تفسير سورة الأحزاب

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْأَحْزَابِ
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ... (١)﴾
قال ابن عرفة: قالوا: أكثر ما وقع في القرآن مخاطبته بصفاته فيقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، وكذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)، وما وقع التعبير عنه باسم العلم إلا في نحو خمس آيات، وهو قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)، وقوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)، وقوله تعالى: (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)، وقوله سبحانه وتعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)، وقوله عز وجل (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، قال: وسبب ذلك أن هذه الصفات ذكرت على سبيل المدح والتشريف، فلذلك كثر ذكرها، والتصريح باسمه العلم إنما هو يميزه عن غيره فقط.
قوله تعالى: (اتَّقِ اللَّهَ).
إن قلت: ما فائدة أمره بالتقوى مع أنه تحصيل الحاصل، قلنا: متعلق الأمر بالشيء لمن هو متصف به، إن كان متعلقه مقولا بالتشكيك ففائدته الترقي في أجزائه، والاتصاف بإعلام، وإن لم يكن كذلك ففائدته الدوام عليها.
قوله تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ).
قال ابن عرفة: فائدته عندي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يخفض جناحيه لهم، فيوافقهم على فعل ما يصل به إلى غاية ما يباح له [فعله*] شرعا استيلافا لهم وحرصا على إيمانهم، فقيل له لَا تفعل هذا، فإِن ذلك يندرج بهم إلى طمعهم فيك، وتعلق آمالهم لطلبهم منك ما لَا يباح لك فعله شرعا، وهذا كما يطلبه منك عبدك درهما، فإن سعفته به يتجاسر عليك، ويطلب منك دينارا.
قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ... (٤)﴾
قال الزمخشري: لو كان قلبان لكان تاما أن يفيده أحدهما من العلم، ما أفاده الآخر أو غيره، فالأول: تحصيل الحاصل، والثاني: يلزم عليه اجتماع النقيضين.
قال ابن عرفة: هذا على أن أصله أن الصفة إذا قامت بحدث أوجبت الحكم لجميع الذوات، وهو مردود بحاستي السمع والبصر واليدين، فإنه يسمع بالأذن مثل ما
يسمع بالأخرى، ويضع يده الواحدة على النار ويده الأخرى على المسخن، ويجاب: بأن قوله تعالى: (مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)، كان بعضهم يقول: الحكمة في إدخال (مِنْ) أن صيغ الجموع، والتثنية كلمة [كل*]، فإذا قلت: الرجال قائمون معناه: كل واحد قائم، وكذلك الزيدان قائمان، فلو قال: ما جعل الله لرجل قلبين لأوهم نفي القلب الواحد، ولذلك قال تعالى (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ)، فأكده بقوله (اثْنَيْنِ)، ليفيد أن المراد نفي مجموع القلبين من حيث هو مجموع لا نفي الواحد لأنها في النفس لاستغراق الجنس.
قوله تعالى: (فِي جَوْفِهِ).
قال الزمخشري: فائدته زيادة التصور المدلول عليه، لأنه إذا سمع به صور [لنفسه*] جوفا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار، وأجاب الزمخشري في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ).
قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ).
قال الزمخشري: إن قلت: ما معنى قولهم: أنت عليَّ كظهر أمي فكنوا عن البطن بالظهر؛ لأنه عمود البطن، ومنه حديث عمر، قلت: هو حديث ذكره ابن أنس عنه في كتاب التجارة بأرض الحرب، قال عن عمر: [لاَ حُكْرَةَ فِي سُوقِنَا، لاَ يَعْمِدُ رِجَالٌ بِأَيْدِيهِمْ فُضُولٌ مِنْ أَذْهَابٍ إِلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللهِ نَزَلَ بِسَاحَتِنَا، فَيَحْتَكرونَهُ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِه كَبِدِهِ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَذَلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ، فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ، وَلْيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ*]، فأباح ذلك عمر للجالب والزراع.
قوله تعالى: (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ) أي قول باللسان دون اعتقاد القلب.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ).
وإنما يقال: قال الله الحق، ورد عليه النواوي رحمه الله بهذه الآية.
قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ... (٦)﴾
قالوا سببها ما أخرجه البخاري ومسلم من أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى، عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟»، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ، قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ*]. وعلق الحكم هنا بالنبي، وهو أعم من الرسول ليدل على تناوله للرسول من باب أحرى.
قوله تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ).
فيه حجة لأبي حنيفة رضي الله عنه، القائل إنهم أولى بالإرث عن بيت المال.
قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا).
قال ابن عطية: قيل: استثناء متصل، وقيل: منفصل، وقال الزمخشري: إنه استثناء من أعم العام.
قال ابن عرفة: تقريره أن العام هم المؤمنون والوصية؛ لأن العام في الأشخاص والأزمنة أولا، والمشهور أنه مطلق فيها، واستثنى من أحوال تلك الأشخاص الوصية، فهو استثناء متصل، وتقدم لابن التلمساني شارح المعالم أن الاستثناء قسمان يصدق على إخراج ما لولاه الموجب دخوله على إخراج ما لولاه لصلح دخوله، فلو استثنى من الخاص المؤمنين أو المهاجرين لكان إخراج ما لولاه الموجب دخوله، وأما المستثنى من أحوالهم أن إخراج ما لولاه لصلح دخوله؛ لأن أحوالهم صحيحة؛ لأن يكون إرثا أو عطية، بمعنى الهبة أو بمعنى الصدقة وبمعنى الإعمار والتحسين، وقد تقرر في الأصول الفرق بين الأعم والعام، وهذا كثيرا ما يقوله الزمخشري أنه استثناء من أعم العام، وذكر مثله في هذه السورة في قوله تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ)، وفي سورة يوسف في قوله تعالى: (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ)، وتقدم نحوه، لابن عرفة في قوله تعالىَ: في سورة هود (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)، وفي قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ*] ".
ابن عرفة: أي لَا تبيعوه في حال إلا في المماثلة، وقال الطيبي: إنه استثناء [مفرغ*] في الثبوت، وقاعدة [المفرغ*] إنما يكون في [المنفي*].
قوله تعالى: (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا).
المسطور هو حكم الوصية وغيرها، لَا متعلق ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٧)﴾
ابن عطية: [إِذْ يحتمل أن تكون ظرفا لتسطير الأحكام المتقدمة في الكتاب، كأنه قال كانت هذه الأحكام مسطرة ملقاة إلى الأنبياء إذ أخذنا عليهم الميثاق في التبليغ والشرائع، فتكون إِذْ متعلقة بقوله كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً، [الأحزاب: ٦]، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل تقديره واذكر إذ، وهذا التأويل أبين من الأول*].
ابن عرفة: لأجل واو العطف إذ لو كان [معمولا*] لمسطور جاء موصولا غير مفصول بحرف العطف، قال: وإذا كان العامل اذكر، فلابد من تقدير مضاف، أي
اذكر حالهم إذا أخذنا، وأما ذكر الوقت نفسه، فلا يصح؛ لأنه ماض، فكيف يؤمر الآن بالذكر، إلا أن يكون مفصولا به فيكون أمر بذكره لَا بالمذكور فيه، مع أن ابن عطية جعله ظرفا، والنبي أعم من الرسول، وقيل: أخص واحتج ابن [رشد*] على كونه أخص بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، فعطف النبي عليه، دليل على كونه أخص ورد ابن عرفة: بأنه في سياق النفي فينتج له العكس؛ لأن النفي الأخص أعم من النفي الأعم، وقد ذكر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تشريفا له، وروي أنه قال: "كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث"، قيل لابن عرفة: فجاء تقديمه على الأصل؛ لأنه أولهم خلقا حين أخرجوا من ظهر آدم [كالذر يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) *]، فقال: لزمك أن يكون خلق، قيل: آدم مع أنه أخرج من ظهره، قلنا: نلتزمه لما ورد أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان ذرا قبل خلق آدم انتقل ذلك النور إلى ظهره، نقله عياض في الشفاء في الفصل السادس من الباب الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كَانَتْ قُرَيْشٌ نُورًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ يُسَبِّحُ ذَلِكَ النُّورُ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِهِ، فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ أَلْقَى ذَلِكَ النُّورَ فِي صُلْبِهِ*].
