تفسير سورة الأعراف

الماوردي
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ المص ﴾ فيه لأهل التأويل تسعة أقاويل :
أحدها : معناه : أنا الله أُفَضِّل، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير.
والثاني : أنه [ حرف ] هجاء [ من ] المصور، قاله السدي.
والثالث : أنه اسم السورة من أسماء القرآن، قاله قتادة.
والرابع : أنه اسم السورة مفتاح لها، قاله الحسن.
والخامس : أنه اختصار من كلام يفهمه النبي ﷺ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
والسادس : هي حروف هجاء مقطعة نبه بها على إعجاز القرآن.
والسابع : هي من حساب الجمل المعدود استأثر الله بعلمه.
والثامن : هي حروف تحوي معاني كثيرة دل الله تعالى خلقه بها على مراده من كل ذلك.
والتاسع : هي حروف اسم الله الأعظم.
ويحتمل عندي قولاً عاشراً : أن يكون المراد به : المصير إلى كتاب أنزل إليك من ربك، فحذف باقي الكلمة ترخيماً وعبر عنه بحروف الهجاء لأنها تذهب بالسامع كل مذهب، وللعرب في الاقتصار على الحروف مذهب كما قال الشاعر :
قلت لها قفي فقالت قاف........................................................
أي وقفت.
قوله تعالى ﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ يعني القرآن.
﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ﴾ وفي الحرج ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الضيق، قاله الحسن، وهو أصله.
قال الشماخ بن ضرار :
ولو ردت المعروف عندي رددتها... لحاجة لا العالي ولا المتحرج
ويكون معناه : فلا يضيق صدرك خوفاً ألا تقوم بحقه.
والثاني : أن الحرج هنا الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي. قال الراجز :
آليت لولا حرج يعروني... ما جئت أغزوك ولا تغزوني
ومعناه : فلا تشك فيما يلزمك فيه فإنما أنزل إليك لتنذر به.
والثالث : فلا يضيق صدرك بأن يكذبوك، قاله الفراء.
ثم قال :﴿ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ فجعله إنذاراً للكافرين وذكرى للمؤمنين ليعود نفعه على الفريقين.
قوله تعالى :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ الآية، هذا إخبار من الله تعالى عن حال من أهلكه بكفر تحذيراً للمخاطبين به عن مثله، وقوله :﴿ وَكَم ﴾ هي كلمة توضع للتكثير، « ورُب » موضوعة للتقليل، وذلك هو الفرق بين كم ورب.
قال الفرزدق :
كم عمة لك يا جرير وخالة فدعاء قد حلبت على عشاري
فدل ذلك على تكثير العمات والخالات :
وفي قوله :﴿ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتَاً ﴾ وإنما الهلاك بعد مجيء البأس أربعة أوجه :
أحدها : معناه أهلكناها حكماً فجاءها بأسنا فعلاً.
والثاني : أهلكناها بإرسال الملائكة إليها بالعذاب فجاءها بأسنا بوقوع العذاب لهم.
والثالث : أهلكناها بخذلاننا لها عن الطاعة فجاءها بأسنا عقوبة على المعصية.
والرابع : أن البأس والهلاك وقعا معاً في حال واحدة، لأن الهلاك كان بوقوع البأس فلم يفترقا، وليس دخول الفاء بينهما موجبة لافتراقهما بل قد تكون بمعنى الواو كما يقال أعطيت وأحسنت، فكان الإحسان بالعطاء ولم يكن بعد العطاء، قاله الفراء.
وقوله :﴿ بَيَانَاً ﴾ يعني في نوم الليل.
﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ يعني في نوم النهار وقت القائلة.
فإن قيل : فلم جاءهم بالعذاب في وقت النوم دون اليقظة؟ قيل : لأمرين :
أحدهما : لأن العذاب في وقت الراحة أشد وأغلظ.
والثاني : لئلا يتحرزوا منه ويهربوا عنه، لاستسلام النائم وتحرز المستيقظ، والبأس : شدة العذاب، والبؤس : شدة الفقر.
قوله تعالى :﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْْأَلَنَّ الْمُرسَلِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لنسألن الذين أرسل إليهم عن قبول الرسالة والقيام بشروطها، ولنسألن المرسلين عن أداء الرسالة والأمانة فيها.
والثاني : لنسألن الذين أرسل إليهم عن حفظ حرمان الرسل، ولنسألن المرسلين عن الشفقة على الأمم.
قوله تعالى :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الوزن ها هنا هو القضاء بالحق، أي بالعدل، قاله مجاهد.
والثاني : أنه موازنة الحسنات والسيئات بعلامات يراها الناس يوم القيامة.
والثالث : أنه موازنة الحسنات والسيئات بميزان له كفتان، قاله الحسن وطائفة.
واختلف من قال بهذا في الذي يوزن على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الذي يوزن هوالحسنات والسيئات بوضع إحداهما في كفة والأخرى في كفة، قاله الحسن والسدي.
والثاني : أن الذي يوزن صحائف الأعمال، فأما الحسنات والسيئات فهي أعمال، والوزن إنما يمكن في الأجسام، قاله عبد الله بن عمر.
والثالث : أن الذي يوزن هو الإنسان، قال عبيد بن عمير، قال يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة.
﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه فمن قُضي له بالطاعة.
والثاني : معناه فمن كانت كفة حسناته أثقل من كفة سيئاته.
والثالث : معناه فمن زادت حسناته على سيئاته.
﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ يعني بما لهم من الثوب، وبضده إذا خفت.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : سهلنا عليكم التصرف فيها حتى وصلتم إلى مرادكم منها.
والثاني : ملكناكم إياها حتى صرتم أحق بها.
﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ما تعيشون به من نبات وحيوان.
والثاني : ما تتوصلون به إلى معايشكم فيها من زراعة أو عمل.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ فيه لأهل التأويل أربعة أقاويل :
أحدها : ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء، قاله عكرمة.
والثاني : ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم في ظهره، قاله مجاهد.
والثالث : خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء، ثم صورناكم عند اجتماع النطفتين في الأرحام، وهو معنى قول الكلبي.
والرابع : خلقناكم في بطون أمهاتكم، ثم صورناكم فيها بعد الخلق بشق السمع والبصر، قاله معمر.
﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ﴾ فإن قيل فالسجود عبادة لا تجوز إلا الله تعالى، فكيف أمر به لآدم عليه السلام؟ قيل : فيه لأهل العلم قولان :
أحدهما : أنه أمرهم بالسجود له تكرمة وهو لله تعالى عبادة.
والثاني : أنه جعله قبلة سجودهم لله تعالى.
فإن قيل : فالأمر بالسجود لآدم قبل تصوير ذريته، فكيف قال :﴿ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ ﴾ ؟
فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه صورهم في صلب آدم ثم قال للملائكة : اسجدوا.
والثاني : معناه ثم صورناكم ثم أخبرناكم بِأَنَّا قلنا للملائكة : اسجدوا.
والثالث : اي في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ثم صورناكم.
وفيه جواب رابع أنكره بعض النحويين وهو : أن ﴿ ثُمَّ ﴾ هنا بمعنى الواو، قاله الأخفش.
قوله تعالى :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدهما : أنه أُهْبِط من السماء لأنه كان فيها، قاله الحسن.
والثاني : من الجنة.
والثالث : أنه أهبط من المنزلة الرفيعة التي استحقها بطاعة الله إلى المنزلة الدَّنِيَّةِ التي استوجبها لمعصيته، قاله ابن بحر.
﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ وليس لأحد من المخلوقين أن يتكبر فيها ولا في غيرها، وإنما المعنى : فما لمن يتكبر أن يكون فيها وإنما المتكبر في غيرها.
وفي التكبر وجهان :
أحدهما : تكبر عن الله أن يمتثل له.
والثاني : تكبر عن آدم أن يسجد له.
﴿ فَاخْرُجْ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : من المكان الذي كان فيه من السماء أو الجنة.
والثاني : من جملة الملائكة الذين كان منهم أو معهم.
﴿ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بالمعصية في الدنيا لأن العاصي ذليل عند من عصاه.
والثاني : بالعذاب في الآخرة لأن المعذب ذليل بالعذاب.
وفي هذا القول من الله تعالى لإبليس وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك على لسان بعض الملائكة.
والثاني : أنه أراه معجزة تدله على ذلك.
قوله تعالى :﴿ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه سأله الإنظار بالعقوبة إلى البعث وهو يوم القيامة.
والثاني : أنه سأله الإنظار بالحياة إلى يوم يبعثون وهو يوم القيامة لئلا يذوق الموت، فَأُجِيْبَ بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهي النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين وهو أربعون سنة، قاله الكلبي.
فإن قيل : فكيف قدر الله مدة أجله وفي ذلك إغواؤه بفعل المعاصي تعويلاً على التوبة في آخر الأجل؟
قيل : قد علم الله من حاله أنه لا يتوب من معصيته بما أوجبه من لعنته بقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَومِ الدَّينِ ﴾ فجاز مع علمه بهذه أن يقدر له مدة أجله ولو كان كغيره ما قدرت له مدة أجله.
فإن قيل : كيف أقدم إبليس على هذا السؤال مع معصيته؟ قيل : كما ينبسط الجاهل في سؤال ما لا يستحقه.
فإن قيل : فكيف أجاب الله سؤاله مع معصيته؟ قيل : في إجابته دعاء أهل المعاصي قولان :
أحدهما : لا تصح إجابتهم لأن إجابة الدعاء تكرمة للداعي وأهل المعاصي لا يستحقون الكرامة، فعلى هذا إنما أنظره الله تعالى وإن كان عقيب سؤاله ابتداء منه لا إجابه له.
والثاني : أنه قد يجوز أن تجاب دعوة أهل المعاصي على وجه البلوى وتأكيد الحجة، فتكون إجابة المطيعين تكرمة، وإجابة العصاة بلوى.
فإن قيل : فهل ينظر غير إبليس إلىلوقت الذي سأل وقد قال من المنظرين؟ قيل : نعم وهو من لم يقض الله تعالى عليه الموت من عباده الذين تقوم عليهم الساعة.
قوله تعالى :﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ اختلف أهل العربية في معنى قوله :﴿ فبما أغويتني ﴾ على قولين :
أحدهما : أنه على معنى القسم وتقديره : فبإغوائك لي لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
والثاني : أنه على معنى المجازاة، تقديره : فلأنك أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
واختلف أهل العلم في قوله :﴿ أَغْوَيْتَنِي ﴾ على أربعة أقاويل :
أحدها : معناه أضللتني، قاله ابن عباس وابن زيد.
والثاني : معناه خيبتني من جنتك، ومنه قول الشاعر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
أي ومن يخب.
والثالث : معناه عذبتني كقوله تعالى :﴿ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَياً ﴾ [ مريم : ٥٩ ] أي عذاباً، قاله الحسن.
والرابع : معناه أهلكتني بلعنك لي، يقال غوى الفصيل إذا أشفى على الهلاك بفقد اللبن، قال الشاعر :
معطفة الأثناء ليس فصيلها برازئها دراً ولا ميِّت غوى
وقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ أي على صراطك المستقيم، وفيه تأويلان :
أحدهما : طريق مكة ليصد عن قصدها في الحج والعمرة، قاله ابن مسعود.
والثاني : طريق الحق ليصد عنها بالإغواء، قاله مجاهد.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لأَتِيَنَّهُم مِّنَ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ... ﴾ الآية. فيه أربعة تأويلات :
أحدها :﴿ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي أشككهم في آخرتهم، ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ أرغبهم في دنياهم، ﴿ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ﴾ : أي من قبل حسناتهم، ﴿ وَعَن شَمَآئِلِهِم ﴾ من قبل سيئاتهم، قاله ابن عباس.
والثاني :﴿ مِنّ بَيْنِ أيْدِيهِمْ ﴾ : من قبل، دنياهم، ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ : من قبل آخرتهم، ﴿ وَعَنْ أَيْمَأنِهِمْ ﴾ : الحق أشككهم فيه، ﴿ وَعَن شَمَآئِلِهِم ﴾ : الباطل أرغبهم فيه، قاله السدي وإبراهيم.
والثالث :﴿ مِنّ بَيْنِ أَيْدِيهِم ﴾ ﴿ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ﴾ من حيث ينظرون، ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِم ﴾ ﴿ وَعَنْ شَمَائِلِهِم ﴾ : من حيث لا يبصرون، قاله مجاهد.
والرابع : أراد من كل الجهات التي يمكن الاحتيال عليهم منها، ولم يذكر من فوقهم لأن رحمة الله تصده، ولا من تحت أرجلهم لما فيه التنفير، قاله بعض المتأخرين.
ويحتمل تأويلاً خامساً :﴿ مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم ﴾ : فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون على طاعة، ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِم ﴾ : فيما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عن معصية، ﴿ وَعَنْ أَيْمَانِهِم ﴾ : من قبل غناهم فلا ينفقونه في مشكور، ﴿ وَعَن شَمَائِلِهِمِ ﴾ : من قبل فقرهم فلا يمتنعون فيه عن محظور.
ويحتمل سادساً :﴿ مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم ﴾ : بسط أملهم، ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِم ﴾ تحكيم جهلهم، ﴿ وعن أيمانهم ﴾ : فيما ييسر لهم، ﴿ وَعَن شَمَائِلِهِم ﴾ : فيما تعسر عليهم،
ثم قال :﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : شاكرين لنعمك.
والثاني : مقيمين على طاعتك.
فإن قيل : فكيف علم إبليس ذلك؟ فعنه جوابان :
أحدهما : أنه ظن ذلك فصدق ظنه، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنَّهُ ﴾ [ سبأ : ٢٠ ] وسبب ظنه أنَّه لما أغوى آدم واستزله قال : ذرية هذا أضعف منه، قاله الحسن.
والثاني : أنه يجوز أن يكون علم ذلك من جهة الملائكة بخبر من الله.
قوله تعالى :﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : من حيث كان من جنة أو سماء.
والثاني : من الطاعة، على وجه التهديد.
﴿ مَذْءُوماً مَّدْحُوراً ﴾ في قوله :﴿ مَذْءُوماً ﴾ خمسة تأويلات :
أحدها : يعني مذموماً، قاله ابن زيد، وقرأ الأعمش ﴿ مذوماً ﴾
والثاني : لئيماً، قاله الكلبي.
والثالث : مقيتاً، قاله ابن عباس.
والرابع : منفياً، قاله مجاهد.
والخامس : أنه شدة العيب وهو أسوأ حالاً من المذموم، قاله الأخفش، قال عامر بن جذامة :
جذامة لم يأخذوا الحق بل زاغت قلوبهم قبل القتال ذأماً
وأما المدحور ففيه قولان :
أحدهما : المدفوع. الثاني : المطرود، قاله مجاهد والسدي.
