ﰡ
[ ١ ] النهي عن موالاة الكافرين
التحليل اللفظي
﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾ : جمع ولي، وهو في اللغة بمعنى الناصر والمعين.
قال الراغب : وكلّ من ولي أمراً الآخر فهو وليه ومنه قوله تعالى :﴿ الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ].
﴿ تقاة ﴾ : مصدر بمعنى التقيّة وهي أن يداري الإنسان مخافة شرّه.
قال ابن عباس :« التقيّة مداراة ظاهرة، وقد يكون الإنسان مع الكفار أو بين أظهرهم، فيتقيهم بلسانه ولا مودة لهم في قلبه ».
قال القرطبي : وأصل تُقَاة ( وُقَية ) على وزن فُعَلَة مثل : تُؤَدة وتُهَمَة، قلبت الواو تاء والياء ألفاً.
وقال أبو حيان : والمصدر على فُعَلة جاء قليلاً ولو جاء على المقيس لكان اتقاءً ونظيره قوله تعالى :﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [ المزمل : ٨ ].
والمعنى : إلا أن تخافوا منهم خوفاً فلا بأس بإظهار مودتهم باللسان تقية ومداراة دفعاً لشرهم وأذاهم من غير اعتقاد بالقلب.
﴿ المصير ﴾ : المرجع والمآب، والمعنى : رجوعكم ومآبكم إلى الله فيجازيكم على أعمالكم.
« وجه المناسبة »
لما بيّن تعالى في الآيات السابقة أنه مالك الملك، المعز المذل، المتصرف في الكون حسب مشيئته وإرادته، وأنه القادر على إعطاء الملك لمن شاء، ونزعه ممن شاء، وأن العزة والذلة بيده، نهى المؤمنين في هذه الآيات عن موالاة أعدائه لتكون الرغبة فيما عنده دون أعدائه الكافرين.
سبب النزول
١ - نزلت هذه الآية الكريمة في شأن قوم من المؤمنين كان لهم أصحاب من اليهود كانوا يوالونهم فقال لهم بعض الصحابة : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مصاحبتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ويضلوكم بعد إيمانكم فأبى أولئك النصيحة، وبقوا على صداقتهم ومصاحبتهم لهم فنزلت الآية الكريمة ﴿ لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ... ﴾ الآية.
٢ - وروى القرطبي في « تفسيره » عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في ( عُبَادة بن الصامت ) الأنصاري البدري، كان له حلفاء من اليهود فلّما خرج النبي ﷺ يوم الأحزاب قال له عُبادة : يا نبيّ الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ الآية.
المعنى الإجمالي
نهى الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين عن موالاة الكافرين أو التقرب إليهم بالمودة والمحبّة، أو مصادقتهم لقرابة أو معرفةٍ، لأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يوالوا أعداء الله إذ من غير المعقول أن يجمع الإنسان بين محبة الله تعالى وبين محبة أعدائه لأنه جمع بين النقيضين فمن أحبّ الله أبغض أعداءه.
فلا يجوز للمسلم أن يوالي غير المؤمنين فيتخذ من الكفّار الذين يتربصون بالمؤمنين السوء أولياء يصادقهم ويتودّد إليهم أو يستعين بهم ويترك إخوانه المؤمنين فليس بين الإيمان والكفر نسب وصلة، فالآية الكريمة تحذّر من موالاة الكافرين إلا في حال الضرورة وهو حال اتقاء شرهم وتجنب ضررهم أو الخوف منهم فتجوز موالاتهم بشرط أن يقتصر ذلك على الظاهر مع إضمار الكراهية والبغض لهم في الباطن، ثم ختمت الآية الكريمة بالوعيد الشديد الذي يدل على عظم الذنب الذي يرتكبه من يخالف أوامر الله ويوالي أعداءه.
١ - قرأ الجمهور ﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة ﴾ وقرأ يعقوب وأبو الرجاء والمفضّل ( تقيّه ) بالياء المشدّدة ووزنها فعيلة والتاء بدل من الواو.
