضهم: أساطير، وبَعْضهم: مفترًى، إلى غير ذلك.
وبَعِيدٍ، هنا: معناه من الحقّ، والاستقامة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
وقوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: الخِطَابُ بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى: ليس البرّ الصلاة وحدها «٤»،
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٩٦) برقم (٢٥٠٨- ٢٥٠٩- ٢٥١٠- ٢٥١١- ٢٥١٢)، عن قتادة، والحسن، وسعيد بن جبير، والربيع. وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٢)، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (١/ ٦٦) عن قتادة بلفظ: «ما أجرأهم عليها»، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٣٠٩) عن قتادة، وعزاه لابن جرير.
(٢) وبه قال السدي وجماعة، كما في تفسير الطبري (٣/ ٣٣٢)، عن السدي، وأبي كريب، وابن زيد، وفي «البحر» (١/ ٦٦٩) عن ابن عباس والسدي، والمبرد ومعمر بن المثنى، وفي «الدر» (١/ ١٦٩) عن السدي، وفي «فتح القدير» (١/ ١٧٢) عنه أيضا. وينظر: «مجاز القرآن» لأبي عبيدة (١/ ٦٤).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٩٨) برقم (٢٥٢٠) وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٢)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٠٩)، وعزاه لابن جرير. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٩٩) برقم (٢٥٢١- ٢٥٢٤) بإسنادين عن ابن عباس. وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٣)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣١٠) بإسنادين، عن ابن عباس، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
363
وقال قتادة، والربيع: الخطاب لليهودِ والنصارى لأنهم تكلَّموا في تحويل القبلة، وفضَّلت كل فرقة تولِّيها، فقيلَ لهم: ليس البرَّ ما أنتم فيه، ولكنَّ البرَّ من آمن باللَّه «١».
وقوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ... الآيةَ: هذه كلُّها حقوقٌ في المال سوى الزكاةِ، قال الفَخْر «٢» : وروَتْ فاطمةُ بنْتُ قَيْسٍ، أنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ «٣»، وتَلاَ:
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ... الآية، وعنه صلّى الله عليه وسلم «لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شبعان، وجاره طاويا إلى جنبه» «٤» انتهى.
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٩٩- ١٠٠) برقم (٢٥٢٦- ٢٥٢٨) عن قتادة، والربيع بن أنس، وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٣).
وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (١/ ٦٦) عن قتادة. وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٣١٠) عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير.
(٢) «التفسير الكبير» (٥/ ٣٥).
(٣) أخرجه الترمذي (٣/ ٤٨) في الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة (٦٥٩، ٦٦٠). والطبري (٢/ ٥٧)، والدارمي (١/ ٣٨٥) في الزكاة، باب ما يجب في مال سوى الزكاة. والدارقطني (٢/ ١٢٥) في الزكاة، باب تعجيل الصدقة قبل الحول رقم (١١، ١٢). والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢/ ٢٧)، والبيهقي (٤/ ٨٤) في الزكاة: باب الدليل على أن من أدى فرض الله في الزكاة، فليس عليه أكثر منه إلا أن يتطوع... من طريق شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس بنحوه.
وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم، عن الشعبي هذا الحديث من قوله. وهذا أصح. وقال البيهقي: هذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور كوفي، وقد جرحه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ الحديث. والذي يرويه أصحابنا في التعاليق ليس في المال حق سوى الزكاة- فلست أحفظ فيه إسنادا.
وأخرجه ابن ماجة بالإسناد السابق (١/ ٥٧٠) في الزكاة، باب ما أدي زكاته ليس بكنز (١٧٨٩) بلفظ:
«ليس في المال حق سوى الزكاة».
وقال النووي كما في تخريج أحاديث «الكشاف» للزيعلي (١/ ١٠٧) : حديث «ليس في المال حق سوى الزكاة» حديث منكر. ثم نقل كلام البيهقي برمته.
وبالجملة فالحديث كيفما كان ضعيف بأبي حمزة ميمون الأعور ضعفه الترمذي. وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به أبو حمزة الأعور، وهو ضعيف. ومن تابعه أضعف منه.
وللفظ الأول من الحديث شاهد أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (٣/ ٨٩، ٩٠)، من طريق موسى بن إسماعيل، عن محمد بن راشد، عن عبد الكريم، عن حبان بن جزىء، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «في المال حق بعد الزكاة؟ قال: نعم، يحمل على النجيبة».
(٤) أخرجه البزار (١/ ٧٦- كشف) رقم (١١٥)، من طريق حسين بن علي الجعفي، ثنا سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس مرفوعا بلفظ: «ليس المؤمن الذي يبيت شبعان وجاره طاوي».
وقال البزار: لا نعلمه، يروى عن أنس إلا من هذا الوجه.
قلت: وفي كلام البزار نظر حيث إن للحديث طريقا آخر عن أنس: أخرجه الطبراني في «المعجم-
364
قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «١» : وإِذا وقع أداء الزكاة، ثم نزلَتْ بعد ذلك حاجةٌ، فإِنه يجبُ صرف المال إِليها باتفاق من العلماءِ، وقد قال مالك: يجبُ على كافَّة المسلمين فِدَاءُ أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالَهُمْ، وكذلك إِذا منع الوالي الزكاةَ، فهل يجبُ على الأغنياء إِغناءُ الفقراء؟ الصحيحُ: وجوبُ ذلك علَيْهم. انتهى.
ومعنى: آتَى: أعطى على حبِّه، أي: على حبِّ المال، ويحتملُ أن يعود الضميرُ على اسْمِ اللَّه تعالى من قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، أي: من تَصَدَّقَ مَحَبَّة في اللَّه وطاعته.
ص: والظاهر أن الضمير في «حُبِّهِ» عائدٌ على «المال» لأن قاعدتهم أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إِلاَّ بدليلٍ. انتهى.
قال ع «٢» : والمعنَى المقصودُ أن يتصدَّق المرءُ في هذه الوجوهِ، وهو صحيحٌ شحيحٌ يخشَى الفَقْر، ويأمل الغنى كما قال صلّى الله عليه وسلم «٣». والشحّ في هذا الحديث: هو
- الكبير» (١/ ٢٥٩) رقم (٧٥١)، من طريق محمد بن سعيد الأثرم، ثنا همام، ثنا ثابت، ثنا أنس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعانا، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به». والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (٨/ ١٧٠)، وقال: رواه الطبراني، والبزار، وإسناد البزار حسن.
والحديث ذكره أيضا المنذري في «الترغيب» (٣/ ٣٣٤)، وقال: رواه الطبراني، والبزار، وإسناده حسن، وللحديث شاهد من حديث ابن عباس.
أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (١١٠)، وفي «التاريخ الكبير» (٥/ ١٩٥، ١٩٦)، وأبو يعلى (٥/ ٩٢) رقم (٢٦٩٩)، والحاكم (٤/ ١٦٧)، والطبراني في «الكبير» (١٢/ ١٥٤) رقم (١٢٧٤١)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (١٠/ ٣٩٢)، كلهم من طريق سفيان عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عبد الله بن المساور، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه».
والحديث ذكره المنذري في «الترغيب» (٣/ ٣٣٤)، وقال: رواه الطبراني، وأبو يعلى ورواته ثقات.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٨/ ١٧٠) : رواه الطبراني، وأبو يعلى، ورجاله ثقات.
(١) ينظر: «الأحكام» (١/ ٥٩).
(٢) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٤٣).
(٣) أخرجه البخاري (٣/ ٣٣٤) في الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح (١٤١٩)، و (٥/ ٤٣٩- ٥٤٠) في «الوصايا»، باب الصدقة عند الموت (٢٧٤٨)، ومسلم (٢/ ٧١٦) في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (٩٢- ٩٣/ ١٠٣٢)، وأبو داود (٢/ ١٢٦) في الوصايا، باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية (٢٨٦٥)، والنسائي (٥/ ٦٨) في الزكاة، باب أي الصدقة أفضل، و (٦/ ٢٣٧) في الوصايا، باب الكراهية في تأخير الوصية، وابن ماجة (٢/ ٩٠٣) في الوصايا، باب النهي عن الإمساك في الحياة، والتبذير عند الموت (٢٧٠٦). والبخاري في «الأدب المفرد» برقم (٧٨٦)، وأحمد (٢/ ٢٣١، ٤١٥، ٤٤٧)، وابن خزيمة (٤/ ١٠٣) برقم (٢٤٥٤)، والبيهقي (٤/ ١٩٠)، والبغوي (٣/ ٤٢٣) برقم.
365
الغريزيُّ الذي في قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النساء: ١٢٨] وليس المعنَى أنْ يكون المتصدِّق متَّصِفاً بالشحِّ الذي هو البُخْل.
وَفِي الرِّقابِ، أي: العتق، وفَكّ الأسرى.
وَالصَّابِرِينَ: نصبٌ على المدح، أو على إِضمار فعْلٍ، وهذا مَهْيَعٌ «١» في تكرار النعوت.
والْبَأْساءِ: الفَقْر والفاقة.
وَالضَّرَّاءِ: المرض، ومصائبُ البدن، وعن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما، قال:
قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَنْ يدعى إِلَى الجَنَّةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ»، وقال: صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ «٢». انتهى من «السلاح».
- (١٦٦٥)، من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟... » فذكره.
(١) المهيع: هو الطريق الواسع المنبسط. ينظر: «لسان العرب» (٤٨٣٨) (هيع).
(٢) أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (١/ ١٠٣)، وفي «الأوسط» (٤/ ٤٤) رقم (٣٠٥٧)، وفي «الكبير» (١٢/ ١٩) رقم (١٢٣٤٥)، وأبو نعيم في «الحلية» (٥/ ٦٩). كلهم من طريق قيس بن الربيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا.
وقال الطبراني: لم يروه عن حبيب إلا قيس بن الربيع، وشعبة بن الحجاج، عن نصر بن حماد الوراق.
وقال أبو نعيم: رواه شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٩٨)، وقال: رواه الطبراني في الثلاثة بأسانيد، وفي أحدها قيس بن الربيع وثقه شعبة، والثوري، وغيرهما.
وضعفه يحيى القطان، وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ.
قلت: قيس بن الربيع في سند الطبراني في معاجمه الثلاثة، وليس كما يوهم كلام الهيثمي.
والحديث ضعفه الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٤/ ٧٩)، وأعله بقيس بن الربيع، وقال: ضعفه الجمهور، وهذا الحديث قد رواه شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، كما أشار إلى ذلك الحافظ أبو نعيم.
أخرجه الطبراني في «الصغير» (١/ ١٠٣)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٨٤- بتحقيقنا). كلاهما من طريق نصر بن حماد الوراق، نا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
وهذا سند ضعيف جدا.
نصر بن حماد قال النسائي، وغيره: ليس بثقة، ينظر «المغني» للذهبي (٦٦٠٩).
وتابعهما عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن حبيب.
أخرجه الحاكم (١/ ٥٠٢).
وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. والمسعودي لم يخرج له مسلم شيئا فضلا عن اختلاطه.
366
وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن صُهَيْب «١»، قال: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِذَا أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» «٢» انتهى.
وَحِينَ الْبَأْسِ، أي: وقْتَ شدَّة القتال، هذا قولُ المفسِّرين في الألفاظ الثلاثة، تقولُ العربُ: بَئِسَ الرَّجُلُ إِذَا افتقر، وبَؤُسَ إِذا شَجُع، ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البَرَّة بالصدْقِ في أمورهم، أي: هم عند الظنِّ بهم والرجاء فيهم كما تقول: صَدَقَنِي المَالُ، وصَدَقَنِي الرُّمْحُ، ووصفهم تعالى/ بالتقى، والمعنى: هم الذين جعلوا بينهم وبين ٤٣ ب عذاب الله وقاية.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ... الآيةَ: كُتِبَ:
معناه: فُرِضَ، وأُثْبِتَ، وصورةُ فَرْضِ القصاصِ «٣»، هو أنَّ القاتل فرض عليه، إذا أراد
(١) هو: صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر. أبو يحيى. الرومي. الربعي.
النمري.
وهو صحابي مشهور. روى عنه أولاده حبيب، وحمزة، وسعد، وصالح، وصيفي، وعباد، وعثمان، ومحمد. وحفيده زياد بن صيفي. وروى عنه أيضا جابر الصحابي. وسعيد بن المسيب. وإنما قيل له الرومي قيل: لأن الروم سبوه صغيرا حين كان أبوه وعمه عاملين لكسرى على «الأبلة»، وكانت لهم منازل على «دجلة» عند الموصل، وقيل غير ذلك. وروى الستة عنه قال: لم يشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشهدا قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضره، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة قط إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامه، توفي سنة (٣٨) وقيل (٣٩)، وقيل في شوال سنة ٣٨، وله (٧٠ سنة).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ٣٦)، «الإصابة» (٣/ ٢٥٤)، «الاستيعاب» (٢/ ٧٢٦)، «الاستبصار» (٧٨، ١٣٤)، «الرياض المستطابة» (١٣٠)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٢٦٨)، «عنوان النجابة» (١٠٦)، «أصحاب بدر» (١٠٨)، «الثقات» (٣/ ١٩٤)، «الكاشف» (٢/ ٣٢)، «حلية الأولياء» (١/ ٣٧٢)، «التحفة اللطيفة» (٢/ ١٤٤)، «تنقيح المقال» (٥٨١١)، «بقي بن مخلد» (٩٥).
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ٢٢٩٥) كتاب «الزهد»، باب المؤمن أمره كله خير، حديث (٦٤/ ٢٩٩٩).
وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى مسلم. وينظر: «تحفة الأشراف» (٤/ ٢٠٠). [.....]
(٣) القصاص: أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل. كذا في «المغرب». وفي «الصحاح» : القصاص: القود، وقد أقصّ الأمير فلانا من فلان إذا اقتصّ له منه فجرحه مثل جرحه أو قتله. -
367
الوليُّ القتل، الاِستسلامُ لأمر اللَّه، وأن الوليَّ فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليِّه، وترك التعدِّي على غيره، فإِن وقع الرضَا بدون القصاص من دية أو عفو، فذلك مباحٌ، والآية معلِّمة أن القِصَاصَ هو الغاية عند التّشاحّ «١»، والْقِصاصُ: مأخوذ من: قَصِّ الأثر فكأن القاتل سلك طريقا من القتل، فقص أثره فيها.
ينظر: «الصحاح» (٣/ ١٠٥٢)، و «القاموس المحيط» (٢/ ٣٢٤)، و «المصباح المنير» (٢/ ٧٧٨)، و «المغرب» (٢/ ١٨٢).
وقد اضطربت القوانين الوضعية في هذا القصاص، واختلفت أنظار المفكرين في جوازه أو عدمه، وأخذ كل يدافع عن فكرته، ويحاجج عن رأيه، حتى رمى بعض الغلاة الإسلام بالقسوة في تقرير هذه العقوبة، وقالوا: إنها غير صالحة لهذا الزمن، وقد نسوا أن الإسلام جاء في ذلك بما يصلح البشر على مر الزمن مهما بلغوا في الرقي، وتقدموا في الحضارة.
كانت هذه العقوبة موجودة قبل الإسلام، ولكن للاعتداء فيها يده المثمرة، وللإسراف فيها ضرره البالغ، فحد الإسلام من غلوائها، وقصر من عدوانها، ومنع الإسراف منها. فقال تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الإسرا: ٣٣] فلم يبح دم من لم يشترك في القتل قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى.
وقال عز من قائل: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ...
[المائدة: ٤٥] الآية، ولكنه أفسح المجال للفصل بين الناس، وترك للجماعة الراقية مع ذلك أن ترى خيرا في العفو عن الجاني فقال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: ٤٥] على أن العقلاء الذين خبروا الحوادث، وعركوا الأمور، ودرسوا طبائع النفوس البشرية، ونزعاتها وغرائزها، فهداهم تفكيرهم الصحيح إلى صلاح هذه العقوبة، لإنتاج الغاية المقصودة، وهي إقرار الأمن وطمأنة النفوس، ودرء العدوان والبغي، وإنقاذ كثيرين من الهلاك، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ.
ولقد فهم أولو الألباب هذه الحكمة البالغة، وقدروها حق قدرها، وها نحن أولاء نرى اليوم أن الأمم التي ألغت هذه العقوبة عادت إلى تقريرها لما رأته في ذلك من المصلحة.
وأمكننا الآن أن نقول: إنه ليس هناك من خلاف كبير بين الإسلام والقوانين الوضعية في هذا الموضوع.
أما القصاص في غير القتل مما ورد في الآية الكريمة: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: ٤٥] فهو في غاية الحكمة والعدالة إذ لو لم يكن الأمر كذلك لاعتدى القوي على الضعيف، وشوه خلقته، وفعل به ما أمكنته الفرصة لا يخشى من وراء ذلك ضررا يناله، أو شرا يصيبه، ولو اقتصر الأمر على الديات كما هو الحال في القوانين الوضعية لكان سهلا على الباغي يسيرا على الجاني، ولتنازل الإنسان عن شيء من ماله في سبيل تعجيز عدوه، وتشويهه ما دامت القوة في يده، ولكنه لو عرف أن ما يناله بالسوء من أعضاء عدوه سيصيب أعضاءه مثله كذلك، انكمش وارتدع، وسلموا جميعا من الشر.
(١) يقال: هما يتشاحّان على أمر: إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته... ، وتشاحّ الخصمان في الجدل كذلك. ينظر: «لسان العرب» (٢٢٠٥).
368
روي عن ابن عَبَّاس أنَّ هذه الآية مُحْكَمة «١»، وفيها إِجمال فسَّرته آية «المائدة»، وأن قوله سبحانه: الْحُرُّ بِالْحُرِّ يعمُّ الرجال والنساء، وأجمعتِ الأمة على قتل الرجُلِ بالمرأةِ، والمرأة بالرجل «٢».
وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ... الآيةَ: فيه تأويلاتٌ:
أحدها: أنَّ «مَنْ» يرادُ بها القاتلُ، و «عُفِيَ» : تتضمن عافياً، وهو وليُّ الدم، والأخُ:
هو المقتولُ، و «شَيْءٌ» : هو الدمُ الذي يعفى عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابْنِ عَبَّاس، وجماعة من العلماء «٣»، والعَفْوُ على هذا القولِ على بابه.
والتأويلُ الثَّاني: وهو قول مالكٍ أنَّ «مَنْ» يراد بها الوليُّ، وعُفِيَ: بمعنى: يُسِّرَ، لا على بابها في العَفْو، والأخُ: يراد به القاتل، و «شَيْءٌ» : هي الديةُ، والأخوَّة على هذا أخوَّة الإِسلام.
والتأويل الثالثُ: أنَّ هذه الألفاظ في معنى: الَّذين نزلَتْ فيهم الآيةُ، وهم قومٌ تقاتَلُوا، فقتل بعضهم بعضا، فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يصلحَ بينهم، ويُقَاصَّهم بعضَهم من بعض بالدِّيَات على استواء الأحرار بالأحرار، والنساء بالنساء، والعبيد بالعبيد، فمعنى الآية: فمن فضِل له من إِحدى الطائفتين على الأخرى شيْءٌ من تلك الدِّيَاتِ، وتكون: «عُفِيَ» بمعنى فَضِلَ.
وقوله تعالى: فَاتِّباعٌ: تقديره: فالواجبُ والحُكْمُ: اتباع، وهذا سبيلُ الواجباتِ كقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: ٢٢٩] وأما المندوبُ إِلَيْه، فيأتي منصوباً كقوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: ٤]، وهذه الآية حضٌّ من اللَّه تعالى على حسن الاقتضاءِ من الطالِبِ، وحُسْنِ القضاء من المُؤَدِّي.
وقوله سبحانه: ذلِكَ تَخْفِيفٌ إِشارة إِلى ما شرعه لهذه الأمة، من أخذ الدية، وكانت بنو إِسرائيل لا ديَةَ عندهم، إِنما هو القِصَاصُ فَقَطْ، والاعتداء المتوعّد عليه في هذه
(١) المحكم: هو ما لا يحتمل شيئا من ذلك، وحكمه بثبوت ما انتظمه على اليقين، ويرادفه المبين عند علماء الشافعية.
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ١١٠) برقم (٢٥٧٩)، والبيهقي في «السنن» (٨/ ٣٩- ٤٠)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٥)، وأورده ابن عباس في «تفسيره» (ص ٩٣/ ٥٢) وابن كثير (١/ ٢٠٩)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣١٦)، وعزاه للنحاس في «ناسخه».
(٣) ذكره ابن عطية في «التفسير» (١/ ٢٤٥).
369
الآية، هو أنْ يأخذ الرجُلُ ديةَ وليِّه، ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم.
واختلف في العذابِ الأليم الَّذي يلحقه، فقال فريقٌ من العلماء، منهم مالك: هو كَمَنْ قتل ابتداءً، إِن شاء الوليُّ قتله، وإِن شاء، عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وغيره: يقتل البتَّةَ، ولا عَفْوَ فيه «١»، ورُوِيَ في ذلك حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ: المعنى: أن القصاص إِذا أقيم، وتحقَّق الحكْمُ به، ازدجر مَنْ يريد قتْلَ أحدٍ مخافَةَ أن يقتصَّ منه، فَحَيِيَا بذلك معاً، وأيضاً: فكانت العربُ إِذا قتل الرجلُ الآخَر، حمي قبيلاَهُما «٢»، وتقاتلوا، وكان ذلك داعياً إلى موت العددِ الكثيرِ، فلمَّا شرَعَ اللَّه سبحانه القِصَاص، قنع الكلُّ به، ووقَف عنده، وتركوا الاقتِتال، فلهم في ذلك حياةٌ، وخُصَّ أولو الألباب بالذِّكْر، تنبيهاً عليهم لأنهم العارفون القابلُون للأوامر والنواهِي، وغيرهم تبع لهم.
وتَتَّقُونَ معناه: القتل، فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع ٤٤ أالتقوى في غير ذلك، فإن اللَّه سبحانه/ يثيبُ على الطاعة بالطاعة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
وقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ... الآية: كُتِبَ: معناه:
فُرِضَ وأُثْبِتَ، وفي قوله تعالى: إِذا حَضَرَ مجازٌ لأن المعنى: إِذا تخوَّف وحضرتْ علاماتُهُ.
والخير في هذه الآية: المالُ، واختُلِفَ في هذه الآية، هل هي مُحْكَمَةٌ، أو منسوخةٌ، فقال ابنُ عبَّاس، وقتادةُ، والحَسَن: الآيةُ عامَّة، وتقرَّر الحكم بها برهةً، ونسخ منها كلّ من يرث بآية الفرائض «٣»، وقال بعضُ العلماء: إِن الناسخ لهذه الآية هي السّنّة المتواترة، وهو
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٤٦) عن قتادة، وعكرمة، والسدي، وغيرهم.
(٢) القبيل: الجماعة من الناس يكونون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى، كالزنج والروم والعرب، وقد يكونون من نحو واحد، وربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة. وجمع القبيل قبل. ينظر: «لسان العرب» (٣٥١٩).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢/ ١٢٢- ١٢٣) عن ابن عباس، والحسن، وقتادة بألفاظ متقاربة، وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» عن قتادة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٤٨).
قوله صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أعطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حقّه فلا وصيّة لوارث» «١».
وبِالْمَعْرُوفِ: معناه بالقصد الَّذي تعرفه النفوسُ دون إِضرار بالورثة، ولا تنزير «٢» للوصية وحَقًّا: مصدر مؤكِّد، وخُصَّ «المتقون» بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبادر النَّاس إِليها.
وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ... الآية: الضمير في «بَدَّلَهُ» عائدٌ على الإيصاء، وأمر الميت، وكذلك في «سَمِعَهُ»، ويحتمل أن يعود الذي في «سَمِعَهُ» على أمر اللَّه تعالى في هذه الآية، والأول أسبق للناظر، وسَمِيعٌ عَلِيمٌ: صفتان لا يخفى معهما شيْءٌ من جَنَفِ الموصِينَ، وتبديلِ المتعدينَ، والجَنَفُ: الميل.
ومعنى الآية على ما قال مجاهد: من خشي أن يحيف الموصِي، ويقطع ميراث طائفة، ويتعمَّد الإِذاءة، فذلك هو الجَنَفُ في إِثم، وإِن لم يتعمَّد، فهو الجنف دون إِثم «٣»، فالمعنى: مَنْ وعظه في ذلك وردَّه عنه، وأصلح ما بينه وبين ورثَتِهِ، وما بين الورثة في ذاتهم، فلا إِثم عليه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالموصِي، إِذا عملت فيه الموعظة، ورجع عما أراد من الإذاءة.
وقال ابن عبّاس وغيره: معنى الآية: فَمَنْ خافَ، أي: علِم، ورأى بعد موت الموصِي أن الموصِيَ حَافَ، وجَنَف، وتعمَّد إذاءة بعض ورثته، فَأَصْلَحَ ما بين الورثة، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، وإِن كان في فعله تبديلٌ مَّا لأنه تبديلٌ لمصلحة، والتبديلُ الذي فيه الإِثم إنما هو تبديل الهوى «٤».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
(١) تقدم.
(٢) التنزير: تفعيل من النّزر، وهو: القليل التافه من كل شيء. والمقصود ألا يقلل من الوصية ولو شيئا يسيرا.
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ١٢٩) برقم (٢٦٩٧- ٢٦٩٨) بإسنادين مختلفين، عن مجاهد. وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٩)، والبغوي في تفسيره (١/ ١٤٨)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٢١)، وعزاه لابن جرير، وعبد بن حميد.
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ١٢٩) برقم (٢٦٩٩)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٩)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٢٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
371
قوله جلّت قدرته: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ... الآية: كُتِبَ:
معناه فُرِضَ، والصيام في اللغة: الإِمساك، ومنه قوله سبحانه: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [مريم: ٢٦] وفي الشرع: إِمساكٌ عن الطعام والشراب مقترنةٌ به قرائنُ مِنْ مُراعاة أوقاتٍ، وغير ذلك.
وقوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: اختلف في موضع التشبيه: قالتْ فرقة: التشبيهُ: كُتِبَ عليكم كصيامٍ قد تقدَّم في شرع غيركم، ف «الّذين» عامّ في النصارى «١» وغيرهم.
ولَعَلَّكُمْ: ترجّ في حقهم.
وتَتَّقُونَ: قيل على العموم لأن الصيام كما قال صلّى الله عليه وسلم: «جنّة «٢» ووجاء، وسبب
(١) هذا قول، والقول الثاني: أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره، وهذا ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور، فأما أن يقال: إنه يقتضي الاستواء في كل الأمور فلا. ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها. أحدها: أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود، والنصارى، أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوما من السنة، وزعموا أنه يوم غرق فيه فرعون، وكذبوا في ذلك أيضا لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان، فصادفوا فيه الحر الشديد، فحولوه إلى وقت لا يتغير، ثم قالوا عند التحويل: نزيد فيه، فزادوا عشرا، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم، فنذر سبعا، فزادوه، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال: ما بال هذه الثلاثة، فأتمه خمسين يوما، وهذا معنى قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً [التوبة: ٣١] وهذا مروي عن الحسن. وثانيها: أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا، فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما، ولهذا كره صوم يوم الشك، وهو مروي عن الشعبي، وثالثها: أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم. واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: ١٨٧] يفيد نسخ هذا الحكم، فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه، ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلا على ثبوت هذا المعنى، قال أصحاب القول الأول: قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصا برمضان، وأن يكون صومهم مقدرا بثلاثين يوما، ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.
ينظر: «الفخر الرازي» (٥/ ٦٠). [.....]
(٢) أخرجه البخاري (٤/ ١٢٥)، كتاب «الصوم»، باب فضل الصوم حديث (١٨٩٤)، ومسلم (٢/ ٨٠٦) كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام حديث (١٦٢/ ١١٥١). ومالك (١/ ٣١٠) كتاب «الصيام»، باب.
372
تقوى لأنه يميت الشهوات».
وأَيَّاماً مَعْدُوداتٍ: قيل: رمضان، وقيل: الثلاثةُ الأيام من كل شهرٍ، ويومُ عاشوراءَ الَّتي نُسخَتْ بشهر رمضان.
ص: وأَيَّاماً: منصوبٌ بفعل مقدَّر يدلُّ عليه ما قبله، أي: صوموا أياماً، وقيل: أَيَّاماً: نصب على الظرف «١» انتهى.
جامع الصيام حديث (٥٨). وأبو داود (١/ ٧٢)، كتاب «الصيام»، باب الغيبة للصائم حديث (٢٣٦٣).
وأحمد (٢/ ٤٦٥)، والبيهقي (٤/ ٢٦٩) كتاب «الصيام»، باب الصائم ينزه صيامه عن اللفظة والمشاتمة، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٤٥٣- بتحقيقنا)، كلهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الصيام جنة، فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه- فليقل: إني صائم مرتين-، والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» لفظ البخاري.
وأخرجه البخاري (٤/ ١٤١) كتاب «الصيام»، باب هل يقول الصائم: إني صائم إذا شتم، حديث (١٩٠٤). ومسلم (٢/ ٨٠٦)، كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام، حديث (١٦٣/ ١١٥١). والنسائي (٤/ ١٢٦٣)، كتاب «الصوم»، باب فضل الصوم، وأحمد (٢/ ٢٧٣)، والبيهقي (٤/ ٢٧٠). كلهم من طريق ابن جريج، حدثني عطاء عن أبي صالح، عن أبي هريرة به.
وأخرجه البخاري (١/ ٣٨١)، كتاب «اللباس»، باب ما يذكر في المسك، حديث (٥٩٢٧). ومسلم (٢/ ٨٠٦) كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام، حديث (١٦١/ ١١٥١). والترمذي (٣/ ١٦٣)، كتاب «الصوم»، باب ما جاء في فضل الصوم، حديث (٧٦٤). والنسائي (٤/ ١٦٤)، كتاب «الصوم»، باب فضل الصوم. وأحمد (٢/ ٢٨١)، وعبد الرزاق (٤/ ٣٠٦) رقم (٧٨٩١). والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٤٥١- بتحقيقنا). كلهم من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حسن غريب من هذا الوجه.
وأخرجه البخاري (١٣/ ٤٧٢) كتاب «التوحيد»، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ حديث (٧٤٩٢)، ومسلم (٢/ ٨٠٦) كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام، حديث (١٦٤/ ١١٥١)، وأحمد (٢/ ٣٩٣، ٤٤٣، ٤٧٧، ٤٨٠).
وابن ماجة (١/ ٥٢٥)، كتاب «الصيام»، باب ما جاء في فضل الصيام حديث (١٦٣٨)، (٢/ ١٢٥٦)، كتاب «الأدب»، باب فضل العمل حديث (٣٨٢٣)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٤٥- بتحقيقنا)، من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (١٣/ ٥٢١) كتاب «التوحيد»، باب ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، وروايته عن ربه حديث (٧٥٣٨)، وأحمد (٢/ ٤٥٧، ٤٦٧، ٥٠٤). والطيالسي (١/ ١٨١- منحة) رقم (٨٦٣)، من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد (٢/ ٥٠٣)، والدارمي (٢/ ٢٥) كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام، وأبو يعلى (١٠/ ٣٥٣) رقم (٥٩٤٧)، من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
(١) وقيل: منصوب بالصيام، ولم يذكر الزمخشري غيره. ونظّره بقولك: «نويت الخروج يوم الجمعة»، -
373
وقوله سبحانه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ: التقدير: فأفْطَرَ، فَعِدَّةٌ، وهذا يسمونه فَحْوَى «١» الخطابِ، واختلف العلماءُ في حَدِّ المرض الذي يقع به الفطْر، فقال جمهور العلماء: إِذا كان به مرضٌ يؤذيه، ويؤلمه أو يخاف تَمادِيَهُ، أو يخافُ من الصوم تزيُّده، صحَّ له الفطْرُ، وهذا مذْهَبُ حُذَّاقِ أصحاب مالك، وبه يناظرون، وأما لفظ ٤٤ ب مالكٍ: فهو المرضُ الَّذي يَشُقُّ على المرء، ويبلغ به، واختلف في الأفضل/ من الفِطْرِ أو الصَّوْمِ، ومذهبُ مالكٍ استحباب الصومِ لمن قَدَرَ علَيْه، وتقصيرُ الصَّلاة حَسَنٌ لأن الذمَّة تبرأ في رخصة الصلاة، وهي مشغولةٌ في أمر الصيام، والصوابُ: المبادرةُ بالأعمال.
والسَّفَرُ: سفَرُ الطاعةِ كالحجِّ، والجهادِ بإجماع، ويتصلُ بهذَيْن سفَرُ صلَةِ الرَّحِمِ، وطلبِ المعاشِ الضروريِّ.
وأما سفر التجارة، والمباحاتِ، فمختلَفٌ فيه بالمنع، والجواز، والقولُ بالجواز أرجح.
- وهذا ليس بشيء، لأنّه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي، وهو قوله: «كما كتب» لأنه ليس معمولا للمصدر على أيّ تقدير قدّرته. فإن قيل: يجعل «كما كتب» صفة للصيام، وذلك على رأي من يجيز وصف المعرّف بأل الجنسية بما يجري مجرى النكرة فلا يكون أجنبيا. قيل: يلزم من ذلك وصف المصدر قبل ذكر معموله، وهو ممتنع.
وقيل: منصوب بالصيام على أن تقدّر الكاف نعتا لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وإن كان ضعيفا، فيكون التقدير: «الصيام صوما كما كتب» فجاز أن يعمل في «أياما» «الصيام» لأنه إذ ذاك عامل في «صوما» الذي هو موصوف ب «كما كتب» فلا يقع الفصل بينهما بأجنبي بل بمعمول المصدر.
وقيل: ينتصب بكتب: إمّا على الظرف وإمّا على المفعول به توسّعا، وإليه نحا الفراء وتبعه أبو البقاء.
قال أبو حيان: «وكلا القولين خطأ: أمّا النصب على الظرف فإنه محلّ للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلّقها هو الواقع في الأيام. وأمّا النصب على المفعول اتّساعا فإنّ ذلك مبنيّ على كونه ظرفا لكتب، وقد تقدّم أنه خطأ. ينظر: «الدر المصون» (١/ ٤٦٠).
(١) وهو: مفهوم الموافقة وهو ما كان مدلول اللفظ في محل المسكوت موافقا لمعناه في محل المنطوق، ويسمى «دلالة النص»، و «فحوى الخطاب»، و «لحن الخطاب».
وقد اتفق الشّافعية، والحنفية على حجية الفحوى، واشترط الشافعية أولوية المسكوت.
وينظر تفصيل ذلك في: «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٧)، «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ٤٤٩)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ٦٢)، «نهاية السول» للأسنوي (٢/ ٢٠٢)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (٣٧)، «المنخول» للغزالي (٢٠٨)، «حاشية البناني» (١/ ٢٤٠)، «الإبهاج» لابن السبكي (١/ ٣٦٧)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٢٠/ ١٥)، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٣١٩)، «التحرير» لابن الهمام (٢٩)، «حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى» (٢/ ١٧٢)، «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (١/ ١١٢).
374
وأما سفر العصْيَان، فمختلف فيه بالجوازِ، والمنعِ، والقولُ بالمنع أرجحُ.
ومسافةُ سفر الفطر عند مالك، حيث تقصر الصلاة ثمانيةٌ وأربعون «١» ميلاً.
(١) يباح للمسافر الفطر في رمضان إذا تحققت الشروط الآتية:
الأول: أن يكون سفره سفر قصر، أي: أن يكون سفرا طويلا، والسفر الطويل: ما كان مرحلتين فأكثر، وهما: سير يومين من غير ليلة على الاعتبار، أو ليلتين بلا يوم كذلك، أو يوم وليلة مع النزول المعتاد، لنحو استراحة، أو أكل أو صلاة، وأن تكون المرحلتان بسير الأثقال. أي: الحيوانات المثقلة بالأحمال، والبحر كالبر في اشتراط المسافة المذكورة، فلو قطع الأميال فيه في ساعة مثلا لشدة جري السفينة بالهواء، فإنه يبيح له الفطر أيضا لوجود المسافة الصالحة، ولا يضرّ قطعها في زمن يسير. فإن قيل: إذا قطع المسافة في لحظة صار مقيما، فكيف يتصور ترخيصه فيها؟
أجيب بأنّه لا يلزم من وصول المقصد انتهاء الرّخصة.
الشرط الثاني: أن يكون سفره في غير معصية بألّا يكون عاصيا بالسفر، وهو الذي أنشأ سفره معصية، ولا عاصيا بالسفر في السفر، وهو الذي أنشأ سفره طاعة ثم قلبه معصية. أمّا العاصي في السفر، وهو من أنشأ سفره طاعة، واستمر كذلك إلّا أنه وقعت منه معصية في أثناء سفره فيجوز له الفطر، ولم يجوّز الشارع الفطر لمن كان سفره في معصية لأن ذلك يكون إعانة له على المعصية ولأن جواز الفطر رخصة والرخصة لا تناط بالمعاصي.
وبناء على هذين الشرطين يمكن أن يقال: إنّ المسافر الذي كان سفره في غير معصية، وكان سفره سفر قصر يباح له الفطر بالإجماع لقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي: فله الفطر وعليه عدة من أيام أخر، ولما روت السيدة عائشة- رضي الله عنها- أن حمزة بن عمر الأسلمي قال: يا رسول الله أأصوم في السّفر؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر». ثمّ إن كان المسافر ممن لا يجهده الصوم. أي: لا يتضرر به، فالأفضل له الصوم لما روي عن أنس- رضي الله عنه- أنه قال للصّائم في السّفر: «إن أفطرت فرخصة، وإن صمت فأفضل». وأنّه لو أفطر عرض الصوم للنسيان، وحوادث الأيّام ولأن شهر الصوم له أفضلية ومزيّة على سائر الأيّام. وإن كان المسافر ممن يجهده الصوم، أي: يتضرر به فالأفضل له الفطر لما روى جابر- رضي الله عنه- أنّه قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر برجل تحت شجرة يرشّ عليه الماء، فقال (عليه السّلام) :«ما بال هذا» ؟ قالوا: صائم يا رسول الله. قال (عليه السّلام) :«ليس من البرّ الصّيام في السّفر».
فإن صام المسافر ثمّ أراد أن يفطر فله أن يفطر لأن العذر قائم، كما لو صام المريض وأراد أن يفطر.
الشرط الثالث: أن يكو السّفر سابقا على الصوم بأن يكون الشروع فيه سابقا على الشروع في الصوم، كأن يقع السفر بعد الغروب، وقبل الفجر.
أمّا إذا كان الشروع في السّفر بعد الشروع في الصوم، فيحرم عليه الفطر، ويجب الصوم.
وقال المزني: له أن يفطر، كما لو أصبح الصحيح صائما، ثمّ مرض. والمذهب الأوّل، وهو وجوب الصّوم وعدم جواز الفطر. دليل ذلك: أنّه عبادة أجتمع فيها سفر وحضر، وكل عبادة يجتمع فيها سفر وحضر يغلب جانب الحضر لأنّه الأصل.
وعلى الأول: لو جامع فيه لزمه الكفارة لأنّه يوم من رمضان هو صائم فيه صوما لا يجوز فيه الفطر.
الشرط الرابع: أن يرجو المسافر إقامة يقضي فيها ما أفطره من أيام سفره، فإن لم يرج إقامة يقضي فيها ما-
375
وقوله تعالى: فَعِدَّةٌ، أي: فالحكم أو الواجب عدّة، وفي وجوب تتابعها قولان، وأُخَرَ لا ينصرف للعَدْلِ.
وقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ... الآية: قرأ باقي السبعة «١» غيْرَ نافعٍ وابنِ عامر: «فِدْيَةٌ» بالتنوين «طَعَامُ مِسْكِينٍ» بالإِفراد، وهي قراءة حَسَنةٌ لأنها بيَّنت الحكم في اليوم.
واختلفوا في المراد بالآية، فقال ابن عُمَر وجماعةٌ: كان فرضُ الصيامِ هكذا على
- أفطره، بأن كان مديم السّفر، فلا يباح له الفطر، لأنّ إباحة الفطر في هذه الحالة تؤدّي إلى إسقاط الفرض بالكلية، نعم، لو قصد القضاء في أيام أخرى من أيام سفره، جاز له الفطر، ولا فرق في جواز الفطر للمسافر بين أن يكون بأكل أو نحوه، كجماع، وغير ذلك.
ومتى أفطر المسافر وجب عليه القضاء دون الفدية، ثم إنّه إذا قدم المسافر، أو برىء المريض، وهما مفطران استحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت، ولا يجب عليهما ذلك لأنهما أفطرا بعذر.
ويندب لهما إذا أكلا ألّا يأكلا إلّا عند من يعرف عذرهما لخوف التهمة.
وإذا قدم المسافر، وهو صائم، أو برىء المريض وهو صائم، ففي جواز إفطاره وجهان.
أحدهما: أنه يجوز لهما الفطر، وبه قال ابن أبي هريرة لأنه أبيح لهما الفطر من أوّل النهار، فجاز لهما الإفطار في بقيّة النّهار، كما لو دام السّفر والمرض.
وثانيهما: لا يجوز لهما الإفطار، وهو قول القاضي أبي الطيّب وجمهور الأصحاب لأنه زال سبب الرّخصة قبل الترخص. واعلم أنّه لا يباح الفطر في شهر رمضان بسبب من الأسباب المتقدمة، ألّا إذا نوى المفطر الترخص بفطره، بأن يقصد أن الشارع رخّص له الفطر، وذلك ليحصل الفرق، والتمييز بين الفطر الجائز والفطر الممتنع.
فلو أفطر بدون النّيّة المذكورة حرم عليه الفطر، وأثم به.
(١) وأما قراءة نافع وابن عامر، فهي «فدية طعام مساكين»، وحجتهما في الإضافة أولا: أن الفدية غير الطعام، وأن الطعام إنما هو المفدى به الصوم، لا الفدية، فإذا كان كذلك فالصواب في القراءة إضافة الفدية إلى الطعام.
وحجة الجمع أيضا: قوله قبلها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، ثم قال: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قالوا: إنما عرف عباده حكم من أفطر الأيام التي كتب عليهم صومها بقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فإذا كان ذلك كذلك فالواجب أن تكون القراءة في «المساكين» على الجمع لا على التوحيد، ويكون تأويل الآية: وعلى الذين يطيقونه فدية أيام يفطر فيها إطعام مساكين، ثم تحذف «أياما» وتقيم «الطعام» مكانها.
ينظر: «حجة القراءات» (١٢٤، ١٢٥)، «السبعة» (١٧٦)، و «والكشف» (١/ ٢٨٢)، و «الحجة للقراء السبعة» (٢/ ٢٧٣)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٩١)، و «معاني القراءات» (١/ ١٩٢)، و «شرح شعلة» (٢٨٤، ٢٨٥)، و «العنوان» (٧٣)، و «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٤٣٠).
376
الناس مَنْ أراد أن يصوم، صام، ومن أراد أن يفطر أطعم مسكيناً، وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «١» [البقرة: ١٨٥]. وقالت فرقة: الآية في الشيوخ الذي يطيقونه بتكلُّف شديدٍ «٢»، والآيةُ عند مالك: إِنما هي فيمَنْ يدركه رمضانٌ ثانٍ، وعليه صومٌ من المتقدِّم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوْمَ، فتركه، والفديةُ عند مالك وجماعةٍ من العلماء: مُدٌّ لكلِّ مسكين.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ... الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره:
المراد مَنْ أطعم مسكينَيْنِ فصاعدًا «٣»، وقال ابن شِهَابٍ «٤» : من زاد الإطعام مع
(١) أخرجه الطبري (٢/ ١٣٩) برقم (٢٧٤٧)، وقال أحمد شاكر في «عمدة التفاسير» (٣/ ٤٢١) :«عمر بن المثنى» هكذا في المطبوعة، وأنا أرجح أن يكون صوابه «محمد بن المثنى»، شيخ الطبري الذي يروي عنه كثيرا. ولم أجد من يسمى «عمر بن المثنى» إلا رجلا واحدا في «التهذيب»، و «لسان الميزان»، على أنه من التابعين ثم لم أجترئ على تصحيحه هذا، لاحتمال أن يكون من شيوخ الطبري الذين لم نجد تراجمهم.
عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي.
عبد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عرف بلقب «العمري» وهو ثقة مترجم في «التهذيب»، وابن أبي حاتم (٢/ ٢/ ١٠٩- ١١٠)، ومن المحتمل أن يكون في المطبوعة خطأ، وأن يكون صوابه «عبيد الله» بالتصغير، وهو أخو عبد الله أكبر منه، وأوثق عند أئمة الجرح والتعديل، وهو أحد الفقهاء السبعة. مترجم في «التهذيب»، وابن أبي حاتم (٢/ ٢/ ٣٢٦- ٣٢٧)، وهو وأخوه يشتركان في كثير من الشيوخ، منهم: «نافع مولى ابن عمر»، وإنما ظننت هذا الاحتمال لأن الحديث مروي من حديث «عبيد الله».
فرواه البيهقي في «السنن الكبرى» (٤/ ٢٠٠)، من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. ورواه البخاري مختصرا (٤/ ١٦٤، ٨/ ١٣٦) من طريق عبد الأعلى، وهو ابن عبد الأعلى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر.
ورواه البيهقي أيضا من أحد طريقي البخاري.
والحديث صحيح بكل حال. اهـ.
وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٣٢٥)، وعزاه لوكيع، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة في «المصنف»، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «سننه». وذكره ابن عطية (١/ ٢٥٢)، عن ابن عمر، والشعبي، وسلمة بن الأكوع، وابن شهاب، ومعاذ بن جبل، وعلقمة، والنخعي، والحسن البصري.
(٢) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٥٢).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ١٤٨) برقم (٢٨٠٢) عن ابن عباس بلفظ: «فزاد طعام مسكين آخر»، وذكره ابن عطية (١/ ٢٥٣)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٢٧)، عن طاوس بلفظ: «إطعام مساكين»، وعزاه لعبد بن حميد. اهـ.
(٤) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة القرشي، -
377
الصوم «١»، وقال مجاهدٌ: مَنْ زاد في الإِطعام على المدّ «٢»، وخَيْراً الأول قد نُزِّل منزلة مالٍ، أو نفعٍ، وخَيْرٌ الثاني والثالثُ صفةُ تفضيلٍ.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يقتضي الحضَّ على الصوْمِ، أي: فاعلموا ذلك وصوموا.
ت: وجاء في فضل الصومِ أحاديثُ صحيحةٌ مشهورةٌ، وحدث أبو بكر بْنُ الخَطِيبُ بسنده عن سهل بن سعد الساعديّ «٣» عن النبي صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْماً تَطوُّعاً، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الجَنَّةِ» «٤»، قال: وبهذا الإِسناد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم بمثله. انتهى «٥».
- الزهري، أبو بكر المدني، أحد الأئمة الأعلام وعالم الحجاز والشام. عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس، ومحمود بن الربيع، وابن المسيّب وخلق. وعنه أبان بن صالح، وأيوب، وإبراهيم بن أبي عبلة، وجعفر بن برقان، وابن عيينة، وابن جريج، والليث، ومالك وأمم. قال ابن المديني: له نحو ألفي حديث. قال ابن شهاب: ما استودعت قلبي شيئا فنسيته. وقال الليث: ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب. وقال أيوب: ما رأيت أعلم من الزهري، وقال مالك: كان ابن شهاب من أسخى الناس وتقيّا، ما له في الناس نظير. قال إبراهيم بن سعد: مات سنة أربع وعشرين ومائة.
ينظر: «تهذيب الكمال» (٣/ ١٢٦٩)، و «تهذيب التهذيب» (٩/ ٤٤٥)، و «تقريب التهذيب» (٢/ ٢٠٧)، و «خلاصة تهذيب الكمال» (٢/ ٤٥٧)، و «الكاشف» (٣/ ٩٦)، و «تاريخ البخاري الكبير» (١/ ٢٢٠)، و «تاريخ البخاري الصغير» (١/ ٥٦، ٣٢٠)، و «الجرح والتعديل» (٨/ ٣١٨).
(١) أخرجه الطبري (٢/ ١٤٩) برقم (٢٨١٣)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٥٣). [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ١٤٩) برقم (٢٨١٤)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٥٣)، والبغوي في «التفسير» (١/ ١٥٠).
(٣) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب.
أبو العباس. وقيل: أبو يحيى، الأنصاري، الساعدي.
قال ابن الأثير في «الأسد» : شهد قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المتلاعنين، وأنه فرق بينهما، وكان اسمه حزنا، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم سهلا. قال الزهري: رأى سهل بن سعد النبي صلّى الله عليه وسلم وسمع منه، وذكر أنه كان له يوم توفي النبي صلّى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة. توفي سنة (٨٨) وله (٩٦) سنة.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٢/ ٤٧٢)، «الإصابة» (٣/ ١٤٠)، «الكاشف» (١/ ٤٠٧)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٢٤٤)، «الثقات» (٣/ ١٦٨)، «الاستيعاب» (٢/ ٦٦٤)، «تهذيب الكمال» (١/ ٥٥٥)، «تهذيب التهذيب» (٤/ ٢٥٢)، «تقريب التهذيب» (١/ ٣٣٦)، «الجرح والتعديل» (٤/ ٨٥٣)، «شذرات الذهب» (١/ ٦٣)، «الرياض المستطابة» (١١٠)، «الأعلام» (١/ ١٤٣).
(٤) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١/ ٢٧٨)، عن سهل بن سعد الساعدي.
(٥) ينظر المصدر السابق.
378
قال ابن عبد البَرِّ في كتابهِ المسمَّى ب «بهجةِ المَجالِسِ» قال أبو العالية: الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتَبْ.
قال الشيخُ الصالحُ أبو عبد اللَّه محمَّد البلاليُّ الشافعيُّ في «اختصاره للإحياء» : وذكر السُّبْكِيُّ «١» في شرحه أن الغِيبَةَ تمنع ثوابَ الصوْمِ إِجماعاً، قال البلاليُّ: وفيه نظر لمشقَّة الاحتراز، نعم، إِن أكثر، توجَّهت المقالة. انتهى، وهذا الشيخ البلاليُّ لقيتُهُ، ورويتُ عنه كتابه هَذَا.
وصحَّ عنه صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ» «٢» قال أبو عمر في «التمهيد» «٣» : وذلك لأن الصوْمَ جُنَّةٌ يستجنُّ بها العَبْدُ من النار، وتُفْتَحُ لهم أبواب الجنة لأن أعمالهم تزكو فيه، تقبل منهم، ثم أسند أبو عمر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ قَبْلَهَا: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِم أَطْيَبُ/ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الملائكة حتّى ٤٥ أيفطروا، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّائِمُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ المَئُونَةَ، والأذى، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَيْكِ، وَتُصَفَّدُ «٤» فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلاَ يَخْلُصُونَ إلى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، ويَغْفِرُ لَهُمْ آخِرَ لَيْلَةٍ، قيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ القدر؟
(١) علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، الأنصاري، الخزرجي، الشيخ الإمام الفقيه، المحدث، الحافظ، المفسر، المقرئ، الأصولي، المتكلم، النحوي، اللغوي، الأديب الحكيم، المنطقي، الجدلي، الخلافي، النظار، شيخ الإسلام، قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ولد بسبك من أعمال الشرقية في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة. قال ابن الرفعة: إمام الفقهاء ومصنفاته تزيد على المائة والخمسين. توفي في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وسبعمائة.