قوله تعالى :﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزُوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ يعني حواء، وفي الجنة التي أمر بسكناها قولان :
أحدهما : في جنة الخلد التي وعد المتقون، وجاز الخروج منها لأنها لم تجعل ثواباً فيخلد فيها ولا يخرج منها.
والثاني : أنها جنة من جنات الدنيا لا تكليف فيها وقد كان مكلفاً.
﴿ فَكُلاَ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتَمُا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : من حيث شئتما من الجنة كلها.
والثاني : ما شئتما من الثمار كلها لأن المستثنى بالنهي لمَّا كان ثمراً كان المأمور به ثمراً.
﴿ وَلاَ تَقَْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ قد ذكرنا اختلاف الناس فيها على ستة أقاويل :
أحدها : أنه البُرّ، قاله ابن عباس.
والثاني : الكَرْم، قاله السدي.
والثالث : التين، قاله بان جريج. والرابع : شجرة الكافور، قاله علي بن أبي طالب.
والخامس : شجرة العلم، قاله الكلبي.
والسادس : أنها شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة، قاله ابن جدعان، وحكى محمد بن إسحاق عن أهل الكتابين أنها شجرة الحنظل ولا أعرف لهذا وجهاً.
فإذا قيل : فما وجه نهيهما عن ذلك مع كمال معرفتهما؟
قيل : المصلحة في استدامة، المعرفة، والابتلاء بما يجِب فيه الجزاء.
قوله تعالى :﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الْشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا... ﴾ أما الوسوسة فهي إخفاء الصوت بالدعاء، يقال وسوس له إذا أوهمه النصيحة، ووسوس إليه إذا ألقى إليه المعنى، وفي ذلك قول رؤبة بن العجاج :
وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق سراً وقد أوّن تأوين العقق
فإن قيل : فكيف وسوس لهما وهما في الجنة وهو خارج عنها؟ فعنه ثلاثة أجوبة هي أقاويل اختلف فيها أهل التأويل :
أحدها : أنه وسوس إليها وهما في الجنة في السماء، وهو في الأرض، فوصلت وسوسته بالقوة التي خلقها الله له إلى السماء ثم الجنة، قاله الحسن.
والثاني : أنه كان في السماء وكانا يخرجان إليه فيلقاهما هناك.
والثالث : أنه خاطبهما من باب الجنة وهما فيها.
﴿... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الْشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ وهذا هو الذي ألقى به من الوسوسة إليهما استغواءً لهما بالترغيب في فضل المنزلة ونعيم الخلود.
فإن قيل : هل تصورا ذلك مع كمال معرفتهما؟
قيل : إنما كملت معرفتهما بالله تعالى لا بأحكامه.
وفي قول إبليس ذلك قولان :
أحدهما : أنه أوهمهما أن ذلك في حكم الله جائز أن يقلب صورتهما إلى صور الملائكة وأن يخلدهما في الجنة.
والثاني : أنه أوهمهما أنهما يصيران بمنزلة الملائكة في علو المنزلة مع علمهما بأن قلب الصور لا يجوز.
قوله تعالى :﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ أي حلق لهما على صدقه في خبره ونصحه في مشورته، فقبلا قوله وتصورا صدقه لأنهما لم يعلما أن أحداً يجترىء على الحلف بالله كاذباً.
ويحتمل وجهاً آخر : أن يكون معنى قوله :﴿ وَقَاسَمَهُمَا ﴾ أي قال لهما : إن كان ما قلته خيراً فهو لكما دوني وإن كان شراً فهو عليّ دونكما ومن فعل ذلك معكما فهو من الناصحين لكما، فكانت هذه مقاسمتهما أن قسم الخير لهما والشر له على وجه الغرور لتنتفي عنه التهمة ويسرع إليه القبول.
قوله تعالى :﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ معناه فحطهما بغرور من منزلة الطاعة إلى حال المعصية.
فإن قيل : فهل علما عند أكلهما أنها معصية؟
قيل : لا، لأن إقدامهما عليها مع العلم بأنها معصية يجعلها كبيرة، والأنبياء معصومون من الكبائر، وإنما أقدما عليها لشبهة دخلت عليهما بالغرور.
﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ﴾ فإن قيل :
فلم بدت لهما سوآتهما ولم تكن بادية لهما من قبل؟
ففي ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنهما كانا مستورين بالطاعة فانكشف الستر عنهما بالمعصية.
والثاني : أنهما كانا مستورين بنور الكرامة فزال عنهما بذلك المهانة.
والثالث : أنهما خرجا بالمعصية من أن يكونا من ساكني الجنة، فزال عنهما ما كانا فيه من الصيانة.
﴿ وَطَفِقَا يخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ في ﴿ وَطَفِقَا ﴾ وجهان :
أحدهما : قاما يخصفان، قاله ابن بحر.
والثاني : جعلا يخصفان، أي قطعان.
﴿ مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ وفيه قولان :
أحدهما : ورق الموز.
والثاني : ورق التين، قاله ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ فإن قيل :
فالمأمور بالهبوط آدم وحواء لأن إبليس قد كان أهبط من قبل حين امتنع عن السجود لآدم، فكيف عبر عنهما بلفظ الجمع؟
فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه خبر عن هبوطهم مع تفرقهم وإن خرج مخرج الأمر، قاله السدي.
والثاني : أنهم آدم وحواء والحية، فكانوا جماعة، قاله أبو صالح.
والثالث : أنهم آدم وحواء والوسوسة، قاله الحسن.
فهبط آدم بأرض الهند على جبل يقال له واسم، وهبطت حواء بجدة، وهبطت الحية بأصفهان.
وفي مهبط إبليس قولان. أحدهما بالأبلة.
والثاني : بالمدار.
وقيل أسكنهما الجنة لئلا ساعات خلت من يوم الجمعة، وأخرجهما لتسع ساعات خلت من ذلك اليوم.
﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ أما المستقر ففيه وجهان :
أحدهما : أنه فعل الاستقرار. والثاني : أنه موضع الاستقرار، قاله أبو صالح.
وأما المتاع فهو المنتفع به من عروض الدنيا التي يستمتع بها.
وقوله :﴿ إِلَى حِينٍ ﴾ يعني إلى انقضاء الدنيا، والحين وقت مجهول القدر ينطلق على طويل الزمان وقصيره وإن كان موضوعاً في الأغلب للتكثير.
قال الشاعر :
وما مزاحك بعد الحلم والدين وقد علاك مشيب حين لا حين
أي وقت لا وقت.
قوله تعالى :﴿ يَا بَنِيَ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوُءَاتِكُمْ ﴾ نزلت هذه الآية في قوم من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك أبلغ في الطاعة وأعظم في القربة.
وفي دخول الشبهة عليهم في ذلك وجهان :
أحدهما : أن الثياب قد دنستها المعاصي فخرجوا عنها.
والثاني : تفاؤلاً بالتعري من الذنوب فقال الله تعالى :
﴿ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً ﴾ أي ما تلبسون من الثياب.
فإن قيل : فليس ذلك بمنزل من السماء.
فعنه جوابان :
أحدهما : أنه لما كان ينبت من المطر الذي نزل من السماء صار كالمنزل من السماء، قاله الحسن.
والثاني : أن هذا من بركات الله، والبركة تنسب إلى أنها تنزل من السماء، كما قال تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ ﴾ [ الحديد : ٢٥ ].
ثم قال :﴿ يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ ﴾ أي يستر عوراتكم، وسميت العورة سوأة لأنه يسوء صاحبها انكشافها.
ثم قال :﴿ وَرِيشاً ﴾ وهذه قراءة أهل الأمصار وكان الحسن يقرأ :﴿ وَرِيَاشاً ﴾ وفيه أربعة تأويلات :
أحدهما : أنه المعاش، قاله معبد الجهني.
والثاني : أنه اللباس والعيش والنعيم، قاله ابن عباس.
والثالث : أنه الجمال والزينة، قاله ابن زيد، ومنه قوله رؤبة :
إليك أشكو شدة المعيش وجهد أعوام نتفن ريشي
يريد أذهبن جمالي وزينتي.
والرابع : أنه المال : قاله ابن الزبير ومجاهد، قال الشاعر :
فريشي منكم وهواي معكم وإن كانت زيارتكم لماما
وفي الريش والرياش وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما.
والوجه الثاني : أن معناهما مختلف، فالريش ما بطن، والرياش ما ظهر.
ثم قال :﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ وفي لباس التقوى سبعة تأويلات :
أحدها : أنه الإيمان، قاله قتادة والسدي.
الثاني : الحياة، قاله معبد الجهني.
والثالث : أنه العمل الصالح، قاله ابن عباس.
والرابع : أنه السمت الحسن، قاله عثمان بن عفان.
والخامس : خشية الله، قاله عروة بن الزبير.
السادس : ستر العورة للصلاة التي هي التقوى، قاله ابن زيد. والسابع : لبس ما يُتَّقَى به الحر والبرد، قاله ابن بحر.
وفي قوله :﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه راجع إلى لباس التقوى ومعنى الكلام أن لباس التقوى خير من الرياش واللباس، قاله قتادة والسدي.
والثاني : أنه راجع إلى جميع ما تقدم من ﴿ قَدْ أَنزَلْنَا علَيكُمْ لِبَاساً يُوارِي سَوْءَاتِكُم وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوى ﴾، ثم قال :﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي ذكرته هو ﴿ خَيْرٌ ﴾ كله.
قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي ءَادَمَ لاَ يَفتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ ﴾ وهذا خطاب توجه إلى من كان من العرب يطوف بالبيت عرياناً، فقيل لهم لا يفتننكم الشيطان بغروره كما فتن أبويكم من قبل حتى أخرجهما من الجنة، ليكون إِشعارهم بذلك أبلغ في الزجر من مجرد النهي.
﴿ ينزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن لباسهما كان أظفاراً تستر البدن فنزعت عنهما وتركت زينة وتبصرة، قاله ابن عباس.
الثاني : أن لباسهما كان نوراً، قاله وهب بن منبه.
والثالث : أن نزع عنهما لباسهما من تقوى الله وطاعته، قاله مجاهد. ﴿ لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أجسادهما من العورة حين خرجا من لباسهما، وهو مقتضى قول ابن عباس.
والثاني : سوأة معصيتهما حتى خرجا من تقوى الله وطاعته، وهو معنى قول مجاهد.
﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنَ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : قومه، وهو قول الجمهور.
والثاني : جيلُهُ، قاله السدي.
﴿ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : من حيث لا تبصرون أجسادهم.
والثاني : من حيث لا تعلمون مكرهم وفتنتهم.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَآءَنَا ﴾ في هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها وردت في العرب الذين كانوا يطوفون عراة، والفاحشة التي فعلوها كشف العورة، وهذا قول أكثر المفسرين.
والثاني أنها في عبدة الأوثان، والفاحشة التي فعلوها الشرك، قاله الحسن.
والثالث أنها اتخاذ البَحِيْرَةِ والسائبة والوصيلة والحام، قاله الكلبي.
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بالصدق.
والثاني : بالعدل.
﴿ وَأقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة، قاله مجاهد.
والثاني : معناه اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون ما سواه من الأوثان والأصنام، قاله الربيع بن أنس.
والثالث : معناه اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة، أمراً بالجماعة لها، ندباً عند الأكثرين، وحتماً عن الأقلين.
والرابع : أن أي موضع أدركت فيه وقت الصلاة فصل فيه فإنه مسجد ولا تؤخرها إلى حضور المسجد.
﴿ وَاْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني أقروا له بالوحدانية وإخلاص الطاعة.
والثاني : ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له الدين.
﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : كما بدأكم شقياً وسعيداً، كذلك تبعثون يوم القيامة، قاله ابن عباس.
الثاني : كما بدأكم فآمن بعضكم وكفر بعضكم، كذلك تبعثون يوم القيامة. روى أبو سفيان عن جابر عن النبي ﷺ قال :« تُبْعَثُ كُلُّ نَفْسٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ ».
والثالث : كما خلقكم ولم تكونوا شيئاً، كذلك تعودون بعد الفناء أحياء، قاله الحسن، وابن زيد.
والرابع : كما بدأكم لا تملكون شيئاً، كذلك تبعثون يوم القيامة.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال :« يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرلاً وَأَوَّلُ مَنْ يُكَسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيهِ السَّلاَمُ » ثم قرأ ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ].
قوله تعالى :﴿ يَا بِنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمُ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن ذلك وارد في ستر العورة في الطواف على ما تقدم ذكره، قاله ابن عباس، والحسن، وعطاء، وقتادة، وسعيد بن جبير، وإبراهيم.
والثاني : أنه وارد في ستر العورة في الصلاة، قاله مجاهد، والزجاج.
والثالث : أنه وارد في التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد.
والرابع : أنه أراد به المشط لتسريح اللحية.
﴿ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ﴾ يعني ما أحله الله لكم.
ويحتمل أن يكون هذا أمر بالتوسع في الأعياد.
﴿ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسُرِفِينَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا تسرفوا في التحريم، قاله السدي.
والثاني : معناه لا تأكلوا حراماً فإنه إسراف، قاله ابن زيد.
والثالث : لا تسرفوا في أكل ما زاد على الشبع فإنه مضر، وقد جاء في الحديث :« أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ البردة »، يعني التخمة.
ويحتمل تأويلاً رابعاً : لا تسرفوا في الإنفاق.
وقوله :﴿ إِنَّهُ لاَ يحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يحب أفعالهم في السرف.
والثاني : لا يحبهم في أنفسهم لأجل السرف.
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِّي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾ يعني ستر العورة ردا على تركها من العرب في الطواف.
ويحتمل ثانياً : أن يريد زينتها في اللباس.
ثم قال :﴿ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم كانوا يحرمون في الإحرام أكل السمن واللبن، قاله ابن زيد، والسدي.
والثاني : أنها البحَيْرَةُ والسائبة التي حرموها على أنفسهم، قاله الحسن، وقتادة.
وفي طيبات الرزق قولان :
أحدهما : أنه المستلذ.
والثاني : أنه الحلال.
﴿ قُلْ هِيَ للَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ يعني أن الذين آمنوا في الحياة الدنيا له الطيبات من الرزق يوم القيامة لأنهم في القيامة يختصون بها وفي الدنيا قد يشركهم الكفار فيها.
وفي قوله :﴿ خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ وجهان :
أحدهما : خالصة لهم من دون الكفار.
والثاني : خالصة من مضرة أو مأثم.
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الفواحش : الزنى خاصة، وما ظهر منها : المناكح الفاسدة، وما بطن : الزنى الصريح.