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ ﴾ لا ناهية جازمة والفعل بعدها مجزوم وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين و ( يتخذ ) ينصب مفعولين ( الكافرين ) مفعول أول و ( أولياء ) مفعول ثان.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة ﴾ الاستثناء مفرغ من عموم الأحوال أي لا تتخذوهم أولياء في حالٍ من الأحوال إلاّ في حال اتقاء شرهم وضررهم، و ( تقاة ) مفعول مطلق ل ( تتقوا ) وجوّز بعضهم أن يكون مفعولاً به أي إلا أن تتقوا شيئاً حاصلاً من جهتهم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : التعبير بقوله تعالى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذلك ﴾ بدل قوله :( ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) للاختصار، واستهجاناً بذكره، وتقبيحاً لهذا الصنيع، فموالاة الكافرين من أقبح القبائح عند الله.
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ ﴾ ليس من الله، أي ليس من دين الله أو شرع الله، فهو على حذف مضاف، والتنكير في شيء للتحقير أي ليس هذا في قليل أو كثير من دين الله، لأنه جمع بين المتناقضين، وقد قال الشاعر :
تودّ عدّوي ثم تزعم أنني | صديقك ليس النوك عند بعازب |
اللطيفة الرابعة : إظهار اسم الجلالة مكان الإضمار في قوله تعالى :﴿ وإلى الله المصير ﴾ لتربية المهابة والروعة في النفس وتقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر.
« الآيات الدالة على تحريم موالاة الكافرين ».
وفي هذا المعنى الذي ذكرناه وهو حرمة موالاة الكافرين نزلت آيات كثيرة منها ما هو خاص بأهل الكتاب ومنها ما هو عام للمشركين نكتفي بذكر بعض هذه الآيات الكريمة.
١ - قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ [ المائدة : ٥١ ].
٢ - وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة... ﴾ [ الممتحنة : ١ ].
٣ - وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ المائدة : ٥٧ ].
٤ - وقال تعالى :
٥ - وقال تعالى :﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ... ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ].
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو حكم الاستعانة بالكفار في الحرب؟
اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة بالكفار في الحرب على مذهبين :
١ - مذهب المالكية : أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو أخذاً بظاهر الآية الكريمة واستدلوا بما ورد في قصة ( عبادة بن الصامت ) كما وضّحها سبب النزول. واستدلوا كذلك بما روته عائشة رضي الله عنها أن رجلاً من المشركين كان ذا جرأة ونجدة جاء إلى النبي ﷺ يوم بدر يستأذنه في أن يحارب معه فقال ﷺ له :« ارجع فلن استعين بمشرك ».
ب - مذهب الجمهور ( الشافعية والحنابلة والأحناف ) : قالوا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب بشرطين : أولاً : الحاجة إليهم. وثانياً : الوثوق من جهتهم، واستدلوا على مذهبهم بفعل النبي ﷺ فقد استعان بيهود فينقاع وقَسمَ لهم، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، فدَلّ ذلك على الجواز، وقالوا في الردّ على أدلة المالكية إنها منسوخة بفعله ﷺ وعمله، وقال بعضهم : إن ما ذكره المالكية يحمل على عدم الحاجة أو عدم الوثوق حيث أن النبي ﷺ لم يثق من جهته، وبذلك يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز.
الحكم الثاني : ما معنى التقية وما هو حكمها؟
قال ابن عباس : التقية أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثماً. وعرّف بعضهم التقيّة بأنها المحافظة على النفس والمال من شرّ الأعداء فيتقيهم الإنسان بإظهار الموالاة من غير اعتقادٍ لها.
قال « الجصاص » في « أحكام القرآن » :« وقد اقتضت الآية جواز اظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى :﴿ مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ﴾ [ النحل : ١٠٦ ] وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب، بل ترك التقيّة أفضل. قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قُتل إنه أفضل ممن أظهر، وقد أخذ المشركون ( خُبَيْب بن عدي ) فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من ( عمار بن ياسر ) حين أعطى التقية وأظهر الكفر، فسأل النبي ﷺ عن ذلك، فقال كيف وجدت قلبك؟ قال : مطئمناً بالإيمان، فقال ﷺ » وإن عادوا فعد... «. وكان ذلك على وجه الترخيص.
» قصة مسيلمة الكذاب مع بعض الصحابة «
روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي ﷺ فقال لأحدهما أتشهد أنّ محمداً رسول الله؟ قال : نعم، قال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم، فترك سبيله، ثم دعا بالآخر، وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم، قال أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم، قالها ثلاثاً، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال :» أمّا هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه «.