قوله تعالى: (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا).
قال ابن عرفة: وكان شيخنا ابن عبد السلام يقول: إنما كرره؛ لأن المصدر تارة يعتبر من حيث إضافته للمفعول، وتارة يعتبر من حيث إضافته للفاعل، ومثاله إذا أخذ رجلان مالا بالسواء، أخذ أحدهما نصفه منه من عند رجل عظيم، والآخر نصفه منه من عند رجل حقير، فالأخذ بالنسبة إلى المفعول مسبق، وبالنسبة إلى الفاعل متفاوت، فقوله تعالى: (مِيثَاقَهُمْ)، إما مصدر مضاف للمفعول فلذلك لم يصفه بالغلظة، اعتبارا بنسبته للفاعل، وهو الله تعالى، ولما كرره لم يعرف بـ (ال) لكونه ذكر أولا معرفا على منكر.
قوله تعالى: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ... (٨)﴾
ذكر ابن عطية احتمال كون اللام للصيرورة، على أن الضمير في يسأل عائد على غير الله تعالى، إما على الملك أو نحوه؛ لأن لام الصيرورة تقتضي أن الفاعل جاهل بعاقبة الأمر.
قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا... (٩)﴾
قال ابن عرفة: إن كانت للسبب فظاهر، وإن كانت للتعقيب [فبكون الله تعالى أرسل عليهم الريح وأنها كانت إثر مجيئهم*]، وأمر الملائكة أن [**يتربصوا] عليهم بقدر ما تستوفي جنودهم، ويطمعون في أخذ المؤمنين، فهو [**إنكالهم].
ابن عطية: لما أرسل عليهم الريح، قال بعضهم: سحرنا محمد.
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: بموجبة ولكن سحرهم السحر الحلال، قيل له: هذا لَا يحل إطلاقه، فقال: ترى النَّاس إذا تعجبوا من شيء يقول: هذا هو السحر الحلال.
قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا).
قرئ بتاء الخطاب، فهو وعد للمؤمنين الحفظ والنصر، كقوله تعالى: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، وقرئ [بياء الغيبة*] فهو وعيد للكفار بأنه يرى عملهم فيجازيهم عليه، وينتقم لكم منهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ... (١٢)﴾
ابن عرفة: هذا من عطف الصفات، أي وإذ يقول الموصوفون بالنفاق ومرض القلوب، أو من عطف الموصوفات فيكون المنافقون قسمين: منهم من جزم بالكفر، ومنهم من في قلبه مرض، وفي سورة المدثر (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)، فقدم الذين في قلوبهم مرض، قال: وعادتهم يجيبون: بأن منشأ المقالة في هذه الآية، هو الجزم بالكفر والتصميم عليه، لقولهم (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، وهذا الكفر صريح ومنشأ [المقالة*] في سورة المدثر، الشك في الإيمان لقولهم (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)، فروعي في كل آية منهما الأصل فيما سبق الكلام لأَجله، فقدم هنا المنافقون المصممون على الكفر، وقدم في المدثر مرضى القلوب، قيل لابن عرفة: لَا معارضة بين الآيتين، لأن المنافقين هم الذين في قلوبهم مرض، فقال (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ)، أعم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ... (١٥)﴾
قال ابن عرفة: هذا أخص من أن لو قيل: لَا يخلفون عن القتال، لأنهم إذا عاهدوا الله لَا ينهزموا ولا ينصرفوا عن المقاتلة، فأحرى أن لَا يتخلفوا عن حضور القتال، لتكثير السواد وإن لم يقاتلوا، أو أحرى أن لَا يتسببوا في خذلان المؤمنين
وصدهم عن القتال، فخالفوهم في ذلك واتصفوا بأشد ما يناقض عهدهم، وهو السبب في فشل المؤمنين وخذلانهم.
وقوله تعالى: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ... (١٦)
قال ابن عرفة: المجرور متعلق بالفعل، وهو فررتم لَا بالفرار إما لقربه منه، وإما لأنه الأصل في العمل حسبما أشار إليه الزمخشري في (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ)، [فإن قلت: بم تعلق مِنَ الْأَرْضِ أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل*] [يريد*] وإن ذلك إنما هو حيث يكون المصدر جاريا على ذلك الفعل، مثل (دَعَاكُمْ دَعْوَةً)، وأما هذا فإن مصدر فررتم الجاري على المفر أن يكون الفرار إلا الفرار، وما كلام الزمخشري إلا حيث تجري فتأمله، قلت: وهذا الذي ذكر غير صحيح، فإن مصدر فررتم ما هو إلا الفرار فتأمله، وإمَّا لأن الفرار مصدر معرف بالألف واللام فهو موصول فلو تعلق به لوقع الفصل بين الصلة والموصول بأجنبي، ومعناه أن تعلق الفعل لن ينفعكم الفرار من كل شيء [إن*] فررتم من الموت أو القتل، لأنهم قد يفرون لحفظ أموالهم، كما قالوا (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)، وإن تعلق بالفرار فمعناه لن ينفعكم الفرار من الموت أو القتل إن فررتم منهما، قال: ومما يرجح تعلقه بالفرار أنه إذا تعلق بـ فررتم لم [يناقض*] أول الآية آخرها، بقوله تعالى: (وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا)، فقد نفعكم الفرار مطلق نفع، وهو التمتع القليل، فلا يصح أن ينفي عنهم نفعه لهم مطلقا، إذا تعلق بالفرار لَا يكون فيه تناقض بوجه، فإن قلت: ما أفاد بقوله (إِنْ فَرَرْتُمْ) قلت: عادتهم يجيبون: بأن [السالبة عند المنطقيين ما تقتضي وجود الموضوع ولا عدمه*] كقولك: لَا شيء من الآدمي في هذا البيت [بمتنفس*]، فيصدق بأن يكون ليس فيه حيوان بوجه، والموجبة المعدولة تقتضي وجود الموضوع نحو: كل آدمي في هذا البيت متنفس، فيقتضي وجوده، وأنه محكوم عليه بعدم التنفس، فإما أن [تكون*] كاذبة أو يكون الآدمي ميتا، وكذلك ما لم يقل: (إنْ فَرَرْتُمْ)، [لأوهم أنهم إنما لم ينفعهم الفرار لعدم وقوعه، فلما قال: (إنْ فَرَرْتُمْ)، أفاد أنه وجد، ولم ينفعهم وجوده*].
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧)﴾
الولي: هو القريب الموالي، فهو أخص من الناصر؛ لأن الناصر قد يكون أجنبيا، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، فلذلك عطفه عليه، وكذلك قال ابن عطية في أوائل العنكبوت.
قوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ... (١٨)﴾
كما قال الزمخشري (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)، قال: (قَدْ نَرَى) ربما نرى، ومعناه كثرة الرؤية كقوله:
قَدْ أتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ
والكثرة في متعلق العلم؛ لأن علم الله متحد لَا يوصف بالكثرة، ولا بالقلة.
قوله تعالى: (الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ).
المجرور إما فاعل أو مفعول، أي المعوقين الذين بهم بعضكم، والمعوقين من غيركم لبعضكم فمعكم أو معوق مثل علمت المكرم، فـ (منكم) إما حال أو مفعول، وكونه مفعولا أقرب لإقبال الخطاب صرف الذم إليهم، ومدح المؤمنين لعدم إتباعهم، وإذا كان فاعلا يكون فيه تهييج على الفرار منهم فقط وما سيقت الآية لهذا.
قوله تعالى: (وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا).
عطف تفسير كقوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) فهو من عطف الصفات أو من عطف الموصوفات.
قوله تعالى: (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا).
يحتمل معنيين:
أحدهما: أن فيهم نجدة، وشجاعة، وقدرة على القتال، لكنهم يتناحلون ويظهرون الضعف والعجز.
والثاني: أنهم عاجزون عن القتال كالنساء لما يدركهم من الهلع والخور والخوف، وهو الظاهر أي من شأنهم أنهم لَا يأتون البأس ولا يستطيعونه ولا يقدرون عليه.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا... (١٩)﴾
هذه لنفي الماضي المقبل بزمن الحال.
قوله تعالى: (فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ).