والثاني : أن الفواحش : جميع المعاصي، وما ظهر منها : أفعال الجوارح، وما بطن : اعتقاد القلوب.
﴿ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الإثم الخيانة في الأمور، والبغي : التعدي في النفوس.
والثاني : الإثم : الخمر، والبغي : السكر، قال الشاعر :
شربت الإثم حتى ضَلَّ عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
وسمي الخمر بالإثم، والسكر بالبغي لحدوثه عنهما.
قوله تعالى :﴿ وَلِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ولكل أمة كتاب فيما قضاه الله عليهم من سعادة أو شقاوة، من عذاب أو رحمة، قاله جويبر.
الثاني : ولكلٍ نبي يدعوهم إلى طاعته وينهاهم عن معصيته، قاله معاذ بن جبل.
والثالث : لكل أمة أجل فيما قدره الله من حياة، وقضاه عليهم من وفاة.
ويحتمل رابعاً : ولكل أمة مدة يبقون فيها على دينهم أن يحدثوا فيه الاختلاف.
﴿ فِإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أجل موتهم.
الثاني : أجل عذابهم، قاله جويبر.
﴿ لاَ يَسْتَأَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يزيد أجل حياتهم ولا ينقص.
والثاني : لا يتقدم عذابهم ولا يتأخر.
قوله تعالى :﴿... أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : هو عذاب الله الذي أعده لمن أشرك، قاله الحسن، والسدي.
والثاني : ما سبق لهم من الشقاء والسعادة، قاله ابن عباس.
والثالث : نصيب من كتابهم الذي كتبنا لهم أو عليهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير أو شر، قاله قتادة.
والرابع : نصيبهم مما كتب لهم من العمر والرزق والعمل، قاله الربيع بن أنس، وابن زيد.
والخامس : نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر، قاله الضحاك.
﴿ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ﴾ في توفي الرسل هنا قولان :
أحدهما : أنها وفاة الموت في الدنيا التي توبخهم عندها الملائكة.
والثاني : أنها وفاة الحشر إلى النار يوم القيامة، قاله الحسن.
قوله تعالى :﴿... حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جِمِيعاً ﴾ يعني في النار أدرك بعضهم بعضاً حتى استكملوا فيها.
﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمُ لأُولاَهُمْ ﴾ يعني الأتباع للقادة لأنهم بالاتباع لهم متأخرون عنهم، وكذلك في دخول النار تقدم القادة على الأتباع.
﴿ رَبَّنَا هَؤُّلآءِ أَضَلُّونَا فئَاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ ﴾ يريد بأحد الضعفين عذابهم على الكفر، وبالآخر عذابهم على الإغواء.
ويحتمل هذا القول من الأتباع وجهين :
أحدهما : تخفيف العذاب عنهم.
والثاني : الانتقام من القادة بمضاعفة العذاب عليهم.
فأجابهم الله قال :﴿ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾ يعني أنه وإن كان للقادة ضعف العذاب، لأن أحدهما بالكفر، والآخر بالإغواء، فلكم أيها الأتباع ضعف العذاب، وهذا قول الجمهور، وإن ضعف الشيء زيادة مثله.
وفيه وجه ثان : قاله مجاهد : أن الضعف من أسماء العذاب.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أي لا تفتح لأرواحهم لأنها تفتح لروح الكافر وتفتح لروح المؤمن، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني : لا تفتح لدعائهم، قاله الحسن.
والثالث : لا تفتح لأعمالهم، قاله مجاهد، وإبراهيم.
والرابع : لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة لأن الجنة في السماء، وهذا قول بعض المتاخرين.
والخامس : لا تفتح لهم أبواب السماء لنزول الرحمة عليهم، قاله ابن بحر.
﴿ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يِلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : سم الخياط : ثقب الإبرة، قاله ابن عباس، الحسن، ومجاهد، وعكرمة، والسدي.
والثاني : أن سم الخياط هو السم القاتل الداخل في مسام الجسد أي ثقبه.
وفي ﴿ الْجَمَلِ ﴾ قراءتان :
إحداهما : وعليها الجمهور، الجَمَل بفتح الجيم وتخفيف الميم وهو ذو القوائم الأربع.
والثانية الجُمَّل بضم الجيم وتشديد الميم وهو القلس الغليظ، وهذه قراءة سعيد بن جبير، وإحدى قراءتي ابن عباس، وكان ابن عباس يتأول أنه حبل السفينة.
ومعنى الكلام أنهم لا يدخلون الجنة أبداً كما لا يدخل الجمل في سم الخياط أبداً، وضرب المثل بهذا أبلغ في إياسهم من إرسال الكلام وإطلاقه في النفي، والعرب تضرب هذا للمبالغة، قال الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وعاد القار كاللبن الحليب
قوله تعالى :﴿ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ ﴾ قال الحسن : فراش من نار، والمهاد : الوِطَاء، ومنه أخذ مهد الصبي.
﴿ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها اللحف.
والثاني : اللباس.
والثالث : الظلل، قاله الحسن.
والمراد بذلك أن النار من فوقهم ومن تحتهم، فعبر عما تحتهم بالمهاد، وعما فوقهم بالغواش.
قوله تعالى :﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِلٍّ... ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : الأهواء والبدع، قاله سهل بن عبد الله.
والثاني : التباغض والتحاسد.
والثالث : الحقد.
والرابع : نزع من نفوسهم أن يتمنوا ما لغيرهم. وفي نزعه وجهان :
أحدهما : أن الله نزع ذلك من صدورهم بلطفه.
والثاني : ان ما هداهم إليه من الإيمان هو الذي نزعه من صدورهم.
وفي هذا الغل قولان :
أحدهما : أنه غل الجاهلية، قاله الحسن.
والثاني : أنهم لا يتعادون ولا يتحاقدون بعد الإيمان، وقد روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم :﴿ وَنََزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾.
وقيل : إنها نزلت في أهل بدر.
ويحتمل قوله :﴿ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا ﴾ وجهين :
أحدهما : هدانا لنزع من صدورنا.
والثاني : هدانا لثبوت الإيمان في قلوبنا حتى نزع الغل من صدورنا.
وفيه وجه ثالث : قال جويبر : هدانا لمجاوزة الصراط ودخول الجنة.
قوله تعالى :﴿... وَعَلَى الأَعَرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمُ ﴾ أما الأعراف فسور بين الجنة والنار، قاله مجاهد، والسدي، وهو جَمْعٌ وَاحِدُهُ عُرْف وهو ما ارتفع عن غيره، ومنه عرف الديك وعرف الفرس، قال الراجز :
كل كتاب لجمعه موافي كالعلم الموفي على الأعراف.
وفي الذين على الأعراف خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم فضلاء المؤمنين وعلماؤهم، قاله الحسن، ومجاهد، قال أمية بن أبي الصلت :
وآخرون على الأعراف قد طمعوا بجنة حفها الرمان والخضر.
وهذا وإن كان شعراً جاهلياً وحال الأعراف منقول عن خبر يروى فيحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون أمية قد وصل إلى علمه من الصحف الشرعية.
والثاني : أن يكون الله قد انطق به أمية إلهاماً لتصديق ما جاء به القرآن.
والثاني : أنهم ملائكة يُرَون في صور الرجال، قاله أبو مجلز.
والثالث : أنهم قوم بطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس، قاله حذيفة.
والرابع : أنه قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك حتى يقضى الله من أمرهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة، قاله ابن مسعود.
والخامس : أنهم قوم قتلوا في سبيل الله وكانوا عصاة لآبائهم، قيل إنهم غزوا بغير إذنهم، وقد روى محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال :
سُئل رسول الله ﷺ عن أصحاب الأعراف فقال :« هُمْ قَومٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَعْصِيةِ آبَائِهِمْ، فَمَنَعَهُمْ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَنِ النَّارِ ومنعهم مَعْصِيَةُ آبَائِهِم أَنْ يَدْخُلُواْ الجَنَّةَ
»
ومعنى قوله :﴿ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ﴾ يعني يعرفون أهل النار وأهل الجنة بعلامتهم التي يتميزون بها، وعلامتهم في وجوههم وأعينهم، قال الحسن البصري : علامة أهل النار سواد الوجوه وزرقة العيون، وعلامة أهل الجنة بياض الوجوه وحسن العيون.
فإن قيل في أصحاب الأعراف : إنهم فضلاء المؤمنين كان ذلك زيادة في ثوابهم ومبالغة في كرامتهم لأنهم يرون منازلهم في الجنة فيستمتعون بها، ويرون عذاب النار فيفرحون بالخلاص منها.
وإن قيل : إنهم المفضلون وأصحاب الصغائر من المؤمنين كان ذلك لنقص ثوابهم عن استحقاق الدخول للجنة.
وإن قيل : إنهم الملائكة، احتمل أمرهم ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يؤمروا بذلك حمداً لأهل الجنة وذماً لأهل النار وزيادة في الثواب والعقاب.
والثاني : أن يكونوا حفظة الأعمال في الدنيا الشاهدين بها عند الله في الآخرة أمروا بذلك، ما أدوه من الشهادة تبشيراً لأهل الجنة وتوبيخاً لأهل النار.
والثالث : أن يكونوا خزنه الجنة والنار، فإن من الملائكة من أفرد لخزنة الجنة، ومنهم من أفرد لخزنة النار، ويكون هؤلاء قد جمع لهم بين الأمرين، والله أعلم بغيب ذلك.
وحكى ابن الأنباري أن قوله :﴿ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ معناه على معرفة أهل الجنة والنار رجال، وأن قوله :﴿ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوفٌ عَلَيكُم ﴾ الآية من قول أصحاب الأعراف، وهو مخالف لقول جميع المفسرين.
وفي قوله :﴿ وَنَادَى ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه بمعنى ينادي، لأنه في المستقبل.
والثاني : أنه على الحذفِ وتقديره : إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الأعراف.
قوله تعالى :﴿... أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من ماء الرحمة ومما رزقكم الله من القربة.
والثاني : من ماء الحياة ومما رزقكم الله من النعم.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ ﴾ يعني القرآن.
﴿ فصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بيَّنَّا ما فيه من الحلال والحرام على علم بالمصلحة.
والثاني : ميزنا به الهدى من الضلالة على علم بالثواب والعقاب.
﴿ هُدىً وَرَحْمَةً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الهدى البرهان.
والثاني : أن الهدى الإرشاد، والرحمة : اللطف.
قوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ﴾ أي هل ينظرون، فعبر عن الانتظار بالنظر، ﴿ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ﴾ أي تأويل القرآن، وفيه وجهان :
أحدهما : عاقبته من الجزاء، قاله الحسن.
والثاني : ما فيه من البعث والنشور والحساب.
﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : القضاء به، قاله الحسن.
الثاني : عاقبة ما وعدهم الله به في الدنيا والآخرة، قال الكلبي.
﴿ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معنى نسوه أعرضوا عنه فصار كالمنسي، قاله أبو مجلز.
والثاني : تركوا العمل به، قاله الزجاج.
﴿ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنبياء الله في الدنيا بكتبه المنذرة.
والثاني : الملائكة عند المعاينة بما بشروهم به من الثواب العقاب.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ وفي ترك تعجيل خلقها في أقل الزمان مع قدرته على ذلك أربعة أوجه :
أحدها : أن إنشاءها شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال أبلغ في الحكمة وأدل على صحة التدبير ليتوالى مع الأوقات بما ينشئه من المخلوقات تكرار المعلوم بأنه عالم قادر يصرف الأمور على اختياره ويجريها على مشيئته.
والثاني : أن ذلك لاعتبار الملائكة، خلق شيئاً بعد شيء.
والثالث : أن ذلك ترتب على الأيام الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وهي ستة أيام فأخرج الخلق فيها، قاله مجاهد.
والرابع : ليعلمنا بذلك، الحساب كله من ستة ومنه يتفرع سائر العدد قاله ابن بحر.
﴿ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معناه استوى أمره على العرش، قاله الحسن.
والثاني : استولى على العرش، كما قال الشاعر :
قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودم مُهْرَاقٍ
وفي ﴿ الْعَرْشِ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المُلْك كني عنه بالعرش والسرير كعادة ملوك الأرض في الجلوس على الأسرة، حكاه ابن بحر.
والثاني : أنه السموات كلها لأنها سقف، وكل سقف عند العرب هو عرش، قال الله تعالى :﴿ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ [ الكهف : ٤٢ ] [ الحج : ٤٥ ] أي على سقوفها.
والثالث : أنه موضع في السماء في أعلاها وأشرفها، محجوب عن ملائكة السماء.
﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾ أي يغشي ظلمة الليل ضوء النهار.
﴿ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ لأن سرعة تعاقب الليل والنهار تجعل كل واحد منهما كالطالب لصاحبه.
﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : مذللات بقدرته.
والثاني : جاريات بحكمه.
﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه مالك الخلق وتدبيرهم.
والثاني : إليه إعادتهم وعليه مجازاتهم.
قوله تعالى :﴿ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : في الرغبة والرهبة، قاله ابن عباس.
والثاني : التضرع : التذلل والخضوع، والخفية : إخلاص القلب.
ويحتمل أن التضرع بالبدن، والخفية إخلاص القلب.
﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ يعني في الدعاء، والاعتداء فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن يسأل ما لا يستحقه من منازل الأنبياء، قاله أبو مجلز.
والثاني : أنه يدعو باللعنه والهلاك على من لا يستحق، قاله مقاتل.
والثالث : أن يرفع صوته بالدعاء، روى أبو عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع النبي ﷺ في غزاة فأشرفوا واد، فجعل الناس يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال النبي ﷺ :« أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنفُسكُم إِنَّكُم لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِباً إِنَّكُم تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وَهُوَ مَعَكُمْ
»
. قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان.
والثاني : لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل.
والثالث : لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة، قاله الكلبي.
والرابع : لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه، قاله الحسن.
﴿ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه.
والثاني : خوفاً من الرد وطمعاً في الإجابة.
﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ فإن قيل : فلم أسقط الهاء من قريب والرحمة مؤنثة؟
فعن ذلك جوابان.
أحدهما : أن الرحمة من الله إنعام منه فَذُكِّرَ على المعنى، وهو أن إنعام الله قريب من المحسنين، قاله الأخفش.
والثاني : أن المراد به مكان الرحمة، قاله الفراء، كما قال عروة بن حزام :
عَشِيَّة لاَ عَفْرَاءَ مِنكِ قَرِيبَةٌ فَتَدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكِ بَعِيدُ
فأراد بالبعد مكانها فأسقط الهاء، وأرادها هي بالقريبة فأثبت الهاء.