ينظر: «ابن قاضي شهبة» (٣/ ٦٠٣)، و «الدرر الكامنة» (٣/ ٥٨) و «شذرات الذهب» (٦/ ١٨٧).
(٢) أخرجه البخاري (٤/ ١٣٥) كتاب «الصوم»، باب هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان، حديث (١٨٩٨، ١٨٩٩)، ومسلم (٢/ ٧٥٨)، كتاب «الصيام»، باب فضل شهر رمضان، حديث (١، ٢/ ١٠٧٩)، والنسائي (٤/ ١٢٦- ١٢٧)، كتاب «الصيام»، باب فضل شهر رمضان، وأحمد (٢/ ٣٥٧، ٤٠١)، والدارمي (٢/ ٢٦)، كتاب «الصوم»، باب في فضل شهر رمضان، وابن حبان (٣٤٣٤)، والبيهقي (٤/ ٢٠٢) كتاب «الصيام»، باب ما روي في كراهية قول القائل: جاء رمضان، وذهب رمضان. والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٤٤٦- بتحقيقنا)، من حديث أبي هريرة مرفوعا.
(٣) ينظر: «التمهيد» (١٦/ ١٥٣).
(٤) صفده يصفده صفدا وصفودا وصفّده: أوثقه، وشدّه وقيّده في الحديد وغيره، وكذلك التصفيد.
ينظر: «لسان العرب» (٢٤٥٧).
379
قَالَ: لاَ، ولَكِنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يوفى أَجْرَهُ إِذَا انقضى» «١»، قال أبو عمر: وفي سنده أبو المِقْدام، فيه ضعف، ولكنَّه محتملٌ فيما يرويه من الفضائل.
وأسند أبو عمر عن الزهري، قال: «تسبيحة في رمضان أفضل من ألفِ تسبيحةٍ في غيره». انتهى.
ت: وخرَّجه الترمذيُّ عن الزهري قال: «تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ أفضل من ألف تسبيحة في غيره» «٢». انتهى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٥]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: الشَّهْرُ: مشتقٌّ من الاشتهار.
قال ص: الشهر مصْدَرُ: شَهَر يَشْهر، إِذا ظهر، وهو اسم للمدَّة الزمانيَّة، وقال الزجَّاج: الشَّهْر: الهلالُ، وقيل: سمِّي الشهْرُ باسمِ الهلالِ. انتهى.
ورَمَضَانُ: عَلِقَهُ هذا الاسمُ من مُدَّة كان فيها في الرَّمَضِ، وشدَّة الحَرِّ، وكان اسمه قبل ذلك نَاثراً «٣».
واختلف في إنزال القرآن فيه، فقال الضَّحَّاك: أنزل في فَرْضِهِ، وتعظيمِهِ، والحضِّ
(١) أخرجه أحمد (٢/ ٢٩٢)، والبزار (١/ ٤٥٨- كشف) رقم (٩٦٣)، من طريق هشام بن زياد، عن محمد بن محمد بن الأسود، عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال البزار: لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعا، إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم، وليس هو بالقوي في الحديث.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣/ ١٤٣)، وقال: رواه أحمد، والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ضعيف. اهـ.
وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (٩٣٢)، وعزاه لأحمد بن منيع في «مسنده».
(٢) ذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٣٤١)، عن الزهري، وعزاه للأصبهاني.
(٣) الصواب كما في «اللسان» (٤٣٣٧) «ناتقا»، قال ابن منظور: «وناتق: شهر رمضان»، وحكاه عن ابن سيده وغيره.
380
عليه «١»، وقيل: بدىء بنُزُوله فيه علَى النبيِّ صلّى الله عليه وسلم وقال ابنُ عبَّاس فيما يؤثر: أنزل إِلى السماء الدنيا جملةً واحدةً ليلةَ أربعٍ وعشرينَ من رمضان، ثم كان جبرئيل ينزله رِسْلاً رِسْلاً في الأوامر، والنواهي، والأسباب «٢»، وروى واثلة بن الأسقع عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْهُ، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين» «٣».
وهُدىً في موضع نصبٍ على الحال من القُرآن، فالمراد أن القرآن بجملته مِنْ مُحْكَمٍ ومتشابِهٍ وناسخٍ ومنسوخٍ- هُدًى ثم شُرِّفَ، بالذِّكْر، والتخصيصِ البيناتُ منه، يعني:
الحلالَ والحرامَ والمواعظَ والمُحْكَمَ كلّه، فالألفُ واللامُ في الهدى للعهْدِ، والمراد الأول.
قال ص: هُدىً: منصوبٌ على الحال، أي: هادياً، فهو مصدرٌ وضع موضعَ اسم الفاعلِ، وذو الحال القُرآن، والعاملُ «أنزل». انتهى.
والْفُرْقانِ: المفرّق بين الحق والباطل، وشَهِدَ: بمعنى حَضَر، والتقدير:
مَنْ حضر المِصْرَ في الشَّهْر، فالشهر نصْبٌ على الظرف.
وقوله سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
قال مجاهد، والضَّحَّاك: اليُسْر: الفِطْر في السفر، والعسر: الصوم في السفر «٤».
ع «٥» : والوجْهُ عمومُ اللفظِ في جميع أمورِ الدينِ، وقد فسر ذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ». «٦»
قلتُ: قال ابْنُ الفاكهانيِّ في «شرح الأربعينَ» للنَّوويِّ: فإِن قلْتَ: قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً... [الشرح: ٦] الآيةَ: يدلُّ على وقوع العسر قطعا، وقوله تعالى:
(١) ذكره ابن عطية في «التفسير» (١/ ٢٥٤).
(٢) ذكره ابن عطية في «التفسير» (١/ ٢٥٤).
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٤٣) وعزاه لابن جرير الطبري. [.....]
(٤) أخرجه أحمد (٤/ ١٠٧) من حديث واثلة، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٢٠٢)، وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط»، وفيه عمران بن داود القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. وبقية رجاله ثقات.
(٥) ذكره ابن عطية في «التفسير» (١/ ٢٥٥).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٥).
381
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ يدلُّ على نفي العسرِ قطعاً لأن ما لا يريده تعالى، لا يكون بإجماع أهل السنة، قلْتُ: العسرُ المنفيُّ غير المثبت، فالمنفيُّ: إنما هو العسر في الأحكام، لا غير، فلا تعارض. انتهى.
وترجم البخاريُّ في «صحيحه» قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا»، وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَاليُسْرَ عَلَى النَّاسِ. ثم أسند هو ومسلمٌ عن أنس، قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يسروا ولا ٤٥ ب تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلاَ تْنَفِّرُوا» «١» وأسند البخاريُّ ومسلم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم/ أنه قال لأبِي موسى، ومعاذٍ «٢» :«يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا» «٣». قال البخاريُّ: حدَّثنا أبو النعمان «٤»، قال:
(١) أخرجه البخاري (١/ ١٩٦) كتاب «العلم»، باب ما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة، حديث (٦٩)، (١٠/ ٥٢٤) كتاب «الأدب»، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسّروا» حديث (٦١٢٥)، وفي «الأدب المفرد» رقم (٤٦٩)، ومسلم (٣/ ١٣٥٩) كتاب «الجهاد والسير»، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير، حديث (٨/ ١٨٣٤). وأحمد (٣/ ١٣١، ٢٠٩)، وأبو يعلى (٧/ ١٨٧) رقم (٤١٧٢)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٣١٥- بتحقيقنا)، من طريق أبي التياح عن أنس مرفوعا.
(٢) هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أديّ بن علي بن أسد بن ساردة... أبو عبد الرحمن، الخزرجي، الأنصاري. ثم الجشمي.
هو من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد روى عنه من الصحابة عمر، وابنه عبد الله، وأبو قتادة، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو ليلى الأنصاري، ومن التابعين جنادة بن أبي أمية، وعبد الرحمن بن علم وأبو إدريس وغيرهم. توفي قيل: في طاعون «عمواس» سنة (١٨ أو ١٧) وله (٣٨) سنة وقيل: (٣٣)، وقيل: (٣٤).
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٥/ ١٩٤)، «الإصابة» (٦/ ١٠٦)، «الثقات» (٣/ ٣٦٨)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ٨٠)، «بقي بن مخلد» (٢٦)، «الاستيعاب» (٣/ ١٤٠٢)، «الاستبصار» (٤٨، ٧١، ١٢٦)، «شذرات الذهب» (١/ ٣٠، ٦٢، ٦٣)، «الجرح والتعديل» (٨/ ٤٤)، «غاية النهاية» (٢/ ٣٠١)، «العبر» (١/ ٧٨)، «تهذيب التهذيب» (١٠/ ١٨٦)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٣٣٨)، «سير أعلام النبلاء» (١/ ٤٤٣)، «المصباح المضيء» (١/ ٦٦)، «الأعلام» (٧/ ٢٥٨)، «الطبقات الكبرى» (٩/ ١٨٤).
(٣) أخرجه البخاري (٧/ ٦٦٠)، كتاب «المغازي»، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، حديث (٤٣٤٥)، ومسلم (٣/ ١٣٥٩)، كتاب «الجهاد والسير»، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير، وأحمد (٤/ ٤٠٩).
(٤) تصحف في المطبوعة إلى «أبو اليمان»، وأبو النعمان هو: محمد بن الفضل السّدوسي، أبو النّعمان البصري، الحافظ الملقب ب «عارم». عن الحمّادين، ومهدي بن ميمون، ووهيب بن خالد، وخلق.
وعنه البخاري، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن يحيى، وعبد بن حميد وخلق. اختلط عارم. قال أبو حاتم: ثقة، من سمع منه قبل سنة عشرين ومائتين، فسماعه جيد. قال عاصم بن عمر المقدّمي: مات ستة أربع وعشرين ومائتين.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٤٤٩)، و «تهذيب التهذيب» (٩/ ٤٠٢)، و «الكاشف» (٣/ ٨٩)، و «التقريب» (٢/ ٢٠٠)، و «المغني» (٥٩٠٣).
382
حدَّثنا حمَّاد بْنُ زَيْدٍ «١»، عن الأزرقِ بْن قَيْسٍ «٢». قال: «كُنَّا على شَاطِىءِ نَهْرٍ بِالأَهْوَاز «٣» قَدْ نَضَبَ عَنْهُ المَاءُ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ «٤» على فَرَسٍ، فصلى وخلى فَرَسَهُ، فانطلق الفَرَسُ فَتَرَكَ صَلاَتَهُ، وَتَبِعَهَا حتى أَدْرَكَهَا، فَأَخَذَهَا، ثُمَّ جَاءَ، فقضى صَلاَتَهُ، وفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ: انظروا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، تَرَكَ صَلاَتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ، فَأَقْبَلَ، فَقَالَ: مَا عَنَّفَنِي أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: وَقَالَ: إِنَّ مَنْزِلِي مْنْزَاحٌ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ، لَمْ آتِ أَهْلِي إِلَى اللَّيْلِ، وذكَر أنّه قد صحب النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فرأى من تَيْسِيرِهِ «٥». انتهى.
وقوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ: معناه: ولْيُكْمِلْ من أَفْطَرَ في سفره، أو في مرضه عدَّةَ الأيام التي أفطر فيها.
(١) حماد بن زيد بن درهم الأزدي، أبو إسماعيل الأزرق، البصري، الحافظ، مولى جرير بن حازم، وأحد الأعلام. عن أنس بن سيرين، وثابت، وعاصم بن بهدلة، وابن واسع، وأيوب وخلق كثير. وعنه إبراهيم بن أبي عبلة، والثوري، وابن مهدي، وأبو الرّبيع الزّهراني وابن المديني وخلائق. قال ابن مهدي: ما رأيت أحفظ منه، ولا أعلم بالسنة، ولا أفقه ب «البصرة» منه. وقال أحمد: من أئمة المسلمين. قال خالد بن خداش: توفي سنة سبع وتسعين ومائة عن إحدى وثمانين سنة.
ينظر: «الخلاصة» (١/ ٢٥١)، و «تهذيب التهذيب» (٣/ ٩)، و «التقريب» (١/ ١٩٧)، و «الكاشف» (١/ ٢٥١)، و «الثقات» (٦/ ٢١٧).
(٢) أزرق بن قيس الحارثي بلحارث بن كعب بصري. عن أبي برزة وعبد الله بن عمرو وأنس. وعنه الحمّادان وشعبة، ووثقه النسائي. قال الذهبي: بقي إلى حدود العشرين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (١/ ٦٤)، و «تهذيب التهذيب» (١/ ٢٠٠)، و «التقريب» (١/ ٥١)، و «الكاشف» (١/ ١٠٢)، و «الثقات» (٤/ ٦٢).
(٣) أصله أحواز جمع «حوز» أبدلته الفرس لأنه ليس في كلامهم حاء، وكان اسمها في أيام الفرس «خوزستان». وقيل: اسمها هرمز شهر، وأهل هذه البلاد بأسرها يقال لهم الحوز. ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ١٣٥).
(٤) أبو برزة الأسلمي. قال ابن الأثير في «الأسد» : اختلف في اسمه واسم أبيه وأصح ما قيل فيه: نضلة بن عبيد قاله أحمد بن حنبل وابن معين، وقال غيرهما: نضلة بن عبد الله ويقال: نضلة بن عابد، وقال الخطيب أبو بكر عن الهيثم بن عدي: اسم أبي برزة خالد بن نضلة. نزل البصرة وله بها دار وسار إلى خراسان فنزل مرو وعاد إلى البصرة.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٦/ ٣١)، «الإصابة» (٦/ ٢٣٧)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ١٥١)، «بقي بن مخلد» (١٢٣)، «الاستيعاب» (٤/ ١٦١٠)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٢٩٤)، «تهذيب التهذيب» (٢/ ٢٠)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٥٨٠)، «المصباح المضيء» (١/ ٢٠٨)، «التاريخ الصغير» (١/ ١٢٨)، «الكنى والأسماء» (١٩)، «التاريخ لابن معين» (٢/ ١٥١)، «التاريخ الكبير» (٩/ ٩٢)، تبصير المنتبه» (٤/ ١٤٧٢).
(٥) أخرجه البخاري (١٠/ ٥٤١)، كتاب «الأدب»، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يسّروا ولا تعسروا» حديث (٦١٢٧).
383
وقوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ حضٌّ على التكبير في آخر رمضان.
قال مالكٌ: وهو من حينِ يَخْرُجُ الرجلُ من منزله إِلى أنْ يخرج الإِمامُ إلى المصلى، ولفظه عند مالك وجماعةٍ من العلماء: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ ثلاثاً.
ومن العلماء من يكبِّر، ويهلِّل، ويسبِّح أثناء التكبيرِ، ومنهم من يقول: اللَّه أكبر كبيراً، والحمدُ للَّهِ كَثيراً، وسبحانَ اللَّهِ بُكْرةً وأصيلاً، وقيل غير هذا. والجميعُ حسن واسع مع البداءة بالتكبير.
وهَداكُمْ: قيل: المرادُ: لِمَا ضَلَّ فيه النصارى من تبديلِ صيامِهِمْ، وتعميمُ الهدى جيدٌ.
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ترجٍّ في حق البَشَر، أي: على نعم اللَّه في الهدى.
ص: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علَّةَ الترخيصِ والتيسيرِ، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المسلك انتهى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٦]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
وقوله جلَّ وعلا: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ... الآيةَ.
قال الحسنُ بْنُ أبي الحَسَن: سببُها أن قوما قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيَهُ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ»، فنزلتِ الآية «١».
وأُجِيبُ: قال قومٌ: المعنى: أجيبُ إِن شئْتُ، وقال قوم: إِن اللَّه تعالى يجيب كلَّ الدعاء، فإِما أن تظهر الإِجابةُ في الدنيا، وإما أن يكفِّر عنه، وإِما أن يُدَّخَرَ له أجرٌ في الآخرة، وهذا بحَسَب حديثِ «الموطَّإِ»، وهو: «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلاَّ كَانَ بين إحدى ثلاث... » «٢» الحديث.
(١) أخرجه الطبري (٢/ ١٦٥) برقم (٢٩١٣)، وقال شاكر في «عمدة التفاسير» (٣/ ٤٨١) :«وهذا الإسناد صحيح إلى الحسن، ولكن الحديث ضعيف لأنه مرسل لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة».
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره (١/ ٧٣)، وابن كثير (١/ ٢١٨).
(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (١/ ٢١٨). كتاب «القرآن»، باب العمل في الدعاء حديث (٤١). [.....]
384
ت: وليس هذا باختلاف قولٍ.
قال ابن رُشْدٍ في «البيان» : الدعاءُ عبادةٌ من العبادات يؤْجر فيها الأجر العظيم، أَجيبَتْ دعوته فيما دعا به، أو لم تُجَبْ، وهأنا أنقل، إِن شاء اللَّه، من صحيح الأحاديث في هذا المَحَلِّ ما يَثْلَجُ له الصَدْرُ، وعن أنسٍ- رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم:
«لاَ تَعْجِزُوا عَنِ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ» رواه الحاكم أبو عبد اللَّه في «المُسْتَدْرَكِ» على الصحيحين، وابن حِبَّانَ في «صحيحه»، واللفظ له، وقال الحاكم:
صحيحُ الإِسناد «١»، وعن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ:
سِلاَحُ المُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ»
رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيحٌ «٢»، وعن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ- رضي اللَّه عنهما- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «يَدْعُو اللَّهُ بِالمُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ: عَبْدِي، إِنِّي أَمَرْتُكَ أَنْ تَدْعُونِي، وَوَعَدْتُّكَ أَنْ أَسْتَجِيبَ لَكَ، فَهَلْ كُنْتَ تَدْعُونِي، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، / فَيَقُولُ: أما إنّك لم ٤٦ أتدعني بِدَعْوَةٍ إِلاَّ استجبت لَكَ، أَلَيْسَ دَعَوْتَنِي يَوْمَ كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عَنْكَ فَفَرَّجْتُ عَنْكَ؟! فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَوْتَنِي يوم كذا وكذا لغم نزل بك، أن أُفَرِّجَ عَنْكَ، فَلَمْ تَرَ فَرَجاً؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: إِنِّي ادخرت لَكَ بِهَا فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا [و] كَذَا وَكَذَا، وَدَعَوْتَنِي فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَقَضَيْتُهَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَوْتَنِي فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ، فَلَمْ تَرَ قَضَاءَهَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ:
إِنِّي ادخرت لَكَ فِي الجَنَّةِ كذا وكذا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فَلاَ يَدَعُ اللَّهُ دَعْوَةً دَعَا بِهَا عَبْدُهُ المُؤْمِنُ إِلاَّ بَيَّنَ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ ادخر لَهُ فِي الآخِرَةِ، قَالَ:
فَيَقُولُ المُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ المَقَامِ: يَا لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ عُجِّلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ دُعَائِهِ»
، رواه الحاكم في «المستدرك» «٣».
(١) أخرجه ابن حبان (٣/ ١٥٢- ١٥٣) رقم (٨٧١)، والحاكم (١/ ٤٩٣- ٤٩٤)، من طريق عمر بن محمد الأسلمي، عن ثابت عن أنس مرفوعا.
(٢) أخرجه الحاكم (١/ ٤٩٢)، وابن عدي في «الكامل» (٦/ ٢١٨١)، وأبو يعلى (١/ ٣٤٤) رقم (٤٣٩).
كلهم من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي مرفوعا. وليس عن أبي هريرة كما ذكره المؤلف. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي، والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ١٥٠)، وقال: رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد، وهو متروك.
(٣) أخرجه الحاكم (١/ ٤٩٤)، وأبو نعيم في «الحلية» (٦/ ٢٠٨)، من طريق الفضل بن عيسى، عن-
385
وعن ثَوْبَانَ- رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يَرُدُّ القَدَرِ إِلاَّ الدُّعَاءُ»، رواه الحاكمُ في «المُسْتَدْرَكِ»، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه»، واللفظ للحاكمِ، وقال: صحيحُ الإِسناد «١».
قلت: وقد أخرج ابن المبارك في «رقائقه» هذا الحديثَ أيضاً، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عبد اللَّه بن عيسى عن عبد اللَّه بن أبي الجَعْد «٢»، عن ثوبان «٣»، قال: قال رسول
- محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا.
وقال الحاكم: هذا حديث تفرد به الفضل بن عيسى الرقاشي، ومحله محل من لا يتهم بالوضع، ووافقه الذهبي، والفضل بن عيسى، قال الحافظ في «التقريب» : متروك.
(١) أخرجه ابن ماجة (٢/ ١٣٣٤)، كتاب «الفتن»، باب العقوبات حديث (١٠٢٢)، وأحمد (٥/ ٢٧٧، ٢٨٠، ٢٨٢)، والحاكم (١/ ٤٩٣)، وابن أبي شيبة (١٠/ ٤٤١- ٤٤٢)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤/ ١٦٩)، وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (٢/ ١٠)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (٨٣١)، من حديث ثوبان مرفوعا.
قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان.
(٢) عبد الله بن أبي الجعد الأشجعي. عن ثوبان. وعنه عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى. له عند كل منهما فرد حديث. وثقه ابن حبان. ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٤٦).
(٣) هو: ثوبان بن بجدد. مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قال ابن الأثير في «الأسد» : هو من «حمير» من «اليمن»، وقيل: هو من سعد العشيرة من «مذحج»، أصابه سباء، فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأعتقه، وقال له: «إن شئت أن تلحق بمن أنت منهم، وإن شئت أن تكون منا أهل البيت». فثبت على ولاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يزل معه سفرا وحضرا إلى أن توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرج إلى الشام فنزل إلى «الرملة» وابتنى بها دارا، وابتنى ب «مصر» دارا، وب «حمص» دارا، وتوفي بها سنة (٥٤).
روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث ذوات عدد.
روى عنه شداد بن أوس، وجبير بن نفير، وأبي إدريس الخولاني، وأبي سلام ممطور الحبشي، ومعدان بن أبي طلحة، وأبي الأشعث الصنعاني، وأبي أسماء الرحبي، وغيرهم.
قال البرقي: روي عنه نحو من خمسين حديثا.
توفي ب «حمص» سنة (٥٤).
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٢٩٦)، «الإصابة» (١/ ٢١٢)، «الثقات» (٣/ ٤٨)، «الاستيعاب» (١/ ٢١٨)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٧)، «العبر» (١/ ٥٩)، «در السحابة» (٧٥٩)، «صفة الصفوة» (٦٧٠)، «الحلية» (١/ ٣٥٠)، «التحفة اللطيفة» (١/ ٤٠١)، «الوافي بالوفيات» (١١/ ٢١)، «التاريخ الكبير» (٢/ ١٨١)، «الجرح والتعديل» (٢/ ٤٦٩)، «تنقيح المقال» (١٥٧٨)، «الزهد» لوكيع (١٤٠)، «بقي بن مخلد» (٣٤)، «تهذيب الكمال» (١/ ١٧٦، ٤/ ٤١٣)، «تهذيب التهذيب» (٢/ ٣١)، «تقريب التهذيب» (١/ ١٢٠)، «مشاهير علماء الأمصار» (٣٢٤).
386
الله صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» «١». انتهى.
وعن عائشةَ- رضي اللَّه عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مَنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإنَّ البَلاَءَ لَيَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ، فَيَعْتَلِجَانِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» رواه الحاكم في «مستدركه»، وقال: صحيحُ الإِسناد «٢»، وقوله «فَيَعْتَلِجَانِ»، أي: يتصارعان.
وعن سَلْمَانِ»
- رضي اللَّه عنه- قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ عِنْدَ الكُرَبِ، وَالشَّدَائِدِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ»، رواه الحاكمُ أيضاً، وقال: صحيحُ الإِسناد «٤»، وعن ابْنِ عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من فتح له في
(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٢٩) رقم (٨٦).
(٢) أخرجه الحاكم (١/ ٤٩٢)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٨/ ٤٥٣)، وابن الجوزي في «العلل» (٢/ ٣٥٩)، من طريق زكريا بن منظور، عن عطاف بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وتعقّبه الذهبي فقال: زكريا بن منظور مجمع على ضعفه.
وقال ابن الجوزي: لا يصح، قال يحيى: زكريا ليس بثقة، وقال الدارقطني: متروك.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ١٤٩)، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط»، والبزار، وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات.
(٣) هو: سلمان بن الإسلام. وسلمان الخير، وسلمان الفارسي. أبو عبد الله. مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
كان اسمه قبل الإسلام: مابه بن بوذخشان بن مورسلان بن بهبوذان بن فيروز بن سهرك، من ولد آب الملك.
وأول مشاهده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخندق، ولم يتخلف عن مشهد بعد الخندق، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدرداء.
ومما ذكر في مناقبه قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: عليّ وعمار، وسلمان»، كان سلمان من خيار الصحابة وزهادهم وفضلائهم وذي القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. روى عنه ابن عباس، وأنس، وعقبة بن عامر، وأبو سعيد، وكعب بن عجرة، وأبو عثمان النهدي. وغيرهم.
توفي سنة (٣٥) آخر خلافة عثمان.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٢/ ٤١٧)، «الإصابة» (٣/ ١١٣)، «الاستيعاب» (٢/ ٦٣٤)، «الاستبصار» (١٢٥)، «الرياض المستطابة» (١٠٢)، «حلية الأولياء» (٦/ ٣٦٧)، «الطبقات الكبرى» (٩/ ٨٤)، «صفة الصفوة» (١/ ٥٢٣)، «التاريخ الكبير» (٤/ ١٣٤)، «التاريخ الصغير» (١/ ٧١)، «تاريخ بغداد» (١/ ١٦٣)، «الكاشف» (١/ ٣٨٢)، «تاريخ جرجان» (٦٤، ١٣٨)، «التحفة اللطيفة» (١٦٧).