ابن عرفة: يحتمل عندي أن يريد بالإحباط بتبكيتهم، وعدم اتصالهم بغرضهم في صدهم المؤمنين، وخذلانهم عن القتال، وأنهم لَا يسعفوهم بمطلوبهم في قولهم: [هَلُمَّ إِلَيْنَا*]، خلاف ما حمله عليه المفسرون.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ... (٢٢)﴾
290
قال ابن عرفة: الفرق بين قولك: جاء زيد فأكرمته، وبين قولك: لما جاء زيد فأكرمته، أن الثاني يقتضي المبادرة بالإكرام، بخلاف الأول فإن الفاء تكون للتسبيب، ويتأخر الإكرام عن المجيء.
قوله تعالى: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ).
قال الزمخشري: الإشارة إلى [الخطب أو البلاء*] فالمشار إليه معنى مفهوم من السياق وجعله ابن عطية حسيا، وهو الأحزاب.
ابن عرفة: وعلى هذا يقال: كيف أشار إلى الجمع بلفظ المفرد، فيجاب بأنه قصد تقليل الجمع وتحقيره، كقوله تعالى: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ).
قوله تعالى: (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).
يحتمل أن يكون من [تمام*] كلام المؤمنين، وأن يكون من كلام الله تعالى تقريرا لكلام المؤمنين، وتحقيقا له، فإن كان من كلام الله تعالى فلا شيء فيه، وإن كان من كلام المؤمنين، [ففيه*] دليل على صحة إنكاره صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الخطيب القائل "مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا، فَقَدْ غَوَى، حيث قال له: "بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ" [لاحتمال اعتقاد التسوية بينهما في المقام*].
قوله تعالى: (وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا).
الإيمان عند المعتزلة يزيد وينقص؛ لأن الفعل عندهم جزء من الإيمان، وعندنا فيه ثلاثة مذاهب ثالثها أنه يقبل الزيادة، ولا يقبل النقص.
ابن عرفة: والتحقيق فيه أنه باعتبار ذاته، وهو التصديق لَا يزيد ولا ينقص باعتبار عوارضه يزيد، فالإيمان من عرف الله بالدليل والبرهان المقابل للقول بالشكوك الواردة
291
عليه في التوحيد أزيد من الإيمان من لم يعرفه بالأدلة، وفي قول ابن أبي يزيد في الرسالة، يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقصها مسامحة توهم مذهب المعتزلة، لكن قوله فيكون فيها النقص وبها الزيادة يهدي إلى تأويله.
قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ... (٢٣)﴾
قال ابن عرفة: نص ابن مالك على أن الجملة إن كانت صحيحة الترادف لما قبلها أو صحيحة التباين له أتى بها موصولة غير مفصولة بحرف العطف، وإن كانت في [مقام التوسط*] فلا بد من حرف العطف ليزيل الإشكال، قال: وظاهر كلام سيبويه، وأكثر النحويين أن الأصل تقديم المبتدأ سواء كان نكرة لها مسوغ أو معرفة، وظاهر كلام الزمخشري: أن الأصل [تأخيره*] إذا كان نكرة؛ لأنه أورد سؤالا [في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وَأَجَلٌ مُسَمى عِندَهُ)، قال: [فما أوجب التقديم*؟] [فإن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره فلم جاز تقديمه في قوله وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ؟ قلت: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ. فإن قلت: الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد، ولي عبد كيس، وما أشبه ذلك، فما أوجب التقديم؟ فأجاب: بأن في تقديمه تعظيما لشأن الساعة.*]
قوله تعالى: (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ).
إما أن يراد صدقوا فيما عاهدوا الله عليه، فيكون حقيقة بمعنى الوفاء بالعهد، وإن كان المعاهد عليه مصدوقا، فهي مجاز كقولهم: صدقني من بكره في رجل اشترى من رجل حمارا، فقال: إنه بكر، فلما رأى الإبل صوت بتصويت البكر، فقال مشتريه صدقني من بكره، قال الطيبي: يروى برفع النون [مجازا*]؛ لأنه جعل السن صادقا.
قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ).
فسر بوجهين: إما وفاء بعهده، وإما مات، فعلى الثاني لَا سؤال، وعلى الأول يشكل مع قوله تعالى: (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ)؛ لأن صدقهم دليل على [توفية جميعهم بعهده، فكيف تقسمهم إلى من وفَّى*] بعهده ومن ينتظر، فالمنتظر لم يصدق.
ابن عرفة: إلا أن يقال: إنه وفَّى بعض، وعزم [الوفاء الباقي*] فهو صادق بهذا الاعتبار.
قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ... (٢٤)﴾
قالوا: اللام للصيرورة باعتبار أن فاعل الفعل المعلل غير فاعل للعلة المستفادة، أو باعتبار الفعل المعطوف عليها وهو ويعذب المنافقين، قال: وكان بعضهم لما ذكر سبب جزاء الصادقين، ولم يذكر جزاء المنافقين، فلم يقل: ويعذب المنافقين بنفاقهم، فقال: كان يجيب بالتهيج على فعل المأمور به، واكتفى في النهي عنه بمطلق النهي، وظاهر كلام ابن عرفة أنه جعله من حذف التقابل.
قوله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ... (٢٥)﴾
ابن عرفة: كان بعضهم يقول: الغيظ هو الغم اللاحق للنفس بوقوع مؤلم، فإِنها الأولى متعلقة بمؤلم، والثانية بوقوع، ولم يدخل فيها الحزن؛ لأن المؤلم الواقع بها غير مقصود وقوعه بها، بل هو أمر من الله تعالى كذهاب مال الإنسان بأمر من الله تعالى، وموت قريب له بخلاف ما لو ذهب ماله باغتصاب آخر له، فإن الحادث له حزن وغيظ.
قوله تعالى: (لَمْ يَنَالُوا خَيرًا).
انظر هل الخير والشر نقيضان أو بينهما واسطة، فكان بعضهم يحتج على [أنهما*] على طرفي النقيض بقول المتكلمين: الوجود خير كله، [والعدم*] شر كله، [والوجود والعدم*] نقيضان. ومنهم من قال أن بينهما واسطة.
قوله تعالى: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ).
قالوا في السير: إن المؤمنين قاتلوهم بالنبل والحجارة.
ابن عرفة: وهذا قتال كيف يفهم أنهم كُفوا القتال، لكن يجاب: بأن السورة تقتضي [... ] ولا تنبيه فهي هنا للترتيب، بمعنى أنهم كفوا قتالهم بعد أن صدهم الله تعالى يفيد أنهم خائبين.
قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا).
يحتمل له أن يريد، وكان رسول الله قويا عزيزا كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ)، وهو الأصوب؛ لأنه هو محل مخالفة الكفار، بخلاف الأول.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ... (٢٦)﴾
أي [عاونوهم*]، وظاهر كلام المفسرين أن المعاونة والمظاهرة مترادفان، وكان بعضهم يقول: إن المعاونة تقتضي المباشرة في السبب الذي وقعت فيه، والمظاهرة لا تقتضي ذلك، بل تصدق على من دل على الفعل، وحض عليه وإن لم يفعله من المدلول عليه.
قال الزمخشري: وروي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، وقال ابن عطية: جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام وقت الظهر.
ابن عرفة: كذا في السير لقوله: " [لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة*] ".
ابن عطية: [ووصلها*] قوم من الصحابة بعد العشاء وهم لم يصلوا العصر، فلم [يخطئهم*] رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ابن عرفة: فيه دليل على أن كل مجتهد مصيب.
قوله تعالى: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ... (٣٠)﴾
قيل لابن عرفة: كنتم أوردتم سؤالا في قوله تعالى: في سورة النحل (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)، قلتم: زيادة العذاب على مثله [ملزوم لاجَتماع الأمثال في المحل الواحد وهو باطل، وهذا السؤال بعينه يرد في هذه الآية، فيقال: تضعيف العذاب ضعفين ملزوم لاجتماع الأمثال في المحل الواحد*]، [وتقدم الجواب*] عن ذلك من وجهين*]: إما أن يزاد على جواهر أجسامهم جوهر آخر تكون محلا للعذاب الزائد الأول، وإما باعتبار تطاول أزمنة العذاب وقصرها، فكانوا مثلا يعذبون في ساعة واحدة، ثم صاروا يعذبون في ساعتين، وهذا يفهم قولهم في حد الحرابة مثلا: حد العبد، فحد العبد في القذف أربعون، وحد الحر ثمانون، وكما يفهم أن صيغ هذه [... ] لكونها [... ] صنعت من زمن أطول من زمن الأخرى، وتقدم نحوه في البقرة في قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)، وفي مريم (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)، وفي سورة المدثر في قوله تعالى: (وَيَزدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا)، وهي في سورة الفتح والقتال.
قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ... (٣٣)﴾
قرأ الجمهور بكسر القاف، ونافع وعاصم بفتحها، فالفتح على لغة من قال: قررت بفتح القاف في المكان.
ابن عطية: وهي لغة ذكرها أبو عبيد في التقريب المصنف، والزجاج.
ابن عرفة: ؛ قال بعضهم: وأشار الشاطبي بقوله [وَقِرْنَ افْتَحْ اذْ نَصُّوا يَكُونَ لَهُ ثَوى... يَحِلُّ سِوَى الْبَصْرِيْ وَخَاتِمَ وُكِّلَا*]
294
قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).
ابن عرفة: كان بعضهم يقول: الصواب أن تكون هذه الجملة في معنى الأولى مفسرة لها، فيكون أمرهن بملازمة البيوت ليس نهيا عن مطلق الخروج، بل عن الخروج المخالف للشرع، وهذا خروج التبرج، قال: فبكت عائشة على خروجها في آخر عمرها يوم الجمل في حرب معربة عن تورع منها وندم على مخالفتها الأولى في حقها رضي الله عنها وأداها اجتهادها إلى حمل الآية على هذا المعنى.
ابن عرفة: فإن قلت: مفهوم هذا النهي أن التبرج الذي لَا يبلغ تبرج الجاهلية مباح لهن، قلنا: ليس كذلك، وإنَّمَا جاء هذا من اعتقاد أن حرف النهي دخل على الفعل بعد تأكيده بالمصدر، فكان نهيا عن الأخص، وليس كذلك بل المصدر تأكيد [للذم*]، أو تعليل له، فليس هو نهيا عن التبرج المشابه لتبرج الجاهلية، بل نهي مطلق التبرج المعلل بكون جنسه أو نوعه من صفة فعل الجاهلية، فتبرج الجاهلية علة للنهي لَا تأكيد له.
قوله تعالى: (الأُولَى).
حكى البيضاوي في تفسيره (الأُولَى) قولين:
إما أنه للذي لم يسبقه غيره، أو الذي هو متبوع شأن بعده.
فقول الحكم بين عيينة: إنه ما بين آدم ونوح.
وقول ابن الكلبي: ما بين نوح وإبراهيم.
وابن عباس: ما بين نوح وإدريس.
وقول غيره: ما بين موسى وعيسى يوافق التفسير الأول، وكذلك حديث الجمعة: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة".
القول في أبي بكر أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وفي عمر أنه أول خليفة بعد أبي بكر، وفي عثمان أنه أول خليفة بعد عمر"، ولا يقال في علي لما في الحديث، ثم يعود ملكا يوافق التفسير الثاني؛ لأنه ليس بعد علي خليفة.
قوله تعالى: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
إما من عطف العام على الخاص، أو المراد طاعته فباعدا ما تقدم.
قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).
295
إن كان المقصود ظهور تعلق الإرادة، وهو التعلق [التنجيزي*]، فالفعل على بابه من الاستقبال، وإن كان المراد التعلق الصلاحي، فهو في معنى الماضي.
قوله تعالى: (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
الطهارة عبارة عن التطهير الحسي في البدن أو غيره من نجس أو غيره، وإطلاقها على [التنظيف*] المعنوي من الآثام والذنوب مجازا.
وقال المازري أول الطهارة في شرح التلقين: بل هو حقيقة لتأكيده بالصدق في هذه الآية، قال: وبه يحتج لأهل السنة في قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، يفيد وقوع الكلام منه حقيقة فكذا هذا. والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ... (٣٤)﴾
ابن عطية: هذا وعظهن بأحد وجهين:
فإما أن المراد تذكرنه [واقدرنه*] قدره وفكرن في أن مَن هذه حاله ينبغي أن [تحسن*] أفعاله.
وإما أن المراد [احفظن وكررن*] فكره على ألسنتكن وامتثلن أمر الله.
ابن عرفة: هذا كلام المفسرين وحمله المحدثون وحفاظ الفقهاء، على أنه أمر لهن بتبليغ ما حفظن من القرآن والسنة للناس، ومنه أخذوا جواز الشهادة على الصوت؛ لأنهن محجوبات عن الأعين، لقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) لكن يجاب: بأن القرينة تنزلت منزِلة الشهادة على الصوت؛ لأنهن محجوبات عن الأعين، لقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ) المفيدة للعلم، وقوله تعالى: (مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)، الآيات المعجزات من القرآن والسنة (وَالْحِكْمَةِ) آية الأحكام.
قوله تعالى: (فِي بُيُوتِكُنَّ).
فائدته توكيد ومبالغة في أمرهن بتبليغه؛ لأن تلاوته في بيوتهن مظنة لاختصاصهن بسماعه عن غيرهن من النَّاس، فينبغي أن يجيب عليهن بتبليغه وجوب فرض العين، لا وجوب فرض الكفاية.
قيل لابن عرفة: بل هو مأمور بتبليغه للجميع، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، فقال: لَا بل يخرج من العهدة بتبليغه للبعض كما قال: ليبلغ الشاهد الغائب قال، وقال في قوله تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ
فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ)، [إذ*] في ذكر بيتها ترتيب ليوسف عليه الصلاة والسلام، وتعريف بأنه كان في حكمها مع ذلك فامتنع منها بخلاف ما لو راودته في موضع هو متمكن من الهروب.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ... (٣٥)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقدر وجه الترتيب في هذه المعطوفات ثلاثة أمور: وهو الظاهر والأظهر، والسبب والمسبب، [والتصديق والتصور*]، فقدم الإسلام ظهوره وخفاء الإيمان، وقدم الإيمان على القنوت؛ لأنه أظهر من القنوت؛ لأن القانت هو القائم بالطاعة الدائم عليها، فيعرف إيمان الشخص بمجرد المخالطة، ولا يعلم أنه قانت إلا بالمداومة على مخالطته، ولأن القنوت مطلق الطاعة، والإسلام شرط فيها، ورتبة الشرط أن يكون متقدما على المشروط، وقدم (وَالْقَانِتِينَ) على (الصَّادِقِينَ). (وَالصَّابِرِينَ)؛ لأن الصادق هو الذي يصدق في نيته وقوله وعمله، والصابر الذي يصبر على فعل الطاعة وعلى المعاصي، فحصول وصف القنوت لهم مع الإسلام سبب في اتصافهم بالصدق والصبر لاجتناب المنهيات؛ لأنه منع نفسه من شهواتها، وكلها متعلقات الطاعة فإثباتها بعدها شبه التفسير بهذا الإجمال، ثم قال تعالى (وَالْخَاشِعِينَ)، إشارة إلى من حصلت له هذه الأوصاف لَا ينبغي له أن يثق بعمله، بل لَا يزال خائفا خاشعا؛ لأن هؤلاء على فعلهم هذا كله مهما مالوا عليه ازداد خوفهم وخشوعهم، وأخّر المتصدقين إما لأن ما قبلها أوصاف قاصرة، وهي وصف بطاعة متعدية للغير، وإما حديث أول الطهارة من صحيح مسلم عن أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ من ["وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ"*]، فهو كالدليل على صحة ما تقدم من الطاعات، ورتبة الدليل أن يكون بعد المدلول، وأخر الصيام؛ لأنه أمر عدمي راجع لترك الأكل والاستمتاع، وجميع ما قبله أمر وجودية، والوجود أشرف من العدم، وقدم الصوم على حفظ الفرج؛ لأن الصوم غير دائم في زمنها، وهو النهار فقط، وحفظ الفرج ترك دائم في كل الأزمان، فالصوم أقرب إلى الوجود، وحفظ الفروج أبعد.
قلت: وتقدم عن ابن عرفة أنه إنما أخرهما عن المتصدقين؛ لأن الصدقة مظنة، ومن حصل له الغَناء هو متمكن من شهوة بطنه وفرجه، فأفاد أنهم مع ذلك يتركون شهوة بطونهم بالصوم، وشهوة فروجهم يحفظها عن المحارم، فجاء هذا شبه
297
الاحتراس والتكميل وأخر (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ)، إشارة إلى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من كان آخر قوله لَا إله إلا الله دخل الجنة".
قلت: وتقدم لنا أنه إنما أخره؛ لأنه كالعلة الغائبة التي قال الحكماء فيها: أول الفكرة آخر العمل، فأفاد أن فعلهم ذلك إنما كان لذكرهم الله تعالى واستحضارهم مقام الهيبة والإجلال.
قال الزمخشري: إن قلت: أي فرق بين عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين.
ابن عرفة: أراد أي فرق بين كل صنف من هذه المزدوجات من إناث وذكور على مجموع الصنف الآخر، وبين عطف إناث كل صنف على ذكوره.
فأجاب: بأن عطف الإناث على الذكور عطف ذوات، وعطف المجموع على المجموع عطف صفات، قال: معناه أن الجامعين لهذه الصفات لهم مغفرة.
ورده ابن عرفة بقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا)، فليس المراد أن لَا يأخذها إلا من اجتمعت فيه هذه الأوصاف، بل كل نوع من هذه المذكورات له فيها حظ.
وكذلك قال مالك: فيمن أوصى بثلث ماله للعلماء والفقراء والمجاهدين والصلحاء، فإنه لَا يقصر على من جمع هذه الأوصاف، بل للعالم منه حظه، وإن كان غنيا غير مجاهد، وكذلك الفقير وإن لم يكن عالما ولا مجاهدا.
قيل لابن عرفة: لما رتب عليه الأجر الأخص، وهو العظيم وجب قصره على الأخص، وهو من جمع الأوصاف كلها، قال: بل هو فضل الله واسع.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)، ولم يقل: وكانت من القانتات فأدخَلها في وصف الذكور وهم أشرف من الإناث، وهنا لم يكتف بقوله: إن المسلمين والمؤمنين والقانتين عن ذكر المسلمات والمؤمنات والقانتات، مع أن الجمع يتناولهن على جهة التغليب.
298
قيل لابن عرفة: قد قال المفسرون: سبب نزولها أن نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنهن، قلن له: قد ذكر الله في كتابه الرجال ولم يذكر النساء، فنزلت الآية، فقال: التصريح بذكرهن أدخل في مقام التطمين لنفوسهن.
قوله تعالى: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً).
وقال ابن عرفة: كان بعضهم يعارضه بقوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، وهذه الأوصاف كلها محصلة للثواب، فلم يبق ما يغفر.
قال: وأجيب: بأنها سبب في المغفرة فغفر له نصا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ... (٣٦)﴾
هذا لنفي القابلية، وهو الفرق بين قولك: ما يفعل زيد كذا، وما كان لزيد أن يفعل كذا، وهو خبر في معنى النهي، وليس بنفي ولا بخبر حقيقة؛ لأن زينب رضي الله عنها لما خطبها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لزيد امتنعت هي وأخوها عبد الله، فنزلت الآية، فأذعنت وامتثلت أمره، وكذلك أم كلثوم بنت عقبة لما وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنها، فيلزم عليه إما الخلف في الخبر أو كون المخالف غير مؤمن، فلذلك جعلناه نهيا، وبدأ بالمؤمن؛ لأنه لَا يلزم من امتثال ذلك امتثال المؤمنة لما ورد أن "النساء ناقصات عقل ودين".
قال ابن عرفة: وهذه الآية مما يحسن أن يذكر مثالا للعام المتفق على عدم تخصيصه، وهو من آية الأحكام.
وقد قال الفخر: عمومات القرآن مخصوصة إلا قوله تعالى: (وَاللَّهُ بكُلَ شَيءٍ عَلِيمٌ).
فرده ابن التلمساني بعدم انحصاره في ذلك بل منه، قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)، وقوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وقوله تعالى: (مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ).
قال: ونقلوا عن ابن الحاجب أنه كان يقول: الأولى تمثيلة بآية ينبني عليها حكم متفق عليه، وذلك قوله تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، قال: نقله عنه ابن عبد السلام، فقال: اختلفوا هل يصح أن يتولى المسلم عقد نكاح المشركة من المشرك أم لَا؟ والآية محتملة لهذا.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ... (٣٧)﴾
قال ابن عرفة: هذا الفعل المراد به المعنى لاقترانه بـ إذ، وأتى بلفظ المضارع للتصوير.
قوله تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ).
لا ينبغي حمله على أنه خاف فقط، بل المراد عناية خلط خوفه من الله تعالى بخوفه من النَّاس، وأمره بأن لَا يخاف إلا الله فقط غير منسوب بشيء.
قال: وكان بعضهم يقول: عقاب [المالك*] لمملوكه على عدم تصرفه في ماله اعتناء منه به، وكذلك عتاب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم على إخفائه ما وقع في نفسه [وحضه*] لزيد رضي الله عنه على إمساك زينب رضي الله عنها، وامتناعه من تزويجها، فإن الجميع ملك لله تعالى.
قوله تعالى: (زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ).
قال ابن عرفة: احتج الأصوليون على وجوب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيما يثبت فيه خصوصية، ولولا ذلك لما احتيج إلى تعليله بنفي الحرج عن المؤمنين، ومنهم من احتج به على عدم وجوب الاقتداء.
وقال: التعليل بهذا دل على صحة الاقتداء به في هذه القضية فقط، فالخصوصية ثابتة حتى يدل الدليل على الاقتداء حسبما أشار إليه ابن الحاجب، وعلى هذا يكون من باب تخصيص العام بحكم العام.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ... (٣٨)﴾
أي من نقص.
قيل لابن عرفة: وكذلك ما عمل غيره من النَّاس من حرج فيما فرض الله له، أوجب الله له فيما نفى الحرج فيه، وإن كان معناه فيما قدر الله له فيدخل فيه المباح، فيكون نفي الحرج عنه لما قد يتوهم في حقه من أنه لعلو منزلته، قد لَا يفعل المباحات ويشدد على نفسه فيها كما يشاهد بعض أشراف النَّاس يتنزه عن أشياء يفعلها غيره.
قلت: وانظر قوله تعالى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) قوله صلى الله عليه وسلم: " [لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي*] ".
قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا).
معناه إما لازما ملتزما، وإما قضاء مقضيا.
قوله تعالى: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)... (٤٠)﴾
ومَن بفتح التاء وكسرها فهو إما اسم جامد أو صفة بمعنى اسم الفاعل، كالخاتم الذي يطبع الكتابة عند كماله.
وكان بعضهم يقول في التاريخ: إذا كتبه في العشرين في الشهر يقول: الموفي عشرين، وفي الثلاثين يقول: الموفي ثلاثين والثلاثون هو نفس الشهر، فكأنه يقول: الموفي به شهر والعشرون بعض الشهر، فكأنه يقول: كتبته في اليوم الموفي عشرين من الشهر.
قال ابن عطية: ولفظ الآية مع قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أنا خاتم الأنبياء"، عند علماء الأمة نص صريح في أنه لَا نبي بعده.
وما ذكره القاضي الباقلاني في كتاب الهداية من أنه ظاهر ليس [بصريح*]، وما ذكره الغزالي في الاقتصاد وتصدى إلى إفساد عقيدة المسلمين في جهة النبوة الشريفة.
قال ابن عرفة: قال الغزالي في آخر الاقتصاد: الأكثرون على العمل بالإجماع فيما لم يرد فيه نص قطعي، وذهب النَّظَّام إلى عدم العمل به، قال: وهو مردود بقوله: وهو (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ).
قال ابن عرفة: فقوله هذا دليل على أن ختمه للنبيين إنما ثبت عنده بالإجماع.
قال: وقال الفخر غير هذا أن الأدلة الشرعية لَا تفيد الظن، فضلا عن اليقين لإمكان تأويلها، فهي عنده ظاهرة وليست نصا، وسلمه له ابن التلمساني.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ... (٤٣)﴾
من عطف الجمل لَا من عطف المفردات، أي ملائكته يصلون عليكم؛ لأن المقامين مختلفان.
قوله تعالى: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
ولم يقل: إلى الضياء مع أنه أخص من النور.
قلت: [ولو قال: إلى الضياء لما وجد في الأمة عاصٍ، ولكانت*] الدلائل الشرعية بديهية يدركها كل أحد بالضرورة.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ... (٥٠)﴾
ابن عطية: عن ابن زيد: أي أحللنا لك جميع النساء، وعن ابن عباس: المراد أزواجه التسع التي في عصمته.
ابن عرفة: وهذا كما يقول المنطقيون في العنوان والوصف: هل هو صادر عن الذات بالقابلية قاله الفارابي، والفعل قاله ابن سينا.
وحكى النحويون في اسم الفاعل خلافا، هل هو حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال؟ فعلى قول ابن زيد: هو مجاز فيمن هو قابل لتزويجه، ولا سؤال فيه، وعلى تأويل ابن عباس، هو حقيقة في الحال لكن فيه سؤال؛ لأنه تحصيل الحاصل، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، معصوم في اجتهاده، لَا يفعل إلا ما هو حلال له في نفس الأمر، وقد كان تزوجهن، فلا فائدة في إحلالهن له إلا على القول الثاني الذي حكاه ابن الحاجب عن بعض الملاحدة، من أنه جوز عليه الخطأ في اجتهاده.
قال: ويحتمل الجواب عنه: بأنه ليس المراد حقيقة الإحلال، بل لازمه وهو الاعتناء بهن والتشريف بذكرهن، ففي ضمنه التوصية عليهن [بالرفق*] والإكرام]، وبدليل قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، وبدليل تأكيد الإحلال.
فإن قلت: فعلى هذا يكون خبرا لَا إنشاء، اخترناهن لك واصطفيناهن عن غيرهن وحجزنا عنك ما سواهن، والله تعالى لَا يختار لنبيه إلا الطيب، كما قال تعالى (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ).
قوله تعالى: (وَبَنَاتِ عَمِّكَ).
ولم يقل: (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ).
[فإما أن يكون*] حذف من الثاني لدلالة الأول عليه، [**أو يكون كما].
ابن عرفة: يسير في العطف خلافا، هل يشرك في الإعراب والمعنى؟ وحملنا على أنه أراد إذا قيد أحد المعطوفين يقيد في صفة أو عدمها، هل يدخل فيه الإحرام؟ لا كقولك: [جاء*] العاقل وعمرو.
فإن قلت: لم أفرد العم والخال، وجمع العمات والخالات؟ فالجواب: أن بنات العم وبنات الخال منسوبات إلى الأب، وهو واحد في جنسه ونسبه، وبنات العمات
والخالات منسوبات للأم، والأولاد يختلفون، فيهم الشريف والوضيع والمتوسط [وأشرفهن من جهة أمهاتهن*]؛ لاختلاف آبائهن في النسب.
قوله تعالى: (اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ).
هذا جار على الخلاف في النعت والاستثناء إذا تعاقب جملا، هل يرجع إلى الآخرة أم لَا؟ والقرينة هنا تعين رجوعه للجميع.
قوله تعالى: (إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا).
هل هو شرط في الثاني، وهو جوابه شرط في الأول، وجواب الثاني جواب لهما معا، يحتمل الأمرين والمعنى واحد كقوله تعالى: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ).
قوله تعالى: (خَالِصَةً لَكَ).
حجة لمن يقول بوجوب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولولا ذلك لما كان لقوله تعالى: (خَالِصَةً لَكَ) فائدة.
قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).
أي لما قد تقع المخالفة بما بينه له وحدده.
قوله تعالى: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ).
ابن عرفة: كان بعضهم يرد بها على الزمخشري في جعله قد عرف توقع مع أن التوقع هنا من الفاعل محال، فما هي إلا حرف تحقيق بخلاف قوله تعالى: (قَدْ أفلَحَ الْمُؤْمِنُونَ).
قالوا: وكانوا يجيبونه: بأن التوقع من المخاطب، قيل له: علم الله محقق غير متوقع، فقال: باعتبار ظهور متعلقه وإبرازه هو التعلق [التنجيزي*] لَا باعتباره في ذاته.
قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ... (٥١)﴾
ابن عرفة: إن قلت: لم أخر في الجملة الأولى المجرور الذي هو مفعول في المعنى وقدمه في الثانية؟ فهلا قيل: ترجي منهن من تشاء، أو يقال: تؤوي من تشاء إليك.
قال: والجواب: أن تقدم المجرور بـ إلى في الثانية تشريف له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ).
أي أقرب لأن تقر أعينهن، فقروا أعينهن فيما حصل لهن، وعدم حزنهن على ما فاتهن؛ لأن الحزن على فوات الماضي، والخوف على توقع المستقبل ورضاهن، فما آتين إشارة إلى من حصل لها منه حظ، وحصل لغيرها أكثر منه لَا تتشوق إليه، بل ترضى بما حصل لها، وإن كان الحاصل لغيرها أكثر، [وكأنه تأسيس*] لَا تأكيد فيه بوجه.
قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ... (٥٢)﴾
ابن عرفة: إن قلت: ما الفرق بينه وبيَنَ أن يقال: حرمت عليك النساء؟ فالجواب: أن نفي الحلية تقتضي رفع الإذن ابتداء ولا يستلزم المنع بعد الفعل، والتحريم يستلزم المنع ابتداء وبعد الفعل، فهذا أخف، فلذلك خوطب به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: (وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ).
يحتمل أمرين:
أحدهما: ولا أن تبدل بهن من نسائهم زوجات لغيرك، فيكون نهيا على ما كانت عليه الجاهلية، من أن كل من الرجلين ينزل لصاحبه عن زوجته ويتبادلا، وهو ظاهر قول عيينة بن حصين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن شئت نزلت لك عن أحسن نساء العرب جمالا.
وإن كان ابن عطية قال: ليس بمبادلة ولكنه اختص عائشة رضي الله عنها.
ابن عرفة: فيكون على هذا نهيا أخص وإطلاق الأزواج هنا حقيقة.
الثاني: أن المعنى ولا أن تبدل بهن من نساء تتزوجهن بإطلاق الأزواج، هنا مجازا باعتبار إلى الأمر.
وما حكاه ابن عطية من أنه نظر إلى أسماء بنت عميس، وأعجبته لم يرد في الصحيح، والمحل ضيق فلا ينبغي نقله.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ... (٥٣)﴾
قال ابن عرفة: اقتضت الآية النهي عن دخول بيوت النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم للإقامة فيها.
304
قيل: لانتظاره بعده للاستئناس فيها بالحديث، فمقتضاها جواز دخولها للطعام، بشرط عدم فيها، ولفظها يقتضي بأنه مشروط بالإذن، وتقدم الإقامة فحينئذ يرد فيها ثلاثة أسئلة.
الأول: [... ].
الثاني: أن الدخول بإذن مشروط بعدم الإقامة قبل الطعام وبعده، وقد تأخر عنه ففيه تأخير الشرط على المشروط، وجوابه: أن الشرط متأخر ودليله متقدم، وهو عدم الضرر، فالدخول مشروط بعدم الضرر، أعني بالعزم عليه، وهذا كما قال مالك في كتاب الإيلاء فيما إذا [طلق عليه*] القاضي ثم راجع في العدة فوطئها بعد الثلاثة أشهر، فإنه لَا يقال لها [رجعة تامة*] لانتفاء الضرر.
والسؤال الثالث: أن فيه تكليف الإنسان بفعل غيره؛ لأن تأخير الطعام من فعل غير الداخلين، فيتعلق جواز دخول المأذون فيه على عدم انتظاره من باب التكليف بفعل الغير؛ لأنهم إذا دخلوا قد لَا يتهيأ حضور الطعام حينئذ، وجوابه: أنهم لا يدخلون إلا إذا علموا أن الطعام حضر أو قرب حضوره.
فإن قلت: لم جمع البيوت؟ قلت: لئلا يكون النهي خاصا ببيت زينب، إذ هي السبب في النهي.
قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ).