قوله تعالى :﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ ﴾ يعني طيب التربة.
﴿ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ يعني يخرج نباته حسناً جيداً.
﴿ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن النكد القليل الذي لا ينتفع به، قاله السدي.
والثاني : أنه العسر بشدته المانع من خيره، قال الشاعر :
وَأَعْطِ مَا أَعَطْيتَهُ طَيِّباً لاَ خَيْرَ فِي الْمَنْكُودِ وَالنَّاكِد
وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فجعل المؤمن كالأرض الطيبة والكافر كالأرض الخبيثة السبخة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي.
قوله تعالى :﴿... وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ﴾ فيها قولان :
أحدهما : القوة، قاله ابن زيد.
والثاني : بسط البدن وطول الجسد، قيل : إنه كان أقصرهم طولاً اثني عشر ذراعاً.
﴿ فَاذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ ﴾ معناه نعم الله، وقال الشاعر :
قوله تعالى :﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾ في الرجس ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه العذاب، قاله زيد بن أسلم.
والثاني : السخط، قاله ابن عباس.
والثالث : أن الرجس والرجز بمعنى واحد إلا أن الزاي قلبت سيناً كما قلبت السين تاء في قول الشاعر :
أَبْيَضُ لاَ يَرْهَبُ الهزَالَ وَلاَ يَقْطَعُ رَحِمَاً وَلاَ يَخُونُ إِلَى
أَلاَ لَحَى اللَّهُ بَنِي السَّعْلاَةِ عَمْرِو بنِ يَرْبُوعَ لِئَامَ النَّاتِ
لَيْسَوا بِأَعْفَافٍ وَلاَ أَكْيَاتِ يريد الناس، وأكياس.
قوله تعالى :﴿... فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا ﴾ يعني الأصنام، وفي مراده بتسميتهم وجهان :
أحدهما : في تسميتها آلهة يعبدونها.
والثاني : أنه تسميتهم لبعضها أنه يسقيهم المطر، والآخرة أنه يأتيهم بالرزق، والآخر أنه يشفي المريض، والآخر يصحبهم في السفر.
وقيل : إنه ما أمرهم هود إلا بتوحيد الله والكف عن ظلم الناس فأبوا وقالوا : من أشد منا قوة، فأهلكوا.
قوله تعالى :﴿... هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً ﴾ في الآية هنا وجهان :
أحدهما : أن الآية الفرض كما قال تعالى :﴿ وَأَنَزَلْنَا فِيهَا ءَايَاتٍ ﴾ [ النور : ١ ] أي فرضاً، ويكون معنى الكلام هذه ناقة الله عليكم فيها فرض أن تذروها ﴿ تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ ﴾ أي لا تعقروها.
والثاني : أنها العلامة الدالة على قدرته.
والآية فيها آيتان :
إحداهما : أنها خرجت من صخرة ملساء تمخضت بها كما تتمخض المرأة ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها.
والثانية : أنه كان لها شرب يوم، ولهم شرب يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم، حكي ذلك عن أبي الطفيل والسدي وابن إسحاق.
قوله تعالى :﴿... وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني أنزلكم في الأرض وهي أرض الحجر بين الشام والمدينة.
والثاني : فيها من منازل تأوون إليها، ومنه قولهم : بوأته منزلاً، إذا أمكنته منه ليأوي إليه، قال الشاعر :
وَبُوِّئَتْ فِي صَمِيمِ مَعْشَرِهَا فَتَمَّ فِي قَوْمِهَا مَبْوَؤُهَا
أي مكنت من الكرم في صميم النسب.
﴿ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً ﴾ والقصور ما شيد وعلا من المنازل اتخذوها في سهول الأرض ليصيِّفوا فيها.
﴿ وَتَنْحِتَونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً ﴾ لتكون مساكنهم في الشتاء لأنها أحصن وأبقى وأدفأ فكانوا طوال الآمال طوال الأعمار.
﴿ فَاْذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ ﴾ فيه ما قدمنا، أي نعمه أو عهوده.
﴿ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفسِدِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لا تعملوا فيها بالمعاصي.
والثاني : لا تدعوا إلى عبادة غير الله.
وفي العبث وجهان :
أحدهما : أنه السعي في الباطل.
والثاني : أنه الفعل المؤدي لضير فاعله.
قوله تعالى :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾ فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها حركة الأرض تضطرب من تحتهم.
والثاني : أنها الصيحة، قاله مجاهد، والسدي.
والثالث : أنها زلزلة أهلكوا بها، قاله ابن عباس.
﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِم جَاثِمِينَ ﴾ قال محمد بن مروان السدي : كل ما في القرآن من ﴿ دَارِهِمْ ﴾ فالمراد به مدينتهم، وكل ما فيه من ﴿ دِيَارِهِم ﴾ فالمراد به مساكنهم، وفي الجاثم قولان :
أحدهما : أنه البارك على ركبتيه لأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال.
والثاني : معناه أنهم أصبحوا كالرماد الجاثم لأن الصاعقة أحرقتهم.
وقيل : إنه كان بعد العصر.
﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ ﴾ أي خرج من بين أظهرهم، وقيل إن صالحاً خرج عنهم إلى رملة فلسطين بمن آمن معه من قومه وهم مائة وعشرة، وقيل إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرها.
قوله تعالى :﴿... إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَّهَّرُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من إتيان الأدبار.
والثاني : يتطهرون بإتيان النساء في الأطهار، قال الشاعر :
﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ فيه وجهان :
أحدها : فخلصناه.
والثاني : على نجوة من الأرض، وقيل : إن أهله ابنتاه واسمهما زينا ورميا. ﴿ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من الباقين في الهلكى، والغابر الباقي، ومنه قول الراجز :
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا سَدُّوا مَآزِرَهُم دَونَ النِّسَاءِ وَلَو بَانَتْ بِأَطْهَارِ
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَر لَهُ الإِلَهُ مَا مََضَى وَمَا غَبَر
والثاني : من الغابرين في النجاة، من قولهم : قد غبر عنا فلان زماناً إذا غاب، قال الشاعر :
أَفَبَعْدَنَا أو بَعْدَهُمْ يُرْجَى لِغَابِرِنَا الْفَلاَحُ
والثالث : من الغابرين في الغم، لأنها لقيت هلاك قومها، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوِعَدُونَ ﴾ الصراط : الطريق، قال الشاعر :
شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ
وفي المراد به ثلاثة أقاويل :
أحدهما : أنهم كانوا يقعدون على الطريق إلى شعيب يؤذون من قصده للإيمان به ويخوفونه بالقتل، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني : أنه نهاهم عن قطع الطريق، قاله أبو هريرة.
والثالث : أنهم العشارون نهاهم عن تعشير أموال الناس.
﴿ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ ﴾ ويحتمل وجهين :
أحدهما : تصدون المؤمنين عن طاعة الله وعبادته.
والثاني : تصدون من أراد الإيمان بإغوائه ومخادعته.
﴿ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ قال قتادة : يعني تبغون السبيل عوجاً عن الحق.
والفرق بين العوج بالكسر وبالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين، ولا يُرَى، والعوج بفتح العين ما كان في العود، وما يرى.
﴿ وَاذْكُرواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ﴾ حكى الزجاج فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كثر عددكم بعد القلة قال ابن عباس : وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج زينا بنت لوط وولد آل مدين منها.
والثاني : كثركم بالغنى بعد الفقر.
والثالث : كثركم بالقوة بعد الضعف.
وذكر بعض المفسرين وجهاً رابعاً : أنه كثرهم بطول الأعمار بعد قصرها من قبل.
قوله تعالى :﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنْ عُدنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجّانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ والفرق بين الملة والدين أن الملة ما شرعه الله، والدين ما اعتقده الناس تقرباً إلى الله، فصار كل دين ملة وليس كل ملة ديناً.
فإن قيل : فالعود إلى الشيء الرجوع إليه بعد الخروج منه فهل كان شعيب على ملة قومه من الكفر حتى يقول :﴿ إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم ﴾.
في الجواب عنه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن هذه حكاية عمن اتبع شعيباً من قومه الذين كانوا قبل اتباعه على ملة الكفر.
الثاني : أنه قال ذلك على التوهم أنه لو كان عليها لم يعد إليها.
والثالث : أنه يطلق ذكر العَود على المبتدىء بالفعل وإن لم يسبق منه فعل مثله سن قولهم : قد عاد عليّ من فلان مكروه وإن لم يسبقه بمثله كقول الشاعر :
لَئِن كَانَت الأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
أَتَى دَونَ حُلْوِ الْعَيْشِ شَيْءٌ أُمِرُّهُ كُرُوبٌ عَلَى آثَارِهِنّ كُرُوبُ
ثم قال :﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن نعود في القرية إلاّ أن يشاء الله، قاله بعض المتكلمين.
والثاني : وهو قول الجمهور أن نعود في ملة الكفر وعبادة الأوثان.
فإن قيل فالله تعالى لا يشاء عبادة الأوثان فما وجه هذا القول من شعيب؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قد كان في ملتهم ما يجوز التعبد به.
والثاني : أنه لو شاء عبادة الوثن لكانت عبادته طاعة لأنه شاءه كتعبده بتعظيم الحجر الأسود.
والثالث : أن هذا القول من شعيب علىلتعبيد والامتناع كقوله تعالى :﴿ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ ﴾ [ الأعراف : ٤٠ ] وكقولهم : حتى يشيب الغراب.
ثم قال :﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَومِنَا بِالْحَقِّ وََأَنتَ خَيرُ الْفَاتِحِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : اكشف بيننا وبين قومنا، قاله قتادة.
والثاني : احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين. وذكر الفراء، أن أهل عُمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح. وقال غيره : إنه لغة مراد، قال الشاعر :
أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عُصَمَ رَسُولاً بِأَنِّي عَنْ فَتَّاحِكُمُ غَنِي
وقد قال ابن عباس : كنت لا أدري ما قوله :﴿ رَبَّنَا افتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ ﴾ حتى سمعت بنت ذي يزن تقول : تعالَيْ أفاتحك، يعني أقاضيك.
وقيل : إنه سمي بذلك لأنه يفتح باب العلم الذي قد انغلق على غيره.
فإن قيل : فما معنى قوله ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ ومعلوم أن الله لا يحكم إلا بالحق؟.
ففي الجواب عنه أربعة أوجه : أحدها : أنه قال ذلك صفة لحكمه لا طلباً له.
والثاني : أنه سأل الله أن يكشف لمخالفه من قومه أنه على حق.
والثالث : أن معناه احكم بيننا الذي هو الحق، قاله ابن بحر.
والرابع : احكم في الدنيا بنصر الحق، قاله السدي.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيبَاً كَأنَ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : كأنك لم يقيموا فيها، قاله ابن قتيبة.
والثاني : كأن لم يعيشوا فيها، قاله الأخفش.
والثالث : كأن لم ينعموا فيها، قاله قتادة.
والرابع : كأن لم يعمروا فيها، قاله ابن عباس.
﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوْا شُعَيْباً كَانُواْ هَمُ الخَاسِرِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بالكفر.
والثاني : بالهلاك، قاله ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِّيٍ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَها بِالبَأْسآءِ وَالضَّرَّآءِ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن البأساء : القحط، والضراء : الأمراض والشدائد، قاله الحسن.
والثاني : أن البأساء الجوع، والضراء : الفقر، قاله ابن عباس.
والثالث : أن البأساء : البلاء، والضراء الزمانة.
والرابع : أن البأساء : ما نالهم من الشدة في أنفسهم.
والضراء : ما نالهم في أموالهم، حكاه علي بن عيسى.
ويحتمل قولاً خامساً : أن البأساء الحروب.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يتوبون.
الثاني : يدعون، قاله ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مكان الشدة الرخاء، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.
والثاني : مكان الخير والشر.
﴿ حَتَّى عَفَواْ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : حتى كثروا، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، قال لبيد :
وَأنَاسٌ بَعْدَ قَتْلٍ قَدْ عَفَواْ وَكَثِيرٌ زَالَ عَنْهُمْ فَانْتَقَلْ
والثاني : حتى أعرضواْ، قاله ابن بحر.
والثالث : حتى سُرّوا، قاله قتادة.
والرابع : حتى سمنوا، قاله الحسن، ومنه قول بشر بن أبي حازم :
فَلَمَّا أَنْ عَفَا وَأَصَابَ مَالاً تَسَمَّنَ مَعْرِضاً فِيهِ ازْوِرَارُ
﴿ وَّقَالُوْا قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّاءُ والسَّرَّآءُ ﴾ أي الشدة والرخاء يعنون ليس البأساء والضراء عقوبة على تكذيبك وإنما هي عادة الله في خلقه أن بعد كل خصب جدباً وبعد كل جدب خصباً.
قوله تعالىَّ :﴿... لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم ﴾ فيه وجهان : أحدهما : لرزقنا، قاله السدي.
والثاني : لوسعنا.
﴿ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ ﴾ :( بركات السماء : القطر. وبركات الأرض.
النبات والثمار ويحتمل أن تكون بركات السماء قبول الدعاء. وبركات الأرض : تسهيل الحاجات.
وفي قوله تعالى :﴿ فَهُم لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ أي لا يقبلون، كما قال في الصلاة، سمع الله لمن حمده، أي قبل الله ممن حمده، وقال الشاعر :
دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ
أي يقبل.
قوله تعالى :﴿ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِّنْ عَهْدٍ ﴾ في قوله :﴿ مِنْ عَهْدٍ ﴾ قولان :
أحدهما : أن العهد الطاعة، يريد : ما وجدنا لأكثرهم من طاعة لأنبيائهم، لأنه قال بعده ﴿ وَإن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمُ لَفَاسِقِينَ ﴾ وتكون ﴿ مِنْ ﴾ في هذا الموضع على هذا التأويل زائدة.
والثاني : أنه محمول على ظاهر العهد أي من وفاء بعهده.
وفي المراد بالعهد هنا ثلاثة أقاويل. أحدها : الميثاق الذي أخذه الله عليهم في ظهر آدم قاله أبو جعفر الطبري.
والثاني : ما جعله الله في عقولهم من وجوب شكر النعمة، وأن الله هو المنعم، قاله علي بن عيسى.
والثالث : أنه ما عهد إليهم مع الأنبياء أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قاله الحسن ﴿ وإن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُم لَفَاسِقِينَ ﴾ في قوله ﴿ لَفَاسِقِينَ ﴾ وجهان :
أحدهما : خارجين عن طاعته.
والثاني : خائنين في عهده، وهذا يدل على أن العصاة أكثر من المطيعين.