استدل بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يجوز تولية الكافر شيئاً من أمور المسلمين ولا جعلهم عمالاً ولا خدماً، كما لا يجوز تعظيمهم وتوقيرهم في المجلس والقيام عند قدومهم فإن دلالته على التعظيم واضحة، وقد أُمِرْنا باحتقارهم ﴿ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ ﴾ [ التوبة : ٢٨ ].
قال ( ابن العربي ) : وقد نهى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري بذمي كان استكتبه باليمن وأمره بعزله.
قال ( الجصاص ) :( وفي هذه الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء، وأنه إذا كان الكافر ابن صغير مسلم بإسلام أمه، فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره، ويدل على أنّ الذمي لا يعقل جناية المسلم، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته، لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة ).
ومما يؤيد هذا الرأي ويرجحه قوله تعالى :﴿ وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً ﴾ [ النساء : ١٤١ ].
الحكم الرابع : حكم المداراة لأهل الشر والفجور :
تجوز مداراة أهل الشر والفجور، ولا يدخل هذا في الموالاة المحرمة فقد كان ﷺ يداري الفسّاق والفجّار وكان يقول :« إنا لنَبشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم » أو كما قال، قال بعض العلماء : إن كانت فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير كما أنها لا تخالف أصول الدين فذلك جائز، وإن كانت تؤدي إلى ضرر الغير كالقتل والسرقة وشهادة الزور فلا تجوز البتة، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - موالاة الكافرين، ومحبتهم، والتودّد إليهم محرمة في شريعة الله.
٢ - التقية عند الخوف على النفس أو المال، أو التعرض للأذى الشديد.
٣ - الإكراه يبيح للإنسان التلفظ الكفر بشرط أن يبقى القلب مطمئناً بالإيمان.
٤ - لا صلة بين المؤمن والكفر بولاية، أو نصرة، أو توارث، لأن الإيمان يناقض الكفر.
٥ - الله تعالى مطلع على خفايا النفوس لا تخفى عليه خافية من أمور عباده.
﴿ أَوَّلَ بَيْتٍ ﴾ : المراد به أول بيت للعبادة، فالبيت الحرام أو المساجد على وجه الأرض، وقد سئل رسول الله ﷺ عن أول مسجد وضع الناس فقال :« المسجد الحرام، ثم بيت المقدس ».
قال علي بن أبي طالب : أول بيت وضع الناس للعبادة.
قال الزمخشري : ومعنى ( وضُع للناس ) أي جُعل متعبداً لهم، فكأنه قال : إن أول متعبد للناس الكعبة.
﴿ بِبَكَّةَ ﴾ : اسم لمكة فتسمى ( مكة ) و ( بكة ) من باب الإبدال كقولهم سبد رأسه وسمده إذا حلقه، وطين لازب ولازم، وقيل :( بكة ) موضع البيت، و ( مكة ) الحرم كله.
قال ابن العربي : وإنما سميت بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله تعالى.
﴿ مُبَارَكاً ﴾ : البركة معناها الزيادة وأكثر الخير، وهي نوعان : حسية، ومعنوية.
أمّا الحسية : فهي ما ساقه الله تعالى من خيرات الأرض وبركاتها إلى أهل هذه البلاد، تجبى إليهم من أقطار الدنيا كما قال تعالى :﴿ يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ﴾ [ القصص : ٥٧ ].
وأما المعنوية : فهي توجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها إلى هذه البلاد المقدسة، يأتون إلأيها من كل فج عميق لأداء المناسك من الحج والعمرة استجابة لدعوة الخليل ﴿ فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوى إِلَيْهِمْ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ].
﴿ وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾ : هدى مصدر بمعنى ( هداية ) أي أن هذا البيت العتيق هو مصدر الهداية والنور لجميع الخلق، وقيل : المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم.
﴿ مَّقَامُ إبراهيم ﴾ : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام حين ارتفع بناء الكعبة وكان فيه أثر قدميه.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من ﴿ مَّقَامُ إبراهيم ﴾ هو موضع قيامه للصلاة والعبادة، يقال : هذا مقامه أي الموضع الذي اختاره للصلاة فيه، وهذا قول ( مجاهد ).
قال القرطبي :« وفسّر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله، فذهب إلى أن من آياته الصفا، والمروة، والركن، والمقام ».
