ﰡ
[الآيات]
سُورَةٌ عظيمة وسفر جليل وآيات كريمة قد أَنْزَلْناها من مقام فضلنا وجودنا عليك يا أكمل الرسل تأييدا لنبوتك ورسالتك وترويجا لدينك وملتك وَفَرَضْناها اى قد أوجبنا الاحكام التي ذكرنا فيها وقدرنا الحدود المقررة في ضمنها والزمناها عليك وعلى من تبعك من المؤمنين تهذيبا لظواهرهم وبواطنهم وَبالجملة أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ عظاما دالة على وحدة ذاتنا وكمال اقتدارنا على وجوه الانعام والانتقام مع كونها بَيِّناتٍ واضحة الدلالات لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وتتعظون بها فتتركون ما يوجب مقتكم وهلاككم وتتوجهون الى ما جبلتم لأجله
ثم أخذ سبحانه بتطهير المؤمنين وتهذيبهم عما لا يليق بشأنهم سيما في افحش الفواحش وأقبح الآثام فقال
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي اى حكمهما وحدهما فيما فرضناها وقدرناها لكم حتما ايها المؤمنون الجلد قدم سبحانه الزانية لان وقوع الزنا في الأعم الأغلب انما يحصل من جانبهن ومن عرضهن النفس والزنية على الرجال وبعد ما سمعتم ايها الحكام الحد والحكم فيهما فَاجْلِدُوا بعد ثبوت الزنا بينهما على الوجه المفصل في علم الاحكام وهما غير محصنين إذ حكم المحصنين مطلقا بالإجماع رجم كل منهما ان كانا محصنين او رجم أحدهما ان كان الآخر غير محصن والمحصن هو المسلم الحر العاقل البالغ الذي قد وقع منه الوقاع بنكاح صحيح كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ اى مائة ضربة بسوط مؤلم بجلدة أشد إيلام بدل ضرابات قد استلذ بها حال الوقاع وزاد الامام الشافعى رحمه الله على جلد المائة تغريب العام إذ هو احوط وادخل في الانزجار لقوله عليه السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وَلا تَأْخُذْكُمْ ايها الحكام سيما وقت اجرائكم الحدود والاحكام بِهِما رَأْفَةٌ رقة ورحمة تضيعون بها حكمة الحد إذ لا رأفة فِي دِينِ اللَّهِ وفي تنفيذ أحكامه وحدوده على من خرج عن مقتضى العدل القويم والشرع المستقيم الإلهي إِنْ كُنْتُمْ ايها الحكام المقيمون للحدود والاحكام بين الأنام تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبعموم ما جاء من عند الله سبحانه من الأوامر والنواهي وجميع الحدود والاحكام الموضوعة من لدنه على مقتضى الحكمة المتقنة وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الذي فيه تبلى السرائر وتكشف الضمائر فلكم ان تقيموا حدود الله على الوجه الذي أمرتم بها لئلا تؤاخذوا في يوم الجزاء وَلْيَشْهَدْ وليحضر وليبصر حين اجراء الحد عليهما عَذابَهُما طائِفَةٌ وجمع كثير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المعتبرين تفضيحا لهما وتشهيرا لامرهما لينزجر مما جرى عليهما من في قلبه ميل الى ما أتيا به من الفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة
ثم أشار سبحانه الى قبح مناكحتهما وشناعة الفتهما ومواصلتهما على وجه المبالغة في النهى والكراهة فقال الزَّانِي اى الذي يرغب ويميل الى عورات المسلمين بلا رخصة شرعية متعديا عن حدود الله وهتكا لستره وحرمته لا يَنْكِحُ ان نكح إِلَّا زانِيَةً مثله مناسبة له مشاكلة إياه إذ الجنسية علة الالفة والتضامّ أَوْ مُشْرِكَةً هي اخس وأخبث وأشد قبحا وشناعة منها وَالزَّانِيَةُ الراغبة للأجانب المائلة إليهم بلا طريق شرعي لا يَنْكِحُها ايضا إِلَّا زانٍ كذلك لكمال الملايمة والمشابهة أَوْ مُشْرِكٌ هو أخبث وأقبح منه وَبالجملة قد حُرِّمَ ذلِكَ الفعل القبيح والخصلة الذميمة الشنيعة حرمة مؤبدة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الموقنين المخلصين من ارباب العزائم ونهى عن اهل الرخص منهم نهيا متناهيا الى حد النفي والحرمة
ثم قال سبحانه
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم ورجعوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الرمي والافتراء وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا على أنفسهم بالتوبة والندامة عن ظهر القلب فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائرهم غَفُورٌ يعفو عنهم جريمتهم ويستر زلتهم رَحِيمٌ يرحمهم ويقبل توبتهم ان أخلصوا فيها
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ بالزنا وَان لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ حضراء عندهم إِلَّا أَنْفُسُهُمْ اى غير أنفسهم فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ فالواجب عليهم لإسقاط حد القذف عنهم في هذه الصورة ان يشهد أحدهم أَرْبَعُ شَهاداتٍ مؤديا في اربع كرات مؤكدات بالقسم بِاللَّهِ إِنَّهُ اى الزوج المدعى لَمِنَ الصَّادِقِينَ في هذه الدعوى لا من الكاذبين المفترين
وَالْخامِسَةُ يعنى بعد ما ادى اربع شهادات مؤكدات بالقسم على عدد شهود الزنا اتى ايضا بالشهادة الخامسة المؤكدة للاربعة وايدها بالقسم ايضا على وجه التغليظ بان قال هكذا أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ اى طرده وتبعيده عن ساحة عز قبوله وسعة رحمته عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ في هذه الدعوى
وَبعد أداء الشهادات الأربع على وجهها وتأكيدها بالخامسة المؤكدة باللعنة فقط سقط عنه حد القذف وثبت حد الزنا على المرأة ووقع التفريق المؤبد بينهما بالفسخ او بالطلاق على اختلاف الرأيين ونفى الولد ايضا ان تعرض له فيها لكن يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ اى يسقط عن المرأة حد الزنا بعد أَنْ تَشْهَدَ المرأة ايضا أَرْبَعَ شَهاداتٍ مؤكدات بالقسم بِاللَّهِ في كل مرة وشهادة إِنَّهُ اى الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ المفترين فيما رمانى به وانا بريئة عنه