قوله تعالى :﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ﴾ في ﴿ حَقِيقٌ ﴾ وجهان :
أحدهما : حريص، قاله أبو عبيدة.
والثاني : واجب، مأخوذ من وجوب الحق.
وفي قوله :﴿ إلاَّ الْحَقَّ ﴾ وجهان :
أحدهما : إلا الصدق.
والثاني : إلا ما فرضه الله عليّ من الرسالة.
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ أَرْجِه وَأَخَاهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معناه أخِّرْهُ، قاله ابن عباس والحسن.
والثاني : أحبسه، قاله قتادة والكلبي.
﴿ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴾ قال ابن عباس : هم أصحاب الشُرَط وهو قول الجماعة أرسلهم في حشر السحرة وكانوا اثنين وسبعين رجلاً.
قوله تعالى :﴿ وَأَوْحِيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ قال ابن عباس : العصا أول آيات موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع بطول موسى، قصد باب فرعون فألقى عليه الفزع، فشاب فخضب بالسواد استحياء من قومه، فكان فرعون أول من خضب بسواد.
﴿ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ ﴾ معنى تلقف هو سرعة التناول إلا أن المراد هنا سرعة ابتلاعه بالفم. قال أبو حاتم : وهي في بعض القراءات تلقم بالميم والتشديد، قال الشاعر :
أَنْتَ عَصَا مُوسَى الَّتِي لَمْ تَزَلْ تَلْقَمُ مَا يَأْفِكُهُ السَّاحِرُ
وفي قوله :﴿ مَا يأْفِكُونَ ﴾ وجهان :
أحدهما : معناه يقلبون، ومنه المؤتفكات أي المنقلبات، قاله ابن عيسى.
والثاني : معناه يكذبون لأن الإفك هو الكذب، قاله مجاهد.
فإن قيل : فلم أمر موسى السحرة أن يلقو وذلك منهم كفر ولا يجوز أن يأمر به نبي؟
قيل عن ذلك جوابان.
أحدهما : أن مضمون أمره إن كنتم محقين فألقوا.
والثاني : القول على ما يصح ويجوز لا على ما يفسد ويستحيل.
قوله :﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ ﴾ أي ظهر الحق، قاله الحسن، ومجاهد، وفي الحق الذي ظهر فيه قولان :
أحدهما : ظهرت عصا موسى على حبال السحرة.
والثاني : ظهرت نبوة موسى على ربوبية فرعون.
قوله تعالى :﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾ في سجودهم قولان :
أحدهما : أنهم سجدوا لموسى تسليماً له وإيماناً به.
والثاني : أنهم سجدوا لله إقراراً بربوبيته، لأنهم ﴿ قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾.
وفي سجودهم قولان :
أحدهما : أن الله ألهمهم ذلك لطفاً بهم.
والثاني : أن موسى وهارون سجدا شكراً لله عند ظهور الحق على الباطل فاقتدوا بهما في السجود لله طاعة.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ... ﴾ الآية :﴿ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ ﴾ فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه أشرافهم.
والثاني : رؤساؤهم.
والثالث : أنهم الرهط والنفر الذين آمنوا معهم.
والفرق بين الرهط والنفر من وجهين :
أحدهما : كثرة الرهط وقلة النفر.
والثاني : قوة الرهط وضعف النفر، وفي تسميتهم بالملأ وجهان :
أحدهما : أنهم مليئون بما يراد منهم.
والثاني : لأنهم تملأ النفوس هيبتهم.
وفيه وجه ثالث : لأنهم يملأون صدور المجالس.
فإن قيل : فما وجه إقدامهم على الإنكار على فرعون مع عبادتهم له؟ قيل : لأنهم رأوا منه خلاف عادته وعادة الملوك في السطوة بمن أظهر العناد وخالف، وكان ذلك من لطف الله بموسى.
وفي قوله :﴿ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ وجهان :
أحدهما : ليفسدوا فيها بعبادة غيرك والدعاء إلى خلاف دينك.
والثاني : ليفسدوا فيها بالغلبة عليها وأخذ قومه منها.
ثم قالوا :﴿ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ ﴾ فإن قيل : فما وجه قولهم ذلك له وهم قد صدقوه على قوله :﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾ [ النازعات : ٢٤ ]. قيل الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كان يعبد الأصنام وكان قومه يعبدونه، قاله الحسن.
والثاني : أنه كان يعبد ما يستحسن من البقر ولذلك أخرج السامري عجلاً جسداً له خوار وقال هذا إلهكم وإله موسى، وكان معبوداً في قومه، قاله السدي.
والثالث : أنها كنت أصناماً يعبدها قومه تقرباً إليه، قاله الزجاج.
وقرأ ابن عباس ﴿ وَيَذَرَكَ وَإِلاَهَتَكَ ﴾ أي وعبادتك.
قال الحسن : وكان فرعون يَعبُد ويُعبَد. وعلى هذه القراءة يسقط السؤال. وذكر ابن قتيبة في هذه القراءة تأويلاً ثانياً؛ أن الإلاهة الشمس، والعرب تسمي الشمس الإلاهة واستشهد بقول الأعشى :
وَلَمْ أَذْكُرِ الرُّعْبَ حَتَّى انْتَقَلْتُ قُبَيْلَ الإِلاَهَةِ مِنْهَا قرِيباً
يعني الشمس، فيكون تأويل الآية : ويذرك والشمس حتى تعبد فعلى هذا يكون السؤال متوجهاً عنه ما تقدم.
﴿ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ ﴾ وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لأنه علم أنه لا يقدر عل قتل موسى إما لقوته وإما تصوره أنه مصروف عن قتله، فعدل إلى قتل الأبناء ليستأصل قوم موسى من بني إسرائيل فيضعف عن فرعون ﴿ وَنَسْتَحِيي نِسَاءَهُمُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن نفتش أرحامهن فننظر ما فيهن من الولد، مأخوذ من الحياء وهو اسم من أسماء الفرج، حكاه ابن بحر.
والثاني : الأظهر أن معناه : نستبقيهن أحياء لضعفهن عن المنازعة وعجزهن عن المحاربة.
قوله تعالى :﴿ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه أمرهم بذلك تسلية لهم من وعيد فرعون كما يقول من نالته شدة : استعنت بالله.
والثاني : أنه موعد منه بأن الله سيعينهم على فرعون إن استعانوا به.
ثم قال :﴿ وَاصْبِرُواْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : واصبروا على ما أنتم فيه من الشدة طمعاً في ثواب الله.
8
والثاني : أنه أمرهم بالصبر انتظاراً لنصر الله.
﴿ إنَّ الأَرْضِ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك تسلية لقومه في أن الدنيا لا تبقي على أحد فتبقي على فرعون لأنها تنتقل من قوم إلى قوم.
والثاني : أنه أشعرهم بذلك أن الله يورثهم أرض فرعون.
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يريد في الآخرة بالثواب.
والثاني : في الدنيا بالنصر.
قوله تعالى :﴿ قالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الأذى من قبل ومن بعد أخذ الجزية. قاله الحسن.
والثاني : أن الأذى من قبل : تسخيرهم بني إسرائيل في أعمالهم لنصف النهار وإرسالهم في بقيته ليكسبوا لأنفسهم. والأذى من بعد : تسخيرهم في جميع النهار بلا طعام ولا شراب، قاله جويبر.
والثالث : أن الأذى الذي كان من قبل : الاستعباد وقتل الأبناء، والذي كان من بَعد : الوعيد بتجديد ذلك عليهم، حكاه ابن عيسى.
والرابع : أن الأذى الذي كان من قبل أنهم كانوا يضربون اللبن ويعطيهم التبن، والأذى من بعد أن صاروا يضربون اللبن ويجعل عليهم التبن، قاله الكلبي، وفي قولهم :﴿ مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾ قولان :
أحدهما : من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعد ما جئتنا بها، قاله ابن عباس.
والثاني : من قبل أن تأتينا بعهد الله إليك أنه يخلصنا ومن بعد ما جئتنا به. وفي هذا القول منهم وجهان :
أحدهما : أنه شكوى ما أصابهم من فرعون واستعانة بموسى.
والثاني : أنهم قالوه استبطاء لوعد موسى، حكاه ابن عيسى.
﴿ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِك عَدُوَّكُمْ ﴾ ﴿ عَسَى ﴾ في اللغة طمع وإشفاق. قال الحسن عسى من الله واجبة، وقال الزجاج :﴿ عَسَى ﴾ من الله يقين.
﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ في قوله :﴿ فَينظُرَ ﴾ وجهان :
أحدهما : فيرى.
والثاني : فيعلم وفي قول موسى ذلك لقومة أمران :
أحدهما : الوعد بالنصر والاستخلاف في الأرض.
والثاني : التحذير من الفساد فيها لأن الله تعالى ينظر كيف يعملون.
9
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بالسِّنِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني بالجوع، قاله مجاهد، وقتادة.
والثاني : أن معنى السنين الجدوب، قاله الحسن.
والعرب تقول : أخذتهم السنة إذا قحطوا وأجدبوا.
وقال الفراء : المراد بالسنين الجدب والقحط عاماً بعد عام.
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَعَهُ ﴾ في الحسنة والسيئة هنا وجهان :
أحدهما : أن الحسنة الخصب، السيئة القحط.
والثاني : أن الحسنة الأمن، والسيئة، الخوف.
﴿ قَالُوا لَنَا هَذِهِ ﴾ أي كانت حالنا في أوطاننا وقبل اتباعنا لك، جهلاً منهم بأن الله تعالى هو المولى لها.
﴿ وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ﴾ أي يتشاءَمون بموسى ويقولون هذا من اتباعنا إياك وطاعتنا لك، على ما كانت العرب تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وهو الذي يأتي من جهة الشمال، وتتبرك بالسانح وهو الذي يأتي من جهة اليمين، ثم قال رداً لقولهم.
﴿ أَلآ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ ﴾ أي طائر البركة وطائر الشؤم.
قوله تعالى :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ... ﴾ أما الطوفان ففيه ستة أقاويل :
أحدها : أنه الغرق بالماء الزائد، قاله ابن عباس.
والثاني : أنه الطاعون، قاله مجاهد.
والثالث : أنه الموت، قاله عطاء. وروت عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ « الطُّوفَانُ الْمَْوتُ ».
والرابع : أنه أمر من الله طاف بهم، وهو مروي أيضاً عن ابن عباس.
والخامس : أنه كثرة المطر والريح، واستدل قائل ذلك بقول الحسن بن عرفطة :
غَيَّرَ الْجِدَّةَ مِنْ عِرْفَانِهِ خُرُقُ الرِّيحِ وَطُوفَانُ الْمَطَرِ
والسادس : أنه عذاب من السماء، واستدل قائل ذلك بقول أبي النجم :
وَمَرَّ طُوفَانٌ فِبِتُّ شَهْراً فَرْداً شَآبِيبَ وَشَهْراً مدراً
﴿ وَالْقُمَّلَ ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه الدَبَى وهو صغار الجراد لا أجنحة له.
والثاني : أنه السوس الذي في الحنطة قاله ابن عباس.
والثالث : البراغيث، قاله ابن زيد.
والرابع : القردان، قاله أبو عبيدة.
والخامس : هو دواب سود صغار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وشاهده قول الأعشى.
قَوْماً تُعَالِجُ قُمَّلاً أَبْنَاؤهُهُمْ وَسَلاَسِلاً أُجُداً وَبَاباً مُؤْصَداً
وواحد القمل قملة.
وأما الضفادع فواحدها ضفدع وهو مشهور. وقيل إنه كان يوجد في فراشهم وآنيتهم، ويدخل في ثيابهم فيشتد أذاه لهم.
وأما الدم ففيه قولان :
أحدهما : أن ماء شربهم كان يصير دماً عبيطاً، فكان إذا غرف القبطي من الماء صار دماً وإذا غرف الإسرائيلي كان ماء.
والثاني : أنه رعاف كان يصيبهم، قاله زيد بن أسلم.
﴿ ءَاياتٍ مُّفَصَّلاَتٍ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : مبينات لنبوة موسى.
والثاني : مفصل بعضها عن بعض لأن هذه الآيات لم تجتمع في وقت واحد بل كانت تأتي شهراً بعد شهر فيكون في تفرقتها مع الإنذار إعذار، وكان بين كل آيتين شهر.
﴿ فَاسْتَكْبَرُواْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : عن الانزجار بالآيات.
والثاني : عن الإيمان بموسى.
﴿ وَكَانُواْ قَوماً مُجْرِمِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : كافرين.
والثاني : متعدّين.
قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيهِمُ الرّجْزُ ﴾ - فيه قولان :
أحدهما : أنه العذاب، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد.
والثاني : هو الطاعون أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان، قاله سعيد بن جبير.
﴿ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بما تقدم إليك به أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك.
والثاني : ما هداك به أن تفعله في قومك، قاله السدي.
والثالث : أن ذلك منهم على معنى القسم كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم.
﴿ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ﴾ هذا قول قوم فرعون، ويحتمل وجهين :
أحدهما : لنصدقنك يا موسى أنك نبي.
والثاني : لنؤمنن بك يا الله أنك إله واحد.
قوله تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يستقلون.
والثاني : يستذلون وهم بنو إِسرائيل.
﴿ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يريد الشرق والغرب، قاله ابن عيسى.
والثاني : أرض الشام ومصر، قاله الحسن.
والثالث : أرض الشام وحدها شرقها وغربها، قاله قتادة.
﴿ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : بالخصب.
والثاني : بكثرة الأنهار والأشجار والثمار.
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أن تمام كلمة الحسنى ما وعدهم من هلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض بقوله :﴿ عَسَى رَبُّكُم أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُم وَيَسْتَخْلِفَكُم ﴾ وسماها الحسنى لأنه وعد بما يحبون.
والثاني : هو قوله تعالى :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِنَ لَهُم فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [ القصص : ٥، ٦ ].
وفي قوله :﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ وجهان :
أحدهما : بما صبروا على أذى فرعون.
والثاني : بما صبروا على طاعة الله.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَؤُلاَءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ في ﴿ متبر ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : باطل، قاله الكلبي.
والثاني : ضلال، حكاه أبو اليسع.
والثالث : مهلك، ومنه التبر، الذهب. وفي تسميته بذلك قولان :
أحدهما : لأن موسى يهلكه.
والثاني : لكسره، وكل إناء مكسور متبّر قاله الزجاج. وقال الضحاك هي كلمة نبطية لما ذكرنا.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ ءَآلِ فِرْعَوْنَ ﴾ قال هذا يذكر بالنعمة.
﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذابِ ﴾ أي أشد العذاب.
﴿ يُقَتّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ﴾ أي يقتلون أبناءكم صغاراً ويستحيون نساءكم للاسترقاق والاستخدام كباراً.
﴿ وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن ما فعله فرعون بكم من قتل الأبناء واسترقاق النساء بلاء عليكم عظيم، قاله الكلبي.
والثاني : أنه ابتلاء لكم واختبار عظيم، قاله الأخفش.
والثالث : أن في خلاصكم من ذلك بلاء عظيم، أي نعمة عظيمة، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى :﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أن الثلاثين ليلة شهرٌ أمر بصيامه، والعشر بعدها أجل لمناجاة ربه.
والثاني : أن الأربعين كلها أجل لمناجاة ربه، أجل في الأول ثلاثين ليلة ثم زيدت عشراً بعدها. وقد قيل إنه ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، حكي ذلك عن مجاهد، وابن جريج، ومسروق.
﴿ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ يعني أن اجتماع الأجلين تمام أربعين ليلة، ليدل بذلك على أن العشر هي ليال وليست ساعات.
فإن قيل : فمعلوم أن العشر مع الثلاثين مستكملة أربعين، فما معنى قوله :﴿ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيلَةً ﴾.
فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه تأكيد في الذرك فلم يمتنع.
والثاني : كان وعده إلى الجبل الذي كلمه فيه.
والثالث : لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن يكون من جملة الثلاثين لأن تمام الشيء بعض منه.
فإن قيل : فلم زاد في أجل وعده بعد الثلاثين عشراً جعلها أجلاً ثانياً فأخر بها موعده؟
قيل عن ذلك جوابان :
أحدهما : أن قومه تأخروا عنه في الأجل الأول فزاده الله لتأخرهم عنه أجلاً ثانياً ليحضروا.
والثاني : لأن قومه عبدوا العجل بعده فزاده الله أجلاً ثانياً عقوبة لهم.
ويحتمل جواباً ثالثاً : أن الله فعل ذلك به اختباراً لقومه ليتميز به المؤمن من المنافق ويعرف به المتيقن من المرتاب.
والفرق بين الميقات والوقت وإن كانا من جنس واحد أن الميقات ما قدر لعمل، والوقت قد لا يتقدر لعمل.
قوله تعالى :﴿... قَالَ رَبِّ أَرِني أَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ الآية، في سؤال موسى ذلك لربه ثلاثة أقاويل : أحدها : ليرد عليه من جواب الله ما يحتج به على قومه حين قالوا :﴿ لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [ البقرة : ٥٥ ] مع علم موسى بأنه لا يجوز أن يراه في الدنيا.
والثاني : أنه كان يعلم ذلك باستدلال فأجب أن يعلمه ضرورة.
والثالث : أنه جوّز ذلك وظنه وأن رؤيته في الدنيا ممكنة، قاله الحسن، والربيع، والسدي.
فأجابه الله بأن ﴿ قَالَ لَن تَرَانِي ﴾.
ثم أظهر في الجواب ما يعلم به استحالة مسألته فقال :﴿ وَلَكِن انظُرْ إلىَ الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ﴾ لأن الجبل إذا لم يستقر لرؤيته فالإنسان بذلك أولى.
﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ للِجَبَلِ ﴾ معنى تجلى ظهر مأخوذ من جلاء العروس إذا ظهرت، ومن جلاء المرآة إذا أضاءت.
وفي تجليه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل.
والثاني : أنه أظهر للجبل من ملكوته ما تدكدك به، لأن الدنيا لا تقوم لما يبرز من ملكوت السماء.
والثالث : أنه أبرز قدر الخنصر من العرش.
والرابع : ظهر أمره للجبل.
﴿ جَعَلَهُ دَكّاً ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني مستوياً بالأرض، مأخوذ من قولهم ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام، قاله ابن قتيبة وابن عيسى.
والثاني : أنه ساخ في الأرض، قاله الحسن وسفيان.
والثالث : أنه صار تراباً، قاله ابن عباس.
والرابع : أنه صار قطعاً.
قال مقاتل : وكان أعظم جبل بمدين تقطع ست قطع تفرقت في الأرض، صار منها بمكة ثلاثة أجبل : ثبير وغار ثور وحراء. وبالمدينة ثلاثة أجبل : رضوى وأحد وورقان. والله أعلم.
﴿ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : ميتاً، قاله قتادة.
والثاني : مغشياً عليه، قاله ابن عباس، والحسن، ابن زيد.
قال ابن عباس : أخذته الغشية الخميس من يوم عرفة وأفاق عشية الجمعة وفيه نزلت عليه التوراة وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة، وفيها عشر آيات أنزلها الله في القرآن على محمد ﷺ في ثماني عشرة من سورة بني إسرائيل.
﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه تاب من الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها.
والثاني : أنه تاب من اعتقاده جواز رؤيته في الدنيا.
والثالث : أنه قال ذلك على جهة التسبيح وعادة المؤمنين عند ظهور الآيات. الدالة على عظيم قدرته.
﴿ وَأَنَّاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أول المؤمنين بأنه لا يراك شيء من خلقك، قاله ابن عباس، والحسن :
والثاني : وأنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية.
قوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ... ﴾ الآية في ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ ﴾ قولان :
أحدهما : فرضنا، كقوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ] أي فرض.
والثاني : أنه كتابة خط بالقلم في ألواح أنزلها الله عليه.
واختلفوا في الألواح من أي شيء كانت على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها كانت من زمرد أخضر، قاله مجاهد.
والثاني : أنها كانت من ياقوت، قاله ابن جبير.
والثالث : أنها كانت من زبرجد، قاله أبو العالية.
والرابع : قاله الحسن كانت الألواح من خشب، واللوح مأخوذ من أن المعاني تلوح بالكتابة فيه.
وفي قوله :﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ قولان :
أحدهما : من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والمباح والمحظور والواجب وغير الواجب.
والثاني : كتب له التوراة فيها من كل شيء من الحكم والعبر.
وفي قوله :﴿ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً... ﴾ تأويلان :
أحدهما : أن الموعظة النواهي، والتفصيل : الأوامر، وهو معنى قول الكلبي.
والثاني : الموعظة : الزواجر، والتفصيل : الأحكام، وهو معنى قول مقاتل.
قال : وكانت سبعة ألواح.
﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : بجد واجتهاد قاله السدي.
والثاني : بطاعة، قاله الربيع بن أنس.
والثالث : بصحة عزيمة، قاله علي بن عيسى.
والرابع : بشكر، قاله جويبر.
﴿ وَأمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ﴾ لم يقل ذلك لأن فيها غير حسن، وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن أحسنها : المفروضات، وغير الأحسن : المباحات.
والثاني : أنه الناسخ دون المنسوخ.
والثالث : أن فعل ما أمر به أحسن من ترك ما نهي عنه لأن العمل أثقل من الترك وإن كان طاعة.
﴿ سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ ﴾ فيها أربعة أقاويل :
أحدها : هي جهنم، قاله الحسن، ومجاهد.
والثاني : هي منازل من هلك بالتكذيب من عاد وثمود والقرون الخالية، لتعتبروا بها وبما صاروا إليه من النكال، قاله قتادة.
والثالث : أنها منازل سكان الشام الجبابرة والعمالقة.
والرابع : أنها دار فرعون وهي مصر.
وقرأ قسامة بن زهير ﴿ سَأُوْرِثُكُمْ ﴾.
قوله تعالى :﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ ءَاياتي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : سأمنعهم من فهم القرآن، قاله سفيان بن عيينة.
والثاني : سأجعل جزاءهم على كفرهم ضلالهم عن الاهتداء بما جاء به من الحق.
والثالث : سأصرفهم عن دفع الانتقام عنهم.
وفي ﴿ يَتَكَبَّرُونَ ﴾ وجهان :
أحدهما : يحقرون الناس ويرون أن لهم عليهم فضلاً.
والثاني : يتكبرون عن الإيمان واتباع الرسول.
﴿ وَإن يَرَوْاْ كُلَّ ءَآيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بها وإن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشُدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الرشد الإيمان، والغي : الكفر.
والثاني : أن الرشد الهداية. والغي : الضلال.
﴿ ذَلَكَ بِأَنَّهُمْ كذَّبُواْ بِآَيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنَها غَافِلِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : غافلين عن الإيمان.
والثاني : غافلين عن الجزاء.
قوله تعالى ﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ في الأسف خمسة أقاويل :
أحدها : أنه المتأسف على فوت ما سلف قاله علي بن عيسى.
والثاني : أنه الحزين، قاله ابن عباس.
والثالث : هو الشديد الغضب، قاله الأخفش.
والرابع : المغتاظ، قاله السدي.
والخامس : النادم، قاله ابن قتيبة.
وفي غضبه وأسفه قولان :
أحدهما : غضبان من قومه على عبادة العجل؟ أسفاً على ما فاته من مناجاة ربه.
والثاني : غضبان على نفسه في ترك قومه حتى ضلوا، أسفاً على ما رأى في قومه من ارتكاب المعاصي.
وقال بعض المتصوفة إن غضبه للرجوع عن مناجاة الحق إلى مخاطبة الخلق.
﴿ قَالَ بِئْسَ مَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدي ﴾ يعني بعباة العجل.
﴿ أَعَجِلْتُم أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني وعد ربكم الذي وعدني به من الأربعين ليلة، وذلك أنه قَدَّروا أنه قد مات لمَّا لم يأت على رأس الثلاثين ليلة، قاله الحسن، والسدي.
والثاني : وعد ربكم بالثواب على عبادته حتى عدلتم إلى عبادة غيره، قاله بعض المتأخرين. والفرق بين العجلة والسرعة أن العجلة : التقدم بالشيء قبل وقته، والسرعة : عمله في أقل أوقاته.
﴿ وَأَلْقَى الألْوَاحَ ﴾ وفي سبب إلقائها قولان :
أحدهما : غضباً حين رأى عبادة العجل، قاله ابن عباس.
والثاني : أنه ألقاها لما رأى فيها فضائل غير قومه من أمة محمد ﷺ أنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، قال : رب فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد، فاشتد عليه فألقاها، قاله قتادة.
وكانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح فتكسرت رفع منها ستة أسباعها وكان فيما رفع تفصيل كل شيء الذي قال الله ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ من كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْضِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي، وهو الذي قاله الله :﴿ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾.
وقال ابن عباس : ألقى موسى الألواح فتكسرت ورفعت إلا سدُسها.
﴿ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه أخذ بأذنه.
والثاني : أخذ بجملة رأسه.
فإن قيل : فلم قصده بمثل هذا الهوان ولا ذنب له؟
فعن ذلك جوابان.
أحدهما : أن هذا الفعل مما قد يتغير حكمه بالعادة فيجوز أن يكون في ذلك الزمان بخلاف ما هو عليه الآن من الهوان.
والثاني : أن ذلك منه كقبض الرجل منا الآن على لحيته وعضه على شفته ﴿ قَالَ ابْنَ أُمَّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك لأنه كان أخاه لأمه، قاله الحسن.
والثاني : أنه قال ذلك على عادة العرب استعطافاً بالرحم، كما قال الشاعر :
يَا ابْنَ أُمِّي وَيَا شقيقَ نَفْسِي أَنْتَ خَلَّيْتَنِي لأَمْرٍ شَدِيدٍ
﴿ فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ ﴾ يعني من خالفه في عبادة العجل لأنهم قد صاروا لمخالفتهم له أعداء.
﴿ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَومِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي لا تغضب عليّ كغضبك عليهم ولست منهم فأدركته الرقة :﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لَي ولأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ ﴾ أما التوبة من السيئات فهي الندم على ما سلف والعزم على ألاّ يفعل مثلها. فإن قيل فالتوبة إيمان فما معنى قوله :﴿ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ ﴾ فالجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أنهم تابوا من المعصية واستأنفوا عمل الإيمان بعد التوبة.
والثاني : يعني أنهم تابوا بعد المعصية وآمنوا بتلك التوبة.
والثالث : وآمنوا بأن الله قابل التوبة.
قوله تعالى :﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا ﴾ وفي الكلام محذوف وتقديره : واختار موسى من قومه سبعين رجلاً.
وفي قوله :﴿ لِّمِيقَاتِنَا ﴾ قولان :
أحدهما : أنه الميقات المذكور في سؤال الرؤية.
والثاني أنه ميقات غير الأول وهو ميقات التوبة من عبادة العجل.
﴿ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ ﴾ وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها الزلزلة، قاله الكلبي.
والثاني : أنه الموت. قال مجاهد : ماتوا ثم أحياهم.
والثالث : أنها نار أحرقتهم فظن موسى أنهم قد هلكوا ولم يهلكوا، قاله الفراء.
﴿ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ﴾ وفي سبب أخذها لهم قولان :
أحدهما : لأنهم سألوا الرؤية، قاله ابن إِسحاق.
والثاني : لأنهم لم ينهوا عن عبادة العجل قاله ابن عباس.
﴿... أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَل السُّفَهَاءُ مِنَّآ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه سؤال استفهام خوفاً من أن يكون الله قد عمهم بانتقامه كما قال تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ].
والثاني : أنه سؤال نفي، وتقديره : إنك ل تعذب إلاَّ مذبناً فكيف تهلكنا بما فعل السفهاء منا.
فحكى أن الله أمات بالرجفة السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، لا موت فناء ولكن موت ابتلاء ليثبت به من أطاع وينتقم به ممن عصى وأخذت موسى غشية ثم أفاق موسى وأحيا الله الموتى، فقال :
﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد بالفتنة العذاب، قاله قتادة.
والثاني : أن المراد بها الابتلاء والاختبار.
قوله تعالى :﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدَّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأَخِرَةِ ﴾ في الحسنة هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها النعمة سميت حسنة لحسن موقعها في النفوس.
والثاني : أنها الثناء الصالح.
والثالث : أنها مستحقات الطاعة.
﴿ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه تبنا إليك، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم.
والثاني : رجعنا بالتوبة إليك، لأنه من هاد يهود إذا رجع، قاله علي بن عيسى.
والثالث : يعني تقربنا بالتوبة إليك من قولهم : ما له عند فلان هوادة، أي ليس له عنده سبب يقربه منه، قاله ابن بحر.
﴿ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ ﴾ وفيه قولان :
أحدهما : من أشاء من خلقي كما أصيب به قومك.
الثاني : من أشاء في التعجيل والتأخير.
﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن مخرجها عام ومعناها خاص، تأويل ذلك : ورحمتي وسعت المؤمنين بي من أمة محمد ﷺ لقوله تعالى ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ الآية قاله ابن عباس.
والثاني : أنها على العموم في الدنيا والخصوص في الآخرة، وتأويل ذلك : ورحمتي وسعت في الدنيا البر والفاجر، وفي الآخرة هي للذين اتقوا خاصة، قاله الحسن، وقتادة.