فيكون المراد بالمقام المسجد الحرام كله.
﴿ آمِناً ﴾ : أي أمن على نفسه وماله. قال القاضي أبو يعلى : لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، وتقديره : ومن دخله فأمنوه.
وقد فسّر بعض العلماء الأمن بأن المراد منه الأمن من العذاب في الآخرة وروي في ذلك آثاراً، ولا مانع من إرادة العموم، الأمن في الدنيا، والأمن من عذاب الله.
﴿ سَبِيلاً ﴾ : استطاعةُ السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه، وقد فسّرت الاستطاعة بملك الزاد والراحلة كما جاء في الحديث الصحيح.
المعنى الإجمالي
بيّن الله تعالى مكانة هذا البيت ( البيت الحرام ) وعدّد مزاياه وفضائله فهو أول بيت من بيوت العبادة وضع معبداً للناس بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ليكون مثابة للناس وأمناً، ثم بني مسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون بناه « سليمان » عليه السلام، فالبيت العتيق هو أول قبلة وأول معبد على وجه الإطلاق، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه وقد عدّد الله من مزايا هذا البيت ما يستحق تفضيله على جميع المساجد وأماكن العبادة، فهو أول المساجد، وهو قبلة الأنبياء، وهو بلد الأمن والاستقرار وفيه الآيات البينات : الصفا، والمروة، وزمزم، والحطيم، والحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وفوق ذلك فأنّ الله تعالى خصّه بخصائص فجعله مركز الهداية والنور وفرض الحج إليه، يأتيه الناس من أقطار الدنيا ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، أفلا يكفي برهاناً على شرف هذا البيت وأحقيته أن يكون قبلة للمسلمين؟!
ذكر ( القرطبي ) في « تفسيره » عن ( مجاهد ) أنه قال :« تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله هذه الآية.
كانت الآيات من أول سور « آل عمران » إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد ﷺ مع إثبات الوحدانية، وقد تبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم، وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدعٍ وأهواء ما أنزل الله بها من سلطان.. أما هذه الآيات من قوله تعالى :﴿ كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ] فقد جاءت لدفع شبهتين من شبه اليهود التي كانوا يثيرونها لإفساد عقائد الناس.
الشبهة الأولى : إنهم قالوا للنبي ﷺ إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم؟ فقد استحللت ما كان محرّماً عليه، فلست بمصدّق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به... فردّ الله تعالى عليهم بأن كل الطعام كان حلالاً لإسرائيل ولذريته ﴿ كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة... ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ] الآية.
الشبهة الثانية : أما الشبهة الثانية التي أثارها اليهود فهي حينما حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة، فقد طعن اليهود في نبوة محمد عليه السلام، واتخذوا من هذا التحويل ذريعة لإنكار رسالته ﷺ وتشكيك الناس في الإسلام، وقالوا إن « بيت المقدس » أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلّون إليه، فلو كنت يا محمد على ما كانوا عليه لعظّمتَ ما عظّموا، فرد الله سبحانه شبهتهم بهذه الآية ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً ﴾.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الحكمة في اختيار البيت العتيق لفريضة الحج، أن الله تعالى جعله قبلة أهل التوحيد، وأقام بناءه وشيّد دعائمه أبو الأنبياء ( إبراهيم ) الخليل عليه السلام، وهو أول المساجد على الإطلاق فليس ثمة معبد أقدم منه، وهو يقابل البيت المعمور في السماء، فالبيت العتيق مطاف أهل الأرض، والبيت المعمور مطاف أهل السماء.
اللطيفة الثالثة : من مزايا البيت العتيق، ذلك الأمن الذي جعله الله فيه، وذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال :﴿ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ] وقد كان الناس يتخطفون من أطراف الأرض وأهل مكة في أمن واستقرار وقد امتن الله تعالى عليهم بقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ] ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :« لو ظفرتُ فيه بقاتل الخطاب لما مسسته حتى يخرج منه ».
اللطيفة الرابعة : قال العلامة أبو السعود :« وضع ( ومن كفر ) موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه ولذلك قال عليه السلام » من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً «، ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات، المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج، والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق، وأبرزت في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار، على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس، لا انفكاك لهم عن أدائه والخروج عن عهدته، وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال.. ».
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : حكم الجاني في الحرم.