وَالْخامِسَةَ يعنى بعد أداء الاربعة المؤكدات بالقسم أتت ايضا بالشهادة الخامسة المؤكدة للاربعة وأيدتها بالقسم ايضا على وجه التغليظ والمبالغة بان قالت هكذا أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ وقهره وتبعيده عن رحمته عَلَيْها إِنْ كانَ زوجها مِنَ الصَّادِقِينَ في هذا الرمي الشنيع وبعد ما أدتها ايضا على وجهها فقد سقط الحد عنها ايضا ووقع التفريق المؤبد بينهما لقوله عليه السلام. المتلاعنان لا يجتمعان ابدا. ثم قال سبحانه
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ المطلع على سرائر عباده عَلَيْكُمْ ايها المجترؤون بالحلف الكاذب وبأداء الشهادات الكاذبة الباطلة وكذا تحمل لعنة الله وغضبه في تغليظ الحلف الجاري في ثبوت الوقائع والخطوب وَرَحْمَتُهُ اى مرحمته وشفقته بالسر والإخفاء عليكم لفضحكم واظهر شنيعتكم البتة ولكن قد أمهلكم وستر عليكم رجاء ان تتوبوا عن هتك محارم الله والخروج عن
ثم أشار سبحانه الى طهارة ذيل عائشة رضى الله تعالى عنها عما رماها وافتراها اهل الزيغ والضلال جهلا بجلالة قدرها وعلو شأنها وكمال عصمتها وعفتها فقال إِنَّ المسرفين المفسدين الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ اى بالكذب المنصرف عن الحق بمراحل عُصْبَةٌ اى فرقة وعصابة معدودة مِنْكُمْ ظاهرا يريد عبد الله بن ابى وزيد بن رفاعة واحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم فعليكم ايها المؤمنون المقذوفون انه لا تَحْسَبُوهُ ولا تظنوه اى الإفك الذي قد جاءوا به شَرًّا لَكُمْ ولحوق عار عليكم منه بَلْ هُوَ اى إفكهم هذا خَيْرٌ لَكُمْ وثواب عظيم واجر جزيل جميل وظهور كرامة ونزول آيات عظام كرام في برائتكم وطهارتكم وتهويل شأنكم وقد حق وثبت عند الله المنتقم الغيور لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ اى من القاذفين المفترين جزاء مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالإفك الَّذِي قد جاءوا به أولئك المفسدون المفرطون ظلما وزورا ولا سيما المفسد المنافق الذي قد تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ اى معظم الآفكين ورئيسهم وهو ابن ابى الذي تحمل كبره وعظمه وهو القيام الى اذاعته وإشاعته إذ هو بنفسه قد أخذ في افشائه وإشاعته أولا عداوة مع رسول الله ومع اهل بيته لذلك لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة إذ هو مهان مطرود بين المؤمنين مشهور بالنفاق والشقاوة وله في الآخرة أشد العذاب
ثم وبخ سبحانه على الآفكين وقرعهم حيث قال لَوْلا وهلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ اى الإفك ايها الآفكون المسرفون لم تظنوا بالمقذوفين خيرا كما ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَلم لم تقولوا مثل ما قالُوا اى المؤمنون المنزهون المطهرون أمثال هذا عن إخوانهم سيما عن اهل بيت العصمة والعفاف هذا إِفْكٌ مُبِينٌ وكذب عظيم وفرية بلا مرية إذ ساحة عصمتها وطهارة ذيلها ونجابة طينتها أجل وأعلى من ان يفترى عليها سيما بأمثال هذه المفتريات الباطلة عصمنا الله عما لا يرضى عنه
لَوْلا جاؤُ اى الآفكون المسرفون وأقاموا عَلَيْهِ اى على إفكهم هذا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدولا ثقات يصدقون فيما قالوا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأربع العدول فَأُولئِكَ الآفكون المفترون عِنْدَ اللَّهِ المطلع على ضمائرهم ومخايلهم فيها هُمُ الْكاذِبُونَ المقصورون على الكذب يجازيهم سبحانه بمقتضى ما اقترفوا من الكذب والبهتان سيما مع اهل بيت العصمة والكرامة
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ايها الباهتون المفترون بتوفيقكم على الانابة والرجوع من هذه الفرية العظيمة وَرَحْمَتُهُ الشاملة لكم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ وأحاط بكم فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ وخضتم في إشاعته واذاعته عَذابٌ عَظِيمٌ عاجلا وآجلا
وكيف لا إِذْ تَلَقَّوْنَهُ أنتم مع نهاية كراهته وسماجته بِأَلْسِنَتِكُمْ سائلا بعضكم بعضا متلقيا على قبوله وسماعه وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لا ظن ولا يقين بل جهل وتخمين وَمع عظم هذا الجرم عند الله تَحْسَبُونَهُ أنتم ايها الحمقى المفرطون المسرفون هَيِّناً سهلا يسيرا لا يترتب عليه شيء من العذاب والعقاب وَالحال انه هُوَ اى رمى تلك البريئة العفيفة عِنْدَ اللَّهِ المطلع لعفتها وكمال عصمتها عَظِيمٌ فظيع في غاية العظمة والفظاعة مستجلب لانواع العذاب وأشد النكال إذ الافتراء بآحاد الناس يوجب أشد العذاب وأسوأ العقاب فكيف بأفضلهم وأشرفهم
وَلَوْلا وهلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أولا ايها
وبالجملة انما يَعِظُكُمُ اللَّهُ المصلح لمفاسدكم ويبالغ في وعظكم وتذكيركم كراهة أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً مادمتم احياء إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله مصدقين لنبيه إذ أمثال هذه الخرافات بالنسبة الى بيت النبوة من امارات الكفر والتكذيب وعلامات سوء الأدب مع الله ورسوله
وَبعد صدور أمثال هذه الخرافات من اصحاب الإسراف والإفساد يُبَيِّنُ اللَّهُ المدبر لمصالحكم لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الصفح والاعراض عن أمثال هذه الافتراءات الهاتكة لأستار محارم الله سيما مع أكرم عترة حبيبه ﷺ وَاللَّهُ المصلح لمفاسد أحوالكم عَلِيمٌ بما في ضمائركم وخواطركم حَكِيمٌ في ازالة ما يؤذيكم ويغويكم.