(٤) أخرجه الحاكم (١/ ٥٤٤)، من طريق عبد الله بن صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن أبي عامر الألهاني، عن أبي هريرة مرفوعا. -
387
الدُّعَاءِ مِنْكُمْ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ» «١»، قال الغَزَّالِيُّ- رحمه اللَّه- في كتابِ «الإِحياء» :
«فإِن قلت: فما فائدة الدعاء، والقضاء لا يرد؟ فاعلمْ أنَّ من القضاءِ رَدَّ البلاء بالدعاءِ، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاء، واستجلابٌ للرحمة كما أن التُّرْس سبب لردِّ السهم، ثم في الدعاءِ من الفائدة أنه يستدْعِي حضورَ القَلْب، مع اللَّه عزَّ وجلَّ، وذلك منتهى العبادَاتِ، فالدعاء يردّ القلب إلى الله عز وجلّ بالتضرُّع والاستكانةِ»، فانظره، فإِني اثرت الاختصار، وانظر «سِلاَحَ المُؤْمن» الذي منه نقلْتُ هذه الأحاديثَ.
ومن «جامع الترمذيِّ». عن أبي خُزَامَةَ «٢»، واسمه رفاعة، عن أبيه، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر اللَّهُ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيحٌ «٣».
وانظر جوابَ عمر لأبي عُبَيْدة «نَعَمْ، نَفِرُّ من قدر اللَّه إِلى قدر اللَّه » الحديث هو من هذا المعنى. انتهى، والله الموفق بفضله.
٤٦ ب وقوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي/ قال أبو رجاء الخُرَاسانِيُّ «٤» : معناه: «فَلْيَدْعُونِي».
قال ع «٥» : المعنى: فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو بابُ «استفعل»، أي: طلب
- وقال الحاكم: صحيح الإسناد، احتج البخاري بابن صالح. وأبو عامر الألهاني أظنه الهوزني، وهو صدوق. ووافقه الذهبي.
وأخرجه الترمذي (٣٣٨٢)، من طريق شهر بن حوشب، عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي:
غريب.
(١) أخرجه الحاكم (١/ ٤٩٨).
وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: المليكي ضعيف.
(٢) أبو خزامة. ذكره المؤلف (رحمنا الله وإياه) بغير نسبة، قال ابن الأثير: كان يسكن «الجناب»، وهي أرض عذرة. له صحبة، عداده من أهل «الحجاز». روى عن عطاء بن يسار.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٦/ ٨٨)، و «الإصابة» (٧/ ٥١)، و «بقي بن مخلد» (٣١٩). [.....]
(٣) أخرجه الترمذي (٤/ ٣٩٩- ٤٠٠)، كتاب «الطب»، باب ما جاء في الرقى والأدوية، حديث (٢٠٦٥)، وابن ماجة (٢/ ١٣٧)، كتاب «الطب»، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، حديث (٣٤٣٧).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(٤) عبد الله بن واقد بن الحارث، الحنفي، أبو رجاء الهروي. عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، وأبي هارون العبدي. وعنه إسحاق بن منصور السّلولي. وثقه أحمد وابن معين. ينظر: «الخلاصة» (٢/ ١٠٨).
(٥) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٦).
388
الشيء إِلا ما شَذَّ مثل: استغنى اللَّهُ.
وقال مجاهد وغيره: المعنى: فليجيبوا لي فيما دعوتهم إِلَيْه من الإِيمان، أي:
بالطاعة، والعملِ «١».
فائدةٌ: قال صاحب «غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأَعْظَم» وهو إِمام عارفٌ «٢» بعلْمِ الحديث، وكتابه هذا يَشْهَدُ له، قال: ذكر الدِّينَوَرِيُّ «٣» في «كتاب المُجَالَسَة»، عن ليثِ بنِ سُلَيْمٍ أن رجلاً وقَفَ على قوم، فقال: مَنْ عنده ضيافةٌ هذه الليلةَ، فسكَتَ القومُ، ثم عاد، فقالَ رجُلٌ أعمى: عندي، فذَهَبَ بِهِ إلى منزله، فعشَّاه، ثم حدَّثه ساعةً، ثم وضع لهُ وَضُوءاً، فقام الرجُلُ في جَوْف اللَّيْلِ، فتوضَّأ، وصلى ما قُضِيَ له، ثم جَعَلَ يدعو، فانتبه الأعمى، وجَعَلَ يسمع لدْعَائِهِ، فقال: اللَّهُمَّ، ربَّ الأرواحِ الفانيةِ، والأجسادِ الباليةِ، أسألُكَ بطَاعَةِ الأرواحِ الرَّاجعَةِ إلى أجسادها، وبطاعةِ الأَجْسَادِ الملتئمَةِ في عروقها، وبطاعة القُبُور المتشقِّقة عن أهلها، وبدَعْوتِكَ الصادقةِ فيهم، وأخذِكَ الحقَّ منهم، وتبريز الخلائقِ كلِّهم من مخافَتِكَ ينتظرُونَ قضاءَكَ، ويرْجُون رحمتَكَ، ويخافُونَ عذابَكَ، أَسأَلُك أنْ تَجْعَلَ النُّور في بَصَري، والإِخلاصَ في عَمَلِي، وشُكْرَكَ في قَلْبِي، وذِكْرَكَ في لِسَانِي في الليلِ والنهارِ، ما أبقيتَنِي، قال: فَحَفِظَ الأعمى هذا الدعاءَ، ثم قَامَ، فَتَوضَّأ، وصلى ركعتَيْنِ، ودعا به فأصْبَحَ قدْ رَد اللَّهُ عليه بَصَرَهُ. انتهى من «غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأعظَم»، وإِطلاَقُ الفناءِ على الأرواحِ فيه تجوُّز، والعقيدةُ أن الأرواح باقيةٌ لا تفنى، وإِنَّما عبر عن مفارقتها لأجسادها بالفَنَاءِ، هذا هو مراده.
وروى ابنُ المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إِنَّ القُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، وَبَعْضُهَا أوعى مِنْ بَعْضٍ، فادعوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، حِينَ تَدْعُونَ، وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ» «٤». انتهى.
(١) أخرجه الطبري (٢/ ١٦٦) برقم (٢٩٢١) بلفظ: قوله: «فليستجيبوا لي» قال: فليطيعوا لي. قال:
«الاستجابة» الطاعة، وذكره ابن عطية (١/ ٢٥٦).
(٢) وهو الشيخ تاج الدين علي بن محمد بن الدريهم الموصلي، المتوفى سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وكتابه هذا ذكره حاجي خليفة بعنوان «غاية المغنم في الاسم الأعظم»، وذكر عنه أنه أورد فيه من الأحاديث وأقوال العلماء. ينظر: «كشف الظنون» (١١٩٤).
(٣) «المجالسة» - لأحمد بن مروان الدينوري المالكي، المتوفى سنة ٣١٠ عشرة وثلاثمائة، ضمّنه من كتب الأحاديث والأخبار ومحاسن النوادر والآثار، ومنتفى الحكم والأشعار، وانتخب منه بعضهم وسماه «نخبة المؤانسة من كتاب المجالسة». ينظر: «كشف الظنون» (٢/ ١٥٩١).
(٤) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (٢/ ٢١).
389
قال ابن عطاء الله في «لطائف المنن» : وإِذا أراد اللَّه أن يعطِيَ عبداً شيئاً وهبه الاضطرار إِلَيْهِ فيه، فيطلبه بالاِضطرارِ، فيعطى، وإِذا أراد اللَّه أن يمنع عبداً أمراً، منعه الاضطرَار إِلَيْه فيه، ثم منعه إِياه، فلا يُخَافُ علَيْكَ أن تضطرَّ، وتطلب، فلا تعطى، بل يُخَافُ عليك أنْ تُحْرَمَ الاضطرارَ، فتحرم الطَّلَب، أو تَطْلُب بغير اضطرارٍ، فتحرم العطاء.
انتهى.
وقوله سبحانه: وَلْيُؤْمِنُوا بِي، قال أبو رجاءٍ: في أنَّني أجيبُ دعاءهم، وقال غيره: بل ذلك دعاءٌ إِلى الإِيمان بجملته.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٨]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ... الآيةَ: لفظة أُحِلَّ تقتضي أنه كان محرَّماً قبل ذلك «١»، ولَيْلَةَ: نصب على الظّرف.
والرَّفَثُ: كناية عن الجِمَاع لأن اللَّه تعالى كريمٌ يُكَنِّي قاله ابن عَبَّاس «٢» وغيره، والرَّفَثُ في غير هذا: ما فَحُشَ من القول، وقال أبو إِسْحَاق «٣» : الرَّفَثُ: كلُّ ما يأتيه الرجُلُ، مع المرأة من قُبْلةٍ، ولَمُسٍ «٤».
ع «٥» : أو كلامٍ في هذا المعنى، وسببُ هذه الآيةِ فيما قال ابن عَبَّاس وغيره: إِن جماعةً من المسلمين اختانوا أنفُسَهُم، وأصابوا النِّسَاء بعد النّوم، أو بعد صلاة العشاء على
(١) ينظر: «تفسير الرازي» (٥/ ٨٨- ٨٩).
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ١٦٧- ١٦٨) برقم (٢٩٢٨)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٣/ ١٧٩) برقم (١٣٢٣٠). وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٥٦)، والبغوي في «التفسير» (١/ ١٥٦).
(٣) «معاني القرآن» (١/ ٢٥٥)، ولفظه: الرّفث: كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة.
وينظر: «عمدة الحفاظ» (٢/ ١١٤).
(٤) ذكره ابن عطية في «التفسير» (١/ ٢٥٧).
(٥) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٧).
390
الخلافِ في ذلك، منْهم عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب: جاء إِلى امرأته، فأرادها/، فقالَتْ له قد نمت، ٤٧ أفظنّ أنها تَعْتَلُّ بذلك، فوقع بها، ثم تحقَّق أنها قد كانت نامَتْ، وكان الوطْءُ بعد نَوْمِ أحدهما ممنوعاً، فذهب عُمَرُ، فاعتذر عنْدَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنَزَلَ صدْرُ الآية «١»، وروي أن صِرْمَةَ بْنَ قَيْسٍ «٢» نام قَبْل الأكْلِ، فبقي كذلك دُونَ أكْلٍ، حتى غُشِيَ علَيْهِ في نهارِهِ المُقْبِلِ، فنَزَلَ فيه مَنْ قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا «٣».
واللِّبَاسُ: أصله في الثِّيَاب، ثم شبه التباس الرَّجُلٍ بالمرأةِ بذلك.
وتَابَ عَلَيْكُمْ، أي: من المعصية التي وقعتم فيها.
قال ابنُ عبَّاس وغيره: بَاشِرُوهُنَّ كنايةٌ عن الجماعة، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ «٤» اللَّهُ لَكُمْ.
قال ابن عبَّاس وغيره: أي: ابتغوا الوَلَدَ «٥»، قال الفَخْر «٦» والمعنى: لا تباشروهن لقضاء الشهوة فقطْ، ولكنْ لابتغاء ما وَضَعَ اللَّه له النِّكاح من التناسُلِ، قال- عليه
(١) أخرجه الطبري في «التفسير» (٢/ ١٧٠- ١٧١ رقم (٢٩٤٣، ٢٩٤٨، ٢٩٤٩)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٥٧)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٥٧)، وعزاه إلى أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم بسند حسن، عن كعب بن مالك.
(٢) صرمة بن قيس بن مالك، النجاري، الأوسي، أبو قيس: شاعر جاهلي، عمر طويلا، وترهب، وفارق الأوثان في الجاهلية. وكان معظما في قومه. أدرك الإسلام في شيخوخته، وأسلم عام الهجرة.
ينظر: «الأعلام» (٣/ ٢٠٣)، و «الإصابة» ت (٤٠٥٦)، و «الروض الأنف» (٢/ ٢١). [.....]
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ١٧٠- ١٧١- ١٧٣) برقم (٢٩٤٥، ٢٩٤٧، ٢٩٥٧).
وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٥٧)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٥٨)، وعزاه إلى وكيع، وعبد بن حميد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
(٤) أخرجه الطبري في «التفسير» (٢/ ١٧٤) رقم (٢٩٦١)، (٢٩٦٦).
وذكره ابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٥٩)، وعزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.
(٥) أخرجه الطبري في «التفسير» (٢/ ١٧٥)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٥٧)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٥٩)، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٦) «التفسير الكبير» (٥/ ٩٢).
391
السلام-: «تَنَاكَحُوا، تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ» «١» انتهى.
(١) أخرجه ابن ماجه (١/ ٥٩٩)، كتاب «النكاح»، باب تزويج الحرائر والولود، حديث (١٨٦٣)، من طريق طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «انكحوا فإني مكاثر بكم».
وقال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ٧٣) : هذا إسناد ضعيف لضعف طلحة بن عمرو المكي الحضرمي اهـ.
وطلحة بن عمرو: قال عمرو بن علي: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. وقال أحمد: لا شيء متروك الحديث.
وقال البخاري: ليس بشيء.
وقال النسائي: متروك الحديث.
وكذلك ضعفه ابن حبان وغيره.
وله لفظ آخر بإسناد آخر: أخرجه أبو داود (٢/ ٥٤٢)، كتاب «النكاح»، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، حديث (٢٠٥٠)، والنسائي (٦/ ٦٠- ٦٦)، كتاب «النكاح»، باب كراهية تزويج العقيم، والحاكم (٢/ ١٦٢)، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٦٢)، من حديث معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم».
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وأخرجه أيضا ابن حبان (١٢٢٩- موارد)، والبيهقي (٧/ ٨١)، كتاب «النكاح»، باب استحباب التزويج بالودود الولود.
وأخرجه أحمد (٣/ ١٥٨، ٢٤٥)، وسعيد بن منصور (١/ ١٦٤) رقم (٤٩٠)، وابن حبان (١٢٢٨- موارد)، والبيهقي (٧/ ٨١- ٨٢)، كتاب «النكاح»، باب استحباب التزوج بالودود الولود، والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (٦٧٥)، وأبو نعيم في «الحلية» (٤/ ٢١٩)، من حديث أنس بلفظ: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء».
وصححه ابن حبان.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤/ ٢٦١)، وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط»، وإسناده حسن.
وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (٦/ ٢١٤٧)، ومن طريقه البيهقي (٧/ ٧٨)، من حديث أبي أمامة بلفظ:
«تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى».
وفيه محمد بن ثابت البصري، وهو ضعيف قاله الحافظ في «التقريب» (٢/ ١٤٨).
وأخرجه ابن ماجة (١/ ٥٩٢)، كتاب «النكاح»، باب ما جاء في فضل النكاح، حديث (١٨٤٦)، من طريق عيسى بن ميمون، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء».
قال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ٦٥) : هذا إسناد ضعيف لضعف عيسى بن ميمون اهـ.
وضعفه الحافظ ابن حجر في «تلخيصه» (٢/ ١٠٢)، وقال: ضعيف. -
392
وقيل: المعنى: ابتغوا ليلةَ القَدْرِ.
وقيل: ابتغوا الرُّخْصَة، والتوسعَةَ قاله قتادة، وهو قول حَسَنٌ».
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ... الآيةُ: نزلت بسبب صرمة بن قيس، وحَتَّى: غايةٌ للتبيُّن، ولا يصحُّ أن يقع التبيُّن لأحد، ويحرم عليه الأكل إِلا وقدْ مَضَى لطُلُوع الفجْرِ قدْرٌ، والخيط استعارةٌ وتشبيه لرقَّة البياضِ أولاً، ورقَّةُ السوادِ إِلحاقٌ به، والمرادُ فيما قال جميع العلماء «٢» : بياضُ النهارِ، وسوادُ الليل.
ومِنَ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والْفَجْرِ: مأخوذ من تَفَجُّر الماء لأنه ينفجر شيئاً بعد شيْء، وروي عن سَهْل بن سعدٍ وغيره من الصحَابة أن الآية نزلَتْ إِلا قوله: مِنَ الْفَجْرِ، فصنع بعض الناسِ خَيْطَيْنِ، أَبْيَضَ وأسْوَدَ، فنزَلَ قوله تعالى: مِنَ الْفَجْرِ «٣».
ع «٤» : ورُوِيَ أنَّهُ كَانَ بَيْنَ طرفَيِ المُدَّة عام من رمضان إلى رمضان تأخّر
وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١٢/ ٣٧٧)، من حديث ابن عمر بلفظ: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة».
وأخرجه عبد الرزاق (٦/ ١٧٣) رقم (١٠٣٩١) عن سعيد بن أبي هلال مرسلا.
والحديث صححه الألباني في «الصحيحة» برقم (١٧٨٢).
(١) أخرجه الطبري (٢/ ١٧٦) برقم (٢٩٨٧). وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٥٧)، وابن عطية من «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٧- ٢٥٨).
والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٥٩)، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «الطبري» (٣/ ٥٠٩)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٨)، و «الرازي» (٥/ ٩٤)، و «الوسيط» (١/ ٢٨٧)، و «بحر العلوم» (١/ ١٨٦).
(٣) أخرجه البخاري (٤/ ١٥٧) كتاب «الصوم»، باب قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. حديث (١٩١٧). ومسلم (٢/ ٧٦٧) كتاب «الصيام»، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره، حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك، حديث (٣٤/ ١٠٩١).
والنسائي (٦/ ٢٩٧) (الكبرى)، كتاب «التفسير»، باب قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ. حديث (١١٠٢٢/ ٢).
والطبري في «التفسير» (٢/ ١٨٧) رقم (٢٩٩٨)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٥٨)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٦٠)، وعزاه إلى البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٨).
393
البيان «١» إِلى وقت الحاجة، وعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ جعل خيطين على وساده، وأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم
(١) تأخر البيان إلى وقت الحاجة: بادىء ذي بدء أقول: هناك حالان لكل ما يحتاج إلى تأخير بيان، من عام، ومجمل، ومجاز، ومشترك، وفعل متردد ومطلق:
الحال الأول: أن يتأخر عن وقت الحاجة، وهو الوقت الذي إن أخر البيان عنه لم يتمكن المكلّف من المعرفة بما تضمنه الخطاب، وهذا يكون في كل ما كان واجبا على الفور، كالإيمان، ورد الودائع.
وقد حكى أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه.
الحال الثاني: أن يؤخر عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل، وذلك في الواجبات التي ليست على الفور، ويكون فيما لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة، أو له ظاهر وقد استعمل في خلافه، كتأخير بيان التخصيص، وتأخير بيان النسخ، ونحوه.
وقد اختلف العلماء في هذا القسم على مذاهب:
الأول: الجواز مطلقا، وعليه عامة العلماء من الفقهاء والمتكلمين، كما قال ابن برهان. ومنهم ابن فورك، والقاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني، ونقلوه عن ابن سريج، والإصطخري، والقفال، وكثير من علماء الشافعية. ونقل عن الشافعي- كما قال الزركشي في «البحر».
وقد اختاره الرازي في «المحصول»، وابن الحاجب، وقال الباجي: عليه أكثر أصحابنا. وحكاه القاضي عن مالك.
واستدلوا بآيات، منها قوله سبحانه: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: ١٨- ١٩].
وهناك حوادث كثيرة جدا- كما يقول الشوكاني- وقع البيان لها بعد السّنة.
المذهب الثاني: المنع مطلقا، ونقل عن أبي إسحاق المروزي، والصيرفي، وأبي حامد المروزي، والدقاق، ومن المالكية: الأبهري.
قال القاضي: وهو قول المعتزلة، وكثير من الحنفية، وابن داود الظاهري، ونقله القشيري عن داود.
وقد استدل هؤلاء بما لا طائل تحته، قالوا: لو جاز ذلك فإما أن يجوز إلى مدة معينة أو إلى الأبد، وكلاهما باطل، أما إلى المدة المعينة فلكونه تحكما، ولكونه لم يقل به أحد. وأما إلى الأبد فلكونه يلزم المحذور، وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم.
وأجيب عنهم: باختيار جوازه إلى مدة معينة يعلمها الله، وهو الوقت الذي يعلم أنه يكلف به فيه فلا تحكم.
المذهب الثالث: جوازه في المجمل دون غيره، وحكي عن الصيرفي وأبي حامد المروزي.
المذهب الرابع: جوازه في العموم، وحكي عن عبد الجبار، وحكاه الروياني والماوردي وجها لأصحاب الشافعي.
المذهب الخامس: جوازه في الأوامر والنواهي، لا في الأخبار، وحكي عن الكرخي وبعض المعتزلة.
المذهب السادس: عكسه. حكاه الشيخ أبو إسحاق، ولم ينسبه إلى أحد.
المذهب السابع: جوازه في النسخ دون غيره، ذكره أبو الحسين البصري، وأبو علي، وأبو هاشم، وعبد الجبار.
المذهب الثامن: التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك فلا يجوز، وما له ظاهر كالعام فيجوز.
المذهب التاسع: أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا ولا تغييرا، جاز مقارنا وطارئا، وإن كان تغييرا جاز مقارنا، ولا يجوز طارئا. نقله ابن السمعاني عن أبي زيد من الأحناف.
394
فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ» «١».
واختلف في الحدِّ الذي بتبيُّنه يجبُ الإِمساك، فقال الجمهورُ، وبه أخذ الناس، ومضَتْ عليه الأمصار والأعصار، ووردتْ به الأحاديثُ الصِّحَاحُ: إِنه الفَجْر المُعْتَرِضُ في الأُفُقِ يَمْنَةً ويَسْرَةً، فبطلوعِ أوله في الأفق يجبُ الإمساكُ، وروي عن عثمانَ بن عفَّان، وحذيفةَ بن اليَمَانِ، وابن عبَّاس وغيرهم أن الإِمساك يجبُ بتبيُّن الفَجْر في الطُّرُق، وعلى رءوس الجبالِ «٢»، وذكر عن حُذَيفة أنه قال: «تسحّرت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَهُوَ النَّهارُ إِلاَّ أنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ» «٣».
ومن أكل، وهو يشكُّ في الفجر، فعليه القضاء عند مالك.
وقوله سبحانه: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أمر يقتضي الوجوب، وإِلى:
غايةٌ، وإِذا كان ما بعدها من جنْسِ ما قبلها، فهو داخلٌ في حكمه، وإِذا كان من غير جنْسه، لم يدخلْ في المحدودِ، والليلُ: الذي يتم به الصيامُ: مَغِيبُ قرص الشمسِ، فمن أفطر شاكًّا في غروبها، فالمشهورُ من المَذْهَب أنَّ عليه القضاءَ والكفَّارةَ.
وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «ثَلاَثةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، والإِمَامُ العَادِلُ، ودَعْوَةُ المَظْلُومِ، يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ تعالى: وَعِزَّتِي، لأَنْصُرَنَّكِ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» رواه الترمذيُّ/، وابن ماجة، وابن حِبَّان
- والمذاهب الثمانية الأخيرة ضعيفة كما أشار إلى ذلك الشوكاني، قال رحمه الله: وأنت إذا تتبعت موارد هذه الشريعة المطهرة وجدتها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاء ظاهرا واضحا لا ينكره من له أدنى خبرة بها وممارسة لها.
ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٣/ ٤٩٣)، «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ١٦٦)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ٢٨)، «نهاية السول» (٢/ ٥٤٠)، «زوائد الأصول» للأسنوي (ص ٣٠٤)، «منهاج العقول» (٢/ ٢٢٠)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (ص ٨٦)، «التحصيل من المحصول» للأرموي (١/ ٤٢٩)، «المنخول» للغزالي (ص ٦٨)، «المستصفى» له (١/ ٣٦٨)، «حاشية البناني» (٢/ ٦٩)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٣/ ١٢١)، «حاشية العطار لجمع الجوامع» (٢/ ١٠٢)، «المعتمد» لأبي الحسين (١/ ٣١٤)، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (١/ ٨١)، «حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى» (٢/ ١٦٤). وينظر: «كشف الأسرار» (٣/ ١٠٨)، «المسودة» (١٨١)، «شرح العضد» (٢/ ١٦٤).
(١) تقدم تخريجه.
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ١٧٩) برقم (٣٠٠٢)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٨). [.....]
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ١٨١) برقم (٣٠١٩)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٥٨).
395
في «صحيحه»، وقال الترمذيُّ: واللفظ له حديثٌ حسنٌ، ولفظ ابن ماجة: «حتى يُفْطِرَ» «١». انتهى من «السّلاح».
وعنه صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَّا تُرَدُّ»، رواه ابنُ السُّنِّيِّ «٢». انتهى من «حِلْيَة النوويِّ» «٣».
وعنه صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ». رواه البخاريُّ ومسلم. انتهى «٤».
وروى ابنُ المبارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا حمَّاد بن سَلَمَةَ، عن واصل «٥» مولى أبي عيينة، عن لقيط أبِي المُغيرَةِ، عن أبي بُرْدَة «٦» : أنَّ أبا موسى الأشعريّ كان في سفينة
(١) أخرجه الترمذي (٥/ ٥٣٩)، كتاب «الدعوات»، باب «في العفو والعافية»، حديث (٣٥٩٨)، وابن ماجة (١/ ٥٥٧)، كتاب «الصيام»، باب في الصائم لا ترد دعوته، حديث (١٧٥٢)، والبيهقي (٣/ ٣٤٥)، كتاب «صلاة الاستسقاء»، باب استحباب الصيام للاستسقاء لما يرجى من دعاء الصائم، (٨/ ١٦٢)، كتاب «قتال أهل البغي»، باب فضل الإمام العادل، و (١٠/ ٨٨)، كتاب «آداب القاضي»، باب فضل من ابتلي بشيء من الأعمال، فقام فيه بالقسط، وقضى بالحق، وابن حبان كما في «موارد الظمآن» (٣/ ١٩٨)، باب دعوة الصائم وغيره، حديث (٨٩٤)، والطيالسي (١/ ٢٥٥)، حديث (١٢٦٤)، وأحمد (٢/ ٣٠٤- ٣٠٥)، من حديث أبي هريرة بلفظ: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر... » وقال الترمذي: «هذا حديث حسن».