اتفق الفقهاء على أنّ من جنى في الحرم فإنه يقتص منه، سواءً كانت الجناية في النفس أم فيما دونها كالأطراف، وعللوا ذلك بأنّ الجاني انتهك حرمة الحرم فلم يعد يعصمه الحرم من القصاص، لأنه هو الذي أحدث فيه فيقتص منه. كما استدلوا بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقتص منه في الحرم؟ على مذهبين :
١ - مذهب الحنفية والحنابلة : ذهب الإمام ( أبو حنيفة ) والإمام أحمد رحمهما الله إلى أنّ من اقترف ذنباً واستوجب به حداً ثم لجأ إلى الحرم عصمه لقوله تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله.
وهذا الرأي منقول عن حَبْر هذه الأمة ( عبد الله بن عباس ) فقد قال ابن عباس : إن جنى في الحِلّ ثم لجأ إلى الحَرَم لا يُقْتَصّ منه لكن لا يُجالس ولا يُبايع ولا يُكلّم حتى يخرج من الحرم فيقتص منه.. وهذا هو نفس مذهب الأحناف فإنهم قالوا إذا جنى ثم لجأ إلى الحرم فإنه لا يؤوي ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتص منه.
وقالوا : إن الحرم له حرمة خاصة فمن لجأ إليه احتمى كما قال تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ وكما قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
ب - مذهب المالكية والشافعية : وذهب ( الشافعية والمالكية ) إلى أنّ من جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم فإنه يقتص منه، سواءَ كانت الجناية في النفس أو غيرها. واستدلوا ببضعة أدلة منها : ما روي أن النبي ﷺ أمر بقتل بعض المشركين في الحرم، وقال عن ( ابن خطل ) اقتلوه ولو رأيتموه متعلقاً بأستار الكعبة ومنها ما ورد ( إنّ الحرم لا يجير عاصياً، ولا فاراً بخربة ولا فاراً بدم ) وأجابوا على قوله تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ قالوا هذا كان في الجاهلية لو أنّ إنساناً ارتكب كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم، وهذا من منن الله عزّ وجل على أهل تلك البلاد فقد جعل لهم الحرم مركز أمن واستقرار.. أما الإسلام فلم يزده إلا شدةً فمن لجأ إليه جانباً أقيم عليه الحد، كيف لا والإسلام دين القوة والحزم؟!
الترجيح : ولعل الرأي الثاني هو الأوجه والأرجح، لأننا لو أخذنا بالرأي الأول -على ما فيه من وجاهة - لأصبح الحرم مركزاً لاجتماع الجُناة والمجرمين، ولاختل الأمن، لأن القاتل يقتل ثم يفر من وطنه ويأتي الحرم، لأنه يعلم أنه يحميه، وبذلك تنتشر الجرائم وتكثر المفاسد والله تعالى أعلم.
الحكم الثاني : حكم حج الفقير والعبد :
الفقير لا يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة، ولكنه إذا أدى الحج سقط عنه الفرض بالإجماع، وأما العبد فإنه إذا حج هل تسقط عنه الفريضة؟
قال ( أبو حنيفة ) : يقع حجة نفلاً ويجب عليه أن يحج متى عتق، لأنه يشبه الطفل دون البلوغ فإنه إذا حج ثم بلغ سن الرشد يجب عليه حجة الفريضة، كذلك العبد إذا حج ثم عتق يجب عليه حجة الفريضة.
وقال ( الشافعي ) : يجزيه الحج قياساً على الفقير، واستدل بأنّ الجمعة لا تجب على فإذا صلاها سقط عنه الظهر، فكذلك الحج إذا أداه تسقط عنه حجة الفريضة، وهذا الرأي ضعيف فقد نقل عن النووي وهو من أئمة المذهب الشافعي ما يخالف ذلك حيث قال : إن مذهب الشافعية أن العبد إذا أحرم بالحج ثم عتق قبل الوقوف بعرفة أجزأه ذلك عن حجة الإسلام خلافاً لأبي حنيفة ومالك، أمّا إذا كان العتق بعد فوات الحج فإنه لا يجزئه، ولعل هذا هو الرأي الصحيح عند الشافعية فيكون الخلاف بين المذهبين ( شكلياً ) لا ( جوهرياً ) لأنهما متفقان على أن العتق إذا كان بعد أداء ركن وهو الوقوف بعرفة أجزأه ذلك عن حجة الإسلام خلافاً لأبي حنيفة ومالك، أمّا إذا كان العتق بعد فوات الحج فإنه لا يجزئه، ولعله هذا هو الرأي الصحيح عند الشافعية فيكون الخلاف بين المذهبين ( شكلياً ) لا ( جوهرياً ) لأنهما متفقان على أن العتق إذا كان بعد أداء ركن الحج وهو الوقوف بعرفة فإنه لا يجزئه ويجب عليه الحج مرة أخرى لأن الأول يقل نافلة.