ثم قال سبحانه تذكيرا لعموم عباده إِنَّ المفسدين المسرفين الَّذِينَ يُحِبُّونَ من خبث بواطنهم أَنْ تَشِيعَ تظهر وتنتشر الْفاحِشَةُ والخصلة المذمومة عقلا وشرعا فِي الَّذِينَ آمَنُوا اى بين عموم المؤمنين لَهُمْ جزاء لإشاعتهم واذاعتهم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مقرع فِي الدُّنْيا بالجلد والجلاء وَفي الْآخِرَةِ بالنار المحرقة الملتهبة وَاللَّهُ المطلع على عموم ما جرى في الغيب والشهادة يَعْلَمُ قبح ما في الاشاعة والشيوع من القباحة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ قبحها لذلك تحبون الاشاعة والإذاعة بها
وَبالجملة لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بفتح باب التوبة والرجوع عن المعصية بالندامة الخالصة لفضحكم البتة وعذبكم بقبح صنعكم وشنعة خصلتكم هذه وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المراقب لعموم ما صدر عنكم رَؤُفٌ لكم يحفظكم عما يضركم رَحِيمٌ لكم يرحمكم بعد ما وفقكم على التوبة والندامة
ثم لما كان صدور أمثال هذه المعاصي والآثام انما هي بمتابعة الشيطان المضل المغوى نادى سبحانه عموم عباده المؤمنين ونهاهم عن متابعته والاقتداء به والاقتفاء باثره فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الصانع وصفاته وصدقوا بالنبوة والرسالة والتشريع العام المفيد لاعتدال الأخلاق والأطوار بين عموم العباد مقتضى ايمانكم مخالفة النفس والهوى اللتين هما من جنود الشيطان المضل المغوى عن طريق الحق عليكم ان لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ولا تقتفوا اثره في اشاعة الفاحشة وهتك الحرمة واستحباب المعصية وَمَنْ يَتَّبِعْ منكم ايها المؤمنون خُطُواتِ الشَّيْطانِ المضل المغوى فقد ضل وغوى وكيف لا فَإِنَّهُ اى الشيطان يَأْمُرُ عموم من يتابعه ويقتدى به بِالْفَحْشاءِ والمستقبح عقلا وشرعا وَالْمُنْكَرِ المردود مروءة ونقلا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ المتكفل لإصلاح أحوالكم عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ الواسعة الشاملة لعموم عباده ما زَكى وما طهر وخلص مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ من متابعة الشيطان أَبَداً ما دمتم احياء إذ متابعته مطبوع لكم مستحسن عندكم مقبول لأنفسكم وَلكِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده يُزَكِّي اى يخلص ويطهر من غوائل الشيطان ووساوسه مَنْ يَشاءُ من عباده رعاية لحكمته وضبطا لمصلحته التي قد جبل عباده عليها وَاللَّهُ المطلع على عموم ما ظهر وما بطن سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بقصدهم ونياتهم فيها وبعد ما جاء من القاذفين الآفكين ما جاء
هذا وحثهم على الانفاق عليهم وأمرهم بالإحسان بدل الإساءة حيث قال وَلا يَأْتَلِ اى لا يحلف ولا يقصر أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ في الدين وَأولو السَّعَةِ في الرزق والمال أَنْ يُؤْتُوا اى من ان لا يؤتوا او على ان لا يؤتوا أُولِي الْقُرْبى الذين ينتمون إليكم ايها المؤمنون بالقرابة النسبية وَكذا الْمَساكِينَ الفاقدين لقوت يومهم وَلا سيما فقراء الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الباذلين مهجهم في ترويج دينه بسبب انهم قد خاضوا في معصية الإفك والافتراء وجاءوا ببهتان عظيم وأحبوا ان يشيعوه ويتقولوا به ظلما وزورا وَبعد نزول آيات البراءة والتنزيه في شأن العفيفة رضى الله عنها لْيَعْفُوا اى جملة المؤمنين عن ذنوب القاذفين بعد ما تابوا وندموا وقبل الله منهم توبتهم وَلْيَصْفَحُوا وليعرضوا عن جريمتهم ويصافحوا معهم وليعطوا إليهم ما اعطوهم من قبل أَلا تُحِبُّونَ ايها المقذوفون المطهرون المنزهون أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ زلتكم وذنوبكم بسبب عفوكم عن القاذفين وصفحكم عما جاءوا به افتراء ومراء وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ لهم يغفر ذنوبهم بسبب عفوهم جرائم إخوانهم رَحِيمٌ يرحم عليهم تفضلا وامتنانا. روى انه عليه السلام قرأها على ابى بكر رضى الله عنه فقال بلى أحب وأعاد الى مسطح وهو احد القاذفين الآفكين وهو ابن خالة ابى بكر رضى الله عنه فقير ليس له شيء نفقته التي قد أنفق عليه دائما.
ثم قال سبحانه تذكيرا لعموم عباده ونهيا لهم عن الرمي بالزنا مطلقا إِنَّ المسرفين المفرطين الَّذِينَ يَرْمُونَ بالزنا الْمُحْصَناتِ المتعففات المستحفظات لحدود الله الْغافِلاتِ المبرءات المنزهات عما رموا به أولئك الغفلة الجهلة ظلما وزورا الْمُؤْمِناتِ الموقنات بالله وبما جاء من عنده من الحدود والاحكام الجارية على السنة رسله ولا سيما بيوم الجزاء المعد للكشف والتفضيح لُعِنُوا وطردوا عن روح الله وسعة رحمته لقصدهم بعرض العفائف وهتك حرماتهن وطعنهم فيهن افتراء ومراء فِي الدُّنْيا بإجراء الحد وانواع الشتم والطرد ورد شهادتهم مدة حياتهم وَالْآخِرَةِ بأنواع العذاب والنكال وَبالجملة هم بسبب قبح صنيعهم وسوء أفعالهم لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا عذاب أعظم منه لعظم جرمهم وعصيانهم اذكر لهم يا أكمل الرسل توبيخا لهم وعظة وتذكيرا لمن اعترض لهم من المؤمنين يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بالهام الله واعلامه أَلْسِنَتُهُمْ اى القاذفين الباهتين وتقر بعموم ما صدر عنهم من الكذب ورمى المحصنات وقذف العفائف عمدا بلا علم لهم ولا شعور بحالهن وَأَيْدِيهِمْ بما اقترفوا من الأخذ والإعطاء لا على الوجه المشروع وَأَرْجُلُهُمْ بالسعي والتردد الى ما لا يرضى منه سبحانه ولا رسوله ولا المؤمنون وبالجملة يقر كل من أعضائهم وجوارحهم بِما كانُوا يكسبون ويَعْمَلُونَ به من المعاصي والآثام وبالجملة يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ المجازى لاعمالهم دِينَهُمُ وجزاءهم الْحَقَّ اى يوفى عليهم ما يستحقون من الجزاء بلا زيادة ولا نقصان عدلا منه سبحانه وَحينئذ يَعْلَمُونَ يقينا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام هُوَ الْحَقُّ المقصور على التحقق والثبوت بالقسط والعدل الْمُبِينُ الظاهر ألوهيته وربوبيته على الوجه الاقسط الأقوم بلا ميل منه وانحراف عن جادة الاستقامة والعدل الحقيقي
ومن جملة عدالته رعاية المناسبات بين المظاهر والمربوبات كما بينهما سبحانه بقوله الْخَبِيثاتُ من النساء المطعونات بأنواع الرذائل المنحرفات عن جادة السلامة
ثم لما كان أمثال هذه الهذيانات الباطلة والمفتريات العاطلة من نتائج الخلطة والاستيناس مع اصحاب الغفلة وكشف الحجب والأستار الواقعة بين ذوى القدر والاعتبار واولى الخطر الكبار الى من هو من السفلة السافلين المنحطين عن درجة ارباب الاستبصار أشار سبحانه الى ان الاختلاط والاستيناس بين المؤمنين لا بد وان يكون مسبوقا بالاستيذان والاسترخاص حتى لا يؤدى الى أمثال هذه الخرافات فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم محافظة آداب المحبة والإخلاص بينكم ومن جملتها انها لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ اى بيتا من بيوت إخوانكم بغتة بلا استيذان من أهلها ان تصبروا حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتستأذنوا وتطلبوا رخصة الدخول وَبعد ما اذنتم ورخصتم لكم ان تُسَلِّمُوا أولا عَلى أَهْلِها بان تقولوا السلام عليكم أأدخل أم لا ثلاث مرات هكذا قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم فان اذنتم بالدخول فادخلوا والا فارجعوا ذلِكُمْ الاستيذان والاستيناس خَيْرٌ لَكُمْ من المبادرة الى الدخول بغتة وانما انزل عليكم هذه الآية الكريمة المتعلقة بالأخلاق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وتتعظون بها وتحفظون حدود المصاحبة والمواخاة بينكم وتحافظون عليها ولا تجاوزون عن مقتضى المروءة والعدالة
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها اى في البيوت أَحَداً تستأذنون منه فَلا تَدْخُلُوها ابدا لئلا تتهموا بأنواع التهمة بل اصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ اى لا تدخلوا حتى تجدوا من يأذن لكم وَبعد ما وجدتم إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فالوقت لا يسع بالدخول فَارْجِعُوا على الفور بلا تفحص ولا تفتيش عن أسبابه على وجه الإلحاح والاقتراح كما يفعله الجهلة من الناس هُوَ اى الرجوع بلا تفحص أَزْكى لَكُمْ واطهر لنفوسكم من الإلحاح وَاللَّهُ المدبر لمصالحكم بِما تَعْمَلُونَ وتأملون في نفوسكم عَلِيمٌ يجازيكم بمقتضى علمه وخبرته
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اى ضيق ومنع أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ سيما قد كان فِيها مَتاعٌ لَكُمْ تستأجرونها وتستعيرونها للادخار والاستخزان وَبالجملة اللَّهُ المطلع على ضمائر عباده يَعْلَمُ منكم ما تُبْدُونَ وتظهرون وَما تَكْتُمُونَ وتخفون يجازيكم على مقتضى علمه.
ثم امر سبحانه لحبيبه ﷺ بتذكير عباده وتهذيب أخلاقهم سيما في حفظ المحارم والحدود فقال قُلْ يا أكمل الرسل لِلْمُؤْمِنِينَ المصدقين لحدود الله الممتثلين بأوامره يَغُضُّوا وينقصوا مِنْ أَبْصارِهِمْ دائما حتى لا يقع نظرهم بغتة الى المحارم
وَقُلْ ايضا يا أكمل الرسل لِلْمُؤْمِناتِ المقيمات لحدود الله المحترزات عن محارمه يَغْضُضْنَ وينقصن مِنْ أَبْصارِهِنَّ ويقصرن نظرهن الى أزواجهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ من الميل الى المحارم ولهن ان لا يعرضن انفسهن الى غير أزواجهن وَلا يُبْدِينَ ولا يظهرن زِينَتَهُنَّ لغيرهم إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها من الثياب التي يلبسن وَمن كمال تحفظهن وتسترهن لْيَضْرِبْنَ وليسترن بِخُمُرِهِنَّ ومقانعهن عَلى جُيُوبِهِنَّ اى نحورهن وصدورهن مبالغة في التستر والتحفظ وَبالجملة لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ اى الأشياء التي يتزين بها لازدياد الحسن إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ اى لأزواجهن إذ الزينة انما هي لأجلهم ولازدياد ميلهم إليهن أَوْ آبائِهِنَّ إذ هم الأولياء لهن أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ لحفظهم محارم أبنائهم وحرمتهن عليهم مطلقا أَوْ أَبْنائِهِنَّ لأنهم أمناء على أمهاتهم أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ إذ هم يحفظون حمية آبائهم وحرمة محارمهم أَوْ إِخْوانِهِنَّ إذ هم احفظ عليهن من أنفسهم لخوف لحوق العار عليهم حمية وغيرة أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ إذ هم مثل آبائهم في المحافظة أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ لان نسبتهم إليهن كنسبتهم الى أمهاتهم أَوْ نِسائِهِنَّ اى المسلمات مطلقا إذ لا يتصور منهن الضرر سوى المساحقة والايمان يمنع عنها أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إذ الاحتراز عنهم موجب للحرج لأنهم من اهل الخدمة أَوِ التَّابِعِينَ لهن غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وذوى الحاجة والشهوة مِنَ الرِّجالِ إليهن إذ هم الهرمى الذين لا يرجى منهم الشهوة قطعا أَوِ الطِّفْلِ وهم الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لعدم بلوغهم أوان الحلم وثوران الشهوة وَقل لهن ايضا يا أكمل الرسل لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ولا يترقصن ولا يتبخترن على العادة الجاهلية لِيُعْلَمَ ويظهر ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَبالجملة تُوبُوا وارجعوا رجالا ونساء إِلَى اللَّهِ المبدئ المبدع لكم من كتم العدم جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بالله وبوحدة ذاته والمصدقون بكتبه ورسله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بالفلاح والنجاح من عند الله الملك التواب الفتاح.
ثم لما أشار سبحانه الى محافظة الحدود وآداب الالفة والمصاحبة بين المؤمنين ونهاهم عن امارات السفاح ومقدمات الزنا مطلقا لئلا يختل النسب ولا يختلط النطف وقدمها اهتماما بشأنها أراد ان يشير الى ضبط النكاح الصوري المنبئ عن النكاح المعنوي فقال وَأَنْكِحُوا ايها الأولياء السادة المتولون لأمور من في حفظكم وحضانتكم الْأَيامى مِنْكُمْ وهي جمع الايم والايم العزب سواء كان ذكرا او أنثى وبكرا او ثيبا وَانكحوا ايضا الصَّالِحِينَ للنكاح والتزويج مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ فعليكم ايها الولاة تزويج العباد والإماء ولا تبالوا بفقرهم وفاقتهم إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ عند العقد والنكاح يُغْنِهِمُ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوالهم مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده ورحمته لعباده بعد النكاح وَاللَّهُ المتكفل لأرزاق عباده واسِعٌ يوسع عليهم من رزقه عَلِيمٌ برثاثة حالهم مغن علمه بهم عن سؤالهم
وَلْيَسْتَعْفِفِ
وَكيف لا يعاقبكم ايها المسرفون المصرون على الفسوق والعصيان مع انا لَقَدْ أَنْزَلْنا من مقام فضلنا وجودنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ واضحات فيها ما هو صلاحكم ونجاتكم وَاوضحناها لكم بان او ردنا فيها مَثَلًا مِنَ احوال الظلمة الغواة الطغاة العداة الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ لتعتبروا أنتم مما جرى عليهم من سوء صنيعهم وَلتكون قصصهم وأمثالهم مَوْعِظَةً وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ منكم المحترزين من بطشنا وانتقامنا ومع ذلك لم تعتبروا ولم تنزجروا حتى لا تستحقوا أشد العذاب وأسوأ العقاب أمثالهم
وكيف لا تنزجرون عن قهر الله ايها الغافلون ولا تخافون عن بطشه وانتقامه ايها الضالون المفسدون المفرطون اما تستحيون منه سبحانه سيما مع حضوره وشهوده في عموم الأماكن والأحيان وظهور نوره في جميع الأنفس والآفاق غيبا وشهادة ظاهرا وباطنا ازلا وابدا أولا وآخرا صورة ومعنى وكيف تتركون حدوده وتخرجون عن مقتضى أوامره ونواهيه الموردة في كتبه المنزلة على رسله ايها الجاهلون المسرفون المفسدون المفرطون إذ هو اللَّهُ المتجلى بأسمائه الحسنى وأوصافه العظمى نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى الظاهر فيهما ومنهما ومظهرهما وكذا موجد ما ظهر بينهما وفيهما وعليهما جميعا من كتم العدم بلا سبق مادة