(٢) أخرجه ابن ماجة (١/ ٥٥٧)، كتاب «الصيام»، باب في الصائم لا ترد دعوته، حديث (١٧٥٣)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (٤٨٢)، من طريق عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا.
وقال البوصيري في «الزوائد» : إسناده صحيح.
(٣) «حلية» النووي (ص ٢٢٤).
(٤) تقدم تخريجه.
(٥) واصل الأسدي مولى أبي عيينة بن المهلّب. عن ابن بريدة، والضّحّاك. وعنه حمّاد بن زيد، وعبّاد بن عبّاد. وثقه ابن معين. ينظر: «الخلاصة» (٣/ ١٢٦).
(٦) هو: عامر بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب...
أبو بردة. الأشعري. مشهور بكنيته كأخيه. قال ابن حجر في «الإصابة» : قال البغوي: سكن «الكوفة».
وروى حديثه أحمد، والحاكم من طريق عاصم الأول عن كريب بن الحارث بن أبي موسى عن عمه أبي بردة قال: قال رسول الله: «اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن والطاعون».
وله ذكر في حديث آخر من طريق يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى عن جده أبي موسى قال:
خرجنا من اليمن في بعض وخمسين رجلا من قومنا ونحن ثلاثة إخوة: أبو موسى، وأبو بردة، وأبو رهم، فأخرجتنا سفينة إلى النجاشي. أخرجه البغوي من هذا الوجه.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٦/ ٢٩)، «الإصابة» (٧/ ١٧)، «الثقات» (٣/ ٤٥١)، «تجريد أسماء-
396
في البَحْر مرفوعٍ شراعُها، فإِذا رجُلٌ يقول: يأَهْلَ السفينةِ، قِفُوا سبْعَ مرارٍ، فقلْنا: ألا ترى على أيِّ حالٍ نحْنُ، ثم قال في السابعة، قِفُوا أخبرْكُمْ بقضاءٍ قضاه اللَّه على نَفْسِهِ أنَّه من عَطَّشَ نَفْسَهُ للَّهِ في يومٍ حارٍّ من أيامِ الدُّنْيَا شديدِ الحَرِّ، كان حقًّا على اللَّه أنْ يرويه يوم القيامة، فكان أبو موسى يبتغي اليَوْمَ الشَّديدَ الحَرِّ، فيصومه. انتهى.
قال يوسُفُ بن يَحْيَى التَّادِلِيُّ في «كتاب التشوُّف»، وخرَّج عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» عن هشامِ بنِ حَسَّان «١»، عن واصلِ بن لَقِيط، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسَى الأشعريِّ، قَالَ: «غَزَا النَّاسُ بَرًّا وبحراً، فكنْتُ ممَّن غَزَا في البَحْر، فبينما نحْنُ نسيرُ في البَحْر إِذ سمعنا صوتاً يقول: يأهل السفينة، قِفُوا أخبرْكُم، فنظرنا يميناً وشَمالاً، فلم نر شيئاً إِلا لُجَّةَ البحر، ثم نادى الثانيةَ حتى نادى سبْعَ مراتٍ، يقول كذلك، قال أبو موسى: فلما كانَتِ السابعةُ، قُمْتُ، فقُلْتُ: ما تخبرنا؟ قال: أخبركم بقضاءٍ قضاه اللَّه على نَفْسِهِ أنَّ من عَطِشَ للَّه في يوم حَارٍّ، أنْ يرويه اللَّه يوم القيامة» «٢»، وذكره ابن حَبِيب في «الواضحة» بلفظ آخر. انتهى.
قال ابن المبارك: وأخبرنا أبو بكر بن أبي مَرْيَم الغَسَّانيّ «٣»، قال: حدَّثني ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ «٤»، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ بَاباً، وإِنَّ بابَ العبادة الصيام» «٥». انتهى.
- الصحابة» (٢/ ١٥١)، «بقي بن مخلد» (٨٨٣)، «الاستيعاب» (٤/ ١٦٠٨)، «التاريخ الكبير» (١/ ٢١١)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٥٧٩)، «تهذيب التهذيب» (١٢/ ١٨)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٣٩٤)، «تعجيل المنفعة» (٤٦٨)، «الاستبصار» (٢٣٨)، «الجرح والتعديل» (٩/ ٤٣٦)، «الكاشف» (٣/ ٣١٢).
(١) هشام بن حسّان القردوسي الأزدي، مولاهم، أبو عبد الله البصري. أحد الأعلام. عن حفصة، ومحمد، وأنس بن سيرين، وطائفة. وعنه السفيانان والحمّادان. ضعفه القطان عن عطاء. وقال عباد بن منصور: ما رأيته عند الحسن قط، قال أبو حاتم: صدوق. قال مكي بن إبراهيم: مات سنة ثمان وأربعين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ١١٣).
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٢٩)، وعزاه للبيهقي.
(٣) أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغسّاني، الحمصي، اسمه: بكير، أو عبد السّلام. عن مكحول، وخالد بن معدان. وعنه إسماعيل بن عيّاش، وبقيّة. قال الحافظ أبو عبد الله: ضعيف. توفي سنة ست وخمسين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ٢٠٣).
(٤) ضمرة بن حبيب الزّبيدي، أبو عبيد الحمصي. عن أبي أمامة، وشدّاد بن أوس. وعنه ابنه عتبة، وأرطاة بن المنذر. وثقه ابن معين. ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٦).
(٥) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٥٠٠) رقم (١٤٢٣)، وهناد بن السري في «الزهد» (٢/ ٣٥٨) رقم (٦٧٩)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٠٣٢)، عن ضمرة بن حبيب مرسلا.
397
وروى البخاريُّ ومسلم في «صحيحيهما»، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ: إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، إِنَّمَا يَدَعُ شَهْوتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» «١». انتهى.
وقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ قالتْ فرقة: المعنى: ولا تجامعوهُنَّ، وقال الجمهور: ذلك يقع على الجِمَاعِ، فما دونه ممّا يتلذّذ به من النساء، وعاكِفُونَ، أيْ: مُلاَزِمُون، قال مالكٌ- رحمه اللَّه- وجماعةٌ معه: لا اعتكاف إلا في مساجد الجُمُعَاتِ «٢»، وروي عن مالكٍ أيضاً أنَّ ذلك في كل مسجدٍ، ويخرج إِلى الجُمُعة كما يخرج إِلى ضروريِّ أشغالِهِ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «٣» : وحرم اللَّه سبحانه المباشَرَةَ في المَسْجد وكذلك تحرم خارجَ المَسْجِدِ لأن معنى الآية، ولا تباشرُوهُنَّ وأنتم ملتزمون لِلاعتكاف في المساجد معتقدون له. انتهى. وتِلْكَ إِشارةٌ إِلى هذه الأوامر والنواهِي.
والحُدُودُ: الحواجزُ بيْن الإِباحة والحظر ومنه قيل للبوَّاب حَدَّاد لأنه يمنع ومنه الحَادُّ لأنها تُمنع من الزينة، والآيات: العلامات الهادية إلى الحق.
٤٨ أوقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ... الآية: الخطاب لأمة/ نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم ويدخلُ في هذه الآيةِ القِمَارُ، والخُدَعُ، والغُصُوب، وجَحْد الحُقُوق، وغَيْرُ ذلك.
وقوله سبحانه: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ... الآية: يقال: أَدْلَى الرَّجُلُ بحجّة، أو
(١) تقدم تخريجه. [.....]
(٢) لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد لقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ووجه الدلالة من الآية: أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به لأن الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها فدل على أنه لا يجوز إلا في المسجد، والأفضل أن يعتكف في المسجد الجامع لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد الجامع ولأن الجماعة في صلواته أكثر ولأنه يخرج من الخلاف، فإن الزهري قال: لا يجوز في غيره. وإن نذر أن يعتكف في مسجد غير الثلاثة، وهي المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد المدينة، جاز أن يعتكف في غيره لأنه لا مزية لبعضها على بعض فلم تتعين ويصح الاعتكاف في كل مسجد، والجامع أفضل، وأومأ الشافعي في القديم إلى اشتراط الجامع، والصواب جوازه في كل مسجد، ويصح في رحبته، وسطحه بلا خلاف، لأنهما منه.
ينظر: «الاعتكاف» لشيخنا أحمد خليفة جبر.
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٩٦).
398
بأمْر يرجُو النَّجاح به، تشبيهاً بالذي يرسل الدَّلْو في البِئْر يرجُو بها الماءَ، قال قومٌ: معنى الآية: تُسَارعون في الأموال إِلى المخاصَمَة، إِذا علمْتم أنَّ الحُجَّة تقوم لكم إِمَّا بأن لا تكون على الجاحِدِ بيِّنة، أو يكون مالَ أمانةٍ كاليتيم ونحوه ممَّا يكون القول فيه قوله، فالباء في «بهاء» باءُ السبب «١»، وقيل: معنى الآية: تُرْشُوا بهَا على أكْل أكثر منْها، فالباء إِلزاقٌ مجرَّدٌ وهذا القول يترجَّح لأن الحكَّام مَظِنَّةُ الرُّشَا، إِلاَّ من عُصِمَ، وهو الأقل، وأيضاً، فإِن اللفظتين متناسبتَان.
تُدْلُوا: من إِرسال الدلْوِ، والرِّشْوَةُ: من الرِّشَاءِ كأنها يمدُّ بها لتقضي الحاجة.
والفريق: القطعة، والجزء.
وبِالْإِثْمِ أي: بالظلم.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: أنكم مبطلون.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٢]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
وقوله تعالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قال ابنْ عَبَّاس، وغيره: نَزلَتْ على سؤالِ قَوْمٍ من المسلمين النبيّ صلّى الله عليه وسلم عنِ الهِلاَلِ، وما فائدةُ مُحَاقِهِ، وكمالِهِ، ومخالفته لحال الشمس «٢».
ومَواقِيتُ أي: لمحَلِّ الدُّيون، وانقضاءِ العِدَدِ والأَكْرِيَةِ، وما أشبه، هذا من مصالحِ العبادِ، ومواقيت للحَجِّ أيضاً: يعرف بها وقته وأشهره.
وقوله سبحانه: وَلَيْسَ الْبِرُّ... الآية: قال البَرَاء بن عَازِبٍ «٣»، والزهريّ،
(١) وقيل: إنها للتعدية، أي: لترسلوا بها إلى الحكام. ينظر: «الدر المصون» (١/ ٤٧٨).
(٢) أخرجه الطبراني في «تفسيره» (٢/ ١٨٩) رقم (٣٨٠)، وذكره البغوي (٢/ ١٦٠)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٦٨)، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(٣) هو: البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس... أبو عمرو. وقيل: أبو عمارة، وهو الأصح. الأوسي. الأنصاري.
قال ابن الأثير في «الأسد» :-
399
وقتادة: سببها أن الأنصار كانوا إِذا حَجُّوا، أو اعتمروا، يلتزمون تشرُّعاً ألاَّ يحول بينهم وبَيْن السماء حائلٌ، فكانوا يتسنَّمون ظهور بيوتِهِم على الجُدُرَاتِ «١»، وقيل: كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فُتُوحاً يدخلُون منْها، ولا يدخلون من الأبواب «٢»، وقيل غير هذا ممَّا يشبهه «٣».
وقوله تعالى:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآيةُ هي أول آية نزلَتْ في الأمر بالقتالِ.
قال ابن زَيْد، والربيعُ: قوله: وَلا تَعْتَدُوا أي: في قتالِ مَنْ لم يقاتلْكم، وهذه الموادَعَةُ منسوخةٌ بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «٤» [التوبة: ٣٦]، وقال ابن عبّاس وغيره:
- رده رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن «بدر» استصغره. وأول مشاهده «أحد»، وقيل: «الخندق». وغزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم أربع عشرة غزوة. وهو الذي افتتح الري سنة أربع وعشرين صلحا أو عنوة في قول أبي عمرو الشيباني.
وقال أبو عبيدة: افتتحها حذيفة. نزل «الكوفة» وابتنى بها دارا.
توفي في إمارة مصعب بن الزبير، وقيل: في سنة (٧٢).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٢٠٥)، «الإصابة» (١/ ١٤٧)، «الاستيعاب» (١/ ١٥٥)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٤٦)، «الطبقات الكبرى» (٢/ ٣٧٦)، «الأعلام» (٢/ ٤٦)، «التاريخ الكبير» (٢/ ١١٧)، «التاريخ الصغير» (١/ ٦)، «الجرح والتعديل» (٢/ ٣٩٩)، «تهذيب الكمال» (١/ ٢١٣٩)، «تهذيب التهذيب» (١/ ٤٢٥)، «تقريب التهذيب» (١/ ٩٤)، «تاريخ بغداد» (١/ ١٧٧)، «تاريخ ابن معين» (٢/ ١٤٧)، «بقي بن مخلد» (١٤)، «البداية والنهاية» (٨/ ٣٢٨)، «التحفة اللطيفة» (١/ ٣٦٤)، «الوافي بالوفيات» (١/ ١٠٤)، «الكاشف» (١/ ١٥١)، «الثقات» (٣/ ٢٦)، «عنوان النجابة» (٤٩).
(١) أخرجه الطبري (٢/ ١٩٤) برقم (٣٠٩٠)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦٠)، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٦٨)، وعزاه إلى الطيالسي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي المنذر، وابن أبي حاتم عن البراء.
وفي (١/ ٣٦٩)، عن الزهري، وعزاه لابن جرير.
والجدرة: حظيرة تصنع للغنم من حجارة. والجمع جدر.
والجديرة: زرب الغنم. والجديرة: كنيف يتخذ من حجارة يكون للبهم وغيرها. ينظر: «لسان العرب» (٥٦٦).
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ١٩٢) رقم (٣٠٨٢)، ورقم (٣٠٨٩). وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦٠)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦١)، عن البراء بن عازب، والزهري، وقتادة.
والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٦٩)، عن الزهري.
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ١٩٢/ ١٩٣/ ١٩٤) برقم (٣٠٨٢)، (٣٠٨٣) عن البراء، وبرقم (٣٠٨٩)، عن الزهري وبرقم (٣٠٩٠) عن قتادة، وذكره البغوي (١/ ١٦٠)، وابن عطية (١/ ٢٦١) عن البراء بن عازب، والزهري، وقتادة.
كما ذكره السيوطي (١/ ٣٦٨- ٣٦٩)، عن البراء بن عازب، وقتادة.
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ١٩٥) برقم (٣٠٩٥)، عن الربيع وبرقم (٣٠٩٦)، عن زيد.
وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦١)، عن الربيع.
وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٢)، عن ابن زيد، والربيع.
400
وَلا تَعْتَدُوا في قتْلِ النساءِ، والصبيانِ، والرهبانِ، وشبههم فهي مُحْكَمَةٌ «١».
وقوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ... الآية: قال ابْنُ إِسحاق وغيره: نزَلَتْ هذه الآيةُ في شأنِ عَمْرو بن الحَضْرَمِيِّ، وواقدٍ، وهي سَرِيَّةُ عبد اللَّه بن جَحْش «٢»، وثَقِفْتُمُوهُمْ معناه: أحكمتم غلبتهم، يقال: رَجُلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ، إِذا كان محكِماً لما يتناوَلُهُ من الأمور «٣».
وأَخْرِجُوهُمْ: خطاب لجميع المؤمنين، والضمير لكفار قريش.
والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، أي: الفتنةُ التي حملوكم علَيْها، ورامُوكم بِهَا على الرُّجوع إِلى الكفر- أشدُّ من القتْل، ويحتمل أن يكون المعنى: والفتنةُ، أي: الكفر والضَّلال الذي هم فيه أَشَدُّ في الحَرَمِ، وأعظم جُرْماً من القتل الَّذي عيَّروكم به في شأن ابْنِ الحَضْرَمِيِّ.
وقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ... الآية.
قال الجمهورُ «٤» : كان هذا ثُمَّ نُسِخَ، وقال مجاهد: الآية محكمةٌ «٥»، ولا يجوز قتال أحد، يعني: عند المسجد الحرام، إِلا بعد أن يقاتل.
قلت: وظاهر قوله صلّى الله عليه وسلم: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي» «٦» يقوي قول مجاهد، وهذا هو الراجح عند الإمام
(١) أخرجه الطبري (٢/ ١٩٦) برقم (٣١٠٠)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦١) من قول ابن عباس، ومجاهد، وذكره ابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٢)، عن ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد.
والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٧٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(٢) عبد الله بن جحش الأسدي بن رياب، ابن يعمر الأسدي. حليف بني عبد شمس. أحد السابقين.
قال ابن حبّان: له صحبة. وقال ابن إسحاق: هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا.
ودفن هو وحمزة في قبر واحد، وكان له يوم قتل نيف وأربعون سنة ينظر: «الإصابة» (٤/ ٣١، ٣٣).
(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٢).
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٥٦٧)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٣). [.....]
(٥) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦٢)، عن مجاهد، وجماعة، وابن عطية الأندلسي (١/ ٢٦٣) عن مجاهد.
(٦) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (٤٦، ٤٧)، كتاب «جزاء الصيد»، باب لا يحل القتال بمكة، -
401
الفَخْر «١»، وأنَّ الآية محكمةٌ، ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم. انتهى.
٤٨ ب قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «٢» وقد روى الأئمّة/ عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال يَوْمَ فَتْح مكَّة: «إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تعالى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تعالى إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهَا لأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» «٣».
فقد ثبت النهْيُ عن القتالِ فيها قُرآناً وسُنَّة، فإِن لجأ إِليها كافرٌ، فلا سبيل إِلَيْه، وأما الزانِي والقاتلُ، فلا بُدَّ من إِقامة الحَدِّ عليه إِلا أنْ يبتدىء الكافر بالقتَال فيها، فيقتل بنصِّ القرآن. انتهى.
وقرأ حمزة والكسائيّ «٤» :«وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حتى يَقْتُلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فاقتلوهم»، أي: فإِن قتلوا منْكم، والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام.
- حديث (١٨٣٤)، ومسلم (٢/ ٩٨٦، ٩٨٧)، كتاب «الحج»، باب تحريم مكة، وصيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، حديث (٤٤٥/ ١٣٥٣).
وأبو داود (٢/ ٦) كتاب «الجهاد»، باب في الهجرة هل انقطعت، حديث (٢٤٨٠)، والنسائي (٧/ ١٤٦) كتاب «الجهاد»، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة. والترمذي (٤/ ١٢٦) كتاب «السير»، باب ما جاء في الهجرة، حديث (١٥٩). والدارمي (٢/ ٢٣٩)، كتاب «السير»، باب لا هجرة بعد الفتح.
وعبد الرزاق (٥/ ٣٠٩) رقم (٩٧١٣). وابن الجارود (١٠٣٠). وابن حبان (٤٨٤٥- الإحسان)، والبيهقي (٥/ ١٩٥)، والطبراني في «الكبير» رقم (١٠٩٤٤)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٥٢٠- بتحقيقنا)، من طريق منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكره.
(١) ينظر: «التفسير الكبير» (٥/ ١١٣).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ١٠٦- ١٠٧).
(٣) ينظر الحديث السابق.
(٤) وحجة جمهور السبعة قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: ١٩٣].
وحجة أخرى، وهي: أن القتال إنما يؤمر به الأحياء، فأما المقتولون، فإنهم لا يقاتلون فيؤمروا به، وعلى قراءة الأخوين ظاهره أمر للمقتول بقتل القاتلين، وذلك محال.
وحجتهما: أن وصف المؤمنين بالقتل في سبيل الله أبلغ في الثناء، وأن المقصود: فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم، وحكى الفراء عن العرب أنهم يقولون: قتلنا بني فلان. وإنما قتلوا بعضهم.
واحتجا بأثر: «ولا تبدءوهم بالقتل حتى يبدءوكم به».
ينظر: «حجة القراءات» (١٢٨)، و «السبعة» (١٧٩)، و «الكشف» (١/ ٢٨٥)، و «الحجة» (٢/ ٢٨٤- ٢٨٥)، و «العنوان» (٧٣)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٩٤- ٩٦)، و «شرح شعلة» (٢٨٦)، و «إتحاف» (١/ ٤٣٣)، و «معاني القراءات» (١/ ١٩٥).
402

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٣ الى ١٩٥]

وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ: الفتنة: هنا الشِّرْك، وما تابعه من أذى المؤمنين. قاله ابن عبّاس وغيره «١».
والدِّينُ هنا: الطاعةُ، والشَّرْعُ، والانتهاءُ في هذا الموضع يصحُّ مع عموم الآية في الكفار أنْ يكون الدُّخُولَ في الإِسلام ويصحُّ أن يكون أداء الجزية.
وقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ... الآية: قال ابن عبَّاس وغيره: نزلَتْ في عمرة القَضِيَّةِ، وعامِ الحديبيَةِ سنَةَ ستٍّ، حين صدَّهم المشركون، أي: الشهرُ الحرام الذي غلّبكم الله فيه، وأدخلكم الحرام عليهم سنَةَ سَبْعٍ- بالشهر الحرامِ الذي صدُّوكم فيه، والحرمات قصاصٌ «٢».
وقالتْ فرقةٌ: قوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: مقطوعٌ مما قبله «٣»، وهو ابتداء أمر كان في أول الإِسلام أنَّ من انتهك حرمَتَكَ، نِلْتَ منه مثْلَ ما اعتدى عليك.
وَاتَّقُوا اللَّهَ: قيل: معناه في أَلاَّ تعتدوا، وقيل: في ألاَّ تزيدُوا على المثل.
وقوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ... الآية:
سبيلُ اللَّهِ هنا: الجهادُ، واللفظ يتناوَلُ بَعْدُ جميعَ سُبُلِهِ، وفي الصحيح أنَّ أبا أيُّوب الأنصاريَّ «٤» كان على القُسْطَنْطِينِيَّةِ، فحمل رجُلٌ على عَسْكَر العدُوِّ، فقال قومٌ: ألقى هذا بيده إِلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إِنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في الأنصار، حين أرادوا، لمَّا ظهر الإِسلام أن يتركوا الجهادَ، ويَعْمُروا أموالهم، وأما هذا، فهو الذي قال الله تعالى
(١) أخرجه الطبري (١/ ٢٠٠) برقم (٣١٢٤)، وذكره ابن عطية الأندلسي (١/ ٢٦٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٧١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي.
(٢) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦٣)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٣).
(٣) ذكره ابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٤).
(٤) خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، الأنصاري، النّجّاري، أبو أيوب المدني، شهد بدرا، والعقبة، وعليه نزل النبي صلّى الله عليه وسلم حين دخل المدينة. له مائة وخمسون حديثا.
ينظر: «الخلاصة» (١/ ٢٧٧).
403
فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «١» [البقرة: ٢٠٧].
وقال ابن عبَّاس، وحذيفةُ بْنُ اليَمَانِ، وجمهورُ الناس: المعنى: لا تُلْقُوا بأيديكم بأنْ تتركُوا النَّفَقَةَ في سَبِيلِ اللَّه، وتخافوا العَيْلَةَ «٢».
وَأَحْسِنُوا: قيل: معناه: في أعمالكم بامتثال الطَّاعات روي ذلك عن بعض الصحابة «٣»، وقيل: المعنى: وأحسنوا في الإِنفاق في سبيل اللَّهِ، وفي الصَّدَقَات، قاله زَيْدُ بْنُ أَسْلَم «٤»، وقال عِكْرِمَة: المعنى: وأحْسِنُوا الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ «٥».
ت: ولا شَكَّ أن لفظ الآية عامٌّ يتناول جميعَ ما ذكر، والمخصَّص يفتقر إِلى دليل.
فأما حُسْن الظن باللَّه سبحانه، فقد جاءَتْ فيه أحاديثُ صحيحةٌ، فمنها: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» «٦»، وفي «صحيح مسلم»، عن جابر، قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاثة ٤٩ أأيّام يَقُولُ: «لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» «٧» انتهى/.
وأخرج أبو بكر بن الخطيب، بسنده، عن أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ» «٨». انتهى.
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٥).
(٢) أخرجه الطبري في «التفسير» (٢/ ٢٠٧) رقم (٣١٥٥).
وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٦٤)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٧٤)، وعزاه إلى الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر.
(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٥). [.....]
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٢١٢) برقم (٣١٩٠)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٥).
(٥) أخرجه الطبري (٢/ ٢١٢)، رقم (٣١٨٩)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٧٥)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، عن عكرمة.
(٦) تقدم تخريجه.
(٧) أخرجه مسلم (٤/ ٢٢٠٤) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، حديث (٨١/ ٢٨٧٧)، من حديث جابر.
وابن ماجه (٢/ ١٢٩٥)، كتاب «الزهد»، باب «التوكل واليقين» رقم (٤١٦٧)، والبيهقي (٣/ ٣٧٨) كتاب «الجنائز»، باب المريض يحسن ظنه بالله- عز وجل- ويرجو برحمته»، وأحمد (٣/ ٢٩٣- ٣١٥- ٣٢٥- ٣٩٠)، وابن حبان (٢/ ٤٠٣)، كتاب «الرقاق»، باب ذكر الأمر للمسلم بحسن الظن بمعبوده، مع قلة التقصير في الطاعات رقم (٦٣٦)، (٢/ ٤٠٤، ٤٠٥)، كتاب «الرقاق»، باب حث المصطفى صلّى الله عليه وسلم على حسن الظن بمعبودهم جل وعلا، رقم (٦٣٨).
(٨) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٥/ ٣٧٧).
404
قال عبد الحَقِّ في «العاقبة» : أَمَّا حسْنُ الظنِّ باللَّهِ عزَّ وجلَّ عند الموت، فواجبٌ للحديث. انتهى.
ويدخل في عموم الآية أنواعُ المعروف قال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» «١»، قَالَ أبُو جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ «٢» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: «لاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئاً مِنَ المَعْرُوفِ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنْ تُفَرِّغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ المُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تلقى أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ» «٣»، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: «أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ» «٤»، وقال عليه الصلاة والسّلام: «إنّ لله
(١) أخرجه البخاري (١٠/ ٤٦٢) كتاب «الأدب»، باب كل معروف صدقة حديث (٦٠٢١)، ومسلم (٢/ ٦٩٧)، كتاب «الزكاة»، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف حديث (٥٢/ ١٠٠٥).
(٢) هو جابر بن سليم، وقيل: سليم بن جابر، جريّ الهجيمي مشهور بكنيته.
ينظر: «أسد الغابة» ت (٦٣٧)، «الاستيعاب» ت (٣٠٥)، «الثقات» (٣/ ٢٥٤)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٧١)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٣٩)، «الطبقات الكبرى» (١٧٩)، «تهذيب الكمال» (١/ ١٧٨)، «الوافي بالوفيات» (١١/ ٢٦)، «التاريخ الصغير» (١/ ١١٧)، «التاريخ الكبير» (٢/ ٢٠٥)، «الجرح والتعديل» (٢/ ٢٠٢٧)، «تبصير المنتبه» (٣/ ٩١٥)، «الإصابة» (١/ ٥٤٢).
(٣) أخرجه أبو داود (٢/ ٤٥٤)، كتاب «اللباس»، باب ما جاء في إسبال الإزار، حديث (٤٠٨٤)، وأحمد (٥/ ٦٣)، والحاكم (٤/ ١٨٦)، وابن حبان (٨٦٦- موارد).
(٤) أخرجه الطبراني في «الصغير» (١/ ٢٦٢- ٢٦٣)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (٣٠١)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٩/ ٣١٩) من طريق المسيب بن واضح، ثنا علي بن بكار، ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الطبراني: لم يروه عن هشام إلا علي، تفرد به المسيب، وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ٢٩٢) رقم (٢٣٨٠) : سألت أبي عن حديث رواه المسيب بن واضح، عن علي بن بكار، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة». قال أبي: هذا حديث منكر جدا اه.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧/ ٢٦٦)، وقال: رواه الطبراني في «الصغير»، و «الأوسط» بإسنادين في أحدهما يحيى بن خالد بن حيان الرقي، ولم أعرفه، ولا ولده أحمد، وفي الأخير المسيب بن واضح، قال أبو حاتم: يخطىء كثيرا. اه.
وفي الباب عن أبي موسى، وابن عمر، وعمر، وعلي، وسلمان، وأبي الدرداء، وابن عباس، وأبي أمامة، وقبيصة بن مرة.
حديث أبي موسى:
أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (١/ ٧٤) من طريق مؤمل بن إسماعيل، ثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري مرفوعا.
وقال الطبراني: لم يروه عن سفيان إلا مؤمل.
والحديث أخرجه الدارقطني في «العلل» (٧/ ٢٤٢- ٢٤٣)، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل-
405
- المتناهية» (٢/ ٥٠٨) رقم (٨٣٨)، من طريق مؤمل بن إسماعيل به.
وقال الدارقطني: هذا حديث يرويه عاصم الأحول، واختلف عنه، فرواه مؤمل عن الثوري، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى.
وخالفه هشام بن لاحق، رواه عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان، عن النبي صلّى الله عليه وسلم.
وغيرهما يرويه عن عاصم، عن أبي عثمان، عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا، وهو الصواب.
وقال ابن الجوزي: تفرد به مؤمل عن الثوري، فأسنده عن أبي موسى.
حديث ابن عمر:
أخرجه البزار (٣٢٩٥- كشف)، وابن عدي في «الكامل» (٥/ ٢٠٠١)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (٢/ ٥٠٦) رقم (٨٣٥)، من طريق خازم بن مروان. قال: حدثني ابن السائب عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ١٠٥) رقم (١٨٠٨) : قال أبي الحديث الذي روي عن عطاء بن السائب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أهل المعروف في الدنيا، أهل المعروف في الآخرة». قال أبي: هذا حديث باطل. اه.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧/ ٢٦٥)، وقال: رواه البزار، وفيه خازم أبو محمد قال أبو حاتم: مجهول.
حديث عمر:
قال الدارقطني في «العلل» (٢/ ٢٤٤- ٢٤٦) : يرويه عاصم بن سليمان الأحول، واختلف عنه، فرواه مؤمل عن الثوري عن عاصم عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ورواه هشام بن لاحق عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وكلاهما وهم، والصّواب ما رواه حماد بن زيد، وغيره عن عاصم عن أبي عثمان عن عمر من قوله غير مرفوع، ورواه علي بن مسهر، وغيره، عن عاصم عن أبي عثمان قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرسلا، حدثنا أبو علي المالكي، ثنا زيد بن أخرم، ثنا عبد القاهر بن شعيب قال:
ثنا هشام، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال: سمعت عمر على المنبر يقول: «إن أهل المعروف... الحديث».
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧/ ٢٦٦)، وقال: رواه الطبراني، وفيه هشام بن لاحق تركه أحمد، وقوّاه النسائي، وبقية رجاله ثقات. اه.
حديث أبي الدرداء:
أخرجه الخطيب (١٠/ ٤٢٠) من طريق هيذام بن قتيبة، قال: نا عبد الملك بن زيد أبو بشر البزار:
قال: نا سفيان الثوري، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي الدرداء مرفوعا، ومن طريق الخطيب، أخرجه ابن الجوزي في «العلل» (٢/ ٥٠٨) رقم (٨٤٠)، وقال: هيذام مجهول.
حديث ابن عباس:
أخرجه الطبراني في «الكبير» (١١/ ٧١) رقم (١١٠٧٨) من طريق موسى بن أعين، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا. وأخرجه (١١/ ١٩٠- ١٩١) رقم (١١٤٦٠)، من طريق عبد الله بن هارون الفروي، ثنا محمد بن منصور، حدثني أبي عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعا. -
406
عِبَاداً خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ، هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ» «١». انتهى من كتابه المسمى ب «بهجة المجالس وأنس المجالس».
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
- والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (٧/ ٢٦٦)، وقال: رواه الطبراني في «الكبير»، و «الأوسط»، وفي إسناد الكبير عبد الله بن هارون الفروي وهو ضعيف، وفي الآخر ليث بن أبي سليم.
حديث أبي أمامة:
أخرجه الطبراني في «الكبير» (٨/ ٣١٢- ٣١٣) رقم (٨٠١٥)، وقال الهيثمي في «المجمع» (٧/ ٢٦٦) :
وفيه من لم أعرفه.
حديث قبيصة بن مرة:
أخرجه الطبراني في «الكبير» (١٨/ ٣٧٦) رقم (٩٦)، والبزار (٣٢٩٤- كشف)، من طريق نصير بن عمرو بن يزيد بن قبيصة بن برمة الأسدي الكوفي قال: سمعت برمة بن ليث يقول: سمعت قبيصة بن برمة به مرفوعا.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٧/ ٢٦٥) : وفيه علي بن أبي هاشم، قال أبو حاتم: هو صدوق إلا أنه ترك حديثه من أجل أن يتوقف في القرآن، وفيه من لم أعرفه.
حديث علي:
أخرجه الخطيب (٢/ ٢٤٤)، من طريق محمد بن الحسين البغدادي، عن محمد بن عبد الله بن خليس، عن أبي عثمان بكر بن محمد المازني قال: سمعت سيبويه يقول: سمعت الخليل بن أحمد يقول: سمعت ذرا الهمداني يقول: سمعت الحارث العكلي عن علي بن أبي طالب مرفوعا.
وله طريق آخر: أخرجه الخطيب (١١/ ٣٢٦) من طريق أيوب بن محمد، عن أبي عثمان المازني به.
ومن طريقي الخطيب أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (٢/ ٥٠٧) رقم (٨٣٦، ٨٣٧).
وقال: هذا حديث لا يصح. أما حديث علي ففي الطريق الأول محمد بن الحسين البغدادي، وكان يسمي نفسه لاحقا، وقد وضع على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لا يحصى ذكره الخطيب. وأما الطريق الثاني فإن أيوب بن محمد مجهول الحال. اه.
وللحديث طريق آخر عن علي: أخرجه الحاكم (٤/ ٣٢١)، من طريق حبان بن علي عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علي مرفوعا بلفظ: «يا علي، إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة». وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فقال: الأصبغ واه، وحبان ضعفوه.
حديث سليمان:
أخرجه الطبراني في «الكبير» (٦/ ٢٤٦) رقم (٦١١٢)، والعقيلي في «الضعفاء» (٤/ ٣٣٧)، من طريق هشام بن لاحق، ثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان مرفوعا.
قال ابن الجوزي في «العلل» (٢/ ٥٠٩) : وأما حديث سلمان فقال أحمد بن حنبل: تركت حديث هشام بن لاحق، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به.
(١) أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» رقم (١٠٠٧، ١٠٠٨).
407

[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٦]

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
وقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ: قال ابنُ زَيْد وغيره: إِتمامهما ألاَّ تفسخا، وأن تتمهما، إِذا بدأْتَ بهما «١»، وقال ابن عَبَّاس وغيره: إِتمامهما أنْ تقضي مناسكهما كاملةً بما كان فيهما من دماء «٢»، وقال سفيانُ الثَّوْرِيُّ: إتمامهما أن تخريج قاصداً لهما، لا لتجارةٍ، ولا لغيرِ ذلك «٣» ويؤيد هذا قولُهُ: لِلَّهِ.
وفروضُ الحجِّ: النيَّة «٤»، والإحرام، والطواف «٥» المتصل بالسعي، يعني: طواف
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٢١٤) برقم (٣٢٠٧)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٦٥).
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٢١٣) برقم (٣١٩٤). وذكره البغوي (١/ ١٦٥)، وابن عطية (١/ ٢٦٦)، والسيوطي (١/ ٣٧٦)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس. [.....]
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٢١٤) برقم (٣٢٠٦)، وذكره البغوي (١/ ١٦٥- ١٦٦)، وابن عطية (١/ ٢٦٥).
(٤) معناه: نية الدخول في الحج وكيفيته: أن يقصد الحج والإحرام به لله تعالى لخبر «إنما الأعمال بالنيات»... ويشترط في النية أن تكون في أشهر الحج لقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ والمراد به وقت إحرام الحجّ.
ويسن اقتران النية بالتلبية بأن ينوي ويلبي بلا فاصل، كما يسنّ في النية- التلفظ باللسان، ليساعد اللسان القلب، بأن يقول الشخص: نويت الحج وأحرمت به لله (تعالى) إذا كان يحج عن نفسه، أو نويت الحج عن فلان، وأحرمت به لله تعالى- إذا كان يحج عن غيره.
وصيغة التلبية: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
وقال أبو حنيفة (رضي الله عنه) : لا ينعقد الإحرام حتى يلبّي، أو يسوق الهدي، واستدل «أوّلا» بقوله (عليه الصلاة والسلام) :«أمرني جبريل أن آمر أصحابي بالتلبية ورفع الصوت. و «ثانيا» بالقياس على الصلاة.
وأجيب عن الأول بأن الأمر أمر استحباب، وإلا لزم رفع الصوت، كما أجيب عن الثاني، بأنّ المقصود من الصلاة الذكر بخلاف الحجّ.
(٥) من أركان الحج الطواف بالبيت لقوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: ٢٩]، والمراد به طواف الإفاضة، لانعقاد الإجماع على ذلك، ولهذا الطواف أسماء غير ذلك، منها «طواف الزيارة»، و «طواف الفرض»، وقد يسمى «طواف الصّدر» بفتح الدال، والأشهر أن طواف الصدر هو طواف الوداع.
ومحل طواف الإفاضة بعد الخروج من عرفة ولهذا سمي طواف الإفاضة، ويدخل وقته بنصف ليلة النحر، لمن وقف قبله قياسا على رمي جمرة العقبة، ولا آخر لوقته إذ الأصل، عدم التأقيت إلا إذا دلّ دليل على ذلك، ولا دليل ثمّة. -
408
الإِفاضة، والسَّعْيِ بين الصفا والمروة عنْدنا خلافاً لأبي حنيفة، والوقوفُ بعرفة «١»، وزاد ابن الماجِشُونَ: جَمْرة العَقَبَة.
وقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ هذه الآية نزلَتْ عام الحديبية عنْد جمهور أهل التأويل، وأجمع جمهورُ النَّاس على أنَّ المُحْصَرَ بالعَدُوِّ يَحِلُّ حيثُ أُحْصِرَ، وينحر هَدْيه، إِن كان ثَمَّ هَدْيٌ، ويحلق رأسه، وأما المُحْصَرُ بمرضٍ، فقال مالك، وجمهور من العلماء: لا يحله إِلا البيتُ، ويقيم حتى يُفِيقَ، وإِن أقام سنين، فإِذا وصل البيتَ، بعد فوت الحجِّ، قطع التلبيةَ في أوائل الحرم، وحلَّ بعمرة، ثم تكون عليه حجَّة قضاء، وفيها يكون الهَدْي.
و «مَا» في موضع رفعٍ «٢»، أي: فالواجبُ، أو: فعليكُمْ ما استيسر، وهو شاةٌ عند الجمهور.
- ويسن تأخيره إلى بعد طلوع الشمس للاتباع، ويكره تأخيره عن يوم النحر، وفي تأخيره عن أيام التشريق كراهة شديدة، وعن خروجه من «مكة» كراهة أشد.
(١) من أركان الحج: الوقوف بعرفة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الحجّ عرفة» أي: معظمه، ويبتدىء وقته من زوال اليوم التاسع من ذي الحجة لما صح «أنّه صلّى الله عليه وسلم وقف بعد الزّوال» مع خبر «خذوا عنّي مناسككم»، وينتهي بطلوع فجر يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحجّ»، ففي أي جزء من الزمن المذكور وقف المحرم بأرض عرفة أجزأه، دون ما قبله، ودون ما بعده.
نعم لو وقفوا يوم النحر غلطا لظنهم أنه اليوم التاسع بأن غم عليهم هلال ذي الحجّة، فأكملوا ذا القعدة ثلاثين، ثم بان أن الهلال أهلّ ليلة الثلاثين، أجزأهم ذلك الوقوف بدون قضاء، بشرط ألا يكون عددهم أقلّ من المعتاد، فإذا قلّ عددهم عن حسب العادة وجب عليهم القضاء، كما يجب عليهم القضاء إذا وقفوا اليوم الثامن أو الحادي عشر غلطا لندرة الغلط فيهما.
والمعتبر في الوقوف بعرفة حضور المحرم بها ولو لحظة ماشيا كان أو راكبا، متيقظا كان أو نائما، وسواء حضر لغرض الوقوف أم لا، كأن كان هاربا أو مارّا في طلب آبق، وسواء علم أنها عرفة، أو لم يعلم أنها هي، وبالجملة فيجزىء الوقوف مع النوم ولو استغرق جميع الوقت، ومع الغفلة، ومع عدم المكث، ومع الجهل بالبقعة واليوم.
وفي حكم أرض عرفة ما اتصل بها وكان في هوائها، فيكفي كون المحرم على دابّة أو سيّارة أو شجرة في أرض المذكورة. ولا يكفي كونه على غصن شجرة خارج عن هوائها، وإن كان أصل الغصن المذكور فيها، ولا كونه على غصن في هوائها وأصله ليس فيها، كما لا يكفي الطيران في جوّها، ولا الوقوف على جزء نقل منها إلى مكان آخر.
وحدّ عرفة من وادي «عرنة» إلى الجبال المقبلة على عرفة إلى حوائط بستان بني عامر، وإلى طريق الحصن، وليست النّمرة، ولا وادي «عرنة»، ولا صدر مسجد إبراهيم (عليه السلام) من عرفات.
(٢) وفيها قولان آخران:
أحدهما: أنها في محل نصب، أي: فليهد، أو فلينحر. وهذا مذهب ثعلب.
409
وقال ابن عمر وعروة «١» : جَملٌ دون جَمَلٍ، وبقرةٌ دون بقرة «٢».
وقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ الخطابُ لجميعِ الأمَّة، وقيل: للمحصَرِينَ خاصَّة، ومَحِلُّ الهَدْيِ: حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يُحصَرْ بمنى، والترتيب: أن يرمي الحاجُّ الجَمْرَة، ثم ينحر، ثم يَحْلِق، ثم يَطُوف للإِفاضة.
وقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً... الآية: المعنى: فحَلَق لإِزالة الأذى، فَفِدْيَةٌ، وهذا هو فحْوَى الخطاب عند أكثر الأصوليِّين، ونزلَتْ هذه الآية في كَعْب بن عجرة «٣»، حين رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَرَأْسُهُ يَتَنَاثَرُ قملاً، فَأَمَرَهُ بِالحَلاَّقِ، ونَزَلَتِ الرخْصَةُ.
والصيامُ عند مالك، وجميع أصحابه: ثلاثةُ أيامٍ، والصدقة ستّة مساكين لكلّ
- والثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر. ويعزى للأخفش.
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٤٨٤).
(١) عروة بن الزبير بن العوّام الأسدي، أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة، وأحد علماء التابعين، روى عن أبيه وأمه وكثير من الصحابة.
قال الزهري: عروة بحر لا تكدره الدّلاء. كان يقرأ كل ليلة ربع القرآن. ولد سنة ٢٩ هـ. ومات وهو صائم سنة ٩٢ هـ، وقيل غير ذلك.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٢٢٦) (٤٨٢٦)، ابن سعد (٥/ ١٣٢- ١٣٥)، و «الحلية» (٢/ ١٧٦- ١٨٣)، «الوفيات» (٣/ ٢٥٥- ٢٥٨).
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٢٢٥) رقم (٣٢٧٥)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٦٧)، والسيوطي (١/ ٣٨٤)، وعزاه لوكيع، وسفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طرق عن ابن عمر.
(٣) هو: كعب بن عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد بن مري بن إراشة... أبو محمد البلوي، حليف الأنصار.
قال الواقدي: ليس بحليف للأنصار، ولكنه من أنفسهم. قال ابن سعد: طلبت اسمه في نسب الأمصار فلم أجده. وقال ابن الكلبي. وساق نسبه إلى «بلي» ثم قال: انتسب كعب في الأنصار في بني عمرو بن عوف، وتأخر إسلامه ثم أسلم وشهد المشاهد كلها. روى عنه ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن عياش، وطارق بن شهاب وغيرهم.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٤/ ٤٨١)، «الإصابة» (٥/ ٣٠٤)، «الثقات» (٣/ ٣٥١)، «الاستيعاب» (٢/ ١٣٢١)، «الاستبصار» (١٩٥)، «العبر» (١/ ٥٧)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ٣١)، «تاريخ جرجان» (٢٩٦)، «الأعلام» (٥/ ٢٢٧)، «عنوان النجابة» (١٤٩)، «الكاشف» (٣/ ٨)، «الإكمال» (٤/ ٣٩١)، «الجرح والتعديل» (٧/ ١٦٠)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١١٤٧)، «تهذيب التهذيب» (٨/ ٤٣٥)، «تقريب التهذيب» (٢/ ١٣٥)، «سير أعلام النبلاء» (٣/ ٥٢).
410
مسكينٍ نصفُ صاعٍ، وذلك مُدَّانِ بمُدِّ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم، والنُّسُكُ: شاة بإِجماع، ومَنْ أتى بأفضلَ منها ممَّا يذبح أو ينحر، فهو أفضلُ والمفتدِي مخيَّر في أيِّ هذه الثلاثة شاء، حيثُ شاء من مكَّة وغيرها.
قال مالكٌ وغيره: كلَّما أتى في القرآن «أَوْ أَوْ»، فإِنه على التخْيير.
وقوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ، أي: من العدُوِّ المُحْصِرِ/، قاله ابن عبَّاس وغيره»
، ٤٩ ب وهو أشبهُ باللَّفظ، وقيل: معناه: إِذا برأتم من مَرَضِكم «٢».
وقوله سُبحانه: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ... الآية.
قال ابن عبَّاس وجماعةٌ من العلماء: الآيةُ في المحصَرين وغيرهم «٣»، وصورة المتمتِّع «٤» أنْ تجتمعَ فيه ستَّةُ شروطٍ، أن يكون معتمراً في أشْهُر الحجِّ، وهو من غير
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٨)، والسيوطي (١/ ٣٨٤)، وعزاه إلى سفيان بن عيينة، والشافعي في «الأم»، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٢٥١)، وذكره البغوي (١/ ١٧٠)، وابن عطية (١/ ٢٦٨).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٢٥٤) برقم (٣٤٣١)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٦٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٨٧)، وعزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) وهو عكس الإفراد أن يحرم الشخص بالعمرة أوّلا من الميقات الذي مرّ عليه في طريقه إن كان غير ميقات بلده، ثم يأتي بأعمالها، وبعد الفراغ منها يحرم بالحج من «مكة» أو من الميقات الذي أحرم منه للعمرة، أو من مثل مسافته، أو من ميقات أقرب منه، وسواء كان إحرامه بالعمرة في أشهر الحج أو قبل أشهره، وسواء حج في العام الذي اعتمر فيه، أو أخر الحج إلى عام قابل، فللتمتع أربع صور، وسمّي الآتي به:
متمتعا لأنه تمتّع بمحظورات الإحرام بين النّسكين. ولدم التمتع شروط أربعة: أن تقع عمرة المتمتع في أشهر الحج، فإذا أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج «سواء أتمها قبل دخول أشهر الحج أو أتمها فيها» فلا يجب عليه الدم، لأنه لم يجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج، فأشبه المفرد. أن يحج من عامه، فإذا اعتمر في أشهر الحج ثم حج في عام آخر أو لم يحج أصلا، فلا دم عليه، لما روى البيهقي «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج، فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا».
ألا ويعود المتمتع بعد فراغه من العمرة إلى الميقات الذي أحرم منه أولا أو إلى ميقات آخر من مواقيت الحج ليحرم منه بالحج، فإن عاد المتمتع إلى الميقات ليحرم منه بالحج، فلا دم عليه لأن المقتضي للدم هو ذبح الميقات، وقد انتفى بعودة المتمتع إليه.
ألا يكون المتمتع من حاضري المسجد الحرام، لقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: ١٩٦]، والمراد بحاضري المسجد الحرام من بين مساكنهم، والحرم أقل من مرحلتين، فإن كان المتمتع من أهل هذه الجهة، فلا يلزمه الدم، لقربه من الحرم، والقريب من الشيء يقال له: «حاضره»، قال تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف: ١٦٣] أي-[.....]
411
خاضري المَسْجِد الحرام، ويحل وينشىء الحَجَّ من عَامِهِ ذلك، دون رُجُوع إِلى وطنه، أو ما ساواه بُعْداً، هذا قول مالِكٍ، وأصحابه، واختلف، لِمَ سُمِّيَ متمتعاً.
فقال ابن القاسِمِ: لأنه تمتع بكلِّ ما لا يجوز للمُحْرِمِ فعْلُه مِنْ وقْت حلِّه في العمرة إِلى وقْت إِنشائه الحجِّ «١»، وقال غيره: سمي متمتعاً لأنه تمتَّع بإِسقاط أحد السفرين، وذلك أنَّ حق العمرة أنْ تقصد بسَفَرٍ، وحقّ الحج كذلك، فلمَّا تمتع بإِسقاط أحدهما ألزمه اللَّه تعالى هَدْياً كالقَارن الَّذي يجمع الحجَّ والعمرةَ في سَفَر واحدٍ، وجُلُّ الأمة «٢» على جواز العُمْرة في أَشْهُر الحجِّ للمكِّيِّ ولا دَمَ عليه «٣».
وقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، يعني: من وقتِ يُحْرِمْ إِلى يومِ عرفة، فإِنْ فاته صيامها قبل يوم النحرِ، فليصُمْها في أيام التشريق لأنها من أيام الحج.
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، قال مجاهد وغيره: أي: إِذا رجعتم من منى «٤»، وقال قتادة، والربيع: هذه رخصةٌ من اللَّه سبحانه «٥»، والمعنى: إِذا رجعتم إِلى أوطانكم، ولما جاز أن
- قريبة منه. والمعنى في ذلك أنه لم يربح ميقاتا عامّا لأهله ولمن مرّ به.
ووقت وجوب الدم على المتمتع هو وقت إحرامه بالحج، لأنه حينئذ يصير متمتعا بالعمرة إلى الحج، ويجوز له أن يذبح بعد فراغه من العمرة وقبل الإحرام بالحج لتقدم أحد سببيه. والأفضل ذبحه يوم النحر ولا آخر لوقته كسائر دماء الجبر بها.
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٨).
(٢) والأصل في ذلك ما روي عن قتادة أنّ أنسا أخبره قال: اعتمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أربع عمر، كلّهنّ في ذي القعدة إلّا الّتي كانت مع حجّته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرّانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجّته».
أخرجه البخاري (٣/ ٨٠١)، كتاب العمرة: باب كم اعتمر النبي صلّى الله عليه وسلم (١٧٧٨)، وأطرافه في (١٧٧٩- ١٧٨٠- ٣٠٦٦- ٤١٤٨)، ومسلم (٢/ ٩١٦)، كتاب «الحج»، باب بيان عدد عمر النبي صلّى الله عليه وسلم (٢١٧- ١٢٥٣).
وروي عن ابن عمر أنه قال: اعتمر النبي صلّى الله عليه وسلم أربع عمر، إحداهن في رجب، فأخبرت عائشة بذلك، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قطّ.
وروي عن مجاهد أن علي بن أبي طالب قال: في كل شهر عمرة، وكان أنس بن مالك بمكة، فكان إذا حمم رأسه، خرج فاعتمر.
أخرجه الشافعي، كذا في «ترتيب المسند» (٢/ ٣٧٩).
(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٦٧- ٢٦٨).
(٤) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٠).
(٥) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٠).
412
يتوهَّم متوهم التخْيير بين ثلاثةِ أيَّامٍ في الحجِّ أو سبعة إِذا رجع، أُزِيلَ ذلك بالجليّة من قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ.
وكامِلَةٌ «١» قال الحسن بن أبي الحَسَن: المعنى: كاملة الثوابِ «٢»، وقيل: كاملةٌ «٣» تأكيدٌ كما تقول: كَتَبْتُ بيَدِي، وقيل: لفظها الإِخبار «٤»، ومعناها الأمر، أي: أكملوها، فذلك فرضها، وقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ... الآيةَ: الإِشارة بذلك على قول الجمهورِ هي إِلى الهَدْي، أي: ذلك الاشتداد والإِلزام، وعلى قول من يرى أن المكِّيَّ لا تجوز له العُمْرة في أشهر الحج، تكون الإِشارة إِلى التمتُّع، وحُكْمِه فكأن الكلام ذلك الترخيصُ لمن لَمْ ويتأيَّد هذا بقوله: لِمَنْ لَمْ لأن اللام أبداً إِنما تجيء مع الرخص «٥»، واختلف الناس في حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعد الإِجماع على أهل مكة، وما اتصل بها، فقيل: من تَجِبُ عليه الجمعة بمكَّة، فهو حَضَرِيٌّ، ومن كان أبعد من ذلك، فهو بَدَوِيٌّ، قال ع «٦» : فجعل اللفظة من الحضارة، والبداوة.
وقيل: من كان بحيثُ لا يَقْصُرُ الصلاة، فهو حاضرٌ، أي: مشاهدٌ، ومن كان أبعد من ذلك، فهو غائبٌ.
وقال ابن عبَّاس، ومجاهد: أهل الحرم «٧» كلّه حاضر والمسجد الحرامِ، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم، وحذّر من شديد عقابه.
(١) قال الشافعي في «رسالته» : احتملت أن تكون زيادة في التبيين، واحتملت أن يكون أعلمهم أنّ ثلاثة إذا جمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة. ينظر: «الرسالة» (٢٦).
(٢) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٧٠) وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٠).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٢٦٤)، وذكره البغوي (١/ ١٧٠)، وابن عطية (١/ ٢٧٠).
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٢٦٤)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٧٠)، والبغوي (١/ ١٧١).
(٥) وهذا على قول من قال: إن الإشارة ب «ذلك» المقصود بها: ذلك الترخيص، وأما القائلون بجواز اعتمار المكي في أشهر الحج، فيقولون: إن اللام في قوله تعالى: «لمن» بمعنى «على»، ويصير المعنى:
وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: «اشترطي لهم الولاء».
ينظر: «الجامع لأحكام القرآن»، للإمام القرطبي (٢/ ٢٦٨).
(٦) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧١).
(٧) أخرجه الطبري (٢/ ٢٦٥) برقم (٣٥٠٦)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٧١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٩١) عن مجاهد، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس.
413

[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٧]

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
وقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ في الكلام حذفٌ، تقديره «١» : أشهر الحج أشهرٌ أو وقتُ الحجِّ أشهر معلوماتٌ، قال ابن مسعود وغيره: وهي شوَّال، وذُو القَعْدة، وذو الحَجَّة كلُّه «٢».
وقال ابن عبَّاس وغيره: هي شَوَّال، وذو القَعْدة، وعَشْرٌ من ذي الحجة «٣»، والقولان لمالكٍ- رحمه اللَّه- فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، أي: ألزمه نفْسَهُ، وفرض الحج هو بالنيةِ والدخولِ في الإِحرام، والتلبيةُ تَبَعٌ لذلك، وقوله تعالى: فِيهِنَّ، ولم يجىء الكلام «فيها»، فقال قوم: هما سواء/ في الاستعمال، وقال أبو عثمانَ المازنيّ «٤» : الجمع الكثير
(١) وكان هذا التقدير لأن «الحج» فعل من الأفعال، و «أشهر» زمان فهما غيران، فكان لا بد من تأويل.
وهناك احتمالان آخران للإعراب، وهما:
الأول: الحج حجّ أشهر على الإضافة.
والثاني: أن يجعل الحدث نفس الزمان مبالغة ومجازا، فالحج حال فيه، فلما اتسع في الظرف جعل نفس الحدث.
ونظيرها: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: ١٥] وإذا كان ظرف الزمان نكرة مخبرا به عن حدث جاز فيه الرفع والنصب مطلقا، أي: سواء كان الحدث مستوعبا للظرف أم لا، هذا مذهب البصريين.
وأمّا الكوفيون فقالوا: إن كان الحدث مستوبعا فالرفع فقط نحو: «الصوم يوم» وإن لم يكن مستوعبا فهشام يلتزم رفعه أيضا نحو: «ميعادك يوم» والفراء يجيز نصبه مثل البصريين، وقد نقل عنه أنه منع نصب «أشهر» يعني في الآية لأنها نكرة، فيكون له في المسألة قولان، وهذه المسألة بعيدة الأطراف تضمّها كتب النحويين. قال ابن عطية: «ومن قدّر الكلام: الحج في أشهر فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ به أحد» قال الشيخ: «ولا يلزم ذلك، لأنّ الرفع على جهة الاتساع، وإن كان أصله الجرّ بفي».
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٤٨٩- ٤٩٠). [.....]
(٢) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧١).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٢٦٨) برقم (٣٥٢٥)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٧١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٩٣)، وعزاه لوكيع، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.
(٤) بكر بن محمد بن حبيب بن بقية، أبو عثمان المازني، من مازن شيبان: أحد الأئمة في النحو، من أهل البصرة. ووفاته فيها. له تصانيف، منها كتاب: «ما تلحن فيه العامة» و «الألف واللام» و «التصريف» و «العروض» و «الديباج». توفي سنة (٢٤٩) هـ. ينظر: «الأعلام» (٢/ ٦٩).
414
لما لا يعقل يأتي كالواحدةِ المؤنَّثة، والقليلُ ليس كذلك، تقول: الأجذاعُ انكسرن والجُذُوعُ انكسرت «١»، ويؤيد ذلك قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ [التوبة: ٣٦] ثم قال:
مِنْها [التوبة: ٣٦].
وقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ... الآية، وقرأ ابن كثيرٍ، وأبو عمرٍو: «فَلاَ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ وَلاَ جِدَالَ»، بالرفع في الاثنين، ونصب الجدال «٢»، و «لا» بمعنى «لَيْسَ»، في قراءة الرفع، والرَّفَثُ الجماعُ في قول ابن عبَّاس، ومجاهد، ومالك «٣»، والفُسُوقُ قال ابن عبَّاس وغيره: هي المعاصِي كلُّها «٤»، وقال ابن زَيْد، ومالك: الفُسُوقُ:
الذبْح للأصنام «٥»، ومنه قوله تعالى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: ١٤٥]، والأول أولى.
قال الفَخْر «٦» : وأكثر المحقِّقين حملوا الفِسْقَ هنا على كل المعاصِي قالوا: لأن
(١) وهذا بخلاف قوله: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: ٣٦]، فهناك «أشهر» جمع كثرة، وهنا «حرم» جمع قلة.
(٢) وحجة من فتح أنه نفي لجميع جنس الرفث والفسوق، كما قال: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: ٢] وكأن قائلا قال: هل من رفث؟ هل من فسوق؟
وحجة من رفع: أنه يعلم من الفحوى أنه ليس النفي وقتا واحدا، ولكنه بجميع ضروبه، وقد يكون اللفظ واحدا، والمراد جميعا.
ينظر: «السبعة» (١٨٠)، و «الكشف» (١/ ٢٨٥)، و «حجة القراءات» (١٢٨، ١٢٩)، و «الحجة» (٢/ ٢٨٦)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٩٦)، و «شرح شعلة» (٢٨٧)، و «العنوان» (٧٣)، و «إتحاف» (١/ ٤٣٣)، و «معاني القراءات» (١/ ١٩٦).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٢٧٦- ٢٧٧) رقم (٣٥٩٩- ٣٦٠٣- ٣٦١٣) عن ابن عباس، رقم (٣٦٠٩- ٣٦١٤) عن مجاهد.
وذكره البغوي (١/ ١٧٢) عن ابن عباس ومجاهد، وابن عطية (١/ ٢٧٢) عن ابن عباس، ومجاهد، ومالك.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٩٥)، وعزاه لوكيع، وسفيان بن عيينة، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٢٧٩- ٢٨٠) رقم (٣٦٣٤- ٣٦٤٨، ٣٦٥٢، ٣٦٥٦)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٧٢). وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٩٥)، وفي (١/ ٣٩٦)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وسفيان، ووكيع، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي يعلى، وابن أبي حاتم.
(٥) أخرجه الطبري (٢/ ٢٨٢) رقم (٣٦٧١)، عن ابن زيد. وذكره ابن عطية (١/ ٢٧٢)، عن ابن زيد، ومالك.
(٦) «التفسير الكبير» (٥/ ١٤٠).
415
اللفظ صالِحٌ للكلِّ ومتناولٌ له، والنهي عن الشيء يوجبُ الاِنتهاءَ عن جَميعِ أنواعه، فحمل اللفْظ على بعض أنواع الفسوقِ تحكُّم من غير دليل. انتهى.
قال ابن عباس وغيره: الجِدَالُ هنا: أن تماري مسلماً «١».
وقال مالك، وابن زَيْد: الجدالُ هنا أن يَخْتَلفَ الناسُ أيهم صادَفَ موقفَ إِبراهيمَ- عليه السلام- كما كانوا يفعلون في الجاهلية «٢»، قُلْتُ: ومعنى الآية: فلا تَرْفُثُوا، ولا تفسُقُوا، ولا تجادلُوا كقوله صلّى الله عليه وسلم: «وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يرفث، ولا يصحب، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امرؤ صَائِمٌ... » «٣» الحديث. انتهى.
قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «٤» : قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ، أراد نفيه مشروعاً، لا موجوداً، فإِنا نجد الرفَثَ فيه، ونشاهده، وخبَرُ اللَّه سبحانه لا يَقَعُ بخلافِ مخبره. انتهى.
قال الفَخْر «٥» : قال القَفَّال: ويدُخُل في هذا النهْيِ ما وقع من بعضهم من مجادلة النبيّ صلّى الله عليه وسلم حين أمرهم بفَسْخِ الحَجِّ إِلى العمرة، فشَقَّ عليهم ذلك، وقالوا: «أنروحُ إلى منى، ومَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا... » الحديث. انتهى.
وقوله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ: المعنى: فيثيب عليه، وفي هذا تحضيضٌ على فعل الخير.
ت: وروى أُسَامَةُ بنُ زيدٍ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صُنِعَ إِليْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» رواه الترمذيُّ، والنَّسائي، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» بهذا اللفظ «٦». انتهى من «السلاح» ونحو هذا جوابه صلّى الله عليه وسلم للمهاجرين حيث
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٢٨٣- ٢٨٤)، رقم (٣٦٧٤- ٣٦٧٥- ٣٦٨١- ٣٦٩٥- ٣٦٩٦)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٧٣)، والسيوطي (١/ ٣٩٥- ٣٩٦) وعزاه إلى وكيع، وسفيان بن عيينة، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٢٨٦) رقم (٣٧٠٦)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٧٣)، وابن عطية (١/ ٢٧٣) عن مالك، وابن زيد، وذكره السيوطي (١/ ٣٩٧)، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد.
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) ينظر: «الأحكام» (١/ ١٣٤).
(٥) «التفسير الكبير» (١/ ١٤١). [.....]
(٦) أخرجه الترمذي (٤/ ٣٨٠) كتاب «البر والصلة»، باب ما جاء في المتتبع بما لم يعطه، حديث (٢٠٣٤)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٥٣)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول لمن صنع إليه معروفا، -
416
قَالُوا: «مَا رَأَيْنَا كَالأَنْصَارِ»، وأثنوا علَيْهم خيراً.
وقوله سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى... الآية: قال ابن عُمَرَ وغيره:
نزلَتِ الآية في طائفةٍ من العرب، كانت تجيء إِلى الحج بلا زادٍ، ويبقون عالة على النَّاس، فأمروا بالتزوُّد «١»، وقال بعض النَّاس: المعنى: تزوَّدوا الرفيقَ الصالحَ، وهذا تخصيصٌ ضعيفٌ، والأولى في معنى الآية: وتزوَّدوا لمعادِكُمْ من الأعمال الصالحة، قُلْتُ: وهذا التأويلُ هو الذي صَدَّر به الفخْرُ «٢» وهو الظاهرُ، وفي قوله: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى حضّ على التقوى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٨ الى ١٩٩]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ... الآية: الجُنَاحُ: أعم من الإثم لأنه فيما
- حديث (١٠٠٠٨)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٢٧٦)، والطبراني في «الصغير» (٢/ ١٤٨)، وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (٢/ ٣٤٥)، كلهم من طريق الأحوص بن جواب، ثنا سعيد بن الخمس، ثنا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عن أبي عثمانَ النهدي، عن أسامة بن زيد مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن جيد غريب، لا نعرفه من حديث أسامة بن زيد، إلا من هذا الوجه. اهـ.
وصححه ابن حبان برقم (٣٤١٣).
وقال الترمذي أيضا: وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم بمثله، وسألت محمدا فلم يعرفه اهـ. قلت:
والحديث الذي أشار إليه الترمذي:
أخرجه ابن أبي شيبة (٩/ ٧٠)، والبزار (٢/ ٣٩٧- كشف) رقم (١٩٤٤)، والطبراني في «الصغير» (٢/ ١٤٩)، كلهم من طريق موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الرجل لأخيه: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ».
قال البزار: ومحمد بن ثابت لا نعلم روى عنه إلا موسى بن عبيدة، ولا روى عن أبي هريرة هذا الحديث غيره.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤/ ١٥٣)، وقال: رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف.
(١) أخرجه الطبري في (٢/ ٢٩٠) رقم (٣٧٣٢)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٧٣)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٣٩٨)، وعزاه إلى ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عمر.
(٢) ينظر: «التفسير الكبير» (٥/ ١٤٣).
417
يقتضي العقابَ، وفي ما يقتضي الزجْرَ والعتاب.
٥٠ ب وتَبْتَغُوا: معناه: تَطْلبوا، أي: لا دَرك «١» في أنْ تتجروا وتطلبوا/ الرحب.
وقوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ: أجمع أهْل العْلمِ على تمامِ حجِّ من وقف بعرفاتٍ بعد الزوال، وأفاض نهاراً قبل الليل إِلا مالك بن أنس، فإِنه قال: لا بدَّ أن يأخذ من الليل شيئاً، وأمَّا من وقف بعرفة ليلاً، فلا خلافَ بيْن الأمَّة في تمام حَجِّه.
وأفاض القومُ أو الجيشُ، إِذا اندفعوا جملةً، واختلف في تسميتها عرفةَ، والظاهر أنه اسم مرتجلٌ كسائر أسماء البقاع، وعرفةُ هي نَعْمَانُ الأَرَاكِ «٢»، والمَشْعَر الحَرَامُ جمعٌ كله، وهو ما بين جبلَيِ المزدَلِفَةِ من حَدِّ مفضى مَأْزِمَي «٣» عرفَةَ إِلى بطن مُحَسِّرٍ «٤»، قاله ابن عبَّاس وغيره «٥»، فهي كلُّها مشعر «٦» إِلا بطن مُحَسِّرٍ كما أن عرفة كلُّها موقف إِلا بطن عُرَنَةَ «٧» بفتح الراء وضمها، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ، والمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَشْعرٌ، أَلاَ وارتفعوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ» «٨»، وذكر هذا عبد اللَّه بن
(١) الدّرك: التّبعة، يسكّن ويحرك. يقال: ما لحقك من درك فعليّ خلاصه. ينظر: «لسان العرب» (١٣٦٤).
(٢) هو واد في طريق الطائف يخرج إلى عرفات. ينظر: «لسان العرب» (٤٤٨٤) (نعم).
(٣) المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين، ومنه سمي الموضع الذي بين المشعر وعرفة مأزمين.
ينظر: «لسان العرب» (٧٤) (أزم).
(٤) ومحسّر: بضم الميم، وفتح الحاء، بعدها سين مهملة مشددة مكسورة، بعدها راء، كذا قيده البكري:
وهو واد بين «مزدلفة» و «منى»، وقيل: سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسّر فيه، أي: أعيا. وقال البكري: هو واد ب «جمع». وقال الجوهري: هو موضع ب «منى». ينظر: «المطلع» (١٩٦- ١٩٧).
(٥) أخرجه الطبري في «التفسير» (٢/ ٢٩٨) رقم (٣٧٩٨)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٠١)، وعزاه إلى وكيع، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس.
(٦) المشعر الحرام، بفتح الميم، قال الجوهري: وكسر الميم لغة، وهو موضع معروف ب «مزدلفة»، ويقال له: «قزح». وقد تقدم أن المشعر الحرام و «قزح»، من أسماء المزدلفة، فتكون «مزدلفة» كلها سميت بالمشعر الحرام، و «قزح»، تسمية للكل باسم البعض، كما سمي المكان كله: «بدرا» باسم ماء به، ويقال له: «بدر». ينظر: «المطلع» (١٩٧).
(٧) بضم العين، وفتح الراء والنون بين عرفة والمزدلفة. وكل طريق بين جبلين فهو مأزم، وموضع الحرب أيضا: مأزم. قال الجوهري: ومنه سمي الموضع الذي بين المشعر الحرام وعرفة: مأزمين.
ينظر: «المطلع» (١٩٦).
(٨) بدون الاستثناء لعرفة ومحسر: أخرجه: مسلم (٢/ ٨٨٦: ٨٩٢) كتاب «الحج»، باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلم، حديث (١٤٧/ ١٢١٨)، وغيره من حديث جابر في حديثه الطويل في صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلم، المعروف من رواية محمد بن علي، عن جابر. -
418
- وفي حديث آخر له أيضا من رواية عطاء عنه: أخرجه أبو داود (٢/ ٤٧٨، ٤٧٩)، كتاب «المناسك» (الحج)، باب الصلاة بجمع، حديث (١٩٣٧)، وأحمد (٣/ ٣٢٦)، والدارمي (٢/ ٥٦- ٥٧)، كتاب «المناسك»، باب عرفة كلّها موقف، والبيهقي (٥/ ١٢٢)، كتاب «الحج»، باب حيث ما وقف من «المزدلفة» أجزأه.
ولفظه، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «كل عرفة موقف، وكل مزدلفة موقف، ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر».
وورد أيضا من حديث علي: أخرجه أبو داود (٢/ ٤٧٨)، كتاب «المناسك» (الحج)، باب الصلاة بجمع (١٩٣٥)، والترمذي (٣/ ٢٣٢)، كتاب «الحج»، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، حديث (٨٨٥)، وابن ماجة (٢/ ١٠٠١)، كتاب «المناسك»، باب الموقف بعرفات، حديث (٣٠١٠)، والبيهقي (٥/ ١٢٢)، كتاب «الحج»، باب حيث ما وقف من «المزدلفة» أجزأه، وأحمد (١/ ٧٦).
وقال الترمذي: حسن صحيح.
أما بزيادة الاستثناء المذكور، فورد من حديث جبير بن مطعم، وجابر، وابن عباس، وأبي هريرة، وحبيب بن حماشة، وابن عمر.
حديث جبير بن مطعم:
أخرجه أحمد (٤/ ٨٢)، والبزار (٢/ ٢٧)، كتاب «الحج»، باب عرفة كلها موقف، حديث (١١٢٦)، والطبراني (٢/ ١٣٨)، رقم (١٥٨٣)، وابن حبان في «موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي» (ص ٢٤٩)، كتاب «الحج»، باب ما جاء في الوقوف بعرفة والمزدلفة، حديث (١٠٠٨)، والبيهقي (٥/ ٢٣٩)، كتاب «الحج»، باب النحر يوم النحر، وأيام منى كلها، وابن حزم في «المحلى» (٧/ ١٨٨) عنه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل عرفات موقف، وارفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن محسر، وكل فجاج منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح».
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣/ ٢٥٤)، وقال: رواه أحمد، والبزار، والطبراني في «الكبير».... ورجاله موثقون. اهـ. وصححه ابن حبان.
وحديث جابر:
أخرجه ابن ماجه (٢/ ١٠٠٢)، كتاب «المناسك»، باب الموقف بعرفات، حديث (٣٠١٢)، من طريق القاسم بن عبد الله العمري، ثنا محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل عرفة موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف، وارتفعوا عن بطن محسر، وكل منى منحر إلا ما وراء العقبة».
قال الحافظ البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٢٧) : هذا إسناد ضعيف القاسم بن عبد الله بن عمر قال فيه أحمد بن حنبل: كان كذابا يضع الحديث، ترك الناس حديثه. وقال البخاري: سكتوا عنه. وقال أبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي: متروك الحديث اهـ.
وذكره مالك في «الموطأ» (١/ ٣٨٨) كتاب «الحج»، باب الوقوف بعرفة والمزدلفة (١٦٦) بلاغا.
وللحديث طريق آخر عن محمد بن المنكدر مرسلا.
أخرجه البيهقي (٥/ ١١٥) كتاب «الحج»، باب حيث ما وقف من عرفة أجزأه من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن المنكدر به. -
419
الزُّبَيْرِ «١» في خطبته، وذِكْرُ اللَّه تعالى عند المشعر
- حديث ابن عباس:
أخرجه الحاكم (١/ ٤٦٢)، كتاب «المناسك»، والبيهقي (٥/ ١١٥)، كتاب «الحج»، باب حيث ما وقف من عرفة أجزأه، من طريق سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي معبد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر، وشعاب منى كلها منحر».
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وشاهده على شرط الشيخين صحيح، إلا أن فيه تقصيرا في سنده، ثم أخرجه من طريق يحيى القطان، عن ابن جريج، أخبرني عطاء، عن ابن عباس قال: كان يقال: «ارتفعوا عن محسر، وارتفعوا عن عرفات».
حديث أبي هريرة:
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٧/ ٢٧١٦)، من جهة يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن داود بن فراهج، عنه، والنوفلي ضعيف.
قال الذهبي في «المغني» (٢/ ٧٥١) : مجمع على ضعفه.
وله طريق صحيح، ذكره ابن عبد البر كما في «تلخيص الحبير» (٢/ ٢٥٥)، رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة به.
حديث حبيب بن خماشة:
أخرجه الحارث بن أبي أسامة (٣٨٠- بغية)، في «مسنده»، قال: حدثنا محمد بن عمر، ثنا صالح بن خوات، عن يزيد بن رومان، عن حبيب بن عمير بن عدي، عن حبيب بن خماشة الجهني، قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول بعرفة: «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر»، وذكره الحافظ في «التلخيص» (٢/ ٢٥٥)، وقال: رواه ابن قانع في «معجم الصحابة»، وفي إسناده الواقدي، وهو كذاب.
حديث ابن عمر: أخرجه ابن عدي (٤/ ١٥٨٩، ١٥٩٠)، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله العمري.
تركوه، واتهمه بعضهم. وقال الحافظ: متروك.
ينظر: «المغني» للذهبى (٢/ ٣٨٢)، و «التقريب» (١/ ٤٨٧- ٤٨٨). [.....]
(١) هو:
عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى أبو بكر. وقيل أبو خبيب الأسدي. القرشي.
ولد عام الهجرة، وهو أول مولود للمسلمين بعد الهجرة. من مشاهير الصحابة وفضلائهم، وسيرته شهيرة مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان قد حفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وخالته عائشة أم المؤمنين، وغيرهم، وهو أحد الشجعان.
توفي في جمادى الأولى سنة (٧٣) هـ.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ٢٤٢)، «الإصابة» (٤/ ٦٩)، «الثقات» (٣/ ٢١٢)، «الاستيعاب» (٣/ ٩٥)، «الاستبصار» (٧٣)، «صفة الصفوة» (٩/ ١١٧)، «التاريخ الكبير» (٣/ ٦)، «الجرح والتعديل» (٥/ ٥٦)، «التاريخ الصغير» (١/ ١٥٩)، «التاريخ لابن معين» (٢/ ٤٩)، «تهذيب الكمال» (٢/ ٦٨٢)، «غاية النهاية» (١/ ٤١٩)، «الأعلام» (٤/ ٨٧)، «الرياض المستطابة» (٢٠١)، «رياض النفوس» (١/ ٤٢)، «حلية الأولياء» (١/ ٣٢٩)، «شذرات الذهب» (١/ ٤٢)، «العبر» (١/ ٤، ٦٠).
420
الحرام «١» ندْبٌ عند أهل العلْم، قال مالك: ومن مَرَّ به، ولم ينزلْ، فعليه دَمٌ.
وقوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ تعديد للنعمة، وأمر بشكرها.
ص: كَما هَداكُمْ: الكاف للتشبيهِ، وهو في موضع نصْبٍ على النعت لمصدرٍ محذوفٍ، و «مَا» مصدريةٌ، أي: كهدايتِهِ، فتكون «مَا» وما بعدها في موضع جَرٍّ، إِذ يَنْسَبِكُ منْها مع الفعل مصْدَرٌ، ويَحتملُ أن تكون للتعليلِ على مذهب الأخفش، وابن بَرْهَانَ «٢»، وجوَّز ابن عطيَّة وغيره، أنْ تكون «مَا» كافَّة للكاف عن العَمَل، والأول أولى «٣» لأن فيه إِقرار الكافِ على عملها الجرّ، وقد منع صاحبُ «المستوفى» «٤» أنْ تكون الكافُ مكفوفةً ب «مَا» واحتج من أثبته بقوله: [الوافر]
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ كَمَا النِّسْوَانُ وَالرَّجُلُ الْحَلِيمُ
أُريدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عبد لئيم
«٥» انتهى.
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٤).
(٢) عبد الواحد بن عليّ بن عمر بن إسحاق بن إبراهيم بن برهان أبو القاسم الأزديّ العكبري النّحوي.
صاحب العربيّة واللغة والتواريخ وأيّام العرب، قرأ على عبد السلام البصريّ وأبي الحسن وكان أوّل أمره منجما فصار نحويّا، وكان حنبليّا فصار حنفيّا. مات في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وأربعمائة.
ينظر: «بغية الوعاة» (٢/ ١٢٠- ١٢١).
(٣) ينظر: «البحر المحيط» (٢/ ١٠٦)، و «الدر المصون» (١/ ٤٩٥).
(٤) «المستوفى» في النحو، قال السيوطي في «بغية الوعاة» (٣٥٥) :«أكثر أبو حيان من النقل عنه». وهو لأبي سعد كمال الدين علي بن مسعود بن محمود بن الحكم الفرّخان القاضي. وفي «كشف الظنون» أنه علي بن مسعود الفرغاني. لكن قال السيوطي: «كذا، وسماه هكذا ابن مكثوم في «تذكرته».
(٥) البيتان لزياد الأعجم في ديوانه (ص ٩٧) و «الجنى الداني» (ص ٤٨١) و «شرح شواهد المغني» (ص ٥٠١) و «المقاصد النحوية» (٣/ ٣٤٨) وبلا نسبة في «مغني اللبيب» (١/ ١٧٨)، «خزانة الأدب» (١٠/ ٢٠٦- ٢٠٨)، «العيني» (٣/ ٤٨)، و «شرح أبيات المغني» للبغدادي (٤/ ١٢٥- ١٢٦)، و «الدر المصون» (١/ ٤٩٥).
ويروي البيت الثاني هكذا:
أريد حباءه ويريد قتلي واعلم أنه الرجل اللئيم
وبعده:
فإن الخمر من شر المطايا كما الحفظان شربني تميم
والنشوان: السكران. والنشوة: السكر. والحليم: الذي عنده تأن.
وتحمّل لما يثقل على النفس. يقول: أنا وأبو حميد كالسّكران والحليم، أتحمّل منه وهو يعبث بي.
كالسّكران يسفه على الحليم وهو متحمّل. وهذا تشبيه تمثيلي. شبّه حالته معه بحالة الحليم مع السّكران.
ينظر: «خزانة الأدب» (١٠/ ٢٠٩).
421
ثم ذكّرهم سبحانه بحالِ ضلالهم ليظهر قدر إِنعامه عليهم.
وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ، أي: من قبل الهدى.
وقوله سبحانه: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ المخاطب بهذه الآيةِ قريشٌ، ومن وَلَدَتْ، قاله ابن عبَّاس وغيره «١»، وذلك أنهم كانوا لا يخرجُونَ من الحَرَم، ويَقِفُون بجَمْعٍ، ويفيضون منْه، مع معرفته أنَّ عرفة هي موقفُ إِبراهيم، فقِيلَ لهم: أفيضُوا من حيثُ أفاضَ النَّاس، أي: من عرفة، و «ثُمَّ» ليست في هذه الآية للترتيبِ، إِنما هي لعطف جملة كلامٍ على جملة هي منها منقطعةٌ.
وقال الضَّحَّاك: المخاطب بالآيةِ جملةُ الأمَّة، والمرادُ بالناسِ إبراهيم، ويحتملُ أن تكون إِفاضةً أخرى، وهي التي من المزدلفة «٢»، وعلى هذا عوَّل الطَبريُّ «٣»، فتكون «ثُمَّ» على بابها، وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر: «النَّاسِي» «٤»، وتأوَّله آدم- عليه السلام-، وأمر عز وجل بالاستغفار لأنها مواطنه، ومظَانُّ القبولِ، ومساقطُ الرحْمَةِ، وفي الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خَطَب عشيَّة عَرَفَةَ، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، إِلاَّ التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، أَفِيضُوا عَلَى اسم اللَّهِ»، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ، خَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ، فَعَوَّضَ التّبعات من عنده» «٥».
(١) أخرجه الطبري في «التفسير» (٢/ ٣٠٧)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٧٥)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٥).
(٢) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٥).
(٣) الطبري لم يصرح بموافقته لتأويل الضحاك، وإنما احترز بوجود الإجماع على خلافه، ولولا الإجماع لقال بقوله. ينظر: «جامع البيان» (٤/ ١٩٠- ١٩١).
(٤) واستدل بها أبو الفتح على أن لام التعريف تدخل على الأعلام للذم كما تدخلها للمدح، فمن الأول قولهم: فلان بن الصّعق لأن ذلك داء ناله، فهى بلوى. ومن الثاني: المظفر، والعباس ونحوهما.
ينظر: «المحتسب» (١/ ١١٩)، و «الشواذ» (ص ٢٠)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٦)، و «البحر المحيط» (٢/ ١٠٩)، و «الدر المصون» (١/ ٤٩٧).
(٥) ذكر ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢/ ٢١٥) أحاديث بهذا المعنى عن أنس، وابن عمر، وعبادة.
وقال: ليس في هذه الأحاديث شيء يصح.
422

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٠ الى ٢٠٢]

فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
وقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ/... الآية.
قال مجاهد: المناسكُ: الذبائحُ، وهي إِراقة الدِّماء «١».
ع «٢» : والمناسكُ عندي العباداتُ في معالمِ الحجِّ، ومواضع النسك فيه.
والمعنى: إِذا فرغتُمْ من حجِّكم الذي هو الوقوفُ بعرفة، فاذكروا اللَّه بمحامده، وأثْنُوا عليه بآلائه عندكم، وكانت عادَةُ العَرَبِ، إِذا قَضَتْ حجَّها، تقفُ عند الجَمْرة تتفاخَرُ بالآباء، وتذكر أيام أسلافها من بَسَالةٍ، وكَرَم، وغير ذلك، فنزلَتِ الآية، أنْ يُلْزِموا أنفسهم ذكر الله تعالى أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيامِ الجاهلية، هذا قول جمهور المفسِّرين «٣».
وقال ابن عبَّاس، وعطاء: معنى الآيةِ: واذكروا اللَّه كذكر الأطفال آباءهم، وأمهاتهمْ، أي: فاستغيثوا به، والْجئوا إِليه «٤».
قال النوويُّ في «حليته» «٥» : والمرادُ من الذِّكْر حضورُ القَلْب، فينبغي أن يكون هو مقصودَ الذاكر، فيحرص على تحصيله، ويتدبَّر ما يذكر، ويتعقَّل معناه، فالتدبُّر في الذكْر مطلوبٌ كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنَى المقصود، ولهذا كان المذهبُ الصحيحُ المختارُ استحبابَ مَدِّ الذاكرِ قوله: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»، لما فيه من التدبُّر، وأقوالُ السلفِ، وأئمةِ الخَلَف في هذا مشهورةٌ. انتهى.
قال الشيخُ العارفُ أبو عبد اللَّه محمَّد بن أحمد الأنصاريُّ الساحليُّ المَالقِيُّ: ومنفعةُ الذكْرِ أبداً إِنما هي تَتْبع معناه بالفكْرِ ليقتبس الذاكِرُ من ذُكْرِهِ أنوار المعرفة، ويحصل على
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٣٠٧) رقم (٣٨٤٨)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤١٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد.
(٢) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٦).
(٣) ينظر: «معاني الزجاج» (١/ ٢٦٢)، و «الرازي» (٥/ ١٨٣)، و «الدر» (١/ ٢٣٢)، و «الوسيط» (١/ ٣٠٦). [.....]
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٣٠٩) برقم (٣٨٦٧)، وذكره البغوي (١/ ١٧٦)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤١٧).
(٥) «حلية النووي» (ص ٤٠).
423
اللُّبِّ المراد، ولا خير في ذِكْرٍ مع قَلْبٍ غافلٍ ساهٍ، ولا مع تضْييعِ شيءٍ من رسوم الشرعِ، وقال في موضعٍ آخر من هذا الكتاب الذي ألَّفه في «السُّلوك» : ولا مَطْمع للذَّاكر في دَرْكِ حقائقِ الذِّكْرِ إِلا بإِعمال الفكْر فيما تحْت ألفاظ الذكْر من المعانِي، وليدفع خَطَرات نفْسه عن باطنه راجِعاً إِلى مقتضى ذكْره حتى يغلب معنى الذكْر على قلبه، وقد آن له أنْ يدخل في دائرة أهْل المحاضَرَات. انتهى.
وقوله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا... الآية: قال أبو وائلٍ وغيره: كانت عادتهم في الجاهلية الدُّعَاءَ في مصالحِ الدنْيا فقطْ إذ كانوا لا يعرفون الآخرةَ، فَنُهُوا عن ذلك الدعاءِ المخصوصِ بأمر الدنيا، وجاء النهْيُ في صيغة الخبر عنه، والخَلاَقُ: الحظُّ، والنصيبُ «١».
قال الحسنُ بْنُ أبي الحَسَن: حَسَنَةُ الدنيا: العلْمُ والعبَادة «٢».
ع «٣» : واللفظ أَعمُّ من هذا، وحَسَنةُ الآخِرة الجنَّة بإِجماع، وعن أنس: قال:
كان أكثر دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» رواه البخاريُّ ومسلم وغيرهما «٤»، زاد مسلمٌ: «وكَانَ أَنَسٌ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ». انتهى.
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وعْدٌ على كسْب الأعمال الصالحة، والربُّ سبحانه سريعُ الحسابِ لأنه لا يحتاجُ إِلى عقْد، ولا إِعمال فكْر، قيل لعليٍّ- رضي اللَّه عنه-:
كيف يحاسِبُ اللَّه الخلائِقَ في يَوْمٍ، فقال: كما يَرْزُقُهُمْ فِي يومٍ، وقيل: الحسابُ هنا:
المجازاتُ.
وقيل: معنى الآية: سريعُ مجيءِ يومِ الحسابِ، فيكون المقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٦).
(٢) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٦).
(٣) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٧).
(٤) أخرجه البخاري (١١/ ١٩٥)، كتاب «الدعوات»، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة» حديث (٦٣٨٩)، ومسلم (٤/ ٢٠٧٠- ٢٠٧١) كتاب «الذكر والدعاء»، باب فضل الدعاء بأللهم آتنا في الدنيا حسنة، حديث (٢٦، ٢٧/ ٢٦٩٠).
424

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٣ الى ٢٠٥]

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥)
وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ. أَمَرَ اللَّه سبحانه بذكْره في الاْيام المعدوداتِ/، وهي الثلاثة الَّتي بعد يَوْم النحر، ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصّلوات. ٥١ ب قال مالك: يكبِّر من صلاة الظُّهْر يوم النَّحْر إِلى صلاة الصُّبْح من آخر أيام التَّشْريق، وبه قال الشافعيُّ، ومشهور مذهبِ مالكٍ، أنه يكبِّر إِثْر كلِّ صلاةٍ ثلاثَ تكْبيراتٍ.
ومن خواصِّ التكبير وبركتِهِ ما رواه ابن السُّنِّيِّ، بسنده، عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، عن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الحَرِيقَ، فَكَبِّرُوا فَإِنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ» «١» انتهى من «حلية النوويِّ» «٢».
وقوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ... الآية: قال ابنُ عبَّاس وغيره: المعنى:
من نَفَر اليوم الثَّاني من الأيام المعدوداتِ، فلا حرج عليه، ومن تأخَّر إِلى الثالث، فلا إِثم عليه، كلُّ ذلك مباحٌ إِذ كان من العربِ مَنْ يذمُّ المتعجِّل وبالعكْس، فنزلَتِ الآية رافعةً للجُنَاحِ «٣». قُلْتُ: وأهل مكة في التعجيلِ كغيرهم على الأصحِّ.
ثم أمر سبحانه بالتقوى، وذكَّر بالحَشْر، والوقوفِ بين يَدَيْهِ.
وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا... الآية.
قال السُّدِّيُّ: نزلَتْ في الأخْنَسِ بْنِ شريقٍ: أظهر الإِسلام، ثم هَرَب، فمرَّ بقومٍ من المسلمين، فأحرق لهم زرعاً، وقتل حُمُراً «٤».
قال ع «٥» : ما ثبت قطُّ أن الأخنس أسلم، قُلْتُ: وفي ما قاله ع: نظر،
(١) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» حديث (٢٩٥)، والعقيلي في «الضعفاء» (٢/ ٢٩٦)، من طريق عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه عن جَدِّه مرفوعا.
(٢) «حلية النووي» (ص ٣٣٢).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٣١٨- ٣٢١) برقم (٣٩٣١- ٣٩٥٧).
وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٢٣).
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٣٢٤) رقم (٣٩٦٤)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٢٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن السدي.
(٥) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٩).
425
ولا يلزم من عدم ثبوتِهِ عِنْده ألاَّ يثبت عنْد غيره، وقد ذكر أحمدُ بن نصرٍ الدَّاووديُّ في تفسيره أنَّ هذه الآية نزلَتْ في الأخْنَس بْنِ شريق. انتهى، وسيأتي للطبريِّ نحوه.
وقال قتادةُ، وجماعة: نزلَتْ هذه الآيةُ في كل مُبْطِن كُفْرٍ، أو نفاقٍ، أو كذبٍ، أو ضرارٍ، وهو يظهر بلسانه خلافَ ذلك، فهي عامَّة «١»، ومعنى: وَيُشْهِدُ اللَّهَ، أي:
يقول: اللَّه يعلم أنِّي أقول حقًّا، والأَلَدُّ: الشديدُ الخصومةِ الذي يَلْوِي الحجج في كل جانبٍ، فيشبه انحرافُه المَشْيَ في لَدِيديِ «٢» الوادي.
وعنه صلّى الله عليه وسلم: «أبغض الرّجال إلى الله الألدّ الخصم».
وتَوَلَّى وسَعى: يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكونا فِعْلَ قَلْبٍ، فيجيء «تولى» بمعنى: ضَلَّ وغَضِبَ وأنف في نَفْسه، فسعى بِحِيَلِهِ وإِدارته الدوائر علَى الإِسلام نحا هذا المنحى في معنى الآية ابْنُ جُرَيْج، وغيره.
والمعنى الثاني: أن يكونا فِعْلَ شخصٍ، فيجيء «تَوَلَّى» بمعنى: أدبر ونَهَض وسعى، أي: بقدميه، فقطع الطريقَ وأفسدها، نحا هذا المنحَى ابن عبَّاس وغيره.
وقوله تعالى: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ: قال الطبريُّ «٣» : المراد الأخنَسُ في إِحراقه الزرْعَ، وقتلِهِ الحُمُرَ.
قال ع «٤» : والظاهر أن الآية عبارةٌ عن مبالغته في الإِفساد.
ولا يُحِبُّ الْفَسادَ معناه: لا يحبُّه من أهل الصَّلاح، أو لا يحبُّه دِيناً، وإِلا فلا يقع إِلاَّ ما يحبُّ اللَّه وقوعه، والفسادُ: واقعٌ، وهذا على ما ذهب إِليه المتكلِّمون من أنَّ الحُبَّ بمعنى الإِرادة.
قال ع «٥» : والحُبُّ له على الإِرادة مزيَّة إِيثارٍ إِذ الحبّ من الله تعالى إنما هو
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٧٩).
(٢) اللّديدان: جانبا الوادي. كل واحد منهما لديد. ينظر: «لسان العرب» (٤٠١٩).
(٣) «جامع البيان» (٤/ ٢٣٨). [.....]
(٤) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٨٠).
(٥) «المحرر الوجيز» (١/ ٢٨١).
426
لما حسن من جميع جهاته.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٦ الى ٢١٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ... الآية: هذه صفة الكَافِرِ والمنافقِ الذاهِبِ بنَفْسِهِ زَهْواً، ويحذر المؤمن أن يوقعه الحَرَجُ في نحو هذا، وقد قال بعْضُ العلماءِ: كفى بالمرء إِثماً أنّ يقول له أخُوهُ: اتق اللَّهَ، فيقول له: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، مِثْلُكَ يُوصِينِي. قلت:
قال أحمد بن نصر الداوديّ: عن ابن مسعودٍ: من أكبر/ الذنبِ أنْ يقال للرجل: اتق ٥٢ أالله، فيقول: عليك نفسك، أنت تأمرني «١». انتهى.
والْعِزَّةُ هنا: المنعة، وشدَّة النفْس، أي: اعتز في نفسه، فأوقعته تلك العزةُ في الإِثم، ويحتمل المعنى: أخذته العزّة مع الإثم.
وفَحَسْبُهُ، أي: كافيه، والْمِهادُ: ما مهد الرجلُ لنفسه كأنه الفراشُ.
وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ... الآية: تتناول كلَّ مجاهدٍ في سبيل اللَّهِ، أو مستشهدٍ في ذاته، أو مغيِّر منْكَرٍ، وقيل: هذه الآية في شهداء غزوة الرَّجِيعِ «٢» :
عاصمِ بْنِ ثَابِتٍ «٣»، وخُبَيْب «٤»، وأصحابِهِمَا، وقال عكرمةُ وغيره: هي في طائفة من
(١) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ١٨٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٣٠)، وعزاه لوكيع، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في «الشعب» عن ابن مسعود.
(٢) والرّجيع (بفتح الراء وكسر الجيم) هو في الأصل: اسم للروث، سمي بذلك لاستحالته. والمراد هنا اسم موضع من بلاد هذيل، كانت الوقعة بقرب منه، فسميت به. ينظر: «فتح الباري» (٨/ ١٣١).
(٣) عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.
واسم أبي الأقلح قيس بن عصمة بن النّعمان بن مالك بن أميّة بن صبيعة بن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف الأنصاريّ. جدّ عاصم بن عمرو بن الخطاب لأمّه، من السّابقين الأولين من الأنصار.
ينظر: «الإصابة» (٣/ ٤٦٠).
(٤) خبيب بن عدي: بن مالك بن عامر بن مجدعة بن جحجبى بن عوف بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ.
شهد بدرا واستشهد في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ينظر: «الإصابة» (٢/ ٢٢٥).
427
المهاجرين، وذكروا حديث صهيب «١».
ويَشْرِي: معناه يبيعُ ومنه وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف: ٢٠]، وحكى قوم أنه يقالُ: شرى بمعنى اشترى، ويحتاجُ إِلى هذا من تأوَّل الآية في صُهَيْبٍ لأنه اشترى نفْسَه بمالِهِ.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ترجيةٌ تقتضي الحضَّ على امتثال ما وقع به المدْحُ في الآية كما أن قوله سبحانه: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ تخويفٌ يقتضي التحذيرَ ممَّا وقع به الذمُّ في الآية، ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخولِ في السِّلْم، وهو الإِسلام، والمُسَالمة، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في أهل الكتابِ، والألف واللام في الشيطانِ للجنْسِ».
وعَدُوٌّ: يقع للواحدِ، والاثنينِ، والجمعِ، وقوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ... الآية: أصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاعتقادات، والآراء، وغير ذلك، والمعنى: ضللتم، والْبَيِّناتُ محمّد صلّى الله عليه وسلم وآياته، ومعجزاته، إِذا كان الخطابُ أوَّلاً لجماعةِ المؤمنين، وإِذا كان الخطابُ لأهل الكتاب، فالبيناتُ ما ورد في شرائعهم من الإِعلام بمحمَّد صلّى الله عليه وسلم، والتعريف به.
وعَزِيزٌ: صفة مقتضيةٌ أنَّه قادرٌ عليكم لا تعجزونَهُ، ولا تمتنعون منه، وحَكِيمٌ، أي: مُحْكِمٌ فيما يعاقبكم به لِزَلَلِكُمْ.
وقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ، أيْ: ينتظرون، والمراد هؤلاء الذين يزلُّون، والظُّلَلُ:
جمع ظُلَّة، وهي ما أظَلَّ من فوق، والمعنى: يأتيهم حكم اللَّه، وأمره، ونهيه، وعقابه إِياهم.
وذهب ابن جُرَيْج وغيره إِلى أن هذا التوعُّد هو مما يقع في الدنيا «٣»، وقال قومٌ:
بل هو توعُّد بيوم القيامة «٤»، وقال قوم: إِلا أن يأتيهم الله وعيد بيوم القيامة «٥».
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٣٣٣) برقم (٤٠٠٤)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٨١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٣٠) وعزاه لابن جرير الطبري.
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٣٣٧) برقم (٤٠٢٠)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٨٢) والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٢١٠) وعزاه لابن جرير. من طريق ابن جريج، عن ابن عباس.
(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٨٣).
(٤) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٨٣).
(٥) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٨٣).
428
وأما الْمَلائِكَةُ، فالوعيد بإِتيانهم عنْدَ المَوْت والغمامُ: أرقُّ السحابِ، وأصفاه وأحسنه، وهو الذي ظُلِّلَ به بنو إِسرائيل.
وقال النَّقَّاش: هو ضَبَابٌ أبيض، وقُضِيَ الأمرُ: معناه وقع الجزاء، وعُذِّبَ أهل العصيان، وقرأ معاذ بن جَبَلٍ «١» :«وقضاء الأمر».
وإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ: هي راجعةٌ إِليه سبحانه قَبْل وبَعْد، وإِنما نبه بذكْر ذلك في يَوْم القيامة على زوالِ ما كان منها إلى الملوك في الدنيا.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١١ الى ٢١٢]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
وقوله سبحانه: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ... الآية: معنى الآية: توبيخُهم على عنادهم بعد الآياتِ البيِّناتِ، والمراد بالآيةِ: كم جاءَهُمْ في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم من آية معرّفة به دالّة عليه، ونِعْمَةَ اللَّهِ: لفْظٌ عامٌّ لجميع إِنعامه ولكنْ يقوِّي من حال النبيّ صلّى الله عليه وسلم معهم أنَّ المشار إِليه هنا هو محمَّد صلّى الله عليه وسلم فالمعنى: ومن يبدِّلْ من بني إِسرائيل صفةَ نعمة اللَّه، ثم جاء اللفظ منسحباً على كلِّ مبدِّل نعمةً للَّه، ويدخل في اللفظ كفّار قريش/، والتوراة أيضا نعمة ٥٢ ب على بني إِسرائيل، فبدَّلوها بالتحريفِ لها، وجَحْدِ أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ: خبرٌ يتضمنُ الوعيد.
وقوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا... الآية: الإِشارة إِلى كفار قريشٍ لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا، ويغتبطون بها، ويسخرون من أتْبَاعِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم كبلالٍ «٢»، وصُهَيْبٍ، وابنِ مَسْعودٍ، وغيرهم، فذكر اللَّه قبيح فعلهم، ونبه على خفض
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٢٨٤)، و «الكشاف» (١/ ٢٥٤)، وفيه أنها عطف على «الملائكة»، وينظر: «الشواذ» (ص ٢٠).
(٢) بلال بن رباح. هو بلال بن حمامة. أبو عبد الرحمن. الحبشي. مؤذن النبي صلّى الله عليه وسلم قال ابن حجر: اشتراه أبو بكر الصديق من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم النبي وأذن له، وشهد معه جميع المشاهد، وآخى النبي بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، ثم خرج بلال بعد النبي مجاهدا. توفي ب «الشام».
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٢٤٣)، «الإصابة» (١/ ١٧٠)، «الاستيعاب» (١/ ١٧٨)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٥٦)، «التاريخ الكبير» (٢/ ١٠٦)، «الجرح والتعديل» (٢/ ٣٩٥)، «الثقات» (٣/ ٢٨)، «تهذيب الكمال» (١/ ١٤٠)، «تهذيب التهذيب» (١/ ٥٠٢)، «العبر» (١/ ٢٤)، «تقريب التهذيب» (١/ ١١٠)، «التحفة اللطيفة» (١/ ٣٨٢)، «الحلية» (١/ ١٤٧).
429
منزلتهم بقوله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ومعنى الفوقيَّة هنا في الدرجَةِ والقَدْر ويحتمل أن يريد أنَّ نعيم المتَّقِينَ في الآخرة فوق نعيم هؤلاء الآن. قلت: وحكى الداوديّ عن قتادة: فوقهم يوم القيامة. قال: فَوْقَهُم في الجنّة «١». انتهى.
ومهما ذكرت الداوديّ في هذا «المختصر»، فإِنما أريد أحمد بن نَصْرٍ الفقيهَ المَالِكِيَّ، ومن تفسيره أنا أنقل. انتهى.
فإِن تشوَّفَتْ نفسُك أيها الأخُ إِلى هذه الفوقيَّة، ونَيْلِ هذه الدرجة العَليَّة، فارفض دنياك الدنيَّة، وازهَدْ فيها بالكليَّة لتسلَمَ من كل آفة وبليَّة، واقتد في ذلك بخَيْر البريَّهْ. قال عِيَاضٌ في «شِفَاهُ» «٢» : فانظُرْ- رحمك الله- سيرة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم وخُلُقَه في المال، تجده قد أوتي خزائنَ الأرْض [ومفاتيح البلاد، وأُحلّت له الغنائم «٣»، ولم تحلَّ لنبي قبله، وفتح عليه في حياته صلّى الله عليه وسلم بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق] «٤»، وجُبِيَتْ إِلَيْه الأخماس، [وصدقاتها ما لا يجبى «٥» للملوك إِلاَّ بعضه] «٦»، وهادَتْه جماعةٌ من الملوك، فما استأثر بشيء من ذلك، ولا أمْسَكَ دِرْهَماً منْه، بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين، ومات صلّى الله عليه وسلم، ودِرْعُهُ مرهُونَةٌ في نفقةِ عيَالِهِ، واقتصر من نفقته ومَلْبَسِهِ على ما تدْعُوه ضرُورتُهُ إِليه، وزهد فيما سواه، فكان- عليه
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٣٤٦) رقم (٤٠٥٠)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٨٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٣٤)، وعزاه لعبد الرزاق عن قتادة. [.....]
(٢) ينظر: «الشفا