الإذاية هنا [مغايرة*] للإذاية في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، لأن الأولى مقصورة، وهذه غير مقصورة.
قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا).
عبر بـ إذا دون إن؛ لأن سؤال المتاع من مصالح التكليف المرغب فيها شرعا.
ابن عطية: المتاع جميع ما يطلب من مرافق الدين والدنيا.
ابن العربي: متاعا قيل: عارية، وقيل: حاجة، وقيل: فتوى، وقيل: مصحف القرآن.
ابن عرفة: وفي التفسير بلفظ السؤال تعظيم لهن، لقول صاحب الجمل الطلب من الأدنى إلى الأعلى دعاء ومسألة.
305
قوله تعالى: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ).
ظاهره ولو [كن*] ملتحفات بساتر، فإنه لَا بد من حجاب آخر يحول بينهن وبين السائل، ألا ترى إلى ما حكى ابن عطية من قول عمر رضي الله عنه لما توفيت زينب بنت جحش رضي الله عنه: لَا يشهد جنازتها إلا ذو محرم، حتى أشارت عليه أسماء بنت عميس بسترها [في النعش في القبة*].
قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ).
إن قلت: هلا عكس العطف، إذ لو قيل: ([ذَلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِهِنَّ وَقُلُوبِكُمْ) *].
لكان تأسيسا؛ لأن كونه أطهر لقلوبنا، يستلزم كونه أطهر لقلوبهن من باب أحرى. لأن قلوبهن أقرب للسلامة من الإدناس من قلوب غيرهن، فكل ما ينزل عن قلوبهن يزيله عن قلوبنا.
قال: والجواب: أن ذلك من أسبابها هي، وهو جهة للفظ، فيقول: إنه قصد الاهتمام بتقديم تطهير ما هو أقرب للوقوع في الدنس على ما هو أبعد منه؛ لأن قلوب غيرهن أقرب للدنس من قلوبهن.
فإن قلت: أطهر أفعل وشرطها ألا تنبني إلا فيما يبنى منه فعل التعجب مع أنه لا ينبني إلا من الخلق التي تزيد وتنقص، وطهارة القلوب راجعة لسلامتها من الأدناس فهي أمر عدمي، والأمور العدمية لَا تزيد ولا تنقص.
قال: والجواب: أن الزيادة لأسبابها وهي وجودية للأمور المنافية للطهارة التي وقع التكليف بها شرعا، كما يقول: وجود المنافي للغيبة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقرب من وجود المنافي لها في غيره.
قلت: وأجاب بعض الطلبة: بأن المراد متعلق ذلك العدم أو إنماء ذلك إذا اتحد العدم، أما إذا تعددت الأمور العدمية فلا، كما يقال: قلب فلان الطائع أطهر من قلب فلان العاصي، تعلقت به أدناس، سلم الآخر من بعضها.
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ).
الإذائة أخف من الضرر، قال الله تعالى (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى)، وقال تعالى (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)، فنفي [الإذاية*] يستلزم نفي الضرر مع أن هذا اللفظ يقتضي نفي الصحة والقبول [للإذاية لَا نفي وجود الإذاية*].
306
قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ... (٥٥)﴾
المراد به نفي التحريم فقط، وقوله تعالى: (وَاتَّقِينَ اللَّهَ).
والتقوى فيكون عطف تأسيس لَا تأكيد، وقدم الآباء لأن حرمتهن آكد من حرمة الأبناء، وحرمة الأبناء آكد من حرمة الأخوة، بدليل أن آدم عليه السلام كان يزوج الأخ لأخته، والتي تزايدت قبله أو بعده من بطن آخر، ولم ينقل أن ابن تزوج أمه قط، فهو تدلي.
هكذا كان ابن عبد السلام يقرره، لأنه لَا يلزم من نفي الحرج عليهن في دخول من تحريمه عليهن أشد نفيه في دخوله من تحريمه أخف.
وأورد الفخر سؤالا، قال: خوطب أولا الرجال بقوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)، ثم نفى الجناح عن النساء في دخول محارمهن عليهن، فهلا نفى الجناح عن الرجال، فيقال: لَا جناح على آبائهن ولا أبنائهن في الدخول إليهن.
وأجاب ابن عرفة: عنه بأنه اعتبر أولا حال الفاعل، وهنا حال المنفعل؛ لأن المنفعل قسمان: منه موصوف بالشدة، ومنه موصوف باللين، ونسوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من القسم الأول، بحيث لَا يتجاسر أحد محلهن إلا بإذن، فكان الدخول عليهن من فعلهن إذ لَا يتصور إلا بإذنهن، فالحرج فيه وعدمه مصروف لهن فلذلك نفى عنهن الجناح فيه.
قوله تعالى: (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ).
ابن عرفة: العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال، فلذلك قال مالك رحمه الله في العبد: أنه لَا يرى [شعر*] سيدته إلا إذا كان وغدا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ... (٥٦)﴾
قال ابن عرفة: لما تقدم التنبيه على تعظيم أزواجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أمر سائر الأمة بتعظيمهم، حيث نهوا أن يسألوهن إلا من وراء حجاب، وأن لا ينكحوهن من بعده، عقبه ببيان تعظيمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما هو أقوى من ذلك وأعظم، وهو صلاة الله عليه وملائكته، وقرر الفخر وجه المناسبة بغير هذا، وعلى الصلاة عليه بالوصف الأعم، وهو النبوة فيستلزم الصلاة عليه من حيث اتصافه بالأخص، وهو الرسالة من باب أحرى.
307
ابن عطية: وما ورد عن الخطيب القائل: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله"، وأجيب بوجوه منها:
قال ابن عرفة: قال [ابن هشام المصري*] على قراءة من قرأ (وَمَلائِكَتَهُ) بالرفع فهو محمول عند البصريين على الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، أي إن الله يصلي وملائكته يصلون، وليس عطفا على الموضع، و (يُصَلُّونَ) خبر عنهما لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد، والصلاة المذكورة بمعنى الاستغفار، والمحذوفة بمعنى الرحمة.
قال: والصواب عندي أن الصلاة لغة بمعنى واحد، وهو العطف ثم العطف بالنسبة إلى الله تعالى الرحمة، وإلى الملائكة الاستغفار، وإلى الآدميين دعاء بعضهم لبعض، وأما قول الجماعة [فبعيد من*] جهات:
أحدها: الاقتضاء والاشتراك، والأصل عدمه.
الثانية: وَالثَّانِيَة أَنا لَا نَعْرِف فِي الْعَرَبيَّة فعلا [وَاحِدًا*] يخْتَلف مَعْنَاهُ باخْتلَاف الْمسند إِلَيْهِ إِذا كَانَ الْإِسْنَاد حَقِيقِيًّا.
[وَالثَّالِثَة*]: أَن الرَّحْمَة فعلهَا مُتَعَدٍّ وَالصَّلَاة فعلهَا قَاصِر وَلَا يحسن تَفْسِير الْقَاصِر بالمتعدي.
[وَالرَّابِعَة*]: أنه [لَو قيل*]: [مَكَان*] [صلى عَلَيْهِ*] انعكس الْمَعْنى وَحقّ [المترادفين*] صِحَة حُلُول كل مِنْهُمَا مَحل الآخر.
قلت: ظاهر هذا أن الحذف من الأولى لدلالة الثاني عليه، وهو مذهب سيبويه، وأبطله أبو حيان في براءة.
وعادتهم يجيبون: بأن الآية في سياق الثبوت، وكلام ابن الخطيب في سياق النفي؛ لأن العصيان أمر سلبي، وهو عدم امتثال المأمورات، فيحتمل أن يكون الوعيد إنما هو لمن عصاهما من حيث الاجتماع، لَا من عصى أحدهما فقط؛ لأن المضمرات على المعروف كل لَا كلية بخلاف ما لو قال (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
وانظر قول عبد الوهاب في حد القياس: أنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما، وانتقاد النَّاس عليه أو يحتمل أن يجاب: بأن الواو للترتيب، فلذلك قال (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
308
ونقل ابن العربي في العارضة قولا في المذهب بوجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كل مجلس.