فِي بُيُوتٍ وبقاع معدة للتوجه والتذكر مع انه قد أَذِنَ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده الميسر لهم طريق الوصول الى جنابه أَنْ تُرْفَعَ اى لان ترفع بناؤها وتشيد اساسها وتعظم غاية التعظيم وَيُذْكَرَ فِيهَا اى لان يذكر في تلك البيوت والمساجد المعدة للتوجه والعبادة اسْمُهُ الذي هو عبارة عن كلمة توحيده وتنزيهه وتقديسه ولهذا يُسَبِّحُ لَهُ وينزه ذاته سبحانه عما لا يليق بشأنه توجها اليه سبحانه وطلبا لمرضاته فِيهَا اى في تلك البيوت المعدة المذكورة بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ اى في عموم
رِجالٌ اى ابطال كمل مخلصون منجذبون نحو الحق مشمرون أذيال هممهم لسلوك طريق الفناء منقطعون عن الدنيا الدنية وما فيها بحيث لا تُلْهِيهِمْ ولا تشغلهم ولا تخدعهم ولا تغرهم تِجارَةٌ وأرباح متعلقة بالنشأة الدنيوية والاخروية ايضا وَلا بَيْعٌ ايضا كذلك مطلقا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعن التوجه نحو جنابه والعكوف حول بابه وَلا عن إِقامِ الصَّلاةِ ودوام الميل اليه والمناجاة معه وَلا عن إِيتاءِ الزَّكاةِ وانفاق ما في أيديهم وما ينسب إليهم خالصا لوجهه الكريم ومع ذلك يَخافُونَ يَوْماً اى عذاب يوم واى يوم يوما تَتَقَلَّبُ اى تتقلقل وتضطرب فِيهِ الْقُلُوبُ وَتدهش وتتحير فيه الْأَبْصارُ
كل ذلك لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ المجازى عن عموم أعمالهم أَحْسَنَ ما عَمِلُوا اى يجزى أعمالهم الجميلة الصادرة عنهم بأحسن الجزاء وأجملها وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ امتنانا عليهم وتفضلا وَاللَّهُ المكرم المفضل لخواص عباده يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ منهم من الرزق المعنوي الحقيقي مستوفى بِغَيْرِ حِسابٍ بلا مقابلة أعمالهم ومعاوضة حسناتهم بل بمحض الكرم والجود.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة منه في كتابه هذا وَالَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق وأنكروا عليه وأظهروا الباطل ظلما وزورا وأصروا عليه عنادا ومكابرة لذلك صارت أَعْمالُهُمْ التي خيلوها صالحة مستجلبة لانواع الخير والحسنى لهم في يوم الجزاء على عكس اعمال اهل الايمان عندهم وبزعمهم كَسَرابٍ اى صارت أعمالهم مثل سراب يلمع ويبرق بِقِيعَةٍ اى بادية وصحراء بحيث يَحْسَبُهُ ويظنه الظَّمْآنُ من بعيد ماءً مسكنا للعطش مبردا للأكباد فلما رآه العطشان سار اليه وسارع نحوه وسعى سعيا سريعا حَتَّى إِذا جاءَهُ بعد تعب كثير وعناء مفرط مؤملا الوصول الى الماء لَمْ يَجِدْهُ ماء بل لم يجد ايضا شَيْئاً آخر متأصلا في الوجود سوى العكوس التي يتراءى كالماء في البريق واللمعان من تقلب الحدقة واضطرابها ومن تشتت البال وضعف القوى واختلال المزاج والحال باستيلاء العطش المفرط وحرقة الكبد وَبعد ما قد ايس من وجدان الماء وكذا عن نفع الأعمال وَجَدَ اللَّهَ المراقب عليه في عموم أحواله محاسبا إياه عن جميع ما صدر عنه حاضرا شهيدا عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ على الوجه الاقسط الأعدل بلا زيادة ولا نقصان وَاللَّهُ المطلع على عموم ما جرى على عباده في جميع شئونهم وتطوراتهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم ويجازيهم بمقتضى علمه وخبرته بلا فوت شيء مما صدر عنهم عدلا منه سبحانه
أَوْ مثل اعمال الكفرة في عدم النفع والخير كَظُلُماتٍ اى كاصحاب ظلمات متراكمة في ليلة مظلمة وهم ليلتئذ مضطرون مغمورون فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق غائر منسوب الى اللج وهو معظم الماء يَغْشاهُ اى يغطى البحر ويعلو عليه مَوْجٌ هائل مِنْ فَوْقِهِ اى فوق الموج الاول وعقبه مَوْجٌ آخر اهول منه وهكذا تترادف وتتوالى وتتعاقب امواج كثيرة متراكمة مترادفة بعضها فوق بعض على التوالي والتتالى مع انه مِنْ فَوْقِهِ اى من فوق الموج المظلم المتجدد بتجدد الأمثال سَحابٌ كثيف ثقيل اظلم منه وبالجملة تلك الأمواج والسحب ظُلُماتٌ متراكمة مترادفة بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ وأشد منه بحيث إِذا أَخْرَجَ من وقع واضطر فيها يَدَهُ حذاء بصره اختيارا لنظره لَمْ يَكَدْ يَراها اى لم يقرب ان يرى يده ويشهدها بالقوة فكيف الرؤية بالفعل هكذا اعمال الكفرة المتوغلين في بحر الغفلة والضلال المغشاة بالأمواج المتراكمة من الظلم والطغيان والبغي والعدوان من فوقها السحب الكثيفة والحجب الغليظة
أَلَمْ تَرَ ولم تعلم ايها المعتبر الرائي أَنَّ اللَّهَ المتوحد برداء العظمة والكبرياء المستقل بالوجود الحقيقي اللائق بكمال الكرامة والجود يُسَبِّحُ لَهُ ويقدس ذاته سبحانه عن جميع ما لا يليق بشأنه لا سيما من شوب النقص وسمات الحدوث والإمكان جميع مَنْ فِي السَّماواتِ من المجبولين على فطرة المعرفة المتوجهين نحو المبدع طوعا وَكذا جميع من في الْأَرْضِ ايضا كذلك وَكذا الطَّيْرُ في جو الهواء الواقع بين الأرض والسماء يسبحن له ويقدسن ذاته صَافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو كُلٌّ اى كل واحد من المسبحين السماويين والارضيين والهوائيين قَدْ عَلِمَ وأدرك صَلاتَهُ وميله الى ربه الذي أوجده وأظهره وَتَسْبِيحَهُ الذي قد سبح ونزه به مبدعه عما لا يليق بشأنه وَبالجملة اللَّهَ المتصف بالأسماء الحسنى والصفات العليا عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بِما يَفْعَلُونَ اى بجميع ما صدر عنهم من التوجه والتسبيح وباخلاصهم فيه
وَكيف لا يعلم سبحانه افعال عباده ومماليكه إذ لِلَّهِ المظهر المبدع ابتداء وانتهاء مُلْكُ السَّماواتِ وجميع من فيها وما فيها وَالْأَرْضِ ومن عليها ومما عليها فله التصرف فيهما وفيما بينهما وفيما امتزج وتركب منهما وفيهما بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة الاضداد والأغيار وَكيف لا إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الاظلال الهالكة في بيداء الضلال الْمَصِيرُ اى المرجع والمنتهى إذ الكل منه بدأ واليه يعود كما بدأ وكيف لا هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء كائن وسيكون ازلا وابدا عليم خبير يظهره ويعدمه حسب علمه وخبرته بإرادته واختياره
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي أَنَّ اللَّهَ المتكفل بارزاق عباده كيف يُزْجِي ويسوق أجزاء الابخرة والادخنة الى فوق متفرقة ليجعلها سَحاباً هامرا ثُمَّ يُؤَلِّفُ ويركب بَيْنَهُ اى بين أجزاء السحاب ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما متكافئا متصلا لتتكون منها مياه كثيرة ثم يجعل له فتوقا ومنافذ فَتَرَى ايها الناظر المعتبر الْوَدْقَ اى المطر المتقاطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وفتوقه عناية منه سبحانه لمن في حوزة فضله وجوده وَكذا يُنَزِّلُ مِنَ جانب السَّماءِ مِنْ جِبالٍ من قطع سحاب متراكم في الجو على هيئة الجبال الرواسي فِيها مِنْ بَرَدٍ متكون من الابخرة والادخنة الواصلة الى الطبقة الزمهريرية من الهواء وصولا تاما الى حيث قد انجمدت انجمادا صلبا كالحجر من شدة البرودة فينزل منها إظهارا لقهره سبحانه وتنبيها على صولة سطوة صفاته الجلالية فَيُصِيبُ بِهِ سبحانه مَنْ يَشاءُ من عباده ممن سبق له القهر والغضب منه سبحانه في سابق علمه بمقتضى جلاله وَيَصْرِفُهُ
وكيف لا يخطف سبحانه الأبصار حينئذ إذ يُقَلِّبُ اللَّهُ المحول للأحوال بكمال الاختيار والاستقلال فيه اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بغتة بلا تراخ ومهلة اظهار الكمال قدرته واختياره واستقلاله بالتصرف في مظاهره ومصنوعاته إِنَّ فِي ذلِكَ التبديل والقلب واحداث الضد من الضد بغتة لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ المنكشفين بوحدة الواجب وصفاته الذاتية التي هي منشأ عموم ما ظهر وما بطن من الكوائن والفواسد بإرادته واختياره المستدلين من آثار أوصافه وأسمائه لعلو شأنه وسمو برهانه المتيقنين بوحدة ذاته وتنزهه عن وصمة الكثرة والشركة مطلقا
وَاللَّهُ المتوحد بذاته المتعزز بكمالات أسمائه وصفاته خَلَقَ اظهر وقدر كُلَّ دَابَّةٍ تتحرك على الأرض مِنْ ماءٍ هو العنصر الأصلي لوجود الحيوانات إذ هو مبدأ حركاتهم ومنشأ احساساتهم وادراكاتهم لذلك خص بالذكر من بين العناصر وان كانت مركبة من جميعها فَمِنْهُمْ اى من الدواب ذكر الضمير وجمع جمع العقلاء على سبيل التغليب إذ منها مَنْ يَمْشِي ويرجف عَلى بَطْنِهِ بلا آلة المشي كالحية وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالطير والإنسان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحوش وبالجملة يَخْلُقُ اللَّهُ القادر المقتدر على مطلق الخلق والإيجاد ما يَشاءُ من الموجودات والمخلوقات ارادة واختيارا إِنَّ اللَّهَ المتصف بصفات الكمال عَلى كُلِّ شَيْءٍ داخل في حيطة حضرة علمه المحيط قَدِيرٌ بإيجاده وإظهاره في فضاء العلياء حسب حضرة قدرته بلا فتور وقصور.
ثم قال سبحانه تحريكا لحمية عباده وتشييدا لبنيان اعتقاداتهم بالله وبوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته لَقَدْ أَنْزَلْنا من مقام لطفنا وجودنا إليكم ايها المحبوسون في مضيق الإمكان المقيدون بسلاسل الكفران وأغلال العصيان آياتٍ مُبَيِّناتٍ موضحات واضحات مفصلات دالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا واقتدارنا على انواع الانعام والانتقام لعلكم تتفطنون منها الى علو شأننا وكمال سطوتنا وسلطاننا مع ان أكثركم لا تتفطنون ولا تتنبهون لانهماككم في بحر الغفلة والضلال وَاللَّهُ الهادي لعباده يَهْدِي بفضله مَنْ يَشاءُ هدايته منهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى كعبة توحيده ووحدة ذاته بلا عوج وانحراف
وَمن انحراف المنافقين وانصرافهم عن طريق الحق وميلهم الى الباطل يَقُولُونَ بأفواههم خوفا من دمائهم وأموالهم آمَنَّا بِاللَّهِ المتوحد في ذاته وَبِالرَّسُولِ المرسل من عنده لتبليغ دينه وآياته وَأَطَعْنا حكم الله وحكم رسوله سمعا وطاعة ثُمَّ يَتَوَلَّى اى يعرض وينصرف فَرِيقٌ مِنْهُمْ اى من المنافقين مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الإقرار والاعتراف عن حكم الله وحكم رسوله تكذيبا لنفسه من الايمان باللسان وإظهارا لما في قلبه من الكفر والنفاق وَبالجملة ما أُولئِكَ الأشقياء المردودون بِالْمُؤْمِنِينَ وليسوا متفقين معهم حقيقة وان أقروا واعترفوا على طرف اللسان خوفا إذ الايمان من فعل القلب واللسان مترجم له
وَكيف كانوا مؤمنين أولئك المنافقون مع انهم إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ المصلح لأحوال عباده وَكذا الى رَسُولِهِ المستخلف منه سبحانه النائب عنه باذنه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ويقطع نزاعهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ اى فاجؤا الى الاعراض
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ والحكم يَأْتُوا إِلَيْهِ اى الى الرسول ورضوا بحكمه مُذْعِنِينَ منقادين طائعين وبالجملة هم تابعون لمطلوبهم وما هو مقصودهم طالبون ان يصلوا الى ما أملوا في نفوسهم بلا ميل منهم الى الحق وصراطه المستقيم وميزانه العدل القويم وبالجملة باى سبب ميلهم واعراضهم ولأي شيء ينصرفون عن الحق
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعرضهم عن قبول الايمان ويمنعهم عن اليقين والعرفان أَمِ ارْتابُوا وترددوا في عدالة الله ورسوله أَمْ يَخافُونَ من سوء ظنونهم وجهالاتهم أَنْ يَحِيفَ ويميل اللَّهُ المستوي على القسط القويم والعدل المستقيم عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ المتخلق بأخلاقه ظلما بان أجازوا الظلم على الله وعلى رسوله بَلْ الحق انه لا شك في عدالة الله وعدالة رسوله ولا يليق بشأنهما ان ينسب الحيف والميل إليهما قطعا فتعين انه أُولئِكَ المهجورون عن ساحة عز القبول هُمُ الظَّالِمُونَ المقصورون على الظلم والخروج عن حد الاعتدال المائلون عن الصراط المستقيم الإلهي لمرض قلوبهم وخبث طينتهم.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة في كتابه إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين على عكس المنافقين المترددين إِذا دُعُوا عند النزاع والخصومة إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ويزيل شبههم أَنْ يَقُولُوا طائعين راغبين سَمِعْنا وَأَطَعْنا بلا مطل وتسويف قد رضينا بما حكم الله ورسوله لنا وعلينا وَأُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله وعند رسوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالفلاح المقصورون على الصلاح والنجاح لا يتحولون منه بل يزادون عليه تفضلا وامتنانا
وَكيف لا يزادون على أجورهم مَنْ يُطِعِ اللَّهَ حق أطاعته وينقد له حق انقياده وَيتبع رَسُولَهُ حق أطاعته ومتابعته ايضا وَمع ذلك يَخْشَ اللَّهَ المنتقم الغيور فيما صدر عنه ومضى عليه من الذنوب بعد ما تاب وندم وَيَتَّقْهِ ويحذر عنه سبحانه فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ المطيعون المنقادون بالله ورسوله الخائفون الخاشعون المخبتون المتقون هُمُ الْفائِزُونَ بالمثوبة العظمى والدرجة العليا عند الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا
وَ
من خباثة بواطن اهل الشرك والنفاق وشدة شكيمتهم وشقاقهم معك يا أكمل الرسل قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ
ترويجا لنفاقهم وتغريرا للمؤمنين جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
غاية حلفهم مبالغين مغلظين فيها منكرين للامتناع عن حكم الرسول بقولهم والله لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
يا أكمل الرسل يعنى المنافقين بالخروج عن الديار والجلاء عن الوطن لَيَخْرُجُنَ
عنها بلا مطل وتسويف ممتثلين لأمرك مطيعين لحكمك ولا يتأتى منهم الامتناع عن حكمك قطعا وما هذا الا من غاية تلبيسهم ونهاية نفاقهم وتغريرهم قُلْ
لهم يا أكمل الرسل بعد ما ظهر نفاقهم عندك بالهام منا إليك ووحى لا تُقْسِمُوا
بالله ايها المسرفون المفرطون ولا تبالغوا في الحلف الكاذب فان المطلوب منكم طاعَةٌ
واطاعة مجردة مَعْرُوفَةٌ
مشهورة بين الناس فقط بلا إتيان مخالفة منكم ظاهرا واما حال بواطنكم وقلوبكم فأمره عند الله إِنَّ اللَّهَ
المطلع على سرائركم وضمائركم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
وتقصدون في نفوسكم يجازيكم بمقتضى خبرته
قُلْ يا أكمل الرسل لعموم الناس على سبيل التبليغ العام والرسالة المطلقة أَطِيعُوا اللَّهَ المظهر لكم من كتم العدم وانقادوا لعموم أوامره ونواهيه وَأَطِيعُوا ايضا الرَّسُولَ المبعوث إليكم وصدقوه في جميع ما جاء به من عند ربكم فَإِنْ تَوَلَّوْا وانصرفوا بعد ما بلغت
واعلموا يقينا قد وَعَدَ اللَّهُ المحسن المفضل لعباده بأنواع الفضل والعطاء سيما الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ايها الناس بوحدة الله وصفاته وإرسال الرسل وإنزال الكتب وبالبعث بعد الموت وكذا لجميع الأمور الاخروية وَمع الايمان والإذعان بالمأمورات المذكورة قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عند الله المرضية دونه حسب ما أوحاه على رسوله وأنزله في كتابه وقد اقسم سبحانه بنفسه تأكيدا لوعده لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ وليجعلنهم خلفاء فِي الْأَرْضِ التي قد استولى عليها الكفرة كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ آمنوا مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى بنى إسرائيل قد استخلفهم سبحانه على بلاد العمالقة والفراعنة وارض الشأم والفرس وَبعد استخلافهم لَيُمَكِّنَنَّ ويقررن لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ الا وهو دين الإسلام المبنى على صرافة التوحيد الذاتي المستلزم المتضمن لتوحيد الصفات والأفعال وليشيعن وليذيعن دينهم هذا في جميع اقطار الأرض وانحائها وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ ويحولن حالهم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ الناشئ من تمويهات متخيلتهم وتصويرات متوهمتهم أَمْناً ناشئا من اليقين الحقي المثمر لكمال الاطمئنان والوقار وبعد ما حصل لهم مرتبة الفناء الذاتي في ذاتى قد حصل لهم البقاء الذاتي ببقائى فحينئذ يَعْبُدُونَنِي مخلصين متخصصين بحيث لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ولا يشركون معى في الوجود أحدا من مظاهري ومصنوعاتى بتسويلات شياطين خيالاتهم وتغريرات اوهامهم وَمَنْ كَفَرَ وارتد ورجع بَعْدَ ذلِكَ اى بعد نفى الخواطر والأوهام المضلة عن سواء السبيل فَأُولئِكَ المطرودون المردودون عن ساحة عز الحضور والقبول هُمُ الْفاسِقُونَ الخاسرون المقصورون على الخروج والخسران المؤبد عن مقتضى اليقين العلمي والعيني والحقي الا ذلك هو الخسران المبين
وَبعد ما جعلتم التوحيد الذاتي قبلة مقاصدكم ايها المحمديون أَقِيمُوا الصَّلاةَ المثمرة لكم كمال الشوق والمحبة نحو الحق دائما وَآتُوا الزَّكاةَ المطهرة لنفوسكم عن الميل الى ما سواه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الهادي المرشد لكم الى طريق التوحيد الذاتي لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وتفوزون بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر حققنا بما أنت به راض منا يا مولانا.
ثم قال سبحانه تأييدا لنبيه ﷺ لا تَحْسَبَنَّ ولا تظنن أنت يا أكمل الرسل الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن توحيده انهم هم قد صاروا بكفرهم وعنادهم مُعْجِزِينَ معاجزين الله القادر المقتدر على وجوه الانتقام عن أخذهم وإهلاكهم سيما فِي الْأَرْضِ التي هي مملكة الحق ومحل تصرفاته سبحانه بل قد أخذهم الله الرقيب عليهم بظلمهم وبغيهم واستأصلهم عن وجه الأرض في النشأة الاولى وَمَأْواهُمُ النَّارُ في الاخرى وَالله لَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم ومرجعهم ومنقلبهم ومثواهم. ثم أشار
وَكذا إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ وظهر منهم امارات الميل والشهوات سواء كانوا ذكرا او أنثى فَلْيَسْتَأْذِنُوا مطلقا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأحرار البالغين إذ هم قد دخلوا في حكمهم بعد الحلم وبالجملة كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على آداب مخالطتكم وحسن معاشرتكم وَاللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده عَلِيمٌ بما في ضمائرهم من المنكرات حَكِيمٌ دفعها قبل وقوعها
وَالْقَواعِدُ مِنَ العجائز النِّساءِ اللَّاتِي قد قعدن عن الحيض والحمل وشهوة الوقاع مطلقا بحيث لا يَرْجُونَ ولا يأمن نِكاحاً فراشا وزواجا لكبرهن وكهولتهن فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ اى ذنب وكراهة أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ اى الثياب الظاهرة التي تلبسها فوق الأستار كالجلباب حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ ومظهرات بِزِينَةٍ مشهية للرجال مثيرة لشهواتهم يعنى الزينة التي قد منعن من ابدائها في كريمة ولا يبدين زينتهن الآية وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ عن الوضع خَيْرٌ لَهُنَّ سواء كن عجائز أم شواب لان العفة ابعد من التهمة في كل الأحوال وَاللَّهُ المطلع بسرائرهن سَمِيعٌ لمقالتهن مع الرجال عَلِيمٌ بنياتهن منها
ثم لما كان العرب قد كانوا يتحرجون عن مصاحبة ذوى العاهات والمؤاكلة معهم استقذارا وكانوا ايضا يتحرجون من دخول البيوتات المذكورة لأكل الطعام تعظما واستكبارا بل يعدونه عارا ويستنكفون منه تجبرا واستكبارا رد الله عليهم ونفى الحرج عنهم فقال لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ان يأكل مع البصير وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ان يأكل مع السوى الصحيح السالم ويجلس معه وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ان يأكل مع الأصحاء وَلا حرج ايضا عَلى أَنْفُسِكُمْ في أكلكم مطلقا سواء أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ وعند أهليكم ومحارمكم وسواء كان من اكسابكم او اكساب أولادكم أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ او أجدادكم إذ هم مستخلفون لكم أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ إذ بينكم وبينهن نسبة الكلية والجزئية
ثم أشار سبحانه الى محافظة الآداب مع رسول الله ﷺ ورعاية حقوقه وكمال انقياده والإطاعة اليه فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الموحدون الكاملون المنكشفون بسرائر التوحيد الذاتي هم الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ الجامع بجميع الأسماء والصفات المنسوبة الى الذات الاحدية وَرَسُولِهِ الجامع بجميع مراتب المظاهر والمصنوعات بحيث لا يخرج عن حيطة مرتبته الجامعة الكاملة مرتبة من المراتب أصلا وَبعد ما عرفوا جمعيته ﷺ إِذا كانُوا مجتمعين مَعَهُ ﷺ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ يعنى امرا قد اشترط في حصوله الاجتماع والاقتحام كالزحف والجهاد والجمع والأعياد لَمْ يَذْهَبُوا ولم ينصرفوا من عنده ﷺ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ بالانفضاض والانصراف وان كانوا مضطرين الى الذب والذهاب ثم كرر سبحانه امر الاستيذان على الوجه الأبلغ تأكيدا ومبالغة فقال مخاطبا لحبيبه ﷺ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في الذهاب والانصراف على احسن الأدب معك يا أكمل الرسل أُولئِكَ السعداء المستأذنون هم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ في الذهاب حقا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ويراعون حق الأدب معهما من صفاء بواطنهم وخلوص طوياتهم فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ يا أكمل الرسل بعد اضطرارهم لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ وأمرهم المتعلق لمعاشهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ يعنى أنت مخير في إذنهم بعد اضطرارهم وَبعد ما أذنت لهم اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ من ذنبهم الذي قد اختاروا امر الدنيا على امر العقبى واستأذنوا له واهتموا بشأنه إِنَّ اللَّهَ المطلع لاستعدادات عباده غَفُورٌ يغفر لهم أمثال هذه الفرطات الاضطرارية رَحِيمٌ مشفق يرحم عليهم بعد ما ندموا في نفوسهم
ومن جملة الآداب التي قد وجبت عليكم رعايتها ومحافظتها بالنسبة الى رسول الله ﷺ انه لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ونداءه بَيْنَكُمْ وبين أظهركم كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً بالاسم واللقب بلا ضميمة تدل على تعظيمه وتوقيره بل قولوا له وقت ندائه يا نبي الله او يا خير خلق الله او يا أكرم الخلق على الله وأمثالها او لا تجعلوا دعاءه ومناجاته مع الله ورفع حاجاته صلّى الله عليه وسلّم اليه
أَلا اى تنبهوا ايها الغافلون الجاهلون بقدر الله وحق ألوهيته وربوبيته وكمال استقلاله وبسطته إِنَّ لِلَّهِ المظهر الموجد تصرفا وملكا مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات قَدْ يَعْلَمُ سبحانه بعلمه الحضوري على وجه الإحصاء والتفصيل عموم ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ في نشأتكم هذه اليوم وَايضا يعلم ما ستكونون عليه فيما سيأتى يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ في النشأة الاخرى المعدة للعرض والجزاء كما علم منكم ما أنتم عليه فيما مضى إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء مما جرى ويجرى في عالم الغيب والشهادة والنشأة الاولى والاخرى فَيُنَبِّئُهُمْ ويخبرهم حينئذ بِما عَمِلُوا في النشأة الاولى على التفصيل بلا شذوذ شيء منها ثم يجازيهم عليها وَاللَّهُ المجازى لعموم عباده في يوم الجزاء بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنهم في أولاهم وأخراهم عَلِيمٌ محيط علمه بجميع أعمالهم وأفعالهم وشئونهم وحالاتهم وجميع ما جرى عليهم يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر اصنع بنا ما أنت به اهل يا مولينا
خاتمة سورة النور
عليك ايها الموحد المستنير المقتبس من المشكوة الجامعة المصطفوية والمصباح اللامعة النبوية المحمدية أرشدك الله الى غاية ما املك ووفقك الى كمال ما جبلك لأجله ان تحسن الأدب مع النبي الهادي لك الى طريق التوحيد الذاتي وتلازم على محافظة ما أوجب عليك الحق من حقوقه وآدابه ﷺ فلك ان تجعل رتبته ﷺ نصب عينيك وقدوة مناك بحيث لا تترك شيأ من سنته المأثورة وأخلاقه المشهورة وشيمه المعروفة بين اهل الحق وارباب المحبة من المنكشفين بعلو مرتبته صلّى الله عليه وسلّم ورفعة قدره ومكانته ولا تهمل شيأ من الحدود والاحكام الموضوعة في دينه وشريعته ولك ان تختار لنفسك من عزائم شرعه وملته مهما أمكنك ولا تميل الى رخصتها إذ الرخصة انما هي لعوام اهل الايمان والعزائم من شيم الخواص فلك الإخلاص في العمل وعليك