والثالث : أنها التوبة، وهي على العموم، قاله ابن زيد.
﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يتقون الشرك، قاله ابن عباس.
والثاني : يتقون المعاصي، قاله قتادة.
﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها زكاة أموالهم لأنها من أشق فرائضهم، وهذا قول الجمهور. والثاني : معناه أي يطيعون الله ورسوله، قاله ابن عباس والحسن، وذهبا إلى أنه العمل بما يزكي النفس ويطهرها من صالحات الأعمال.
فأما المكنّى عنه بالهاء التي في قوله :﴿ فَسَأَكْتُبُهَا ﴾ فقد قيل إن موسى لما انطلق بوفد بني إسرائيل كلّمه الله وقال : إني قد بسطت لهم الأرض طهوراً ومساجد يصلون فيها حيث أدركتهم الصلاة إلا عند مرحاض أو قبر أو حمّام، وجعلت السكينة في قلوبهم، وجعلتهم يقرؤون التوراة عن ظهر ألسنهم، قال فذكر موسى ذلك لبني إسرائيل، فقالوا لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا فاجعلها لنا في تابوت، ولا نقرأ التوراة إلا نظراً، ولا نصلي إلا في السكينة، فقال الله تعالى ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ يعني ما مضى من السكينة والصلاة والقراءة، ثم بيَّن من هم فقال :
﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمّيَّ ﴾ يعني محمداً ﷺ وفي تسميته بالأمي ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه لا يكتب.
الثاني : لأنه من أم القرى وهي مكة.
الثالث : لأن من العرب أمة أمية.
﴿ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبَاً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ﴾ لأن في التوراة في السفر الخامس : إني سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك، واجعل كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيته به. وفيها : وأما ابن الأمة فقد باركت عليه جداً جداً وسأدخره لأمة عظيمة.
وفي الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع : يعطيكم فارقليط آخر يكون معكم الدهر كله.
وفيها قول المسيح للحواريين : أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنه نذيركم يجمع بين الحق ويخبركم بالأمور المزمعة ويمدحني ويشهد لي. فهذا تفسير ﴿ يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ﴾.
ثم قال :﴿ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾. وهو الحق.
﴿ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الُْنكَرِ ﴾ وهو الباطل وإنما سمي الحق معروفاً لأنه معروف الصحة في العقول، وسمي الباطل منكراً لأنه منكر الصحة في العقول.
ثم قال :﴿ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّباتِ ﴾ يعني ما كانت الجاهلية تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
﴿ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ﴾ يعني ما كانوا يستحلونه من لحم الخنزير والدماء.
﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه عهدهم الذي كان الله تعالى أخذه على بني إسرائيل.
والثاني : أنه التشديد على بني إٍسرائيل الذي كان في دينهم من تحريم السبت وتحريم الشحوم والعروق وغير ذلك من الأمور الشاقة، قاله قتادة.
﴿ والأَغْلاَلَ التَّي كَانَتْ عَلَيهِمْ ﴾ فيها تأويلان :
أحدهما : أنه الميثاق الذي أخذه عليهم فيما حرمه عليهم، قاله ابن أبي طلحة.
والثاني : يعني ما بيَّنه الله تعالى في قوله :﴿ غُلَّتْ أَيْدِيِهِمْ ﴾ [ المائدة : ٦٤ ].
﴿ فَالَّذِينَ أَمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ... ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني عظموه، قاله علي بن عيسى.
والثاني : منعوه من أعدائه، قاله أبو جعفر الطبري. ومنه تعزير الجاني لأنه يمنعه من العود إلى مثله.
﴿ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ﴾ يعني القرآن، آمنوا به من بعده فروى قتادة أن نبي الله ﷺ قال لأصحابه :« أَيُّ الخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيكُم إِيماناً؟ » قالوا : الملائكة فقال نبي اللَّه ( ص ) :« المَلائِكةُ عِندَ رَبِّهم فَمَا لَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ. » فقالوا : النبيون، فقال :« يُوحَى إِلَيهِم فَمَا لَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ » قالوا : نحن يا نبي الله. فقال « أَنَا فِيكُم فَمَا لَكُم لاَ تُؤْمِنونَ، » فقالوا : يا نبي الله فمن هم؟ قال :« هُم قَومٌ يَكُونُونَ بَعْدَكُم يَجِدُونَ كِتاباً فِي وَرَقٍ فَيُؤُمِنُونَ بِهِ » فهو معنى قوله :﴿ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يهْدُونَ بِالْحَقِّ ﴾ فإن قيل فهذا يدل على أن في اليهود من هم على حق.
الجواب عند ذلك من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم الذين تمسكوا بالحق في وقت ضلالتهم بقتل أنبيائهم، ولا يدل هذا على استدامة حاله على الأبد.
والثاني : أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام، قاله ابن عباس، والسدي.
والثالث : أنهم من آمن بالنبي ﷺ وابن صوريا وغيرهما، قاله الكلبي.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾ اختلف في المأخوذ منه تسمية القرية على وجهين :
أحدهما : لأن الماء يقرى إليها أي يجمع، من قولهم قرى الماء في حوضه إذا جمعه.
والثاني : لأن الناس يجتمعون إليها كما يجتمع الماء فى الحوض.
واختلف في هذه القرية على قولين :
أحدهما : أنها بيت المقدس، قاله قتادة.
والثاني : هي أرض الشام، قاله الحسن.
فإنه قيل : فكيف سمى المأوى مسكناً والإنسان في مسكنه متحرك؟ قيل لأنه يترك فيه التصرف فصار في أكثر أحواله ساكناً وإن كان في بعضها متحركاً.
قوله تعالى :﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَتُ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ﴾ فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنها أيلة، قاله ابن عباس، وعكرمة، والسدي.
والثاني : أنها بساحل مدين، قاله قتادة.
والثالث : أنها مدين قرية بين أيلة والطور، حكاه أبو جعفر الطبري.
والرابع : أنها قرية يقال لها مقتا بين مدين وعينونا، قاله ابن زيد.
والخامس : ما قاله ابن شهاب أن القرية التي كانت حاضرة البحر طبرية، والقرية التي قال فيها ﴿ وَاضْرِبْ لَهَم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ ﴾ [ يس : ١٣ ]. أنطاكية.
وسؤالهم عن هذه القرية إنما هو سؤال توبيخ على ما كان منهم فيها من سالف الخطيئة وقبيح المعصية.
﴿ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ﴾ هو تعديهم فيه بفعل ما نهوا عنه.
﴿ إِذْ تَأْتِيهِم حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِم شُرَّعاً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن معنى ﴿ شُرَّعاً ﴾ أي طافية على الماء ظاهرة، قاله ابن عباس، ومنه شوارع البلد لظهورها.
والثاني : أنها تأتيهم من كل مكان، قاله عطية العوفي.
والثالث : أنها شرّع على أبوابهم كأنها الكباش البيض رافعة رؤوسها حكاه بعض المتأخرين فتعدَّوا فأخذوها في السبت، قاله الحسن.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ نسوا يعني تركوا، والذي ذكروا به أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
﴿ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَونَ عَنِ السُّوءِ ﴾ وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
﴿ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ وهم الذين تركوا المعروف وفعلوا المنكر.
﴿ بِعَذَابٍ بَئِيَس ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : شديد، قاله مجاهد.
والثاني : رديء، قاله الأخفش.
الثالث : أنه العذاب المقترن بالفقر وهو البؤس.
وأما الفرقة الثالثة التي لم تنه ولم تفعل ففيها قولان :
أحدهما : أنها نُجِّيَتْ مع الذين نهوا.
والثاني : ما قاله ابن عباس : لا أدري ما فعل بها.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه تفعُّل من الإذن ومعناه أعلم، قاله الحسن، ومنه قول الأعشى :
أَذَّنَ الْقَوْمُ جِيرَتِي بِخُلُوفِ صَرَمُوا حَبْلَ آلِفٍ مَأْلُوفِ
والثاني : معناه نادى وأقسم، قاله الزجاج.
﴿ ليَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ﴾ يعني على اليهود.
﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ والمبعوثون هم العرب، وسوء العذاب هو الذلة وأخذ الجزية، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة.
ويقال إن أول من وضع الخراج وجباه من الأنبياء موسى، فجبى الخراج سبع سنين وقيل ثلاث عشرة ثم أمسك إلى النبي ﷺ.
وقال سعيد بن المسيب : استحب أن أبعث في الجزية الأنباط. ولا أعلم لاستحبابه ذلك وجهاً إلا أن يكون لأنهم من قوم بختنصر فهم أشد انتقاماً، أو لأنها قد كانت تؤخذ منهم على استيفائها لأجل المقابلة أحرص.
قوله تعالى :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً... ﴾ أي فرقناهم فيها فرقاً. وفي تفريقهم فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : زيادة في الانتقام منهم.
والثاني : ليذهب تعاونهم.
والثالث : ليتميز الصالح من المفسر لقوله تعالى :﴿ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دَونَ ذَلِكَ ﴾ ثم قال :﴿ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالثواب والعقاب.
والثاني : بالنعم والنقم. والثالث : بالخصب والجدب.
قوله تعالى :﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ معناه فخلفهم خلف، والخلف بتسكين اللام مستعمل في الذم. وبفتح اللام مستعمل في الحمد. وقال أبو عبيدة. معناها [ واحد ] مثل الأثر والإثر، والأول أظهر وهو في قول الشعراء أشهر، قال بعضهم :
خلفت خلفاً ليت بهم... كان، لا بِكَ التلف
وفي الخلف وجهان :
أحدهما : القرن، قاله الفراء.
والثاني : أنه جمع خالف.
﴿ وَرِثُواْ الْكِتَابَ ﴾ يعني انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم من خلف اليهود من أبنائهم. والكتاب الذي ورثوه التوراة لانتقالها لهم.
والثاني : أنهم النصارى : لأنهم خلف من اليهود. والكتاب الذي ورثوه : الإنجيل لحصوله معهم، قاله مجاهد.
﴿ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى ﴾ يعني الرشوة على الحكم في قول الجميع وسماه عرضاً لقلة بقائه. وفي وصفه بالأدنى وجهان :
أحدهما : لأخذه في الدنيا الدانية.
والثاني : لأنه من المحرمات الدنية.
﴿ وَيَقُولُونَ : سَيُغْفرُ لَنَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه مغفور، لا نؤاخذ به.
والثاني : أنه ذنب لكن الله قد يغفره لنا تأميلاً منهم لرحمته.
﴿ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهم أهل إصرار على الذنوب، قاله مجاهد وقتادة والسدي.
والثاني : أنهم لا يشبعهم شيء، فهم لا يأخذونه لحاجة، قاله الحسن.
﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ألا يقولوا على الله إلا الحق في تحريم الحكم بالرشا.
والثاني : في جميع الطاعات والمعاصي والأوامر والنواهي.
﴿ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : تركوا ما فيه أن يعملوا به حتى صار دارساً.
والثاني : أنهم قد تلوه ودرسوه فهم لا يجهلون ما فيه ويقومون على مخالفته مع العلم به.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ... ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : زعزعناه، قاله ابن قتيبة، ومنه قول العجاج :
قد جرّبوا أخلاقنا الجلائلا.. ونتقوا أحلامنا الأثاقلا
والثاني : بمعنى جذبناه، والنتق : الجذب ومنه قيل للمرأة الولود ناتق، قال النابغة :
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم طفحت عليك بناتقٍ مذكار.
واختلف في سبب تسميتها ناتقاً، فقيل لأن : خروج أولادها بمنزلة الجذب. وقيل : لأنها تجذب ماء الفحل تؤديه ولداً.
والثالث : معناه ورفعناه عليهم من أصله.
قال الفراء : رفع الجبل على عسكرهم فرسخاً في فرسخ.
قال مجاهد : وسبب رفع الجبل عليهم أنهم أبوا أن يقبلوا فرائض التوراة لما فيها من المشقة، فوعظهم موسى فلم يقبلوا، فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم : إن أخذتموه بجد واجتهاد وإلا ألقي عليكم. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة : فأخذوه بقوة ثم نكثوا بعد.
واختلف في سبب رفع الجبل عليهم هل كان انتقاماً منهم أو إنعاماً عليهم؟ على قولين :
أحدهما : أنه كان انتقاماً بالخوف الذي دخل عليهم.
والثاني : كان إنعاماً لإقلاعهم به عن المعصية.
﴿... وَظّنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه غلب في نفوسهم انه واقع بهم على حقيقة الظن.
والثاني : أنهم تيقنوه لما عاينوا من ارتفاعه عليهم، قاله الحسن.
﴿ خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَاكُمْ ﴾ يعني التوارة.
﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : بجد واجتهاد.
والثاني : بنية صادقة وطاعة خالصة.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِيَّتَهُمْ ﴾ أُختلف في الذين أخرجهم وأخذ ذلك عليهم على قولين :
أحدهما : أنه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد وجعل فيها من المعرفة ما علمت به من خاطبها. واختلف من قال بهذا هل كان ذلك قبل نزوله إلى الأرض على قولين :
أحدهما : أنه كان في الجنة قبل هبوطه إلى الأرض.
والثاني : أنه فعل ذلك بعد هبوطه إليها.
والقول الثاني : في الأصل أنه خلق الأرواح والأجساد معاً وذلك في الأرض عند جميع من قال بهذا التأويل.
فعلى هذا فيه قولان :
أحدهما : أنه أخرجهم كالذر وألهمهم هذا فقالوه، قال الكلبي ومقاتل : وذلك أن الله مسح ظهر آدم بين مكة والطائف فخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية كالذر بيض، فهم أصحاب الميمنة. وخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية كالذر سود، فهم أصحاب المشأمة، فلما شهدوا على أنفسهم جميعاً من آمن منهم ومن كفر أعادهم.
والثاني : أنه أخرج الذرية قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر.
وفي ﴿ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ قولان :
أحدهما : هو أنه دلهم على أنفسهم بما شهدوه من قدرته، قاله بعض المتكلمين.
والثاني : هو إشهادهم على أنفسهم بما اعترفوا من ربوبيته ووحدانيته. وفيه على التأويل قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك للآباء من بني آدم حين أخرج من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ليعلمهم أنه خلق ذرياتهم بعد أن لم يكونوا كان هو الخالق لهم لأنهم كانوا ذرية مثلهم لمن تقدمهم كما صار هؤلاء ذرية لهم فاعترفوا بذلك حين ظهرت لهم الحجة، قاله ابن بحر.
والقول الثاني : أنه قال ذلك للذرية حين أخذهم من ظهور آبائهم، وهذا قول الأكثرين فعلى هذا فيه قولان :
أحدهما : أنه قال لهم :﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ على لسان الأنبياء بعد أن كملت عقولهم.
والثاني : أنه جعل لهم عقولاً علموا بها ذلك فشهدوا به على أنفسهم. وفي أصل الذرية قولان :
أحدهما : لأنهم يخرجون من الأصلاب كالذر.
والثاني : أنه مأخوذ من ذَرَأ الله الخلق إذا أحدثهم وأظهرهم.
قوله تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ اْلَّذِيّ ءاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فانَسَلَخَ مِنْهَا ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه بلعام بن عوراء، واختلفوا فيه فقيل كان من اليمن، وقيل كان من الكنعانيين، وقيل من بني صال بن لوط، قاله ابن عباس، وابن مسعود.
والثاني : أنه أمية بن أبي الصلت الثقفي، قاله عبد الله بن عمرو.
والثالث : أنه من أسلم من اليهود والنصارى ونافق، قاله عكرمة.
وفي الآيات التي أوتيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه اسم الله الأعظم الذي تجاب به الدعوات، قاله السدي وابن زيد.
والثاني : أنها كتاب من كتب الله. قاله ابن عباس.
والثالث : أنه أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه، قاله مجاهد، وهو غير صحيح لأن الله لا يصطفي لنبوته إلا من يعلم أن لا يخرج عن طاعته إلى معصيته.
وفي قوله :﴿ فَانسَلَخَ مِنهَا ﴾ وجهان :
أحدهما : فانسلخ من العلم بها لأنه سيسلب ما أوتي منها بالمعصية. والثاني : أنه انسلخ منها أي من الطاعة بالمعصية مع بقاء علمه بالآيات حتى حكي أن بلعام رُيثي على أن يدعو على قوم موسى بالهلاك فسها فدعا على قومه فهلكوا.
﴿ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشيطان صيره لنفسه تابعاً بإجابته له حين أغواه.
والثاني : أن الشيطان متبع من الإنس على ضلالته من الكفر.
والثالث : أن الشيطان لحقه فأغواه، يقال اتبعت القوم إذا لحقتهم، وتبعتهم إذا سرت خلفهم، قاله ابن قتيبة.
﴿ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من الهالكين.
الثاني : من الضالين.
قوله تعالى :﴿ وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني لأمتناه فلم يكفر.
والثاني : لحلنا بينه وبين الكفر فيصير إلى المنزلة المرفوعة معصوماً، قاله مجاهد.
﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ﴾ أي ركن إليها. وفي ركونه إليها وجهان :
أحدهما : أنه ركن إلى أهلها في استنزالهم له ومخادعتهم إياه.
والثاني : أنه ركن إلى شهوات الأرض فشغلته عن طاعة الله، وقد بين ذلك قوله تعالى ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾.
ثم ضرب مثله بالكلب ﴿... إِن تَحْمِْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ وفي تشبيهه بالكلب اللاهث وجهان :
أحدهما : لدناءته ومهانته.
الثاني : لأن لهث الكلب ليس بنافع له.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ﴾، ﴿ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ﴾ أي خلقنا ممن يصير إلى جهنم بكفره ومعصيته.
و ﴿ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أراد أولاد الزنى لأنهم من النطف الخبيثة مخلوقين، فهم أكثر الناس إسراعاً إلى الكفر والمعصية فيصيرون جامعين بين [ سوء ] المعتقد وخبث المولد.
والقول الثاني : أنه على العموم في أولاد الزنى والرِشدة فيمن ولد من نكاح أو سفاح لأنهم مؤاخذون على أفعالهم لا على مواليدهم التي خبثت بأفعال غيرهم.
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ الحق.
﴿ وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾ الرشد.
﴿ وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ الوعظ، فصاروا بترك استعمالها بمثابة من عَدِمها، قال مسكين الدرامي :
قوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ الأَسْمآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ قال ابن عباس : كل أسمائه حسنى وفي المراد بالحسنى ها هنا وجهان :
أحدهما : ما مالت إليه القلوب من ذكره بالعفو والرحمة دون السخط والنقمة.
والثاني : أسماؤه التي يستحقها لنفسه ولفعله ومنها صفات هي طريقة المعرفة به، وهي تسعة :
القديم الأول قبل كل شيء. والباقي بعد فناء كل شيء. والقادر الذي لا يعجزه شيء والعالم الذي لا يخفى عليه شيء. والحي الذي لا يموت. والواحد الذي ليس كمثله شيء والسميع البصير الذي لا يعزب عنه شيء والغني بنفسه عن كل شيء.
وفي دعائه بها وجهان :
أحدهما : نداؤه بها عند الرغبة إليه في الدعاء والطلب.
والثاني : تعظيمه بها تعبداً له بذكرها.
﴿ وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه يكذبون، قاله ابن عباس.
والثاني : يشركون، قاله قتادة.
والثالث : يحوّرون، قاله الأخفش.
وفي إلحادهم فيها قولان :
أحدهما : اشتقاقهم آلهتهم من أسماء الله، كما سموا بعضها باللات اشتقاقاً من الله، وبعضها بالعزى اشتقاقاً من العزيز، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني : تسميتهم الأوثان آلهة والله تعالى أبا المسيح وعزير.
قوله تعالى :﴿ وَمِمَّنْ خَلَقَنْآ أُمَّةٌ يَهُدُونَ بِالْحَقِّ ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : العلماء.
والثاني : أنهم هذه الأمة. روى ذلك قتادة، وابن جريج عن النبي ﷺ.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ والاستدراج أن تنطوي على حالة منزلة بعد منزلة.
وفي اشتقاقه قولان :
أحدهما : أنه مشتق من الدرج لانطوائه على شيء بعد شيء.
والثاني : أنه مشتق من الدرجة لانحطاطه من منزلة بعد منزلة.
وفي المشار إليه باستدراجهم قولان :
أحدهما : استدراجهم إلى الهلكة.
والثاني : الكفر.
وقوله :﴿ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يعلمون بالاستدراج.
والثاني : لا يعلمون بالهلكة.
قوله تعالى :﴿ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِي لَهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معنى يضله يحكم بضلالته في الدين.
والثاني : يضله عن طريق الجنة إلى النار.
﴿ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ والطغيان إفراط العدوان.
وفي ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ وجهان :
أحدهما : يتحيرون، والعمه في القلب كالعمى في العين.
والثاني : يترددون، قاله قطرب واستشهد بقول الشاعر :
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يُواري جارتي الجدر
وأصم عما كان بينهما سمعي وما في سمعي الوقر
قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن السائل عنها اليهود، قاله ابن عباس.
والثاني : أن السائل عنها قريش، قاله الحسن، وقتادة.
﴿ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴾ أما ﴿ أَيَّانَ ﴾ فمعنى متى، ومنه قول الراجز :
متى يعمه إلى عثمان يعمه إلى ضخم السرادق والقطار.
أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لنجحها أوانا
وأما ﴿ مُرْسَاهَا ﴾ ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : قيامها، قالها السدي.
والثاني : منتهاها، قاله ابن عباس.
والثالث : ظهورها، قاله الأخفش.
﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّيِ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ لا يعلم وقتها إلا هو، نفياً أن يعلمها غير الله ﴿ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : كبر على أهل السموات والأرض مجيء الساعة، قاله الحسن.
والثاني : ثقل عليهم قيام الساعة، قاله السدي.
والثالث : معناه عظم وصفها على أهل السموات والأرض، قاله ابن جريج.
﴿ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ يعني على غفلة لأنه لا يعلمها غير الله، ولم ترد الأخبار عنها من جهة الله فصار مجيئها بغتة وذلك أشد لها كما قال الشاعر :
وأنكأ شيء حين يفجؤك البغتُ... ﴿ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه عالِمٌ بها، قاله مجاهد، والضحاك، وابن زيد، ومعمر.
والثاني : معنى الكلام يسألونك عنها كأن حفي بهم، على التقديم والتأخير، أي كأنك بينك وبينهم مودة توجب برهم، من قوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٦ ] قاله ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً ﴾ أي لا أملك القدرة عليهما من غير مانع ولا صاد.
﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ أن يملكني إياه فأملكه بمشيئته.
﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لاستكثرت من العمل الصالح، قاله الحسن، وابن جريج.
والثاني : لأعددت من السنة المخصبة للسنة المجدبة، قاله الفراء.
والثالث : وهو شاذ : لاشتريت في الرخص وبعْت في الغلاء.
﴿ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدهما : ما بي جنون كما زعم المشركون، قاله الحسن.
والثاني : ما مسني الفقر لاستكثاري من الخير.
والثالث : ما دخلت على شبهة.
﴿ فَلَمَّا ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا ﴾ وذلك أن إبليس قال لحواء سَمِّيه : عبد الحارث، يعني نفسه لأنه اسمه في السماء كان « الحارث » فسمته عبد الله فمات، ثم حملت ولداً ثانياً فقال لها ذلك فلم تقبل، فمات، ثم حملت ثالثاً فقال لها ولآدم، أتظنان الله تارك عبده عندكما؟ لا والله ليذهبن به كما ذهب بالآخرين فسمياه بذلك فعاش، فهذا معنى قوله :﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا ﴾ أي في الاسم، فروي عن النبي ﷺ أنه قال : خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض.
وقال الحسن وقتادة : إن المكنّى عنه بقوله :﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا ﴾ ابن آدم وزوجته، وليس براجع إلى آدم وحواء.
قوله تعالى :﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ﴾ يعني الأصنام، يعني أرجل يمشون بها في مصالحكم.
﴿ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ﴾ يعني في الدفع عنكم.
﴿ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾ يعني مضاركم من منافعكم.
﴿ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ دعاءَكم وتضرعكم.
فإن قيل فلم أنكر عبادة من لا رجل له ولا يد ولا عين؟
قيل عنه جوابان :
أحدهما : أن من عبد جسماً لا ينفع كان ألوم ممن عبد جسماً ينفع.
والثاني : أنه عرفهم أنهم مفضلون عليها، فكيف يعبدون من هم أفضل منه.
قوله تعالى :﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : العفو من أخلاق الناس وأعمالهم، قاله ابن الزبير، والحسن، ومجاهد.
الثاني : خذ العفو من أموال المسلمين، وهذا قبل فرض الزكاة ثم نسخ بها، قاله الضحاك والسدي وأحد قولي ابن عباس.
والثالث : خذ العفو من المشركين، وهذا قبل فرض الجهاد، قاله ابن زيد.
﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معناه بالمعروف، قاله عروة وقتادة.
والثاني : ما روي عن النبي ﷺ أنه قال لجبريل حين نزلت عليه هذه الآية ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأَْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ :« يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا » قال : لا أدري أسأل العالم، قال « ثُمَّ عَادَ جِبْرِيلُ فَقَالَ » « يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك » قاله ابن زيد.
﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ فإن قيل فكيف أمر بالإعراض مع وجوب الإنكار عليهم؟
قيل : إنما أراد الإعراض عن السفهاء استهانة بهم. وهذا وإن كان خطاباً لنبيِّه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه.
قوله تعالى :﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْعٌ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن النزغ الانزعاج.
والثاني : الغضب.
والثالث : الفتنة، قاله مقاتل.
﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سميع بجهل من جهل، عليم بما يزيل عنك النزغ.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ ﴾ قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة ﴿ طَآئِفٌ ﴾، وقرأ الباقون ﴿ طَيْفٌ ﴾ واختلف في هاتين القراءتين على قولين :
أحدهما : أن معناهما واحد وإن اختلف اللفظان، فعلى هذا اختلف في تأويل ذلك على أربعة تأويلات :
أحدها : أن الطيف اللمم كالخيال يلم بالإنسان.
والثاني : أنه الوسوسة، قاله أبو عمرو بن العلاء.
والثالث : أنه الغضب، وهو قول مجاهد.
والرابع، أنه الفزع، قاله سعيد بن جبير.
والقول الثاني : أن معنى الطيف والطائف مختلفان، فالطيف اللمم، والطائف كل شيء طاف بالإنسان.
﴿ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : علموا فإذا هم منتهون.
والثاني : اعتبروا فإذا هم مهتدون.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه هلا أتيتنا بها من قبل نفسك، وهذا قول مجاهد، وقتادة.
والثاني : معناه هلا اخترتها لنفسك.
والثالث : معناه هلا تقبلتها من ربك، قاله ابن عباس.
قوله تعالى ﴿ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَآنُ فِاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ أي لقراءته.
﴿ وَأَنصِتُواْ ﴾ أي لا تقابلوه بكلام ولا إعراض ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾.
واختلفوا في موضع هذا الإنصات على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في المأموم خلف الإمام ينصت ولا يقرأ، قاله مجاهد.
والثاني : أنها نزلت في خطبة الجمعة ينصت الحاضر لاستماعها ولا يتكلم، قالته عائشة، وعطاء.
والثالث : ما قاله ابن مسعود : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، سلام على فلان، سلام على فلان، فجاء القرآن من ﴿ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾ وفي هذا الذكر ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ذكر القرءاة في الصلاة خلف الإمام سراً في نفسه قاله قتادة.
والثاني : أنه ذكر بالقلب باستدامة الفكر حتى لا ينسى نعم الله الموجبة لطاعته.
والثالث : ذكره باللسان إما رغبة إليه في دعائه أو تعظيماً له بالآية. وفي المخاطب بهذا الذكر قولان :
أحدهما : أنه المستمع للقرآن إما في الصلاة أو الخطبة، قاله ابن زيد.
والثاني : أنه خطاب للنبي ﷺ ومعناه عام في جميع المكلفين.
ثم قال :﴿ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ﴾ أما التضرع فهو التواضع والخشوع، وأما الخيفة فمعناه مخافة منه.
﴿ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ يعني أسرَّ القول إما بالقلب أو باللسان على ما تقدم من التأويلين.
ثم قال تعالى :﴿ بالْغُدُوِّ وَالأَصْالِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بالبكر والعشيات.
والثاني : أن الغدو آخر الفجر صلاة الصبح، والآصال آخر العشي صلاة العصر، قاله مجاهد، ونحوه عن قتادة.
﴿ وَلاَ تَكُنِ مِّنَ الْغَافِلِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : عن الذكر.
والثاني : عن طاعته في كل أوامره ونواهيه، قاله الجمهور.
﴿ وَيُسَبِّحُونَهُ وََلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ وهذا أول سجدات التلاوة في القرآن.
وسبب نزولها ما قاله كفار مكة ﴿ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ﴾ [ الفرقان : ٦٠ ].
فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن الملائكة المقربين إذا كانوا على هذه الحال في الخضوع والرغبة فأنتم بذلك أولى والله أعلم بالصواب.
Icon