ونقل [ابن*] عرفة عن المفسر المشرقي: أنه احتج بالآية على أن الْمَلَك أشرف من بني آدم لأن [... ]. المشروف، فرده ابن عرفة: بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
وبقوله ﷺ " [إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لِلْعِبَادِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ وَيقَالُ لِأُوَيْسٍ: قِفْ فَاشْفَعْ فَيُشَفِّعُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مِثْلِ عَدَدِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ يَا عُمَرُ وَيَا عَلِيُّ إِذَا أَنْتُمَا لَقِيتُمَاهُ فَاطْلُبَا إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكُمَا، يَغْفِرِ اللهُ تَعَالَى لَكُمَا*] مع أنها أشرف منه.
ابن عرفة: ووقع وجوب [... ] في زمن الأشياخ البخاري مختصرا منه الصلاة وكنت [... ] لم يعلم به إلا بعد انعقاد السمع، فحكم لمشتريه بأنه [... ] يرجع به على تابعه.
قال ابن عرفة: وكان ابن عبد السلام يكفي إذ يقال صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاج إلى زيادة تسليما.
وكان الفقيه أبو عبد الله محمد الزبيدي أنكر ذلك، وقال: بل يحتاج إليه وكتب له براءة به فأبى أن يجيب عنها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ... (٥٧)﴾
قال ابن عطية: عن الجمهور [إذاية*] الله كفر، ونسبة الصاحبة والولد والشريك، ووصفه بما لَا يليق، وعن عكرمة بتصوير الصور وفعل ما لَا يفعله إلا هو، وعن فرقة: أنه على مضاف إلى يؤذون أولياء الله.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: إن احتيج إلى هذا المضاف؛ لأن الفعل المتعدي على قسمين: فعل له أثر في المفعول كقتلت زيدا لو ضرب عمراً، أو فعل لا أثر له في المفعول، كعرفت زيدا وسمعت صوت عمرو، وتصورت ذات زيد، وفعل الإذاية لَا أثر هنا له، فلا حاجة إلى تقدير المضاف، ولما كانت إذاية الله لَا أثر لها فيه، قابلها بالنفي الذي هو المفرد، والإبقاء وهو مجرد ترك، وإذاية الرسول فيه فقابلها بالعذاب المهين؛ لأنه جزاء عن إذايته، وإذاية الله تعالى.
قال: وجعل من يقول: إن الذين يؤذون رسول الله ورسول رسوله.
قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا... (٥٨)﴾
قال ابن عرفة: هذا هو الذي في الحديث: "إذا قلت في أخيك ما ليس فيه فقد غبته، وإذا قلت فيه ما فيه فقد اغتبته"، وهو إذايته بما اكتسب.
[كتاب*] الرجم من المدونة سئل [هَلْ يُنَكَّلُ فِي قَذْفِهِ هَؤُلَاءِ الزُّنَاةَ*]؟ فقال: [إذَا آذَى مُسْلِمًا نُكِّلَ*]، قال: وإذا علم المقذوف من تغيبه أنه وإن قاله العباد على قاذفه لخوف المعرة.
قوله تعالى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ... (٥٩)﴾
(مِنْ) للتبعيض إما في أنواع الجلاليب أو في أجزاء كل واحد منها وهو الظاهر؛ لأن كل امرأة لها جلبابان.
قوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ... (٦٠)﴾
ابن عرفة: هذه كالمقيد لما قبلها، أو كالسبب مع مسببه؛ لأن قبلها (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ).
والإذاية إما في الفروع أو في الأصول الراجعة لأمور الدنيا والآخرة، فإن أريد نفي لم ينتهوا عن إذايتهم على العموم، فيتناول الفروع والأصول.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ... (٦٣)﴾
ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها، أنها تقرير لما لحق رسول الله ﷺ وعلى آله وسلم في قومه من المشاق، فمنها إذايتهم له في بدنه [ومنها إذايتهم له بقولهم تزوج بزوجة وولده من الشبق*]، وفي إطالتهم الجلوس في بيت زينب رضي الله عنها، وفي التكلم في تسلية، وفي سؤالهم له عن الساعة، وهي ما استأثر الله بعلمه، فاليهود سألوه امتحانا.
قوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ).
[لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ أَقْوَامًا ثَلَاثَةً نَظَرًا إِلَى اعْتِبَارِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: وَهُمُ الْمُؤْذُونَ اللَّهَ، وَالْمُؤْذُونَ الرَّسُولَ، وَالْمُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ مِنَ الْمُسِرِّينَ ثَلَاثَةً نَظَرًا إِلَى اعْتِبَارِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: الْمُنَافِقُ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ سِرًّا وَالثَّانِي: الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ بِاتِّبَاعِ نِسَائِهِ وَالثَّالِثُ:
الْمُرْجِفُ الَّذِي يُؤْذِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِرْجَافِ بِقَوْلِهِ غُلِبَ مُحَمَّدٌ وَسَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَسَيُؤْخَذُ*]، [وسألوا*] سؤال تعنت واستهزاء.
قال ابن عرفة: [وانظر ما هو العدم*]، قيل: عبارة عن وقت فناء العالم الأول، وعن إنشائه النشأة الثانية بعد العدم لقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ).
قوله تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا).
ابن عرفة: كان بعضهم يقول: فرق بين قولك: لعل مجيء زيد قرب، وبين قولك هل مجيء زيد يكون قريبا؟ فالأول: تقوله إذا أخذ في أسباب المجيء ولم يحضر، والثاني: تقوله إذا أراد أن يجيء ولم يسرع في أسباب المجيء، بل يكون مجيئه مستقبلا.
قيل لابن عرفة: هذا مردود بقوله [في الآية]، [(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا) *].
قوله تعالى: ﴿لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٦٥)﴾
الولي هو الموالي، وقد يكون نصيرا دون وجه.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا... (٦٧)﴾
ابن عرفة: إن أريد الكبراء في السن، فالعطف تأسيس، وإن أريد في المنزلة والقدر فتأكيد، إلا أن يريد بالسادة من هو سيد في ذاته، وبالكبراء من أسلافه سادة، وإن لم يكن مثلهم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ... (٧٠)﴾
التقوى عند المتقدمين هي الإيمان، وعند المتأخرين أخص منه.
وقال الإمام مالك رحمه الله في المتعة في قوله (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) و (عَلَى الْمُتقِينَ).
وقال: إن كنت متقيا [فمتع*]، فإن كانت بمعنى الإيمان فتعني الأمر بالتقوى، أما المداومة عليها كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)، [يَا أَيُّهَا*] الذين آمَنوا ظاهرا بألسنتهم آمِنوا باطنًا بقلوبكم.
قوله تعالى: (سَدِيدًا).
أي مستقيما.
كقوله:
أعلِّمه الرماية كل يوم... فلمَّا اشتدَّ ساعدهُ رماني
على روايته بالسين المهملة.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... (٧١)﴾
المراد من يفعل جميع الطاعات أو أكثرها، وليس المراد مطلق الطاعة، لئلا يكون فيه حجة للمرجئة القائلين: بأن مجرد النطق بالشهادتين كافٍ في دخول الجنة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ... (٧٢)﴾
العرض إما الاختبار أو الإعطاء، وعرض ذلك على السماوات، إما بعد خلق التمييز فيها والإدراك، وإمَّا عرضه على ملائكتها.
قوله تعالى: (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا).
من باب تقديم المسبب على سببه، لأن الإشفاق سبب في [الإباية أو يكون الإشفاق علة وغاية*].
قوله تعالى: (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ).
هو آدم عليه السلام أو الجنس، والمراد بعضه لَا كله، وفيه أن عدم الدخول في العهدة أولا كقول مالك رحمه الله في أهل الكتاب، وترك الحكم بينهم أحب إليَّ.
قيل لابن عرفة: المراد عرضناها على الإنسان فحملها، قال: لَا بل حملها لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ولذلك كان الشيخ ابن عبد السلام يحكي أن الفقهاء اجتمعوا في جنازة، فقال بعضهم: هذا عليه دخلنا، فقال الآخر: بل عليه أُدخلنا.
قوله تعالى: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ... (٧٣)﴾
اللام للصيرورة على قراءة، (وَحَمَلَهَا).
بتخفيف اللام، وللتعليل حقيقة على قراءة التشديد في اللام.
Icon