ذهب بعض الفقهاء إلى أن وجود المَحْرم شرط من شروط وجوب الحج وهذا هو مذهب الحنفية، ودليلهم ما روي عن النبي ﷺ أنه قال :« لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثٍ إلا مع ذي رحم محرمٍ أو زوج » وهذا عام يشمل كل سفرٍ سواءً كان للحج أو غيره.. واستدلوا أيضاً روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال :« خطب النبي ﷺ فقال : لا تسافر امرأة ومعها ذو محرم، فقال رجل يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا، وقد أرادت امرأتي في أن تحج، فقال رسول الله ﷺ احجج مع امرأتك » وهذا الحديث يدل على أن المرأة إذا أرادت الحج فليس لها أن تحج إلا مع زوجٍ أو ذي رحم محرم، فقد أمره ﷺ أن يترك الجهاد وهو فرض وأن يحج مع امرأته، ولولا أن وجود المحرم واجب لما أمره بترك الجهاد والسفر مع زوجه.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ حج الفرض لا يجب فيه المحرم بشرط أمن المرأة على نفسها بأن يكون معها عدة من النسوة.. وأما حج النافلة فيجب فيه المحرم، وهم محجوبون بالأدلة التي ذكرناها مما يشير إلى أن الحج لا يجب على المرأة إلا إذا وجدت محرماً، لأن وجود المحرم من شرائط الوجوب، وهذا هو الأرجح.
تنبيه هام : أقول إذا كان الإسلام لم يسمح للمرأة أن تسافر لأداء فريضة الحج إلا مع ذي محرم - والحج أحد أركان الإسلام كما نعلم وهو فريضة على الرجل والمرأة - فكيف يسمح الناس لبناتهم بالسفر إلى بلاد بعيدة، أو إلى بلدان أجنبية بحجة الدراسة وطلب العلم، وليس معهن مَحْرمٌ أو من يوافقهن من أقاربهن؟! إن هذا - بلا شك - يدل على بعد الناس عن التمسك بآداب الإسلام وتعاليمه الرشيدة، بل يدل على فقدان الرجولة والشهامة حتى أضحى أمر سفر النساء وتبرجهن واختلاطهن بالرجال أمراً طبيعياً معتاداً وإنا لله وإنا إليه راجعون!!
الحكم الرابع : ما هي شروط وجوب الحج؟
شروط وجوب الحج خمسة، وهي ( ١ - الإسلام ٢ - العقل ٣ - البلوغ، ٤ - الاستطاعة، ٥ - وجود محرم مع المرأة ) وزاد بعضهم أمن الطريق وهو من شروط الأداء لا من شروط هي شروط لجميع التكاليف الشرعية كالصلاة والصيام.
قال الجصاص : وليست الاستطاعة مقصورة على وجود الزاد والراحلة لأن المريض الخائف، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة، والزَّمِنُ وكل من تعذّر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجداً للزاد والراحلة، فدل ذلك على أن النبي ﷺ لم يرد بقوله : الاستطاعة ( الزادُ والراحلة ) أن ذلك جميع شرائط الاستطاعة، وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن أمكنه المشي ولم يجد زاداً وراحلة فعليه الحج، فبيّن ﷺ أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي «.
أما الشرط الخامس وهو ( وجود المحرم للمرأة ) فقد استوفينا شرحه فيما سبق والله أعلم.
الحكم الخامس : هل يجب الحج أكثر من مرة؟
ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى :﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت ﴾ أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر وهو رأي الجمهور إذ ليس في الآية ما يوجب التكرار وقد أكد ذلك النبي ﷺ بقوله في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال :» خطبنا رسول الله ﷺ فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا.. فقال رجل : كلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله ﷺ : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلك بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه «.