تفسير سورة الأعراف

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
سورة الأعراف
مكية :
قبل أن نبدأ خواطرنا في سورة الأعراف لابد أن نلاحظ ملاحظة دقيقة في كتاب الله، الله يقول :﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾( من الآية ١٦٥ سورة الأنعام )، ونقرأ الكلمة الأخيرة في سورة الأنعام " رحيم "، ونجدها مبنية على الوصل ؛ لأن آيات القرآن كلها موصولة، وإن كانت توجد فواصل آيات، إلا أنها مبنية على الوصل، ولذلك تجد ﴿ غفور رحيم ﴾وعليها الضمة وبجوارها ميم صغيرة ؛ لأن التنوين إذا جاء بعده باء، يقلب التنوين ميما، فالميم الصغيرة موجودة على رحيم، قبل أن تقرأ ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾، وتصبح القراءة :
﴿ غفور رحيم ﴾ ﴿ بسم الله ﴾.
وكل آيات القرآن تجدها مبنية على الوصل، فكأن القرآن ليس أبعاضا. وكان من الممكن أن يجعلها سكونا، وأن يجعل كل آية لها وقف، لا، إنه سبحانه أراد القرآن موصولا، وإن كان في بعض الآيات إقلاب، وفي بعضها إدغام، وهذا بغُنّة، وهذا بغير غُنّة.

ويقول الحق :
بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ المص ( ١ ) ﴾ وفي هذه الآية فصل بين كل حرف، فنقرأها : " ألف " ثم نسكت لنقرأ " لام " ثم نسكت لنقرأ " ميم " ثم نسكت لنقرأ " صاد ". وهنا حروف خرقت القاعدة لحكمة ؛ لأن هذه الحروف مقطعة، مثل " ألم، حم، طه، يس، ص، ق، وكلها مبنية على السكون مما يدل على أن هذه الحروف وإن خيل لك أنها كلمة واحدة، لكن لكل حرف منها معنى مستقل عند الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف، وميم حرف )، ١والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن هذه الحروف بها أمور استقلالية، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت لها فائدة يحسن السكوت والوقوف عليها، فهمها من فهمها، وتعبد بها من تعبد بها، وكل قارئ للقرآن يأخذ ثوابه بكل حرف، فلو أن قارئا قال : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ونطق بعد ذلك بحرف أو بأكثر، فهو قد أخد بكل حرف حسنة، وحين نقرأ بعضا من فواتح السور، نجد أن سورة البقرة تبدأ بقوله الحق :﴿ ألم ( ١ ) ﴾ ( سورة البقرة ).
ونقرأ هنا في أول سورة الأعراف :﴿ المص ( ١ ) ﴾( سورة الأعراف ) :
وهي حروف مقطعة. نطقت بالإسكان، وبالفصل بين كل حرف وحرف. ويلاحظ فيها أيضا أنها لم تقرأ مسميات، وإنما قرئت أسماء، ما معنى مسميات ؟ وما معنى أسماء ؟. أنت حين تقول : كتب، لا تقول : " كاف " " تاء " " باء "، بل تنطق مسمى الكاف كَ، واسمها كاف مفتوحة، أما مسماها فهو " كَ ". إذن فكل حرف له مسمى، أي الصوت الذي يقوله الإنسان، وله اسم، والأمّي ينطق المسميات، وإن لم يعرف أسماءها. أما المتعلم فهو وحده الذي يفهم أنه حين يقول " كتب " أنها مكونة من كاف مفتوحة، وتاء مفتوحة، وباء مفتوحة، أما الأمي فهو لا يعرف هذا التفصيل.
وإذا كان رسول الله قد تلقى ذلك وقال : ألف لام ميم، وهو أمي لم يتعلم. فمن قال له انطق مسميات الحروف بهذه الأسماء ؟ لا بد أنه قد علّمَها وتلقاها، والحق هو القائل :﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه١٨ ﴾ [ سورة القيامة ].
فالذي سوف تسمعه يا محمد ستقرأه، ولذلك تجد عجائب ؛ فأنت تجد " ألم " في أول البقرة، وفي أول سورة آل عمران، ولكنك تقرأ الآية الأولى من سورة الفيل :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ١ ﴾ [ سورة الفيل ].
ما الفرق بين الألف واللام والميم في أول سورة البقرة، وسورة آل عمران وغيرهما، والحروف نفسها في أول سورة الفيل وغيرها كسورة الشرح ؟ أنت تقرأها في أول سورة البقرة وآل عمران أسماء. وتقرأها في أول سورة الفيل مسميات. والذي جعلك تفرق بين هذه وتلك أنك سمعتها تُقرأ في أول البقرة وآل عمران هكذا، وسمعتها تقرأ في أول سورة الفيل هكذا. إذن فالقراءة توقيف، وليس لأحد أن يجترئ ليقرأ القرآن دون سماع من معلم. لا، لابد أن يسمعه أولا حتى يعرف كيف يقرأ.
ونقرأ " ﴿ المص ﴾ في أول سورة الأعراف، وهي حروف مقطعة، ونعرف أن الحروف المقطعة ثمانية وعشرون حرفا، ونجد نصفها أربعة عشر حرفا في فواتح السور، وقد يوجد منها في أول السورة حرف واحد مثل :﴿ ق والقرآن المجيد ١ ﴾ [ سورة ق ]، وكذلك قوله الحق :﴿ ص والقرآن ذي الذكر١ ﴾ [ سورة ص ]،
وكذلك قوله الحق :﴿ ن والقلم وما يسطرون١ ﴾ [ سورة القلم ]، ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان، مثل قوله الحق :﴿ حم١ ﴾ [ سورة الأحقاف ]، ومرة تأتي ثلاث حروف مقطعة مثل :﴿ ألم ١ ﴾ [ سورة البقرة ]، ومرة يأتي الحق بأربعة حروف مقطعة مثل قوله الحق :﴿ المص١ ﴾ [ سورة الأعراف ]، ومرة يأتي بخمسة حروف مقطعة مثل قوله الحق :﴿ كهيعص ١ ﴾ [ سورة مريم ].
وإذا نظرت إلى الأربعة عشر حرفا وجدتها تمثل نصف الحروف الأبجدية، وهذا النصف فيه نصف أحكام الحروف، فبعضها منشور، أو مهموس، أو مخفي، أو مستعل، ومن كل نوع تجد النصف، مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق، ومع أن توصيف الحروف، من مستعل، أو مفخم، أو مرقق، أو منشور، أو مهموس، هذا التوصيف جاء متأخرا عن نزول القرآن، ولكن الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف المقطعة وله في ذلك حكمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا، ولم يجلس إلى معلم، فكيف ينطق بأسماء الحروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا من تعلم ؟ ! فهو إذن قد تلقنها، وإننا نعلم أن القرآن جاء متحديا العرب ؛ ليكون معجزة لسيد الخلق، ولا يُتَحدى إلى من كان بارعا في هذه الصنعة. وكان العرب مشهورين بالبلاغة، والخطابة والشعر، والسجع وبالأمثال ؛ فهم أمة كلام، وفصاحة، وبلاغة، فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم، وحين يتحدى الله العرب بأنه أرسل قرآنا لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فالمادة الخام وهي اللغة واحدة، ومن حروف اللغة نفسها التي برع العرب فيها. وبالكلمات نفسها التي يستعملونها، لكنهم عجزوا أن يأتوا بمثله ؛ لأنه جاء من رب قادر، وكلام العرب وبلاغتهم هي من صنعة الإنسان المخلوق العاجز.
وهكذا نعلم سر الحروف المقطعة التي جاءت لتثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن من الملأ الأعلى لأنه أمي لم يتعلم شيئا، لكنه عرف أسماء الحروف، ومعرفة أسماء الحروف لا يعرفها كما قلت إلا المتعلم، وقد علّمه الذي علّم بالقلم وعلم الإنسان ما لم يعلم، ويمكن للعقل البشري أن يحوم حول الآيات، وفي هذه الحروف معان كثيرة، ونجد أن الكثير من المفكرين والمتدبرين لكلام الله وجدوا في مجال جلال وجمال القرآن الكثير، فتجد متصوفا يقول إن ﴿ ألمص ﴾ جاءت هنا لحكمة، فأنت تنطق أول كلمة ألف وهي الهمزة من الحلق، واللام تنطقها من اللسان، والميم تنطقها من الشفة، وبذلك تستوعب مخارج الحروف من الحلق واللسان والشفة.
قال المتصوف ذلك ليدلك على أن هذه السورة تتكلم في أمور الحياة بدءا للخلق من آدم. إشارة إلى أولية خلق الإنسان، ووسطا وهو المعاش، ونهاية وهو الموت والحساب ثم الحياة في الدار الآخرة، وجاءت " الصاد " لأن في هذه السورة قصص أغلب الأنبياء.
هكذا جال هذا المتصوف جولة وطلع منها، أنردها عليه ؟ لا نردها بطبيعة الحال، ولكن نقول له : أذلك هو كل علم الله فيها ؟. لا، لأن علينا أن نتعرف على المعاني التي فيها وأن نأخذها على قدر بشريتنا، ولكن قرأناها على قدر مراد الله فلن نستوعب كل آفاق مرادات الله، لأن أفهامنا قاصرة.
ونحن البشر نضع كلمات لا معنى لها لكي تدل على أشياء تخدم الحياة، فمثلا نجد في الجيوش من يضع " كلمة سر " لكل معسكر فلا يدخل إلا من يعرف الكلمة. من يعرف " كلمة السر " يمكنه أن يدخل. وكل كلمة سر لها معنى عند واضعها، وقد يكون ثمنها الحياة عند من يقترب من معسكر الجيش ولا يعرفها.
﴿ المص ( ١ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : ونجد هذه الحروف المقطعة حديثا عن الكتاب.
١ رواه الترمذي، والدرامي..
فيقول سبحانه :
﴿ كتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ ﴾ :
وساعة تسمع " أنزل " فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن التشريع من أعلى. وقال بعض العلماء : وهل يوجد في صدر رسول الله حرج ؟. لننتبه أنه ساعة يأتي أمر من ربنا ويوضح فيه ﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾، فالنهي ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما النهي للحرج أو الضيق أن يدخل لرسول الله، وكأنه سبحانه يقول : يا حرج لا تنزل قلب محمد.
لكن بعض العلماء قال : لقد جاء الحق بقوله سبحانه :﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾، لأن الحق يعلم أن محمدا قد يضيق صدره ببشريته، ويحزن ؛ لأنهم يقولون عليه ساحر، وكذاب، ومجنون. وإذا ما جاء خصمك وقال فيك أوصافا أنت أعلم منه بعدم وجودها فيك فهو الكذاب ؛ لأنك لم تكذب ولم تسحر، وتريد هداية القوم، وقوله سبحانه :﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ﴾ قد جاء لأمر من اثنين : إما أن يكون الأمر للحرج إلا يسكن صدر رسول الله، وإما أن يكون الأمر للرسول طمأنة له وتسكينا، أي لا تتضايق لأنه أنزل إليك من إله، وهل ينزل الله عليك قرآنا ليصبح منهج خلقه وصراطا مستقيما لهم، ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلاء ؟ لا، لا يمكن، فاطمئن تماما.
﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ ﴾ [ سورة الأعراف ] : والإنذار لا يكون إلا لمخالف ؛ لأن الإنذار يكون إخبارا بشرٍ ينتظر من تخاطبه. وهو أيضا تذكير للمؤمنين مثلما قال من قبل في سورة البقرة :﴿ هدى للمتقين ﴾.
وهنا نلاحظ أن الرسالات تقتضي مرْسِلا أعلى وهو الله، ومُرْسَلا وهو الرسول، ومُرْسلا إليه وهم الأمة، والمرسل إليه إما أن يستمع ويهتدي وإما لا، وجاءت الآية لتقول :﴿ كتاب أنزل ﴾ من الله وهو المرسِل، و " إليك " لأنك رسول والمرسَل إليهم هم الأمة، إما أن تنذرهم إن خالفوا وإما أن تذكرهم وتهديهم وتعينهم أو تبشرهم إن كانوا مؤمنين.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ٣ ﴾ :
ومادام العباد سينقسمون أمام صاحب الرسالة والكتاب الذي جاء به إلى من يقبل الهداية، ومن يحتاج إلى النذارة لذلك يقول لهم :﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾
( من الآية ٣ سورة الأعراف ) :
وينهاهم عن الشرك وعدم الاستهداء أي طلب الهداية فيقول :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾( من الآية ٣ سورة الأعراف ).
وحينما يأتي الحق سبحانه في مثل هذه الآيات ويقول : " وذكرى ". أو " وذكِّر " إنما يلفتنا إلى أن الفطرة المطبوع عليها الإنسان مؤمنة، والرسالات كلها لم تأت لتنشئ إيمانا جديدا، وإنما جاءت لتذكر بالعهد الذي أخذ علينا أيام كنا في عالم الذر، وقبل أن يكون لنا شهوة اختيار :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا.. ١٧٢ ﴾ [ سورة الأعراف ].
هذا هو الإقرار في عالم الذر، إذن فحين يقول الحق :﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ فنحن نلفت إلى ما نسي الآباء أن يبلغوه إلى الأبناء ؛ فالآباء يعلمون الأبناء متطلبات حياتهم، وكان من الواجب أن يعلموهم مع ذلك قيم الحياة التي تلقوها ؛ لأن آدم وحواء أول ما نزلا إلى الأرض قال لهما الحق :﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي.. ١٢٣ ﴾ [ سورة طه ] : وهكذا نعلم أن هناك " هدى " قد نزل على آدم، وكان من الواجب على آدم أن يعلمه للأبناء، ويعلمه الأبناء للأحفاد، وكان يجب أن يظل هذا " الهدى " منقولا في سلسلة الحياة كما وصلت كل أقضية الحياة. ويأتي سبحانه لنا بحيثيات الإتباع.
﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ.. ٣ ﴾ [ سورة الأعراف ] : فالمنهج الذي يأتي من الرب الأعلى هو الذي يصلح الحياة، ولا غضاضة على أحد منكم في أن يتبع ما أنزل إليه من الإله المربي القادر. الذي ربّى، وخلق من عدم، وأمد من عدم، وهو المتولي للتربية، ولا يمكن أن يربي أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ولا يربي قيمنا بالأخلاق. ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾.
ومادام قد أوضح : اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى، فلا يصح أن تأتي لمن دونه وتأخذ منه، مثلما يفعل العالم الآن حين يأخذ قوانينه من دون الله ومن هوى البشر. فهذا يحب الرأسمالية فيفرضها بالسيف، وآخر يحب الاشتراكية فيفرضها بالسيف. وكل واحد يفرض بسيفه القوانين التي تلائمه. وكلها دون منهج الله لأنها أفكار بشر، وتتصادم بأفكار بشر، والأولى من هذا وذاك أن نأخذ مما لا نستنكف أن نكون عبيدا له.
﴿ .. وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ٣ ﴾ [ سورة الأعراف ] : وتذكر أيها المؤمن أن عزتك في إتباع منهج الله تتجلى في انك لا تخضع لمساو لك، وهذه ميزة الدين الذي يجعل الإنسان يحبا في الكون وكرامته محفوظة، وإن جاءته مسألة فوق أسبابه يقابلها بالمتاح له من الأسباب مؤمنا بأن رب الأسباب سيقدم العون، ويقدم الحق له العون فعلا فيسجد لله شاكرا، أما الذي ليس له رب فساعة أن تأتي له مسألة فوق أسبابه تضيق حياته عليه وقد ينتحر.
ثم بعد ذلك يبين الحق أن موكب الرسالات سائر من لدن آدم، وكلما طرأت الغفلة على البشر أرسل الله رسولا ينبههم. ويوقظ القيم والمناعة الدينية التي توجد في الذات، بحيث إذا مالت الذات إلى شيء انحرافي تنبه الذات نفسها وتقول : لماذا فعلت هكذا ؟. وهذه هي النفس اللوامة. فإذا ما سكتت النفس اللوامة واستمرأ الإنسان الخطأ، وصارت نفسه أمارة بالسوء طوال الوقت ؛ فالمجتمع الذي حوله يعدله.
وهذه فائدة التواصي بالحق والصبر، فكل واحد يوصّى في ظرف، ويوصِّي في ظرف آخر ؛ فحين تضعف نفسه أمام شهوة يأتي شخص آخر لم يضعف في هذه الشهوة وينصح الإنسان، ويتبادل الإنسان النصح مع غيره، هذا هو معنى التواصي ؛ فالوصية لا تأتي من جماعة تحترف توصية الناس، بل يكون كل إنسان موصيا فيما هو فيه قوي، ويوصي فيما هو فيه ضعيف، فإذا فسد المجتمع، تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، ومنهج جديد، لكن الله أمن أمة محمد على هذا الأمر فلم يجيء رسول بعده لأننا خير امة أخرجت للناس. والخيرية تتجلى في أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فالتواصي باق إلى أن تقوم الساعة. ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.. ( ١١٠ ) ﴾ [ سورة آل عمران ].
وهذه خاصية لن تنتهي أبدا، فإن رأيت منكرا فلابد من خلية خير تنكره وتقول : لا، وإذا كانت الحق قد جعل محمدا خاتم الرسل، فذلك شهادة لأمته أنها أصبحت مأمونة، وأن المناعة الذاتية فيها لا تمتنع ولا تنقطع، وكذلك لا تمتنع منها أبدا المناعة الاجتماعية فلن يأتي رسول بعد سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( ٤ ) ﴾ :
وساعة تسمع " كم " فاعرف أن المسألة خرجت عن العد بحيث تستوجب أن تستفهم عنها، وهذا يدل على أمر كثير فوق العدد، لكن عندما يكون العدد قليلا فلا يستفهم عنه، بل يعرف. والقرية اسم للمكان المعد إعدادا خاصا لمعيشة الناس فيه. وهل القرى هي التي تهلك أم يهلك من فيها ؟. أوضح الحق أنها تأتي مرة ويراد منها المكان والمكين : أو يكون المراد بالقرية أهلها، مثال على ذلك قوله الحق في سورة يوسف :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير.. ٨٢ ﴾ [ سورة يوسف ]. وبطبيعة الحال لن يسأل إنسان المكان أو المباني، بل يسأل أهل القرية، ولم يقل الحق : اسأل أهل القرية ؛ لأن المسؤول عنه هو أمر بلغ من الصدق أن المكان يشهد مع الملكين، ومرة أخرى يوضح الحق أنه يدمر القرية بسكانها ومبانيها :﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ﴾.
وأيهما يأتي أولا : الإهلاك أم يأتي البأس أولا فيهلك ؟. الذي يأتي أولا هو البأس فيهلك، فمظاهر الكونيات في الأحداث لا يأتي أمرها ارتجالا، وإنما أمرها مسبق أزلا، وكأن الحق يقول هنا : وكم من قرية حكمنا أن نهلكها فجاءها بأسنا ليتحقق ما قلناه أزلا، أي أن تأتي الأحداث على وفق المرادات ؛ حتى ولو كان هناك اختيار للذي يتكلم عنه الحق.
ونعلم أن القرية هي المكان، وعلى ذلك فليس لها اختيار. وإن كان لمن يتحدث عنه حق الاختيار، فسبحانه يعلم أزلا أنه سيفعل ما يتحدث عنه سبحانه. ويأتي به في قرآن يتلى ؛ ليأتي السلوك موافقا ما أخبر به الله. ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( ٤ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والبأس هو القوة التي لا ترد ولا تقهر، و " بياتا " أي بالليل، ﴿ أو هم قائلون ﴾ أي في القيلولة. ولماذا يأتي البأس في البيات أو في القيلولة ؟. ونجد في خبر عمن أهْلِكوا مثل قوم لوط أنه حدث لهم الهلاك بالليل، وقوم شعيب حدث لهم الهلاك في القيلولة، والبيات والقيلولة هما وقت الاسترخاء ووقت الراحة وتفاجئهم الأحداث فلا يستطيعون أن يستعدوا. ﴿ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ١٧٧ ﴾( سورة الصافات ) : أي يأتيهم الدمار في وقت هن نائمون فيه، ولا قوة لهم لمواجهة البأس. ﴿ فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ﴾( من الآية ٤ سورة الأعراف ) :
وإذا قال سبحانه :﴿ بياتا أو هم قائلون ﴾ فيصح أن لهذه القرية امتدادات، ووقت القيلولة عند جماعة يختلف عن وقت من يسكن امتداد القرية، فيكون الوقت عندهم ليلا، والقيلولة هي الوقت الذي ينامون فيه ظهرت للاسترخاء والراحة.
ولكن كيف استقبلوا ساعة مجيء البأس الذي سيهلكهم ؟ يقول الحق سبحانه :﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ٥ ﴾.
بهذا القول اتضحت المسألة، ومن قوله ﴿ دعواهم ﴾ نفهم أن المسألة ادعاء. ونحن نقول : فلان ادّعى دعوى على فلان، فإما أن يقيم بينة ليثبت، أنأن دعواه، وإما ألا يقيم. والدعوى تطلق أيضا على الدعاء :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾( من الآية ١٠ سورة يونس ). وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ٥ ﴾( سورة الأعراف ).
ويشرح ربنا هذا الأمر في آيات كثيرة، إنه اعتراف منهم باقترافهم الظلم وقيامهم عليه، فسبحانه القائل :﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١٠ ) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١١ ) ﴾( سورة الملك ).
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦ ﴾.
والحق يسأل الرسل بعد أن يجمعهم عن مدى تصديق أقوامهم لهم، والسؤال إنما يأتي للإقرار، ومسألة السؤال وردت في القرآن بأساليب ظاهر أمرها أنها متعارضة، والحقيقة أن جهاتها منفكة، وهذا ما جعل خصوم القرآن يدعون أن القرآن فيه تضارب. فالحق سبحانه يقول :﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ( ١٠١ ) ﴾( سورة المؤمنون )، ويقول سبحانه أيضا :﴿ ولا يسأل حميم حميما ١٠ ﴾( سورة المعارج )، ويقول جل وعلا :﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾( من الآية ٧٨ سورة القصص )، ويقول سبحانه وتعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ٣٩ ﴾( سورة الرحمن )، ثم يقول هنا :( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦ }( سورة الأعراف ).
وهذا ما يجعل بعض المستشرقين يندفعون إلى محاولة إظهار أن بالقرآن والعياذ بالله متناقضات. ونقول لكل منهم : أنت تأخذ القرآن بغير ملكة البيان في اللغة، ولو أنك نظرت إلى أن القرآن قد استقبله قوم لسانهم عربي، وهم باقون على كفرهم فلا يمكن أن يقال إنهم كانوا يجاملون، ولو أنهم وجدوا هذا التناقض، أما كانوا يستطيعون أن يردوا دعوى محمد فيقولوا : أيكون القرآن معجزا وهو متعارض ؟ ! لكن الكفار لم يقولوها، مما يدل على أن ملكاتهم استقبلت القرآن بما يريده قائل القرآن. وفي أعرافنا نورد السؤال مرتين، فمرة يسأل التلميذ أستاذه ليعلم، ومرة يسأل الأستاذ تلميذه ليقرر.
إذن فالسؤال يأتي لشيئين اثنين : إما أن تسأل لتتعلم، وهذا هو الاستفهام، وإما أن تسأل لتقرر حتى تصبح الحجة ألزم للمسؤول، فإذا كان الله سيسأله، أي يسأله سؤال إقرار ليكون أبلغ في الاحتجاج عليه، وبعد ذلك يقولون :﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١٠ ) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ١١ ) ﴾ : وهذا اعتراف وإقرار منهم وهما سيدا الأدلة ؛ لأن كلام المقابل إنما يكون شهادة ولكن كلام المقر هو إقرار واعتراف.
إذن إذا ورد إثبات السؤال فإنه سؤال التقرير من الله لتكون شهادة منهم على أنفسهم، وهذا دليل أبلغ للحجة وقطع للسبل على الإنكار. فإما أن يقر الإنسان، وإن لم يقر فستقول أبعاضه ؛ لأن الإرادة انفكت عنها، ولم يعد للإنسان قهر عليها، مصداقا لقوله الحق :﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾( من الآية ٢١ سورة فصلت )، والحق هنا يقول :﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ وهو سؤال للإقرار. قال الله عنه :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ﴾( من الآية ١٠٩ سورة المائدة ).
وحين يسأل الحق المرسلين، وهم قد أدوا رسالتهم فيكون ذلكم تقريعا للمرسَل إليهم.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ٧ ﴾.
أي سيخبرهم بكل ما عملوا في لحظة الحساب ؛ لأنه سبحانه لم يغب يوما عن أي من خلقه ؛ لذلك قال :﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾، ونعلم أن الخلق متكرر الذوات، متكرر الأحداث، متكرر المواقع، هم ذوات كثيرة، وكل ذات لها حدث، وكل ذات لها مكان. فإذا قال الحق للجميع :﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ أي أنه مع الجميع، مادام ليس بغائب عن حدث، وهؤلاء متعددون. إذن هو في كل زمان وفي كل مكان.
وإن قلت كيف يكون هنا وهناك ؟ أقول : خذ ذلك في إطار قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾، ومثل هذه المعاني في الغيبيات لا يمكن أن تحكمها هذه الصور. والأمر سبق أن قلناه حين تحدثنا عن مجيء الله ؛ فله طلاقة القدرة وليس كمثله شيء، وما كان غائبا في حدث أو مكان.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨ ﴾ :
في هذه الآيات نجد الحديث عن الوزن للأعمال، وهذا كله تأكيد للحجة عليهم ؛ فالله لا يظلم أحدا، وفي وزن الأعمال إبطال للحجة من الذين يخافون النار، ولم يؤدوا حقوق الله في الدنيا، وكل ذلك ليؤكد الحجة، ويظهر الإنصاف ويقطع العذر، وهنا قول كريم يقول فيه الحق سبحانه :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة.. ٤٧ ﴾ [ سورة الأنبياء ] : هذه الموازين هي عين العدل، وليست مجرد موازين عادلة، بل تبلغ دقة موازين اليوم الآخر أنها هي عدل في ذاتها. وهنا يقول الحق :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾. نعم، الميزان في هذا اليوم حق ودقيق، ولنذكر أنه قال من قبل :﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ١٦٠ ﴾( سورة الأنعام ).
والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله، وكل شيء فيه موزون، وسبحانه هو الذي يضع المقادير على قدر الحكمة والإتقان والدقة التي يؤدي بها كل كائن المطلوبَ منه، ولذلك يقول سبحانه :﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان ٧ ﴾
( سورة الرحمن ).
ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثا غير متوقعة منها، فالكون له نظام دقيق. والوزن في يوم القيامة هو مطلق الحق، ففي هذا اليوم تبطل موازين الأرض التي كانت تعاني إما خللا في الآلة التي توزن بها، وإما خللا في الوزن، وإما أن تتأثر بأحداث الكون، وما يجري فيه من تفاعلات، أما ميزان السماء فلا دخل لأحد به ولا يتأثر إلا بقيمة ما عمل الإنسان، وساعة يقول سبحانه :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾.
فكأن الميزان في الدنيا يمكن أن يحصل فيه خلل، وكذلك المِلْك أيضا ؛ لأنه سبحانه أعطى أسبابا للملك المناسب لكل إنسان، فهذا يملك كذا، والثاني يملك كذا، والثالث يملك كذا، وبعد ذلك يتصرف كل إنسان في هذا الملك إن عدلا، وإن ظلما على ضوء الاختيار. لكن حين يأتي اليوم الآخر فلا ملك لأحد :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية ١٦ سورة غافر ) : فالأمر حينئذ يكون لله وحده، فإن كان الملك في الدنيا قد استخلف فيه الحق عباده، فهذه الولاية تنتهي في اليوم الآخر :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾. وسبحانه هو القائل :
﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ( ٦ ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( ٧ ) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ( ٨ ) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( ٩ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ( ١٠ ) نَارٌ حَامِيَةٌ ( ١١ ) ﴾. ( سورة القارعة ).
إذن فالميزان يثقل الحسنات، ويخف بالسيئات. ونلحظ أن القسمة العقلية لإيجاد ميزان ووازن وموزون تقتضي ثلاثة أشياء : أن تثقل كفة، وتخف الأخرى، أو يتساويا، ولكن هذه الحال غير موجودة هنا.
ويتحدث الحق عن الذين تخف موازينهم فيقول سبحانه وتعالى :﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ٩ ﴾.
والسورة السابقة جاء فيها بالحالتين، وفي هذه السورة أيضا جاء بالحالتين، ومن العجيب أن هذا الكلام عن الثقل والخفة وعدم وجود الحالة الثالثة وهي حالة تساوي الكفتين يأتي في أول سورة الأعراف، ولكنه سبحانه يقول بعد ذلك في سورة الأعراف :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ﴾ : وهؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد جعل لهم ربنا مكانا يشبه عرف الفرس، وعرف الفرس يعتبر أعلى شيء فيه، فحينا يأتي شعر الفرس يمينا، وحينا يأتي شعر الفرس يسارا، وليس هناك جهة أولى بالشعر من الأخرى. وقد أعد الحق لأصحاب الأعراف مكانا يسمعون فيه أصحاب النار وهم ينادون أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة، وهم ينادون أصحاب النار، وأصحاب الأعراف يجلسون ؛ لا هم في الجنة ولا هم في النار، فهم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وبذلك صحت القسمة العقلية في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة الأعراف ).
فلا الحسنات ثقلت ليدخلوا الجنة، ولا السيئات خفت ليدخلوا النار، فميزانهم تساوت فيه الكفتان. وقال بعض العلماء عن الميزان : إن هناك ميزانا بالفعل. وقال البعض إن المراد بالميزان هو العدالة المطلقة التي أقامها العادل الأعلى، والأعجب أن الحق قال : إن هناك موازين، فهل لكل واحد ميزان أو لكل عمل من أعمال التكليفات ميزان : ميزان العقائد، وميزان الأحكام.. الخ، وهل سيحاسبنا ربنا تباعا. أو هناك موازين متعددة، بدليل أن سيدنا الإمام عليا عندما سألوه : أيحاسب الله خلقه جميعا في وقت واحد ؟ فقال : وأي عجب في هذا ؟ أليس هو رازقهم في وقت واحد ؟ إذن فالميزان بالنسبة لله مسألة سهلة جدا. وهيّنة فسبحانه لا يتأبى عليه شيء.
﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ٩ ﴾
( من الآية ٩ سورة الأعراف ) : نعم هم قد خسروا أنفسهم فكل منهم كان يأخذ شهوات ويرتكب سيئات يمتع بها نفسه، ويأتي اليوم الآخر ليجد نفسه قد خسر كل شيء، وكما يقول المثل العام : خسر الجلد والسقط. لماذا ؟ تأتي الإجابة من الحق :﴿ بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ﴾.
ويقول سبحانه بعد ذلك :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ١٠ ﴾.
المُمَكّن هو الذي يحتل المكان بدون زحزحة ؛ فيقال : مكّنتك من كذا. أي أعطيتك المكان ولا ينازعك أحد فيه. وقد مكننا سبحانه في الأرض وجعل لنا فيها وسائل استبقاء الحياة، وترف الحياة، وزينة الحياة، ورياش الحياة، ولم تبخل الأرض حين حرثناها، بل أخرجت لنا الزرع، ولم تغب الشمس عنا بضوئها وإشعاعها وحرارتها. ما في الدنيا يؤدي مهمته، ولم نمكِّن في الأرض بقدراتنا بل بقدرة الله. وكان يجب ألا يغيب ذلك عن أنظارنا أبدا. فلا أحد منا مسيطر على الشمس أو القمر أو الريح أو الأرض، ولكن الذي خلقها وجعلها مسخرة، هو ربك وربها ؛ فأنت ممَكّن، وكل شيء مستجيب لك. بتسخير الله له.
﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ١٠ ﴾( سورة الأعراف ) : و " معايش " جمع معيشة، والمعيشة هي الحياة، فالعيش هو مقومات الحياة، ولذلك سموا الخبز في القرى عيشا لأن عندهم دقة بالغة ؛ لأنهم عرفوا أنه مقوّم أساسي في الحياة.
وقول الحق :﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ دل على أن هناك من يشكر، ومن الناس من يشكر نعم الله شكرا عاما على مجموع النعم، أو يشكره شكرا خاصا عند كل نعمة، ولكن عند جزيئات النعمة الواحدة، فعندما يبدأ في الأكل يقول : " بسم الله الرحمن الرحيم }، ويقول بعد الأكل : " الحمد لله " ؛ وهناك من يقول عند تناول لقمة واحدة : " بسم الله " وعندما يمضغها ويبلعها يقول " الحمد لله " لأنها تقف في حلقه، وأيضا حين نشرب علينا أن نشرب على ثلاث دفعات : أول دفعة نقول : " بسم الله ". وننتهي منها فنقول : " الحمد لله " وكذالك الدفعة الثانية والثالثة. ومن يفعل ذلك فلا يتأتّى منه معصية، ما دامت آثار شربة الماء هذه في جسمه ؛ لأنها كلها " بسم الله ". فتحرسه من الخطيئة ؛ لأن النعمة الواحدة لو استقصيتها لوجدت فيها نعما كثيرة.
وأنتم حين لا تشكرون إنما تضيقون عليكم أبواب النعم من الله ؛ لأنكم لو شكرتموه على النعم لزادت النعم عليكم، ﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾ ومن الحمق ألا نشكر.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ١١ ﴾.
ومسألة الخلق سبق أن تقدمت في سورة البقرة : خلق آدم، والشيطان، والقضية تتوزع على سبع سور، في سبعة مواضع موجودة في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة الحج، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة ص، إلا أن القصة في كل موضع لها لقطات متعددة، فهنا لقطة، وهناك لقطة ثانية، وتلك لقطة ثالثة، وهكذا ؛ لأن هذه نعمة لابد أن يكررها الله ؛ لتستقر في أذهان عباده، ولو أنه ذكرها مرة واحدة فقد تُنسى، لذلك يعيد الله التذكير بها أكثر من مرة. وإذا أراد الله استحضار النعم والتنبيه عليها في أشياء، فهو يكررها كما كررها في استحضار النعم في سورة واحدة في قوله سبحانه :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾. إنه يذكر هذه النعم من بدايتها، فيقول :﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ( ١٤ ) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ( ١٥ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ١٦ ) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( ١٧ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ١٨ ) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( ١٩ ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ( ٢٠ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٢١ ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( ٢٢ ) ﴾ [ سورة الرحمن ].
﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( ٢٤ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٢٥ ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( ٢٦ ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( ٢٧ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ سورة الرحمن ]. وكل نعمة يقول بعدها :﴿ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
وأراد سبحانه بذلك أن يكثر ويردد تكرارها على الآذان لتستقر في القلوب حتى في الآذان الصماء ؛ فمرة يأتي بها في شيء ظاهره أنه ليس نعمة، مثل قوله :
﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ( ٣٥ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ سورة الرحمن ] : وجاء الحق بذكر كل ذلك ؛ لأنه ساعة يجلي لنا الأمور على حقائقها ونحن في در التكليف فهذه رحمة ونعمة منه علينا ؛ لأن ذلك يدعونا إلى اتقاء المحظورات والبعد والتنحي عن المخالفات.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فحين يدخل الابن إلى المدرسة نقول له : إن قصرت في كذا فسوف ترسب، وأنت بهذا القول ترحمه بالنصيحة، فلم تتركه دون أن تبصره بعواقب الأمور، وأيضا ساعة ترى شرا يحيق بالكافرين، فإن هذا الأمر يسرك، لأنه لو تساوى الكافرون مع المؤمنين لما كان للإيمان فضل أو ميزة، فالعذاب نقمة على الكافر، ونعمة على المقابل وهو المؤمن.
وقد جاءت قصة خلق آدم بكل جوانبها في القرآن سبع مرات ؛ لأنها قصة بدء الخلق، وهي التي تجيب عن السؤال الذي يبحث عن إجابته الإنسان، لأنه تلفت ليجد نفسه في كون معد له على أحسن ما يكون. ولم يجئ الكون من بعد الإنسان، بل طرأ الإنسان على الكون، وظل السؤال واردا عن كيفية الخلق، والسؤال مهم أهمية وجود الإنسان في الكون، فأنت تستقرئ أجناسا في الكون، وكل جنس له مهمة. ومهمته متعلقة بك، جماد له مهمة، ونبات له مهمة، وحيوان له مهمة، وكلها تصب في خدمتك أنت ؛ لأن الجماد ينفع النبات، ويتغذى منه لكي يغذي الحيوان، والحيوان ينفعك ويغذيك، إذن فكل الأجناس تصب في خدمتك. أما أنت أيها الإنسان فما عملك في هذا الكون ؟ ؛ لذلك كان لابد أن يتعرف الإنسان على مهمته. وأراد الحق سبحانه أن يعرِّف الإنسان مهمته ؛ لأنه جل وعلا هو الصانع، وحين يبحث الإنسان عن صانعه تتجلى له قدرة الله في كل ما صنع. وكان لابد أيضا أن يستقبل الإنسان خبرا من الخالق.
إنه سبحانه يُنزل لنا المنهج من السماء ويصاحب هذا المنهج معجزة على يد رسول، وأنزل الحق عليه المنهج وأوكل له مهمة البلاغ. فالرسول يخبر، ثم نستدل بالمعجزة على صدق خبره. فكان من اللازم أن نصدق الرسول، لأنه قادم بآية ومعجزة من الله.
والرسول عليه الصلاة والسلام جاء بالرسالة في سن الأربعين ومعه المنهج المعجزة، وأبلغنا أنه رسول من الله. وكان لابد أن نبحث لنتثبت من صدق البلاغ عن الله بالتعقل في دعواه ؛ فهذا الرسول جاء بعد أربعين سنة من ميلاده ومعه معجزة من جنس ما نبغ فيه قومه، وليس من جنس ما نبغ فيه هو، إن معجزته ليست من عنده، بل هي من عند الله ؛ لأن الرسول جاء بالمعجزة بعد أربعين سنة من ميلاده، ومن غير المعقول أن تتفجر عبقرية بعد أربعين سنة من الميلاد ؛ لأننا نعلم أن العبقريات تأتي في آخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من عمر الإنسان، ونلتفت فنجده يتكلم كل الكلام البلاغي المعجز. وليس من المعقول أن يأتي بأخبار الكون وهو الأميّ الذي مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو في السادسة، وكذلك مات جده. ورأى الناس يتساقطون من حوله، فمن الذي أدراه إذن أنه سيمهل ويمد في أجله إلى أن يصل إلى الأربعين ليبلغنا بمعجزته ؟. ولذلك نجد القرآن يستدل على هذه، فيقول :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ ﴾( سورة يونس ) : وهكذا تتجلى الحجة القوية من أنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ بما يوحى إليه، ويتأكد ذلك مرة ثانية في قوله الحق :﴿ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٦ ) ﴾ ( سورة يونس ).
وهنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقى الأمر من الله بأن يبيّن لهم : هل علمتم عني خلال عمري أني قلت شعرا أو حكمة أو جئتكم بمثل ؟ إذن إن نحن عقلنا الأمر وتبصرنا وتأملنا دعواه لصدقنا أنه رسول الله، وأن المعجزة نزلت عليه من السماء.
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ١١ ﴾( سورة الأعراف ).
وهكذا نرى أن مسألة الخلق والإيجاد، كان يجب على العقل البشري أن يبحث فيها، ليعلم مهمته في الوجود. وحين يبحث فيها ليعلم مهمته في الوجود يجب عليه أن يترك كل تخمين وظن ؛ لأن هذه المسألة لا يمكن أن نأتي فيها بمقدمات موجودة لتدلنا على كيفية خلقنا ولا لأي شيء ومهمة خلقنا ! فكيفية الخلق كانت أمرا غيبيا وليس أمامنا ما نستقرئه لنصل إلى ذلك. وقد حكم الله في قضية الخلق، سواء أكان الأمر بالنسبة للسماوات والأرض وما بينهما أم للإنسان، وقد حكم سبحانه في هاتين القضيتين، ولا مصدر لعلم الأمر فيهما إلا من الله سبحانه، وأغلق باب الاجتهاد فيها، وكذلك باب التخمين، وسمى القائمين بكل بحث بشرى في هذا المجال بأنهم ضالون مضللون، ولذلك قال ليحكم هذه القضية ويحسمها، ويريح العقول من أن تبحث فيها ؛ قال :﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( ٥١ ) ﴾ ( سورة الكهف ) : فكأن الذي يقول : كيف خلقت السماوات والأرض وكيف خلق الإنسان هو مضل ؛ لأن الله لم يشهده، ولم يكن هذا القائل عضدا لله ولا سندا ولا شريكا له.
وقص سبحانه علينا قصة خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان، وهذه الآية تتعرض لخلق الإنسان. ومن يبحث بحثا استقرائيا ويرجع إلى الوراء فلابد أن يجد أن الأمر منطقي ؛ لأن العالم يتكاثر، وتكاثره أمر مرئي، وليس التكاثر في البشر فقط، بل فيمن يخدمون البشر من الأجناس الأخرى، نجد فيهم ظاهرة التكاثر نباتا وحيوانا، وإذا ما نظرنا إلى التعداد من قرن وجدنا العدد يقل عن التعداد الحالي وهو خمسة آلاف مليون، وكلما عدنا ورجعنا إلى الزمن الماضي يقل التعداد إلى أن نصل إلى اثنين ؛ لأن الخلق إنما يأتي من اثنين، وحل الله لنا اللغز فقال :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾( من الآية ١ سورة النساء ) : وهذا كلام صحيح يثبته الإحصاء وييقنه ؛ لأن العالم يتكاثر مع مرور الزمن مستقبلا. ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ ( من الآية ١ سورة النساء ) : وهذا كلام صادق. وسبحانه القائل :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾( من الآية ٤٩ سورة الذاريات ).
وأبلغنا سبحانه بقصة آدم، وكيفية خلق حوّاء فها أخذ جزءا من آدم وخلق منه حوّاء ؟ قد يصح ذلك، أو خلق منها زوجها ويكون المقصود به أنه خلقها من الجنس نفسه وبالطريقة نفسها ؟ وذلك يصح أيضا، فسبحانه قد اكتفى بذكر خلق آدم عن ذكر خلق حوّاء، وأعطانا النموذج في واحد، وقال :﴿ وخلق منها زوجها ﴾. و " منها " في هذه الآية يحتمل أن تكون تبعيضية، مثلها قوله الحق :﴿ رسول من أنفسكم ﴾ : فسبحانه لم يأخذ قطعة من العرب وقال : إنها " محمد "، بل جعل محمدا صلى الله عليه وسلم من الجنس نفسه خلقا وإيجادا، وسبحانه حين يتكلم هنا يقول للملائكة :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾( من الآية ٣٠ سورة البقرة )، وهذا هو أول بلاغ، ثم أتبع ذلك :﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( ٢٩ ) ﴾( سورة الحجر )، إذن فقبل نفخ في الروح ستوجد تسوية، فلمن تحدث التسوية، ومن هو " المسوّى منه " ؟. إن التسوية لآدم. وجاء القول بأنه من صلصال، ومن حمأ مسنون، ومن تراب، ومن طين ؛ إنها مراحل متعددة، فإن قال سبحانه عن آدم : إنه من تراب، نقول نعم، وإن قال : " من ماء " نقول : نعم، وإن قال " من طين " فهذا قول حق ؛ لأن الماء حين يختلط بالتراب يصير طينا. وإن قال :﴿ من حمأ مسنون ﴾، فهذا جائز ؛ لأن الحمأ طينٌ اختمر فتغيرت رائحته ثم جف وصار صلصالا. إذن فهي مراحل متعددة للخلق، ثم قال الحق :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾. وهكذا تكتمل فصول الخلق، ثم قال :﴿ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾.
ويقول العلماء : إن المراد من السجود هو الخضوع والتعظيم، وليس السجود كما نعرفه، وقال البعض الأخر : المراد بالسجود هو السجود الذي نعرفه، وأن آدم كان كالقبلة مثل الكعبة التي نتجه إليها عند الصلاة. ولكن لنا هنا ملاحظة، ونقول : إننا لا نسجد إلا لله، وما دام ربنا قد قال : اسجدوا فالسجود هو امتثال لأمر خالق آدم. والنية إذن لم تكن عبادة لآدم، ولكنها طاعة لأمر لله الأول. والأمر بالسجود لآدم قد أراده الله ؛ لأنه سبحانه سخر الكون كله لخدمة آدم، ومن الملائكة مدبرات أمر، ومنهم حفظة، ومنهم من هو بين يدي الله، فلم يكن السجود للملائكة خضوعا من الملائكة لآدم، ب
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( ١٢ ) ﴾.
ثم قال كما يحكي القرآن الكريم :﴿ أأسجد لمن خلقت طينا ﴾ ( من الآية ٦١ سورة الإسراء )، وهكذا كان الموقف استكبارا واستعلاءً. وقوله الحق :﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ ( من الآية ٧٥ سورة ص ) : ونحن حين نحلل هذا النص، نجد قوله :﴿ ما منعك ﴾ أي ما حجزك، وقد أورد القرآن هذه المسألة بأسلوبين، فقال الحق مرة :﴿ ما منعك ألا تسجد ﴾. وقال مرة أخرى :﴿ ما منعك أن تسجد ﴾. وهذا يعني أن الأسلوب الأول جاء ب " لا " النافية، والأسلوب الثاني جاء على عدم وجود " لا " النافية. وقوله ﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ كلام سليم واضح ؛ يعني : ما حجزك عن السجود. لكن ﴿ ما منعك ألا تسجد ﴾ هي التي تحتاج لوقفة. لذلك قال العلماء : إن " لا " هنا زائدة، ومن أحْسَن الأدب منهم قال : إن " لا " صلة. لكن كلا القولين لا ينفع ولا يناسب ؛ لأن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة " منع " ولأي أمر تأتي، وأنت تقول : " منعت فلانا أن يفعل "، كأنه كان يهم أن يفعل فمنعته.
إذن ﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ كأنّه كان عنده تهيؤ للسجود، فجاءت قوة أقوى منه ومنعته وحجزته وحالت بينه وبين أن يسجد. لكن ذلك لم يحدث. وتأتي " منع " للامتناع بأن يمتنع هو عن الفعل وذلك بأن يقنعه غيره بترك السجود فيقتنع ويمتنع، وهناك فرق بين ممنوع، وممتنع ؛ فممنوع هي في ﴿ منعك أن تسجد ﴾، وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه. وإن كان المنع من الامتناع فالأسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود. وهذا هو السبب في وجود التكرار في القرآن. ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾( من الآية ١٢ سورة الأعراف ).
وسبحانه قد أمر الملائكة وكان موجودا معهم إما بطريق العلو، لأنه فاق الملائكة وأطاع الله وهو مختار فكانت منزلته عالية، وإما بطريق الدنو ؛ لأن الملائكة أرفع من إبليس بأصل الخلقة والجبلة، وعلى أي وضع من العلو والدنو كان على إبليس أن يسجد، ولكنه قال في الرد على ربه :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ١٢ ﴾ [ سورة الأعراف ].
وسبحانه لم يسأل إبليس عن المقارنة بينه وبين آدم، ولكن سأله وهو يعلم أزلا أنّ إبليس قد امتنع باقتناع لا بقهر، ولذلك قال إبليس : أنا خير منه، فكأن المسألة دارت في ذهنه ليوجد حيثية لعدم السجود. ولا يصح في عرفه الإبليسي أن يسجد الأعلى للأدنى، فمادام إبليس يعتقد أنه خير من آدم ويظن أنه أعلى منه، فلا يصح أن يسجد له. وأعلى منه لماذا ؟ لأنه قال :﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ فكأن النار لها علو، وهو في ذلك مخطئ تماما لأن الأجناس حين تختلف ؛ فذلك لأن لكل جنس دوره، ولا يوجد جنس أفضل من جنس، النار لها مهمة، والطين له مهمة، والنار لا تقدر أن تؤدي مهمة الطين، فلا يمكن أن نزرع في النار.
إذن فالخيرية تتأتى في الأمرين معا ما دام كل منهما يؤدي مهمته، ولذلك لا تقل : إن هذا خير من هذا، إنما قل : عمل هذا أحسن من عمل هذا، فكل شيء في الوجود حين يوضع في منزلته المرادة منه يكون خيرا، ولذلك أقول : لا تقل عن عود الحديد إنه عود مستقيم، وتقول عن الخطاف : إن هذا العود أعوج، لأن مهمة الخطاف تقتضي أن يكون أعوج، وعوجه هو الذي جعله يؤدي مهمته، لأن الخيرية تتأتى في متساوي المهمة، ولكن إبليس قال :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ.. ١٢ ﴾ [ الأعراف ] : قالها للمعاندة، للكبر، للكفر حين أعرض عن أمر الله وأراد أن يعدل مراد الله في أمره، وكأنه يخطِّئ الحق في أمره، ويردّ الأمر على الآمر. فما كان جزاء الحق سبحانه وتعالى لإبليس إلا أن قال له :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ١٣ ﴾.
والهبوط يستدعي الانتقال من منزلة عالية إلى منزلة أقل، وهذا ما جعل العلماء يقولون إن الجنة التي وصفها الله بأنها عالية هي في السماء، ونقول : لا، فالهبوط لا يستدعي أن يكون هبوطا مكانيا، بل قد يكون هبوط مكانة، وهناك فرق بين هبوط المكان، وهبوط المكانة، وقد قال الحق لنوح عليه السلام :﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ.. ( ٤٨ ) ﴾. [ سورة هود ].
أي اهبط من السفينة، إذن مادة الهبوط لا تفيد النزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى، إنما نقول من مكان أو من مكانة :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ : وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلا لأن يكون في محضر الملائكة ؛ فقد كان في محضر الملائكة ؛ لأنه ألزم نفسه بالطاعة، وهو مخلوق على أن يكون مختارا أن يطيع أو أن يعصى، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلا لأن يكون في هذا المقام، وذلك أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ.. ١٣ ﴾ [ سورة الأعراف ] : أي ينبغي لك أن تتكبر فيها.
إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على الآمر، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فما دمت أنت أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلا لها، فكأن العمل هو الذي أهّله أن يكون في العلو، فلما زايله وفارقه كان أهلا لأن يكون في الدنو، وهكذا لم يكن الأمر متعلقا بالذاتية، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في أنه من نار وآدم من طين ؛ لأن المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل، ومن حكمة الحق أن الجن يأخذ صورة القدرة على أشياء لا يقدر عليها الإنس، مثل السرعة، واختراق الحواجز، والتغلب على بعض الأسباب، فقد ينفذ الجن من الجدار أو من الجسم، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم )١، وهو ذلك مثل المكروب، لأن هذه طبيعة النار، وهي المادة التي خُلق منها. وهي تتعدى الحواجز. والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه يقدر على أن ينفذ من أي شيء، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن : لا تعتقد أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا التميز، وإنما هي إرادة المُعَنْصر، بدليل أنه جعلك أدنى من مكانة الإنسان، إنه سبحانه يجعل إنسيا مثل سيدنا سليمان مخدوما لك أيها الجني، إنه يسخرك ويجعلك تخدمه. وأنه في مجلس سليمان، جعل الذي عنده علم من الكتاب، يأتي بقوة أعلى من قوة " عفريت " من الجن. فالحق هو القائل :﴿ قال عفريت من الجن.. ٣٩ ﴾ [ سورة النمل ] : وهذا يدل على أن هناك أذكياء وأغبياء في عالم الجن أيضا. وجاء الذي عنده علم من الكتاب فتسامى فوق عفريت الجن في الزمن، فقد قال هذا العفريت :﴿ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ.. ( ٣٩ ) ﴾ [ سورة النمل ] :
والمقام هو الفترة الزمنية التي قد يقعدها سليمان في مجلسه، فماذا قال الذي عنده علم من الكتاب وهو إنسان ؟.
﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.. ٤٠ ﴾ [ سورة النمل ] : كأنه سيأتي بعرش بلقيس قبل أن ينته سليمان من ردّ طرفه الذي أرسله ليبصر به شيئا، إن سليمان رأى العرش بين يديه، ولذلك نجد عبارة القرآن معبرة :﴿ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ﴾ ( من الآية ٤٠ سورة النمل ) : كأن المسألة لا تتحمل. بل تم تنفيذها فورا. إذن فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر : إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم، إنني أقدر بطلاقة قدرتي أن أجعل الأدنى يتحكم في الأعلى ؛ لأنها إرادة من عَنْصر العناصر. ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ١٣ ﴾( سورة الأعراف ) : وكلمة ﴿ فاهبط ﴾ تشير وتدل على أن الهبوط أمر معنوي، أي أنك لست أهلا لهذه المنزلة ولا لتلك المكانة. هذا ما تدل عليه كلمة ﴿ فاهبط ﴾، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالخروج من المكان.
والصّغَار هو الذل والهوان ؛ لأنه قابل الأمر باستكبار، فلابد أن يجازي بالصّغَار. وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده، والمعاملة بضد المقصد لون من التأديب والتهذيب والتعليم ؛ مثلما يقرر الشرع أن الذي يقتل قتيلا يحرم من ميراثه، لأنه قد قتله ليعجل الإرث منه، ولذلك شاء الله أن يحرمه من الميراث ؛ فبارتكابه القتل صار محجوبا عن الميراث.
١ رواه البخاري في الأدب، ومسلم في السلام، وأبو داود في السنة، وابن ماجة في الصوم، ورواه أحمد ٣/١٥٦، ٢٨٥، ٣٣٧..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ١٤ ﴾.
ومعنى ﴿ أنظرني ﴾ أمهلني أي لا تلمني بسرعة، ولا تجعل أجلي أجلى قريبا، بدليل قوله سبحانه :﴿ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ١٥ ﴾.
فالإنظار طلب الإمهال، وعدم التعجيل بالموت، وقد طلبه إبليس لكي يشفي غليله من بني آدم وآدم ؛ لأنه جاء له بالصّغَار والذلة والطرد والهبوط، ولذلك أصر على أن يجتهد في أن يغري أولاد آدم ليكونوا عاصيين أيضا. وكأن إبليس في هذا الطلب أراد أن يُنْقذ من الموت وأن يبقى حيا إلى يوم البعث الذي فيه كل من مات. وكأنه يريد أن يقفز على قول الحق :﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾( من الآية ١٨٥ سورة آل عمران ) : فأوضح الحق : أن تأجيل موتك هو إلى يوم الوقت المعلوم لنا وغير المعلوم لك ؛ لأن الأجل لو عرف فقد يعصى من يعلمه مدة طويلة ثم يقوم بالعمل الصالح قبل ميعاد الأجل، ولكن الله أراد بإبهام زمان الموت أن يشيع زمانه في كل وقت. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ إلى يوم الوقت المعلوم ٣٨ ﴾ ( سورة الحجر ) : والوقت المعلوم هو النفخة الأولى :
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ( ٦٨ ) ﴾( سورة الزمر ).
وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى النفخة الثانية، لكن ربنا أوضح أنه باق إلى وقت معلوم، وآخر الوقت المعلوم هذا لابد أن يكون قبل النفخة الأولى.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦ ﴾ : والإغواء. إغراء بالمعصية، ومن الإغواء الغيّ وهو : الإهلاك، يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ .. فسوف يلقون غيا ٥٩ ﴾ [ سورة مريم. ]
وحين نقرأ ﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ أي فبإغوائك يا الله لي سأفعل كذا وكذا، وبذلك يكون قد نسب الإغواء لله. لكن هل يغوي ربنا أو يهدي ؟. إن الله يهدي دلالة وتمكينا، وسبق أن تكلمنا كثيرا عن هداية الدلالة ودلالة التمكين، وسبحانه خلق الشيطان مختارا، ولم يخلقه مرغما ومسخرا كالملائكة، ولأنه قد خلق مختارا فقد أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصى، وكأن الشيطان بقوله هذا يتمنى لو أنه قد خلق مقهورا. ويقول إن الله هو الذي أعطاه سبب العصيان. ولم يلتفت إلى أن الاختيار إنما هو فرصة لا للغواية فقط، ولكنه فرصة للهداية أيضا. وأنت أيها الشيطان الذي اخترت الغواية.
إذن فقول الشيطان :﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ إنما يريد به الشيطان : أن يدخل بمعصيته على الله، ونقول له : لا، إن ربنا لم يغو ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يغوي وإنما يهدي ؛ لأن الله لو خلقه مرغما مقهورا ما أعطاه فرصة أن يختار كذا أو يختار كذا ؛ فقد خلقه على هيئة " افعل " و " لا تفعل "، واختار هو ألا يفعل إلا المعصية. ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦ ﴾( سورة الأعراف ) : والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم، والقعود لون من ألوان حركة الجسم الفاعل ؛ لأن المتحرك إما أن يكون قائما، وإما أن يكون قاعدا، وإما أن يكون مضجعا نائما. وأريح الحالات أن يكون نائما مضجعا ؛ لأن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحا بفعل الجاذبية الأرضية، وحين يكون الإنسان قاعدا تقاومه الجاذبية قليلا، وحين يكون واقفا فهو يحمل ثقل جسمه على قدميه، ولذلك نقول لمن وقف طويلا على قدميه : " اقعد حتى ترتاح " ولو قعد وكان متعبا فيقال له : " اضجع قليلا لترتاح ".
ولماذا اختار الشيطان أن يقول :﴿ لأَقْعُدَنَّ ﴾ ؟ حتى يكون مطمئنا، فقد تعب من الوقفة، أيضا وهو في حالة قعود يكون متنبها متيقظا، والحق يقول :﴿ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.. ٥ ﴾ [ سورة التوبة ] : ولم يقل : " قفوا " حتى لا يرهق الناس أنفسهم بالوقوف الطويل، ولكن ساعة يواجهون الأمر فعليهم بالنهوض. والقعود أقرب إلى الوقوف، لأن الأضجع أقرب إلى التراخي والنوم، وقد اختار الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته، ويبقى له انتباهه :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦ ﴾. ومادام الشيطان سيغوي، وسيضل الغير، فسيختار للغواية من يكون في طريق الهداية. إنما من غوى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من ناحيته ولا يريده، وتلك ظاهرة تحدث للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة ؛ فالشاب الطائع الملتزم يحاول الشيطان أن يخايله ليصرفه عن الصلاة والطاعة ؛ لأن الشيطان يتلصص على دين الإنسان، فهو كاللص، واللص لا يحوم حول بيت خرب. إنما يحوم اللص حول بيت عامر بالخير.
إننا نلاحظ هذه المسألة في كل الناس حينما يأتون للصلاة فيقول الواحد منهم : حينما أصلي يأتي له الوسواس، ويشككني في الصلاة، نقول له نعم هذا صحيح، وحين يأتي لك هذا الوسواس، فاعتبره ظاهرة صحية في الإيمان ؛ لأن معناه أن الشيطان عارف أن عملك مقبول، ولذلك يحاول أن يفسد عليك الطاعة ؛ لأنك لو كنت فاسدا من البداية، ووقفت للصلاة دون وضوء لما جاءك الوسواس. لكن الشيطان يريد أن يفسد عليك الطاعة ولذلك يقول الله :﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. ( ٢٠٠ ) ﴾. ﴿ سورة الأعراف ﴾.
لماذا ؟. لأن الله خلقك وخلقه، وإن كنت لا تستطيع دفعه لأنه يجري منك مجرى الدم في العروق وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي لا تضبطها ؛ ويأتي إليك بمهام الأشياء في وقت الصلاة ؛ فتتذكر الأشياء التي لم تكن تتذكرها، ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت تصلي، وكل ذلك لأنه قال :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾، ولم يقل إنه سيقعد على الطريق المنحرف، ولن يجلس الشيطان في مجلس خمر، لكنه يقعد على أبواب المساجد أو في المساجد ليفسد للناس أعمالهم الصالحة. فماذا نفعل في هذه الحال ؟. يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ :﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾ : فمعنى ﴿ فاستعذ ﴾ أي فالتجأ منه إلى الله ؛ لأن الله الذي أعطاه الخاصية في أن يتغلغل فيك، وفي دمك، وفي خواطرك، هو القادر على منعه، وحين تقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " بفزع والتجاء إليه سبحانه فإنه جل شأنه ينقذك منه. وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من الشيطان فقل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين جاءت هذه النزغة : مرة واثنتين وثلاثا، فيقول الشيطان لنفسه : إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر لا أستطيع غوايته، ولأبحث عن غيره.
ولذلك رأينا الإمام أبا حنيفة، وقد شهر عنه الفتيا، وذهب إليه سائل يقول : ضاع مني مال في أرض كنت قد دفنته فيها، ولا أعرف الآن مكانه. دلني عليه أيها الشيخ ؟. وبطبيعة الحال كان هذا السؤال في غير العلم، فقال أبو حنيفة : يا بني ليس في ذلك شيء من العلم، ولكني أحتال لك ؛ إذا جاء الليل فقم بين يدي ربك مصليا هذه الليلة، لعل الله سبحانه وتعالى يبعث لك جندا من جنوده يقول لك عن مكان مالك.
وبينما أبو حنيفة يؤدي صلاة الفجر، وإذا بالرجل يقبل ضاحكا مبتسما قائلا : يا إمام لقد وجدت المال، فضحك أبو حنيفة، وقال : والله لقد علمت أن الشيطان لا يدعك تتم ليلتك مع ربك، وسيأتي ليخبرك، فهلا أتممتها شكرا لله، هيا قم على الصلاة. إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد : وكيف يقسم، لأنه في آية أخرى يقول :﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٨٢ ﴾ ( سورة ص ) : لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته ؛ فقال :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ ﴾ أي بامتناعك عن خلقك وعدم حاجتك إليهم فأنت الغالب الذي لا يقهر ؛ لأنك إن أردتهم ما استطعت أن آخذهم، لكنك شئت لكل إنسان أن يختار :﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الكهف ).
فأقسم، ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الإنسان :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾واستدرك على نفسه أيضا وقال :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين٨٣ ﴾( سورة ص ) : لأن الذي يريده الله مهديا لا يستطيع الشيطان أن يغويه ؛ لأنه لا يناهض ربنا ولا يقاومه، إنما يناهض خلق الله، ولا يدخل مع ربنا في معركة، إنما يدخل مع خلقه في معركة ليس له فيها حجة ولا قوة ؛ لأن الذي يغلب في المعارك إما أن يرغمك على الفعل، وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون إرغام. وهل يملك إبليس واحدة من هذه ؟. لا، ولذلك سيأتي في الآخرة يقول :﴿ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم ) : والسلطان قسمان : سلطان يقهر، وسلطان يقنع. والشيطان يدخل على الإنسان من هذه الأبواب.
ويقول الحق بعد ذلك على لسان إبليس :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ١٧ ﴾.
فالذي بين اليد هو ما كان إلى الأمام، ﴿ ومن خلفهم ﴾ أي من الوراء، و ﴿ عن أيمانهم ﴾ أي من جهة اليمين، و﴿ عن شمائلهم ﴾ أي من جهة اليسار. والشيء الذي أمام العالم كله، ونسير إليه جميعا هو ﴿ الدار الآخرة ﴾ وحين يأتي الشيطان من الأمام فهو يشككهم في حكاية الآخرة ويشككهم في البعث. ويحاول أن يجعل الإنسان غير مقبل على منهج الله، فيصير من الذين لا يؤمنون بلقاء الله، ويشكّون في وجود دار أخرى سيُجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله :﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( ١٦ ) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ( ١٧ ) ﴾ ( سورة الصافات ) : ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضا لا يجعل للشيطان منفذا فيها، فيوضح لنا أنه سبحانه لم يعجز عن خلقنا أولا ؛ لذلك لن يعجز عن إعادتنا، والإعادة بالتأكيد أهون من البداية ؛ لأنه سيعيدهم من موجود، لكن البداية كانت من عدم، إنه سبحانه عندما يبين للناس أن الإعادة أهون من البداية فهو يخاطبهم بما لا يجدون سبيلا إلى إنكاره، وإلا فالله جل شأنه تستوي لدى طلاقة قدرته كل الأعمال فليس لديه شيء سهل وهيّن وآخر صعب شاق ويبلغنا سبحانه بتمام إحاطة علمه فيقول :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( ٤ ) ﴾ ( سورة ق ) : أي أن لكل واحد كتابا مكتوبا فيه كل عناصره وأجزائه.
والشيطان أيضا يأتي من الخلف، وخلف كل واحد منا ذريته، يخاف ضيعتهم، فيوسوس الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء مستقبل الأبناء، وفساد أناس كثيرين يأتي من هذه الناحية، ومثل هذا الفساد يأتي حين يبلغ بعض الناس منصبا كبيرا، وقد كبرت سنه، ويقبل على الله بشرّ، ويظن أنه يترك عياله بخير. لكن إن كنت تخاف عليهم حقا فأمن عليهم في يد ربهم، ولا تؤمن حياتهم في جهة ثانية.
﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( ٩ ) ﴾ ( سورة النساء ) : ولماذا يأت الشيطان للإنسان من فوق ومن تحت لأن الفوقية هي الجهة التي يلجأ إليها مستغيثا ومستجيرا بربه، والتحتية هي جهة العبودية الخاصة فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فهو في هاتين الحالتين محفوظ من تسلط الشيطان عليه ؛ لأن الله تعالى يقول :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾. ويقول تعالى :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ١٧ ﴾( سورة الأعراف ) : ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل الحسن والطاعة. واليمين رمز العمل الحسن ؛ لأن كاتب الحسنات على اليمين، وكاتب السيئات على الشمال، ويأتي عن شمائلهم ليغريهم بشهوات المعصية. ونلحظ أن الحق استخدم لفظ ﴿ عن أيمانهم ﴾ و﴿ عن شمائلهم ﴾ ولم يأت ب " على " لأن " على " فيها استعلاء، والشيطان ليس له استعلاء أبدا ؛ لأنه لا يملك قوة القهر فيمنع، ولا قوة الحجة فيقنع. ولأن أكثر الناس لا تتذكر شكر المنعم عليهم، فيجيد الشيطان غوايتهم. ولذلك يقول الحق تذييلا للآية :﴿ .. وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ( ١٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٨ ) ﴾ :
لقد بلغ الغرور بالشيطان إن تخيل أنه ذكي، فشرح لنا خطته ومنهجه فدلل لنا على أن حكم الله فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفا، فسبحانه القائل :﴿ .. إن كيد الشيطان كان ضعيفا ٧٦ ﴾ ( سورة النساء ).
لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره، والناصح هو من يحتاط، ويأخذ المناعة ضد النزغ الشيطاني. وهنا يقول الحق :﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا.. ١٨ ﴾ ( سورة الأعراف ). وقال له الحق من قبل :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ( ١٣ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان، ثم هنا أيضا تأكيد بأنه في حالة الخروج سيكون مصاحبا للذم والصغار والطرد واللعن. ويقول الحق سبحانه :﴿ .. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٨ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : وفي هذا إخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم، ولم يعدها سبحانه لتسع الكافرين فقط، لكنه أعدّها على أساس أن كل الخلق قد يكفرون به سبحانه، كما أعدّ الجنة على أساس أن الخلق جميعا يؤمنون به ؛ فليس عنده ضيق مكان، وإن آمن الخلق جميعا ؛ فإنه جل شأنه قد أعد الجنة لاستقبالهم جميعا، وإن كفروا جميعا فقد أعدّ النار لهم جميعا ؛ تأكيدا لقوله الحق :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ( ١٠ ) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ١١ ) ﴾[ سورة المؤمنون ]، وقوله الحق :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( ٩٨ ) ﴾ [ سورة الأنبياء ].
وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة أمر الآمر الأعلى بالسجود لآدم.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) ﴾.
ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد أن تناول مسألة إبليس فيقول :﴿ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ : كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة هي جنة الآخرة والخلود، واعترض البعض متسائلين : كيف يدخل إبليس جنة الخلود ؟. وكيف يخرج منها ؟. وهل الذي يدخل الجنة يخرج منها ؟. وهؤلاء العلماء الذين قالوا : إن الجنة هي جنة الآخرة، لم يفطنوا إلى مدلول كلمة " جنة " ؛ فساعة تطلق كلمة جنة، تأخذ ما يسمى في اللغة " غلبة الاستعمال "، أي تأخذ اللفظ من معانيه المتعددة إلى معنى واحد يستقل به عرفا، بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه، فأنت إذا سمعت يا مؤمن كلمة الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الآخرة ؛ لأنها هي التي تعتبر جنة بحق، ولكن حينما يأتي اللفظ في القرآن والمتكلم هو الله، فلابد أولا أن ندرس اللفظ واستعمالاته في اللغة ؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله معان متعددة. وعندما يتعلق الأمر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه اللغوي، ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي.
مثال ذلك كلمة " الحج " فأنت ساعة تسمع كلمة " الحج " تقول : هو قصد بيت الله الحرام للنسك والعبادة في أشهر معلومة، على الرغم من أن " الحج " في اللغة هو القصد، فإذا قصدت أي شيء تقول : حججت إليه. فلما جاء الإسلام أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى الشرعي، وهو قصد البيت الحرام للنسك، وكذلك كلمة " الصلاة " إنها في اللغة الدعاء، فقوله تعالى :﴿ وصل عليهم ﴾ : أي أدع لهم، ولما جاء الإسلام أخذ الكلمة من اللغة، وجعلها تطلق على معنى اصطلاحي جديد بحيث إذا أطلق انصرفت إليه، وهي الأقوال والأفعال المخصوصة، المبدوءة بالتكبير المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة.
ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له الشرع معنى اصطلاحيا أن هذا يكون تركا لمعناه الأصلي ؟. لا ؛ لأنك إن أردت أن تستعمله في معناه الأصلي فلك ذلك، ولكنك تحتاج إلى قرينة تدل على أنك لا تريد الصلاة الشرعية لأن كلمة " صلاة " أصبحت هي الصلوات الخمس المعروفة لنا، مع أن معناها الأصلي كان الدعاء، وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة " الجنة " ساعة تطلق ينصرف الذهن إلى جنة الخلود. ونقول : المعنى اللغوي للجنة أنها المكان الذي فيه أشجار غزيرة ومتنوعة، أما غزارتها وعلوها فتستر الإنسان وتجنّه عن كل ما حوله، وأما ما فيها من الثمار والضروريات والكماليات فلأنها تستر الإنسان عن خارجها ويكتفي بأن يكون فيها، والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط، بل يقول أيضا :﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ ( من الآية ٢٦٦ سورة البقرة )، وكذلك يقول سبحانه :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( ٣٢ ) ﴾ ( سورة الكهف )، وقوله الحق :﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( ١٥ ) ﴾ ( سورة سبأ ).
وأقول : إن علينا أن نبحث في آفاق مرادات الله حين يعلمنا من لدنه ويوقفنا على المعنى المراد، إننا نعلم أن أول بلاغ نزل من الله بخصوص آدم أخبرنا فيه أنه قد خلق آدم خليفة في الأرض :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة البقرة ) : إذن فآدم مخلوق للأرض، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه مخلوق للجنة، وكنا سنعيش فيها لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض. لذلك نقول : لا، وعلينا أن نتذكر أن أول بلاغ من الله عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة. والذي كان يجب أن نسأل عنه : مادام قد جعله الله خليفة في الأرض فما الذي جاء بحكاية الجنة هذه ؟ !.
لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في " افعل " و " لا تفعل " ؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحا ؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه " افعل " و " لا تفعل " لا يفسد به المجتمع. إذن ف " افعل " و " لا تفعل " هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض.
وهل خلق الله الإنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله ؟. لا، فما دام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي ؛ فسيزين لك في " افعل " و " لا تفعل " ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي. ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال " افعل " إلى مجال " لا تفعل "، وكذلك يحاول أن يزين لك " أن تفعل " ما هو في جال " لا تفعل " فترتبك حركتك.
إن الحق سبحانه يريد منهجا يحكم حركة الحياة، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداء يسعد الإنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة ؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج ؛ حتى لا يتلقي المنهج تلقيا نظريا، لذلك شاء سبحانه وتعالى ألا يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريبا على المهمة في " افعل " و " لا تفعل ". وحذره من العقبات التي تعترض " افعل " ؛ حتى لا تجيء في منطقة " لا تفعل "، وكذلك من العقبات في منطقة " لا تفعل " حتى لا تجيء في منطقة " افعل "، واختار له مكانا فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبدا في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره : كُلْ من كل شيء فيها، ولا لا تقرب هذه الشجرة.
" كل " هذا هو الأمر، و " لا تقرب " هذا هو النهي. وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنه " إبليس "، لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم وقال :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين٨٢ ﴾ ( سورة ص ).
كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله سبحانه وإعداده، وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم بلا فضلات تتعبه، ولا ينتفخ ولا يعاني من متاعب في الصحة.. الخ ؛ لأنه سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم. وسبحانه قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه، والجنين ينمو، والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء، ولا يخرج منه فضلات ؛ لأن الغذاء الذي يدخله الله له على قدر النمو فقط، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة التدريب بالغذاء، فهو قادر على كامل الإعداد.
إذن فالجنة التي وجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء ؛ لأن جنة الجزاء لابد أن تأتي بعد التكليف. ولا يمكن أن يكون فيها تكليف، ومن يسكنها لا يخرج منها. وآدم كما علمنا مخلوق للأرض، إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمرا متمثلا في " فَكُلا "، ونهيا متمثلا في " لا تقربا "، لم يقل لهما : لا تأكلا، بل قال : " لا تقربا " لأن القربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.
فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين : الرمز الأول : ل " افعل "، والرمز الثاني : ل " لا تفعل "، ونجد أن الذي نهى الله عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر به، ولا يحوم حول ما حرمه الله ؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه إليه، ولذلك قال :﴿ ولا تقربا ﴾ فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل :﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ ( من الآية ( ٣٠ ) سورة الحج ) : ولم يقل : " لا تعبدوا الأوثان "، بل قال :﴿ فَاجْتَنِبُوا ﴾، والشأن في " الخمر " أيضا جاء بالاجتناب. لكنّ بعضا من السطحيين يقولون : لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول له : الاجتناب أقوى من المنع والتحريم، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها. ﴿ .. ولا تقْربا هذِهِ الشّجرة فتكُونا مِن الظّالِمِين ( ١٩ )[ سورة الأعراف ] : والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح سبحانه : أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما، فهو قد خالف ما شرعته لكما، { فتكُونا مِن الظّالِمِين ﴾أي تدخلا في إطار من يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحدا، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي شهوة قليلة في زمن يسير، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذابا أليما في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم لنفسك، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( ٢٠ ) ﴾ :
كلمة " وسوس " تدل على الهمس والإغواء، ونعرف أن الذي يتكلم في خير لا يهمه أن يسمعه الناس. لكن من يتكلم في شر فيهمس خوفا من أن يفضحه أحد، وكأن كل شر لابد أن يأتي همسا، وصاحبه يعرف أن هذا الكلام لا يصح أن يحدث، ويستحي منه، ولا يحب أن يعرف المجتمع عنه هذا الشيء، و " وسوس " مأخوذة من الصوت المغري، لأن الوسوسة هي صوت رنين الذهب والحلي، إذن فما قاله الشيطان لآدم وزوجه هو كلام مغر ليلفتهما عن أوامر رب حكيم.
وقوله الحق :﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ﴾ يعطينا حيثيات البراءة لحواء ؛ لأن الشائع أن حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة، وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معا. ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما وري من سوءاتهما، أو وسوس ليعصيا الله ؟. لقد وسوس ليعصيا الله، وكان يعلم أن هناك عقوبة على المعصية، ويعلم أنها حين يأكلان من الشيء الذي حرمه ربنا ستظهر سوءاتهما، و " السوءة " هي ما يسوء النظر إليه، ونطلقها على العورة، والفطرة تستنكف أن يرى الإنسان المكتمل الإنسانية السوءة. وكأنهما في البداية لم ير أحدهما سوءة الآخر أو سوءة نفسه لأن الحق يقول :﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾.
والسوءات أربع : اثنتان للرجل واثنتان للمرأة، فكأن كل إنسان منهما لا يرى سوءتيه، وكذلك لا يرى سوءتي الآخر، لأن السوءات كلها لها ما يخفيها عن الرؤية، وهذا كلام معقول جدا. ألم تقل سيدتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " ما رأيت ولا أرى مني "، وفي هذا القول قمة الأدب لأنها لم تجئ حتى باللفظ، لأن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر. وذلك حين حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )١، تعجبت السيدة عائشة فقال لها : " الأمر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد ".
﴿ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ﴾( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : وبماذا وري ؟. لابد أن هناك لباسا كان على كل منهما، وقال العلماء الكثير عن هذا اللباس، فمن قائل : إن أظافر الإنسان هي بقية اللباس الذي كان موجودا عند آدم وحواء، وهو ما كان يواري السوءات، ويقال : إن أي إنسان يكون في غاية الضحك والانبساط، ويريد أن يكتم نفسه، ويمنعها ويحول بينها وبين الضحك إنه يحدث له ذلك لو نظر إلى أظافره، عندئذ لا يمكنه أن يضحك لأنها بقية لحظة الندم على كشف السوءة. وجرّبها في نفسك، تجد نفسك قد منعت من الضحك، وهذا عمل من عمل الإله.
أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور الإلهي الذي كان يلفهما، والنور الساطع جدا حين يلف لا يبين، صحيح أنك بالنور ترى الأشياء، لكنه إن اشتد عمّى على الأشياء فأخفاها فلا تراها ؛ لأن أي أمر إذا زاد على حده انقلب إلى ضده، فإما أن يكون الثوب الأظافر، وإما أن يكون النور الإلهي الذي كان يغشاهما ويواري السوءة، وقد سميت " سوءة " و " عورة "، لأنها تسوء، فلماذا تسوء ؟ ومال الفرق بين فتحتين : فتحة في الفم، وفتحة في العورة ؟
إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها. وحينما كانا يأكلان من إعداد ربنا لم يكونا كما قلنا في حاجة إلى إخراج فضلات ؛ لأن إعداد الله يعطي كلا منهما على القدر الكافي للحركة والفعل، وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها. لكن حينما يخرجان عن مرادات الله في الطعام، ويأكلان غير ما أمر الله به، ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير مقبولة، فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في الأمور المادية ؟.
نعم ؛ لأن كل شيء يخَالَف فيه منهج الله لابد أن تبدو فيه العورة، وإن رأيت أي عورة في المجتمع فاعلم أن منهجا من مناهج الله قد عطل. وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من وسوسة :﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق : أراد ألا تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها يصير ملكا، أو خالدا. ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفا واهيا وغبيا ؛ لأنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكا أو يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله ملكا أو خالدا ؟ وفي هذا درس يبين لنا أن من يُزَيّن له ويتصدى له أحد بالإغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل.
وإذا كان الشيطان قد قال :﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ١٤ ﴾ ( من الآية ٢٠ سورة الأعراف ) : فلماذا لم ينقد نفسه بالكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة ؟. إذن كان ما يقوله الشيطان كذبا.
١ رواه البخاري ومسلم..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( ٢١ ) ﴾.
" قاسم " مادة فاعل، تأتي للمشاركة، أي أن هناك طرفين اثنين، كل منهما فاعل في ناحية ومفعول في ناحية أخرى، مثل شارك زيد عمرا، وهي تعني أيضا أن عمرا شارك زيدا، وهكذا تكون مادة فاعل وتفاعل، فكل منهما فاعل من جهة ومفعول من جهة. وفي المعنى نجد الاثنين فاعلا ومفعولا، إذن " قاسم " تحتاج إلى عمليتين اثنتين.. فهل جلس إبليس يقسم لآدم ولزوجته، وهما يقسمان ؟ ونقول : لا ؛ لأنها تأتي مرة لغير المفاعلة، أو للمفاعلة اللزومية، والمفاعلة اللزومية تتضح في قوله الحق :﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة الأعراف ) : وواعدنا مثلها مثل فاعل، من الذي واعد ؟. إنه الله الذي وعد موسى عليه السلام، ودخل موسى في الوعد بقبوله الوعد وتوفيته به.
إذن " قاسمهما " أي قبلا القسم ودخلا فيه.
﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( ٢١ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : و " قاسم " أي أقسم، ولذلك حينما عاتب ربنا سيدنا آدم أوضح سبحانه : أنا قلت إنه عدو لك ولزوجك، ولسوف يخرجنكما من الجنة لتتعب وتشقى، فقال آدم : يا ربي ما كنت أعتقد أن خلقا من خلقك يقسم بك على الباطل. ولم يأت على البال أن خلقا يقسم بالله على الباطل. وكانت هذه أول خديعة في الخلق. ولذلك نجد قتادة رضي الله عنه يقول : " المؤمن بالله يُخدع "، والنبي عليه الصلاة والسلام عقد على امرأة ودخلت به، ومن كيد النساء وهن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خفن أن يشغف بها حبّا، فقلن لها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحب هذه الكلمة، فإذا دخل عليك فقوليها !، قولي : " أعوذ بالله منك "، ولحظة أن دخل عليها سيدنا رسول الله، قالت له : " أعوذ بالله منك ". فقال لها : استعذت بمعاذ. ولم يقربها الرسول، وهذا ما يشرح لنا كيف يُخدع المؤمن بالله. وهاهو ذا سيدنا عبد الله بن عمر كان يعتق من العبيد من يحسن الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف فيها خاشعا وحين عرف العبيد ذلك احترفوا لإقامة الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف خاشعا، وحين عرف العبيد ذلك احترفوا إقامة الصلاة أمام المكان الذي يجلس فيه وكانوا يؤدونها بخشوع، وكان رضي الله عنه يعتقهم، وذهب له من يقول : إن العبيد يخدعونك، فيقول : من خدعنا بالله، انخدعنا له.
والنصح هنا : إغراء بمخالفة أمر الله، وكان يجب ألا تكون هناك غفلة من آدم، وكان لابد أن يقارن بين الأمرين، بين غواية الشيطان له بالأكل، وبين أمر الحق سبحانه الذي قال له ولزوجه : لا تقربا. لكنه لم يفعل.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ٢٢ ) ﴾.
﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ أي فأنزلهما من رتبة الطاعة إلى درك المعصية والذنب مما غرهما به وخدعهما من القسم و " دلاّ " مأخوذة من دلّى رجليه في البئر كي يرى إن كان فيه ماء أم لا، أو دلّى حبل الدلو لينزله في البئر، ومعناها : أنه يفعل الشيء مرة فمرة، و " بغرور " أي بإغراء لكي يوقعهما في المخالفة، فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش.
وهنا وقفة تدل على الصراع بين الحق والباطل في النفس، ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ ﴾ هذا يدل على أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ من إبليس جعلهما يذهبان إلى الشجرة. وأن ما أخذاه فقط كان مجرد المذاق، فتنبه كلاهما إلى جسامة الأمر.
﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾[ من الآية ٢٢ سورة الأعراف ] : و " الخصف " أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري شيئا. وقديما حينما كان يبلى نعل الحذاء، ويظهر به خرق فالإسكافي يضع عليه رقعة من الجلد تكون أوسع من الخرق حتى تتمكن منه.
وهكذا فعل آدم وحواء ؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة على ورقة ليداريا السوءة. وقوله الحق :﴿ وَطَفِقَا ﴾ يعني وجعلا من ورق الشجر غطاء للسوءات.
وهنا يقول الحق :﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾( من الآية ٢٢ سورة الأعراف ) : لقد كان التكليف هنا في أمر واحد، والإباحة في أمور متعددة، وسبحانه لم يكلفهما إلا بأمر واحد هو عدم الاقتراب من الشجرة، والمباح كان كثيرا ؛ لذلك لم يكن من اللائق أن يتوها عن التكليف. ولم يكن هذا التكليف بالواسطة ولكن كان بالمباشرة، ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة للقصة في سورة غير هذه وهو قوله الحق :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ ( من الآية ١٢١ سورة طه )، ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية، وقال لهما :﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾( من الآية ٢٢ سورة الأعراف ).
وسبحانه لا يجرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه :﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾، وأوضح : أن هناك عنصرا إغوائيا هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود، وقد طرد الحق لهذا السبب. إذن إن آخذهما وعاقبهما الله بهذا الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب : نعم يا رب نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه ؛ لأن الحكم قد يأتي بالإخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي.
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة الأعراف ) : ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر والإيذاء بك، و " مبين " أي محيط، وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها ؛ لأنه قد سبق أن أوضح أنه سيأتي من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. أو بيّن العداوة وشديد الخصومة.
ويأتي الإقرار بالذنب من آدم وحواء :﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٢٣ ) ﴾.
وتلك هي الكلمات التي قال الله عنها في سياق آخر :﴿ فتلقى آدمُ مِنْ ربِّهِ كلِماتٍ فتاب عليْهِ إِنّهُ هُو التّوّابُ الرّحِيمُ ( ٣٧ ) ﴾ [ سورة البقرة ] : فكأن الحق سبحانه وتعالى قدّر غفلة خلقه عن المنهج ؛ فشرع لهم وسائل التوبة إليه، ووسائل التوبة ثلاث مراحل : تشريعها رحمة، ثم الإقبال عليها من المذنب اعترافا وإنابة، وقبولها منه سبحانه رحمة، فالتشريع يطلب منك أن تفعل، وحين تتوب يتوب الله عليك. تشريع التوبة إذن رحمة، لا بالمذنب فقط، بل وبغيره أيضا ؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة، كان الذي يعمل معصية، ولا يجد مغفرة، يستشري في المعاصي، وإذا استشرى في المعاصي تعب المجتمع كله.
﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٢٣ ) ﴾( سورة الأعراف ) : وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته، وهو يختلف عن موقف إبليس بعد الذنب ؛ فإبليس أراد أن يبرر المخالفة :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا ﴾( من الآية ٦١ سورة الإسراء )، فماذا قال آدم وحواء ؟ ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. ( من الآية ٢٣ سورة الأعراف ).
ولذلك كان جزاء إبليس وهو المتأبي على أوامر الله وحكمه أن يطرد من رحمته. وجزاء المعترف بأنه أذنب، وأنه ظلم نفسه أن تقبل توبته. إذن لا يصح للناس الذين يقيمون على معصية أن يقول الواحد منهم : " هذه هي ظروفي "، ويبرر ويحلل ما يفعله من المعاصي، بل على الواحد منهم ألا يطرد نفسه بنفسه من منطقة الرحمة، وعليه أن يقول : " ما أفعله حرام، لكن لا أقدر على نفسي " وبذلك لا يكون قد ردّ الحكم، بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب، فصار أهلا للمغفرة وأهلا للتوبة.
وهنا نسأل : ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم ؟. ونقول : إبليس عصى وجاء بحيثية رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة.
وحين قال آدم وزوجته حواء :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ معا وفي نَفَس واحد، ونغمة حزينة، ألا يدل ذلك على أنهما قد تعلماها ؟. إن كلا منهما لو اعتذر لله بمفرده لاختلفا في أسلوب الاعتذار. وهذا دليل على أنها ملقنة : ولهذا قال ربنا :﴿ فتلقّى آدمُ مِنْ ربِّهِ كلِماتٍ فتاب عليْهِ ﴾. ( من الآية ٣٧ سورة البقرة )، وهما قد قالا :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾، وأنفسنا جمع نَفْس، ولم يقولا " نفسينا "، بل قالا " أنفسنا " أي أن قلبيهما أيضا قد صفيا وخلصا من أثر تلك المعصية، وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس ذريتهما.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ٢٤ ) ﴾.
ونلتفت لنجد أن هناك أمرا قد سبق لإبليس بالهبوط، وهنا أمر آخر بالهبوط، وبالله لو كانت جنة الخلود هي محل إقامتهما، وآدم مخلوق لها ثم عصى ثم تاب لما خرجا منها أبدا. لكنه سبحانه أمر آدم بأن يهبط إلى الأرض التي جعله خليفة فيها، ليباشر مهمة الخلافة في إطار التجربة التي وقعت له، وعليه أن يحترم أمر الله في كل تكليف، وأن يحترم نهي الله في كل تكليف، وليحذر عداوة الشيطان فإنه سيوسوس له. وقد جرب ذلك بنفسه، فلينزل مزودا بالتجربة، وليس له عذر من بعد ذلك. ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾. والأمر هنا للجماعة ؛ ولم يقل لهما اهبطا. وفي آية ثانية قال :﴿ قال اهبطا منها جميعا ﴾. ( من الآية ١٢٣ سورة طه ).
وذلك لنعرف أن ورود القصة في أماكن متعددة جاء لتعطي لقطات كثيرة. والأمر هنا جاء بقوله :﴿ اهبطوا ﴾ لأن الهبوط اشترك فيه الثلاثة ؛ آدم وحواء، وإبليس.. والعداوة مسبقة ولا ندعيها. العداوة بين طرفين : اثنان في طرف هما آدم وحواء، وواحد في طرف هو إبليس. ويريد الحق لنا بيان الحقائق وأن المتكلم إله، إن كل حرف عنده بميزان ؛ ولذلك نجده سبحانه يقول لنا :﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ ( من الآية ٨٢ سورة النساء ).
أي إياك أن تأخذ واجهة النص، ولكت ابحث في خلفيات النص ولا تأخذ واجهة اللفظ، بل أنظر إلى ما وراء الألفاظ.
﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ٢٤ ) ﴾( سورة الأعراف ) : وكلمة " عدو " تعني وجود صراع، ومعارك سوف تقوم بين أولاد آدم بعضهم مع بعض، أو تقع العداوة بينهم وبين أعدائهم من سكان الأرض من جن وغيرهم، لكنها لمدة محدودة، ولذلك قال :﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ : أي أن لكم استقرارا في الأرض ومتاعا إلى حين. وصراع صاحب الحق في الحق يجب أن يأخذه على أنه متاع في الدنيا ولا يأخذه على أنه معركة بلا جزاء، لا، فأنت تجاهد وتأخذ جزاء كبيرا على الجهاد وهذا متاع.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( ٢٥ ) ﴾.
كأنه قال :﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة، ويرسم لنا علاقاتنا بالأرض التي قال فيها :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ ( من الآية ٣٠ سورة البقرة ) : فقد ربطنا بالأرض. إيجادا من طينها، ومتعة بما فيها من ميزات، وخيرات وثمرات، ثم نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك. فالإنسان منا من الأرض، منها يحيا وفيها يموت، ويذهب إلى أصله ومرجعه، إلى الأم الأرض، فهي تكتفه وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه. وساعة ما يكون الإنسان في حالته الطبية، وله أخ حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع الضعيف، ومع المريض، ومع الصغير.
والأرض هي التي تأخذ كل البشر، تأخذ الإنسان وتمص منه الأذى، وتداري رائحته، أما أحبابه في الدنيا وإخوانه، فقد سارعوا بمواراته التراب تفاديا لرحلة التحلل. وبمجرد أن يموت الإنسان، أو ما يُنْسى هو اسمه ؛ فيقولون : " أين الجثة "، ولا يقولون : " أين فلان ". وبعد الكفن يوضع الجثمان في النعش، ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه.
وينتقل الحق بعد ذلك بالخطاب إلى أبناء آدم فيقول :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٢٦ ) ﴾.
وكلمة ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ ﴾ لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين، إبليس، أنتم أولاد آدم، والشيطان موجود، فانتبهوا. لقد أنزل الحق عليكم لباسا يواري سوءاتكم ؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة، والإنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء، وسبحانه هو من أنزل اللباس لأنه هو الذي أنزل المطر، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت ملابس، وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء. ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على عباده فيقول :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج.. ٦ ﴾ [ سورة الزمر ]، نعم هو الذي أنزل من الأنعام أيضا لأن السببية في النبات من مرحلة أولى، والسببية في الحيوان من مرحلة ثانية، فهو الذي جعل النبات يخرج من الأرض ليتغذى عليه الحيوان، ويقول سبحانه أيضا :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.. ٢٥ ﴾ [ سورة الجديد ] : نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضا ؛ لأننا نأخذه من الأرض التي خلقها الله، وهذا دليل على أن التنزيلات إنما أراد الله أن يحمي بها كل منهج.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ.. ٢٦ ﴾ [ سورة الأعراف ] : فإذا كنا قد أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات الحس وسوءات المادة، كذلك أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات القيم. فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن اللباس المادي يداري ويواري السوءة المادية الحسية فيجب أن تعلموا أيضا أن اللباس الذي ينزله الله من القيم إنما يواري ويستر به سوءاتكم المعنوية. ولباس الحياة المادية لم يقف عند مواراة السوءات فقط، بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة أيضا.
لذلك قال الحق :﴿ .. قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٢٦ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والريش كساء الطير، وقديما كانوا يأخذون ريش الطير ليزينوا به الملابس. وكانوا يضعون الريش على التيجان، وأخذ العوام هذه الكلمة وقالوا : فلان مريش أي لا يملك مقومات الحياة فقط، بل عنده ترف الحياة أيضا، فكأن هذا القول الكريم قد جاء بمشروعية الترف شريطة أن يكون ذلك في حل. وقيل أن يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة، فقال سبحانه :﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً.. ( ٨ ) ﴾ [ سورة النحل ] : والركوب لتجنب المشقة، والزينة من أجل الجَمال. وكذلك يقول الحق سبحانه :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ).
بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾( من الآية ٣١ سورة الأعراف ) : إذن فهذا أمر بالزينة، وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه :﴿ وريشا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾( من الآية ٢٦ سورة الأعراف ) : نعم إن لباس التقوى خير من ذلك كله ؛ لأن اللباس المادي يستر العورة المادية، وقصاراه أن يكون فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا، لكن لباس التقوى يواري عنا فضوح الآخرة.
أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب ؛ إنه خير من لباس الزينة والرياش لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل، أو ذلك اللباس لباس التقوى خير من اللباس المادي وهو من آيات الله، أي من عجائبه، وهو من الأشياء اللافتة ؛ فالإنسان منكم مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية، وهناك أمور قيمية لا تنتظم الحياة إلا بها، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية، وزينة الحياة المادية، وأعطاك ما تحيا به في السلم والحرب، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه المزايا. فخذ الآيات مما تعلم ومما تحس لتستنبط منها ما يغيب عنك مما لا تحس.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٢٧ ) ﴾.
قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان، أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان، من أبينا آدم وإغواءه له.
والفتنة في الأصل هي الاختبار، وتطلق أحيانا على الأثر السيئ حيث تكون أشد من القتل، لكن هل يسقط الإنسان في كل فتنة ؟ لا ؛ لأن الفتنة هي الاختبار، وفي الاختبار إما أن ينجح الإنسان، وإما أن يرسب، فإن نجح أعطته الفتنة خيرا وإن رسب تعطه شرا.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم، وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض، وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة ؛ لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض ؛ فلله منهج يحكمه في كل حركاته، ومادام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل الله للأرض ابتداء ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج، فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض، وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له، وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف. وكل تكليف محصور في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " ؛ لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة تدريب على المهمة ؛ لينزل على الأرض مباشرا مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة الفعلية الواقعية، وأوضح له : أن كُلْ من كُلّ ما في الجنة، ولكن لا تقرب هذه الشجرة. و ﴿ كُلْ ﴾ أمْرٌ، و﴿ لا تقرب ﴾ نهي. وكل تكليف شرعي هو بين " لا تفعل " وبين " افعل ".
وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج الله، فلما قرب آدم وحواء الشجرة وأكلا منها ؛ خالفا أمر الله في ﴿ ولا تقربا ﴾، وأراد الله أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لابد أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة، فبدت له ولزوجته سوءاتهما، فلما بدت لهما سوءاتهما علم كل منهما أنم مخالفة أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع، فأمره الله : أن اهبط إلى الأرض مزودا بهذه التجربة.
ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة، وأراد أن يبين لنا أنه عصى أمر ربه في قوله :﴿ ولا تقربا ﴾، وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ، وتدركه الغفلة، وقد يخالف منهج الله في شيء، ثم يستيقظ من غفلته فيتوب، وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة الله وصار نبيا ؛ جاءت له العصمة فلا يغفل ولا ينسى في تبليغ الرسالة.
ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ ( من الآية ١٢١ سورة طه ) : إن هذه طبيعة البشر أن يعصى ثم يتوب إذا أراد التوبة، ولابد أن نفطن أيضا إلى قوله الحق :﴿ ثم اجتباه ربه ﴾، إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية ؛ لأن عصيانه كان أمرا طبيعيا لأنه بشر، يخطئ ويصيب، ويسهو ويغفل. ولكن بعد أن خرج من الجنة اجتباه الله ليكون نبيا ورسولا، ومادام قد صار نبيا ورسولا فالعصمة تأتي له :﴿ ثم اجتباه ربه، فتاب عليه وهدى١٢٢ ﴾ ( سورة طه ).
إذن لا يصح لنا أن نقول : كيف يعصي آدم وهو نبي ؟ ! نقول : تنبه إلى أن النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب ؛ فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها، والبشرية منقسمة إلى قسمين : بشر مبلغون عن الله، وأنبياء يبلغون عن الله، فله في البشرية أنه عصى، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه. والذين يقولون : إن آدم كان مخلوقا للجنة، نقول لهم : لا. افهموا عن الله، لأنه يقول :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾.
إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. إنها كانت تدريبا على المهمة التي سيقوم بها في الأرض، وإلا فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن المعصية أخرجته، إلا أن الله قد تقبل منه توبته، ومادام قبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع علينا التجربة لآدم حتى نتعظ بها، وان نعرف عداوة الشيطان لنا، وألا نقع في الفتنة كما وقع آدم.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا.. ٢٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : وهذا نهي لبني آدم وليس نهياللشيطان، وهذا في مُكنة الإنسان أن يفعل أو لا يفعل، فسبحانه لا ينهي الإنسان عن شيء ليس في مكنته، بل ينهاه عما في مكنته، والشيطان قد أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ﴾. فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان ؛ لأن أمره مع أبيكم واضح، ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتنكم كما أخرج أبويكم من الجنة، ويتساءل البعض، لماذا لم يقل الله : لا يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم، وقال :﴿ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ ؟. ونقول : هذا هو السمو والافتتان الراقي في الأداء البياني للقرآن.
وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة التكليف. كما فتن أبوينا فأخرجهما من الجنة التجربة. ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب احتباك، وهو أن تجعل الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر قصد الاختصار. وهذا هو الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز ؛ لينبه ذهن السامع لكلام الله. فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء، وعدم الفضول في الأساليب.
﴿ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ.. ٢٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : والفتنة كما علمنا هي في الأصل الاختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به، فإذا كانت الشوائب في ذهن فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر، وحين نريد أن نأخذ الذهب خاصا نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به، كذلك الفتنة بالنسبة للناس، إنها تأتي اختبارا للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء. فإذا جاء ليفتنك فإياك أن تفتن ؛ لأن الفتنة ستضرك كما سبق أن ألحقت الضرر بأبيك وأمك حواء. والشيطان هو المتمرد على منهج الله منى الجن، والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر. فقد قال الحق سبحانه :﴿ وأنّا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك.. ١١ ﴾ [ سورة الجن ].
والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس واحدا، واقرأ قول الحق سبحانه :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ سورة الكهف ]. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : و " قبيله " هو جنده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق قسَمَه :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين٨٢ ﴾ ( سورة ص ) : إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج الله، وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه ذلك، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيا لأمر الله معصية أدّته وأوصلته إلى الكفر ؛ لأنه ردّ الحكم على الله. إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه، وجعله يوغل ويسرف في عداوة الإنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته.
﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾. ( من الآية ٢٧ سورة الأعراف ) : وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان، فلو كان المراد شياطين الإنس معهم لما قال :﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾. وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الإنس كما وُجد شياطين الجن، وهم من قال فيهم سبحانه :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ ( من الآية ١١٢سورة الأنعام ) : وكلمة " زخرف القول " تعني الاستمالة التي تجعل الإنسان يرتكب المعصية وينفعل لها، ويتأثر بزخارف القول. وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول، فللباطل دعاته، ومروجوه، ومعلنوه، إنهم يزينون للإنسان بعض شهواته التي تصرفه عن منهج الله، ونلاحظ أن أعداء الله، وأعداء منهج الله يترصدون مواسم الإيمان في البشر، فإذا ما جاء موسم الإيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم تاركا هبة إيمان في نفوس الناس، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة الموسم، فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا غرضهم في العداوة للإسلام. ﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ ﴾.
إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله. والقبيل تدل على جماعة أقلها ثلاث من أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون على أب وأم واحدة. واختلف العلماء حول المراد من هذا القول الكريم ؛ فقال قوم :﴿ لأنهم جنوده وذريته ﴾ ويقصدون جنوده من البشر، ولم يلتفتوا إلى قول الحق :﴿ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾ فلابد أن يكون المراد بالقبيل هنا الذرية ؛ لأننا نرى البشر، وفي قوله الحق تغليظ لشدة الحذر والتنبه ؛ لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره، ولكن العدو الذي يراك ولا تراه عداوته شديدة وكيده أشد، والجن يرانا ولا نراه، وبعض من العلماء علل ذلك لأننا مخلوقين من طين وهو كثيف، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة.
فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف، بدليل أننا نحس حرارة النار وبيننا وبينها جدار، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا ينفذ منه. إذن فنفوذ الجن وشفافيته أكثر من شفافية الإنسان، ولذلك أخذ خفة حركته. ونحن لا نراه.
إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى، ولكن إذا كان ثبت في الآثار الصحيحة أن الشيطان قد رُئي وهو من نار، والملائكة من نور، والاثنان كل منهما جنس خفي مستور، وقد تشكل المَلك بهيئة إنسان، وجاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " ١، وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا على صورة ملائكيّتة، ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر، فيتمثل لهم مادة.
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان وقال : " لأن عفريتا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذَعَتّه فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون " ٢، وذلك من أدب النبوة. إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا تراه على حقيقته، فإذا ما أرادك أن تراه.. فهو يظهر على صورة مادية. وقد ناقش العلماء هذا الأمر نقاشا يدل على حرصهم على فهم كتاب الله، ويدل على حرصهم على تجلية مراداته
١ رواه مسلم في الإيمان.
٢ رواه مسلم في المساجد، والبخاري في الصلاة، وأحمد، ومعنى: "فذعتّه": أي خنقته..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٢٨ ) ﴾.
والفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزيد في القبح، ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون خاص من الذنوب، وهو الزنا، لأن هذا تزيد في القبح، فكل معصية يرتكبها الإنسان تنتهي بأثرها، لكن الزنا يخلف آثارا.. فإما أن يوأد المولود، وإما أن تجهض المرأة، وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيدا، ويعيش طريدا في المجتمع لا يجد مسؤولا عنه، وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتدادا أكثر من أي معصية أخرى. وتصنع هذه المعصية الشك في المجتمع. ولنا أن نتصور أن إنسانا يشك في أن من ينسبون إليه ويحملون اسمه ليسوا من صلبه، وهذه بلوى كبيرة للغاية. والذين قالوا : إن الفاحشة المقصود بها الزنا نظروا إلى قول الله سبحانه :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ( ٣٢ ) ﴾ [ سورة الإسراء ] :
أو الفاحشة هي ما فيه حد، أو الفاحشة هي الكبائر، ونحن نأخذها على أنها التزيد في القبح على أي لون من الألوان.
فما هي الفاحشة المقصودة هنا ؟. إنها الفواحش التي تقدمت في قوله :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ.. ( ١٠٣ ) ﴾ [ سورة المائدة ]، وكذلك ما جاء في قوله تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ.. ( ١٣٧ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]، وكذلك في قوله الحق سبحانه :﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا.. ( ١٣٦ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]، أو أن المقصود أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فيطوف الرجال نهارا، والنساء يطفن ليلا، لماذا ؟ لأنهم ادّعَوا الورع. وقالوا : نريد أن نطوف إلى بيت ربنا كما ولدتنا أمهاتنا، وأن نتجرد من متاع الدنيا، ولا نطوف ببيت الله في ثياب عصينا الله فيها.
وقولهم : " وجدنا عليها آباءنا " تقليد، والتقليد لا يعطي حكما تكليفيا، وإن أعطى علما تدريبيا، بأن ندرب الأولاد على مطلوب الله من المكلف ليستطيعوا ويألفوا ما يكلفون به عندما يصلون إلى سن التكليف. ومما يدل على أن التقليد لا يعطي حقيقة، أنك تجد المذهبين المتناقضين الشيوعية والرأسمالية مثلا مقلدين ؛ لهذا المذهب مقلدون، ولهذا المذهب مقلدون. فلو أن التقليد معترف به حقيقة لكان التقليدان المتضادان حقيقة، والمتضادان لا يصبحان حقيقة ؛ لأنهم كما يقولون الضدان لا يجتمعان، هذا هو الدليل العقلي في إبطال التقليد. ولذلك نلاحظ في أسلوب الأداء القرآني أنه أداء دقيق جدا ؛ فالذي يتكلم إله.
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ ( من الآية ( ٢٨ ) سورة الأعراف ) : والرد من الله عليهم أنه سبحانه لم يأت في مسألة التقليد بردّ لأنه بداهة لا يؤدي إلى حقيقة، بل قال :﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾( من الآية ( ٢٨ ) سورة الأعراف ) : وهذا رد على قولهم : والله أمرنا بها. وأين الرد على قولهم :﴿ وجدنا عليها آباءنا ﴾ ؟.
نقول إنه أمر لا يحتاج إلى رد ؛ لأنه أمر يرفضه العقل الفطري، ولذلك ترك الله الرد عليه ؛ لوضوح بطلانه عند العقل الفطري، وجاء بالرد على ادعائهم أن الله يأمر بالفحشاء، فالله لا يأمر بالفحشاء. ثم كيف كان أمر الله لكم ؟. أهو أمر مباشر.. بمعنى أنه قد أمر كل واحد منكم أن يرتكب فاحشة ؟ ألم تنتهوا إلى قول الحق سبحانه :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ﴾( من الآية ٥١ سورة الشورى ).
أم يبلغكم الأمر بالفاحشة عن طريق نبي فكيف ذلك وأنتم تكذبون مجيء الرسول ؟. وهكذا يكون قولكم مردودا من جهتين : الجهة الأولى : إنه لا طريق إلى معرفة أمر الله إلا بأن يخاطبكم مباشرة أو يخاطبكم بواسطة رسل ؛ لأنكم لستم أهلا للخطاب المباشر، والجهة الثانية : أنكم تنكرون مسألة الأنبياء والرسل. فأنتم لم يخاطبكم الله بالمباشرة أو بواسطة الرسل فلم يبق إلا أن يقال لكم :﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾( من الآية ٢٨ سورة الأعراف )، ولا جواب على السؤال إلا بأمرين : إما أن يقولوا : " لا " فقد كذبوا أنفسهم، وإما أن يقولوا : " نعم " ؛ فإذا قالوا : نعم نقول على الله ما لا نعلم ؛ فقد فضحوا أنفسهم وأقروا بأن الله لم يأمر بالفاحشة، بل أمر الله بالقسط، لذلك يقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( ٢٩ ) ﴾.
والقسط هو العدل من قسط قِسطا، وأما قاسط فهي اسم فاعل من قسط قسْطا وقَسُوطا أي جار وعدل عن الحق، والقاسطون هم المنحرفون والمائلون عن الحق والظالمون، وكلمة العدل هي التسوية، فإن ملت إلى الحق، فذلك العدل المحبوب. وإن ملت إلى الباطل، فذلك أمر مكروه ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾. وهذه جملة خبرية.
﴿ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الأعراف ) : وهذا فعل أمر، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا من عطف الأمر على الخبر، ولكن لنلتفت أن الحق يعطفها على " قل "، فكأن المقصود هو أن يقول : " قل أمر ربّي بالقسط، وقل أقيموا وجوهكم عند كل مسجد "، والوجه هو السمة المعينة للشخص ؛ لأن الإنسان إن أخفي وجهه لمن تعرفه إلا إن كان له لباس مميز لا يرتديه إلا هو. والوجه أشرف شيء في التكوين الجسمي، ولذلك كان السجود هو وضع الوجه في الأرض، وهذا منتهى الخضوع لأمر الله بالسجود ؛ لأن السجود من الفاعل المختار وهو الإنسان يكون بوضع الجبهة على الأرض. وكل شيء خاضع لحكم الله نقول عنه : إنه ساجد :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ.. ( ١٨ ) ﴾ [ سورة الحج ] : والشجر يسجد وهو نبات، والدواب تسجد وهي من جنس الحيوان، والشمس والقمر والنجوم والجبال من الجماد وهي أيضا ساجدة، ولكن حين جاء الحديث عن الإنسان قسمها سبحانه وقال :﴿ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. ( ١٨ ) ﴾ [ سورة الحج ] : لأن الإنسان له خاصية الاختيار، وبقية الكائنات ليس له اختيار. إذن فالسجود قد يكون لغير ذي وجه، والمراد منه مجرد الخضوع، أما الإنسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف انه مستخلف وكل الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة وكلها تسبح ربنا، فإذا كان السيد الذي تخدمه كل هذه الأجناس حيوانا، ونباتا، وجمادا قد وضع وجهه على الأرض فهو خاضع من أول الأمر حين نقول عنه أنه ساجد.
﴿ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والإقامة أن تضع الشيء فيما هيئ له وخُلق وطُلب منه، وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته وأملته وحنيته، وعوجته. إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود ؛ لأن الذي سخر لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الأرض من أجله، وإن لم تفعل ذلك فأنت تختار الاعوجاج لوجهك، واعلم أن هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا، ولكن وضع جبهتك ووجهك على الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضا. والعاقل هو من يعرف أنه أخذ السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم أنك قد يفوتك النعيم أو تقوت أنت النعيم، وحين تتذكر الله وتكون خاضعا لله فأنت تنال البركة في حركة الاستخلاف.
﴿ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والمسجد مكان السجود، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون }١.
إذن فكل موضع في الأرض مسجد ؛ فإن دخلت معبدا لتصلي فهذا مسجد. والأرض كلها مسجد لك. يصح أن تسجد وتصلي فيها. وتزاول فيها عملك أيضا، ففي المصنع تزاول صنعتك فيه، وحين يأتي وقت الصلاة تصلي، وكذلك الحقل تصلي فيه، لكن المسجد الاصطلاحي هو المكان الذي حبس على المسجدية وقصر عليها، ولا يزاول فيه شيء آخر. فإن أخذت المسجد على أن الأرض مسجد كلها تكن ﴿ أقيموا وجوهكم ﴾ في جميع أنحاء الأرض. وإن أخذتها على المسجد، فالمقصود إقامة الصلاة في المكان المخصوص، وله متجه وهو الكعبة. وكذلك يكون اتجاهك وأنت تصلي في أي مكان. والمساجد نسميها بيوت الله ولكن باختيار خلق الله، فبعضنا يبني مسجدا هنا أو هناك. ويتجهون إلى بيت باختيار الله وهو الكعبة. ولذلك كانت كعبة ومتوجها لجميع بيوت الله.
وقصارى الأمر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة وأن نقيم الوجه عليها، أي على الوجه الذي تستقيم فيه العبادة. وهو أن تتجهوا وأنتم في صلاتكم إلى الكعبة فهي بيت الله باختيار الله.
وساعة ما تصادفك الصلاة صل في أي مسجد. أو ﴿ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ﴾ يقصد بها التوجه للصلاة في المسجد، وهنا اختلف العلماء، هل أداء الصلاة وإقامتها في المسجد ندبا أو حتما ؟. والأكثرية منهم قالوا ندبا، والأقلية قالوا حتما. ونقول : الحتمية لا دليل عليها.
من قال بحتمية الصلاة في المسجد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم٢.
ونقول : هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أو لم يفعل ؟ لم يفعل رسول الله ذلك، إنما أراد بالأمر التغليظ ليشجعنا على الصلاة في المساجد عند أي أذان للصلاة.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وادعوه مخلصين له الدين ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الأعراف ) : والدعاء : طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه الداعي. وحين تدعو ربك ادعه مخلصا له الدين بحيث لا يكون في بالك الأسباب ؛ لأن الأسباب إن كانت في بالك فأنت لم تخلص الدين، لأن معنى الإخلاص هو تصفية أي شيء من الشوائب التي فيه، والشوائب في العقائد وفي الأعمال تفسد الإتقان والإخلاص، وإياكم أن تفهموا أن أحدا لا تأتي له هذه المسألة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إني ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة " ٣،
إذن فالإخلاص عملية قلبية، وأنت حين تدعوا الله ادعه دائما عن اضطرار، ومعنى اضطرار. أن ينقطع رجاؤك وأملك بالأسباب كلها. فذهبت للمسبب، ومادمت مضطرا سيجيب ربنا دعوتك ؛ لأنك استنفذت الأسباب، وبعض الناس يدعون الله عن ترف، فالإنسان قد يملك طعام يومه ويقول : ارزقني، ويكون له سكن طيب ويقول : أريد بيتا أملكه. إذن فبعضنا يدعو بأشياء لله فيها أسباب، فيجب أن نأخذ بها، وغالبية دعائنا عن غير إصرار. وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به أمر إلى الاضطرار ولا يجيبه الله.
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله :﴿ كما بدأكم تعودون ﴾ ( من الآية ٢٩ سورة الأعراف ) : والله سبحانه يخاطب الإنسان، ويحننه، مذكرا إياه ب " افعل كذا "
و " افعل كذا " و " افعل كذا ". وسبحانه قادر على أن يخلقه مرغما على أن يفعل، لكنه جل وعلا شاء أن يجعل الإنسان سيدا وجعله مختارا، وقهر الأجناس كلها أن تكون مسخرة وفاعلة لما يريد، وأثبت لنفسه سبحانه صفة القدرة، ولا شيء يخرج عن قدرته، فأنت أيها العبد تكون قادرا على أن تعصى الله ولكنك تطيع، وهذه هي عظمة الإيمان إنّها تثبت صفة المحبوبية لله، فإذا غُر الإنسان بالأسباب وبخدمة الكون كله، وبما فيه من عافية، وبما فيه من قوة، وبما فيه من مال، تجد الحق يلفته : لاحظ أنك لن تنفلت مني : أنا أعطيت لك الاختيار في الدنيا، لكنك ترجع لي في الآخرة ولن تكون هناك أسباب، ولن تجد إلا المسبب، ولذلك اقرأ :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ ( من الآية ١٦ سورة غافر ) : كأن المُلك قبل ذلك أي في الدنيا كان للبشر فيه شيء لمباشرتهم الأسباب هذا يملك، وذلك يملك، وآخر يوظف، لكم في الآخرة لا مالك، ولا مَلِكٌ إلا الله، فإياكم أن تغتروا بالأسباب، وأنها دانت لكم، وأنكم استطعتم أن تتحكموا فيها ؛ لأن مرجعكم إلى الله.
١ رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة..
٢ متفق عليه.
٣ رواه مسلم في الذكر والدعاء باب استحباب الاستغفار، وأبو داود في الصلاة، والنسائي في عمل اليوم، والإمام أحمد ٤/٢١١. ومعنى (لََيُغان): ما يتغشى القلب، وقيل الفترات والغفلات عن الذكر، أو همه بسبب أمته فيستغفر لها، وقال المناوي: هو غين أنوار لاغين أغيار ولا حجاب و لا غفلة.
............................................................................
راجع أصله وخرج أحاديث الدكتور أحمد عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر..

ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( ٣٠ ) ﴾.
اذكروا أننا قلنا من قبل : إن الله هدى الكل.. بمعنى أنه قد بلّغهم بمنهجه عبر موكب الرسل، وحين يقول سبحانه :﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾ : فالمقصود هنا ليس هداية الدلالة، لكنت دلالة المعونة. وقد فرقنا بين هداية الدلالة وهداية المعونة.
وقوله الحق ﴿ فريقا هدى ﴾ أي هداية المعونة ؛ لأن الفريق أقبل على الله بإيمان فخفف الله عليه مؤونة الطاعة، وبغضه في المعصية، وأعانه على مهمته. أما الذي تأبّى على الله، ولم يستجب لهداية الدلالة أيعينه الله ؟ لا. إنه يتركه في غيّه ويخلي بينه وبين الضلالة، ولو أراده مهديا لما استطاع أحد أن يغير من ذلك. وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه، ولكن الذين حق عليهم الضلالة حصل لهم ذلك بسبب ما فعلوا.
﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( ٣٠ ) ﴾( من الآية ٣٠ سورة الأعراف ) : إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون معصية، أما من يقول إنها هداية فهذا تبجح وكفر ؛ لأنه يرد الحكم على الله. وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا : حكم الله صحيح ولكننا لم نقدر على أنفسنا، أما أن يرد العاصي حكم الله ويقول : إنه الهداية، فهذا أمره عسير ؛ لأنه ينتقل من مرتبة عاص إلى مرتبة كافر والعياذ بالله.
﴿ ويحسبون أنهم مهتدون ﴾( من الآية ٣٠ سورة الأعراف ) : لأنهم يفعلون ما حرم الله، وليتهم فعلوه على أنه محرّم، وأنهم لم يقدروا على أنفسهم، ولكنهم فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل. وهذا الأمر يشيع في معاص كثيرة مثل الربا، فنجد من يقول : إنه حلال، ونقول : قل هو حرام ولك لم أقدر على نفسي، فتدخل في زمرة المعصية، ولا تدخل في زمرة الكفر والعياذ بالله، ويمكنك أن تستغفر فيغفر لك ربنا، ويتوب عليك، ولكن أن ترد الحكم على الله وتقول إنه حلال ! ! فهذا هو الخطر ؛ لأنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى وتقع في الكفر، اربأ بنفسك عن أن تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء، وما شرع الله التوبة لعباده إلا لأنه قدّر أن عبيده يخطؤون ويصيبون، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ومن رحمته كذلك أنه يقبل هذه التوبة، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج منه ؟.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( ٣١ ) ﴾.
والزينة إذا سمعتها تنصرف إلى تجميل فوق قوام الشيء، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ ( من الآية ٣١ سورة الأعراف ) : هذا يعني أن يذهب المسلم إلى المسجد بأفخر ما عنده من ملابس، وكذلك يمكن أن يكون المقصود ب﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ هو رد على حالة خاصة وهو أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، وأن المراد بالزينة هنا هو ستر العورة. أو المراد بالزينة ما فوق ضروريات الستر، أو إذا كان المراد بها اللباس الطيب الجميل النظيف، فنحن نعلم أن المسجد هو مكان اجتماع عباد الله، وهم متنوعون في مهمات حياتهم، وكل مهمة في الحياة لها زيها ولها هندامها ؛ فالذي يجلس على مكتب لمقابلة الناس له ملابس، ومن يعمل في " الحدادة " له زي خاص مناسب للعمل، ولكن إذا ذهبتم إلى المسجد لتجتمعوا جميعا في لقاء الله، أيأتي كل واحد بلباس مهنته ليدخل المسجد ؟ لا، فليجعل للمسجد لباسا لا يضايق غيره، فإن كانت ملابس العمل في مصنع أو غير ذلك لا تليق، فاجعل للمسجد ملابس نظيفة حتى لا يُؤذى أحد بالوجود بجانبك ؛ لأننا نذهب إلى المسجد لعمل مشترك يحكم الجميع وهو لقاء الله في بيت الله، فلابد أن تحتفي بهذا اللقاء.
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾( من الآية ٣١ سورة الأعراف ) : والمأكل والمشرب من الأمور المباحة لأن فيها مقومات الحياة، وكل واشرب على قدر مقومات الحياة ولا تسرف، فقد أحل الله لك الأكثر وحرّم عليك الأقل، فلا تتجاوز الأكثر الذي أحل لك إلى ما حرم الله ؛ لأن هذا إسراف على النفس، بدليل أنه لو لم تجد إلا الميتة، فهي حلال لك بشرط ألا تُسرف. ولا يصح أن تنقل الأشياء من تحليل إلى تحريم ؛ لأن الله جعل لك في الحلال ما يغنيك عن الحرام، فإذا لو يوجد ما يغنيك، فالحق يحل لك أن تأخذ على قدر ما يحفظ عليك حياتك، والمسرفون هو المتجاوزون الحدود. ولا سرف في حل، إنما السرف يكون في الشيء المحرم، ولذلك جاء في الأثر :" لو أنفقت مثل أحد ذهبا في حِلٍّ ما اعتبرت مسرفا، ولو أنفقت درهما واحدا في محرم لاعتبرت مسرفا "، ولذلك يطلب منك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعطي كل نعمة حقها بشرط ألا يؤدي ذلك إلى البطر، وحينما ذهب إليه سيدنا عثمان بن مظعون، وقد أراد أن يترهب، ويتنسك، ويسيح في الكون، وقال لرسول الله : يا رسول الله، إنني أردت أن أختصي ؛ أي يقطع خصيتيه ؛ كي لا تبقى له غريزة جنسية، فقال صلى الله عليه وسلم : يا عثمان خصاء أمتي الصوم. لذلك قال صلى الله عليه وسلم في شأن من لن يستطع الزواج :( يا معشر الشباب من استطاعة منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )١.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم فاجتمع عشرة من الصحابة وهم : أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسليمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء وجبّوا مذاكيرهم )٢. فكان التوجيه النبوي أن حمد الرسول صلى الله عليه وسلم لربه وأثنى عليه وقال :( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )٣.
١ رواه البخاري ومسلم.
٢ تح الباري..
٣ واه مسلم.
ويتابع الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٣٢ ) ﴾.
ومادام أخرجها لعباده فهو قد أرادها لهم، وما ينفع منها للإناث جعلتها السنة للإناث، وما يصلح منها للذكور أحلتها السنّة لهم، وكذلك الطيب من الرزق حلال للمؤمنين والمؤمنات. ولنلحظ دقة الأسلوب هنا في قوله تعالى :﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف )، ثم يتابع سبحانه :
﴿ خالصة يوم القيامة ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : فكأننا أمام حالتين اثنتين : حالة في الدنيا، وأخرى في يوم القيامة، معنى ذلك أن الزينة في الحياة الدنيا غير خالصة ؛ لأن الكفار يشاركونهم فيها، فهي من عطاء الربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن وللكافر، وربما كان الكافر أكثر حظا في الدنيا من المؤمن، ولكن في الآخرة تكون الزينة خاصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها الكافرون.
وكذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعطي اليقظة الإيمانية في المؤمن بوجود الأغيار فيه، ومعنى وجود الأغيار أنه قد يتعرض الإنسان لتقلبات بين الصحة والمرض والغنى والفقر والقوة والضعف. وهكذا يكون الإنسان في الدنيا ؛ فهي دار الأغيار، ويصيب الإنسان فيها أشياء قد يكرهها ؛ لذلك فالدنيا ليست خالصة النعيم لما فيها من أغيار تأتيك فتسوؤك. إنها تسوؤك عند غيبة شحنة الإيمان منك ؛ لأنك إن استصحبت شحنة الإيمان عند كل حدث أجراه الله عليك لَلَفَتَكَ الله إلى حكمته.
﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : ويمكن أن نقرأ كلمة " خالصة " منصوبة على أنها حال، ويمكن أن نقرأها في قراءة أخرى مرفوعة على أنها خبر بعد خبر، والمعنى : أنها غير خالصة للمؤمنين في الدنيا لمشاركة الكفار لهم فيها، وغير خالصة أيضا من شوائب الأغيار ولكنها في الآخرة خالصة للمؤمنين فلا يشاركهم الكفار ولا تأتي لهم فيها الأغيار.
ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : معنى ﴿ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ ﴾ أي لا نأتي بالآيات مجملة بل نفصل الآيات لكل مؤمن، فلا نترك خللا، ونأتي فيها بكل ما تتطلبه أقضية الحياة، بتفصيل يُفهمنا قضايانا فهما لا لبس فيه.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( ٣٣ ) ﴾.
والحق سبحانه قد بدأ الآية ب " إنما " التي هي للحصر : أي ما حرم ربي إلا هذه الأشياء، الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله، والقول على الله ما لا نعلم، فلا تدخلوا أشياء أخرى وتجعلوها حراما، لأنها لا تدخل في هذه، وقول الله في الآية السابقة :﴿ قل من حرم زينة الله ﴾ هو على صيغة استفهام لكي يجيبوا هم. ولن يجدوا سببا لتحريم زينة الله لأن الحق قد وضح وبين ما حرم فقال :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( ٣٣ ) ﴾( سورة الأعراف ) : ونتأمل الخمسة المحرمات التي جاءت بالآية ؛ فحين ننظر إلى مقومات حياة الخلافة في الأرض ليبقى الإنسان خليفة فيها نرى أنه لابد من صيانة أشياء ضرورية لسلامة طهر الأنساب أي الإنجاب والأنسال ضرورية للمجتمع ؛ لأن الإنسان حين يثق أن ابنه هذا منه فهو يحرص عليه لأنه منسوب إليه، ويرعاه ويربيه. أما إذا تشكك في هذه المسألة فإنه يهمله ويلفظه، كذلك يهمله المجتمع، ولا أحد يربيه ولا يلتفت إليه ولا يعني به.
إذن فسلامة الأنساب أمر مهم ليكون المجتمع مجتمعا سليما، بحيث لا يوجد فرد من الأفراد إلا وهو محسوب على أبيه، بحيث يقوم له بكل تبعات حياته، ولذلك يجب أن تعلموا أن الأطفال المشردين مع وجود آبائهم حدث من أن شكًا طرأ على الأب في أن هذا ليس ابنه. ولذلك ماتت فيه غريزة الحنان عليه، فلا يبالي إن رآه أم لم يره، ولا يبالي أهو بالبيت أم شرد، لا يبالي أكل أم جاع، لا يبالي تعرى أم لا.
إذن فطهارة الأنساب ضمان لسلامة المجتمع ؛ لأن المجتمع سيكون بين مربّ يقوم على شأن صغير مربَّى، المربي قادر على أن يعمل، والمربَّى صغير يحتاج إلى التربية. ولذلك حرم الله الفواحش والفحش كما قلنا ما زاد قبحه، وانتهوا على أنه هو الزنا ؛ لأن أثره لا يتوقف عند الذنب والاستمتاع. بل يتعدى إلى الأنسال. وما يتعدى إلى الأنسال فهو تعد إلى المجتمع، ويصير مجتمعا مهملا لا راعي له.
والإثم : أهو كل كبيرة أو ما يقام على فاعله حد ؟ لقد انتهى العلماء على أن الإثم هو الخمر والميسر ؛ لأن الله قال بالنص :﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ ( من الآية ٢١٩ سورة البقرة ).
وأراد الحق بذلك أن يضمن مقوم تنظيم حركة الحياة في الإنسان وهو العقل وأن الخمر تغييب العقل، والإنسان مطالب بأن يحفظ عقله ليواجه به أمور الحياة مواجهة تبقى الصالح على صلاحه أو تزيده صلاحا ولا تتعدى على الإنسان. فإذا ما ستر العقل بالخمر فسد واختل، ويختل بذلك التخطيط لحركة الحياة. والذين يأتون ويشربون ويقولون : نريد أن ننسى همومنا نقول لهم : ليس مراد الشارع أن ينسى كل واحد ما أهمه ؛ لأنه إن نسى كل واحد ما أهمه فلن يحتاط أحد ولن يقوم على تقدير الأمور التي تضمن السلامة.
إن الشارع يطلب منك أن تواجه الهموم التي تعاني منها مضاعف لتزيلها. أما أن تستر العقل فأنت قد هربت من المشكلة، إذن يجب عليك أن تواجه مشكلات الحياة بعقلك وتفكيرك. فإن كانت المشكلة، قد نشأت من أنك أهملت في واجب سببي أي له أسباب وقد قصرت في الأخذ بها فأنت الملوم. وإن كانت المشكلة جاءتك من أمر ليس في قدرتك، أي هبطت عليك قضاء وقدرا ؛ فاعلم أن مجريها عليك له فيها حكمة.
وقد يكون البلاء ليحميك الله من عيون الناس فيحسدونك عليها، لأن كل ذي نعمة محسود، وحتى لا تتم النعمة عليك ؛ لأن تمام النعمة على الإنسان يؤذن بزوالها، وأنت ابن الأغيار وفي دنيا الأغيار، وإن تمت لك فقد تتغير النعمة بالنقصان.
إذن فالتفكير في ملاقاة الأسباب الضارة وتجنبها يأتي بالعقل الكامل، والتفكير في الأشياء التي ليس لها سبب يأتي من الإيمان، والإيمان يطلب منك أن ترد كل شيء إلى حكمة الحكيم. إذن فأنت تحتاج إلى العقل فلا تستره بشرب الخمر ؛ لأن العقل يدير حركة الحياة.
البغي نعرف أنه مجاوزة الحد ظلما أو أكبر، أو بخلا. والظلم أن تأخذ حق غيرك وتحرمه من ثمرة عمله فيزهد في العمل ؛ لذلك يحرم الحق أن يبغي أحد على أحد. لا في عرضه، ولا في نفسه، ولا في ماله. ويجب أن نصون العرض من الفواحش ؛ لأن كل فاحشة قد تأتي بأولاد من حرام. وإن لم تأت فهي تهدر العرض، والمطلوب صيانته، كذلك لا يبغي أحد على محارم أحد، كذلك لا يبغي أحد على محارم أحد، وكذلك لا يبغي أحد على حياة إنسان بأن يهدمها بالقتل.
ويصمون الحق المال فيمنع عنه البغي فلا يأخذ أحد ثمرة عمل آخر وكفاحه عدوانا وظلما، ومظاهر البغي كثيرة. ومن البغي أن تأخذ سلطة قسرا بغير حق ولكن هناك من يأخذ سلطة قسرا وقهرا بحق، فإن كنت على سبيل المثال تركب سفينة، ثم قامت الرياح والزوابع، وأنت أمهر في قيادتها أتترك الربان يقودها وربما غرقت بمن فيها أم تضرب على يده وتمسك بالدفة وتديرها لتنقدها ومن فيها، إنك في هذه الحالة تكون قد أخذت القيادة بحق صيانة أرواح الناس، وهذا بغي بحق، وهو يختلف عن البغي بغير الحق. وحتى تفرق بين البغي بحق والبغي بغير الحق نقول. إن هذا يظهر ويتضح عندما نأخذ مال السفينة منه للحفاظ عليه وصيانته وتثميره له، فنكون قد أخذنا من صاحبه رعاية لهذا الحق، فهو وإن كان في ظاهره بغيا على صاحب الحق إلا أنه كان لصالحه وللصالح العام فهذا بغى بحق أو أنه سمي بغيا ؛ لأنه جاء على صورة استلاب الحق من صاحبه ظلما، ويسمى هذا في علم البلاغة مشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير، ونقرأ أيضا قول الله :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها.. ٤٠ ﴾ [ سورة الشورى ] : فهل جزاء السيئة يكون سيئة ؟ لا، وإنما هي سيئة بالنسبة لمن وقعت عليه ؛ لأنه لما عمل سيئة واختلس مالا مثلا وضربت على يده وأخذت منه المال فقد أتعبته ولذلك فالحق يقول :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ( ١٢٦ ) ﴾[ سورة النحل ].
ومن بغي بغير حق علينا أن نذكره بأن هناك من هو أقوى منه، أن يتوقع أن يناله بغي ممن هو أكثر قدرة منه.
وينبهنا الحق إلى العمل الذي لا غفران له :﴿ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾. ومحال أن ينزل الحق الذي نعبده شريكا له ويؤيده بالبرهان والسلطان والحجة على أنه شريك له تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ؛ لأن من خصائص الإيمان أنه سبحانه ينفي هذا الشرك بأدلته العقلية وأدلته النقلية.
وإذا كان الحق قد قال لنا في هذه الآية :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( ٣٣ ) ﴾( سورة الأعراف ).
فبعض من الآيات الأخرى جمعت هذه الأشياء، في إطار إيجازي ومع المقابل أيضا، يقول الحق :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾( من الآية ٩٠ سورة النحل ) : لقد جاء بالفحشاء في هذه الآية ليؤكد طهارة الأنسال، وجاء أيضا بتحريم المنكر والبغي، وزاد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الإثم فقط. وكأن الإثم في آية الأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، مطمور في " المنكر "، والمنكر ليس محرما بالشرع فقط، بل هو ما ينكره الطبع السليم ؛ وأيضا فصاحب الطبع غير السليم يحكي أنه منكر إذا كانت المعاصي تعود عليه بالضرر، هنا يقول : أعوذ بالله منها. وإن كان هو يوقعها على الغير فهو يعتقد أنها غير منكر، وعلى سبيل المثال نجد رجلا يبيح لنفسه أن يفتح أعينه على عورات الناس ويتلذذ بهذه المسألة. لكنه ساعة يرى إنسانا آخر يفتح عينيه على عورته أو على ابنته مثلا إنه يرى في ذلك أبشع المنكرات ؛ لذلك لابد أن تجعل للمنكر حدا يشملك ويشمل غيرك ولا تنظر إلى الأمر الذي تكلف به أنت وحدك، وإنما انظر إلى الأمر المكلف به الآخرون.. وإياك أن تقول : إنه حدد بصري من أن يتمتع بجسم يسير أمامي، إنه سبحانه كما حرم نظرك إلى ذلك، حرم أنظار الناس جميعا أن ينظروا إلى محارمك ؛ وفي هذا صيانة لك.
وبعد أن حلل هذه الطيبات والزينة، وحرم الفواحش والمنكر والبغي والإثم يقول سبحانه :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ( ٣٤ ) ﴾.
نحن هنا أمام نص قرآني تثبته قضايا الوجود الواقعي ؛ فالذين سفكوا، وظلموا، وانتهكوا الأعراض، وأخذوا الأموال. لم يدم لهم ذلك، بل أمد الله لهم في طغيانهم، وأخذهم به أخذ عزيز مقتدر. ولو أراد خصومهم الانتقام منهم لما وصلوا إلى أدنى درجات انتقام السماء. ويجري الحق هذا الانتقام من الطغاة لصيانة سلامة المجتمع. فإن رأيت فسادا أو طغيانا إياك أن تيأس ؛ لأن الحق سبحانه قد أوضح أن لكل أمة أجلا، بداية ونهاية، ففي أعمارنا القصيرة رأينا أكثر من أمة جاء أجلها. إذن فكل طاغية يجب أن يتمثل هذه الآية :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ( ٣٤ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : والأجل لكل أمة معروف عند الله ؛ لأن الباطل والظلم إن لم يعض الناس عضة تجعلهم يصرخون فهم لا يستشرفون إلى الحق ولا يتطلعون إليه، والألم وسيلة العافية لأنه يؤكد لك أن وضعك غير طبيعي، وعلى ذلك فالمسائل التي تحدث في الكون وهذه الأمم التي تظلم. وتضطهد. ولها جبروت وطغيان إنما تفعل ذلك إلى أجل معلوم. فإياك أن تيأس، ولكن عليك أن تستشرف إلى الحق. وإلى جناب الله فتلوذ به وحده، ولذلك نجد أكثر الناس الذين حدثت لهم هذه الأحداث لم يجدوا إلا واحة الإيمان بالله ؛ ففروا إلى بيته حجاجا وإلى مساجده عمّارا وإلى قراءة قرآنه ذكرا. وننظر إلى هذه الأمور ونقول : إن الطاغية الفاجر مهما فعل فلابد أن يسخره الله لخدمة دينه، وهناك أناس لولا أن الدهر عضهم وأخنى عليهم كأن سلط عليهم ظالما لما فروا إلى الله بحثا عن نجاة، ولما التفتوا لربنا عبادة.
إن في واقع حياتنا يعرف كل منا أناسا، كان الواحد منهم لا يعبد ربه فلا يصلي ولا يصوم ولا يذكر ربه، ثم جاءت له عضة من ظالم فيلجأ الإنسان المعضوض إلى الله عائذا به ملتجئا إليه، ولذلك نقول للظالم : والله لو عرفت ماذا قدمت أنت لدين الله، ولم تأخذ عليه ثوابا لندمت، فأنت قد قدمت لدين الله عصبة ممن كانوا من غير المتدينين به. ولو أنك تعلم ما يأتي به طغيانك وظلمك وجبروتك من نصر لدين الله لما صنعته أنت، إنّ لكل أمة أجلا، فإن كنت ظالما وعلى رأس جماعة ظالمة فلذلك نهاية.
وانظر إلى التاريخ تجد بعض الدول أخذت في عنفوانها وشدتها سيادة على الشعوب، ثم بعد فترة من الزمن تحل بها الخيبة وتأتي السيطرة عليها من الضعاف ؛ لأن هذا هو الأجل. الحق يعمي بصائرهم في تصرف، يظنون أنه يضمن لهم التفوق فإذا به يجعل الضعيف يغلبهم ويسيطر عليهم. وإذا جاء الأجل فلا أحد يستطيع تأخيره ؛ لأن التوقيت في يد الكون، وهم أيضا لا يستقدمون هذا الأجل، ونلحظ هنا وجود كلمة " ساعة "، والساعة لها اصطلاح عصري الآن من حيث إنها معيار زمني لضبط المواقيت، ونعلم أن اليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة، والأقل من ساعة الدقيقة، والأقل من الدقيقة الثانية، والأكبر من الساعة هو اليوم. ومن يدري فقد يخترع البشر آلات لضبط الجزء من الثانية.
وكذلك تطلق الساعة على قيام القيامة.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٣٥ ) ﴾.
هنا ينادي الحق أبناء آدم، بعد أن ذكرهم أنه أحل لهم الطيبات والزينة وحرم عليهم المسائل الخمسة من الفاحشة والمنكر والبغي والإثم والشرك، ووضع لهم نظاما يضمن سلامة المجتمع، وطمأنهم بأنه منتقم من أي أمة ظالمة بأن جعل للظلم نهاية وأجلا. فعليكم يا بني آدم أن تأخذوا أمور حياتكم في إطار هذه المقدمات.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي.. ٣٥ ﴾ [ سورة الأعراف ] : عليكم أن تستقبلوا رسل الله استقبال الملهوف المستشرف المتطلع إلى ما يحميه وإلى ما ينفعه ؛ لأن الرسول هو من يعلن لكل واحد منكم ما أحله الله من طيبات الحياة وملاذها، ويبين لكم ما حرم الله ليحيا المجتمع سليما.
كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرض على ملازمته وعلى تلقي البلاغ منه، لا أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع يتأبى عليه. لكم من رحمة الله أن يتأبى المجتمع ويلح الرسول مبينا آيات الله وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده على أمر حياته ويهتدي إلى الصراط المستقيم، وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على الطبيب وتبحث عنه، فكان مقتضى العقل أنه إذا جاء رسول ليبلغنا منهج الله في إدارة حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع، لا أن نعاديه، وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة السليمة بمجرد أن يقول الرسول : أنه رسول ومعه آية صدقه. ويقيس أهل الفطرة السليمة قول الرسول بماضيه معهم، فيعلمون أنه مخلص لم يرتكب الإثم، وهذه فائدة قوله الحق :﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) ﴾ [ سورة التوبة ] : فلم يأت لكم إنسان لا تعرفونه بل لكم معه تاريخ واضح وجلي، لذلك نجد الذين آمنوا برسول الله أول الأمر لم ينتظروا إلى أن يتلو عليهم القرآن، لكنهم آمنوا به بسوابق معرفتهم له ؛ لأنهم عايشوه، وعرفوا كل تفاصيل أخلاقه. ومثال ذلك : عندما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم سيدتنا خديجة رضوان الله عليها بنبأ رسالته وأسرّ لها بخوفه من أن يكون ما نزل إليه هو من أمور الجن أو مسها، أسرعت إلى ورقة بن نوفل ؛ لأنه عنده علم بكتاب، وقبل ذلك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلّ وتعين على نوائب الحق وتكسب المعدوم ". وكل هذه المقدمات تدل على أنك يا رسول الله في حفظ الله ورعايته ؛ لأنك كنت مستقيم السلوك قبل أن تنبّأ، وقبل أن توجد كرسول من الله. وهل معقول أن من يترك الكذب على الناس يكذب على الله ؟ ! وكذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق بمجرد ما أن قال رسول الله : أنا رسول، قال له : صدقت. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق الفطرة، وهذه هي فائدة ﴿ رسول من أنفسكم ﴾ أو من جنسكم البشري حتى نجد فيه الأسوة الحسنة. ولو جاء لنا رسول من الملائكة وقال لنا : هذا هو المنهج ولكم أسوة بي، كنا سنرد عليه الرد المقنع السهل اليسير : وهل نقدر أن نفعل مثلك وأنت ملَك مفطور على الخير ؟.
لكن حين يأتينا رسول من جنسنا البشري، وهو صالح أن يصدر منه الخير، وصالح أن يصدر منه الشر فهو الأسوة الموجودة، ولذلك كان من غباء الكافرين أن قالوا ما جاء به القرآن على ألسنتهم :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ( ٩٤ ) ﴾ ( سورة الإسراء ) : إنه الغباء وقصر النظر والغضب ؛ لأن الله بعث محمدا وهو من البشر، فهل كانوا يريدون ملَكَا ؟ ولو كان ملكا فكيف تكون به الأسوة وطبعه مختلف عن طبائع البشر ؟. ولذلك يرد الحق الرد المنطقي :﴿ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ( ٩٥ ) ﴾ : وذلك حتى تتحقق لنا الأسوة فيه ؛ فسبحانه لم يقتحم وجودكم التكلفي، ولم يُدخلكم في أمر يشتد ويشق عليكم لكنه جاء لكم بواحد منكم تعرفون تاريخه. ولم يأت به من جنس آخر.
﴿ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي.. ﴾ [ من الآية ٣٥سورة الأعراف ]. وانظر قوله :﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾، لقد جاء بكلمة " يقصّون " لأن القصص مأخوذة من مادة " القاف " و " الصاد المضعّفة " ؛ وهذا مأخوذ من " قصّ الأثر "، وكان الرجل إذا ما سرقت جماله أو أغنامه يسير ليرى أثر الأقدام. إذن ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي ﴾ أي أنهم ملتزمون بما جاء لهم، لا ينحرفون عنه كما لا تنحرفون أنتم عن قص الأثر حين تريدون المؤثّر في الأثر.
﴿ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ من الآية ٣٥سورة الأعراف ] : و " التقوى " هو أن تجعل بينك وبين شيء يضرك وقاية. ولذلك يقول الحق، ﴿ اتقوا النار ﴾، لنرد عن أنفسنا بالعمل الصالح لهيب النار. وإذا قيل :﴿ اتقوا الله ﴾ أي اتقوا متعلقات صفات الجبروت من الله ؛ لأنكم لن تستطيعوا تحمل جبروت ربنا، وعليكم أن تلتزموا بفعل الأوامر وتلتزموا أيضا بترك النواهي. والأمر بالتقوى هنا يعني ألا ننكر ونجحد رسالات الرسل ؛ لأنهم إنما جاءوا لإنقاذ البشر، فالمجتمع حين يمرض، عليه أن يسرع ويبادر إلى الطبيب القادم بمنهج الله ليرعاه، وهو الرسول ؛ لذلك لا يصح الجحود برسالة عليها دليل ومعجزة.
﴿ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ : و " أصلح " تدل على أن هناك شيئا غير صالح فجعله صالحا، أو حافظ على صلاح الصالح ورقّى صلاحه إلى أعلى، مثل وجود بئر نشرب منه، فإن كانت البئر تؤدي مهمتها لا نردمها، ولا نلقي فيها قاذورات، وبذلك يبقى الصالح على صلاحه، ويمكن أن نزيد من صلاح البئر بأن نبني حول فوهتها سورا، أو أن نقوم بتركيب مضخة تمتص الماء من البئر لضخه إلى البيوت. وبذلك نزيد الصالح صلاحا، والآفة في الدنيا هم الذين يدعون الإصلاح بينما هم مفسدون، يقول الله فيهم :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ( ١٠٣ ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ١٠٤ ) ﴾ ( سورة الكهف ) : إذن فحين تقدم على أي عمل لابد أن تعرف مقدمات هذا العمل، وماذا ستعطيه تلك المقدمات، وماذا سوف تأخذ منه. وأبق الصالح في الكون على صلاحه أو زده إصلاحا، وهنا لا خوف عليك ولن تحزن على شيء فاتك ليتحقق قول الحق :﴿ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الحديد ) : وما المقابل لمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؛ أي هؤلاء اللذين أصلحوا واتقوا ؟ المقابل هو ما يأتي في قوله الحق :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٣٦ ) ﴾.
ولماذا يكون مصير المكذبين بالآيات والمستكبرين عنها أن يكونوا أصحاب النار ويكونوا فيها خالدين ؟ لأنهم وإن تيسرت لهم أسباب الحياة لم يضعوا في حسابهم أن يكون لهم نصيب في الآخرة ولم يلتفتوا إلى الغاية، وغاب عنهم الإيمان بقول الحق :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ( ٢٠ ) ﴾( سورة الشورى ) : وهب أن الواحد منهم قد أخذ ما أخذ في الدنيا، فلماذا نسي أنها موقوتة العمر ؟ ولماذا لم يلتفت إلى الزمن في الآخرة ؟. عليك أن تعلم أنك في هذه الدنيا، خليفة في الأرض، ومادمنا جميعا أبناء جنس واحد ومخلوقين فيها والسيادة لنا على الأجناس فلابد أن تكون لنا غاية متحدة ؛ لأن كل شيء اختلفنا فيه لا يعتبر غاية، فالغاية الأخيرة هي لقاء الله ؛ لأن النهاية المتساوية في الكون هي الموت ليسلمنا لحياة ثانية، فالذي يستكبر عن آيات الله هو من دخل في صفقة خاسرة ؛ لأن من يقارن هذه الدنيا بالحياة الأخرى سيجد أن زمن الإنسان في الدنيا قليل، وزمن الآخرة لا نهاية له. وعمر الإنسان في الدنيا مظنون غير متقين، والمتعة فيها على قدر أسباب الفرد وإمكاناته، لكن الآخرة متيقنة، ونعيم المؤمن فيها على قدر طلاقة قدرة الله.
﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة الأعراف ) : وأصحاب النار. يعني أن يصاحب ويلازم المذنب النار كما يصاحب ويلازم الإنسان منا صاحبه ؛ لأن النار على إلف بالعاصين، وهي التي تتساءل :﴿ هل من مزيد ﴾ ؟.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( ٣٧ ) ﴾.
و ﴿ فمن أظلم ﴾ تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إلا الإقرار. ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب ؛ لأنه أولا ظلم نفسه، وظلم أمته، وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية، وأما ظلمه للناس فلأنه سيأخذ أوزار ما يفعلون ؛ لأنه قد افترى على الله كذبا ﴿ أو كذب بآياته ﴾. أي قوّل الله ما لم يقله، أو كذّب ما قاله الله، وكلا الأمرين مساو للآخر. والآية كما نعلم هي الأمر العجيب، والآيات أطلقت في القرآن على معان متعددة ؛ فالحق يقول :﴿ كتاب فصلت آياته ﴾( من الآية ٣ سورة فصلت ).
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييدا لرسله. ﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾( من الآية ٥٩ سورة الإسراء ) : فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة.
وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ﴾( من الآية ٣٧ سورة فصلت ) : فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل القرآن ؛ لأنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون كله تقول لنفسك : هذا شيء عجيب ؛ لأن الذي جاءت على لسانه هذه الآيات نبي أمي، ما عرف عنه أنه زاول تعلما، وما جربوا عليه أنه قال شعرا، أو نثرا أوله رياضة في كلام، وبعد ذلك ما جرب حكم أمم، وما درس تاريخ الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها.
إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس، وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها، وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه الأمة البدوية، وكان كل نظام هذه الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلخص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها رئيس، وبعد أن جاءت رسالته صلى الله عليه وسلم جاء بنظام يجمع أمم العالم كلها، ثم ينجح في إدارة الدنيا كلها، وهذه مسألة عجيبة، وكل آية من هذه الآيات كانت معجزة وعجيبة.
وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة ؛ فالشمس والقمر بحسبان، وكل في فلك يسبحون، إنه نظام عجيب.
إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن، والمعجزات والآيات الكونية. وكيف يكذبون إذن بالآيات ؟. ألا ينظرون إلى الكون. وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني لا تضارب فيه ؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق ؛ فهو العالم، القادر، الحكيم، الحسيب. وكذلك كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات، ويقولون : إنه ساحر، وحين تتلى عليهم آيات القرآن يكذبونها. إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته ودقته، ولم يلتفتوا إلى الإيمان به قمة عقيدية، وكذلك كذبوا بالآيات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات القرآن العظيم.
وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، تساءل : كيف تقولون. إنه سحر الناس فآمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنت ؟ وحينما قالوا :﴿ إنما يعلمه بشر.. ١٠٣ ﴾ [ سورة النحل ].
قال الحق :﴿ .. لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( ١٠٣ ) ﴾ [ سورة النحل ].
وقالوا :﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٥ ) ﴾ [ سورة الفرقان ].
فيعلم الحق رسله أن يقول :﴿ .. فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٦ ) ﴾ [ سورة يونس ] : وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عاما فهل عرف عنه أن يقول أو يتكلم بشيء من هذا ؟.
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات ؟ أنهم خلق الله، والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما هي في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي ؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا.
إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قدّر لهم، من الرزق والحياة، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم ؛ لذلك يقول الحق :﴿ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب.. ٣٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب، والعاصي له العقاب، فيقول الحق هنا :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( ٣٧ ) ﴾( من الآية ٣٧ سورة الأعراف ) : وساعة تسمع ﴿ يتوفونهم ﴾ تفهم أن الحياة تنتهي، وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو " التوفي "، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه وتعالى، ومرة ينسب إلى المَلَك، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول سبحانه :﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ﴾، والأساليب الثلاثة ملتقية ؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده، بل أخذ التلقي من الله، فالأمر الأعلى من الله، وأمر التوسط للملك، وأمر التنفيذ للرسل.
و " التوفي " على إطلاقه هو استيفاء الأجل، فإن كان أجل الحياة فهو توفية بالموت، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب. إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفى أجلهم الثاني ؛ لأن كل إنسان له أجلان : أجل ينهي هذه الحياة، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب.
وهذا لا يمنع أن يقال : إن قيامة كل إنسان تأتي بموته ؛ لأن القيامة مراحل بدءا من القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار. وحين تسألهم الملائكة :﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾( من الآية ٣٧ سورة الأعراف ) : هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد غابوا واختفوا ولا يظهر لهم أثر.
﴿ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾( من الآية ١٠ سورة السجدة ) : وهم إذن يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون الله، والمراد أنه لا وجود لهم، وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم. ولكن هذه الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف قد انتهى، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده الله ؛ ففي دار التكليف كان الإنسان حرا أن يفعل أو لا يفعل، لكن في الدار الآخرة لا تنفع هذه الشهادة. وذلك لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم، ولن يتأبوا على الجزاء ؛ لذلك يقول الحق :﴿ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٣٨ ) ﴾.
ويوضح لنا الحق أنه بأوامر ﴿ كن ﴾ سيدخلون النار كما دخلتها أمم قد خلت من قبلهم فليسوا بدعا، وليدخلوا معهم إلى المصير الذي يذهبون إليه، وهم أمم خليط ؛ لأن الكفر سوف يلتقي كله في الجزاء.
إن الاقتداء بالأمم التي سبقت هو الذي قادهم إلى الكفر ؛ فالأمم التي سبقت كانت أسوة في الضلال للأمة التي لحقت، فإذا ما دخلوا لعنوهم.
وهب أن إنسانا دخل مرة السجن لجرم ارتكبه، وبعد ذلك دخل عليه من كان يغريه بالجرم. ومن كان يزين له، ومن اقتدى به. بالله ساعة يلتقيان في السجن ألا يلعن الأول الثاني ؟ ﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٣٨ ) ﴾ [ سورة الأعراف ].
وبعد أن يلحق بعضهم بعضا ويجتمعوا، يحدث بينهم هذا الحوار العجيب :﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ.. ( ٣٨ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : فإن قلت الأخرى أي التي دخلت النار متأخرة كانت الأولى هي القدوة في الضلال وقد سبقتهم إلى النار، ﴿ قالت أخراهم لأولاهم ﴾، أي أن الأولى هم القادة الذين أضلوا، والطائفة الأخرى هم الأتباع الذين قلدوا. ﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا ﴾. وهم يتوجهون بالكلام إلى ربنا :﴿ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا ﴾. كيف يتأتى هذا ؟. وكان المقياس أن يقول : قالت أخراهم لأولاهم أنتم أضللتمونا لكن جاء هذا القول، لأن الذين أضلوا غيرهم أهون من أن يخاطبوا ؛ لأن الموقف كله في يد الله، وإذا ما قالوا الله المواجه للجميع :﴿ هؤلاء أضلونا ﴾ : فهؤلاء، هذه إشارة إليهم، فكأن القول موجه لله شهادة منهم إلى من كان وسيلة لإضلالهم وهم يقولون لربنا هذا حتى يأخذوا عذاب الضعف من النار مصداقا لقوله الحق :﴿ فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ.. ٣٨ ﴾[ سورة الأعراف ].
فقال الله لهم جميعا :﴿ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٣٨ ) ﴾ : فلكل أمة منهم ضعف العذاب بما ضلت وأضلت. ونفهم أن الضّعف معناه " شيء مساو لمثله "، فأنتم أيها المقلدون غيركم قد أضللتم سواكم بالأسوة أيضا ؛ لأنكم كثرتم عددهم وقويتم شوكتهم وأغريتم الناس بإتباعهم، ويكون لكم ضعف العذاب بحكم أنكم أضللتم أيضا، وأنتم لا تعلمون أن من يحاسبكم دقيق في الحساب، ويعطي كل إنسان حقه تماما.
وماذا تقول أولاهم لأخراهم ؟ يقول الحق سبحانه :﴿ وقالت أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( ٣٩ ) ﴾.
أي مادمتم ستأخذون ضعف العذاب مثلنا فقد تساوت الرؤوس ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ كأن المجرم نفسه ساعة يلتقي ويستقبل مجرما مثله، يقول له : اشرب من العذاب نفسه، وليس ذلك تجنيا من الله، ولا بسلطة القهر لعباده، ولكن بعدالة الحكم ؛ لأن ذلك إنما حدث بسبب ما كسبتم.
ومعلوم أن التذوق في الطعوم، فهل هم يأكلون العذاب ؟. لا، إنّ الحق قد جعل كل جارحة فيهم تذوق العذاب، والحق حين يريد شمول العذاب للجسم يجعل لكل عضو في الجسم حساسية الذوق كالتي في اللسان.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( ١١٢ ) ﴾ [ سورة النحل ] : وهذه هي الإذاقة، كأنها صارت لباسا من الجوع يشمل الجسد كله، والإذاقة أشد الإدراكات تأثيرا، واللباس أشمل للجسد. ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾، ولم يقل الحق : بما كنتم تكسبون ؛ لأن اكتسابهم للسيئات لم يعد فيه افتعال، بل صار أمرا طبيعيا بالنسبة لهم، وعلى الرغم من أن الأمر الطبيعي في التكوين أن يصنع الإنسان الحسنة دون تكلف ولا تصنع، وفي السيئات يجاهد نفسه ؛ لأن ذلك يحدث على غير ما طبع عليه، ولكن هؤلاء من فرط إدمانهم للسيئات فسدت فطرتهم ولم تعد ملكاتهم تتضارب عند فعل السيئات، بل صاروا يرتكبون الإثم كأمر طبيعي، وهذا الخطر الذي يحيق بالمسرفين على أنفسهم ؛ لأن الواحد منهم يفرح بعمل السيئات.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( ٤٠ ) ﴾.
والحق يريد أن يعطي حكما جديدا ويحدد من هو المحكوم عليه ليعرف بجريمته، وهي جريمة غير معطوفة على سابقة لها، وليعرف كل إنسان أن هذه جريمة، وأن من يرتكبها يلقى حكما وعقابا. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ﴾. وقد عرفنا من قبل معنى الآيات، وأنها آيات القرآن المعجزة أو الآيات الكونية، وأي إنسان يظن نفسه أكبر من أن يكون تابعا لمنهج جاء به رسول عرف بين قومه بأمانته، وهذا الإنسان يستحق العقاب الشديد. فصحيح أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن له من الجاه و السلطان ما ينافس به سادة وكبراء قريش، ولذلك وجدنا من يقول :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ٣١ ) ﴾ [ سورة الزخرف ] : إنهم يعترفون بعلو القرآن، لكنهم تمنوا لو أن القرآن قد نزل على إنسان غيره بشرط أن يكون من العظماء بمعاييرهم وموازينهم المادية.
ومن يكذب الآيات ويستكبر عن إتباع الرسول لا تفتح له أبواب السماء. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( ٤٠ ) ﴾[ سورة الأعراف ] : وبذلك نعرف من هم الذين لا تفتح لهم أبواب السماء، وبطبيعة الحال نعرف أن المقابلين لهم هم الذين تفتح لهم أبواب السماء.. إنهم المؤمنون، وحين تصعد أرواحهم إلى الملأ الأعلى تجد أعمالهم الصالحة تصعد وترتفع بهم إلى أعلى. أما المكذبون فهم لا يرتقون بل يهبطون ولا يدخلون الجنة، وقد علق سبحانه دخول الجنة بمستحيل عقلا وعادة وطبعا :﴿ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ : و " سم الخياط " هو ثقب الإبرة، أي الذي تدخل فيه فتلة الخيط، ولا تدخل فتلة الخيط في الثقب إلا أن يكون قطر الفتلة أقل من قطر الثقب، وأن تكون الفتلة من الصلابة بحيث تنفذ، وأن تكون الفتلة غير مستوية الطرف ؛ لأنها إن كانت مقصوصة وأطرافها مستوية فهي لا تدخل في الثقب ؛ لذلك نجد الخياط يجعل للفتلة سنا ليدخلها في ثقب الإبرة.
وحين نأتي بالجمل ونقول له : ادخل في سم الخياط، فها يستطيع ؟ طبعا لا ؛ لذلك نجد الحق سبحانه قد علق دخول هؤلاء الجنة على مستحيل.
بعض الناس قالوا : وما علاقة الجمل بسم الخياط ؟ : نقول " إن الجمل يطلق أيضا على الحبل الغليظ المفتول من حبال، مثل حبال المركب إننا نجده سميكا مجدولا. وأخذ الشعراء هذه المسألة ؛ ونجد واحدا منهم يصف انشغاله بالحبيب وشوقه إليه وصبابته به حتى يهزل ويستبد به الضعف فيقول :
ولو أن ما بي من جوى وصبابة **** على جمل لم يدخل النار كافر.
لأن الجوى والصبابة التي يعاني منهما هذا الشاعر، لو أصيب بهما الجمل فلسوف ينحف ويهزل، إلى أن يدخل في سم الخياط، وهنا يوضح ربنا : إن دخل الجمل في سم الخياط فسوف أدخلهم الجنة.
﴿ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴾ [ من الآية ٤٠ سورة الأعراف ] : وهم يستحقون هذا الجزاء بما أجرموا.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( ٤١ ) ﴾ : المهاد هو الفراش، ومنه مهد الطفل، والغاشية هي الغطاء، أي أن فرش هذا المهاد وغطاءه جهنم. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ لهم من فوقهم ظلال من النار ومن تحتهم ظلل ﴾ ( من الآية ١٦ سورة الزمر ) : إذن الظلل والغواشي تغطي جهتين في التكوين البعدي للإنسان، والأبعاد ستة وهي : الأمام والخلف، اليمين والشمال، والفوق والتحت، والمهاد يشير إلى التحتية، والغواشي تشير إلى الفوقية، وكذلك الظلل من النار، ولكن الحق شاء أن يجعل جهنم تحيط بأبعاد الكافر الستة فيقول سبحانه :﴿ إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ﴾( من الآية ٢٩ سورة الكهف ) : وهذا يعني شمول العذاب لجميع اتجاهات الظالمين.
وجهنم مأخوذة من الجهومة وهي الشيء المخوف العابس الكريه الوجه، ثم يأتي بالمقابل ليشحن النفس بكراهية ذلك الموقف، ويحبب إلى النفس المقابل لمثل هذا الموقف، فيقول سبحانه :﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٤٢ ) ﴾.
وبهذا يخبرنا الحق أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أصحاب الجنة وهم فيها خالدون، ويضع لنا الحق تنبيها بين مقدمة الآية وتذييلها ﴿ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ؛ لنفهم أن المسرفين على أنفسهم بالكفر وتكذيب الآيات لم يفهموا حقيقة الإيمان، وأن حبس النفس عن كثير من شهواتها هو مقدور النفس وليس فوق طاقتها ؛ لذلك أوضح لنا سبحانه أنه كلف ب " افعل ولا تفعل " وذلك في حدود وسع المكلّف.
وحين نستعرض الصورة إجمالا للمقارنة والموازنة بين أهل النار وأهل الجنة نجد الحق قد قال في أهل النار :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( ٤٠ ) ﴾( سورة الأعراف ) : فهم لن يدخلوا الجنة، وعلى ذلك فقد سلب منهم نفعا، ولا يتوقف الأمر على ذلك، ولكنهم يدخلون النار، إذن فهنا أمران : سلب النافع وهو دخولهم الجنة، إنه سبحانه حرمهم ذلك النعيم، وذلك جزاء إجرامهم. وبعد ذلك كان إدخالهم النار، وهذا جزاء آخر، فقال الحق :﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( ٤١ ) ﴾( سورة الأعراف ) : في الأولى قال : سبحانه ( وكذلك نجزي المجرمين )، وفي الثانية قال :( وكذلك نجزي الظالمين )، فكأن الإجرام كان سببا في ألا يدخلوا الجنة، والظلم كان سببا في أن يكون فوقهم غواش، لهم من جهنم مهاد، وهم في النار يحيطهم سرادقها.
ومن المناسب بعد تلك الشحنة التي تكرهنا في أصحاب النار وفي سوء تصرفهم فيما كلفوا به أولا، وسبب بشاعة جزائهم ثانيا ؛ أن نتلهف على المقابل. فقال سبحانه :﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٤٢ ) ﴾ [ سورة الأعراف ]، وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ : جاء بين المبتدأ والخبر، ككلام اعتراضي ؛ لأن أسلوب يقتضي إبلاغنا أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الخلود في الجنة، وجاءت ﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ بين العمدتين وهما المبتدأ والخبر ؛ لأننا حينما نسمع ﴿ والذين آمنوا ﴾ فهذا عمل قلبي، ونسمع بعده ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ وهذا عمل الجوارح، وبذلك أي بعمل القلب معمل الجوارح يتحقق من السلوك ما يتفق مع العقيدة. والاعتقاد هو يسهل دائما السلوك الإيماني ويجعل مشاق التكاليف في الأعمال الصالحة مقبولة وهينة، ولذلك أوضح سبحانه : إياكم أن تظنوا أني قد كلفتكم فوق طاقتكم، لا ؛ فأنا لا أكلف إلا ما في الوسع، وإياكم أن تفهموا قولي :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ هو رغبة في إرهاق نفوسكم، ولكن ذلك في قدرتكم لأنني المشرع، والمشرع إنما يضع التكليف في وسع المكلَّف.
ونحن في حياتنا العملية نصنع ذلك ؛ فنجد المهندس الذي يصمم آلة يخبرنا عن مدى قدراتها، فلا يحملها فوق طاقتها وإلا تفسد. وإذا كان الصانع من البشر لا يكلف الآلة الصماء فوق ما تطيق أيكلف الذي خلق البشر فوق ما يطيقون ؟ محال أن يكون ذلك.
إذن فيجب أو نوصد الباب أما الذين يحاولون أن يتحللوا من التزامات.
التكليف عليهم، فلا تعلق الحكم على وسعك الخائر الجائر، ولكن غلق الوسع على تكليف الله، فإن كان قد كلف فأحكم بأن ذلك في الوسع ؛ والدليل على كذب من يريد الإفلات من الحكم هو محاولته إخضاع الحكم لوسعه هو ؛ أن غيره ما لا يريد أن يفعله. فحين ينهى الحق عن شرب الخمر تجد غيرك لا يشرب الخمر امتثالا لأمر الله، وكذلك تجد من يمتنع عن الزنا أو أكل الربا ؛ فإذا كان مثيلك وهو فرد من نوعك قادرا على هذا العمل فمن لا يمتنع عن مثل هذه المحرمات هو المذنب لا لصعوبة التكليف. فالتكليف هو أمر الشارع الحكيم ب " افعل " و " لا تفعل " وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا إذا كان قادرا على أن يؤدي مطلوبات الشرع ؛ لأن الله لا يكلف إلا على قدر الطاقة، واستبقاء الطاقة يحتاج إلى قوت، طعام، شراب، لباس، وغير ذلك مما تحتاج إليه الحياة، لذلك أوضح سبحانه أنه يوفر للإنسان كل ماديات الحياة الأساسية، وإياكم أن تظنوا أن الله حين يكلف الإنسان يكلفه شططا، ولكن الإنسان هو الذي يضع في موضع الشطط. فقال :﴿ ومن قدر عليه رزقه.. ٧ ﴾ [ سورة الطلاق ] :" قدر على رزقه " أي ضيق عليه قليلا.
ويقول سبحانه :﴿ فلينفق مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا.. ( ٧ ) ﴾ [ سورة الطلاق ] : إذن لا تفترض وتقدر أنت تكاليف المعيشة ثم تحاول إخضاع وارداتك إلى هذا التصور، بل انظر إلى الوارد إليك وعش في حيز وإطار هذا الوارد، فإن كان دخلك مائة جنيه فرتب حياتك على أن يكون مصروفك دخلك ؛ لأن الله لا يكلفك إلا ما آتاك. ولننظر إلى ما آتانا الله ؛ لذالك لا تدخل في حساب الرزق إلا ما شرع الله، فلا تسرق. ولا تنهب ولا تختلس ولا ترتش ثم تقول : هذا ما آتاني الله، لا، عليك ألا تأخذ ولا تنتفع إلا بما أحل الله لك، فإن عشت في نطاق ما أحل الله يعينك الله على كل أمرك وكل حاجاتك، لأنك تحيا بمنهج الله، فيصرف عنك الحق مهمات الحياة التي تتطلب أن تزيد على ما آتاك الله، فلا تخطر على بالك أو على بال أولادك. وتجد نفسك على سبيل المثال وأنت تدخل السوق وآتاك الله قدرا محدودا من المال، وترى الكثير من الخيرات، لكن الحق يجعلك لا تنظر إلا في حدود ما في طاقتك، وكذلك يُحسّن لك الله ما في طاقتك ويبعد عنك ما فوق طاقتك ؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا ما آتاها، ولا يحرك شهوات النفس إلا في حدود ذلك.
ولذلك قال الحق :﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٤٢ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : وأصحاب الجنة هم الذين لا يفارقونها مثلما يحب الصاحب صاحبه ؛ فالجنة تتطلبهم، وهم يتطلبون الجنة، والحياة فيها بخلود وما فاتك من متع الدنيا لم يكن له خلود، وأنت لا تأخ ولا تنتفع إلا بما أحل الله لك، فإن عشت في نطاق ما أحل الله يعنينك في الدنيا تخاف أن تموت وتفوت النعمة، وإن لم تمت تخاف أن تتركك النعمة ؛ لأن الدنيا أغيار، وفي ذلك لفت لقضايا الله في كونه، تجد الصحيح قد صار مريضا، والغني قد صار فقيرا، فلا شيء لذاتية الإنسان. وبهذا يعدل الله ميزان الناس فيأتي إلى الحالة الاقتصادية ويوزعها على الخلق، ونجد الذي لا يتأبى على قدر الله في رزقه وفي عمله يجعل الله له بعد العسر يسرا. وفي الجنة يُخلي الله أهلها من الأغيار.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٤٣ ) ﴾.
وقوله الحق :﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ ينطبق أيضا على أهل الاجتهاد الذين اجتهد كل منهم في الدنيا، واختلفوا، هؤلاء يبعثون يوم القيامة وليس في صدر أحدهم غل أو حقد. ولذلك تجد سيدنا الإمام عليا كرم الله وجهه حين يقرأ هذه الآية يقول : " اللهم اجعلني أنا وعثمان وطلحة والزبير من هؤلاء ". لأن هؤلاء هم الذين وقع بينهم الخلاف في مسألة الخلافة، وكل منهم صحابي ومبشر بالجنة، فإن كانت النفوس قد دخلت فيها أغيار، فإياكم أن تظنوا أن هذه الأغيار سوف تصحبكم في دار الجزاء في الآخرة ؛ لأن الله يقول :﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾.
إن الخلاف كان خلافا اجتهاديا بين المؤمنين وهم قد عملوا الصالحات وكل منهم أراد الحسن من الأعمال، ونشأ عن ذلك أغيار الدنيا شيء من عمل القلب، فأوضح سبحانه : إياكم أن تفهموا أن ذلك سوف يستمر معهم في الآخرة ؛ لأنهم جميعا حينما اختلفوا كانوا يعيشون باجتهادات الله، وفي الآخرة لا اجتهاد لأحد. ويريد الحق أن يجعل هذا الأمر قضية كونية، ومثال ذلك تجد رجلا قد تزوج امرأة بمقاييس غير مقاييس الله في الزواج ؛ تزوجها لأنها جميلة مثلا، أو لأن والدها له جاه أو غنى، وبعد الزواج لم يعطه والدها الغني شيئا من ماله فيقول : غشني وزوجني ابنته، أو كانت جميلة، ثم لقي فيها خصالا قبيحة كثيرة فكرهها، ونقول لمثل هذا الرجل : مادمت لم تأخذها بمقاييس الله فعليك أن تنال جزاء الاختيار.
ولكن من تزوج امرأة على دين الله، ووجد منها قبحا، فلن يصحبه هذا القبح في الآخرة، ولذلك نجد الحق قد جاء بهذه القضية بالذات، ولم يأت بها في الأبناء أو في البنات، بل في الزوج والزوجة لأنهما عماد الأسرة. فبيّن للرجل : إياك أن تتخيل أن المرأة غاظتك أو أتعبتك أو كدرت عليك بخصلة سيئة فيها، إياك أن تظن أن هذه الخصلة السيئة ستصاحبها في الآخرة، ولذلك قال سبحانه :﴿ وأزواج مطهرة ﴾ ( من الآية ١٥ سورة آل عمران ) : وأزواج مطهرة من الأشياء التي كنت تغضب منها وستكون مطهرة بتطهير الله لها.
﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار ﴾( من الآية ٤٣ سورة الأعراف ) : ونجد الحق يقول مرة :﴿ تجري تحتها الأنهار ﴾ ومرة يقول :﴿ تجري من تحتهم الأنهار ﴾، ونجد " مِن " فارقا بين القولين. إننا نرى من يستقر في قصر ونجد الماء منسابا حوله وتحته يسر العيون، وماء الآخرة هو ماء غير آسن، وليس فيه أكدار الدنيا، وكما أننا نسر بالماء في الدنيا سنسر به أضعاف ذلك في الآخرة. وقد تجري المياه تحت القصر ولكن نبعها من مكان بعيد فيخاف صاحب القصر أن يقطعها آخر عنه، ويطمئن الحق عباده الصالحين : ستجري من تحت جنانكم الأنهار وكل المياه ستكون ذاتيتها من موقع كل مكون أنت فيه ولن يتحكم فيك أحد، ولن يسد أحد عنك منبع المياه وسترى أنهار الآخرة بلا شطآن ؛ لأن كل شيء ممسوك كما في الدنيا، ولكن ب " كن " التي هي لله. ولذلك يقول العباد في جنة الآخرة :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾( من الآية ٤٣ سورة الأعراف ) : إنهم يقولون الحمد لله لأنه جل وعلا قد جمعهم ودلهم وأرشدهم إلى الثواب والنعيم دون منغصات، والحمد لله هي عبادة يقولها المؤمنون في الآخرة ؛ لأنهم أدوا حق الله في تكاليفه في الدنيا ويعطيهم الله فوق ما يتوقعون في الآخرة. ونعيم الآخرة لا قيد عليه، ولن يستطيع بشر مهما ارتقى بالابتكار أن يصل إلى ما في الجنة ؛ لأن الشيء يتحقق لك من فور أن يخطر ببالك. ﴿ وقالوا الحمد لله ﴾ : وهذا الحمد لله كان في الدنيا عبادة تكليف، أما في الآخرة فهو " غبطة وسرور وتلذذ. ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾.
يقولها المؤمن ؛ لأن الله لو لم ينزل منهجا سماويا يحدد له حركة حياته استقامة وينذره ويخوفه من المعاصي لما وصل إلى الجنة. والهداية كما قلنا هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية، إذن لابد أن تعرف الغاية أولا ثم تضع الطريق الموصل لها، بحيث لا يكون معوجا ولا يعترضك فيه ما يطيل عليك المسافة، وقوله الحق :﴿ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ يمنع أن يضع البشر للبشر قوانين تهديهم إلى الغاية ؛ لأن البشر أنفسهم لا يعرفون الغاية ؛ لذلك يوضحها لهم خالقهم بمنهجه المنزل على رسوله.
ومادامت الهداية من الله فسبحانه لن يخاطب كل إنسان مباشرة، لكنه سبحانه ينزل الرسل يتلون علينا آيات الله ويوضحون لنا المنهج ؛ لذلك يأتي الحق في الآية نفسها بقوله الحكيم :﴿ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾. ( من الآية ٤٣ سورة الأعراف ) : أنت في الحياة الدنيا حين تجد من يقول لك : إن أردت أن ترتاح فأنا أنصحك أن تمشي إلى المكان الفلاني واذهب إليه عن الطريق الفلاني، وستجدك سعيدا مرتاح البال، ثم صدقته ونفذت ما قال، ووجدت الرجل صادقا. ألا تشعر بالسعادة ؟. وإذا كان الحق قد أرسل الرسل بالبينات والآيات والمنهج الصحيح، وسار عليه المؤمنون ثم وجدوا الجنة والنعيم ؛ لذلك كان لابد أن يشكروا الله وأن يقولوا :﴿ جاءت رسل ربنا بالحق ﴾. ولأن الرسل لم يكذبوهم بل جاءوا بالخير لهم. ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
وكأن الحق يوضح لنا ونحن في دار التكليف أن نستقبل المنهج على هذا الأساس، وعلى كل واحد أن يحدد مكانه من الجنة ؛ بقربه من منهج الله أو بعده عنه ؛ لأن دخول الجنة هو جزاء العمل طبقا لمنهج الحق. ووقف العلماء هنا جزاهم الله خيرا وقالوا : كيف نوفق بين هذه الآية :﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾. ( من الآية ٤٣ سورة الأعراف ).
وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم :( لن يُدخل أحدا عمله الجنة )، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة١.
وأقول : ليس هناك تناقض بين قول الله سبحانه وتعالى وقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي بلغ عن الله سبحانه، بل بينهما تأييد ؛ فالحق ساعة ما شرع أوضح أن من يعمل العمل الصالح سيدخل الجنة، وهذا التشريع لم يجبر أحد الله عليه، بل هو الذي يعطيه لنا فضلا منه ؛ فليس لأحد حق على الله ؛ لأنه لا يوجد عمل يعود بفائدة على الله، وإتباع المنهج إنما يعود على العبد بالمنفعة والخير، فإن دخلت الجنة فهذا أيضا بالفضل من الله. وينبهنا القرآن إلى الجمع بين هذه الآيات وأنه لا تعارض بين نص حديثي ونص قرآني. يقول :﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( ٥٨ ) ﴾ [ سورة يونس ] :
فجزاء كل عمل عائد على الإنسان لأنه يأخذ مكافأته على فعله، فإن كانت المكافأة أكبر من جزاء الفعل فهي من الفضل ؛ لأن الحق هو القائل :﴿ .. كل امرئ بما كسب رهين ٢١ ﴾ [ سورة الطور ]، وسبحانه أيضا هو القائل :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ٣٩ ﴾ [ سورة النجم ] : إن فهمت اللغة وكنت صاحب ملكة ناضجة تقول : هذه " اللام " للملك. وتفيد أنه لاحق لك على الله إلا بسعيك على وفق منهج الله، وأن هذه الآية قد حددت العدل ولم تحدد الفضل.
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا.. ٥٨ ﴾ [ سورة يونس ] : والمثال على ذلك أننا كمسلمين نصلي على الميت المسلم، وقد أمرنا التشريع بذلك، وأن ندعو الله أن يتجاوز عن سيئاته. فهل تضيف هذه الصلاة إلى الميت شيئا زائدا عن عمله ؟ لو لم تكن صلاة تضيف شيئا لما أمر التشريع بها. فهي صلاة على ميت مسلم، وإسلامه من عمله، ونجد الحق يقول :﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.. ٢١ ﴾ [ سورة الطور ] : أي أن الآباء والأبناء يشتركون معا في الإيمان وفي العمل، قوله تعالى :﴿ ألحقنا بهم ذريتهم.. ٢١ ﴾ [ سورة الطور ] : هذا الإلحاق يفيد أن منزلة الذرية كانت أقل من منزلة الآباء، لكن الحق يرفع من منزلتهم إكراما للآباء.. وهذا الإلحاق جزاء للذرية، وقد يكون أيضا جزاء للآباء ؛ فيحضر لهم أولادهم معهم مادام الكل قد اشتركوا في الإيمان، وكان الآباء يتحرون الحلال في إطعام الأبناء ولا يربونهم إلا على منهج الله. وقد يرى الأب أبناء جار له يلبسون الملابس الفاخرة ويأكلون الأكل الطيب، ويتحمل الأبناء ويعيشون عيش الكفاف مع هذا الأب الملتزم بالعمل الصالح والأجر الحلال، وينال الأبناء الجنة مع الأب لأنهم تحملوا معه مشاق الالتزام بالحلال.
وهكذا نجد كل إنسان مؤمن قد أخذ نتيجة عمله وزيادة. ﴿ .. وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٤٣ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : و " أورثتموها " من " الإرث " وتدل على أن هناك شيئا آل إلى الغير. ونعلم أن الله، علم أزلا كيف سيسلك كل مخلوق وما سيفعله من كفر وإيمان ومعصية، وعلى رغم ذلك أعد سبحانه لكل واحد من خلقه مكانا في الجنة على أنه مؤمن، وأعد لكل واحد من خلقه مكانا في النار على أساس أنه سيكفر.
إذن فقد أعد سبحانه جنانا بعدد خلقه، وأعد أماكن في الجحيم بعددهم، فليست هناك أزمة أماكن عند إله قادر مقتدر. فإن آمنا كلنا فلن يضيق بنا واسع الجنة، و العياذ بالله إن كفر الخلق جميعا فلن تضيق بهم النار. فإذا كانوا جماعة من خلق سيدخلون الجنة بالعمل، فأين تذهب أماكن أهل النار ؟ إن الحق بفضل منه يمنحها المؤمنين. إذن فقد ورثوا الذين لم يستحقوا الجنة بسبب الكفر.
وبعد الكلام في الجنة والجزاء وفي حمد التلذذ والسرور والغبطة وفي عهد الجنة، وبعد ذلك كان من المناسب أن يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن موقف أهل الجنة من أهل النار ؛ فيقول سبحانه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( ٤٤ ) ﴾.
١ رواه البخاري في الرقاق والمرضي ومسلم في صفات المنافقين والترمذي في الجنائز وأبو داود في الجنائز/ والنسائي في الجنائز، وابن ماجة في الزهد، وأحمد في مسنده ٦/١٢٥.
وهكذا نرى التبكيت، وتصور لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضا من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقا وصدقا، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة. فهل يا أهل النار وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟، ونلاحظ أن هناك خلافا بين الأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد ؛ فأهل الجنة يقولون :﴿ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ﴾، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد ( الثانية ) بل قال : " فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟.
إنه قال سبحانه : " ما وعد " فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال :( ما وعدنا ) لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضا الخاص بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلا من الله، وأهل النار في النار بكفرهم وعصيانهم عقابا من الله.
وهنا يجيب أهل النار :( قالوا نعم ). وهذا إقرار منهم بالواقع المشهدي الذي عاشوه واقع بعد أن كان وعيدا، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعا، وتحقق وجودهم في النار.
﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾( من الآية ٤٤ سورة الأعراف ) : أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم ؛ بعدم الإيمان وبالتكذيب باليوم الآخر.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ( ٤٥ ) ﴾.
والذي يصد عن سبيل الله هو من امتنع عن سبيل الله، وصد غيره، أي ضلّ في ذاته ثم أضل غيره، وهؤلاء هم الذين يطلبون منهج الله معوجا، ويذمونه ولا يؤمنون به فيعترضون على إقامة الحدود والقصاص، وينفرون الناس عن منهج الله ؛ لينصرف الناس عن الدين. هم إذن قد صدوا عن سبيل الله وطلبوا العوج فيما شرع الله لينفروا الناس عما شرع الله، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل هم بالآخرة كافرون، ولو كان الواحد منهم مؤمنا بالآخرة ويعلم أن له مرجعا ومردا إلى الله لما فعل ذلك.
ويقول سبحانه من بعد ذلك :﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( ٤٦ ) ﴾.
الحجاب موجود بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهم يتراءون من خلاله، وبينه الحق سبحانه فقال :﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( ١٣ ) ﴾ ( سورة حديد ) : باطن هذا الحجاب الرحمة من ناحية أهل الجنة، وظاهره المواجه لأهل النار فيه العذاب، والحق هو القادر على كل شيء ؛ لذلك لا ينال أهل الجنة شيء من شقاء أهل النار، ولا ينال أهل النار شيء من نعيم أهل الجنة، ويسمع أهل النار ردا على طمعهم في أن ينالهم بعض من نور أهل الجنة، إنكم تلتمسون الهدى في غير موطن الهدى ؛ فزمن التكليف قد انتهى، ومن كان يرغب في نور الآخرة كان عليه أن يعمل من أجله في الدنيا، فهذا النور ليس هبة من خلق لخلق، وإنما هو هبة من خالق لمخلوق آمن به. وأنتم تقولون : انظرونا نقتبس من نوركم، وليس في مقدور أهل الجنة أن يعطوا شيئا من نور أهل الجنة فالعطاء حينئذ لله.
﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ﴾( من الآية ٤٦ سورة الأعراف ) : و " كُلًا " المعنى بها أصحاب الجنة وأصحاب النار، فقد تقدم عندنا فريقان ؛ أصحاب الجنة وأصحاب النار وهناك فريق ثالث هم الذين على الأعراف، و " الأعراف " جمع " عُرف " مأخوذ من عرف الديك وهو أعلى شيء فيه، وكذلك عرف الفرس. كأن بين الجنة مكانا مرتفعا كالعرف يقف عليه أناس يعرفون أصحاب النار بسيماهم، ويعرفون أصحاب الجنة بسيماهم فكأن من ضمن السمات والعلامات ما يميز أهل النار عن أهل الجنة.
وكيف توجد هذه السمات ؟ يقال إن الإنسان ساعة يؤمن يصير أهلا لاستقبال سمات الإيمان، وكلما دخل في منهج الله طاعة واستجابة أعطاه الله سمة جمالية تصير أصيلة فيه تلازمه ولا تفارقه. وبالعكس من ذلك أصحاب النار فتبتعد عنهم سمات الجلال والجمال وتحل محلها سمات القبح والشناعة والبشاعة.
وإذا ما رأى الأعراف أصحاب الجنة يقولون : سلام عليكم ؛ لأن الأدنى منزلة أصحاب الأعراف يقول للأعلى أصحاب الجنة سلام عليكم.
وجماعة الأعراف هم من تساوت سيئاتهم مع حسناتهم في ميزان العدل الإلهي الذي لا يظلم أحدا مثقال ذرة. ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ( ٦ ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( ٧ ) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ( ٨ ) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( ٩ ) ﴾ [ سورة القارعة ] : ويا رب لقد ذكرت الميزان، وحين قدرت الموزون لهم لم تذكر لنا إلا فريقين اثنين.. فريق ثقلت موازينه، وفريقا خفت موازينه، ومنتهى المنطق في القياس الموازيني أن يوجد فريق ثالث هم الذين تتساوى سيئاتهم مع حسناتهم، فلم تثقل موازينهم فيدخلوا الجنة، ولم تخف موازينهم فيدخلوا النار، وهؤلاء هم من تعرض أعمالهم على ﴿ لجنة الرحمة ﴾ فيجلسون على الأعراف. ومن العجيب أنهم حين يشاهدون أهل الجنة يقولون لهم سلام عليكم على الرغم من أنهم لم يدخلوا، لكنهم يطمعون في أن يدخلوا، لأن رحمة الله سبقت غضبه. ﴿ .. وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( ٤٦ ) ﴾ ( سورةالأعراف ) : وبطبيعة الحال ليس في هذا المكان غش ولا خداع.
وماذا حين ينظرون إلى أهل النار ؟ :
﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) ﴾.
انظر إلى التعبير القرآني " صرفت أبصارهم " أي لم يصرفوا أبصارهم لأن المسألة ليست اختيارية ؛ لأنهم يكرهون أن ينظروا لهم لأنهم ملعونون، وكأن في " صرفت أبصارهم " لونا من التوبيخ لأهل النار.
وقوله الحق :﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ ﴾ أي جهة أصحاب النار يقولون :﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ : هنا يدعو أهل الأعراف : يا رب جنبنا أن نكون معهم. إنهم حين يرون بشاعة العذاب يسألون الله ويستعيذون به ألا يدخلهم معهم.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( ٤٨ ) ﴾.
وكأن أصحاب الأعراف قد صرفت أنظارهم لأصحاب النار ويرون فيهم طبقات من المعذبين، فهذا أبو جهل، وذاك الوليد، ومعه أمية بن خلف وغيرهم ممن كانوا يظنون أن قيادتهم لمجتمعهم وسيادتهم على غيرهم تعطيهم كل سلطان وكيان، وكانوا يسخرون من السابقين إلى الإسلام كعمار وبلال وصهيب وخباب، وغيرهم ممن عاشوا للحق ومع الحق، فيقول أهل الأعراف لهؤلاء :﴿ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾.
وكأنهم يقولون لهم : إن اجتماعكم على الضلال في الدنيا لم ينفعكم بشيء.. شياطينكم، والأوثان، والأصنام والسلطان لم ينفعوكم وكذلك استكباركم على الدعوة إلى الإيمان هل أغنى ذلك عنكم شيئا ؟ لا. لم يغن عنكم شيئا.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( ٤٩ ) ﴾.
ويشير أهل الأعراف إلى المؤمنين الصادقين من أمثال بلال وخباب ويقولون لأهل النار من أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة : أهؤلاء الأبرار من أهل الجنة الذين تقولون إنهم لن ينالوا رحمة الله ؟ هم إذن أهل الأعراف قد عقدوا المقارنة والموازنة بين أهل الجنة وأهل النار، وكأنهم نسوا حالهم أن يقفوا في انتظار الفرج وفرحوا بأصحاب الجنة ووبخوا أهل النار، ولم يشغلهم حالهم أن يقفوا موقف الفصل في هذه المسألة، وهنا يدخل سبحانه أصحاب الأعراف جنته لفرحهم بأصحاب الجنة، وتوبيخهم أهل النار ويقول لهم :﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( ٤٩ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : وهؤلاء كما قلنا هم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم ؛ هي الطائفة التي جلست على الأعراف، فلم تثقل حسناتهم لتدخلهم الجنة، ولم تثقل سيئاتهم ليدخلوا النار.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ( ٥٠ ) ﴾.
وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة مستغيثين طالبين أن يعطوهم ويفيضوا عليهم من الماء أو من رزق الله لهم في الجنة، فيقول أهل الجنة : نحن مربوطون الآن ب " كن "، ولم يعد لنا الاختيار، وقد حرم الله عليكم أي شيء من الجنة ومنعه عنكم، فأنتم يا أهل النار ممنوعون أو هذه المتع ممنوعة عنكم. وحين يطلب أهل النار الماء، فهم يطلبون أولياء الوجود، في نار أحاطت بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه.
ولذلك يقول الحق بعد ذلك عن الكافرين الذين حرم عليهم خير الجنة :﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( ٥١ ) ﴾.
وهكذا يبين لنا الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية من هم الكافرون الذين حرّم عليهم الجنة ؛ إنهم من اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وأول مرحلة تمر على الإنسان هي اللعب ثم تأتي مرحلة اللهو. ونعلم أن كل فعل تُوَجّه إليه طاقة فاعلة، وقبل أن توجّه إليه الطاقة الفاعلة يمر هذا الفعل على الذهن كي يحدد الغاية من الجهد. وهذا المقصود له حدود ؛ إما أن يجلب له نفعا، وإما أن يدفع عنه ضُرا. وكل مقصد لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا، فهو لعب.
إذن فتعريف اللعب : هو فعل لم يقصد صاحبه به قصدا صحيحا لدفع ضر أو جلب نفع. كما يلعب الأطفال بلعبهم، فالطفل ساعة يمسك بالمدفع اللعبة أو السيارة اللعبة، هل له مقصد صحيح ليوجه طاقته له ؟. لا ؛ لأنه لو كان المقصد صحيحا لما حطم الطفل لُعَبَه. والطفل غالبا ما يكسر لعبته بعد قليل، وهذا دليل على أنه يوجه الطاقة إلى غير قصد صحيح ولا يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها مضرة.
ولكن حين تُوَجَّه الطاقة إلى ما هو أدنى من المهم فهذا هو اللهو، كأن يكون المطلوب منك شيئا وأنت توجه الطاقة إلى شيء آخر. والذي يعاقب عليه الله هو اللهو. أما اللعب فلا. ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من الأهل أن يدربّوا الأبناء على شيء قد يفيد الأمة كالسباحة والرماية وركوب الخيل، ولكن خيبة البشر في زماننا أنهم جعلوا اللعب غاية لذاته. ومن العجيب أن اللعب صار له قانون الجد ولا يمكن أن يخرقه أحد دون أن يُعاقب ؛ لأن الحَكم يرقب المباراة، وإذا ما تناسى الحكم أمرا أو أخطأ هاج الجمهور. وأتساءل : لقد نقلتم قانون الجد إلى اللعب، فلماذا تركتم الجد بلا قانون ؟.
وكذلك نجد أن خيبة اللهو الثقيلة ؛ لأن الإنسان اللاهي يترك الأمر المهم ويذهب إلى الأمر الغير المهم. فيجلس إلى لعبة النرد وهي الطاولة ويترك الشغل الذي ينتج له الرزق، وليت هذا اللهو مقصور على اللاهي، ولكنه يجذب أنظار غير اللاهي ويأخذ وقته، هذا الوقت الذي كان يجب أن يُستغل في طاقة نافعة. وفساد المجتمعات كلها إنما يأتي من أن بعضا من أفرادها يستغلون طاقاتهم فيما يعود على ذواتهم ولا على أمتهم بالخير. إذن فاللهو طاقة معطلة. ﴿ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ : وغرورهم بالحياة الدنيا إنما يأتي من الأسباب التي خلقها مستجيبة لهم فظن كل منهم أنه السيد المسيطر. وحين غرتهم الحياة الدنيا نسوا الجد الذي يوصلهم إلى الغاية النافعة الخالدة، ويكون عقابهم هو قول الله سبحانه :﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾( من الآية ٥١ سورة الأعراف ) : فهل يعني قوله عز وجل : " ننساهم " أنه يتركهم لما يفعلون ؟. لا، بل تأخذهم جهنم لتشويههم، ونسيانهم هنا هو أنه سبحانه لا يشملهم بمظاهر فضله ولطفه ورحمته ويتركهم للنار تلفح وجوههم وتنضج جلودهم.
وهكذا يتأكد من جديد أن الدنيا هي المكان الذي يعد فيه الإنسان مكانه في الآخرة، فإن أراد مكانا في عليين فعليه أن يؤدي التكليف الذي يعطيه مكانه في عليين. وإذا أراد مكانه أقل من ذلك فعليه أن يؤدي العمل الأقل. كأن الإنسان بعمله هو الذي يحدد مكانه في الآخرة ؛ لأن الحق لا يجازي الخلق استبدادا بهم وافتياتا أو ظلما، ولكنه يجازي الإنسان حسب العمل ؛ لذلك فهناك أصحاب الجنة، وهناك أصحاب النار، وهناك أصحاب الأعراف. وهذا العلم الذي يُنزله لنا الحق قرآنا ينذرنا ويبشرنا هو دليل لكل مسلم حتى نتنافس على أن تكون مواقعنا في الآخرة مواقع مشرفة.
﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( ٥١ ) ﴾ ( سورة الأعراف )، وحين يقول الحق سبحانه :﴿ وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ فالآيات إما كونية :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ﴾( من الآية ٣٧سورة فصلت )، وإما آيات قرآنية كقوله سبحانه :
﴿ كتاب فصلت آياته ﴾( من الآية ٣ سورة فصلت )، وإما أن تكون آيات معجزات لإثبات النبوة كقوله سبحانه :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾( من الآية ٥٩ سورة الإسراء ) : هم إذن جحدوا الآيات كلها، وكان أول جحود هو جحود بالآيات الكونية التي شاهدوها قبل أن يأتي التكليف، فهم عاشوا الليل والنهار. وتنفسوا الهواء، واستمتعوا بدفء الشمس، وروي المطر أراضيهم ووجدوا الكون مرتبا منظما يعطي الإنسان قبل أن يكون للإنسان إدراك أو طاقة، وكان يجب أن تلفتهم هذه الآيات إلى أن لهم خالقا هو الحق الأعلى. وحين جاء لهم الموكب الرسالي جحدوا آيات المعجزات التي تدل على صدق الرسل. وحين جاء القرآن معجزا جحدوا الآيات التفصيلية التي تحمل المنهج. إذن فلا عذر لهم في شيء من ذلك لأن الحق يقول :﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٥٢ ) ﴾.
أي لا عذر لهم في شيء من هذا الجحود ؛ لأن الكتاب مفصل، وقد يقولون : إن الكتاب طارئ علينا، وكذلك الرسول الذي جاء به. إذن فما موقفهم من الآيات الكونية الثابتة ؟ لقد جحدوها أيضا. ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾.
" وفصلناه " أي أنه سبحانه لم ينزل كلاما مجملا أو مبهما، لا، بل فيه تفصيل العليم الحكيم، أنه فصل أحكامه ومعانيه ومواعظه وقصصه حتى جاء قيما غير ذي عوج، وسبحانه هو القادر أن ينزل المنهج المناسب لقياس ومقام كل إنسان.
إنه حينما يأتي إلينا من يستفتينا في أي أمر ويحاول أن يلوي في الكلام لنأتي له بفتوى تبرر له ما يفعله، فنحن نقول له : ليس لدينا فتوى مفصلة ؛ لأن الفتاوى التي عندنا كلها جاهزة، ولك أن تدخل بمسألتك في أي فتوى.
﴿ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٥٢ ) ﴾( سورة الأعراف ) : وهناك أناس سمعوا القرآن ورأوا الآيات واهتدوا، فلماذا اهتدى هؤلاء وضل هؤلاء ؟ لقد آمن من صدق بالوجود الأعلى كما قلنا في سورة البقرة :﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين٢ ﴾ [ سورة البقرة ] : إذن فقد آمن بالقرآن من اهتدى إلى الحق، ومنهم من أوضح الحق عنهم : أنهم حين يستمعون القرآن تفيض أعينهم من الدمع. وأيضا هناك من لا يلمس الإيمان قلوبهم حين يستمعون إلي القرآن.
﴿ ومنهم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفً.. ( ١٦ ) ﴾ [ سورة محمد ] : وهؤلاء هم الذين غلظت قلوبهم فلم يتخللها أو يدخلها ويخالطها نور القرآن، لذلك تجد الحق يرد عليهم بقوله سبحانه :﴿ .. أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( ١٦ ) ﴾ [ سورة محمد ].
ويقول سبحانه :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى.. ( ٤٤ ) ﴾.
سبق أن ضربنا المثل بأن الفعل في بعض الحالات واحد، لكن القابل للفعل مختلف، لذلك تكون النتيجة مختلفة. وعلى سبيل المثال : إذا كنت في الشتاء، وخرجت ووجدت الجو باردا، وشعرت أن أطراف أصابعك تكاد تتجمد من البرد، فتضم قبضتيك معا وتنفخ فيهما، وقد تفعل ذلك بلا إرادة من أجل أن تدفئ يديك. وكذلك حين يأتي لك كوب من الشاي الساخن جدا، وتحب أن تشرب منه، فأنت تنفخ فيه لتأتي له بالبرودة. والنفخة من فمك واحدة ؛ تأتي بحرارة ليديك، وتأتي بالبرودة لكوب الشاي، وهكذا فالفعل واحد لكن المقابل مختلف. وكذلك القرآن فمن كان عنده استعداد للإيمان فهو يهتدي به، ومن لا يملك الاستعداد فقلبه غلف عن الإيمان.
وموقف هؤلاء العاجزين عن استقبال الرحمة موقف غير طبيعي، وماذا ينتظرون بعد هذا الكفر، وبعد الافتئات وبعد الاستكبار وبعد التأبي وبعد اتخاذ الدين لهوا ولعبا، ماذا ينتظرون ؟ ها هو ذا الحق سبحانه يوضح لهم العاقبة :
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٥٣ ) ﴾.
وما معنى التأويل ؟.. التأويل هو ما يؤول إليه الشيء، هو العاقبة التي يعدها الحق، فالرحمة والجنة لمن آمن، والنار لمن كفر، والحق هو من يقول ويملك قوله لأن الكون كله بيده.
وهنا يقول سبحانه وتعالى :﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ﴾ : أي هل ينتظرون إلا المرجع الذي يؤول إليه عملهم ؟ إن مرجعهم الأخير هو العذاب بعد الحساب يوم يأتي تأويل وغاية وعاقبة ما عملوا.
وحين يأتي يوم القيامة ويتضح الحق ويظهر صدق ما جاء به الرسول من الوعد والوعيد ماذا سيكون قولهم ؟.. سيقولون ما أورده سبحانه على ألسنتهم :﴿ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ : أي أنهم سيعلنون التصديق حين لا ينفع هذا التصديق ؛ لأنهم يكونوا في دار التكليف، سيقرون بالإيمان لحظة لا ينفعهم ذلك.
﴿ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ﴾( من الآية ٥٣ سورة الأعراف ) : هم إذن يقرون بأن الرسل حملت المنهج الحق ويتساءلون عن الشفيع. ونعلم أن الشفيع لابد أن يكون محبوبا عند من يشفع عنده، ونحن في الدنيا نجد من يبحث لنفسه عمن يشفع له عند صاحب جاء يكون أثيرا وعزيزا لديه، أو يكون له كلمة وفضل عليه فلا يرد عليه كلمته. فمن يأتي يوم القيامة بالشفاعة لهؤلاء ؟.. لا أحد، وسنجدهم يتخذون الشفعاء من الذين اتخذوهم أندادا لله. وسيعلن هؤلاء أيضا الكراهية لهم، ولو مكنهم الله من الشفاعة ما أعطوها للكافرين المشركين ؛ ففي الدنيا كان هؤلاء مؤتمرين بأمر البشر وضلالاتهم. أما يوم الحساب فلا أحد خاضع لإرادة أحد، حتى الجوارح لا تخضع لإرادة صاحبها، بل هي خاضعة للحق الأعلى. وفي الآخرة لا مرادات لأحد.
وقد ضربنا من قبل المثل وقلنا : هب أن سرية في الجيش وما عليها قائد صغير برتبة ضابط، ومفروض في جنود السرية أن ينفذوا كلامه، ثم راحوا لموقعة وأعطاهم الضابط الصغير أوامر خاطئة بما له من فرض إرادة عليهم فنفذوا ما أمروا به. ولحظة أن يعودوا ويحاسبهم القائد الأعلى فسيقولون : لقد فعلنا ما أمرنا به الضابط المكلف بقيادتنا، وكذلك ستأتي الجوارح في الآخرة : تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وجلودهم.
إذن فالأبعاض سترفع شكواها إلى الله يوم ألا يكون لأحد من ملك سواه، ويومئذ سيقول المكذبون الصدق الذي لن ينفعهم.
﴿ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾( من الآية ٥٣ سورة الأعراف ) : وسوف يبحثون عن شفاعة، لكنهم لن يجدوا، بل إن أول من يسخر من الذين عبدوا غير الله هم المعبودون أنفسهم. ولذلك نجد قوله الحق سبحانه :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( ٩٨ ) ﴾ ( سورة الأنبياء ) : وما ذنب المعبود ؟.. إن الأصنام لا ذنب لها، بل كل منها يريد أن يشفي نفسه بأن يكون أداة تعذيب لمن أعطوه غير حقه. ولذلك نجد أن الأحجار التي عُبدت تقول : عبدونا ونحن أعبد الله من القائمين بالأسحار ؛ لأن القائم بالأسحار من الأغيار قد يختار أمرا غير هذا، ولكنا كنا مقهورين على الطاعة. وقد اتخذوا صمتنا علينا دليلا.
إن الأحجار تعلن أنها لم تكن تملك قدرة رفض أن يعبدها أخد أو أن تبعده عنها وتعلن له غباءه. والشاعر يقول :
قد تجنوا جهلا كما قد تجنوا *** على ابن مريم والحواري
للمغالي جزاؤه والمغالي *** فيه تنجيه رحمة الغفار
وهكذا يأتيهم الحق واضحا يوم القيامة.
إنهم سيطلبون العودة إلى الدنيا، وهذا من الخيبة ؛ لأن مثل هذا الإقرار ليس من الإيمان، فالإيمان يكون بالغيب لا في المشهد. وحتى ولو عادوا، فلن يؤمنوا !
والحق هو القائل :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾ ( من الآية ٢٨ سورة الأنعام ) : وكأنهم نسوا لحظة إقرارهم أنهم من الأغيار، وأتى فيهم القول الفصل من الله. ﴿ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾( من الآية ٥٣ سورة الأعراف ) : لقد جاء لهم الخسران بعد أن غاب عنهم ما كانوا يفترون على الله في الدنيا، إنهم رفضوا عبادته سبحانه وعبدوا غيره أصناما صارت وقودا للنار التي سيصلونها.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٥٤ ) ﴾.
هنا ربوبية، وهنا ألوهية : " ربكم الله " ولا أحد يختلف في مسألة الربوبية لأن الحق يقول على ألسنة الكافرين والمشركين :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله.. ٣٨ ﴾ [ سورة الزمر ] : وكذلك إن سألتهم من خلقهم ؟ سيقولون : الله، ولم يدّع أحد نفسه مسألة الربوبية، لأن الربوبية جاءت بنفع لهم، لكن الألوهية دخلت بمنهج هو : " افعل ولا تفعل " ؛ لأن التكليف من الإله الرب، والتكليف نعمة منه وهو لمصلحتكم أنتم، فلا شيء في التكليف يعود على الله. وفعلكم الحسن أو السيئ لن يعطي لله صفة لم تكن له ؛ لأن صفات الكمال أوجدكم. وإن كنتم أتم في شك في هذه الربوبية فربكم هو الله ولله المثل الأعلى منزه عن التشبيه، كأن تقول الأم للولد : قال لك أبوك لا تسهر خارج المنزل ليلا، فيتأبى الولد. وتنبه الأم ولدها : إن أباك هو الذي يأتي لك بالأكل والشرب، والملابس ويعطيك مصروف اليد.. الخ.
وقد ضربت هذا المثل لأشرح كيف أن المكلف هو الرازق ولا أحد سواه يرزق، ولذلك كان يجب أن تقبل تكاليفه لأنه سبق لك بالفضل بأن أعطى لك وسخر لك الدنيا. ومن قبل فصل الحق سبحانه لنا خلق الإنسان، ويفصل لنا هنا خلق السماء والأرض لأن ظرف وجود الإنسان هو السماء والأرض، وكل خيرات تأتي له من السماء ومن الأرض، وإذا كان الله قد علمنا كيف خلقنا، فهو يعلمنا كيف خلق السماوات والأرض، وخلق السماوات والأرض مسألتان ينشغل بهما العلم الحديث، فمن العلماء من قال : إن الأرض انفصلت عن الشمس، ومنهم من افترض نظريا أن الإنسان أصله قرد، ولهؤلاء نقول : هذا حكم منكم لا يقبل ؛ لأنكم لم تشهدوا الخلق، ولذلك فعليكم أن تسمعوا ممن خلق الخلق ليقول لكم كيف خلق الخلق.
هو سبحانه يقول :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٥٤ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : والآية تتعرض للخلق الأول وهو السماوات والأرض كما أوضحت وهو الظرف الوجودي للإنسان الخليفة وطرأ الإنسان على هذا الكون بكل ما فيه من قوى ونواميس، فكأن الله أعد للخليفة قبل أن يُخلق الخليفة ليجيء الخليفة فيجد كونا مسخرا له ؛ ولا يستطيع أي كائن منه أن يخرج عن مراد الله في شيء ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ ﴾ : ومعنى " خلق " أي أوجد شيئا كان معدوما وبرأه على غير مثال سبقه. فربنا سبحانه قد كل شيء بنظام دقيق غير مسبوق، هذا معنى الخلق، وكلمة " الخلق " مادتها الفاعلة هي : خالق، وسبحانه وتعالى يجمعهما مع أنه الخالق الوحيد فيقول :﴿ .. فتبارك الله أحسن الخالقين ١٤ ﴾[ سورة المؤمنون ] : إذن فهناك الخالق الأعلى وهو الله، ولكنه سبحانه أيضا أشرك خالقا غيره معه فقال جل وعلا :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾. كيف ؟ ؛ لأن الخلق إيجاد شيء معدوم، والذي صنع الميكرفون يقال خلقه، والذي صنع الكوب يقال خلقه، والذي صنع المصباح يقال خلقه، لأنه كان شيئا معدوما بذاته، فأوجده. لكن الفارق أن الخالق من البشر يوجد معدوما من موجود ولا يأتي بمادة جديدة ؛ فمن أخذ المواد الموجودة في الكون وصمم منها المصباح وصهر الرمل وفرغ الهواء داخل الزجاجة يقال له : خلق المصباح وأوجد معدوما من موجود.
لكن الخالق هو خير الخالقين لأنه يخلق من عدم ولم يحرم خلقه حين يوجدون شيئا معدوما من أن يوصف الواحد منهم بأنه خالق، وسبحانه حين خلق خلق من لا شيء، وأيضا فإنكم حين تخلفون أي صنعة تظل جامدة على هيئة صناعتها، فمن صنع الكوب من الرمل المصهور يظل الكوب هكذا، ولا نستطيع كما سبق أن قلت قديما أن نأتي بكوب ذكر، وكوب أنثى، ونضعهما معا في مكان ونقول لهما : أنجبا لنا أكوابا صغيرة.
لكن ما يخلقه ربنا يعطي له سر الحياة ويجعله بالقانون ينتج غيره وينمو ويكبر. إذن فهو أحسن الخالقين. والله سبحانه وتعالى يعطينا خير خبر خلقه السماوات والأرض. وأوضح سبحانه أن السماوات سبع وقد جاءت مجموعة. أما الأرض فجاء بها مفردة. لكنه جل وعلا قال في آية أخرى :﴿ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ﴾. ( من الآية ١٢ سورة الطلاق ) : فكلما خلق سبع سماوات خلق سبع أراضين، ولماذا جاء بالسماء بالجمع وترك لفظ الأرض مفردا ؟.. لماذا لم يقل : سبع أراضين ؟ ؛ لأن كلمة " أراضين " ؟ ثقيلة على اللسان فتركها لثقلها وأتى بالسماوات مجموعة لخفتها ويسر نطقها.
والسماء هي كل ما علاك فأظلك، وهذا معنى السماء في اللغة. لكن هل السماء التي يريدها الله هي كل ما علاك ؟.. إن النجم هو ما علاك ؛ وقد يقال : إن الشمس علتك، والقمر علانا جميعا. ونلفت الانتباه هنا ونقول للناس الذين أحبوا أن يجعلوا السماوات هي الكواكب إنها ليست دائما ما علانا ؛ فالشمس تعلوا وقتا وتنخفض وقتا آخر. وكذلك القمر.
إذن فالوصف منحسر عن الشمس أو القمر بعض الوقت، ولا يصح أن يوصف أي منهما بأنه سماء دائما. وشيء آخر وهو أنهم حينما قالوا عن الكواكب التي كانت معروفة بأنها كواكب سبعة وقالوا : إن هذه هي السماء، إنهم بقولهم هذا قد وقعوا في خطأ. وأوضح الحق لنا بالعلم أن للشمس توابع أخرى. فمرة رأى العلماء ثمانية توابع، ومرة تسعة، وأخرى عشرة توابع، وهكذا انهدمت فكرة أن التوابع هي السماء، وبقيت السماء هي ما فوق هذا كله، والحق هو القائل :﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب٦ ﴾ ( سورة الصافات ) : هذه إذن زينة للسماء الدنيا، والسماء التي يقصدها ربنا ليست هي التي يقولون عليها، بل السماء خلق آخر لا يمكن لأحد أن يصل إليه، وكان الجن قديما يقعدون منها مقاعد للسمع ﴿ فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ﴾. وحدث هذا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم والحق هو من قال لنا ذلك. ولم يوضح الحق لنا حقيقة هذه السماء ونظامها، أي أن ربنا يريد لعقولنا أن تفهم هذا القدر فحسب، وسبحانه خالق السماء التي فوقنا وهو جل وعلا خالق أراضين. وأين هي هذه الأراضين ؟.. أهي أراضين مبعثرة ؟.
ولقد أثبت العلم أن كل مجرة من المجرات فيها مليون مجموعة شمسية، وكل مجموعة شمسية فيها أرض، إذن فهناك أراض عديدة، ونلحظ أن الحق سبحانه حين يتكلم عن الأرض فكل مخاطب بالأرض التي هو فيها، ولذلك قال بعض العلماء : إن في هذا العالم العالي توجد أراض، وكل أرض أرسل لهم الحق
رسولا.
والحق هو القائل :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ( ٢٩ ) ﴾( سورة الشورى ) : ويعطينا العلم كل يوم مزيدا من الاكتشافات. وهكذا تكون السماء هي كل ما علاك والأرض كل ما أقلك. وما دامت سبع سماوات والسماء الأولى فراغ كبير وفضاء، وتأتي بعدها السماء الثانية تُظل السماء الأولى، وكل سماء فيها أرض وفيها سماء أخرى. ونحن غير مكلفين بهذا، نحن مكلفون بأن نعلم أن الأرض التي نحن عليها مخلوقة لله.
والحق يقول :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.. ٥٤ ﴾ ( سورة الأعراف )،
وقوله : " في ستة أيام " وهو ظرف للخلق. واليوم نعرف أنه المدة من طلوع الشمس إلى الغروب ثم إلى الشروق ومدته أربع وعشرون ساعة. ولكن لابد لنا أن نعرف بعضا من اصطلاحات الحق القرآنية.
فهو يقول سبحانه وتعالى :﴿ .. سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ١٨ ﴾ [ سورة سبأ ] : أي هناك ليل وهناك يوم، إذن فاليوم عند الحق غير اليوم عندنا ؛ لأننا نطلق على المدة الزمنية من طلوع الشمس إلى غروبها وشروقها من جديد. هكذا يكون اليوم في العرق الفلكي : من شروق إلى شروق، أو من غروب إلى غروب، وقول الحق :﴿ سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ﴾ : يعني أنه سبحانه قد جعل الليل قسما والنهار قسما، وهل كان هناك من عرف اليوم إلا بعد أن وجدت الشمس ؟.. وإذا كانت الشمس هي التي تحدد اليوم فكيف عرف اليوم قبلها وخصوصا أن السماء والأرض حينما خلقتا لم تكن هناك شمس أو كواكب ؟.. وعلينا هنا أن نعرف أن هذا هو تقديره سبحانه وقد خاطبنا به بعد أن عرفنا مدة اليوم. ألم تقرأ قول الله سبحانه :﴿ .. ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ٦٢ ﴾ [ سورة مريم ] : وليس في الآخرة بكرة ولا عشي، إذن سبحانه قدر البكرة وقدر العشي، وكذلك " في ستة أيام " وتلك هي الآيات المحكمات في القرآن بالنسبة لزمن الخلق ؛ ستة أيام، ولكن آية التفصيل للخلق، جاءت في ظاهر الأمر أنها ثمانية أيام. اقرأ معي :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٩ ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ( ١٠ ) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( ١١ ) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ في يومين.. ( ١٢ ) ﴾ [ سورة فصلت ].
والظاهر من آية التفصيل أنها ثمانية أيام، أما آيات الإجمال فكلها تقول : إنها أيام، ومن النقطة داخل المستشرقون، وادعوا زورا أن القرآن فيه اختلاف، وحالوا أن يجعلوها ضجة عالية. ونقول : إنه سبحانه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام كاملة بلا زيادة ولا نقصان، فالمراد أن ذلك حصل وتم في تتمة أربعة أيام ويضم إليها خلق السماوات في يومين فيكون عدد الأيام التي فيها خلق السماوات والأرض ستة أيام أو نحمل المفصل على المجمل، فحين يقول الحق :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.. ٥٤ ﴾[ سورة الأعراف ]، فهل خلق الله يحتاج إلى علاج حتى يتطلب الزمن الممتد ؟.. إن ربنا يخلق ب " كن "، ونحن البشر نعالج على حسب قدرتنا لنخلق شيئا، وكل عملية نقوم بها تأخذ زمنا، لكن من يخلق بكلمة " كن " فالأمر بالنسبة له هين جدا سبحانه وتعالى لكن لماذا جاء بخبر الخلق قي ستة أيام ؟.
نعلم أن هناك فرقا بين ميلاد الشيء وبين تهيئته للميلاد. وكنا قد ضربنا المثل سابقا ولله المثل الأعلى بصانع الزبادي، الذي يأتي بأكواب اللبن الدافئ، ثم يضع في كل جزء منها جزءا من خميرة الزبادي، ويضع تلك الأكواب في الجو المناسب. فهل يؤدي هذا الرجل عملا لمدة اثنتي عشرة ساعة في كل كوب، وهي المدة اللازمة لتخمر الكوب ؟.. طبعا لا، فقد اكتفى بأن في كل كوب عناصر التخمر لتتفاعل بذاتها إلى
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٥٥ ) ﴾.
والدعاء إنما يكون من عاجز يدعوا قادرا على إنجاز وتحقيق ما عجز عنه أو يعينه عليه. وعندما تشعر أنك عاجز فأنت ترتكن إلى من له مطلق القدرة ؛ لأن قدرتكم محدودة. إذن فإن كنت تطغى أو تتكبر فاعرف مكانتك ومنزلتك جيدا وتراجع عن ذلك لأنك عرض زائل، والدعاء هو تضرع، وذلة، وخشوع، وإقرار منك بأنك عاجز، وتطلب من ربك المدد والعون. واستحضار عجزك وقدرة ربك تمثل لك استدامة اليقين الإيماني. وما جعل ربنا للناس حاجات إلا من أجل ذلك ؛ لأن الإنسان إذا ما رأى الأشياء تنفعل له، ويبتكر ويخترع فقد يأخذه الغرور، فيأتي بحاجة تعز وتعجز فيها الأسباب، فيقف ليدعوا. ومن كان متكبرا وعنده صلف وغطرسة يذهب إلى رجل " غلبان " زاهد تجرد من الجاه والسلطان منقطع لعبادة الله ويقول له : أستحلفك برسول الله أن تدعوا لي لأني في أزمة والذي يسأل الغلبان الزاهد هو رجل عزيز في قومه لكنه يظن أن الغلبان الزاهد أقرب إلى الله منه.
إذن الدعاء هو الضراعة وإظهار الذلة والخشوع لله ؛ لكي يستديم اليقين الإيماني.
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾( من الآية ٥٥ سورة الأعراف ) : وإياك أن تدعوا وفي بالك أن تقضي حاجتك بالدعاء، عليك بالدعاء فقط لإظهار الضراعة والذلة والخشوع، ولأنك لو لم تدع فستسير أمورك كما قُدر لها، والدعاء هو إظهار للخشوع، وإياك أن تفهم أنك تدعوا الله ليحقق لكم مطالبك ؛ لأنه سبحانه منزه أن يكون موظفا عندك، وهناك نظام وضعه سبحانه لتحقيق مطالب العباد. ومن الناس من يطلب بالدعاء أشياء ضارة.
﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ( ١١ ) ﴾ ( سورة الإسراء ) : والإنسان قد يتعلق قلبه بأماني قد تضره ؛ لذلك نقول " لا تتعجل بالدعاء طلبا لأمنيات قد تكون شرا عليك، والحق العليم ينظم لنا أمورنا، وإياك أيضا أن تيأس حين لا تجاب دعوتك التي في بالك ؛ لأن الله يحقق الخير لعباده. ولو حقق لك بعضا مما تدعوا فقد يأتي منها الشر، ويترك الله لأقضيتك أمورا تبين لك هذا، وتقول : إن الشيء الفلاني الذي كنت أتمناه تحقق وجاء شرا علي. مثال ذلك قد تحجز لطائرة لكنك لا تلحق بها فقد أقلعت قبل أن تصل إليها وحزنت لأن بعضا من مصالحك قد فاتك ولم يتحقق وتفاجأ بأن هذه الطائرة سقطت في البحر.
إذن، اجعل حظك من الدعاء هو الخشوع والتذلل والضراعة له سبحانه لا إجابتك إلى ما تدعوا إليه، إنك دعوت لتطلب الخير، فدع الحي بقيوميته وعلمه يحقق لك الخير واسمع قول الله :﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ( ١١ ) ﴾( سورة الإسراء ) : إذن فحين يقول الحق :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾ فسبحانه يطلب منا أن ندعوه لأننا سنواجه لحظات متعددة نعجز فيها عن أشياء، فبدلا من أن تظل مقهورا بصفة العجز عن الشيء اذكر أن لك ربا قويا مقتدرا، وساعة تذكر ذلك لن تأخذك الأسباب من حظيرة الإيمان. وقلنا من قبل : من له أب لا يحمل هما للحياة، فإذا كان الذي له أب لا يحمل هما لمطلوبات الحياة فمن له رب عليه أن يستحي ويعرف أن ربه سيوفر له الخير ؛ لذلك يوضح سبحانه : إذا أعجزتكم الأسباب فاذكروا أن لكم ربا. وقد طلب منكم أن تدعوه، ولا تظن أن حظك من الدعاء أن تجاب إلى ما طلبت، بل ليكن حظك من الدعاء إظهار التذلل والخشوع لله ؛ فقد يكون ما حدث لك نتيجة أنك قد اغتررت بنفسك. وقد سبق " قارون " إلى الغرور، فماذا حدث له ؟.. لقد هزمه الحق وأنزل به شر العقاب. وقد يجعل الحق من تأبّى الأسباب وامتناعها عليك مغزى لتلتفت إلى الله، لكن لفتتك لله لا يصح أن تكون بغرض أن يقضي حاجتك، بل اجعل أساس لفتتك لله أن تظهر العجز أمامه والخضوع والخشوع ؛ ليعطيكم ما لم يكن في بالك حين تدعو.
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾( من الآية ٥٥ سورة الأعراف ) : خفية لها معنى وهو أن يكون الدعاء دعاء مستورا مختبئا، ولها معنى آخر وهو أن تكون من الخوف أي ادعوا ربكم خوفا من متعلقات صفات الجلال كالجبار والقهار أو خوفا من أن يردها الله عليك فلا يقبلها منك.
ادعوا ربكم تضرعا بذلة وانكسار وخضوع خفية بينك وبين ربك، فلا تجهر بالدعاء وتجعله عملك الوحيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا حينما كان في غزوة غزاها فنزل أصحابه واديا، فلما نزلت الوادي صاحوا بالتهليل والتكبير، فقال :( أيها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم )١. الدعاء إلى الله خُفية يبتعد بك عن الرياء وهو أستر لك في مطلوباتك من ربك لأنه حين يوضح لك : ادعني في سرّك لأنني سميع عليم ؛ أعلم كل ما ظهر منك وما بطن، ادع بالخضوع والخشوع والتذلل لتنكسر فيك شهوة الكبرياء، وشهوة الغطرسة وشهوة الجبروت.
وإذا ما نظرت إلى هذا تجد أن كثيرا من العلماء يقولون : نعرف قوما يقرأون القرآن في محضرنا وما عرفنا لشفاههم حركة، وعرفنا قوما يستنبطون الأحكام من كلام الله وما رأينا منهم انفعالا يصرفهم عنا. إذن فالمسألة تعبر عن شغل باطني داخلي.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعدنا عن الرياء ويريد أن يستر علينا مطلوباتنا ؛ لأن الإنسان قد يطلب من الله سبحانه وتعالى ما يستحي أن يسمعه آخر.
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾( من الآية ٥٥ سورة الأعراف ) : ولو نظرت إلى هذه الآية لوجدت أن كثيرا من الناس يخالفونها مخالفات جماعية ؛ في الليل مثلا تجد من يصعدون على المآذن أو يصيحون في مكبرات الصوت التي أغنتهم عن صعود المآذن، ويكون الواحد من هؤلاء نائما طول النهار لأن رفع الأذان هو عمله ليس غير، وبعد ذلك يظل يصرخ ويستغيث ويقول : " أن هذه ابتهالات ". بينما من الناس من هو نائم ليأخذ قسطه من الراحة ليؤدي عمله نهارا، ولا أحد يطلب من هذا النائم إلا أنه وإذا جاء الفجر يستيقظ ويؤدي الصلاة. فلماذا نقلق الناس بهذا ؟ إننا لابد أن ننبه هؤلاء الذين يظنون أنهم يذكرون الناس بدين الله، إنهم بعملهم هذا لا يسلكون الطريق الصحيح ؛ لأننا لا يمكن أن نذكر الناس بالله ونصنع مخالفة أو نؤذي أحدا ؛ فسبحانه يقول :﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾. والتضرع والخفية تقتضي ألا أقلق الناس، أو أن أعلن الأمور التي أريدها لنفسي خاصة بصوت عال مثل من يأتي في ختام الصلاة ويقول دعاءه بصوت عال وهو رافع يديه، ولمثل هذا أقول : إن الله سبحانه وتعالى جعل لنا القنوت لندعو فيه، وترك كل مسلم أن يدعو بما ينفعل له. وأنت حين تدعو في ختام الصلاة قد يوجد مصل مسبوق لحق الصلاة بعد أن سبقه الإمام بركعة أو باثنتين أو بثلاث ويريد أن يكمل صلاته، وأنت حين ترفع صوتك بالدعاء حين تختم صلاتك إنما تفسد عليه إتمام صلاته. وتشغله بمنطوق من عندك وبكلام من عندك عن شيء واجب عليه. ومن يفعل ذلك إنما يفعله عن حسن نية، لكنه يسيء إلى عبادة آخر.
إذن فلابد أن نتنبه إلى أن الله سبحانه وتعالى له مطلوبات، هذه المطلوبات قد تخالفها النفس لغرض ترى أنه حسن، لكن خدها في إطار :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ( ١٠٣ ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ١٠٤ ) ﴾ [ سورة الكهف ] : فلابد أن ننتبه إلى مثل هذه المسائل، وعلينا أن نوفر الراحة لمن ينام ليقوم ويصلي الصبح ويذهب على عمله ؛ لذلك لا داعي أن يفتح إنسان " الميكرفون " ويعلو صوته بالدعاء، ومن يفعل ذلك يظن أنه يحرص على أمر مطلوب فيزعج النائم، بل ويزعج من يصلي بالليل أو " يشوش " على من يقرأ القرآن أو يستذكر بعضا من العلم. إن على من يفعل ذلك أن يترك كل إنسان لانفعالات، وأن يكون ملك نفسه وملك اختياره ويعطينا الحق سبحانه وتعالى صورا كهذه فيقول :﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ( ٣ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا.. ﴾( الآية ٣ ومن الآية ٤ سورة مريم ) : إذن كلمة " خفي " موجودة في القرآن، ولابد أن نتنبه إلى الدعاء الخفي. ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٥٥ ) ﴾( من الآية ٥٥ سورة الأعراف ) : إذن إن لم يكن تضرعا فهو اعتداء في الدعاء ؛ لأنك مكلف والله هو المُكَلَف، وهو يقول لك : ادعوني تضرعا وخفية. فإن فعلت غير هذا تكن معتديا، وعلى كل هؤلاء أن يفهموا أنهم معتدون فإما أن يكون الاعتداء في أسلوب الطلب وإما أن يكون الاعتداء في المطلوب. لأن الحق حدد أسلوب الطلب فأوضح : ادعوني بخفاء، فإن دعوت في غير الخفاء تكن معتديا على منهج الله. وكذلك قد يكون الاعتداء في المطلوب فلا يصح مثلا أن تقول : إنني أدعوك يا رب أن تجعلني نبيا. إن ذلك لا يصح وربنا سبحانه وتعالى علمنا فيما سرده عن نوح. فقال :﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ( ٤٥ ) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ٤٦ ) ﴾ ( سورة هود ) : وهنا نبه الحق نوحا إلى الاعتداء في المطلوب فقال الحق :﴿ فلا تسألن ما ليس لك به علم ﴾
( من الآية ٤٦ سورة هود ) : ولذلك نجد نوحا يستغفر لأنه سأل ودعا الله هذا الدعاء عن غير علم، فلما عرف ذنبه استغفر الله وقال :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾( من الآية ٤٧ سورة هود ).
وقال له الحق سبحانه :﴿ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ﴾ ( من الآية ٤٨ سورة هود ) : إذن فالذي لا يسمع منهج الله أولا يطبقه في الدعاء يكون معتديا على الحق سبحانه وتعالى، وسبحانه لا يحب المعتدين.
١ رواه مسلم بهذا اللفظ ورواه البخاري، ومعنى: "اربعوا" ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( ٥٦ ) ﴾.
الأرض هي مكان الخليفة وهو الإنسان، وفيها الأسباب الأصيلة لاستبقاء الحياة والسماء والأرض والشمس والهواء كل مسخر لك. ولا تحتاج إلى تكليف فيه، فلا أنت تقول : " يا شمس أشرقي " أو " يا هواء هب " فكل ذلك مسخر لك. وأنت مطالب ألا تفسد فيما لك فيه اختيار ؛ لأنك لا تستطيع أن تفسد قوانين الكون العليا، لا تستطيع أن تغير مسار الشمس ولا مسار القمر ولا مسار الريح، وأنت لن تستطيع إصلاح ما لا يمكن أن تقترب من إفساده، لأن أمره ليس بيدك لأنه لا اختيار لك فيه. وإنما يأتي الإفساد من ملكات الاختيار الموجودة فيك، ولم يترك الله أحرارا فيها، بل حددها بمنهج يحمي حركة الحياة ب " افعل " و " لا تفعل "، فإذا كان سبحانه قد أنزل قرآنا، والقرآن فيه منهج يحمي اختيارك إذن فقد
أعطاك عناصر الإصلاح ولذلك يقول لك :﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾( من الآية ٥٦ سورة الأعراف ) : وهنا يعود الحق مرة أخرى للحديث عن الدعاء، فأولا جاء بالأمر أن يكون الدعاء تضرعا وخفية، وهنا يوضح الحق سبيلا ثانيا للدعاء، فأولا جاء بالأمر أن يكون الدعاء تضرعا وخفية، وهنا يوضح الحق سبيلا ثانيا للدعاء :﴿ وادعوه خوفا وطمعا ﴾. خوفا من صفات جبروته وقهره، وطمعا في صفات غفرانه ورحمته ؛ لأن لله صفات جمال وصفات جلال، وادعوه خوفا من متعلقات صفات الجلال، وطمعا في متعلقات صفات الجمال. أو خوفا من أن تُرد وطمعا فيما أنت ترجو.
﴿ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾( من الآية ٥٦ سورة الأعراف ) : إذن من الذي يحدد قرب الرحمة منه ؟ إنه الإنسان فإذا أحسن قربت منه الرحمة والزمام في يد الإنسان ؛ لأن الله لا يفتئت ولا يستبد بأحد. فإن كنت تريد أن تقرب منك رحمة الله فعليه بالإحسان. ﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾. ولذلك قلنا إن الحق سبحانه وتعالى يقول :" لا أملّ حتى تملّوا " ( من حديث قدسي ).
وأنت تدخل بيوت الله تصلي في أي وقت، وتقف في أي مكان لتؤدي الصلاة، إذن فاستحضارك أما ربك في يدك أنت، وسبحانه حدد لك خمسة أوقات، ولكن بقية الأوقات كلها في يدك، وتستطيع أن تقف بين يدي الله في أي لحظة. وسبحانه يقول :( من جاءني يمشي أتيته هرولة ) ( من حديث قدسي ) : وهو جل وعلا يوضح لك : استرح أنت وسآتي لك أنا ؛ لأن الجري قد يتعبك لكني لا يعتريني تعب ولا عي ولا عجز. وكأن الحق لا يطلب من العبد إلا أن يملك شعورا بأنه يريد لقاء ربه. إذن فالمسألة كلها في يدك، ويقول سبحانه :( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) ( من حديث قدسي ) : وهكذا يؤكد لك سبحانك أن رحمته في يدك أنت وقد أعطاها لك، وعندما تسلسلها تجدها تفضلا من الله، ولكن في يدك أنت. ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) : ونعلم أن فيه صفات لله وفيه ذات، فالذات ﴿ الله ﴾ وهو واهب الوجود، وله كل صفات الكمال وكل صفة لها متعلق ؛ الرحمة لها متعلق، والبعث له متعلق فمن أسمائه سبحانه " الباعث " ؛ وإياك أن تغيب عن الذات، اجعل نفسك مسبحا لذاته العلية دائما. وقد تقول : يا رب أريد أن ترحمني في كذا، وقد لا ينفذ لك ما طلبت، لكن ذلك لا يجعلك تبتعد عن التسبيح للذات، لأن عدم تحقيق ما طلبت هو في مصلحتك وخير لك.
وقد وقف العلماء عند كلمة " قريب " هذه، وتساءل بعضهم عن سرّ عدم مجيء تاء التأنيث بعد لفظ الجلالة ؟ ونعلم أن القرآن قد نزل بلغة العرب، وعند العرب ألفاظ يستوي فيها التذكير والتأنيث، وما يقال للمذكر مثلما يقال للمؤنث، فنقول : " رجل صبور "، و " امرأة صبور "، ولا نقول : صبورة ونقول : " رجل معطار " أي يكثر استخدام العطر، و " امرأة معطار " أي تكثر استخدام العطر. ونقول : قريب مثلما نقول : قتيل بمعنى مقتول. فيقال : " رجل قتيل " و " امرأة قتيل "، ولا يقال " قتيلة " إلا إذا لم يذكر معها كلمة امرأة أو يدل على التأنيث، لأن القتيل للذكر وللأنثى.
هذه هي ألفاظ صحيح اللغة. وقد صنعت اللغة ذلك بأسانيد، فأنت حين تقول : " رجل صبور " أو " امرأة صبور " فالصبر يقتضي الجلد والعزم والشدة ؛ لذلك لا نقول : " امرأة صبورة " بل نأتي بالوصف المناسب للجَلَد والشدة. وإياك أن تضعفها بحكاية التأنيث، وكذلك " رجل معطار " و " امرأة معطار "، والرجل المعطار هو من تعرفه الناس من نفاذ رائحة عطره، والمرأة مبنية على الستر. فإن تعطرت فهي تشبهت بالرجل ويقال لها : " امرأة معطار "، وحين ننظر إلى كلمة " قريب " فهي من صيغة " فعيل " التي يستوي فيها المذكر والمؤنث ؛ بدليل أن الله قال :﴿ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ ( من الآية ٤ سورة التحريم ) : والملائكة لفظها لفظ مؤنث، ولم يقل الحق " ظهيرة " لأن " ظهير " يعني مُعين، والمعونة تتطلب القوة والعزم والمدد ؛ لذلك جاء لها باللفظ المناسب الذي يدل على القوة وهو " ظهير ". وكذلك قوله الحق :﴿ .. إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ٥٦ ﴾ [ سورة الأعراف ] : و " قريب " بوزن " فعيل " بمعنى مفعول، ولعل بعض الناس يفهم أن " قريب " بمعنى فاعل أي قارب. مثل رحيم وراحم. أي أن رحمة الله هي التي تقرب من المحسنين، والأمر ليس كذلك، فإن الرحمة هي المقروبة، والإحسان هو الذي يقرب إليها فيكون فعيل هنا بمعنى مفعول الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث، أن يكون جاءت كذلك على تأويل الرحمة بالرحم أو التراحم، أو لأنه صفة لموصوف محذوف أي شيء قريب، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو أن الرحمة مصدر، وحق المصدر التذكير.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٥٧ ) ﴾.
وتصريف الرياح إهاجة للهواء في الكون، والإهاجة للهواء في الكون تأتي منها فوائد كثيرة للغاية، ونحن حين نجلس في مكان مكتظ وممتلئ بالأنفاس نقول لمن يجلس بجوار النافذة " لنهوي الغرفة قليلا. وإن لم يكف هواء النافذة تأت بمروحة لتأخذ من طبقات الجو طبقة هواء جديدة فيها أوكسجين كثير. إذن فإرسال الرياح ضرورة حتى لا يظل الهواء راكدا. ويتلوث الجو بهذا الركود، ولو أن كل إنسان سيستقر في مكان مكتوم الهواء لامتلأ المكان بثاني أكسيد الكربون الخارج من تنفسه، ثم لا يلبث أن يختنق، ولذلك أراد الله حركة الرياح رحمة عامة مستمرة في كل شيء، وهي أيضا رحمة تتعلق بالقوت كما تعلقت بمقومات الحياة من نفس وماء وطعام، وتصريف الرياح من أجل تجديد الهواء الذي نتنفسه، وكذلك تكوين الماء لأنه سبحانه القائل عن الرياح :﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ.. ٥٧ ﴾ [ سورة الأعراف ] : والرياح هي التي تساعد في تكوين الأمطار التي تنزل على الأرض فتروي التربة التي نحرثها، هكذا تكون الرياح بشرى في ثلاثة أشياء : الشيء الأول تحريك طبقات الهواء وإلا لفسد الجو في الماء، لأن الرياح هي التي تحمل السحاب وتحركه وتنزل به هناك فرقا بين بشرى، وبشرا ؛ فالبشرى مفرد، وقد وردت في قوله الحق :﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى.. ٦٩ ﴾ [ سورة هودِ ] : أي التبشير. لكن بشرا جمع بشير وهي كلمة مخففة، والأصل فيها بشر. والحق يقول :﴿ فلما جاءنا البشير ﴾.
وجمع البشير " بُشُر " مثل : " نذير " و " نُذُر "، بضم الشين فسكنت تخفيفا، فتنطق بُشْرا وبُشُرا. ( بشرا بين يدي رحمته ) : هي بين يدي رحمته لأنها ستأتي لنا بالماء، وهو الرحمة في ذاته، وبواسطته يعطينا ري الأرض، ونحن نرتوي منه مباشرة أيضا. ونلحظ كلمة الرياح إذا أطلقت بالجمع فهي تأتي للخير، أما حين يكون فيها شر فيأتي بكلمة " ريح " مفردة، مثل قول :﴿ .. بريح صرصر عاتية ٦ ﴾ [ سورة الحاقة ] : فإذن عندما ترى كلمة " رياح " فاعلم أنها خير، أما كلمة " ريح " فاعلم أنها شر لماذا ؟ أنت إذا كنت قاعدا في حجرة فيها فتحة نافذة يأتي منها الهواء، ويتسلط التيار على إنسان، فالإنسان يصاب بالتعب ؛ لأن الهواء يأتي من مكان واحد، لكن حين تجلس في الخلاء ويهب الهواء فأنت لا تتعب ؛ لأن الرياح متعددة. ولكن الريح تأتي كالصاروخ.
الرياح إذن يرسلها الحق بين يدي رحمته ؛ حتى إذا أقلت أي حملت يقال : " أقل فلان الحمل " أي رفعه من على الأرض وحمله لأنه أقل من طاقته، لأنه لو كان أكثر من طاقته لما استطاع أن يرفعه عن الأرض، وما دام قد أقله فالحمل أقل بالنسبة لطاقته وبالنسبة لجهده، أقلت أي حملت، ومادامت قد حملت فوق ما حملته، فجهدها فوق ما حملته، وإذا كان الجهد أقل من الذي حملته لابد أن ينزل إلى الأرض. وأقلت سحابا أي حملت سحابا. نعرف أن السحاب هو الأبخرة الطاعة والصاعدة من الأرض ثم تتجمع وتصعد إلى طبعات الجو العليا، وتضربنا الرياح إلى أن تصادف منطقة باردة فيحدث تكثيف للسحاب فينزل المطر ؛ ونرى ذلك في الماء المقطر الذي يصنعونه في الصيدلية ؛ فيأتي الصيدلي بموقد وفوقه إناء فيه ماء ويغلي الماء فيخرج البخار ليسير في الأنابيب التي تمر في تيار بارد فيتكثف البخار ليصير ماء. ﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ﴾.
وقال الحق : " سقيناه " بضمير المذكر ؛ لأنه نظر إلى السحاب في اسم جنسه، أو نظر إلى لفظه، وجاء بالوصف مجموعا فقال : " ثقالا " نظرا إلى أن السحاب جمع سحابة فرق بينه وبين واحدة بالتاء، وما دامت السحب كلها داخلة في السّوق فليس لها تعددات فكأنها شيء واحد :﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ﴾
( من الآية ٥٧ سورة الأعراف ) : السحاب لا يتجه إلى مكان واحد، بل يتجه لأماكن متعددة، إذن فالحق يوجه السحاب الثقال لأكثر من مكان. لكن الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ﴾. والميت هو الذي لا حراك فيه وانتهى اختياره في الحركة، كذلك الأرض، فالماء ينزل من السماء على الأرض وهي هامدة ليس بها حركة حياة أي أن الله يرسل السحاب ويزجيه إلى البلد الميت في أي مكان من الأرض.
﴿ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾( من الآية ٥ سورة الحج ) : إذن فالأرض التي لا يأتيها الماء تظل هامدة أي ليس بها حركة حياة مثل الميت :﴿ سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾
( من الآية ٥٧ سورة الأعراف ) : وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا وينبهنا إلى القضية اليومية التي نراها دائما في صور شتى، وهي أن الأرض تكون في بعض الأحيان جدبا، ثم يهبط عليها بعض المطر، وبمجرد أن ينزل المطر على الجبل، وبعد يومين من نزول المطر نجد الجبل في اليوم الثالث وهو مخضر، فمن الذي بذر البذرة للنبات هذا اليوم ؟ إذن فالنبات كان ينتظر هذه المياه. وبمجرد أن تنزل المياه يخرج النبات دون أن يبذر أحد بذورا، وهذا دليل على أن كل منطقة في الأرض فيها مقومات الحياة :﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾( من الآية ٥٧ سورة الأعراف ).
فالماء الذي ينزل على الأرض الميتة يحيي الأرض ؛ لأنه سبحانه يخرج الحياة كل يوم، وحين يوضح لنا سبحانه أنه سيبعثنا من جديد فليس في هذا أمر عجيب، وهكذا جعل الله القضية الكونية مرئية وواضحة لكل واحد ولا يستطيع أحد أن يكابر ويعاند فيها ؛ لأنها أمر حسّي مشاهد، ومنها نستنبط صدق القضية وصدق الرب.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( ٥٨ ) ﴾.
إذن الآية السابقة عالجت قضية البعث بضرب المثل بالآية الكونية الموجودة ؛ فالرياح التي تحمل السحاب، والسحاب يساق إلى بلد ميت وينزل منه الماء فيخرج به الزرع. والأرض كانت ميتة ويحييها الله بالمطر وهكذا الإخراج بالبعث وهذه قضية دينية، ويأتي في هذه الآية بقضية دينية أيضا :﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ﴾ : والبلد الطيب هو البلد الخصب الذي لا يحتاج إلا إلى المياه فيخرج منه الزرع، أما الذي خبث، فمهما نزل عليه الماء فلن يخرج نباته إلا بعد عناء ومشقة وهو مع ذلك قليل وعديم النفع. وهنا يخدم الحق قضية دينية مثلما خدم القضية الدينية في البعث أولا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة ؛ قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " ١.
إذن فالمنهج ينزل إلى الناس وهم ثلاثة أقسام ؛ قسم يسمع فينفع نفسه وينقل ما عنده إلى الغير فينفع غيره مثل الأرض الخصبة شربت الماء وقبلته، وأنبتت الزرع، وقسم يحملون المنهج ويبلغونه للناس ولا يعملون به وينطبق عليهم قوله الحق :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ﴾( من الآية ٢ سورة الصف )، صحيح سيستنفع الناس من المنهج، ولذلك قال الشاعر :
خد بعلمي ولا تركن إلى عملي **** واجن الثمار وخل العود للنار
ويقول صلى الله عليه وسلم :( من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة )٢.
فستر المؤمن على المؤمن مطلوب وستر المؤمن على العالم آكد وأشدّ طلبا ؛ لأن العالم غير معصوم وله فلتات، وساعة ترى زلته وسقطته لا تُذِعْها لأن الناس سينتفعون بعلمه. فلا تشككهم فيه، والقسم الثالث هو من لا يشرب الماء ولا يسقيه لغيره أي الذي لا ينتفع هو، ولا ينفع غيره.
﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( ٥٨ ) ﴾ ( من الآية ٥٨ سورة الأعراف ) : إذن منهج الله مثله مثل المطر تماما ؛ فالمطر ينزل على الأرض ليرويها وتخرج النبات وهناك أرض أخرى لا تنتفع منه ولكنها تمسكه فينتفع غيره، وهناك من لا ينتفع ولا ينفع، فكذلك العلم الذي ينزله الله على لسان رسوله. ﴿ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ﴾.
قلنا من قبل : إن الآيات تطلق على معان ثلاثة : الآيات الكونية التي نراها واقعة في الكون مثل قوله الحق :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ﴾( من الآية ٣٧ سورة فصلت )وآيات هي آيات القرآن، والآيات التي تكون هي المعجزات للأنبياء. ﴿ كذلك نصرف الآيات ﴾( من الآية ٥٨ سورة الأعراف ) : الآيات هنا في الكونية كالماء الذي ينزل، إنه مثل المنهج. من أخذ به فاز ونجا، ومن تركه غوى وكل آيات الله تقتضي أن نشكر الله عليها.
١ رواه البخاري ومسلم.
٢ رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما..
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٥٩ ) ﴾.
بعد أنت تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطائعين وعنى العاصين في الدنيا، وتكلم عن مواقف الآخرة الجزائية في أصحاب الجنة، وأصحاب النار والأعراف أراد أن يبين بعد ذلك أن كل دعوة من دعوات الله سبحانه أهل الأرض لابد أن تلقى عنتا وتضييفا، وتلقى إعراضا، وتلقى إيذاء، إنه سبحانه يريد أن يعطي المناعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فيوضح له : لست أنت بدعا من الرسل ؛ لأن كل رسول جاء إلى قومه قوبل بالاضطهاد، وقوبل بالتكذيب، وقوبل بالنكرات، وقوبل بالإيذاء، وإذا كان كل رسول قد أخذ من هذا على قدر مهمته الرسالية زمانا محدودا، ومكانا محصورا فأنت يا رسول الله أخذت الدنيا كلها زمانا ومكانا، فلابد أن تكون مواجها لمصاعب تناسب مهمتك ورسالتك ؛ فأنت في قمة الرسل، وستكون الإيذاءات التي تنالك وتصيبك قمة في الإيذاء، فليت بدعا من الرسل، فوطّن نفسك على ذلك. وحين توطن نفسك على ذلك ستلقي كل إيذاء وكل اضطهاد بصبر واحتمال في الله، وقص قصص الرسل على رسول الله، وعبر الله بالهدف من قص القصص بقول :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك.. ١٢٠ ﴾ [ سورة هود ] : فكأن القصص تثبيت لفؤاده صلى الله عليه وسلم، فكلما أهاجه نكران، أو كلما أهاجه جحود، قص عليه الحق سبحانه قصة رسول قوبل بالنكران وقوبل بالجحود ليثبت به فؤاده صلى الله عليه وسلم وفؤاد أتباعه لعلهم يعرفون كل شيء ويوطنون أنفسهم على هذا العنت ؛ فلم يقل الحق لأتباع محمد : إنكم مقبلون على أمر والأرض مفروشة لكم بالورود، لا. إنما هي متاعب لتجابهوا شر الشيطان في الأرض. والقصص له أكثر من هدى يثبت به فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين له أنه ليس بدعا من الرسل، ويقوي نفوس أتباعه، لأنهم حينما يرون أن أهل الحق مع الأنبياء انتصروا، وهزم الجمع، وولّى الدبر، وأنهم منصورون دائما فهذا يقوي يقين المؤمنين، ويكسر من جهة أخرى نفوس الكافرين مثلما قال الحق عن واحد من أكابر قريش. ( سنسمه على الخرطوم ) : قال الحق لهم ذلك عن واحد من أكابر قريش وهم لا يقدرون حينئذ أن يدافعوا أو يذودوا عن أنفسهم، وذهبوا وهاجروا إلى الحبشة حماية لأنفسهم من بطش هؤلاء الأكابر، وكل مؤمن يبحث له عمن يحميه، وينزل قوله الحق بعد ذلك في الوليد ين المغيرة " سنسمه على الخرطوم "، والوليد بن المغيرة سيد في قومه، ويأتي يوم بدر فيوجد أنفه وقد ضرب وحطم ويتحقق قول الله :﴿ سنسمه على الخرطوم١٦ ﴾ ( سورة القلم ).
فمن إذن يحدد ضربة قتال بسيف في يد مقاتل قبل أن يبدأ القتال ؟ لقد حددها الأعلم بما يكون عليه الأمر.
وأيضا فقصص الرسل إنما جيء بها ليثبت للمعاصرين له أنه تلقى القرآن من الله ؛ لأنه رسول أميّ ؛ والأمة أمية، ولم يدع أحد من خصومه أنه جلس إلى معلم، أو قرأ كتابا، فمن أين جاءته هذه الأخبار إذن ؟. واسمع قول الحق سبحانه وتعالى في الآيات التي يأتي فيها : " ما كنت " مثل قوله الحق :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة القصص ).
ومثل قوله الحق :﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( ٤٨ ) ﴾( سورة العنكبوت )، ومثل قوله :﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة آل عمران ) : فمن أين جاءت هذه الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه لم يجلس إلى معلم ولم يقرأ كتابا ؟ لقد جاءت كلها من الحق سبحانه وتعالى، وهذا دليل آخر على صدق رسالته.
وقصة سيدنا نوح من القصص التي وردت كثيرا في القرآن الكريم مثل قصة موسى عليه السلام، ومن العجيب أن لقطات القصة تنتشر في بعض السور، لكن السورة التي سميت بسورة نوح ليس فيها من المواقف التي تعتبر من عيون القصة، إنها تعالج لقطات أخرى ؛ تعالج إلحاحه في دعوة قومه، وأنه ما قصّر في دعوتهم ليلا ونهارا، وسرا وعلانية، كلما دعاهم ابتعدوا، ولم تأت قصة المركب في سورة نوح، ولا قصة الطوفان، وهذه لقطات من عيون القصة، وكذلك لم تأت فيها قصته مع ابنه، بل جاء بها في سورة هود.
إذن كل لقطة جاءت لوضع مقصود، ولهذا رأينا قصة نوح في سورة " نوح " وقد خلت من عناصر مهمة في القصة، وجاءت هذه العناصر في سورة " هود " أو في سورة " الأعراف " التي تناولتها الآن بالخواطر الإيمانية.
إذن، كل قصة من القصص القرآني تجدها قد جاءت تخدم فكرة، ومجموعها يعطي كل القصة ؛ لأن الحق حين يورد القصص فهو يأتي بلقطة في سورة لتخدم موقفا، ولقطة أخرى تخدم موقفا آخر وهكذا. وحين شاء أن يرسل لنا قصة محبوكة تماما، جاء بقصة " يوسف " في سورة يوسف ولم يكررها في القرآن، لأنها مستوفية في سورة يوسف، اللهم إلا في آية واحدة :﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ﴾ ( من الآية ٣٤ سورة غافر ) : راجع أصله وخرج أحاديثه الدكتور أحمد عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر.
لقد وردت في سورة يوسف حياة يوسف منذ أن كان طفلا حتى أصبح عزيز مصر، وهكذا نرى أن الحق حين يشاء أن يأتي بها محبوكة، وحين يريد أن يلفتنا إلى أمور فيها مواقف وعظات، يوزع لقطات القصة على مواقع متعددة تتناسب وتتوافق مع تلك المواقع لتأكيد وخدمة هدف.
﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم ﴾( من الآية ٥٩ سورة الأعراف ). وساعة ترى " اللام " و " قد " فاعرف أن هذا قسم، وكأن الحق يقول : وعزتي وجلالي لقد أرسلت نوحا. وهو بهذا يؤكد المقسم عليه.
والقوم هم الرجال خاصة من المعشر ؛ لأن القوم عادة هم المواجهون للرسالة، والمرأة محتجبة ؛ تسمع من أبيها أو من أخيها أو من زوجها، ولذلك قالت النساء للنبي : غلبنا عليك الرجال.
أي أننا نجد وسيلة لنقعد معك ونسألك، فاجعل لنا يوما من أيامك تعظنا فيه، فجعل لهن يوما ؛ لأن المفروض أن تكون المرأة في ستر، وبعد ذلك ينقل لها الزوج المنهج. إن سمع من الرسول شيئا، وكذلك الأب يقول لابنته، والأخ يقول لأخته.
فإذا تكلم الرسول يقال : إن الرسول واجه القوم، من قولهم هو قائم على كذا، وقيم على كذا. ولذلك الشاعر العربي يقول :
وما أدري ولست أخال أدري **** أقوم آل حصن أم نساء
وجاء هنا بالقوم، والمراد بهم الرجال، والقرآن يقول :﴿ لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ﴾ ( من الآية ١١ سورة الحجرات ) : إذن فالنساء لا تدخل في القوم ؛ فالقوم هم المواجهون للرسول ومنهم تأتي المتاعب والتصلب في الرأي، ويكون الإنكار والجحود والحرب منهم.
وسيدنا نوح عليه السلام دعا قومه ونبههم إلى ثلاثة أشياء : عبادة الله، فقال : يا قوم اعبدوا الله " وبين لهم أنه ليس هناك إله سواه فقال : " ما لكم من إله غيره "، وأظهر لهم حرصه وإشفاقه عليهم إذا خالفوا وعصوا فقال :{ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم "، وهكذا تكلم عن العقيدة في الإله الواحد المستحق للعبادة، وليس آلهة متعددة، ونعبده أي نطيع أمره ونهيه، ولأنهم إن لم يفعلوا ذلك فهو يخاف عليهم من عذاب يوم عظيم، وهو عذاب يوم القيامة. أو أن الله كان قد أوحى له بأنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وعذاب يوم عظيم أي يوم الإغراق، و " الخوف " مسألة تتعب تفكير من يستقبلها ويخاف أن يلقاها. فمن الذي يفزع بهذا ؟. إن الذي يفزع هم الطغاة والجبابرة والسادة والأعيان ووجوه القوم، وكانوا قد جعلوا من أنفسهم سادة، أما سائر الناس وعامتهم فهم العبيد والمستضعفون.
والذي يهاج بهذه الدعوة هم السادة لأنه ليس هناك إلا إله واحد، والأمر لواحد والنهي لواحد والعبادة والخضوع لواحد، ومن هنا فسوف تذهب عنهم سلطتهم الزمنية، لذلك يوضح الحق لنا موقف هؤلاء من الدعوة حين يقول :
﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( ٦٠ ) ﴾ :
والملأ هم سادة القوم وأعيانهم وأشرافهم، أو الذين " يملأون " العين هيئة ويملأون القلوب هيبة، ويملأون صدور المجالس بنية.
إنهم خائفون أن تكون دعوة نوح هي الدعوة إلى الطريق المستقيم وكلامه هو الهداية ؛ فيمنّوا أنفسهم بأن هذا ضلال وخروج عن منهج الحق :{ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ }أي غيبة عن الحق، أو في تيه عن الحق، و " مبين " أي محيط بصورة لا يمكن النفاذ منها.
ويرد نوح عليه السلام :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٦١ ) ﴾.
هم قالوا له :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾، المتبادر أن يكون الرد : ليس في أمري ضلال، ولكنه قال هنا :﴿ ليس بي ضلالة ﴾، أقول ذلك لنعرف أن كل حرف في القرآن موزون لموضعه. هم قالوا له : إنا لنراك في " ضلال، فيرد عليهم : ليس بي ضلالة ؛ لأن الضلال جنس يشمل الضلالات الكثيرة، وقوله يؤكد أنه ليس عنده ضلالة واحدة. وعادة نفي الأقل يلزم منه نفي الأكثر، مثلا عندما يقول لك صديق : عندك تمر من المدينة المنورة ؟ تقول له : ليس عندي ولا تمرة واحدة. أنت بذلك نفيت الأقل، وهذا أيضا نفي للأكثر. ﴿ قال يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ ﴾.
وحين ينفي نوح عن نفسه وجود أدنى ضلالة فذلك لأنه يعرف أنه لم يأت من عنده بذلك، ولو كان الأمر كذلك لاتّهم نفسه بأن هواه قد غلبه، لكنه مرسل من عند إله حق :﴿ .. وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٦١ ) ﴾ [ سورة الأعراف ]، وقوله : " ولكني " استدراك فلا تقولوا : أنا في ضلال ؛ فليس فيّ ضلالة واحدة، لكن أنا رسول يبلغ عن الله، والله لا يعطي غير الهدى.
﴿ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي من سيد العالمين ومن متولي تربية العالمين، ومن يتولى التربية لا يُنزل منهجا يضل به من يربيهم، بل ينزل منهجا ليصلح من يربيهم، وسبحانه قبل أن يأتي بهم إلى الوجود سخر لهم كل هذا الكون، وأمدهم بالأرزاق حتى الكافرين منهم، ومن يعمل كل ذلك لن يرسل لهم من يضلهم.
ويستمر البلاغ من نوح عليه السلام لقومه فيقول :
﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٦٢ ) ﴾.
والبلاغ هو إنهاء الأمر إلى صاحبه ؛ فيقال : بلغت المكان الفلاني.. أي انتهيت إليه. و " البلاغة " هي النهاية في أداء العبارة الجميلة، و " أبلغكم " أي أنهي إليكم ما حملنيه الحق من منهج هداية لحركة حياتهم. ( أبلغكم رسالات ربي ) : وكان يكفي أن يقول : " رسالة ربي " إلا أنّه قال :( رسالات ربي ) لأن أي رسول يأتي بالمنهج الثابت كما جاءت به الرسالات السابقة حتى لا يقول أحد : إنه جاء ليناقض ما جاء به الرسل السابقون، فما قاله وجاء به أي رسول سابق يقوله، ونعلم أنه كانت هناك صحف لشيت ولإدريس. فقال : إنه يبلغ رسالته المتضمنة للرسالات السابقة سواء رسالة إدريس وهو اخنوخ، وكذلك شيت وغيره من الرسل.
أي أبلغكم كل ما جعله الله منهجا لأهل الأرض من الأمور المستقيمة الثابتة،
مثلما قال سبحانه :﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾( من الآية ١٣ سورة الشورى )، وهي الأمور المستقرة الثابتة العقدية، والأحكام التي لا تتغير. أو " رسالات ربي "، لأنه كرسول يتلقى كل يوم قسطا من الرسالة ؛ فاليوم جاءت له رسالة يبلغها، وغدا تأتي له رسالة يبلغها، ولو قال : " الرسالة " لكان عليه أن ينتظر حتى تكتمل البلاغات من الله له ثم يقولها، ولكن نوح كان يبلغ كل رسالة تأتيه في وقت إبلاغه بها ؛ لذلك فهي " رسالات ". أو لأن موضوع الرسالات أمر متشعب تشعبا يماثل ما تحتاج إليه الحياة من مصالح ؛ فهناك رسالة للأوامر، ورسالة للنواهي، ورسالة للوعظ، ورسالة للزجر، ورسالة للتبشير، ورسالة للإنذار، ورسالة للقصص، وهكذا تكون رسالات.
أو أن كل نجم أي جزء من القرآن وقسط منه يعتبر رسالة، فما يرسله الله في يوم هو رسالة للنبي، وغدا رسالة أخرى وهكذا.
وقوله : " أنصح لكم " لأن البلاغ يقتضي أن يقول لهم منهج الله، ثم يدعوا القوم لإتباع هذا المنهج بأن يرقق ويخاطبهم بالأسلوب الهادئ وينصحهم، والنصح أمر خارج عن بلاغ الرسالة. ولنلتفت إلى فهم العبارة القرآنية. ﴿ وأنصح لكم ﴾،
والنصح أن توضح للإنسان المصلحة في العمل، وتجرد نيتك مما يشوهه. وهل أنت تنصح آخر بأمر يعود نفعه عليك ؟ إنك إن فعلت ذلك تكون النصيحة متهمة، وإن نصحته بأمر يعود عليه وعليك فهذه نصيحة لك وله، ولكن حينما تقول : " نصحت لك " أي أن النصيحة ليس فيها مسألة خاصة بك، بل كل ما فيها لصالح من تبلغه فقط، وبذلك يتضح الفارق بين " نصحته " و " نصحت لك " ﴿ وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾( من الآية ٦٢ سورة الأعراف )، وكأن سيدنا نوحا يخاطب قومه : إياكم أن تظنوا أن ما أقوله لكم الآن هو كل العلم من الله، ولا كل علم الله، ولا كل ما علمني الله، بل أنا عندي مسائل أخرى سوف أقولها لكم إن اتقيتم الله وامتلكتم الاستعداد الإيماني، وهنا سأعطيكم منها جرعات. أو قوله :﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ يعني أنه سيحدث لكم أمر في الدنيا لم يحصل للأمم السابقة عليكم وهو أن من يُكذب الرسول يأخذه الله بذنبه. وتلك التجربة لم تحدث مع قوم شيت أو إدريس.
﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ﴾ ( من الآية ٤٠ سورة العنكبوت ) : ولم يحدث مثل هذا العقاب قبل نوح، وقد بين لهم نوح : أنا أعلم أن ربنا قد دبر لكم أن من يُكَذِّب سيأخذه أخذ عزيز مقتدر، أو " وأعلم من الله ما لا تعلمون "، أي أن الله أعلمني لا على قدر ما قلت لكم من الخير، لكنه سبحانه قد علمني أن لكل إخبار بالخير ميلادا وميعادا.
ويقول سبحانه بعد ذلك :﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٦٣ ) ﴾.
﴿ أَوَعَجِبْتُمْ ﴾ وكان من الممكن أن يقول : " أعجبتم "، لكن ساعة أن يجيء بهمزة الاستفهام ويأتي بعدها بحرف عطف. فاعرف أن هناك عطفا على جملة ؛ أي أنه يقول : أكذبتم بي، وعجبتم من أن الله أرسل على لساني " ذكر من ربكم ". والذكر ضد النسيان، وأن الشيء يكون على البال، ومرة يتجاوز البال ويجري على اللسان. وقد وردت معان كثيرة للذكر في القرآن، وأول هذه المعاني وقمتها أن الذكر حين يطلق يراد به القرآن :﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ٥٨ ) ﴾ ( سورة آل عمران )، وكذلك في قوله الحق :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( ٩ ) ﴾ ( سورة الحجر ) : إذن يطلق الذِّكر ويراد به القرآن، ومرة يطلق الذكر ويراد به الصيت أي الشهرة الإعلامية الواسعة. وقد قال الحق لرسوله عن القرآن :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾( من الآية ٤٤ سورة الزخرف ) : أي أن القرآن شرف كبير لك ولأمتك وسيجعل لكم به صيتا إلى يوم القيامة، لأن الناس سترى في القرآن على تعاقب العصور كل عجيبة من العجائب، وسيعلمون كيف أن الكون يصدق القرآن، إذن بفضل القرآن " العربي "، سيظل اسم العرب ملتصقا ومرتبطا بالقرآن، وكل شرف للقرآن ينال معه العرب شرفا جديدا، أي إن القرآن شرف لكم. ويقول سبحانه :﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ ( من الآية ١٠ سورة الأنبياء ) : أي فيه شرفكم، وفيه صيتكم، وفيه تاريخكم، ويأتي الإسلام الذي ينسخ القوميات والأجناس، ويجعل الناس كلهم سواسية كأسنان المشط.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾( من الآية ١٣ سورة الحجرات )، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ) : وسيظل القرآن عربيا، وهو معجزة في لغة العرب، وبه ستظل كلمة العرب موجودة في هذه الدنيا. إذن فشرف القوم يجيء من شرف القرآن، ومن صيت القرآن. والحق يقول :﴿ ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ( ١ ) ﴾ ( سورة ص ) : أي أنه شرفه دائم أبدا. حين يأتي إلى الدنيا سبق علمي، نجد من يذهب إلى البحث عن أصول السبق العلمي في القرآن، ونجد غير المسلمين يعتنون بالقرآن ويطبعونه في صفحة واحدة، وعلى ورق فاخر قد لا يستعملونه في كتبهم. هذا هو القرآن ذو الذكر على الرغم من أن بعض المسلمين ينحرفون قليلا عن المنهج، وقد يتناساه بعضهم، لكن في مسألة القرآن نجد الكل يتنبه. وكما قلت من قبل : قد تجد امرأة كاشفة الوجه وتضع مصحفا كبيرا على صدرها، وقد تجد من لا يصلي ويركب سيارة يضع فيها المصحف، وكل هذا ذكر. وتجد القرآن يُقرأ مرتلا، ويُقرأ مجودا، ومجودا بالعشرة ثم يسجل بمسجلات يصنعها من لا يؤمنون بالقرآن. وكل هذا ذكر وشرف كبير.
عرفنا أن " الذكر " قد ورد أولا بمعنى القرآن، وورد باسم الصيت والشرف : ويطلق الذكر ويراد به ما نزل على جميع الرسل ؛ فالحق سبحانه يقول :﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ( ١ ) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( ٢ ) ﴾ [ سورة الأنبياء ] : أي أن كل ما نزل على الرسل ذكر.
ويقول سبحانه :﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ( ٤٨ ) ﴾ [ سورة الأنبياء ] : إذن فالمراد بالذكر أيضا كل ما نزل على الرسل من منهج الله.
ومرة يطلق الذكر ويراد به معنى الاعتبار. والتذكير، والتذكر فيقول سبحانه :
﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٩٠ ) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.. ( ٩١ ) ﴾ [ سورة المائدة ] : والمراد هنا بالذكر : الاعتبار والتذكر وأن تعيش كمسلم في منهج الله. ومرة يراد بالذكر : التسبيح، والتحميد. انظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ( ٣٦ ) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ سورة النور ] : وهو ذكر لأن هناك من يسبح له فيها بالغدو والآصال وهم رجال موصوفون بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
وقد يُطلق الذكر منه خير الله على عبادة ويراد به كذلك ذكر عبادتهم له بالطاعة ؛ فسبحانه يذكرهم بالخير ويذكرونه بالطاعة. اقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ .. وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٩٠ ) ﴾ [ سورة النحل ]، وفي آية أخرى :﴿ .. إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( ٤٥ ) ﴾ ] سورة العنكبوت ] : ومادام قد قال جل وعلا : " ولذكر الله أكبر " أي ذكر الله لهم بالنعم والخيرات، فذكره فضل وإحسان وهو الكبير المتعال. فهناك إذن ذكر ثان، ذكر أقل منه، وهو العبادة لربهم بالطاعة، هنا يقول الحق :﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٦٣ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : ما وجه العجب هنا ؟ نعلم أن العجب هو إظهار الدهشة وانفعال النفس من حصول شيء على غير ما تقتضيه مواقع الأمور ومقدماتها، إذن تظهر الدهشة ونتساءل كيف حدث هذا ؟ ولو كان الأمر طبيعيا ورتيبا لما حدثت تلك الدهشة وذلك العجب.
وعجبتم لماذا ؟ اقرأ إذن قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ( ١ ) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.. ( ٢ ) ﴾ [ سورة ق ] : موضع العجب هنا أن جاء لهم منذر ورسول من جنسهم ؛ فمن أي جنس كانوا يريدون الرسول ؟ كان من غبائهم أنهم أرادوا الرسول مَلَكا.
﴿ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ( ٢ ) ﴾ ( سورة ق ) : وجاء العجب أيضا في البعث. فتساءل الكافرون هل بعد أن ذهبنا وغبنا في الأرض وصرنا ترابا بعد الموت يجمعنا البعث مرة ثانية ؟ !
إذن فالعجب معناه إظهار الدهشة من أمر لا تدعوا إليه المقدمات أو من أمر يخالف المقدمات. العجب عندهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لأن نوحا عليه السلام يريد منهم أن يبحثوا في الإيمان بوجود إله. وكان المنطق يقتضي أنه إذا رأوا شيئا هندسته بديعة، وحكيمة، وطرأ عليها هذا المخلوق وهو الإنسان ليجد الكون منسقا موجودا من قبله، كان المنطق أن يبحث هذا الإنسان عمن خلق هذا الكون وأن يلحّ في أن يعرف من صنع الكون، وحين يأتي الرسول ليقول لكم من صنع هذا الكون، تتعجبون ؟ !.
كان القياس أن تتلهفوا على من يخبركم بهذه الحقيقة ؛ لأن الكون وأجناسه من النبات والجماد والحيوان في خدمتك أيها الإنسان. لا بقوتك خلقت هذا الكون ولا تلك الأجناس، بل أنت طارئ على الكون والأجناس، ألم يدر بخلدك أن تتساءل من صنع لك ذلك ؟ إذن فالكلام عن الإيمان كان يجب أن يكون عمل العقل، وقلت قديما : هب أن إنسانا وقعت به طائرة في مكان وهذا المكان ليس به من وسائل الحياة شيء أبدا، ثم جاع، ولم يجد طعاما، وقهره التعب، فنام، ثم أفاق من هذه الإغفاءة، وفوجئ بمائدة أمامه عليها أطايب الطعام، والشراب وهو لا يعرف أحدا في المكان، بالله قبل أن يأكل ألا يتساءل عمن أحضرها ؟ ! ! كان الواجب يقتضي ذلك.
إذن أنتم تتعجبون من شيء تقتضي الفطرة أن نبحث عنه، وأن نؤمن به وهو الإله الذي لا ينتفع بطاعتنا أو بعبادتنا، ولا تعود عليه العبادة بشيء، بل تعود علينا، والعبادة فيها مشقات لأنها تلجم الشهوات وتعقل وتمنع من المعاصي والمحرمات، ولكن يُقابِل ذلك الثواب في الآخرة.
وهناك من قال : ولماذا لا يعطينا الثواب بدون متاعب التكليف ؟ مادام لا يستفيد. إن العقل كاف ليدلنا دون منهج إلى ما هو حسن فنفعله، وما نراه سيئا فلا نفعله، والذي لا نعرفه أهو حسن أم سيئ. ونضطر له نفعله، وإن لم نكن في حاجة له لا نفعله.
ونقول لهذا القائل : لكن من الذي أخبرك أن العقل كاف ليدلنا إلى الأمر الحسن، هل حسّن لك وحدك أم لك وللآخرين ؟ فقد يكون الحسن بالنسبة لك هو السوء بالنسبة لغيرك لأنك لست وحدك في الكون. ولنفترض أن هناك قطعة قماش واحدة، الحسن عندك أن تأخذها، والحسن عند غيرك أن يأخذها. لكن الحُسن الحقيقي أن يفصل في مسألة ملكية هذه القطعة من القماش من يعدل بينك وبين غيرك دون هوى. وألا يكون واحد أولى عنده من الآخر. إذن لابد أن يوجد إله يعصمنا من أهوائنا بمنهج ينزله يبين لنا الحسن من السيئ ؛ لأن الحسن بالمنطق البشري ستصطدم فيها أهواؤنا.
ومثال آخر : افرض أننا دخلنا مدينة ما، ورأينا مسكنا جميلا فاخرا وكل منا يريد أن يسكن فيه وكل واحد يريد أن يأخذه ؛ لأن ذلك هو الحسن بالنسبة له، لكن ليس كذلك بالنسبة لغيره، إذن فالحسن عندك قد يكون قبيحا عند الغير. فالحسن عند بعض الرجال إذا ما رأى امرأة أن ينظر إليها ويتكلم معها، لكن هل هذا حسن عند أهلها أو أبيها أو زوجها ؟. لا.
إنّ الذي تعجبتم منه كان يجب أن تأخذوه على أنه الأمر الطبيعي الفطري الذي تستلزمه المقدمات. فقد جاءكم البلاغ على لسان رجل منكم. ولماذا لم يقل الحق : لسان رجل ؟ إننا نعلم أن هناك آية ثانية يقول فيها الحق :﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ﴾ ( من الآية ١٩٤ سورة آل عمران ) : كأنه يقول لهم : إن الوعد الذي وعده الحق لكم قد جاء لكم بالمنهج الذي نزل على الرسل. ومهمة الرسل صعبة ؛ فليست مقصورة على التبليغ باللسان لأن مشقاتها كلها على كاهل كل رسول، ولا تظنوا أن ربنا حين اختار رسولا قد اختاره ليدلله على رقاب الناس، لا. لقد اختاره وهو يعلم أن المهمة صعبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كما تعلمون لم يشبع من خبز شعير قط، وأولاده وأهله على سبيل المثال لا يأخذون من الزكاة، والرسل لا تورث فجميع ما تركوه صدقة، وكل تبعات الدعوة على الرسول، وهذه هي الفائدة في أنه لم يقل على لسان رسول، لأن الأمر لو كان على لسان الرسول فقط لأعطى البلاغ فقط، إنما على " رجل منكم " تعطي البلاغ ومسؤولية البلاغ على هذا الرجل. ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ﴾( من الآية ٦٣ سورة الأعراف ) : ما هو العجب ؟ لقد كان العجب أن تردوا الألوهية والنبوة.
وبعضهم لم يرد الألوهية ورد فكرة النبوة على الإنسان. وطالب أن يكون الرسول من الملائكة ؛ ل
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ( ٦٤ ) ﴾.
وهنا يتكلم الحق عن حكاية الإنجاء، ونعلم المقدمة الطويلة التي سبقت إعداد سيدنا نوح عليه السلام للرسالة، فقد أراد له الله أن يتعلم النجارة، وأن يصنع السفينة :﴿ وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه.. ٣٨ ﴾ [ سورة هود ] : ولم يجئ الحق هنا بسيرة الطوفان التي قال فيها في موضع آخر من القرآن :﴿ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر١١ ﴾ [ سورة القمر ]، وجاء الحق هنا بالنتيجة وهي أنهم كذبوه.
﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا.. ( ٦٤ ) ﴾[ سورة الأعراف ] : وكانت هذه أول حدث عقابي في تاريخ الديانات ؛ لأن رسالة نوح عليه السلام هي أول رسالة تعرضت إلى مثل هذا التكذيب ومثل هذا العناد، وكان الرسل السابقون لنوح عليهم البلاغ فقط، ولم يكن عليهم أن يدخلوا في حرب أو صراع، والسماء هي التي تؤدب، فحينما علم الحق سبحانه وتعالى أنه بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم ستبلغ الإنسانية رشدها صار أتباع محمد مأمونين على أن يؤدبوا الكافرين. وفي تكذيب نوح عليه السلام يأتينا الحق هنا بالنتيجة.
﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ ولم يقل الحق : كيف أنجاه ولم يأت بسيرة الفلك، بل أخبر بمصير من كذبوه، ويأتي بالعقاب من جنس الطوفان :﴿ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴾ ( من الآية ٦٤ سورة الأعراف ) : هناك " أعمى " لمن ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما، وهناك أيضا عَمِه وأَعْمَهُ، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر.. أي ذهبت بصيرته ولم يهتد إلى خير..
ثم انتقل الحق إلى رسول آخر. ليعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة فيه أيضا. فبعد أن جاء بنوح يأتي بهود :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٦٥ ) ﴾.
وساعة ما تسمع :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ أي أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، و " أخاهم " موقعها الإعرابي " مفعول به " ويدلنا على ذلك قوله في الآية السابقة :
﴿ أرسلنا نوحا ﴾، وكذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. وكلمة " أخاهم " تُشْعِر بأشياء كثيرة ؛ إنه من جنسهم، ولغته لغتهم، وأنسبهم به، ويعرفون كل شيء وكل تاريخ عنه، وكل ذلك إشارات تعطي الأنس بالرسول ؛ فلم يأت لهم برسول أجنبي عاش بعيدا عنهم حتى لا يقولوا : لقد جاء ليصنع لنفسه سيادة علينا. بل جاء لهم بواحد منهم وأرسل إليهم " أخاهم " وهذا الكلام عن " هود ".
إذن كان هود من قوم عاد، ولكن هناك رأي يقول : إن هودا لم يكن من قوم عاد، ولأن الأخوة نوعان : أخوة في الأب القريب، أو أخوّة في الأب البعيد، أي من جنسكم، من آدم ؛ فهو إما أخ من الأب القريب، وإما أخ من الأب البعيد. وقد قلنا من قبل : إن سيدنا معاوية كان يجلس ثم دخل عليه الحاجب فقال : يا أمير المؤمنين، رجل بالباب يقول إنه أخوك، فتساءلت ملامح معاوية وتعجب وكأنه يقول لحاجبه : ألا تعرف إخوة أمير المؤمنين ؟ وقال له : أدخله، فأدخله. قال معاوية للرجل : أي إخوتي أنت ؟ ! قال له : أخوك من آدم. فقال معاوية : رحم مقطوعة أي أن الناس لا تتنبه إلى هذه الأخوة والله لأكونن أول من وصلها :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٦٥ ) ﴾( سورة الأعراف ).
ونلحظ أن الحق قال على لسان سيدنا نوح لقومه :﴿ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾( من الآية ٥٩ سورة الأعراف )،
وأرسل الحق هودا إلى عاد، لكن قول هود لقوم عاد يأتي :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾.
وهنا " قال " فقط من غير الفاء ؛ وجاء في قول نوح : " فقال ". وهذه دقة الأداء لننتبه ؛ لأن الذي يتكلم إله ورب، فتأتي مرة ب " فاء " وتأتي مرة بغير " فاء " رغم أن السياق واحد، والمعنى واحد والرسول رسول، والجماعة هم قوم الرسول. ونعلم أن " الفاء " تقتضي التعقيب، وتفيد الإلحاح عليهم، وهذا توضحه سورة نوح ؛ لأن الحق يقول فيها :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ( ٥ ) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ( ٦ ) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ( ٧ ) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ( ٨ ) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ( ٩ ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾ ( سورة نوح ). إذن فالفاء مناسبة هنا، لكن في مسألة قوم هود نجد أن سيدنا هودا قال لهم مرة أو اثنتين أو ثلاث مرات، لكن بلا استمرار وإلحاح، وهذا يوضح لنا أن إلحاح نوح على قومه يقتضي أن يأتي في سياق الحديث عنه ب : " فقال " وألا تأتي في الحديث عن دعوة سيدنا هود. وقد يتعجب الإنسان لأن مدة هود مع عاد لا تساوي مدة نوح مع قومه، وقد جاء الإيضاح بزمن رسالة سيدنا نوح في قوله الحق :﴿ فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ﴾ ( من الآية ١٤ سورة العنكبوت ) : ظل سيدنا نوح قُرابة ألف سنة يدعو قومه ليلا ونهارا سرا وعلانية، لكنهم كانوا يفرون من الإيمان، لذلك يأتي الحق في أمر دعوة نوح بالفاء التي تدل على المتابعة. أما قوم عاد فلم يأت لهم " بالفاء ". بل جاء ب " قال " :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾( من الآية ٦٥ سورة الأعراف )، وقال نوح من قبل :﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ ( من الآية ٥٩ سورة الأعراف )، وفي مسألة قوم عاد قال :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾، وفي مسألة قوم عاد قال :﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾.
ومع أن الأسلوب واحد والمعاني واحدة، وكان ذلك يقتضي الإنذار، لكن لم يقل الحق ذلك ؛ لأن نوحا كان عنده علم بالعذاب الذي سوف ينزل ؛ لأنها كانت أول تجربة، لكن سيدنا هود لم يكن عنده علم بالعذاب.
العملية التي حدثت لنوح مع قومه وإهلاكهم بالغرق كانت أولية بالنسبة له ؛ فالله سبق أن أعلمه بها، وحين ذهب هود إلى قوم عاد كانت هناك سابقة أمامه، وأخذ ربنا المكذبين لنوح بالعذاب، لذلك ألمح سيدنا هود فقط إلى احتمال العذاب حين قال :﴿ أفلا تتقون ﴾ : أي أن العذاب قد ينتظركم وينالكم مثل قوم نوح.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٦٦ ) ﴾.
في هذه الآية جاء قوله :﴿ الذين كفروا ﴾، وفي قصة نوح قال سبحانه :﴿ قال الملأ من قومه ﴾ ولم يأت فيها بالذين كفروا، لأن قوم نوح لم يكن فيهم من آمن وكتم إيمانه وأخفاه، بخلاف عاد قوم هود فإنه كان فيهم رجل اسمه مثرد بن سعد آمن وكتم وستر إيمانه، فيكون قوله تعالى في شأنهم :﴿ الذين كفروا ﴾ قد جاء مناسبا للمقام، لأن فيهم مؤمنا لم يقل ما قالوا من رميهم لسيدنا هود بالسفاهة حيث قالوا ما حكاه الله عنهم بقوله :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾( من الآية ٦٦ سورة الأعراف )، أما قول نوح فقد قالوا :﴿ إنا لنراك في ضلال مبين ﴾( من الآية ٦٠ سورة الأعراف )، فقال لهم نوح عليه السلام :﴿ يا قوم ليس بي ضلالة ﴾
( من الآية ٦١ سورة الأعراف ). ما الفرق بين الضلالة والسفاهة ؟ : الضلال هو مجانية حق، والسفاهة طيش وخفة وسخافة عقل، وأضافت عاد اتهاما آخر لسيدنا هود :﴿ وإنا لنظنك من الكاذبين ﴾. والظن رجحان الأمر بدون يقين، فهناك راجح، ومرجوح، أو أن الظن هنا هو التيقن. على حد قوله سبحانه :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة البقرة )أي يتيقنون.
وجاء بالرد من سيدنا هود :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٦٧ ) ﴾.
وفي هذا القول نفي للاتهام بالسفاهة، وإبلاغ لهم بأنه مبلّغ عن الله بمنهج تؤديه الآية التالية وهي قوله الحق :﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( ٦٨ ) ﴾.
وسبق أن قال سبحانه على لسان نوح :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ﴾ ( من الآية ٦٢ سورة الأعراف ) : فلماذا قال في قوم نوح :﴿ أنصح لكم ﴾، وقال هنا في عاد :﴿ وأنا لكم ناصح أمين ﴾ ؟، لقد قال الحق :﴿ أنصح لكم ﴾ في قوم نوح لأن الفعل دائما يدل على التجدد، بينما يدل الاسم على الثبوت. ونظرا إلى أن نوحا عليه السلام كان يلحّ على قومه ليلا ونهارا، وإعلانا وسرا، لذلك جاء الحق بالفعل :﴿ أنصح لكم ﴾ ليفيد التجدد، ولكن في حالة قوم هود جاء سبحانه بما يفيد الثبوت وهو قوله :﴿ ناصح أمين ﴾ ؛ لأن هودا عليه السلام لم يلح ويكرر على قومه في دعوتهم إلى الإيمان كما كان يفعل نوح عليه السلام.
ويقول سبحانه على لسان سيدنا هود :﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٦٩ ) ﴾.
جاء الحق هنا بالذكر للإنذار فقال :﴿ لينذركم ﴾ فقط، وليس كما قال في قوم نوح :﴿ ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾ لأن الإنذار لم يأت لمجرد الإنذار، بل لنرتدع ونتقي، لكي نُرحم، إذن فحين يأتي بأول الحلقة وأول الخيط وهو الإنذار فنحن نستنتج الباقي وهو التقوى لنصل إلى الرحمة :﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ : وهذا كلام جديد ؛ لأن قوم نوح هم أول قوم عُذّبوا حين لم يؤمنوا، وجاء سيدنا هود إلى عاد بعد ذلك، يبلّغهم وينذرهم ليأخذوا العبرة من نوح وقومه :
﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾( من الآية ٦٩ سورة الأعراف ) : ويذكرهم سيدنا هود أن الحق قد أعطى لهم أجساما فارغة فيها بسطة وطول، ويقال : إن الطويل منهم كان يبلغ طوله مائة ذراع، والقصير منهم كان يبلغ طوله ستين ذراعا، ويأمرهم سيدنا هود أن يذكروا آلاء الله، أي نعمه عليهم، وأول النعم أن أرسل إليهم رسولا يأخذ بأيديهم إلى مناطق الخير. فماذا كان ردهم ؟
يقول الحق :﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٧٠ ) ﴾.
كان المنطق أن يعبدوا الله وحده لا أن يعبدوا الشركاء الذين لا ينفعونهم ولا يضرونهم، ولا يسمعونهم. بل إن الواحد منهم كان يرى الهواء يهب على الصنم، فيميل الصنم ويقع على الأرض وتنكسر رقبته، فيذهب إلى الحداد ليعيد تركيب رأس جديد للصنم، فكيف يعبد مثل هذا الصنم ؟ لكنهم قالوا لهود : نحن نقلد آباءنا ولا يمكن أن نترك ما كان يعبد آباؤنا لأننا على آثارهم نسير. وإن كان إلهك ينذرنا بعذاب فأتنا به إن كنت من الصادقين. وهكذا وضح أنه لا أمل في اقتناعهم بالدعوة إلى الإيمان.
فماذا يقول الحق بعد ذلك ؟
يجيء القول الفصل على لسان هود :
﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( ٧١ ) ﴾.
لقد كان يكلمهم ويكلمونه، قالوا له : ائتنا بالعذاب، فقال لهم :﴿ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾، فكيف يقول وقع ؟ لقد قال ذلك لأنه يخبر عن الله. و " وقع " فعل ماض، لكنا نعلم أن كلام الله مجرد عن الزمان ماضيا كان أو حاضرا، أو مستقبلا، لقد قال سيدنا هود : " وقع " والعذاب لم يقع بعد، لكن لما كان قوله بلاغا عن الله فإنه يؤكد وقوع العذاب حتما ؛ لأن الذي أخبر به قادر على إنفاذه في أي وقت، ولا إله آخر ولا قوة أخرى قادرة على أن تمنع ذلك. والذي وقع عليهم هو الرجس، والرجس أي التقذير، ضد التزكية والتطهير. وغضب الله الواقع لم تحدده هذه الآية. لكن لابد أن له شكلا سيقع به.
ويسائلهم هو ساخرا :﴿ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ ﴾، وكل اسم يكون له مسمى، وهذه الأسماء أنتم أطلقتموها على هذه الآلهة، وهل لها مسميات حقيقة لِتُعبد ؟. لا، بل أنتم خلعتم على ما ليس بإله أنه إله، وهذه أسماء بلا مسميات، وأنتم في حقيقة الأمر مقلدون لآبائكم. وما تعبدونه أسماء بلا سلطان من الإله الحق :﴿ ما نزل الله بها من سلطان ﴾( من الآية ٧١ سورة الأعراف ) : أي ليس لهذه الأسماء من حجة على ما تقولون، بدليل أنهم كانوا يسمون في الجاهلية إلها باسم " العزّى " وعندما يكسرونه لا يجدون عزا ولا شيئا ؛ لأن هذا الإله المزعوم لم يدفع عن نفسه، فكيف يكون إلها وقيّوما على غيره ؟ وكذلك سموا " اللات " أي الله ومضاف له التاء، وعندما يكسرونه لا يجدون له قوة أو جبروتا أو طغيانا.
ويقول هود لقومه ما يؤكد وقوع العذاب :﴿ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴾
( من الآية ٧١ سورة الأعراف ) : وقوله :﴿ فانتظروا ﴾، جعلنا نفهم قوله السابق :﴿ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾ بأن الرجس والغضب قادمان لا محالة. صحيح أنه عبر عن ذلك بالفعل الماضي، ولكن لنقرأ قوله الحق :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ﴾( من الآية ١ سورة النحل ) : و " أتى " فعل ماض، وفي الظاهر أنه يناقض قوله :﴿ فلا تستعجلوه ﴾ لأن الاستعجال يدل على أن الحدث لم يأت زمنه بعد. ولكن لنا أن نعلم أن الذي أخبر هو الله، ولا توجد قوة ثانية تغير مرادات الله، أن تكون أو لا تكون.
يقول الحق بعد ذلك :﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( ٧٢ ) ﴾ : ونلحظ أن الحق قد بين وسيلة نجاة سيدنا نوح :﴿ فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ﴾.
أما هنا في مسألة عاد فلم يوضح لنا وسيلة النجاة، بل قال سبحانه :﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( ٧٢ ) ﴾
( سورة الأعراف ) : وقوله :﴿ فأنجيناه ﴾ تدل على أن عذابا عاما وقع، إلا أن ربنا أوحي لسيدنا هود أن يذهب بعيدا عن المكان هو والذين معه قبل أن يقع هذا العذاب. وكان العرب قديما إذا حزبهم أمر، أو دعتهم ضرورة إلى شيء خرج عن أسبابهم يذهبون إلى بيت الله ؛ ليضرعوا إلى الله أن يخلصهم منه، حتى الكفرة منهم كانوا يفعلون ذلك. كما حدث من عاد حين أرسل الله إليهم سيدنا هودا نبيا فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا فأصابهم جذب وظل ثلاث سنوات فما كان منهم إلا أن فزعوا إلى الكعبة لكي يدعوا ربهم أن يخفف عنهم العذاب، وذهب واحد منهم اسمه " قيل بن عنز "، وآخر اسمه " مرثد بن سعد " الذي كان يكتم إسلامه على رأس جماعة منهم إلى مكة، وكان لهم بها أخوال من العماليق ؛ من أولاد عمليق بن لاوث بن سام بن نوح، وكانوا هم الذين يحكمون مكة في هذا الوقت، وعلى رأسهم واحد اسمه " معاوية بن بكر "، فنزلوا عنده، وأكرم وفادتهم على طريقة العرب، واستضافهم ضيافة ملوك وأمراء، وجاء بالقيان والأكل والشراب، فاستمرأوا الأمر، وظلوا شهرا، فقال معاوية بن بكر : لقد جاءوا لينقذوا قومهم من الجدب وما فكروا أن يذهبوا إلى الكعبة، ولا فكروا في أن يدعوا ربنا وأخاف أن أقول لهم ذلك فيقولوا إنه ضاق بنا. وتكون سبّة فيّ. وأخذ يفكر في الأمر. وكان عنده مغنيتان اسمهما " الجرادتان ". فقالت المغنيتان : قل في ذلك شعرا، ونحن نغنيه لهم، فقال معاوية :
ألا قيل ويحك قم فهينم **** لعل الله يمطرنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا **** قد أمسوا لا يبنون الكلاما
فلما غنتا، والغناء فيه ترديد وخصوصا إذا كان غناءً موجها " ألا قيل ويحك قم فهينم " وهينم : أي ادعوا الله، ألم تحضر من أجل الدعاء لعل الله يمطرنا الغمام على أرض عاد، وينتهي الجدب، وقد بلغ منهم الجهد أنهم لا يبينون الكلام، فتنبه القيل، وتنبه مرثد بن سعد، وكان قد نمى إلى علم " القيل " أن مرثد بن سعد مؤمن بهود عليه السلام، فرفض أن يصحبه معه، وبالفعل ذهب قيل وأخذ يدعوا الله، فسمع هاتفا يقول له : " اختر لقومك " وقد رأى سحابة سوداء وسحابة حمراء وسحابة بيضاء، ونبهه الهاتف أن يختار سحابة تذهب لقومه من بين الثلاثة، فاختار السحابة السوداء، لأنها أكثر السحاب ماء، وهو على قدر اجتهاده اختار السحابة السوداء. وعادوا لبلادهم ليجدوا السحابة السوداء فقال لهم : أنا اخترت السحابة السوداء لأنها توحي بماء كثير منهمر، وقال الحق في هذا الأمر :﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾( من الآية ٢٣سورةالأحقاف ) :
أي أن هذه السحابة التي قال عليها : " قيل " سوف تعطينا المطر. فيرد الحق عليهم ويقول لهم :﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ٢٤ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ.. ﴾ ( من الآية ٢٤ ومن الآية ٢٥ سورة الأحقاف ) : إذن فقولهم السابق لسيدنا هود هو الذي أورده الحق هنا في سورة الأعراف :﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ ( من الآية ٧٠ سورة الأعراف ) : أي أن عذابهم يتأكد بالمطر والريح الذي جاء به قول سيدنا هود هنا في سورة الأعراف :﴿ قد وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾.
ولم يفلت من العذاب إلا من آمن مصدقا لقوله الحق :﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( ٧٢ ) ﴾.
لقد يسّر الحق الانقياد لسيدنا هود ومن آمن معه ليهجروا المكان لحظة ظهر السحاب، فقد سمع هود هاتفا يؤكد له أن في هذا السحاب العذاب الشديد، فأخذ الجماعة الذين آمنوا معه وهرب إلى مكة، وتم إهلاك الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسولهم ورفضهم الإيمان بربهم.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٧٣ ) ﴾.
لقد قال سيدنا صالح لثمود مثلما قال سيدنا هود لعاد، وحمل لهم الإنذار ليتقوا فيرحموا، قال سيدنا صالح :﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾. إذن فالإنذار للتقوى وللوصول إلى الرحمة والفلاح، ولذلك أقول دائما : إن القرآن حينما يتعرض لأمر قد لا يأتي به مفصلا ولكن سياقه يوحي بالمراد منه، ولا يكرر ذلك ليربي فينا ملكة الاستيقاظ إلى استقبال المعاني. والمثال على ذلك في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، يقول القرآن على لسان سيدنا سليمان :﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ( ٢٠ ) ﴾( سورة النمل )، ويهدد سيدنا سليمان الهدهد قائلا :﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ﴾ ( من الآية ٢١ سورة النمل )، ثم جاء الهدهد ليقول :﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة النمل )، ثم أرسل سيدنا سليمان الهدهد إلى قوم سبأ قائلا :﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ( ٢٨ ) ﴾ ( سورة النمل )، ومن بعد هذه الآية مباشرة قال القرآن :﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( ٢٩ ) ﴾ ( سورة النمل )، وكأن الهدهد قد ذهب بالكتاب، ورماه إلى ملكة سبأ، وقالت هي الرد مباشرة. إذن لم يكرر القرآن ما حدث، بل جعل بعضا من الأحداث متروكا للفهم من السياق.
وكذلك هنا في قوله الحق :﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ﴾ ( من الآية ٧٣ سورة الأعراف ) : وكلمة " أخاهم " هنا تؤكد أن سيدنا صالحا كان مأنوسا به عند ثمود، ومعروف التاريخ لديهم، وسوابقه في القيم والأخلاق معروفهم لهم تماما وأضيفت ثمود له لأنه أخوهم. وقد جاءت دعوته مطابقة لدعوة نوح وهود.
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
( من الآية ٧٣ سورة الأعراف ) : والبينة هي الدليل على الصدق في البلاغ عن الله، وهي الناقة. فما قصة الناقة ؟ هل خرج لهم بناقة ونسب ملكيتها لله ؟ بطبيعة الحال، لا، بل لابد أن تكون لها قصة بحيث يعلمون أن هذه الناقة ليست لأحد من البشر. وحين قام سيدنا صالح بدعوته، تحداه السادة من قومه، وقالوا : نقف نحن وأنت، نستنجد نحن بآلهتنا، وأنت تستنجد بإلهك، وإن غلبت آلهتنا تتبعنا، وإن غلب إلهك نتبعك، وجلسوا يدعون آلهتهم، فلم يحدث شيء من تلك الآلهة، وهنا قالوا لسيدنا صالح : إن كنت صادقا في دعوتك، هذه صخرة منفردة أمامك في الجبل اسمها " الكاثبة " فليخرج ربك لنا من هذه الصخرة ناقة هي عشراء كالبخت أحسن أنواع الإبل، فدعا الله سبحانه وتعالى، وانشقت الصخرة عن الناقة، وخروج الناقة من الصخرة لا يدع مجالا من الشك في أنها آية من الله ظهرت أمامهم. إنها البينة الواضحة. لقد انشقت الصخرة عن الناقة ووجدوها ناقة عشراء، وَبْرَاء أي كثيرة الوَبَر يتحرك جنينها بين جنبيها ثم أخذها المخاض فولدت فصيلا، وهكذا تتأكد الآية الإلهية دون أن يجرأ أحد على التشكيك فيها، وهي ناقة من الله وهو القائل :﴿ ناقة الله وسقياها ﴾ ( من الآية ١٣ سورة الشمس ) : وأوضح لهم سيدنا صالح أنها ناقة الله، وترونها رؤية مشهدية وهذه الناقة لها يوم في الماء لتشرب منه، ويوم تشربون أنتم فيه. وكان الماء قليلا عندهم في الآبار، ﴿ لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ﴾( من الآية ١٥٥ سورة الشعراء ) : أي لابد من تخصيص يوم لتشرب فيه هذه الناقة، ولكم أنتم وإبلكم وحيواناتكم يوم آخر، وكان من عجائب هذه الناقة أن تقف على العين وتشرب فلا تدع فيه ماءً، وهي كمية من المياه كانت تكفي كل الإبل. وبعد ذلك تتحول كل المياه التي شربتها في ضرعها لبنا، فيأخذون هذا اللبن.
صحيح أن الناقة منعتهم المياه لكنهم أخذوا منها اللبن الذي يطعمونه، ولأنها ناقة الله كان لابد أن تأخذ هيكلا وحجما يناسبها وكمية من الطعام والشراب مناسبة لتقيم بها حياتها، وكمية إدرار اللبن مناسبة لشربها وطعامها وحجمها، فمادامت منسوبة لله فلابد أن فيها مواصفات إعجازية، وكان الفصيل الذي ولدته معها، وكان إذا ما جاء الحر في الصيف تسكن الناقة في المشارف العالية، وبقية النوق تنزل في الأرض الوطيئة، وحين يأتي الشتاء تنزل إلى المناطق المنخفضة. والمعروفة أن مدائن صالح كانت منطقة شديدة الحرارة، ويمكن لمن يزور المدينة أو " تبوك " أن يمر عليها.
كانت الناقة حرة في اختيار المكان الذي تعيش فيه صيفا أو شتاءا فلا أحد بقادر أن يمسها بسوء. وكانت امرأتان لهما نياق. وناقة الله تغلب نياق المرأتين في المراعي والماء. فأحضرت المرأتان رجلا يطلق عليه : " أُحَيْمر ثمود : واسمه قُدار بن سالف " ليقتلها، فقتل الناقة، فلما قتلت الناقة، طلع ابنها الفصيل على جبل يسمى " قارة " وخار ثلاث أصوات، فنادى سيدنا صالح : يا قوم أدركوا هذا الفصيل، لعل الله بسبب إدراككم له يرفع عنكم العذاب، فراحوا يتلمسونه فلم يجدوه وأعلم الله صالحا النبي أن العذاب قادم، ففي اليوم الأول تكون وجوههم مصفرة، وفي اليوم الثاني تكون محمرة، وفي اليوم الثالث تكون مسودة، فقد كانت الناقة هي ناقة الله المنسوبة له سبحانه، وقد تأكدوا بالأمر المشهدي من ذلك، وكان من الواجب عليهم ساعة أن وجدوا الآية الكونية المشهودة أن يأخذوا منها العبرة، وأنها مقدمة للشيء الموعود به، لكنّ الغباء أنساهم أنها ناقة الله.
﴿ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ( من الآية ٧٣ سورة الأعراف ) : وبالفعل حدث العذاب بعد أن قتل أحيمر ثمود الناقة.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( ٧٤ ) ﴾.
ومن قبل قال الحق لقبيلة عاد :﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ ( من الآية ٦٩ سورة الأعراف ). وهنا قال الحق :﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ ﴾ : لأن عادا هم الخلفاء الأقرباء منهم، وقصتهم ما زالت معروفة ومعالمها واضحة، أما قصة نوح فهي بالتأكيد أقدم قليلا من قصة عاد.
يذكرهم الحق أيضا أنه جعل لهم في الأرض منازل يسكنونها، فاتخذوا من سهولها قصورا، والسهل هو المكان المنبسط الذي لا توجد به تلال أو صخور أو جبال، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا، وكان عمر الإنسان منهم يطول لدرجة أن البيت ينهدم مرتين في العمر الواحد للإنسان. ولذلك قرروا أن يتخذوا من الجبال بيوتا لتظل آمنة، وحين يرى الإنسان مدائن صالح منحوتة في الجبل فهي فرصة لأن يتأمل عظمة الحق في تنبيه الخلق إلى ما يفيدهم وهي بالفعل من نعم الله ويقول سبحانه :﴿ فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ ( من الآية ٧٤ سورة الأعراف ) : وآلاء الله كما عرفنا هي نعمه التي لا تحصى، وينبههم إلى عدم نشر الفساد في الأرض.
ويقول سبحانه بعد ذلك :﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٧٥ ) ﴾.
ونعرف أن هناك سادة، وهناك أتباعا. ومن قبل قال الحق :﴿ إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبَعوا ﴾ ( من الآية ١٦٦ سورة البقرة ) : وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حوار بين السادة وبين المستضعفين الذين لا جاه لهم ولا جبروت يُحافظ عليه، ورأوا دعوة الإيمان ووجدوا فيها النفع لهم فأقبلوا عليها، أما الملأ وهم السادة الأشراف الأعيان الذين يملأون العين هيبة، والقلوب مهابة فقد قالوا لمن آمن من المستضعفين لأن هناك مستضعفين ظلوا على ولائهم للكفر قال هؤلاء الملأ من المستكبرين لمن آمن من المستضعفين :﴿ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾( من الآية ٧٥ سورة الأعراف )،
وعندما سمع المستكبرون قول المؤمنين من المستضعفين.
فماذا قال الملأ المستكبرون ؟ يقول الحق :﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( ٧٦ ) ﴾.
إذن فقد أعلنوا الكفر بالقول وضموا إليه بالعمل وهو قتل الناقة، ويقول الحق :
﴿ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٧٧ ) ﴾.
والعقر " هو الذبح بالنسبة للنوق. وهم هنا يقولون أيضا مثلما قال السابقون لهم :
﴿ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٧٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : و " الصادقين " تؤول أيضا إلى المرسلين. لقد اتهموا صالحا عليه السلام بالكذب كنبي مرسل لهم برغم حدوث الآية الواضحة وهي خروج الناقة من الجبل، ولذلك يحل عليهم غضب الله المتمثل في قوله الحق :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ٧٨ ) ﴾.
والرجفة هي الهزة التي تحدث رجة في المهزوز. ويسميها القرآن مرةبالطاغية.
في قوله الحق :﴿ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ٥ ﴾ [ سورة الحاقة ] : والتي أصبحوا من بعدها " جاثمين "، وهو التعبير الدقيق الذي يدل على أن الواحد منهم إن كان واقفا ظل على وقوفه، وإن كان قاعدا ظل على قعوده، وإن كان نائما ظل على نومه. أو كما نقول : " انسخطوا على هيئاتهم ".
" فالجاثم " هو من لزم مكانه فلم يبرح أو لصق بالأرض.
وبعد أن أخذهم بالرجفة يقول الحق :﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( ٧٩ ) ﴾.
فهل كان سيدنا صالح يخاطبهم وهم موتى ؟. نعم يخاطبهم إنصافا لنفسه وإبراء لذمته، مثلما يقع واحد في ورطة فيقول له صديقه : لا أملك لك شيئا الآن : فقد نصحتك من قبل. أو أن شريرا قد قتل، فتقول له : " يا ما نصحتك ". وأنت تتكلم لكي تعطي لنفسك براءة العذر، أو كما فعل صلى الله عليه وسلم مع قتلى بدر واحدا واحدا بعد أن ألقوا جثثهم في قليب بدر، وقال صلى الله عليه وسلم : يا أهل القليب، يا فلان، يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال الصحابة : أوتكلمهم يا رسول الله وقد جيّفوا. قال : والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
وكأن سيدنا صالح قال ذلك ليتذكروا كيف أبلغهم رسالات الله ومنهجه ونصح لهم وتحنن عليهم أن يلتزموا بمنهج الله، لكنهم لم يستمعوا للنصح. ولم يحبوا الناصحين ؛ لأن الناصح يريد أن يُخرج المنصوح عما ألفه من الشر، وعندما ينصحه أحد يغضب عليه.
وبعد أن انتهى من قصة ثمود مع نبيهم يقول سبحانه :
﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( ٨٠ ) ﴾.
وكما قال الحق :﴿ لقد أرسلنا نوحا ﴾ وقال :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾، ﴿ وإلى عاد أخاهم صالحا ﴾ فهو هنا يأتي باسم " لوط " منصوبا لأنه معطوف على من سبقه من أصحاب الرسالات.
وما هو زمان الإرسال ؟ لأن قول الحق :﴿ إذ قال لقومه ﴾ يفيد أن زمن القول وقت كان وقت الإرسال. وهي الإشارة القرآنية ذات الدلالة الواضحة على أن الرسول حين يبعث ويرسل إليه ويبلَّغ الرسالة لا يتوانى لحظة في أداء المهمة، فكأن تبليغ الرسالة تزامن مع قوله :﴿ يا قوم ﴾. والأسلوب يريد أن يبين لك أنه بمجرد ساعة التبليغ فلا فاصل بينهما. ﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾ ( من الآية ٨٠ سورة الأعراف ) : وكلمة " قومه " تعني أنه منهم، ولماذا لم يقل : " أخاهم لوطا " ؟ وهذه لها معنى يفيد السابقين من الرسل كانوا من بيئة الأقوام الذين أرسلوا إليهم ؛ فعاد كان " هود " من بيئتهم، و " ثمود " كان صالح من بيئتهم. وإذا كان الحق لم يقل " أخاهم لوطا " فلنلحظ أنه أوضح أنه قد أرسله إلى قومه، وهذه تنبهما إلى أن لوطا لم يكن من هذا المكان، لأن لوط وإبراهيم عليهما السلام كانا من مدينة بعيدة وجاء إلى هذا المكان فرارا من الاضطهاد هو وإبراهيم عليهما السلام، وهذا يبين لنا أن لوطا طارئ على هذا المكان، ولم يكن أخاهم المقيم معهم في البيئة نفسها. ولكنهم " قومه " لأنه عاش معهم فترة فعرف بعضهم بعضا، وعرفوا بعضا من صفاته، وأنسوا به.
أقول ذلك لننتبه إلى دقة أداء القرآن، فمع أن القصص واحد فسبحانه يضع لنا التمييز الدقيق، ولم يقل لهم لوط : إن ربي نهاكم عن هذه العملية القذرة وهي إتيان الرجال. بل أراد أن يستفهم منهم استفهاما قد يردعهم عن العملية ويقبحها.
وكان استفهام سيدنا لوط هو استفهام تقريع، واستفهام إنكار، فلم يقل لهم : إن ربنا يقول لكم امتنعوا عن هذا الفعل، بل يستنكر الفعل كعمل مضاد للفطرة، واستنكار فطري.
﴿ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ ( من الآية ٨٠ سورة الأعراف ) : وهذا يدل على أنه يريد أن يسألهم سؤالا إنكاريا ليحرجهم، لأن العقل الفطري يأبى هذه العملية :﴿ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾.
أي أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة ؛ لأن الرجل إنما يأتي في محل القذارة، لكنهم فعلوها، وهذا الفعل يدل على أنها مسألة قد تشتهيها النفس غير السويّة. ولكنها عملية قذرة تأباها الفطرة السليمة.
وكلمة " فاحشة " تعطينا معنى التزيد في القبح ؛ فهي ليست قبحا فقط، بل تَزَيُّّد وإيغال وتعمق في القبح ومبالغة فيه ؛ لأن الفاحشة تكون أيضا إذا ما أتى الرجل أنثى معدة لهذه العملية لأنه لم يعقد عليها، ولم يتخذها زوجا، وعندما يتزوجها تصير حِلاًّ له، لكن إتيان الذكر للذكر هو تزيد في الفحش. وإذا كان هذا الأمر محرما في الأنثى التي ليست حلالا له ويعد فاحشة، فالرجل غير مخلوق لمثل هذا الفعل ولا يمكن أن يصير حلالا، يكون إتيانه فاحشة بمعنى مركّب.
﴿ .. أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ٨٠ ﴾ [ سورة الأعراف ]، وقلنا من قبل : " إن " من " قد تأتي مرة زائدة، ويمكنك أن تقول إنها زائدة في كلام الإنسان، لكن من العيب أن تقول ذلك في كلام ربنا. وقوله :﴿ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ : أي ما سبقكم أحد من العالمين، و " أحد " هي الفاعل، وجاءت " من " لتوضح لنا أن لم يأت بها أحد ابتداء، مثلما قلنا قديما، حين تأتي لواحد لتقول له : " ما عندي مال ". فأنت قد نفيت أن يكون عندك مال يعتد به. وقد يكون معك من بداية ما يقال له أنه مال، وقوله الحق :﴿ .. مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ٨٠ ﴾ [ سورة الأعراف ] : يعني أنه لم يسبقكم أي أحد من بداية ما يقال له أحد، وسبحانه يريد أن ينفيها أكثر، و " من " التي في قوله :﴿ من العالمين ﴾ هي تبعيضية أي ما سبقكم بها أحد " من بعض " العالمين. فما هذا الأمر ؟ لقد سماها فاحشة، وهي تزيد في القبح ووصفه لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية.
لأننا حين نبحث هذه المسألة بحثا عقليا نجد أن الإنسان مخلوق كخليفة في الأرض وعليه استبقاء نوعه ؛ لأن كل فرد له عمر محدود، ويخلف الناس بعضهم بعضا، ولابد من بقاء النوع، وقد ضمن الله للإنسان الأقوات التي تبقيه، وحلل له الزواج وسيلة لإبقاء النوع، ومهمة الخلافة تفرض أن يخلف بعضنا بعضا. وكل خليفة يحتاج إلى اقتيات وإلى إنجاب. و " الاقتيات " خلقة الله في الأرض التي قدر فيها أقواتها.
والنوع البشري جعل منه سبحانه الذكر والأنثى ومنهما يأتي الإنجاب الخلافي ؛ فهو محمول أولا في ظهر أبيه نطفة، ثم في أمه جنينا ثم تضعه لترعاه مع والده ويربيه الاثنان حتى يبلغ رشده. وهذه خمس مراحل، وكل مرحلة منها شاقة، فحمل الأم في الطفل تسعة شهور هو أمر شاق ؛ لأن الإنسان منا إن حمل شيئا طول النهار سيصاب بالتعب، لكن الأم تحمل الجنين تسعة أشهر، وأراد الله أن يكون الحمل انسيابيا بمعنى أن الجنين في نشأته الأولى لا يبلغ وزنه إلا أقل القليل، ثم يكبر بهدوء وبطء لمدة تسع شهور حتى يكتمل نموه.
وهذا الجنين كان صغيرا في بدء تكوينه، ثم صار وزنه غالبا ثلاث كيلوجرام في يوم ولادته، وبين بدء تكوينه إلى لحظة ميلاده هناك فترة زمنية ينمو فيها هذا الجنين تدريجيا، وبشكل انسيابي، فهو لا يزيد في الوزن كل ساعة، بل ينمو في كل جزء من المليون من الثانية بمقدار يناسب هذا الجزء من الثانية، وهذا يعني أن الجنين ينمو انسيابيا بما يناسب الزمن.
نلحظ ذلك أيضا في أثناء التدريب على رياضة حمل الأثقال أنهم لا يدربون اللاعب الناشئ على حمل مائة كيلوجرام من أول مرة بل يدربونه على حمل عشرون كيلوجراما في البداية، ثم يزاد الحمل تباعا بما لا يجعل حامل الأثقال في عنت، ويسمون ذلك : انسياب التدريب ؛ لأن حمل هذه الأثقال يحتاج إلى تعود، ولهذا لا يتم تدريبه على حمل الأثقال فجأة، بل بانسياب بحيث لا يدرك الزمن مع الحركة، كذلك النمو، فأنت إذا نظرت إلى طفلك الوليد ساعة تلده أمه، وسأقدر جدلا أنك ظللت تنظر إليه دائما، فهو لا كبر في نظرك أبدا ؛ لأنه ينمو بطريقة غير محسوسة لديك، لكنك لو غبت شهرا عنه وتعود لرؤيته ستدرك نموه، وهذا النمو الزائد قد تجمع في الزمن الفاصل بين آخر مرة رأيته فيها قبل غيابك وأول مرة تراه بعد عودتك.
ومن لطف الله إذن في الحمل أن الجنين ينمو انسيابيا، ولذلك يزداد الرحم كل يوم من بدء الحمل إلى آخر يوم فيه، وترى الأم الحامل، وهي تسير بوهن وتبطئ في حركتها، ثم يأتي الميلاد مصحوبا بمتاعب الولادة وآلامها، وبعد أن يولد المولود تستقبله رعاية أمه وأبيه، ويأخذ سنوات إلى أن يبلغ الرشد. ونعلم أن أطول الأجناس طفولة هو الإنسان، ولذلك نجد الأب الذي يريد الإنجاب يتحمل مع الأم متاعب التربية، وقد قرن الله هذا الأمر بشهوة، وهي أعنف شهوة تأتي من الإنسان، وبعد ميلاد الطفل نجد المرأة تقول : لن أحمل مرة أخرى، ولكنها تحمل بعد ذلك.
إذن كأن الشهوة هي الطعم الموضوع في المصيدة ليأتي بالصيد وهو الإنجاب ؛ لذلك قرن الحق الإنجاب بالشهوة لنقبل عليها، وبعد أن نقبل عليها، ونتورط فيها نتوفر ونبذل الجهد لنربي الأولاد. فإذا أنت عزلت هذه الشهوة عن الإنجاب والامتداد تكون قد أخللت وملت عن سنة الكون، لأنك ستأخذ اللذة بدون الإنجاب، وإذا تعطل الإنجاب تعطلت خلافة الأرض، والشيء الآخر أن الرجل في الجماع يلعب دور الفاعل، وفي الشذوذ وهو العملية المضادة التي فعلها قوم لوط ينقلب الرجل إلى منفعل بعد أن كان فاعلا.
﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( ٨٠ ) ﴾
( سورة الأعراف ) : والفاحشة هي العملية الجنسية الشاذة، ولم يحددها سبحانه من البداية كدليل على أنها أمر معلوم بالفطرة، فساعة يقول :{ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا
سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } يعرفون ما فعلوا. وإن افترضنا أن هناك أغبياء أو من يدعون الغباء ويرفضون الفهم، فقد جاء بعدها بالقول الواضح :
﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( ٨١ ) ﴾.
والإسراف هو تجاوز الجد، والله قد جعل للشهوة لديك مصرفا طبيعيا منجبا، وحيث تأخذ أكثر من ذلك تكون قد تجاوزت الحد، ولقد جعل الله للرجل امرأة من جنس البشر وجعلها وعاء للإنجاب، وتعطيك الشهوة وتعطيها أنت الشهوة، وتعطيك الإنجاب، وتشتركان من بعد ذلك في رعاية الأولاد. وأي خروج عما حدده الله يكون الدافع إليه هو الشهوة فحسب لكي ينبغي أن يكون الدافع إلى هذه العملية مع الأنثى هو الشهوة والإنجاب معا ؛ لبقاء النوع، ولذلك وصف الحق فعل قوم لوط :﴿ .. بل أنتم قوم مسرفون٨١ ﴾
ويأتي الحق سبحانه بما أجابوا به عن سؤال سيدنا لوط :﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( ٨٢ ) ﴾.
وبذلك تمادى هؤلاء القوم رافضين أن يقبح أحد لهم الشذوذ ؛ لذلك قالوا :﴿ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ.. ٨٢ ﴾. وما هي الحجة التي من أجلها إخراج لوط والذين آمنوا معه من القرية ؟ ﴿ .. أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( ٨٢ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : فهل التطهر عيب ! لا، لكنهم عاشوا في النجاسة وألفوها، ويرفضون الخروج منها، لذلك كرهوا التطهر. والمثال على ذلك حين نجد شابا يريد أن ينضم إلى صداقة جماعة في مثل عمره، لكنه وجدهم يشربون الخمور، فنصحهم بالابتعاد عنه، ووجدهم يغازلون النساء فحذرهم من مغبة الخوض في أعراض الناس، لكن جماعة الأصدقاء كرهت وجوده بينهم لأنه لم يألف الفساد فيقولون : لنبتعد عن هذا المستقيم المتزهد المتقشف، وكأن هذه الصفات صارت سُبة في نظر أصحاب المزاج المنحرف، مثلهم مثل الحيوان الذي يحيا في القذارة، وإن خرج إلى النظافة يموت.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٨٣ ) ﴾.
وهم حين أرادوا طرد لوط وأهله، إنما كانوا يجازفون، إنهم بذلك قد تعجلوا العقاب، وجاءهم العقاب وأنجى الحق سبحانه لوطا وأهله بتدبير حكيم لا يحتاج فيه سبحانه إلى حد، وإذا تساءل أحد : ومن هم أهل لوط الذين أنجاهم الله معه ؟ أهم أهل النسب أم أهل التدين والتبعية ؟. إن كان أهله بالنسب فالحق يستثني منهم " امرأته "، وهذا دليل على أن أهل البيت آمنوا بما قاله لوط وكذلك الأتباع أيضا :﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ : إذن كان مع لوط أيضا بعض من أهله وبعض من الأتباع، وكانوا من المتطهرين، والتطهر هو أن يترفع الإنسان عن الرجس والسوء. ولذلك نجد سيدنا شعيبا حين ينصح قومه :
﴿ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.. ٨٥ ﴾ [ سورة الأعراف ].
ويتعجب القوم سائلين شعيبا :﴿ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا... ٨٧ ﴾ [ سورة هود ] : إنهم يتعجبون من أن الصلاة تنهى عن ذلك، لقد أعمى ضلالهم بصيرتهم، فلم يعرفوا أن الصلاة تنهى عن كل شيء. وكذلك فعل بعض من الكافرين حين اتهموا سيدنا رسول الله بأنه مجنون :﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( ٦ ) ﴾ [ سورة الحجر ] : ومن قولهم يتأكد غباء تفكيرهم، فماداموا قد قالوا :﴿ نزل عليه الذكر ﴾ فمن الذي نزل هذا الذكر ؟، والذكر هو القرآن، والذي نزله هو الله سبحانه وتعالى فكيف يعترفون بالقرآن كذكر، ثم يتهمون الرسول بأنه " مجنون " ؟، لأنهم ماداموا قد قالوا على القرآن إنه ذكر، وإنه قد نزل عليه، ولم يأت به من عنده، فكيف يكون مجنونا ؟ إنهم هم الكاذبون، وقولهم يؤكد أن فكرهم نازل هابط.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق يقول سبحانه :﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٨٣ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : إن امرأة سيدنا لوط لم تدخل في الإنجاء لأنها من الغابرين، و " غبر " تأتي لمعان متعددة، فهي تعني إقامة ومكثا بالمكان، أو تعني أي شيء مضى، كما يقال : هذا الشيء غبرت أيامه ؛ أي مضت أيامه، ولسائل أن يقول : كيف تأتي الكلمة الواحدة للمعنى ونقضه ؟ فغبر تعني بقي، وغبر أيضا تعني مضى وانتهى. نقول : إن المعنى ملتق هنا في هذه الآية، فمادام الحق ينجيه من العذاب الذي نزل على قوم لوط في القرية فنجد زوجته لم تخرج معه، بل بقيت في المكان الذي نزل فيه العذاب، وبقيت في الماضي، وهكذا يكون المعنى ملتقيا. فإن قلت مع الباقين الذين آتاهم العذاب فهذا صحيح. وإن قلت إنها صارت تاريخا مضى فهذا صحيح أيضا :﴿ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾، ونحن لا ندخل في تفاصيل لماذا كانت امرأته من الغابرين ؛ لأن البعض تكلم في حقها بما لا يقال، وكأن الله يدلس على نبي من أنبيائه، لا، نحن لا نأخذ إلا ما قاله الحق بأنها كانت مخالفة لمنهجه وغير مؤمنة به.
ونلحظ أيضا أن الحق تحدث عن امرأة لوط في مسألة الكفر ؛ فقال :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا.. ( ١٠ ) ﴾ [ سورة التحريم ] : ودقق النظر في كلمة ﴿ تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ وتساءل البعض عن معنى الخيانة وهل الخيانة المقصود بها الزنا ؟. ونقول : ربنا لا يدلس على نبي له، لكن أن تؤمن الزوجة أو تكفر، فهذه مسألة اختيارية. وكأن الله سبحانه يوضح لنا أن الرسول مع أنه رسول من الله إلا أنه لا يستطيع أن يفرض إيمانا على امرأته ؛ فالمسألة هي حرية الاعتقاد. وانظر إلى التعبير القرآني :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ ﴾. إياك أن تظن أن أيا منهما كانت متكبرة على زوجها ؛ لأن الحق يقول :﴿ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ أي أن إمرة وقوامة الرجل مؤكدة عليها، يشير إلى ذلك قوله :﴿ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ ﴾ لكن الإيمان هو مسألة اختيار، وهذا الاختيار متروك لكل إنسان، وأكد الحق ذلك في مسألة ابن سيدنا نوح :﴿ إنه ليس من أهلك ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة هود ) : وحاول البعض أن يلصق تهمة الزنا بامرأة نوح وامرأة لوط، وهم في ذلك يجانبون الصدق، إنه محض افتراء، وقد نبهنا الحق إلى ذلك فقال عن امرأة نوح وامرأة لوط :﴿ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [ من الآية ١٠ سورة التحريم ]، ولنفهم أن الاختيار في العقيدة هو الذي جعلهما من الكافرين، وأن الرسولين نوحا ولوطا لم يستطيعا إدخال الإيمان في قلبي الزوجتين ؛ حتى يتأكد لدينا أن العقيدة لا يقدر عليها إلا الإنسان نفسه، ولذلك ضرب سبحانه لنا مثلا آخر :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ١١ ) ﴾ [ سورة التحريم ] : فهذه زوجة فرعون المتجبر ؛ الذي " ادّعى الألوهية "، لكنه لا يقدر أن يمنع امرأته من أن تؤمن بالله، وهكذا نجد نبيا لا يقدر أن يقنع امرأته بالإيمان، ونجد مدّعي الألوهية عاجزا عن أن يجعل امرأته كافرة مثله، وهذا يدل على أن العقيدة أمر اختياري محمي بكل أنواع الحماية ؛ حتى لا يختار الإنسان دينه إلا على أساس من اقتناعه لا على أساس قهره.
وضرب الله مثلا آخر :﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَة عِمْرَانَ ﴾ [ من الآية ١١ سورة التحريم ] :
ونلاحظ أن الحق لم يأت بأسماء زوجتي نوح ولوط، وكذلك لم يأت باسم امرأة فرعون، لكنه أورد لنا اسم مريم واسم والدها. فلماذا كان الإبهام أولا ؟ لنعلم أنه من الجائز جدا أن يحصل مثل هذا الأمر لأي امرأة، فقد تكون تحت جبار وكافر، وتكون هي مؤمنة، وقد تكون تحت عبد مؤمن ولا يلمس الإيمان قلبها.
﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٨٣ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] : فكلمة " أنجينا " تشير إلى أن عذابا سيقع في المكان الذي فيه قوم لوط، ولأنه سبحانه شاء أن يعذب جماعة ولا يعذب جماعة أخرى، فلابد أن يدفع الجماعة التي كتب لها النجاة إلى الخروج. وهذا الخروج أراده لهم من يكرهونهم، فقد قالوا :
﴿ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [ من الآية ٨٢ سورة الأعراف ] : لكن ربنا هو الذي أخرجهم، والإخراج كان من العذاب الذي نزل بهؤلاء المجرمين ؛ إنه كان لإنجاء لوط وأهله مما نزل بهؤلاء الفجرة.
ويأتي العذاب من الحق :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ٨٤ ﴾.
فهل كان ذلك المطر مثل المطر الذي ينزل عادة ؟ لا، بل هو مطر من نوع آخر. فسبحانه يقول :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ( ٣٣ ) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( ٣٤ ) ﴾ [ سورة الذاريات ].
يقول الحق : إنه سيعذبهم بالمطر، فلننتبه أنه ليس المطر التقليدي، بل إنه يعذبهم ويستأصلهم بنوع آخر من المطر.
وقوله : " فانظر " أي فاعتبر يا من تسمع هذا النص، وهذه القصة تبين وتوضح أن الله لا يدع المجرمين يصادمون دعوة الله على لسان رسله دون عقاب.
ويقول سبحانه :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( ٨٥ ) ﴾.
و " مدين " هو ابن من أبناء سيدنا إبراهيم جاء واستقر في هذا المكان، فهو علم على شخصه، وعلم على المكان الذي أقام فيه وسمي المكان باسمه، فلما تكاثر أبناؤه وصاروا قبيلة أخذت القبيلة اسمه. إذن ف " مدين " اسم علم على ابن إبراهيم، وأطلق على المكان الذي استقر فيه من طور سيناء إلى الفرات، وأطلق على القبيلة :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾. الحق سبحانه وتعالى هنا يكرر " أخ " ليبين لك ؛ أنه إن قسا عليهم مرة فسيحنو عليهم مرة أخرى ؛ لأنهم إخوة له ومأنوس بهم، وفيهم عاش ويعرفون عنه كل شيء، وكان مدين قد تزوج من رقبة ابنة سيدنا لوط، وحين تكاثر الاثنان صاروا قبيلة، ويبلغهم سيدنا شعيب بالقضية العقدية التي يبلغها كل رسول :﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾. والعبادة هي الطاعة للأمر والطاعة للنهي، وأنت لا تطيع أمر آمر ولا نهي ناه إلا إذا كان أعلى منك، لأنه إن كان مساويا لك، فبعد أن يقول لك : " افعل كذا " ستسأله أنت : لماذا ؟، وبعد أن ينهاك عن شيء ستسأله أيضا لماذا ؟. لكن الأب حينما يقول لطفله : لا تفعل الشيء الفلاني، فالابن لا يناقش ؛ لأنه يعرف أن أباه هو من يطعمه ويشربه ويكسوه، وحين يكبر الطفل فهو يناقش ؛ لأن ذاتيته تتكون، ويريد أن يعرف الأمر الذي سيقدم عليه.
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.. ٨٥ ﴾ [ سورة الأعراف ] : ومادام قد قال لهم :﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ فهو رسول قادم ومرسل من الله، ولابد أن تكون معجزة يثبتها، إلا أن شعيبا لم يأت لنا بالمعجزة، إنما جاء بالبينة. ﴿ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ. ٨٥ ﴾ [ سورة الأعراف ] : لأن كل المعاصي والكفر تدفع إلى الإخلال في الكيل والميزان، وإذا كان شعيب قد قال ذلك لقومه فلابد أن الإخلال في الكيل والميزان كان هو الأمر الشائع فيهم. فيأتي ليعالج الأمر الشائع. وهم كانوا يبخسون الكيل والميزان.
ويظن الناس في ظاهر الأمر أنها عملية سهلة، وأن القبح فيها قليل، والاختلاس فيها هين يسير، فحين يبخس في الميزان ولو بجزء قليل، إنما يأخذ لنفسه في آخر الأمر جزءا كبيرا. وأنت ساعة تكيل وتزن وتطفف فأنت تفعل ذلك في من يشتري. وستذهب أنت بعد ذلك لتشتري من أناس كثيرين سيفعلون مثلما فعلت، فإذا ما وفيت الكيل والميزان، فأنت تفعل ما هو في مصلحتك، لأنك تنشر العدل السلوكي بين الناس بادئا بنفسك، ومصالحك كلها مع الآخرين.
إنك حين تبيع أي سلعة ولو كانت بلحا وتنقص في الميزان، ستحقق لنفسك ربحا ليس لك فيه حق، وإن كنت تكيل قمحا لتبيعه وأنقصت الكيل، فأنت تأخذ ما ليس لك، وإن كنت تكيل قمحا لتبيعه وأنقصت الكيل، فأنت تأخذ ما ليس لك، والقمح والبلح هما بعض من مقومات حياتك ؛ لأنك تحتاج إلى سلع كثيرة عند من يزن، وعند من يكيل، فإن أنقصت الميزان أو الكيل فلسوف يفعلون مثلما فعلت فيما يملكون لك، وبذلك تخسر أنت ويصبح الخسران عاما.
﴿ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.. ٨٥ ﴾ [ سورة الأعراف ] : وإذا كانت الخسارة في الكيل والميزان طفيفة ومحتملة، فمن باب أولى ألا نبخس الناس أشياءهم فلا نظلمهم بأخذ أموالهم والاستيلاء على حقوقهم، فلا نسرف لأن السارق يأخذ ما تصل إليه يده، ولا نغضب، ولا نختلس، ولا نرتشي، لأنه إذا كان وفاء الكيل هو أول مطلوب الله منكم مع أن الخسارة فيه طفيفة، إذن فبخس الناس أشياءهم يكون من باب أولى.
ويتابع سبحانه :﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا.. ( ٨٥ ) ﴾ [ سورة الأعراف ] :
وبذلك نكون أمام أكثر من أمر جاء بها نبي الله شعيب :﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ وهذه العبادة لتربي فيهم مهابة وتزيدهم حبا واحتراما للآمر الأعلى، وكذلك ليخافوا من جبروته سبحانه. وبعد ذلك ضرورة يكون الأمر بالوفاء بالكيل والميزان، والزجر على أن يبخسوا الناس أشياءهم، ثم النهي والتحذير من الإفساد في الأرض ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾، والإصلاح الذي يطلبه الله منا أن نستديمه أو نرقيه إنما يتأتى بإيجاد مقومات الحياة على وجه جميل.
مثال ذلك الهواء وهو العنصر الأول في الحياة المسخرة لك ؛ يصرّفه سبحانه حتى لا يفسد. والنعيم الثاني في الحياة وهو الشراب ؛ إنه سبحانه ينزل لك الماء من السماء، ثم القوت الذي يخرجه لك من الأرض. والمواشي التي تأخذ منها اللبن، والأوبار، والأصواف، والجلود، كل ذلك سخره الله لك، وهذا إصلاح في الأرض، لكن هل هذه كل المقومات الأساسية ؟ لا ؛ لأنه إن وجدت كل هذه المقومات الأساسية ثم وجد الغصب، والسرقة، والرشوة، والاختلاس، فسيفسد كل شيء، ولا يعدل كل ذلك ويقيمه ويجعله سويا إلا الدين ؛ لأنه كمنهج يمنع الإفساد في الأرض. ﴿ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا.. ﴾ ( من الآية ٨٥ سورة الأعراف ) : إذن فهذه الأشياء التي هي إيفاء الكيل والميزان يأتي الأمر بها، ثم يتبعها بما ينهى عنه وهو ألا نبخس الناس أشياءهم وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها، كل ذلك يجمع المنهج. أوامر ونواهي، وقد يبدو في ظاهر الأمر أنها مسائل تقيد حرية الإنسان، فنقول : لا تنظر إلى نفسك أيها الإنسان وأنت بمعزل عن المجتمع الواسع، فأنت لا تملك من مصالحك إلا أمرا واحدا، وهذا الأمر الذي تملكه أنت من مصالحك يكون أقل الأشياء عندك، ولكن الأمور الأخرى التي تحتاج إليها هي بيد غيرك، فإن أنت وفيت الكيل والميزان. فذلك خير لك ؛ فالذي يقيس لك القماش لا يغشك، والذي يزن لك ما ليس عندك لا يغشك، والذي يكيل لك الذي ليس عندك لا يغشك، إذن فأنت واحد منهي عن أن تفعل ذلك، وجميع الناس منهيون أن يفعلوا ذلك معك، وبذلك تكون أنت الكاسب.
وإذا جئت إلى قوله تعالى :﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾، فأنت مأمور ألا تبخس الناس أشياءهم، وكل الناس مأمورون ألا يبخسوك شيئا، وإذا أفسدت في الأرض بعد إصلاحها فالناس مأمورون أيضا ألا يفسدوا هذه الأرض وبذلك تكون احظ منهم في كل شيء. ولذلك يجب على كل مكلف حين يستقبل تكليفا قد يكون شاقا على نفسه أن يتأمل هذا التكليف وأن يقول لنفسه : إياك أن تنظر إلى مشقة التكليف على نفسك، ولكن انظر إلى ما يؤديه لنفسه : إياك أن تنظر إلى التكليف لك : لا تنظر إلى محارم غيرك، فقد أمر غيرك ألا ينظر محارمك، وفي هذا عزة لك. وإذا أمرك التكليف ألا تضع يدك في جيب غيرك وتسرق، فقد أمر كل الناس ألا يضعوا أيديهم في جيوبك ليسرقوك، وبهذا نعيش في أمان.
وإذا طلب التكليف منك وأنت غني أن تخرج زكاة مالك إياك أن تقول : مالي وتعبي وعرقي ؛ لأن مال الله، وأنت كإنسان مخلوق ليس لك إلا توجيه الحركة، والحركة تكون بطاقة مخلوقة لله، والعقل الذي خطط مخلوق لله، والانفعال الذي انفعل لك في الأرض من خلق الله، ولكن الحق احترم عملك وناتجه وفرض عليك أن تخرج منه زكاة مقدرة. فإياك أن تقول : إنه يأخذ مني، لماذا ؟ لأن عالم الأغيار باد وظاهر أمامك، وكم رأيت من قوي ضعف، ومن غني افتقر، فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تعطي الفقير وتقويه، فإن افتقرت فسيفعل لك ذلك، وفي ذلك تأمين حياتك ؛ لأنك تعيش في مجتمع فلا تأس على نفسك إن مرت بك الأغيار لأن مجتمعك الإيماني لن يتركك، أنت أو أولادك، ويقول الحق :﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( ٩ ) ﴾ [ سورة النساء ] : فإن أردت أن تطمئن على أولادك الصغار بعد موتك فانظر للأيتام في مجتمعك وكن أبا لهم، وحين تصير أنت أبا بهم، وهذا أب لهم، وذلك أب لهم، سيشعر اليتيم أنه فقد أبا واحدا، لكنه يحيا في مجتمع إيماني أوجد له من كل المؤمنين آباء، فلا يحزن، وكذلك لن تخاف أنت على أولادك إن صاروا أيتاما بعد أن غادرتهم إلى لقاء ربك ؛ لأنك رعيت اليتامى وعشت في مجتمع يرعاهم. لكنك تحزن عندما ترى يتيما مضيعا في مجتمع لا يقوم على شأنه وتقول لنفسك : أنا إن مت سيضيع أبنائي هكذا.
وهكذا تكون تكاليف الإيمان هي تأمينا للحياة. ومثال ذلك حين نقول للمرأة :
تحجبي، ولا تبدي زينتك لغير محارمك، قد تظن المرأة في ظاهر الأمر أننا ضيقنا على حريتها، لأنها تنسى أن المنهج يؤمن لها قبح الشيخوخة، لأنها حين تتزوج صغيرة، ثم يصل عمرها فوق الأربعين ويتغير شكلها من متاعب الحمل وتربية الأبناء، ثم يرى زوجها فتاة في العشرين وغير محتشمة قد تفتنه وتصرفه عن زوجته، وينظر إلى وزوجته نظر غير المكترث بها، وغير الراغب فيها. فالشرع قد أمر بالحجاب للمرأة وهي صغيرة فقد منع عنها وهي كبيرة ؛ كل ذلك إذن من تأمينات المنهج للحياة.
إذن فإيفاء الكيل، وعدم إبخاس الناس أشياءهم وعدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها خير للجميع في الدنيا، بالإضافة إلى خير الآخرة، ولذلك يذيل الحق الآية الكريمة بقوله :﴿ .. ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ٨٥ ﴾ [ سورة الأعراف ] : و " ذلكم " إشارة إلى ما سبق من الأمر بعبادة الله فلا إله غيره وإلى الآمر باستيفاء الكيل والميزان، وألا نبخس الناس أشياءهم، وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها، ووضع الحق ذلك في إطار ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ على الرغم من أن الخير سيأتي أيضا لغير المؤمن، وهكذا تكون كلمة " خير " تشمل خيرا في الدنيا، وخيرا في الآخرة للمؤمن فقط. أما الكافر فسيأخذ الخير في الدنيا فقط، ولا خير له في الآخرة، فإن كنتم مؤمنين فسيتضاعف الخير لكم ليصير خيرا دائما في الدنيا والآخرة.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( ٨٦ ) ﴾.
وقوله :﴿ ولا تقعدوا بكل صراط ﴾ أي لا تقعدوا على كل طريق، لأن من يقعد على الطريق قد يمنع من يحاول الذهاب ناحية الرسول. والشيطان قد قال :
﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾( من الآية ١٦ سورة الأعراف ) : فحين تقعدون على صراط يصير كل منكم شيطانا والعياذ بالله ؛ لأن الشيطان قال لربنا :﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾، وهنا ينهي الحق عن القعود بكل صراط ؛ لأن الصراط سبيل، وحين يجمع الحق بين السبل لينهى عنها، إنما ليذكرنا أن له صراطا مستقيما واحدا، وسبيلا واحدا يجب علينا أن نتبعه ولذلك يقول :﴿ فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ ( من الآية ١٥٣ سورة الأنعام ) : إذن فللشيطان سبل متعددة وسبل الاستقامة واحد، لأن للطرق المتعددة غوايات منوعة، فهذا طريق يغوي بالمال، وذلك طريق يغوي بالمرأة، وذاك يغوي بالجاه. إذن فالغوايات متعددة، أو أن الهداية التي يدعو إليها كل رسول شائعة في كل ما حوله ؛ فمن يأتي ناحية أي هداية يجد من يصده. ومن يطلب هداية الرسول يلقى التهديد والوعيد، والمنع عن سبيل الحق. ولماذا يفعلون ذلك ؟ تأتي الإجابة الحق :﴿ وتبغونها عوجا ﴾. إنهم يبغون ويودون شريعة الله معوجة ومائلة وزائغة عن الاستقامة، أو تصفونها بأنها غير مستقيمة لتصدوا الناس عن الدخول فيها، ولتنفروا منها، مثال ذلك السخرية من تحريم الخمر والإدعاد بأنها تعطي النفس السرور والانسجام. إن الواحد من هؤلاء إنما ينفر من شريعة الله، ويدعي أنها شريعة معوجة، فنجد من يحلل الربا ؛ لأن تحريم الربا في رأيهم السقيم المنحرف يضيق على الناس فرصهم. إنهم يبغون شريعة الله معوجة ليستفيدوا هم من اعوجاجها، وينفروا الناس منها. ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾( من الآية ٨٦ سورة الأعراف ) : نعلم أن كل ردع، وكل توجيه يهدف إلى أمرين اثنين : ترغيب وترهيب، وعلى سبيل المثال نجد المدرس يقول للتلاميذ : من يجتهد فسنعطيه جائزة، وهذا ترغيب، ويضيف الأستاذ قائلا للتلاميذ : من يقصر في دروسه فسنفصله من المدرسة ؛ وهذا ترهيب. وما دام الناس صالحين لعمل الخير ولعمل الشر بحكم الاختيار المخلوق فيهم لله فلابد من مواجهتهم بالأمرين بالترغيب في الخير والترهيب من الشر.
والحق هنا يقول في الترغيب :﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ﴾ : وكأنه يطالبهم بأن يكونوا أصحاب ذوق وأدب، فنحن نعلم أن مدين تزوج وأنجب عدد من الذرية وكانوا قلة في العدد فكثرهم حتى صاروا قبيلة، وكانوا ضعافا فقواهم، وكانوا فقراء فأغناهم، فمن صنع فيكم ولكم كل هذه المسائل ألا يصح أن تطيعوا أوامره. كان عليم أن تطيعوا أوامره. وهذا ترغيب وتحنين.
ونعلم أن شعيبا هو خامس نبي جاء بعد نوح، وهود، وصالح، ولوط. لذلك يذكرهم الحق بما حدث لمن كذبوا الأنبياء الأربعة السابقين. وقد يكون قوم نوح معذورين لأنهم كانوا البداية، فلم يسبقهم من أخذ بالعذاب لتكذيب رسلهم، ثم صارت من بعد ذلك قاعدة هي أن من يكذب الرسل يلقي العذاب، ومصداقا لقوله الحق :﴿ فكلا أخذنا بذنبه.. ٤٠ ﴾ [ سورة العنكبوت ] : فإذا كان شعيب ينذرهم بأن ينظروا كيف كانت عاقبة المفسدين ممن سبقوهم فهذا تذكير بمن أغرقهم ومن أخذتهم الصيحة، ومن كفأ وقلب ودمر ديارهم، ومن جاء لهم بمطر من سجيل، فإن لم يعرفوا واجبهم نحو الله الذي أنعم عليهم بأن كانوا قليلا فكثرهم، فعليهم أن يخافوا عاقبة المفسدين. إذن فقد جمع لهم بين الترغيب والترهيب.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( ٨٧ ) ﴾.
وهذا القول يوضح لنا أن طائفة آمنت، وطائفة لم تؤمن، ثم جاء الأمر للطائفتين، فأمر المؤمنين بالصبر تأنيس لهم، وأمر الكافرين بالصبر تهديد لهم.
وهذه دقة القرآن في الأداء وعظمة البيان والبلاغة. إذن، فكلمة : اصبروا نفعت في التعبير عن الأمر بالصبر للذين آمنوا، ونفعت في كشف المصير الذي ينتظر الذين لم يؤمنوا، فصبر الكافرين مآله وعاقبته، إما أن يخجلوا من أنفسهم فيؤمنوا، وإما أن يجدوا العذاب، وصبر المؤمنين يقودهم إلى الجنة، وأن الذي يحكم هو الله وهو خير الحاكمين ؛ لأن المحكوم عليهم بالنسبة له سواء، فلا أحد منهم له أفضلية على أحد. ولا أحد منهم قريبه، وإلا قرابة القربى والزلفى إليه، وسبحانه هو العادل بمطلق العدل، ولا يظلم أحدا.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ( ٨٨ ) ﴾.
علمنا من قبل أن الملأ هم السادة والأعيان الذين يملأون العيون هيبة، ويملأون القلوب هيبة، ويملأون الأماكن تحيزا. وقد استكبر الملأ من قوم شعيب عن الإيمان به، وطغوا وهددوه بأن يخرجوه من أرضهم، وقالوا مثلما قال من سبقوهم. فقد نادى بعض من قوم لوط بأن يخرجوا لوطا ومن آمن معه من قريتهم. قال تعالى :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( ٥٦ ) ﴾[ سورة النمل ].
وكلمة " قرية " تأخذ في حياتنا وضعا غير وضعها الحقيقي، فالقرية الآن هي الموقع الأقل من المدينة الصغيرة. لكنها كانت قديما البلد الذي توجد فيه كل متطلبات الحياة، بدليل أنهم كانوا يقولوا عن مكة " أم القرى ". وقد وضع الملأ شعيبا ومن آمن معه بين أمرين : إما أن يخرجوهم حتى لا يفسدوا من لم يؤمن فيؤمن، وإما أن يعودوا إلى الملة. وهنا " لفتة لفظية " أحب أن تنتبهوا إليها في قوله :﴿ أو لتعودن في ملتنا ﴾ لأن العود يقتضي وجودا سابقا خرج عنه، ونريد أن نعود إلى الأصل، فهل كان شعيب والذين آمنوا معه على ملتهم ثم آمنوا والمطلوب منه الآن أنهم يعودون ؟.
علينا أن ننتبه إلى أن الخطاب هنا يضم شعيبا والذين معه. وقد يصدق أمر العودة إلى الملة القديمة على الذين مع شعيب، ولكنها لا تصدق على شعيب لأنه نبي مرسل، وهنا ننتبه أيضا إلى أن الذي يتكلم هنا هم الملأ من قوم مدين، ووضعوا شعيبا والذين آمنوا معه أمام اختيارين : إما العودة إلى الملة، وإما الخروج، ونسوا أن الحق قد يشاء تقسيما آخر غير هذين القسمين. فقد يوجد ويريد سبحانه أمرا ثالثا لا يخرج فيه شعيب والذين آمنوا معه، وأيضا لا يعودون إلى ملة الكفر، كأن تأتي كارثة تمنع ذلك.
لقد عزل الملأ من قوم شعيب أنفسهم عن المقادير العليا، لأن الله قد يشاء غير هذين الأمرين، فقد يمنعكم أمر فوق طاقتكم أن تُخْرجوا شعيبا ومن آمن معه ؛ بأن يصيبكم ضعف لا تستطيعون معه أن تخرجوهم، أو أن يسلط الله عليكم أمرا يفنيكم وينجي شعيبا والذين آمنوا معه. إذن أنت أيها الإنسان الحادث العاجز، لا تفتئتْ ولا تفترِ وتختلق على القوة العليا في أنك تخيِّر بين أمرين قد يكون لله أمر ثالث لا تعلمه.
ويأتي الرد على لسان من آمنوا مع شعيب :﴿ قال أو لو كنا كارهين ﴾ ( من الآية ٨٨ سورة الأعراف ) : لقد سأل شعيب والذين معه : أيمكن أن يتم قهر أحد على أن يترك الإيمان إلى الكفر ؟ كأن الكافرين قد تناسوا أن التكليف مطمور في الاختيار، فالإنسان يختار بين سبيل الإيمان وسبيل الكفر.
ويتتابع القول من شعيب والذين آمنوا معه :﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( ٨٩ ) ﴾.
وقولهم :﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ ﴾ أي أنهم يعلمون أن العودة إلى مثل هذه الملة لون من الكذب المتعمد على الله. لأن الكذب أن تقول كلاما غير واقع، وتعلن قضية غير حقيقية إن أنت قلتها على مقتضى علمك فهذا مطلق كذب. لكن إن كنت عارفا بالحقيقة ثم قلت غيرها فهذا افتراء واختلاق وكذب. والذين آمنوا مع شعيب عليه السلام يعلمون أن الملة القديمة ملة باطلة، وهم قد شهدوا مع شعيب حلاوة الإيمان بالله ؛ لذلك رفضوا الكذب المتعمد على الله. ويقولون بعد ذلك :﴿ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ ( من الآية ٨٩ سورة الأعراف ).
قد عرفوا أن التكليف اختيار وهم قد اختاروا الإيمان، وأقروا وأكدوا إيمانهم بأنه سبحانه له طلاقة القدرة، فقالوا :﴿ إلا أن يشاء الله ﴾. فمشيئة سبحانه فوق كل مشيئة. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقَلْبٍ واحد يصرفُه حيث شاء١ )، ألم يقل سيدنا إبراهيم وهو أبو الأنبياء والرسل :﴿ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ﴾ ( من الآية ٣٥ سورة إبراهيم )، لم يقل : واجنبنا. بل قالها واضحة ودعا ربه أن يبعده وينأى به وببنيه أن يعبدوا الأصنام، لأنه يعلم طلاقة قدرته سبحانه. إذن فمن آمنوا مع شعيب احترموا طلاقة القدرة في الحق ؛ لذلك قالوا :﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ﴾( من الآية ٨٩ سورة الأعراف ) : ولكن الله لا يشاء لمعصوم أن يعود، وسبحانه يهدي من آمن بهداية الدلالة ويمده بالمزيد من هداية المعونة على الطريق المستقيم.
ويتابع أهل الإيمان مع شعيب :﴿ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( ٨٩ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) :
جاء قولهم :﴿ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ لأن خصومهم من الملأ بقوتهم وبجبروتهم قالوا لهم : أنتم بين أمرين اثنين : إما أن تخرجوا من القرية، وإما أن تعودوا في ملتنا. وأعلن المؤمنون برسولهم شعيب : أن العود في الملة لا يكون إلا بالاختيار وقد اخترنا ألا نعود. إذن فليس أمامهم إلا الإخراج بالإجبار ؛ لذلك توكل المؤمنون على الله ليتولاهم، ويمنع عنهم تسلط هؤلاء الكافرين :﴿ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( ٨٩ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : وساعة نسمع كلمة " افتح " أو " فتَح " أو " فَتْح " نفهم أن هناك شيئا مغلقا أو مشكلا، فإن كان من المُحسّات يكون الشيء مغلقا والفتح يكون بإزالة الأغلاق وهي الأقفال، وإن كان في المعنويات فيكون الفتح هو إزالة الإشكال، والفتح الحسي له نظير في القرآن، وحين نقرأ سورة يوسف نجد قوله الحق :﴿ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا.. ( ٦٥ ) ﴾ : وكلمة ﴿ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ ﴾ تعني أن المتاع الذي معهم كان مغلقا واحتاج إلى فتح حسي ليجدوا بضاعتهم كما هي. وأيضا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا.. ( ٧٣ ) ﴾[ سورة الزمر ] : ومادام هناك أبواب تفتح فهذا فتح حسي. وقد يكون الفتح فتح علم مثلما نقول : ربنا فتح علينا بالإيمان والعلم، ويقول الحق :﴿ أتُحدِّثُونهُمْ بِما فتح اللّهُ عليْكُمْ لِيُحاجُّوكُمْ بِهِ عِنْد ربِّكُمْ.. ( ٧٦ ) ﴾ [ سورة البقرة ] : فمادام ربنا قد علمهم من الكتاب الكثير فهذا فتح علمي. ويكون الفتح بسوق الخير والإمداد به. والمثال على ذلك قوله الحق :﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا.. ( ٢ ) ﴾ [ سورة فاطر ].
كذلك قوله سبحانه :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.. ( ٩٦ ) ﴾( سورة الأعراف ) : والبركات من السماء كالمطر وهو يأتي من أعلى، وهو سبب فيما يأتي من الأسفل أي من الأرض. والفتح أيضا بمعنى إزالة إشكال في قضية بين خصمين، ففي اليمن حتى الآن، يسمون القاضي الذي في قضايا الناس " الفاتح " لأنه يزيل الإشكاليات بين الناس. وقد يكون " الفتح " بمعنى " النصر " و مثل قوله الحق :
﴿ وكانُوا مِنْ قبْلُ يسْتفْتِحُون على الّذِين كفرُوا.. ( ٨٩ ) ﴾ [ سورة البقرة ].
لقد كانوا ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لينتصروا به على الذين كفروا، ومن الفتح أيضا الفصل في الأمر من قوله الحق هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ.. ( ٨٩ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : وهذا القول هو دعاء للحق : احكم يا رب بيننا وبين قومنا بالحق بنصر الإيمان وهزيمة الكفر، وأنت خير الفاتحين فليس لك هوى ضد أحد أو مع أحد من مخلوقاتك.
١ رواه أحمد، ورواه مسلم عن ابن عمر..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ( ٩٠ ) ﴾.
وهنا يقول الملأ من قوم مدين لمن آمنوا ولمن كان لديهم الاستعداد والتهيؤ للإيمان محذرين لهم من أتباع شعيب حتى لا يظل الملأ والكبراء وحدهم في الضلال : وساعة نرى " اللام " في " لئن " نعلم أن هنا قسما دلت عليه هذه " اللام ". وهنا أيضا " إن " الشرطية، والقسم يحتاج إلى جواب، والشرط يحتاج كذلك إلى جواب، فإذا اجتمع شرط وقسم اكتفينا بالإتيان بجواب المتقدم والسابق منهما، مثل قولنا : " والله إن فعلت كذا ليكونن كذا " :﴿ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾. وماذا سيخسرون ؟ سيخسرون لأنهم كانوا سيأخذون أكثر من حقهم حين يطففون الكيل ويخسرون الميزان، والقوي يأخذ من الضعيف ؛ فإذا ما ارتبطوا بالمنهج واتبعوه خسروا ما كانوا يأخذونه من تطفيف الكيل وبخس وخسران الميزان بمنهج. وهذه هي الخسارة في نظر المنحرف.
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ٩١ ) ﴾ :
والرجفة هي الهزة العنيفة التي ترج الإنسان رجّا غير اختياري، وصاروا بها جاثمين أي قاعدين على ركبهم ؛ ولا حراك بهم ؛ ميتين، وفي هيئة الذلة. وهذا يدل على أن كلا منهم ساعة أُخِذ تذكر كل ما فعله من كفر وعصيان، وأراد استدراك ما فاته من مخالفاته للرسول، وأخذ يوبخ نفسه ويندم على ما فعل، ولم تأخذه الأبهة والاستكبار، لأن هناك لحظة تمر على الإنسان لا يقدر فيها أن يكذب على نفسه، ولذلك نجد أن من ظلم وطغى وأخذ حقوق الغير ثم يأتيه الموت يحاول أن ينادي على كل من بغى عليه أو ظلمه ليعطيه حقه لكنه لا يجده. ولذلك يسمون تلك اللحظة أنها التي يؤمن فيها الفاجر، لكن هل ينفع إيمانه ؟ طبعا لا. في هذه الحالة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
ويتابع سبحانه وصف ما حدث لهم إثر الرجفة :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ( ٩٢ ) ﴾.
وغنى بالمكان : أقام به ؛ فحين صاروا جاثمين وخلت منهم الديار، كأنهم لم تكن لهم إقامة إذ استؤصلوا وأهلكوا إهلاكا كاملا، وإذا كان هؤلاء المكذبون قدقالوا :﴿ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ فيكون مآلهم هو ما ذكره ربنا بقوله :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ﴾
ويتابع قوله الحق عن سيدنا شعيب :﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ( ٩٣ ) ﴾.
و " تولى عنهم " أي تركهم وسار بعيدا عنهم، وحدثهم متخيلا إياهم ﴿ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ﴾، فكأن المنظر العاطفي الإنساني حين رأى كيف أصبحوا، وتعطف عليهم وأسى من أجلهم، لكن يرد هذا التعاطف متسائلا متعجبا ﴿ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ ؟ إنهم نوع الناس لا يحزن عليهم المؤمن. فما بالنا بنبي ورسول ؟ إنه يحدث نفسه وكأنه يقول : ما قصرت في مهمتي، بل أبلغتكم رسالاتي التي تلقيتها من الله، والرسالات إذا جمعت فالمقصود منها رسالته ورسالة الرسل السابقين في الأمور التي لن يحدث فيها نسخ ولا تغيير، أو رسالاته أي في كل أمر بلغ منه ؛ لأنه كان كلما نزل عليه حكم يبلغه لهم. أو أن لكل خير ورسالة، ولكل شر رسالة، وقد أبلغهم كل ما وصله من الله، ولم يقتصر على البلاغ بل أضاف عليه النصح، والنصح غير البلاغ، فالبلاغ أن تقول ما وصلك وينتهي الأمر، و " النصح " هو الإلحاح عليهم في أن يثوبوا إلى رشدهم وأن يتبعوا نهج الله.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ( ٩٤ ) ﴾.
وعرفنا من قبل أن القرية هي البلد الجامع لكل مصالح سكانها في دنياهم.
والمقصود هنا أن القرية التي يرسل إليها الحق رسولا ثم تكذب فسبحانه يأخذ أهلها بالبأساء والضراء. والبأساء هي المصيبة تصيب الإنسان في أمر خارج عن ذاته ؛ من مال يضيع، أو تجارة تبور وتهلك، أو بيت يهدم، والضراء هي المصيبة التي تصيب الإنسان في ذاته ونفسه كالمرض، ويصيبهم الحق بالبأساء والضراء لأنهم نسوا الله في الرخاء فأصابهم بالبأساء والضراء لعلهم يرجعون إلى ربهم ويتعرفون إليه، ليكون معهم في السراء والضراء. والحق يقول :﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ.. ( ١٢ ) ﴾ [ سورة يونس ]
وكان من الواجب على الإنسان أنه ساعة ما تمسه الضراء أن يتجه إلى خالقه، ولقد جعل الله الضراء وسيلة تنبيه يتذكر بها الإنسان أن له ربا، وفي هذه اللحظة يجيب الحق الإنسان المضطر، ويغيثه مصداقا لقوله الحق :﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ( ٦٢ ) ﴾ [ سورة النمل ] : وإذا صنع الله مع المضطر هذا فقد يثوب إلى رشده ويقول : إن الإله الذي لم أجد لي مفزعا إلا هو، لا يصح أن أنساه.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يذكرنا بطلاقة قدرته حين يقول :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا.. ٤٣ ﴾ [ سورة الأنعام ] : وكأنه سبحانه يطلب منا حين تجيء البأساء أن نفزع إليه ولا نعتقد أننا نعيش في الحياة وحدنا، بل نعيش في الحياة بالأسباب المخلوقة لله وبالمسبب وهو الله، فالذي عزت عليه الأسباب وأتعبته يروح للمسبب، ولذلك يأخذ سبحانه أية قرية لا تصدق الرسل بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون وذلك رحمة بهم.
ويقول :﴿ ولكن قست قلوبهم.. ٤٣ ﴾ [ سورة الأنعام ].
فهل يتركهم الله في السراء والضراء دائما ؟ لا، فهو سبحانه يجيئهم ويبتليهم بالبأساء والضراء ليلفتهم إليه، فإذا لم يلتفتوا إلى الله، فسبحانه يبدل مكان السيئة الحسنة، لذلك يقول :﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٩٥ ) ﴾.
ويعطي سبحانه بعد ذلك لهم الرزق، والعافية، والغنى ؛ لأن الحق إذا أراد أن يأخذ جبارا أخذ عزيز مقتدر فهو يمهله، ويرخي له العِنان ليتجبر كفرعون من أجل أن يأخذه بغتة، وكأنه يسقط من أعلى، فيعليه ويعليه من أجل أن ينزل به كما يقولون على جذر رقبته :﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا ﴾.
﴿ عَفَوْا ﴾ أي كثروا عددا ومالا وقوة أي ما أخذهم سبحانه بالبأساء والضراء إلا وكان القصد منها أن يلفتهم إليه، فلم يلتفتوا، فيمدهم ويعطي لهم العافية وما يسرّهم، ثم يصيبهم بالعذاب بغتة. ﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٩٥ ) ﴾( سورة الأعراف ).
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم على خلافة الإنسان في الأرض، وأنه أمده بكل ما تقوم به حياته، وأمده بالقيم بواسطة مناهج السماء، وأنزل المنهج مبينا ما أحل، وما حرم بعد أن كانوا يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فبين لهم الحق أن الذي خلق الخلق عالم بما يصلحهم فأحله، وعالم بما يفسدهم فحرّمه، فليس لكم أن تقترحوا على الله حلالا، ولا حراما، ولكن بعض المشككين في منهج الله قالوا وما زالوا يقولون : إذا كان الله قد أحل شيئا وحرم شيئا فلماذا خلق ما حرم ؟ ونقول : لقد خلق سبحانه كل شيء لحكمة قد تكون لغير الطعام والشراب والكسوة، فبعض الأشياء يكون مخلوقا لمهمة وإن لم تكن مباشرة لك ؛ فالبترول مثلا مخلوق لمهمة أن يوجد طاقة، لذلك لا نشربه.
والخنزير مخلوق لحكمة لا نعلمها نحن، وإنما يعلمها من خلق، لأنه من الجائز أن يكون أداة لالتقاط الميكروبات التي تنشأ من عفن الأشياء التي يستعملها الناس في حياتهم، إذن فكل شيء مخلوق لحكمة، فلا تخرج أنت حكمة الأشياء من غير مراد خالقها ؛ لأن صانع الصنعة هو الذي يحدد الشيء الذي يوجد وينشئ القوة لها. ونحن نعلم مثلا أن أنواع الوقود كثيرة، فهناك " البنزين " النقي جدا ويرقمونه برقم ١ وهو مخصص للطائرة، ووقود السيارة وهو " البنزين " رقم ٢. فإذا استخدمنا وقود ماكينة وآلة بدل ماكينة أخرى أفسدناها. كذلك خلق الله الإنسان وسخر له كل المخلوقات وأوضح : هذا يصلح لك مباشرة، وهذا مخلوق ليخدمك خدمة غير مباشرة، وهذا مخلوق ليخدمك خدمة غير مباشرة فدعه في مكانه.
وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى مواقف الجنة، ومواقف النار، ومواقف أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم ؛ وبعد أن بين المنهج كله أراد أن يبين أن ذلك ليس نظريا، وإنما هو واقع كوني أيضا. ففرق بين الشيء يقال نظرا، والشيء يقع واقعا، فقص علينا قصص الأنبياء حين أرسلهم إلى أقوامهم، فمن كذب بالرسل أخذه الله أخذ عزيز مقتدر بواقع يشهده الجميع ؛ فذكر نوحا مع قومه، وذكر عادا وأخاهم هودا، وذكر ثمود وأخاهم صالحا، ومدين وأخاهم شعيبا، وقوم لوط وسيدنا لوط. وبين ما حدث للمؤمنين بالنجاة، وما حدث للكافرين بالعطب والإذلال، ويوضح الحق سبحانه وتعالى : أنني آخذ الناس بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، لأن الإنسان مخلوق أفاض الله عليه من صفات جلاله، ومن صفات جماله الشيء الكثير، فالله قوي، وأعطى الإنسان من قوته. والله غني وأعطى الإنسان من غناه، والله حكيم وأعطى الإنسان من حكمته، والله عليم وأعطى الإنسان من علمه.
وإذا أردت أن تستوعب ما يقربك إلى كمال العلم في الله، فانظر ما علمه لكل خلق الله. ومع ذلك فعلمهم ناقص. ويردون إلى العلم الذاتي في الحق سبحانه وتعالى، وربما غر الإنسان بالأسباب وهي تستجيب له، فهو يحرث ويبذر ويروي، وإذا بالأرض تعطيه أكلها. وهو يصنع الشيء فيستجيب له، كل ذلك قد يغريه بأن الأشياء استجابت لذاتيته فيذكره الله : أن اذكر من ذللها لك.
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى ٦ أن رآه استغنى٧ ﴾ [ سورة العلق ] : وساعة ما يجد الإنسان أن كل الأسباب مواتية له فعليه أن يذكر الله. إن الإنسان بمجرد إرادة أن يقوم من مكانه فهو يقوم. وبمجرد إرادة أن يصفع أحدا فهو يصفعه ؛ لأن الأبعاض التي في الإنسان خاضعة لمراده، فإذا كانت أبعاضك خاضعة لمراداتك أنت، وأنت مخلوق، فكيف لا يكون الكون كله مرادا للحق بالإرادة ؟ فإذا استغنى الإنسان بالأسباب، فالحق يلفته إليه. فالقادر الذي كان بفتوته يفعل. يسلب الله منه القدرة بالمرض ؛ فيمد يده ليساعده إنسان على القيام والذي اعتز بشيء يذله الله بأشياء. لماذا ؟ حتى يلفته إلى المسبِّب، فلا يُفتن بالأسباب.
ويدع لنا الحق سبحانه وتعالى في كونه عجائب، ونجد العالم وقد تقدم الآن تقدما فضائيا واسعا، واستطاع الإنسان أن يكتشف من أسرار كون الله ما شاء، ولكن الحق يصنع لهم أحيانا أشياء تدلهم على أنهم لا يزالون عاجزين. فبعد أن تكتمل لهم صناعة الآلات المتقدمة يكتشفون خطأ واحدا يفسد الآلة ويحطمها، وتهب زوبعة أو إعصار يدمر كل شيء، أو يشتعل حريق هائل. فهل يريد الله بكونه فسادا وقد خلفه بالصلاح ؟ لا، إنه يريد أن يلفتنا إلى ألا نغتر بما أوتينا من أسباب. فالذين عملوا " الرادار " لكي يبين لهم الحدث قبل أن يقع، يفاجئهم ربنا أحيانا بأشياء تعمل عمل " الرادار "، فيعرفون أنهم ما زالوا ناقصي علم.
إذن فالأخذ بالبأساء، والأخذ بالضراء، سنة كونية ليظل الإنسان فاهما وعالما أنه خليفة في الأرض لله. وفساد الإنسان أن يعلم أنه أصيل في الكون، فلو كنت أصيلا في الكون فحافظ على نفسك في الكون ولا تفارقه بالموت. وإن كنت أصيلا في الكون فذلل الكون لمراداتك. ولن تستطيع ؛ لأن هناك طبائع في الكون تتمرد عليك، ولا تقدر عليها أبدا.
وترى أكثر من مفاعل ذري ينفجر بعد إحكامه وضبطه لماذا ؟ ! ليدل على طلاقة القدرة وأن يد الله فوق أيديهم، إذن فأخذ الناس بالبأساء والضراء، وبالشيء الذي نقول إنه شر إنما هو طلب اعتدال للإنسان الخليفة، حتى إذا اغتر يرده الله سبحانه وتعالى من الأسباب إلى المسبِّب. وحين يأخذ الله قوما بالبأساء التي تصيب الإنسان في غير ذاته : مال يضيع، ولد يفقد، بيت يهدم، أو يأخذهم بالضراء وهي الأشياء التي تصيب الإنسان في ذاته، فذلك ليسلب منهم أبهة الكبرياء، فلا يجدون ملجأ إلا أن يخضعوا لرب الأرض والسماء، ولكي يتضرعوا إلى الله، ومعنى التضرع كما عرفنا إظهار الذلة لله. وإذا لم يُجْدِ وينفع فيهم هذا، وقالوا : لا، إن البأساء والضراء مجرد سنن كونية، وقد تأتي للناس في أي زمان أو مكان. نقول لهم : صحيح البأساء والضراء سنن كونية من مكوّن أعلى من الكون، فإذا لم يرتدعوا بالبأساء والضراء ويرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه يبتليهم الله بالنعماء، فهو القائل :﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( ٤٤ ) ﴾ [ سورة الأنعام ] : فالمجتمعات حين تبتعد عن منهج السماء نجد الحق ينتقم منهم انتقاما يناسب جرمهم، ولو أنه أخذهم على حالهم المتواضع فلن تكون الضربة قوية ؛ لذلك يوسع عليهم في كل شيء حتى إذا ما سلب منهم وأخذهم بغتة وفجأة تكون الضربة قوية قاصمة ويصيبهم اليأس والحسرة.
وقديما قلنا تعبيرا ريفيا هو : إن الإنسان إن أراد أن يوقع بآخر لا يوقعه من على حصيرة، إنما يوقعه من مكان عال. وربنا يعطي للمنكرين الكثير ويمدهم في طغيانهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقد دلت وقائع الحياة على هذا، ورأينا أكثر من ظالم وجبار في الأرض والحق يملي له في العلو ويمد له في هذه الأسباب ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ولو بواسطة حارسه.
﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٩٥ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
وقد يضبط الإنسان أشياء تعلمه بواقع الشر في مستقبله. مثلها مثل " الرادار " الذي يكشف لنا أي خطر في الأفق قبل أن يأتي، وحين يقول سبحانه :﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أي ليس عندهم حساب ولا مقاييس تدلهم على أن شرا يحيق بهم.
وأنت لو نظرت إلى هذه المسألة لوجدت الإنسان بعقله وفكره الذي لم يسلك فيه طريق الله بل سلك فيه السبيل غير الممنهج بمنهج الله، وبينما لا يلتفت الإنسان إلى مجيء الكارثة، ويتساءل : لماذا تجري هذه الحيوانات ؟ ! إنه في هذه الحالة يكون أقل من الحيوانات، لأن الحيوان من واقع الأحداث في بلد تحدث فيه الزلازل يكون أول خارج من منطقة الزلزال، إن الله قد سلبه هذه المعرفة حتى نتمكن منه الضربة، إننا نجد الحمار يجري ليغادر مكان الزلزال، بينما يظل الإنسان واقفا حتى يحيق ويحيط به الخطر، فأي إحساس وأي استشعار عند الحيوان ؟ إنه استشعار غريزي خلقه ربه فيه ؛ لأنه سلب منه التعقل فأعطاه حكمة الغرائز.
ومادام الحق قد نبه الإنسان بالبأساء فلم يلتفت، وبالضراء فلم ينتبه إلى المنهج ؛ لذلك يأتي له الحق ويمد له الطغيان.
لكن أهل الإيمان أمرهم يختلف، فيقول سبحانه :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ٩٦ ) ﴾.
أي أنهم لو آمنوا بالموجود الأعلى، واتقوا بإتباع منهجه أمرا ونهيا تسلم آلاتهم، لأن الصانع من البشر حين يصنع آلة من الآلات، يحدد ويبيّن الغاية من الآلة قبل أن يبتكرها، ويصمم لها أسلوب استخدام معين، وقانون صيانة خاصا لتؤدي مهمتها، فما بالنا بمن خلق الإنسان، إذن فالبشر إذا تركوا رب الإنسان يضع منهج صيانة الإنسان لعاش هذا الإنسان في كل خير، وسبحانه وتعالى أوضح أنهم إن اتقوا، تأت لهم بركات من السماء والأرض، فإن أردتها بركات مادية تجدها في المطر الذي ينزل من أعلى، وبركات من الأرض مثل النبات، وكذلك كنوزها التي تستنبط منها الكماليات المرادة في الحياة.
وما معنى البركة ؟. البركة هي أن يعطي الموجودُ فوق ما يتطلبه حجمه ؛ كواحد مرتبه خمسون جنيها ونجده يعيش هو وأولاده في رضا وسعادة ؛ ودون ضيق، فنتساءل : كيف يعيش ؟ ويجيبك : إنها البركة. وللبركة تفسير كوني لأن الناس دائما كما قلنا سابقا ينظرون في وارداتهم إلى رزق الإيجاب، ويغفلون رزق السلب. رزق الإيجاب أن يجعل سبحانه دخلك آلاف الجنيهات ولكنك قد تحتاج إلى أضعافهم، ورزق السلب يجعل دخلك مائة جنيه ويسلب عنك مصارف كثيرة، كأن يمنحك العافية فلا تحتاج إلى أجر طبيب أو نفقة علاج.
إذن فقوله :﴿ بركات من السماء والأرض ﴾ أي أن يعطي الحق سبحانه وتعالى من القليل الكثير في الرزق الحلال، ويمحق الكثير الذي جاء من الحرام كالربا، ولذاك سمي المال الذي نخرجه عن المال الزائد عن الحاجة سماه زكاة مع أن الزكاة في ظاهرها نقص، فحين تملك مائة جنيه وتخرج منها جنيهين ونصف الجنيه يكون قد نقص مالك في الظاهر. وإن أقرضت أحدت بالربا مائة جنيه فأنت تأخذ منه مائة وعشرة، لكن الحق سمى النقص في الأول نماء وزكاة، وسمى الزيادة في الثانية محقا وسحتا، وسبحانه قابض باسط. ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ٩٦ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : إذن فلو أخذ الإنسان قانون صيانته من خالقه لاستقامت له كل الأمور، لكن الإنسان قد لا يفعل ذلك. ويقول الحق :﴿ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾.
وهكذا نعلم أن الأخذ ليس عملية جبروت من الخالق، وإنما هي عدالة منه سبحانه ؛ لأن الحق لو لم يؤاخذ المفسدين، فماذا يقول غير المفسدين ؟. سيقول الواحد منهم : ما دمنا قد استوينا والمفسدين، وحالة المفسدين تسير على ما يرام، إذن فلأفسد أنا أيضا. وذلك يغري غير المفسد بأن يفسد، ويعطي لنفسه راحتها وشهواتها، لكن حين يأخذ الله المفسدين بما كانوا يكسبون، يعلم غير المفسد أن سوء المصير للمفسد واضح، فيحفظ نفسه من الزلل.
كان القياس أنه يقول سبحانه : بما كانوا يكتسبون، لأن مسألة الحرام تتطلب انفعالات شتى، وضربنا المثل من قبل بأن إنسانا يجلس مع زوجته، وينظر إلى جمالها ويملأ عينيه منها، لكن إن جلس مع أجنبية وأراد أن يغازلها ليتمتع بحسنها، فهو يناور ويتحايل، وتتضارب ملكاته بين انفعالات شتى، وهو يختلف في ذلك عن صاحب الحلال الذي تتناسق ملكاته وهو يستمتع بما أحل له الله، ولكن هؤلاء المفسدون تدربوا على الفساد فصار دربة تقرب من الملكة فقال فيهم الحق : إنهم يكسبون الفساد، ولا يجدون في ارتكابه عنتا.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ( ٩٧ ). أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( ٩٨ ) ﴾.
ونلحظ وجود " همزة استفهام " و " فاء تعقيب " في قوله الحق :﴿ أفمن ﴾ وهذا يعني أن هناك معطوفا ومعطوفا عليه، ثم دخل عليهما الاستفهام، أي أنهم فعلوا وصنعوا من الكفر والعصيان فأخذناهم بغتة، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا وعذابنا بياتا أو ضحى كما صنع بمن كان قبلهم من الأمم السابقة ؟ هم إذن لم يتذكروا ما حدث للأمم السابقة من العذاب والدمار.
ويوضح الحق أن الذين كذبوا من أهل القرى، هل استطاعوا تأمين أنفسهم فلا يأتيهم العذاب بغتة كما أتى قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب ؟ والبأس هو الشدة التي يؤاخذ بها الحق سبحانه الأمم حين يعزفون عن منهجه. وما الذي جعلهم يأمنون على أنفسهم أن تنزل لهم أهوال كالتي نزلت بمن سبقهم من الأمم.
وحين يتكلم الحق عن الأحداث فهو يتكلم عما تتطلبه الأحداث من زمان ومكان ؛ لأم كل حدث لابد له من زمن ولابد له من مكان، ولا يوجد حدث بلا زمان ولا مكان، والمكان هنا هو القرى التي يعيش فيها أهلها، والزمان هو ما سوف يأتي فيه البأس، وهو قد يأتي لهم بياتا وهم نائمون، أو يأتي لهم ضحى وهم يلعبون، وهذه تعابير إلهية، والإنسان إذا ما كان في مواجهة الشمس فالدنيا تكون بالنسبة له نهارا. والمقابل له يكون الليل. وقد يجيء البأس على أهل قرية نهارا، أو ليلا في أي وقت من دورة الزمن، ونعلم أن كل لحظة من اللحظات للشمس تكون لمكان ما في الأرض شروقا، وتكون لمكان آخر غروبا، وفي كل لحظة من اللحظات يبدأ يوم ويبدأ ليل، إذن أنت لا تأمن يا صاحب النهار أن يأتي البأس ليلا أو نهارا، وأنت يا صاحب الليل لا تأمن أن يكون البأس نهارا أو ليلا.
﴿ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( ٩٨ ) ﴾.
وأهل القرى هم الذين قال الله فيهم :
﴿ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ ( من الآية ٩٦ سورةلأعراف ) : وماداموا قد كذبوا فمعنى ذلك أنهم لم يؤمنوا برسول مبلغ عن الله، وتبعا لذلك لم يؤمنوا بمنهج يحدد قانون حركتهم ب " افعل " و " لا تفعل ".
إذن فنهارهم هو حركة غير مجدية، وغير نافعة، بل هي لعب في الحياة الدنيا، وليلهم نوم وفقد للحركة، أو عبث ومجون وانحراف، وكل من يسير على غير منهج الله يقضي ليله نائما أو لاهيا أو عاصيا، ونهاره لاعبا ؛ لأن عمله مهما عظُم، ليس له مقابل في الآخرة من الجزاء الحسن.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( ٩٩ ) ﴾.
و " الأمن " هو الاطمئنان إلى قضية لا تثير مخاوف ولا متاعب، ويقال : فلان " آمن " أي لا يوجد ما يكدر حياته. والحق يقول :﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ﴾ ونحن نسمع بعض الكلمات حين ينسبها الله لنفسه نستعظمها، ونقول : وهل يمكر ربنا ؟ لأننا ننظر إلى المكر كعملية لا تليق.. وهنا نقول : انتبه إلى أن القرآن قد قال :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ﴾( من الآية ٤٣ سورة فاطر ) : إذن ففيه مكر خير،
ولذلك قال الحق :﴿ والله خير الماكرين ﴾ ( من الآية ٥٤سورة آل عمران ) : والمكر أصله الالتفاف. وحين نذهب إلى حديقة أو غابة نجد الشجر ملتف الأغصان وكأنه مجدول بحيث لا تستطيع أن تنسب ورقة في أعلى إلى غصن معين ؛ لأن الأغصان ملفوفة بعضها على بعض، وكذلك نرى هذا الالتفاف في النباتات المتسلقة ونجد أغصانها مجدولة كالحبل.
إذن فالمكر مؤداه أن تلف المسائل، فلا تجعلها واضحة. ولكي تتمكن من خصمك فأنت تبيت له أمرا لا يفطن إليه، وإذا كان الإنسان من البشر حين يبيت لأخيه شرا، ويفتنه فتنا يُعمي عليه وجه الحق وليس عند الإنسان العلم الواسع القوي الذي يمكر به على كل من أمامه من خصوم لأنهم سيمكرون له أيضا.
وإذا كان هناك مكر وتبييت لا يكتشفه أحد فهو مكر وتبييت الله لأهل الشر، وهذا هو مكر الخير ؛ لأن الله يحمي الوجود من الشر وأهله بإهلاكهم. ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( ٩٩ ) ﴾( سورة الأعراف ) : وهناك من يسأل : هل أمن الأنبياء مكر الله ؟ نقول نعم. لقد أمنوا مكر الله باصطفائهم للرسالة، وهناك من يسأل : كيف إذن لا يأمر مكر الله إلا القوم الخاسرون ؟ !
نقول : لقد جاء في منهج الرسل جميعا أن الذي يأمن مكر الله هو الخاسر ؛ لأن الله هو القادر، وهو الذي أنزل المنهج ليختار الإنسان به كسب الدنيا والآخرة إن عمل به، وإن لم يعمل به يخسر طمأنينة الإيمان في الدنيا وإن كسب فيها مالا أو جاها أو علما، ويخسر الآخرة أيضا.
ويتابع سبحانه :﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ( ١٠٠ ) ﴾.
و " يهد " أي يبين للذين يرثون الأرض طريق الخير، ومعنى ﴿ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ﴾ أن الأرض كانت مملوكة لسواهم، وهم جاءوا عقبهم. وحين يستقرئ الإنسان الوجود الحضاري في الكون يجد أن كل حضارة جاءت على أنقاض حضارة، وما في يدك وملكك جاء على أنقاض ملك غيرك والذي يأتي على أنقاض الغير يسمى إرثا، ومادمتم قد رأيتم أنكم ورثتم عن غيركم كان يجب أن يظل بالكم أن غيركم سيرثكم.
إذن فالمسألة دُوَلٌ، ويجب ألا يغتر الإنسان بموقع أو منصب، ونحن نرى في حياتنا من يحتل منصبا كبيرا، ثم يُقال ويعزل عن منصبه، أو يحال إلى التقاعد ويأتي آخر من بعده. ولذلك يقال : لو دامت لغيرك ما وصلت إليك. فإن كنت صاحب مكانة وقد أحسنت الدخول إلى وضعك وإلى جاهك، وإلى منصبك ؛ فيجب أن تفطن وتتذكر الخروج قبل الدخول إلى هذا المنصب حتى لا يعز عليك فراقه يوما. واحذر أن تحسن الدخول في أمر قبل أن تحاول أن تحسن الخروج منه. واستمع إلى قول الشاعر في هذا المعنى :
إن الأمير هو الذي يمسي أميرا يوم عزله
إن زال سلطان الإمارة لم يزل سلطان فضله
وحين يقول الحق :﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ ﴾ : نلحظ أنه سبحانه لم يجعل المهديين هنا على وضع المفعول، فلم يقل : أو لم يهد الذين، بل قال : " يهد للذين "، فما الحكمة في ذلك ؟. نعرف أن " الهداية " هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية، وقد تعود فائدته عليك، أي أنك قد هَدَيْت غيرك لصالحك. وقد تكون الهداية وهي الدلالة على فعل الخير لأمر يعود على الذي هَدَى وعلى المَهْديّ معا، لكن إذا كانت الهداية لا تعود إلا لك أنت، ولا تعود على من هداك، أتشك في هدايته لك ؟ لا، إن من حقك أن تشك في الهداية إذا كان هذا الأمر يعود على من هَدى، أو يعود أمرها على الاثنين ؛ ففي ذلك شبهة لمصلحة، لكن إذا كان الأمر لا يعود على من يَهْدي ويعود كله لمن يُهْدى فليس في ذلك أدنى شك.
ولذلك يقول الحق في حديثه القدسي :".. يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ؛ يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المَخْيط إذا أُدْخِل البحر " ١.
إذن فحين يهديكم الحق إلى الصراط المستقيم فما الذي يعود عليه سبحانه من صفات الكمال بهذا العمل ؟ لقد خلقكم بصفات الكمال فيه، فلن ينشئ خلقه لكم صفة من صفات الكمال زائدة على ما هو له، وهكذا نرى أن كل هداية راجعة إلى المَهْدِيّ. وبذلك يتأكد قوله :﴿ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ ﴾ ما هو مصلحتهم.
﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ( ١٠٠ ) ﴾( سورة الأعراف ) : والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن المشيئة يقول :﴿ لو نشاء ﴾ ويحدد أسباب المشيئة وهو قوله :
﴿ أصبناهم بذنوبهم ﴾، وهكذا نعلم أن المشيئة ليست مشيئة ربنا فقط لا، بل هي أيضا مشيئة العباد الذين ميزهم بالاختيار، وسبحانه يقول :﴿ أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ﴾( من الآية ٣١ سورة الرعد ).
وما الذي يمنعه سبحانه أن يشاء هداية الناس جميعا ؟. لا أحد يمنع الخالق، ولكنه سبحانه خلق خلقا مهديين بطبيعتهم، لا قدرة لهم على المعصية وهو الملائكة، وجعل سائر أجناس الأرض مسخرة مسبحة، وذلك يثبت صفة القدرة، فلا يستطيع أحد أن يخرج عن مراد الله، ولكن هذا لا يعطي صفة المحبوبية للمشرع الأعلى، ثم إنه سبحانه خلق خلقا لهم اختيار في أن يطيعوا وأن يعصوا.
فالمخلوق الذي اختصه سبحانه بقدرة الاختيار في أن يؤمن وأن يكفر، وأن يطيع وأن يعصى، ثم آمن يكون إيمانه دليلا على إثبات صفات المحبوبية للإله.
إذن المقهورون على الفعل أثبتوا القدرة، والمختارون الفعل أثبتوا المحبوبية للمشروع الأعلى، ويتابع سبحانه في الآية نفسها :﴿ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾( من الآية ١٠٠ سورة الأعراف ) : ونلحظ أن الحق لم يقل أن لو نشاء أصبناهم لذنوبهم وذلك رحمة منه، بل جعل العقاب بالذنوب التي يختارونها هم، وكذلك جعل الطبع على القلوب نتيجة للاختيار. وسبق أن تكلمنا في أول سورة البقرة. عن كلمة " الطبع " ؛ وهو الختم :﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ ( من الآية ٧ سورة البقرة ) : لأن القلوب وعاء اليقين الإيماني ؛ فحين يملأ إنسان وعاء اليقين بالكفر، فهذا يعني أنه عشق الكفر وجعله عقيدة عنده ؛ لذلك يساعده الله على مراده، وكأنه يقول له : أنا سأكون على مرادك، ولذلك أطبع على قلبك فلا يخرج ما فيه من الكفر، ولا يدخل فيه ما خرج منه من الإيمان الفطري الذي خلق الله الناس عليه.
لأنك أنت قد سَبَّقت ووضعت في قلبك قضية يقينية على غير إيمان ؛ لأن أصول الإيمان أن تُخْرج ما في قلبك من أي اعتقاد، ثم تستقبل الإيمان بالله، ولكنك تستقبل الكفر وترجحه على الإيمان.
إن الله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه : قلب يؤمن، وقلب لا يؤمن، بل جعل للإنسان قلبا واحدا، والقلب الواحد حيز، والحيز كما قلنا لا تداخل للمحيَّز فيه ؛ فحين نأتي بزجاجة فارغة ونقول : إنها " فارغة " فالذي يدل على كذب هذه الكلمة أننا حين نضع فيها المياه تخرج منها فقاقيع الهواء، وخروج فقاقيع الهواء هو الذي يسمح بدخول المياه فيها ؛ لأن الزجاجة ليست فارغة، بل يخيل لنا ذلك ؛ لأن الهواء غير مرئي لنا. ولو كانت الزجاجة مفرغة من الهواء دون إعداد دقيق في صناعتها لتلك المهمة لكان من الحتمي أن تنكسر.
والقلب كذلك له حيز إن دخل فيه الإيمان بالله لا يسع الكفر، وإن دخل فيه الكفر والعياذ بالله لا يسع الإيمان، والعاقل هو من يطرح القضيتين خارج القلب، ثم يدرس هذه ويدرس تلك، وما يراه مفيدا لحياته ولآخرته يسمح له بالدخول. أما أن تناقش قضية الإيمان بيقين قلبي بالكفر فهذه عملية لا تؤدي إلى نتيجة.
﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ( ١٠٠ ) ﴾( سورة الأعراف ) : أي أو لم يتبيّن للذين يُستخلفون في الأرض من بعد إهلاك الذين سبقوهم بما فعلوا من المعاصي والكفر فسار هؤلاء القوم سيرة من سبقهم وعملوا أعمالهم وعصوا ربهم أن لو نشاء فعلنا بهم من العذاب كما فعلنا بمن قبلهم وقوله :﴿ فهم لا يسمعون ﴾ أي السماء المؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ فكأنهم لم يسمعوا.
١ رواه مسلم ـ واللفظ له ـ ورواه الترمذي..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ( ١٠١ ) ﴾.
هذا هو المراد في سرد القصص بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوضحه الحق في موضع آخر من القرآن فقال :﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾( من الآية ١٢٠ سورة هود ) : فإذا ما حدث لك من أمتك وقومك شيء من العناد والإصرار والمكابرة فاعلم أنك لست بدعا من الرسل ؛ لأن كل رسول قد قابلته هذه الموجة الإلحادية من القوم الذين خاطبهم. وإذا كان كل رسول يأخذ حظه من البلاء بقدر ما في رسالته من العلو فلابد أن تأخذ أنت ابتلاءات تساوي ابتلاءات الرسل جميعا.
﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ( ١٠١ ) ﴾ ( سورةالأعراف )
والطبع كما قلنا هو الختم ؛ لأن قلوبهم ممتلئة بالضلال ؛ لذلك يعلنون التكذيب للرسول. وقد طبع الله على قلوبهم لا قهرا منه، ولكن لاستبطان الكفر وإخفائه في قلوبهم.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ( ١٠٢ ) ﴾.
وهؤلاء الذين كذبوا الرسل، وردوا منهج الله الذي أرسله على ألسنة رسله. كانت لهم عهود كثيرة. فما وفوا بعهد منها، مثال ذلك : العهد الجامع لكل الخلق، وهو العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم من صلبه حين مسح الله على ظهر آدم، وأخرج ذريته وقال :﴿ ألست بريكم قالوا بلى ﴾( من الآية ١٧٢ سورة الأعراف ) :
وقد يقف العقل في أخذ مثل هذا العهد على الذرية الموجودة في آدم ؛ لذلك نقول : إذا قال الله فقد صدق عَقِلْنا ذلك أو لم نعقله، إنك لو نظرت إلى " آحاد البشر "، أي إلى الأفراد الموجودين، تجد نفسك وغيرك يجد نفسه نسلا لآبائكم، وهذا يدل على أن الإنسان وجد من حيوان منوي حتى انتقل إلى بويضة حية من أمه فنشأ هذا الإنسان. ولو طرأ على الحيوان المنوي موت، أو طرأ على البويضة موت امتنع الإنسال.
إذن فكل إنسان منا جزء من حياة أبيه، وأبوه جزء من حياة والده، ووالده جزء من حياة أبيه، وإن سلسلت ذلك فسنصل لآدم، فكل واحد من ذرية آدم إلى أن تقوم الساعة فيه جزئ حي من آدم. وما دام فيه جزء حي من آدم فقد شهد الخلق الأول، ولذلك حين يسألهم الله سؤال التقرير ويقول :﴿ ألست بربكم ﴾ ؟
فيقولون :﴿ بلى ﴾.
وضربنا المثل لنقرب وقلنا إن الذرة الشائعة في شيء، تشيع في أضعاف الشيء، وسبق أن قلنا : إننا إذا جئنا بمادة ملونة حمراء مثلا في حجم سنتمتر مكعب، ثم أذبناها في قارورة، وبذلك يصبح كل جزء في القارورة فيه جزء من المادة الملونة، وإن أخذت القارورة وألقيتها في برميل واسع، هنا تصير كل قطرة من البرميل فيها جزء من المادة الحمراء، وإن أخذت ماء البرميل وألقيته في البحر فكل ذرة في البحر الواسع يصير فيها جزء من المادة الملونة، وهكذا يقرب من ذهن كل منا أن في كل إنسان جزيئا من آدم، وقد شهد هذا الجزء العهد الأول. ولقائل أن يسأل : كيف يخاطب الله الذر الذي كان موجودا في ظهر آدم ؟. نقول : كما خاطب الأرض وخاطب السماء، فهو القائل :
﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( ١١ ) ﴾ ( سورة فصلت ).
إذن فعدم إدراكنا لكيفية الخطاب بين رب ومربوب، لا يقدح في أن هذه المسألة لها أصل ولها وجود.
وهذا بالنسبة للعهد الأول، وبعده العهد الثاني الذي أخذه الله على رسله، مصداقا لقوله الحق :﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ٨١ ) ﴾( سورة آل عمران ).
ثم هناك عهود خاصة أنشأتها الأحداث الخاصة، مثلما يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( ٢٢ ) ﴾( سورة يونس ) : إنهم لا يسلمون أنفسهم للعطب، ولا يغترون بجاههم وبالأسباب التي عندهم لأنها قد امتنعت، ولذلك لا يغشون أنفسهم بل يلجأون صاغرين إلى الله قائلين :﴿ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾( من الآية ٢٢ سورة يونس ) : هكذا نرى أنهم أعطوا العهد في حادثة، فلما أنجاهم الله أعرضوا، وفي ذلك يقول الحق سبحانه :{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ.. ) ( من الآية ١٢ سورة يونس ) : إذن فالعهد إما أن يكون عهدا عاما وإما أن يكون عهدا خاصا.
والحق يقول :﴿ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾ : أي أن حال وشأن أكثرهم ظل على الفسق ونقض العهد والخروج عنه ؛ لأن العهد إطار يحكم حركة المختار فيما أعطاه على نفسه من المواثيق، وهو حر في أن يفعل أو لا يفعل، لكنه إذا عاهد أن يفعل أصبح ملزما ووجب عليه أن ينفذ العهد باختياره، لأنه قطع العهد على نفسه فعليه أن يحكم حركته في إطار هذا العهد، فإن خرج بحركته عن إطار هذا العهد فهذا هو الفسق، والأصل في الفسق أنه خروج الرطبة من القشرة لأن القشرة تصنع سياجا على الثمرة بحيث لا تُدخل إلى الثمرة شيئا مفسدا من الخارج، ويقال فسقت الرطبة أي خرجت عن قشرتها.
كأن ربنا جعل التكليف تغليفا حماية للإنسان من العطب، فإذا ما خرج عن الدين مثل خروج الرطبة عن الغطاء والقشرة صار عرضة للتلوث وللميكروبات، فسمى الله الخارج على منهجه بالفاسق، لأنه خرج عن الإطار الذي جعله الله له ليحميه من المفاسد، ومن العطب الذي يقع عليه.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( ١٠٣ ) ﴾.
وبعد أن تكلم الحق عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما دار بينهم وبين أقوامهم، وكيف أهلك سبحانه المكذبين وأنجى المؤمنين، أراد أن يأتي بتاريخ رسول من أولي العزم من الرسل، أي من الذين تعرضوا في رسالاتهم لأشياء لا يتحملها إلا جَلْد قوي. وأظن أنكم تعلمون أن علاج موسى لليهود أخذ قسطا وافرا في القرآن، بل إن قصة موسى مع قومه هي أطول قصص القرآن ؛ لأن انحرافاتهم ونزواتهم وتمردهم على أنبيائهم كانت كثيرة، وكان أنبياؤهم كثيرين، ولذلك فهم يفتخرون بأنهم كثيرو الأنبياء، وقالوا : نحن أكثر الأمم أنبياء. وقلنا لهم : إن كثرة أنبيائكم، دليل على تأصل دائكم ؛ لأن الأطباء لا يكثرون إلا حين يصبح علاج المريض أمرا شاقا. إذن فكثرة أنبيائكم، دليل على أن رسولا واحدا لا يكفيكم، بل لابد من أنبياء كثيرين.
وقوله الحق :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى ﴾ : وكلمة " بعث " كما نفهمها توحي وتشير إلى أنه سبحانه قد أرسل موسى رسولا إلى فرعون، واختيرت كلمة " بعث " للرسالات لأن البعث يقتضي أن شيئا كان موجودا ثم انطمر ثم بعثه الحق من جديد، والإيمان يتمثل في عهد الفطرة الأول الذي كان من آدم ؛ لأن الله خلقه بيديه خلقا مباشرا وكلفه تكليفا مباشرا، فنقل آدم الصورة للذرية، وهذه الصورة الأصلية هي التي تضم حقائق الإيمان التي كانت لآدم، وحين يبعث الله رسولا جديدا، فهو لا ينشئ عقيدة جديدة، بل يحيي ما كان موجودا وانطمر، وحين يطم الفساد يبعث الله الرسول، فكأن الحق سبحانه وتعالى حينما كلف آدم التكليف الأول طلب منه أن ينقل هذا التكليف إلى ذريته، ولو أن الإنسان أخذ تكاليف الدين كما أخذ مقومات الحياة ممن سبقه لظل الإيمان مسألة رتيبة في البشر.
إننا نأخذ الأشياء التي أورثها لنا أجدادنا وتنفعنا في أمور الدنيا نحتفظ بها ونحرص عليها، فلماذا لم نأخذ الدين منهم ؟ لأن الدين يحجر على حرية الحركة ويضعها في إطارها الصحيح. والإنسان يريد أن ينفلت من تقييد حرية الحركة، وحين يقول ربنا مرة إنه : " أرسل " الرسل، ومرة أخرى إنه قد بعثهم، فهذا يدل على أنه لم يجئ بشيء جديد، ولكنه جاء بشيء كان المفروض أن يظل فيكم كما ظلت فيكم الأشياء التي ورّثها لكم أسلافكم وتنتفعون بها ؛ مثال ذلك : نحن ننتفع برغيف الخبز وننتفع بخياطة الإبرة فلماذا انتفعنا بهذه الأشياء المادية ونسينا الأشياء المنهجية ؟ لأن الأشياء المادية قد تعين الإنسان على شهواته، أما قيم الدين فهي تحارب الشهوات. ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ ( من الآية ١٠٣ سورة الأعراف ).
والآيات كما نعلم جمع آية، وهي الأمر العجيب الذي يقف العقل عنده مشدوها. وتطلق الآيات ثلاث إطلاقات ؛ فهي تطلق على الآيات القرآنية لأنها عجيبة أسلوبيا معبرة عن كل كمال يوجد في الوجود إلى أن تقوم الساعة، وكل قارئ لها يأخذ منها على قدر ذهنه وقدر فهمه. والآيات الكونية موجودة في خلق الأرض والسماء وغير ذلك، وكذلك تطلق الآيات على المعجزات الدالة على صدق الأنبياء. والبعث يقتضي مبعوثا وهو موسى، ويقتضي باعثا وهو الله، ومبعوثا إليهم. وهم قوم فرعون، ومبعوثا به وهو المنهج.
راجع أصله وخرج أحاديثه الدكتور أحمد عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر. والآيات التي بعث الله بها موسى هي أدلة صدق النبوة، وهي أيضا الكلمات المعبرة عن المنهج ليشاهدها ويسمع لها فرعون وملؤه، والملأ كما عرفنا من قبل هم القوم الذين يملأون العيون هيبة، فيقال للناس الذين لا يلتفت إليهم أحد إنهم ملأ، أو هم الأناس الذين يملأون صدور المجالس، أي الأشراف والسادة. ولماذا حدد الحق هنا أن موسى قد بعث لفرعون وملئه فقط ؟ لأن الباقين من أتباعهم تكون هدايتهم سهلة إن اهتدى الكبار، والغالب والعادة أن الذي يقف أمام منهج الخير هم المنتفعون بالشر، وهو القادة أو من حولهم، ولا يرغون في منهج الخير لأنه يصادم أغراضهم، وأهواءهم، ولذلك يحاربونه، أما بقية العامة فهم المغلوبون على أمرهم، وساعة يرون أن واحدا قد جاء ووقف في وجه الذين عضوهم بمظالمهم وعضوهم بطغيانهم، تصبح قلوبهم مع هذا المنقذ !
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ ( من الآية ١٠٣ سورة الأعراف ) : وإن كانت الآيات هي الكلمات المؤدية للمنهج الموجودة في التوراة، أو كانت الآيات هي المعجزات التي تدل على صدق موسى فقد كان ذلك يقتضي إيمانهم.
ونعلم أن القرآن قد عدد الآيات المعجزات التي أرسلها الحق مع موسى :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ﴾ ( من الآية ١٠١ سورة الإسراء ) : ومن هذه الآيات العصا، واليد يدخلها في الجيب أو تحت جناحه وإبطه وتخرج بيضاء من غير سوء أو علة، وأخذ آل فرعون بالسنين، وكلمة " سنين " تأتي للجدب الشديد الذي يستمر لفترة من الزمن بحيث يلفت الناس إلى حدث في زمان، ولذلك نقول : كانت سنة عصيبة ؛ لأن السنة عضة من الأحداث، تهدم ترف الحياة، ثم تأتي لهم بما يهدم مقومات الحياة، وأولها الطعام والشراب فيصيبهم بنقص الثمرات، وهو الجذب والقحط، وسمى الجدب سنة، وجمعه سنين لأنه شيء يؤرخ به، فماذا كان استقبال فرعون وملئه للآيات التي مع موسى عليه السلام ؟ يقول الحق :﴿ فظلموا بها ﴾.
وهل كانت الآيات أداة للظلم أو ظلموا بسببها لأنهم رفضوها كمنهج حياتي ؟. لقد ظلموا بها لأنهم رفضوا أتباع المنهج الحق، وظلوا على فسادهم، والمفسدون كما نعلم هم الذين يعمدون إلى الصالح في ذاته فيفسدونه، برغم أن المطلوب من الإنسان أن يستقبل الوجود استقبال من يرى أن هناك أشياء فوق اختياراته ومراداته، وأشياء باختياره ومراداته، فإذا نظر الإنسان في الأشياء التي بها مقومات الحياة، مما لا يدخل في اختياره يجدها على منتهى الاستقامة.
إننا نجد الإنسان لا يتحكم في حركة الشمس أو حركة القمر، أو النجوم أو الريح أو المطر، فهذه الكائنات مستقيمة كما يريدها الله، ولا يأتي الفساد إلا في الأمر الذي للإنسان مدخل فيه، والناس لا تشكوا من أزمة هواء على سبيل المثال لأنه لا دخل في حركة الهواء لأحد، لكنهم شَكَوْا من أزمة طعام لأن للبشر فيه دخلا، ونجد شكواهم من أزمة المياه أقل ؛ لأن مدخل الإنسان على الماءقليل.
إنه سبحانه وتعالى يجعل الأمر الذي يدير حركتك الوقودية لك فيه بعض من الدخل، فيجعل من جسمك على سبيل المثال مخزنا للدهون ليعطيك لحظة الجوع ما كنزته فيه من طاقة. ومن العجيب أن الدهون هذه هي مادة واحدة وساعة نحتاج إلى التغذية منها تتحول المادة الواحدة إلى المواد الأخرى التي نحتاج إليها.
تحتاج مثلا إلى زلال، فيتحول الدهن إلى زلال، تحتاج إلى كربون، يعطي لك الدهن الكربون، تحتاج إلى فوسفور يعطيك فوسفورا، تحتاج إلى مغنسيوم يعطيك الدهن المغنسيوم، وهكذا فإذا كنا نصبر على الطعام بقدر المخزون في أجسامنا، ونصبر على الماء أيضا بقدر المخزون في هذه الأجساد، فنحن لا نصبر على الهواء لأن التنفس شهيق وزفير، ولو أن إنسانا ملك الهواء يعطيك إياه لحظة الرضا، ويمنعه عنك لحظة الغضب، لمت قبل أن يرضى عنك، لكن إن منع عنك الماء فترة فقد يحن قلب عدوك أو يأتي لك أحد بالماء أو قد تسعى أنت بحيلة ما لتصل إليه.
إذن فالأمر الذي لا دخل للإنسان فيه نجده على منتهى الاستقامة، ولا يأتي الفساد إلا من الأمر الذي للإنسان فيه دخل.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( ١٠٣ ) ﴾( سورة الأعراف ) : أي أن آخر الأمر سيعاقب الله المفسدين.
وأراد سبحانه أن يَذْكر سلسلة القصة لا من بدء سلسلتها، بل يبدأ من نهايتها، فسبحانه لا يدرس لنا التاريخ، ولكن يضع أمامنا العظة، واللقطة التي يريدها في هذا السياق، ولذلك لم يتكلم سبحانه في هذه السورة عن ميلاد موسى وكيف أوحى لأمه أن تلقيه في البحر، ولم ترد حادث ذهابه إلى مدين ومقابلته لسيدنا شعيب، لكنه هنا يتكلم سبحانه عن مهمة سيدنا موسى مع فرعون. ويقول سبحانه :﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٠٤ ) ﴾.
ويشرح لنا القرآن أمر بلاغ موسى لفرعون وقومه بأن الله واحد أحد وهو رب العالمين، وكان قوم فرعون يعتقدون بوجود إله للسماء وآخر للأرض، لذلك يبلغهم موسى بأن الإله واحد :﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ( ٢٤ ) ﴾. ( سورة الشعراء ) : ونجد موسى يعدد كلمة الربوبية في آيات أخرى ؛ ليأتي بالمظهر الذي دُسَّت فيه دسيسة الربوبية لفرعون، وكانوا يعتقدون أن للسماء إلها، وللأرض إلها آخر، فقال موسى : إنني أتكلم عن الإله الواحد الذي هو رب السماء والأرض معا فلا إله إلا الله وحده. وكانوا يعتقدون أن للشرق إلها، وللغرب إلها، فأبلغهم موسى بأنه إله واحد، وكانوا يعتقدون أن للأحياء إلها وربا، وللأموات إلها وربا، فقال لهم موسى :﴿ قال ربكم ورب آبائكم الأولين ٢٦ ﴾( سورة الشعراء )، ويبلغ هنا موسى فرعون وقومه :﴿ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ( من الآية ١٠٤ سورة الأعراف ) :
ومادام موسى رسولا من رب العالمين، فهو لا يقول إلا الحق.
لذلك يتابع الحق على لسان موسى :﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٠٥ ). ﴾
فأي هذه الأمور هو الذي يحتاج إلى بينة، هل البلاغ بأنه رسول من رب العالمين ؟ إن هذا القول يدلنا على أن موسى اختلف مع فرعون أولا في أن موسى رسول، وأن للعالمين ربا واحدا، وأنه لا يبلغ إلا بالحق، هذه إذن ثلاث قضايا خلافية بين موسى وفرعون. ولكن فرعون لم يختلف مع موسى إلا في قضية واحدة هي : هل هو رسول مبلغ عن الله بالقول الحق ؟ فماذا طلب منه ؟ طلب الدليل على أنه رسول من رب العالمين. وهذا يوضح أن فرعون يعلم أن العالم له رب أعلى.
كذلك فإن فرعون لم يقف مع موسى في مسألة أن للعالمين ربا، وأن هذا الرب لا يستطيع كل إنسان أن يفهم مراده منه فلابد أن يرسل رسولا، بل وقف فرعون في مسألة : هل موسى رسول مبلغ عن الله أو لا ؟ ولذلك يقول موسى :
﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٠٥ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : كأن مهمة موسى عند فرعون أن يخلص بني إسرائيل. ونعرف أن قصة بني إسرائيل ناشئة من أيام نبي الله يعقوب وابنه يوسف حين كاد الإخوة لأخيهم يوسف، وتشاوروا في أمر قتله أو طرحه أرضا أو إلقائه في غياهب الجب، لقد جاء الحق بقصة بني إسرائيل على مراحل لنتدرج بالانفعال معها. فمراحل الانفعال النفسي أمام من تكره تأخذ صورتين اثنتين : صورة تدل على تصعيد الرحمة في قلبك، وصورة تدل على تصعيد الشر في قلبك، مثال ذلك : لنفترض أن لك خصما وصنع فيك مكيدة، وتحكي أنت لإخوانك ما فعله هذا الخصم، وكيف أنك تريد الانتقام منه فتقول : أريد أن انتقم منه بضربه صفعتين، ثم تصعد الشر فتقول : أنا أريد أن أقتله بالرصاص، هذا شأن الشرير، أما الخيّر فيقول : أنا لا أريد أن أقتله أو أصفعه أو أشتمه وأسبّه فهذا تصعيد في الخير. إذن. يختلف تصعيد الانتقام أو السماح حسب طاقة الخير أو الشر التي في النفس. وهكذا نجد إخوة يوسف وهم يكيدون له، فقالوا :﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾( من الآية ٨ سورة يوسف ) : هم يعترفون أنهم قوة وعصبة، ويحسدون يوسف وأخاه على محبة الأب لهما، ويعترضون على ذلك، ويظهرون البينة على أن يوسف وأخاه أحب إلى الأب منهم، وذكر القرآن هذه البينة لنعرف أهميتها، حتى لا يغفل أحد عنها. لقد كان قلب نبي الله يعقوب مع يوسف وأخيه لصغرهما وضعفهما، بينما بقية أبنائه كبار أقوياء أشداء ؛ لأن الله سبحانه وتعالى وضع في قلب الأبوة والأمومة من الرحمة على قدر ضعف الوليد الصغير. فالصغير هو من يحتاج إلى رعاية وعناية، ويكون قلب الأم والأب مع الابن المريض أو الغائب. ولذلك حينما سئلت امرأة حكيمة : من أحب بنيك إليك ؟ قالت : الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى.
إذن فقول إخوة يوسف :﴿ ونحن عصبة ﴾. هو بينة ضدهم. وكان المنطق يقتضي أن يعرفوا أنهم ما داموا عصبة فلابد أن يكون قلب أبيهم مع يوسف وأخيه فكلاهما كان صغيرا ويحتاج إلى رعاية، وبطبيعة تكوين أبناء يعقوب كأسباط وذريّة أنبياء، نجدهم يصعدون الخير لا الشر، فقد بدأوا بإعلان رغبة القتل، ثم استبدلوا بها الطرح أرضا بأن يلقوه في أرض بعيدة نائية ليستريحوا منه ويخلوا لهم وجه أبيهم، ثم استبدلوا بها إلقاءه في غياهب الجب ؛ بدأوا بالقتل في لحظة عنفوان الغضب ثم تنازلوا عن القتل بالطرح أرضا، أي أن يتركوه في مكان يكون فيه عرضة لأن يضل، ثم تنازلوا عن ذلك واكتفوا بإلقائه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة، فهل كانوا يريدون أن يضروه، أو كانوا يفكرون في نجاته ؟. إذن فهذا تصعيد للخير.
وتوالت الأحداث مع سيدنا يوسف واستقر معه بنو إسرائيل في مصر وكثرت أعدادهم. وعندما نستقرئ التاريخ، نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن ملوك مصر، خص بعضهم باسم فرعون، وخص بعضهم باسم ملك، فهناك فرعون وهناك ملك. فإذا ما نظرت إلى القديم نجد أن الحق يقول :﴿ وفرعون ذي الأوتاد ١٠ ﴾ ( سورة الفجر ).
هكذا نجد الحق يسمي حاكم مصر " فرعون " وفي أيام سيدنا موسى أيضا يسميه الحق فرعون. لكن في أيام يوسف عليه السلام لم يسمه فرعون، بل سمّاه ملكا :
﴿ وقال الملك ائتوني به ﴾ ( من الآية ٥٠ سورة يوسف ).
وبعد أن اكتشف العالم الفرنسي شامبليون حجر رشيد عرفنا أن الفترة التي دخل فيها سيدنا يوسف مصر، لم يكن الفراعنة هم الذين يحكمون مصر، بل كان الحكام هم ملوك الهكسوس الرعاة، وطمر القرآن هذه الحقيقة التاريخية حين سمى حكام مصر قبل يوسف فراعين، وفي الفترة التي جاء فيها سيدنا يوسف سماهم " الملوك "، وهؤلاء هم من أغاروا على مصر وحكموها وساعدهم بنو إسرائيل وخدموهم، وقاموا على مصالحهم، وبعد أن طرد المصريون الهكسوس التفت الفراعنة بالشّر إلى من أعان الهكسوس ؛ فبدأوا في استذلال بني إسرائيل لمساعدتهم الهكسوس إبان حكمهم مصر. وأراد الله أن يخلصهم بواسطة موسى عليه السلام، ولذلك يقول الحق على لسان موسى :﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٠٤ ) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٠٥ ) ﴾( سورة الأعراف ) : كأن موسى يريد أن يخلص بني إسرائيل، أما مسألة الألوهية وربوبية فرعون فقد جاءت عرضا.
ويقول فرعون :﴿ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ١٠٦ ) ﴾.
وهكذا يواجه فرعون موسى سائلا إياه أن يُظهر الآية إن كان من الصادقين، إذن ففرعون يعتقد أن لله آيات تثبت صدق الرسول بدليل أنه قال له : هاتها إن كنت من الصادقين.
ويكشف موسى عليه السلام الآية :﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( ١٠٧ ) ﴾.
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( ١٠٧ ) ﴾ :
وهذا الإلقاء كان له سوابق تجربة أخرى حينما خرج مع أهله من مدين ورأى نارا وبعد ذلك قال لأهله :﴿ امكثوا إني آنست نارا ﴾( من الآية ١٠ سورة طه )، ثم سمع خطابا :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ( ١٧ ) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ( ١٨ ) ﴾ ( سورة طه ) : وحين يقال له :﴿ ما تلك بيمينك يا موسى ﴾، كان يكفي أن يقول في الجواب : عصاي، ولا داعي أن يقول : " هي " ولا داعي أن يشرح ويقول : إنه يتوكأ عليها وأن له فيها مآرب أخرى ؛ لأن الحق لم يسأله ماذا تفعل بعصاك إذن فجواب موسى قد جاوز في الخطاب قدر المطلوب، ويظن البعض أنه كان من الواجب أن يعطي الجواب على قدر السؤال. لكن من يقول ذلك ينسى أنه لا يوجد من يزهد في الأنس بخطاب الله. وحين قال موسى عليه السلام :﴿ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ﴾( من الآية ١٨ سورة طه ) : ولقد شعر موسى عليه السلام واستدرك هيبة المخاطب فكان تهافته على الخطاب حبا لأنسه في الله، لكنه شعر أنه قارب أن يتجاوز قال :﴿ ولي فيها مآرب أخرى ﴾ كان من الممكن أن يقول استعمالات كثيرة للعصا. إذن فللعصا أكثر من إلقاء، إلقاء الدربة والتمرين على لقاء فرعون حين أمره الحق :﴿ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ( ١٩ ) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ( ٢٠ ) ﴾ ( سورة طه )، فماذا حدث ؟ قال له الله :﴿ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ( ٢١ ) ﴾ ( سورة طه ) : فساعة خاف، دل على أن ما حدث للعصا ليس من قبيل السحر ؛ لأن الساحر حين يلقي عصاه أو حبله يرى ذلك عصا أو حبلا، بينما يرى ذلك غيُره حية، ولذلك يقول الحق عن السحرة :﴿ سحروا أعين الناس ﴾ ( من الآية ١١٦ سورة الأعراف ) : وهذا يدل على أن حقيقة الشيء في السحر تظل كما هي في نظر الساحر، لكن موسى أوجس في نفسه خيفة، فهذا يدل على أن العصا انتقلت من طبيعتها الخشبية وصارت حبة.
وكان من الممكن أن تورق العصا وتخضر على الرغم من أنها كانت غصنا يابسا. ولو حدث ذلك فسيكون معجزة أيضا، ولكن نقلها الله نقلتين : نقلها من الجمادية، وتعدى بها مرحلة النباتية إلى مرحلة الحيوانية.
وكأن الحق العليم أزلا يرد على من أراد اللغط في مسألة إلقاء العصا، وقد ظن بعض الجاهلين أن ذلك تكرار في الكلام في قصة واحدة. ولم يلحظوا أن جهة الإلقاء للعصا كانت منفكة، ففي القرآن ثلاث إلقاءات للعصا : إلقاء التدريب حينما اصطفى الله موسى رسولا وأعلمه بذلك في طور سيناء :﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾ ( من الآية ١٤ سورة طه )، وبعد ذلك قال له :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ( ١٧ ) قَالَ هِيَ عَصَايَ ﴾ ( سورة طه ) : وإلقاء التدريب على المهمة هدفه طمأنة موسى، حتى إذا ما باشرها أمام فرعون باشرها وهو على يقين أن العصا ستستجيب له فتنقلب حية بمجرد إلقائها، ولو أن الله قال له خبرا " إذا ذهبت إلى فرعون فألق العصا فستنقلب حية "، فقد لا يطمئن قلبه إلى هذا الأمر. فأراد الله أن يدربه عليها تدريبا واقعيا، ليعلم أن العصا ستستجيب له حين يلقيها فتنقلب حية، وكان ذلك أول إلقاء لها، أما الإلقاء الثاني فكان ساعة أن جاء فرعون للإعلام بمهمته أنه رسول رب العالمين، وإعلامه بالبينة، وهو ما نحن بصدده الآن في هذه الآية التي نتكلم بخواطرنا الإيمانية فيها.
ثم هناك إلقاء ثالث وهو إلقاء التحدي للسحرة، ولأن لكل إلقاء موقعا فلا تقل أبدا : أن ذلك تكرار. وإنما هو تأسيس لتعدد المواقف والملابسات، فلكل موقف ما يتطلبه، فلا تغني لقطة هنا عن لقطة هناك. ﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( ١٠٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
ومرّة يقول عن العصا :﴿ كأنها جان ﴾. ويقول المشككون في كلام الله من المستشرقين : كيف يقول مرة إنها ثعبان مبين. ثم مرة أخرى يقول :﴿ فإذا هي حية تسعى ﴾، ومرة ثالثة يقول :﴿ كأنها جان ﴾. ونقول : إن هناك فارقا بين مختلفات تتناقض، ومختلفات تتكامل، فهي ثعبان مرة، وهي حية مرة ثانية، وهي جان ؛ لأن الثعبان هو الطويل الخفيف الحركة، والحية هي الكتلة المخيفة بشكلها وهي متجمعة، والجان هو الحية المرعبة الشكل. فكأنها تمثلت في كل مرة بمثال يرعب من يراه، وكل مرة لها شكل ؛ فهي مرة ثعبان، ومرة حية، وثالثة جان، أو تكون ثعبانا عند من يخيفه الثعبان، وتكون حية عند من تخيفه الحية، وتكون جانا عند من يخيفه الجان، ولذلك تجد أن إشاعة الإبهام هو عين البيان للمبهم.
ومثال ذلك إبهام الحق لأمر الموت، فلا يحكمه سن، ولا يحكمه سبب، ولا يحكمه زمان، وفي هذا إبهام لزمانه وإبهام لسببه مما يجعله بيانا شائعا تستقبله بأي سبب في أي زمان أو في أي مكان، وهكذا يأتي الإبهام هنا لكي يعطينا الصور المتكاملة، وقال بعض المستشرقين : إن المسلمين يستقبلون القرآن بالرهبة وبالانبهار. ولا يحركون عقولهم لكي يروا المتناقضات فيه، لكن غير المسلم إن قرأ القرآن يتبين فيه أشياء مختلفة كثيرة، قالوا بالنص : " أنتم تعلمون بقضايا اللغة أن التشبيه إنما يأتي لتلحق مجهولا بمعلوم "، فيقال أنت تعرف فلانا، فتقول : لا والله لا أعرفه. فيقول لك : هو شكل فلان ؛ في الطول، وفي العرض، وفي الشكل، إذن فقد ألحق مجهولا بمعلوم ليوضحه. فكيف يلحق القرآن مجهولا بمجهول، إن هذا لا يعطي صورة مثلما تكلم القرآن عن شجرة الزقوم فقال :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ( ٦٤ ) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ( ٦٥ ) ﴾ ( سورة الصافات ). فكيف توجد شجرة في الجحيم، إنها أشياء متناقضة ؛ لأن الشجر فيها خضرة، وتحتاج إلى ري، ومائية، والجحيم نار وجفاف، ثم إن الشيطان غير معلوم الصورة للبشر، وشجرة الزقوم غير معلومة لأنها ستأتي في الآخرة، فكيف يشبِّه الله مجهولا بمجهول. واستخدم المستشرقون ذلك كدليل على أن المسلمين يأخذون القرآن بانبهار ولا يبحثون فيه، ونرد عليهم : أنتم لا تعلمون لغة العرب كملكة، بل عرفتموها صناعة، ولم تتفهموا حقيقة أن القرآن جاء على لغة العرب. وقد تخيلت لغة العرب أشياء رأت فيها البشاعة والقبح ؛ كأن قالوا : " ومسنونة زرق كأنياب أغوال "، والغول كائن غير موجود، لكنهم تخيلوا الغول المخيف وأن له أنيابا... الخ.
إذن التشبيه قد يكون للأمر المُتَخَيَّل في أذهان الناس، والأصل في التشبيه أن يلحق مجهولا ليُعلم، وشجرة الزقوم لا نعرفها، ورءوس الشياطين لم نرها، وهكذا ألحق الله مجهولا بمجهول، ولماذا لم يأت بها في صورة معلومة ؟. لأنه سبحانه يريد أن يشيع البيان، ويعمم الفائدة ويرببها ؛ لأن الإخافة تتطلب مخيفا، والمخيف يختلف باختلاف الرائيين، فقد يوجد شيء يخيفك، ولكنه لا يخيف غيرك، وقد تستقبح أنت شيئا، ولكن غيرك لا يستقبحه، ولذلك ضربنا سابقا مثلا. وقلنا : لو أننا أحضرنا مجموعة من كبار رسامي الكاريكاتير في العالم، وقلنا لهم : ارسموا لنا صورة الشيطان تخيلوا الشيطان وارسموه، أيتفقون على شكل واحد فيه ؟ لا، لأن كل رسام سيرسم الشيطان من وحي ما يخيفه هو.
ولقد قال الله في صورة : شجرة الزقوم ﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾ ؛ ليتخيل كل سامع ما يخيفه من صورة الشيطان، فتكون الفائدة عامة من التخويف من تلك الشجرة. لكنه لو قالها بصورة واحدة لأخاف قوما ولم يخف الآخرين.
ومثال ذلك أمر عصا موسى، فهي مرة ثعبان، ومرة جان، ومرة حية، وكلها صور لشيء واحد مخيف، ويقول الحق هنا في سورة الأعراف :﴿ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ﴾.
وقوله :﴿ فإذا هي ﴾ يوضح الفجائية التي أذهلت فرعون، فقد تحولت العصا إلى ثعبان ضخم في لمح البصر بمجرد إلقائها، ومن فوائد تدريب سيدنا موسى على إلقاء العصا في طور سيناء أن موسى لن تأخذه المفاجأة حين يلقيها أمام فرعون، بل ستأخذ المفاجأة فرعون. كأن التدريب أولا لإقناع موسى وضمان عدم خوفه في لحظة التنفيذ، وقد خاف منها موسى لحظة التدريب ؛ لأن العصا صارت ثعبانا وحيّة حقيقية، ولو كانت من نوع السحر لظلت عصا في عين الساحر ولا يخاف منها، إذن خوفه منها إبّان التدريب دليل على أنها انقلبت حقيقة، لا تخيلا، وتلك هي مخالفة المعجزة للسحر، فالمعجزة حقيقة والسحر تخييل، وهذا هو الذي سيجعل السحرة يخرون ساجدين لأنهم ذهلوا مما حدث.
﴿ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ١٠٧ ﴾ ( سورة الأعراف ).
و " مبين " أي بيّن، وواضحة ملامحه المخيفة التي لا تخفى على أحد.
ويقدم موسى عليه السلام الآية الثانية، فيقول الحق :﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ ِلنَّاظِرِينَ ( ١٠٨ ) ﴾.
وهذه آية معجزة أخرى. وقوله : " ونزع " تعني إخراج اليد بعسر، كأن هناك شيئا يقاوم إخراج اليد ؛ لأنه لو كان إخراج اليد سهلا، لما قال الحق : " ونزع يده " لأن النزع يدل على أن شيئا يقاوم، ومثال ذلك قوله الحق :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ ( من الآية ٢٦ سورة آل عمران ) : لأن نزع الملك ليس مسألة سهلة ؛ ففي الغالب يحاول صاحب الملك التشبث بملكه، لكن الحق ينزعه من هذا الملك. كذلك قوله : " ونزع يده "، وهذا يدل على أن يده لها وضع، ونزع يده وإخراجها بشدة له وضع آخر، كأنها كانت في مكان حريص عليها. إذن ففيه لقطة بينت الإدخال، ولقطة بينت النزع، وهما عمليتان اثنتان. وقال سبحانه في آية ثانية :﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ ( من الآية ١٢ سورة النمل ) : و " الجيب " هو مكان دخول الرأس من الثوب، وإن كنا نسمي " الجيب " في أيامنا مطلق شيء نجعله وعاء لما نحب، وكان الأصل أن الإنسان حين يريد أن يحتفظ بشيء، يضعه في مكان أمامه وتحت يده، ثم صنع الناس الجيوب في الملابس، فسميت الجيوب جيوبا لهذا.
والحق قال في موضع آخر :
﴿ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة طه ) : إذن ففيه إدخال وإخراج، وكل آية جاءت بلقطة من اللقطات ؛ فآية أوضحت دخول اليد في الجيب، وأخرى أوضحت ضم اليد إلى الجناح، وثالثة أوضحت نزع اليد، وهذه لقطات متعددة، تكوّن كلها الصورة الكاملة ؛ لنفهم أن القصص في القرآن غير مكرَّر، فالتكرير قد يكون في الجملة. لكن كل تكرير له لقطة تأسيسية، وحين نستعرضه نتبين أركان القصة كاملة. فكل هذه اللقطات تجمَّع لنا القصة. وقلنا قبل ذلك : إن الصراع بين فرعون وموسى لا ينشأ إلا عن عداوة، وحتى يحتدم الصراع لابد أن تكون العداوة متبادلة، فلو كان واحدا عدوا والثاني لا يشعر بالعداوة فلن يكون لديه لدد خصومة، وقد يتسامح مع خصمه ويأخذ أمر الخلاف أخذا هينا ويسامحه وتنفض المسألة. لكن الذي يجعل العداوة تستعر، ويشتد ويعلو لهيبها أن تكون متبادلة. وتأتي لنا لقطة في القرآن تثبت لنا العداوة من فرعون لموسى، ولقطة أخرى تثبت العداوة من موسى لفرعون، فالحق يقول :﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة طه ) : هذه تثبت العداوة من فرعون لموسى. ويقول الحق :﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ ( من الآية ٨ سورة القصص ) : وهذه تثبت أن موسى عدو لهم. وكلتا اللقطتين يُكمل بعضها بعضا لتعطينا الصورة الكاملة.
والحق هنا يقول :﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( ١٠٨ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : ونعرف أن موسى كان أسمر اللون، لذلك يكون البياض في يده مخالفا لبقية لون بشرته، ويده صارت بيضاء بحيث ساعة يراها الناس يلفتهم ضوؤها ويجذب أنظارهم، وهي ليست بيضاء ذلك البياض الذي يأتي في سُمرة نتيجة البرص، لا ؛ لأن الحق قال في آية أخرى :﴿ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ ( من الآية ٢٢ سورة طه ).
وكل لقطة كما ترى تأتي لتأكد وتكمل الصورة. إذن فقوله :﴿ بيضاء للناظرين ﴾ يدل على أن ضوءها لامع وضيء، يلفت نظر الناس جميعا إليها، ولا يكون ذلك إلا إذا كان لها بريق ولمعان وسطوع، وقوله :﴿ بيضاء من غير سوء ﴾ يؤكد أن هذا البياض ليس مرضا.
ويتابع الحق سبحانه :﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ١٠٩ ) ﴾.
عرفنا أن الملأ هو القوم الذين يتصدرون المجالس، ويملأونها أو الذين يملأون العيون هيبة، والقلوب مهابة وهم هنا المقربون من فرعون. وكأنهم يملكون فكرة وعلما عن السحر. وفي سورة الشعراء جاء القول الحق :﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) ﴾ ( سورة الشعراء ) : إذن فهذه رواية جاءت بالقول من الملأ، والآية الأخرى جاءت بالقول على لسان فرعون، وليس في هذا أدنى تناقض، ومن الجائز أن يقول فرعون : إنه ساحر، وأيضا أن يقول الملأ : إنه ساحر. وتتوارد الخواطر في أمر معلوم متفق عليه. وقد حدث مثل هذا في القرآن حينما نزلت آيات في خلق الإنسان وتطوره بأن كان علقة فمضغة الخ، فقال كاتب الوحي بصوت مسموع :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾ ( من الآية ١٤ سورة المؤمنون ). عن أنس رضي الله عنه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وافقت ربي في أربع : نزلت هذه الآية :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ﴾ الآية قلتُ أنا : فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾١. وعن زيد ابن ثابت الأنصاري قال : أملى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ﴾ إلى قوله :﴿ .. خلقا آخر ﴾ فقال معاذ :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له معاذ : ممّ تضحك يا رسول الله ؟ فقال : " بها ختمت فتبارك الله أحسن الخالقين }٢.
لقد جاءت الخواطر في الحالة المهيجة لأحاسيس الإيمان لحظة نزول الوحي بمراحل خلق الإنسان.
فما الذي يمنع من توارد الخواطر فيجيء الخاطر عند فرعون وعند الملأ فيقول ويقولون ؟ أو يكون فرعون قد قالها وعلى عادة الأتباع والأذناب إذا قال سيدهم شيئا كرروه.
﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ١٠٩ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : ولم يصفوا فعل سيدنا موسى بأنه ساحر فقط بل بالغوا في ذلك وقالوا : إنه ساحر عليم. وأضافوا ما جاء على ألسنتهم بالقرآن في هذه السورة.
١ رواه ابن أبي حاتم..
٢ رواه ابن أبي حاتم وأورده ابن كثير في تفسيره وقال: وفي إسناده جابر بن زيد الجعفي ضعيف جدا، ونرى خبر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصح..
إنها نكبة جاءت لفرعون الذي يدعي الألوهية، ونكبة لمن حوله من هؤلاء الذين يوافقونه، فكيف يواجهها حتى يظل في هيئته وهيبته ؛ قال عن موسى : إنه ساحر، لكي يصرف الناس الذين رأوا معجزات موسى عن الإيمان والاقتناع به، وأنه رسول رب العالمين، وبعد ذلك يهيج فرعون وطنيتهم ويهيج ويثير غيرتهم ويحرك انتماءهم إلى مكانهم فقال :﴿ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( ١١٠ ) ﴾.
اتهموا موسى عليه السلام بأنه يريد أن يخرج الناس بسحرهم من أرضهم، وهذا القول من فرعون ومن معه له هدف هو تهييج الناس وإثارتهم ؛ لأن فرعون أقنع الناس أنه إله. وهاهي ذي الألوهية تكاد تنهدم في لحظة، فقال عن موسى إنه ساحر، وبين قوم لهم إلف بالسحر، وقوله :﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ على لسان الملأ من قوم فرعون تدل على أن القائل للعبارة أدنى من المقول لهم، فالمفروض أن فرعون هو صاحب الأمر على الجميع، ومجيء القول :﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ يدل على أن الذي يأمر في مسائل مثل هذه هو فرعون، وهذا يشعر بأن فرعون قد أدرك أن مكانته قد انحطت وأنه نزل عن كبريائه وغطرسته. أو أن يكون ذلك من فرعون تطييبا لقلوب من حوله، وأنه لا يقطع أمرا إلا بالمشورة، فكيف تشاور الناس يا فرعون وأنت قد غرست في الناس أنك إله ؟ وهل يشاور الإله مألوها ؟. إن قولك هذا يحمل الخيبة فيك لأنك تدعي الألوهية ثم تريد أن تستعين بأمر المألوه.
ويقول الحق سبحانه :
﴿ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( ١١١ ) ﴾.
و " أرجه " أي أخّره مثل قوله الحق :﴿ وآخرون مرجون ﴾ ( من الآية ١٠٦ سورة التوبة ) : أي أنهم مؤخرون للحكم عليهم وهم الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو فخلفوا وأرجئ أمرهم حتى نزل فيهم قوله سبحانه :﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا ﴾ الخ الآية. وقولهم :﴿ أرجه وأخاه ﴾ ( من الآية ١١١ سورة الأعراف ) : وهكذا كان طلب الإرجاء لأن المسألة أخطر من أن يُتَصرّف فيها تصرفا سريعا بل تحتاج إلى أن يؤخّر الرأي فيها حتى يجتمع الملأ، ويرى الجميع كيفية مواجهتها، فهي مسألة ليست هينة لأن فيها نقض ألوهية فرعون، وفي هذا دك لسلطان الفرعون وإنهاء لانتفاعهم هم من هذا السلطان. فإذا كان قد قال لهم :﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾.
فكأنه كان يطلب منهم الرأي فورا، لكنهم قالوا إن المسألة تحتاج إلى تمهل وبطء، وأول درجات البطء والتمهل أن يُستدعى القوم الذين يفهمون في السحر. فمادمنا نقول عن موسى : إنه ساحر، فلنواجهه بما عندنا من سحر : وقبول فرعون لهذه المشورة هدم لألوهيته ؛ لأنه يدعي أنه إله ويستعين بمألوه هم السحرة، والسحرة أتباع له.
وقوله الحق على ألسنتهم :﴿ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴾ ( من الآية ١١١ سورة الأعراف ) : يدل على أن السحر كان منتشرا، ومنبثا في المدائن وقد أتبع سبحانه هذا القول على لسان الملأ بقوله :
﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( ١١٢ ) ﴾.
ولأن المستشرقين يريدون أن يشككونا في القرآن قالوا : ولماذا قال في سورة الشعراء :﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ ﴾. وكأن هؤلاء المستشرقين يريدون أن يفرقوا بين ﴿ ساحر عليم ﴾ و﴿ سحّار عليم ﴾ ؛ ولأنهم لا يعرفون اللغة لم يلتفتوا إلى أن " سحّار " تفيد المبالغة من جهتين. فكلمة " ساحر " تعني أنه يعمل بالسحر، و " سحّار " تعني أنه يبالغ في إتقان السحر، والمبالغات دائما تأتي لضخامة الحدث، أو تأتي لتكرر الحدث. ف " سحّار " تعني أن سحره قوي جدا، أو يسحر في كل حالة، فمن ناحية التكرار هو قادر على السحر، ومن ناحية الضخامة هو قادر أيضا. ومادام القائلون متعددين.. فواحد يقول : ساحر، وآخر يقول : سحّار وهكذا. والقرآن يغطي كل اللقطات.
﴿ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( ١١١ ) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( ١١٢ ) ﴾( سورة الأعراف ).
و " حاشرين " تعني من يحشر لك السحرة ويجمعهم لا بإرادتهم ولكن بقوة فرعون وبطش جنده.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( ١١٣ ) ﴾.
وقوله :﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ ﴾ يدل على بطش الآمر، أي أنه ساعة قال الكلمة هُرع الجند بسرعة ليجمعوا السحرة. وقد ولغ بعض المستشرقين في هذه اللقطة أيضا فتساءلوا : ولماذا جاء بقول مختلف في سورة أخرى حين قال :﴿ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ﴾ ( من الآية ٤١ سورة الشعراء ).
لقد جاء بها بهمزة الاستفهام، وفي سورة الأعراف جاء بها من غير همزة الاستفهام، وهذه آية قرآنية. وأصحاب هذا القول يتناسون أن كل ساحر من سحرة فرعون قد انفعل انفعالا أدى به مطلوبه ؛ فالذي يستفهم من فرعون قال : " أإن "، والشجاع قال لفرعون :﴿ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ﴾. وفي القضية الاستفهامية لا يتحتم الأجر لأنه من الجائز أن يرد الفرعون قائلا : أن لا أجر لكم، ولكن في القضية الخبرية ﴿ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ﴾ أي أن بعض السحرة قد حكموا بضرورة وجود الأجر، وقد غطى القرآن هذا الاستفهام، وهذا الخبر.
وتأتي إجابة فرعون على طلب السحرة للأجر :﴿ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ١١٤ ) ﴾.
و " نعم " حرف جواب قائمة مقام جملة هي : لكم أجر، وأضاف أيضا :﴿ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾.
وهذا دليل على أنه ينافقهم أو يبالغ في مجاملتهم ؛ لأنه يحتاج إليهم أشد الحاجة. وهكذا نجد ألوهية فرعون قد خارت أمام المألوهين السحرة. وقوله :﴿ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ هذه تدل على فساد الحكم ؛ لأنه مادام حاكما فعليه أن يكون كل المحكومين بالنسبة إليه سواء. لكن إذا ما كان هناك مقربون فالدائرة الأولى منهم تنهب على قدر قربها، والدائرة الثانية تنهب أيضا، وكذلك الثالثة والرابعة، فنجد كل الدوائر تمارس فسادها مادام الناس مصنفين عند الحاكم.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما جلس الصحابة يستمعون إليه كان يسوّي بين الناس جميعا في نظره حتى يظن كل إنسان أنه أولى بنظر رسول الله، ولا يدني أحدا ويقربه من مجلسه إلا من شهد له الجميع بأنه مقرب..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ( ١١٥ ) ﴾.
ونلحظ أنهم لم يؤكدوا لموسى رغبتهم في أن يلقي هو أولا عصاه. ولكنهم أكدوا رغبتهم في أن يكونوا هم أول الملقين. فجاءوا بضمير الفصل وهو ( نحن ) الذي يفيد التأكيد.
ونعلم أن من يعقِّب ويكون عمله تاليا لمن سبقه، فإن فعله هو الذي سيترتب عليه الحكم. ولابد أن يكون قوي الحجة. هم يريدون أن يكونوا هم المعقبين، وأن موسى الذي يبدأ، لكن عزتهم تفرض عليهم أن يبدءوا هم أولا ؛ لذلك جاءوا بالعبارة التي تحمل المعنيين :﴿ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ﴾ ( من الآية ١١٥ سورة الأعراف ).
فعلم موسى أنهم حريصون، على أن يبدأوا هم بالإلقاء فأتوا بكلمة " نحن ". وفكر موسى أن من صالحه أن يلقوا هم أولا ؛ لأن عصاه ستلقف وتبتلع ما يلقون ؛ لذلك يأتي قوله سبحانه :﴿ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( ١١٦ ) ﴾.
هم إذن سحروا أعين الناس، والسحر كما نعلم لطف حيلة يأتي بأعجوبة تشبه المعجزة. وكأنها تخرق القانون، وهو غير الحيلة التي يقوم بها الحواة ؛ لأن الحواة يقومون بخفة حركة، وخفة يد، ليعملوا الأمر على الناس. لكن " السحر " شيء آخر، ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى خلق كل جنس بقانون ؛ خلق الإنس بقانون، وخلق الجن بقانون، وخلق الملائكة بقانونها :﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾ ( من الآية ٣١ سورة المدثر ).
وكل قانون له خصائصه ومميزاته التي تناسب عنصر تكوينه، فالإنسان مثلا لأنه مخلوق من الطين له من الكثافة ما يمنعه من التسلل من خلال جدار ؛ لأنك لو كنت تجلس وهناك تفاحة وراء الجدار الذي تجلس بجواره فلن يتعدى ريحها ولا طعمها إلى فمك ؛ لأن الجدار يحول بينك وبين ذلك، لكن لو كانت هناك جذوة من نار بجانب الجدار الذي تستند عليه لكان من الممكن أن يتعدى أثرها لك ؛ لأن النار إشعاعات تنفذ من الأشياء، ولأن الجن مخلوق من نار، لذلك نجد له هذه الخاصية.
﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾ ( من الآية ٢٧ سورة الأعراف ) : فإذا كان الجن له قانون والإنس له قانون، فهل القانون هو الذي يسيطر ؟ لا، بل رب القانون هو الذي يسيطر لأنه جل وعلا فوق القانون. فيأتي الله للإنس ويُعَلّم واحدا منهم بعضا من أسرار كونه ليستذل الجن لخدمته، برغم ما للجن من خفة حركة، فسبحانه يوضح : لا تظن أيها الجن أنك قد أخذت خصوصيتك من العنصر الذي يكونك لأن هناك القادر الأعلى وهو المعنصر لك ولغيرك، بدليل أن الإنسان وهو من عنصر آخر يتحكم فيك بعد أن علمه الله بعضا من أسرار كونه.
ولننتبه دائما أن العلم بأسرار تسخير الجن هو من ابتلاءات الحق للخلق ؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول :﴿ وما يُعلِّمانِ مِنْ أحدٍ حتّى يقُولا إِنّما نحْنُ فِتْنةٌ فلا تكْفُرْ ﴾ ( من الآية ١٠٢ سورة البقرة ). فكأن هاروت وماروت وهما يعلّمان الإنسان كيف يمارس السحر، ينصحان الإنسان الذي يرغب في أن يتعلم السحر أولا، ويوضحان له أنهما فتنة أي ابتلاء واختبار ويقولان له :﴿ فلا تكفر ﴾، مما يدل على أن كل من يتعلم السحر ؛ إن قال لك : لأني سأستعمله في الخير فهو كاذب ؛ لأنه يقول ذلك ساعة صفاء نفسه تجاه الخلق، لكن ماذا إن غافله إنسان من أي ناحية وغلبه على بعض أمره وهو يملك بعضا من أسرار السحر ؟ هل يقدر على نفسه ؟ لقد قال إنه أمين وقت التحمل، لكن هل يظل أمينا وقت الأداء ؟ إن من يتعلم السحر قد يستخدمه في الانتقام من غيره، وبذلك يضيع تكافؤ الفرص، ونعلم أن تكافؤ الفرص هو الذي يحمي الناس، ويعطي بعضهم الأمن من بعض، ويلزم كل إنسان حدّه. فإذا أخذ إنسان سلاحا ليس عند غيره فقد يستخدمه ضد من لا يملك مثله، والإنسي الذي يأخذ سلاح استخدام الجن إنما يأخذ سلاحا لا يملكه أخوه الإنسي، وبذلك يكون قد أخذ فرصة أقوى من غيره وفي هذا ابتلاء ؛ لأن الإنسان قد ينجح فيه وقد يخفق فلا يظفر بما يطلبه، وقوله سبحانه :﴿ فلا تكفر ﴾ يدل على أنهما علما طبائع البشر في أنهم حين يأخذون فرصة أعلى قد يُضْمَنون وقت صفاء نفوسهم، ولكنهم لا يُضْمَنون يوم تعكير نفوسهم.
﴿ فيتعلّمُون مِنْهُما ما يُفرِّقُون بِهِ بيْن الْمرْءِ وزوْجِهِ وما هُمْ بِضارِّين بِهِ مِنْ أحدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ ( من الآية ١٠٢ سورة البقرة ).
مادام الحق هو الذي أعطاهم هذه القدرة فهو سبحانه القادر على أن يسلبها منهم، مثلما يمنح الله سبحانه وتعالى القدرة لإنسان ليكون غنيا وقادرا على شراء سلاح ناري، وأن يتدرب على إطلاق النار، فهذا الرجل ساعة يغضب قد يتصور أن يحل خلافه مع غيره أو ينهي غضبه مع أي إنسان آخر بإطلاق الرصاص عليه.
لكن لو لم يكن معه " مسدس " فقد ينتهي غضبه بكلمة طيبة يسمعها، إذن فساعة ما يمنع الله أمرا فهو يريد أن يرحم ؛ لذلك يقول :﴿ وما يُعلِّمانِ مِنْ أحدٍ حتّى يقُولا إِنّما نحْنُ فِتْنةٌ فلا تكْفُرْ ﴾.
وفي هذا تحذير لمن يتعلم مثل هذا الأمر، ويريد سبحانه أن يحمي خلقه من هذه المسألة، ويكفي أن نعلم أنه سبحانه قد قال :﴿ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾.
فلو أنك تتبعت هؤلاء لاستذلوك، واستنزفوك، ويتركك الله لهم لأنك اعتقدت فيهم، أما إن قلت : " اللهم إنك قد أقدرت بعض خلقك على السحر والشر، ولكنك احتفظت لنفسك بإذن الضر، فإني أعوذ بما احتفظت به مما أقدرت عليه، بحق قولك :﴿ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾. هنا لن يمكنهم الله منك، إنما إن استجبت وسرت معهم، فهم يستنزفونك، وأراد الله أن يفضح مثل هذه العملية فقال على ألسنة السحرة الذين استدعاهم فرعون :﴿ أئن لنا لأجرا ﴾ ( من الآية ٤١ سورة الشعراء )، وكأنهم يعترفون بالنقص فيهم، فعلى الرغم من ادعائهم القدرة على فعل المعجزات إلا أنهم عاجزون عن الكسب الذي يوفى حاجاتهم ؛ لذلك طلبوا الأجر من فرعون، وهذا حال الذين يشتغلون بالسحر والشعوذة. هم يدعون القدرة ويعانون الفاقة والعوز. هكذا حكم الحق بضيق رزق من يعمل بالسحر، ويفضحهم الحق دائما، وللعاقل أن يقول : ماداموا يدّعون الفلاح فليفلحوا في إصلاح أحوالهم. ومادام الساحر يدعي أنه يعرف أماكن الكنوز المخبوءة فلماذا لا يعرف كنوزا في الأرض التي ليست مملوكة لأحد ويأخذها لنفسه ؟ هذا إن افترضنا أن الساحر أمين للغاية ولا يريد أن يأخذ من خزائن الناس.
ولذلك تجد كل العاملين بالسحر والشعوذة يموتون فقراء، بشعي الهيئة ؛ مصابين في الذرية ؛ لأن الكائن منهم استغل فرصة لا توجد لكل واحد من جنسه البشرى، وذلك للإضرار بالناس. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ( ٦ ) ﴾ ( سورة الجن ).
وهنا يقرر الحق أنهم سيعيشون في إرهاق وتعب. ولذلك يتحدد موقفنا من السحر بأننا لا ننكره مثلما ينكره آخرون. فقد قال بعض من العلماء : إن السحرة جاءوا بعصيّ وضعوا فيها زئبقا، وعند وجود الزئبق تحت أشعة الشمس تعطي له حرارة فتتلوى العصى، لكن نحن لا ننكر السحر، كما لا ننكر الجن لأنه لا يفوتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن عفريتا من الجن تفلت على البارحة ليقطع علىّ الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه السلام :﴿ رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ﴾ " ١. فمادام الحق قد قال : إنه خلق خلقا لا تدركهم بإحساسك، فنحن نقر بما أبلغنا به الحق ؛ لأن وجود الشيء أمر وإدراك وجدوده أمر آخر، وكل مخلوق له قانونه، فالعفريت من الجن قال لسيدنا سليمان عن عرش بلقيس :﴿ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة النمل ) : وكأن الجن يطلب زمنا ما، فقد يجلس سليمان في مقامه معهم ساعة أو ساعتين أو ثلاثا، لكن الذي عنده علم من الكتاب يقول :﴿ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ ( من الآية ٤٠ سورة النمل ).
ولابد أن يكون طرفه قد ارتد في أقل من ثانية بعد أن قال ذلك، ولهذا نجد القرآن يورد ما حدث على الفور فيقول :﴿ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ﴾.
مما يدل على أن الله قد خلق الأجناس، وخلق لكل جنس قانونا، وقد يكون هناك قانون أقوى من قانون آخر، لكن صاحب القانون مخلوق لذلك لا يحتفظ به ؛ لأن خالق القانون يبطله، ويسلط أدنى على من هو أعلى منه. ولندقق في التعبير القرآني :﴿ سحروا أعين الناس ﴾.
ونحن أمام أشياء هي العصي والحبال. وجمع من البشر ينظر. ونفهم من قوله الحق :﴿ سحروا أعين الناس ﴾ أن السحر يَنْصبّ على الرائي له، لكن المرئي يظل على حالته، فالعصي هي هي، والحبال هي هي، والذي يتغير هو رؤية الرائي. ولذلك قال سبحانه في آية ثانية :
﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ ( من الآية ( ٦٦ ) سورة طه ) : إذن فالسحر لا يقلب الحقيقة، بل تظل الحقيقة هي هي ويراها الساحر على طبيعتها. لكن الناس هي التي ترى الحقيقة مختلفة. إذن فالسحرة قد قاموا بعملهم وهو :﴿ سحروا أعين الناس واسترهبوهم ﴾.
واسترهبوهم أي أدخلوا الرهبة في نفوس الناس من هذه العملية، وظن السحرة أن موسى سيخاف مثل بقية الناس المسحورين، ونسوا أن موسى لن ينخدع بسحرهم ؛ لأنه باصطفاء الله وتأييده بالمعجزة صار منفذا لقانون الذي أرسله فجعل عصاه حية، وصاحب القانون هو الذي يتحكم. وهم قد جاءوا بسحر عظيم، وهو أمر منطقي ؛ لأن العملية هي مباراة كبرى يترتب عليها هدم ألوهية فرعون أو بقاء ألوهيته، لذلك لابد أن يأتوا بآخر وأعظم ما عندهم من السحر.
١ رواه البخاري، ومسلم والنسائي..
ويقول الحق :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( ١١٧ ) ﴾.
ولماذا احتاجت هذه المسألة إلى وحي جديد خصوصا أنه قد سبق أن تم تدريب موسى على إلقاء العصا ؟. ونقول : فيه فرق بين التعليم للإعداد لما يكون، والتنفيذ ساعة يكون، فساعة يأتي أمر يجيء الحق بأمر جديد، فربما يكون قد دخل على بشرية موسى شيء من السحر العظيم، والاسترهاب، هذا ونعلم أن قصة موسى عليه السلام فيها عجائب كثيرة. فقد كان فرعون يقتل الذكران، ويستحي النساء، وأراد ربنا ألا يُقتل موسى فقال سبحانه :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾( من الآية ٧سورة القصص ).
وقوله سبحانه :﴿ أرضعيه فإذا خفت عليه ﴾ يدل على أن العملية المخوفة لم تأت بعد، بل ستأتي لاحقا. وهات أيّة امرأة وقل لها : إن كنت خائفة على ابنك من أمر ما فارميه في البحر. من المؤكد أنها لن تصدقك، بل ستسخر منك ؛ لأنها ستتساءل : كيف أنجيه من موت مظنون إلى موت محقق ؟. وهذا هو الأمر الطبيعي، لكن نحن هنا أمام وارد من الله إلى خلق الله، ووارد الله لا يصادمه شك. إذن فالخاطر والإلهام إذا جاء من الله لا يزاحمهما شيء قط. ولا يطلب الإنسان عليه دليلا لأن نفسه قد اطمأنت إليه، لذلك ألقت أمام موسى برضيعها في البحر.
ويقدّر الله أنها أم فيقول :﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾( من الآية ٧سورة القصص )، ولم يرده إليها فقط، بل سيوكل إليه أمرا جللا :﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ( من الآية ٧سورة القصص ) : كأن الحق سبحانه يوضح لأم موسى أن ابنها لن يعيش من أجلها فقط، بل إن له مهمة أخرى في الحياة فسيكون رسولا من الله. فإذا لم تكن السماء ستحافظ عليه لأجل خاطر الأم وعواطفها، فإن السماء ستحفظه لأن له مهمة أساسية ﴿ وجاعلوه من المرسلين ﴾. ونلحظ أن الحق هنا لم يأت بسيرة التابوت لكنه في آية ثانية يقول :﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ( ٣٨ ) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾ ( سورة طه )،
ولم يقل في هذه الآية :﴿ ولا تخافي ولا تحزني ﴾ ؛ لأنه أوضح لها ما سوف يحدث من إلقاء اليم له بالساحل. وقوله في الأولى :﴿ فإذا خفت عليه ﴾. هو إعداد للحدث قبل أن يجيء، وفي هذه الآية ﴿ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحي.. ﴾ الخ تجد اللقطات سريعة متتابعة لتعبر عن التصرف لحظة الخطر. لكن في الآية الأولى :﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ نجد البطء والهدوء والرتابة ؛ لأنها تحكي عن الإعداد. لما يكون.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يعطي كل جنس قانونا، وكل قانون يجب أن يُحترم في نطاقه، لأن تكافؤ الفرص بين الأجناس هو الذي يريده الله. وحينما أراد سبحانه وتعالى أن يبين لنا المسألة أوضح أن على المؤمن أن ينظر إلى المعطيات من وراء التكاليف، وفي آية الدّيْن على سبيل المثال نجد الحق يوصي المفترض " المدين " وهو الضعيف أن يكتب الدّيْن، ويعطي بذلك إقرارا للدائن وهو القوي القادر فيقول سبحانه :﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ﴾ ( من الآية ٢٨٢ سورة البقرة ) : والمسألة هنا في ظاهر الأمر أنه يحمي الدائن ونقوده، لكن علينا أن ننتبه إلى أنه يحمي المدين من نفسه ؛ لأن الدّيْن إن لم يكن موثقا فالمدين لن يبذل الجهد الكافي للسداد، وباجتهاد المدين نفيد الوجود بطاقة فاعلة. ولكن إن لم نوثق الدّيْن، وتكاسل المدين عن العمل والسداد فقد تشيع الفوضى في المجتمع ويرفض كل إنسان أن يقرض أحدا ما يحتاج إليه. وبذلك تفسد الأمور الاقتصادية.
إذن فسبحانه حين يأمر بتوثيق الدّيْن، وإن كان في ظاهر الأمر حماية للدائن. لكنّه في باطن الأمر يحمي سبحانه المدين، لأن هناك فرقا بين ساعة التحمل للحكم، وساعة أداء الحكم.
مثال ذلك حين يأتيك إنسان قائلا : أنا عندي ألف جنيه وخائف أن يضيع مني فخذه أمانة عندك إلى أن أحتاج إليه، وبذلك يكون هذا الإنسان قد استودعك أمانة ولا يوجد إيصال أو شهود، والأمر مردود إلى أمانة المودَع عنده إن شاء أنكر، وإن شاء أقر. ونجد من يقول لهذا الإنسان : هات ما عندك. يقول ذلك وفي ذمته ونيته أن صاحب الألف جنيه حين يأتي ليطلبه يعطيه له، إنه يَعِد ذلك ساعة التحمل، لكنه لا يضمن نفسه ساعة الأداء، فقد تأتي له ظروف صعبة ساعة الأداء فيتعلل بالحجج ليبعد صاحب المال عنه.
إذن هناك فرق بين حالة واستعداد حامل الأمانة ساعة التحمل وساعة الداء لهذه الأمانة. والمؤمن الحق هو من يتذكر ساعة التحمل والأداء معا، إن بعض الناس يرفض تحمل الأمانة ليزيل عن نفسه عبء الأداء.
والذي يتعلم شيئا يناقض ناموس وجوده كتعلم السحر نقول له : احذر أن تُبتلى وتُفتن، بل ابتعد واحفظ نفسك ولا تستعمل ذلك، واحذر أن تقول أنا سأستعمل ما تعلمته من سحر في الخير، ومن يأتي لي وهو في أزمة سوف أحلها له بالسحر. ونقول لهذا الإنسان : أنت تتكلم عن وقت التحمل، ولكنك لا تتكلم عن وقت الأداء.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( ١١٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : والإفك هو قلب الشيء على وجهه، ومنه الكذب. وعلمنا من قبل أن كل شيء له نسبة كلامية وله نسبة واقعية، فإذا قلت مثلا " محمد مجتهد " فهذه نسبة كلامية، لكن أيوجد واحد في الواقع اسمه محمد وموثوق في اجتهاده ؟. إن كان الأمر كذلك فقد وافقت النسبة الكلامية النسبة الواقعية، ويكون الكلام هو الصدق، أما الكذب فهو أن تقول " محمد مجتهد " ولا يوجد إنسان اسمه محمد، وإن كان موجودا فهو غير مجتهد، ويكون الكلام كذبا، لأن النسبة الكلامية خالفت النسبة الواقعية، وحين يكذب أحد فهو يقلب المسألة ونسمي ذلك كذبا، وشدة الكذب تسمى إفكا. أو الكذب ألا يكون هناك تطابق، وإن لم تكن تعلم، والإفك أن تتعمد الكذب، وهذا أيضا افتراء. ﴿ أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : " فإذا " وهي تعبر عن الفجائية حيث ابتلعت عصا موسى بعد أن صارت حية ما أتى السحرة وجاءوا به من الكذب والإفك وسحروا به أعين الناس.
ويقول سبحانه بعد ذلك :﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١١٨ ) ﴾.
وقوله :﴿ فوقع الحق ﴾ أي صار الحق النظري واقعا ملموسا ؛ لأن هناك فارقا بين كلام يلقى نظريا وكلام يؤيده الواقع، والوقوع عادة يكون من أعلى بحيث يراه ويعرفه كل من يراه.
وقوله سبحانه :﴿ فوقع الحق ﴾ أي ثبت الحق، فبعد أن كان كلاما خبريّا يصح أن يصدّق ويصح أن يُكَذب، صار بصدقه واقعا. ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾. والذي بطل هو ما كانوا يعملون من السحر. إن الحق جعل صدق موسى واقعا مشهودا. وبذلك غُلب السحرة.
ويقول الحق :﴿ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ( ١١٩ ) ﴾.
ولم يغلب السحرة فقط، بل غلب أيضا فرعون وجماعته، وعاش كل من هو ضد موسى في صَغَار، صغار للمستدعى وصغار للمستدعِى. لذلك ذيل الحق الآية بقوله :﴿ وانقلبوا صاغرين ﴾ أي أذلاء.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( ١٢٠ ) ﴾.
ولم يقل الحق : وسجد السحرة، ولكنه قال : " وألقي " مما يدل على أن خرورهم للسجود ليس برأيهم، ولكنه عملية انبهارية مما حصل أمامهم، كأن شيئا آخر ألقاهم ساجدين، وهو الانبهار بالحق. فالساحر منهم كان يعتقد أنه هو الذي يسحر، ثم يفاجأ مجموع السحرة أن موسى حين ألقى عصاه رأوها حية بالفعل فعرفوا أن المسألة ليست سحرا، وحينما ألقوا عصيهم وحبالهم التي جاءوا بها من كل المدائن، قيل إنها حُملت على سبعين بعيرا وشاهدوا كيف أن العصا التي صارت حية أو ثعبانا لقفت كل هذا وابتلعته ! وحجم العصا هو حجم العصا مهما طالت، وهكذا تيقن السحرة أن هذا لا يمكن أن يكون من فعل ساحر، وانظر إلى الاستجابة منهم لمّا رأوا :﴿ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٢١ ) ﴾.
وهل هم سجدوا بعد الإيمان ؟ أم آمنوا بعد السجود ؟ النص هنا يظهر منه أنهم آمنوا بعد السجود، ولكن كان الأمر يقتضي ألا يسجد أحد إلا لأنه آمن، لكن نحن نعرف أن الإيمان عمل قلبي، والسجود عمل عضلي وسلوك عملي، فكل منهم آمن بقلبه فسجد.
وهناك فرق بين أن يؤمنوا فيسجدوا ثم يعلنوا إيمانهم ؛ فيقولوا : آمنا برب العالمين ؛ لذلك نحن لا نرتب السجود على إيمان، بل نرتب السجود مع القول بالإيمان وبإعلان الإيمان ؛ لأن إعلان الإيمان ؛ شيء، والإيمان شيء آخر، فكأنهم آمنوا فخروا ساجدين وبعد هذا قاموا بإعلان الإيمان، وكأن الناس سألوهم : ما الذي جرى لكم ؟ فقالوا :﴿ آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
إذن فمن يحاول أن يسترك على النص فعليه أن ينتبه إلى أن إخبارهم عن الإيمان يعني وجود الإيمان أولا، والسحرة قد آمنوا فسجدوا، فاستغرب منهم الناس هذا السجود، وهنا قال السحرة : لا تستغربوا ولا تتعجبوا فنحن قد آمنا برب العالمين. ﴿ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ١٢١ ﴾ ( سورة الأعراف ).
وقيل في بعض التفاسير : إن فرعون قال : أنا رب العالمين. لكن السحرة لم يتركوا قوله هذا فأعلنوا أن رب العالمين هو :﴿ رب موسى وهارون ﴾. وقال فرعون : لقد ربيت أنا موسى، فقالوا : لكنك لم ترب هارون.
ولذلك أوضح الحق هنا أن رب العالمين هو :﴿ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ( ١٢٢ ) ﴾.
ولأن السحرة أعلنوها واضحة بالإيمان برب العالمين رب موسى وهارون، وكان لابد أن يغضب فرعون، فيأتي القرآن بما جاء على لسانه :﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ١٢٣ ) ﴾.
وكأن فرعون مازال يحاول تأكيد سلطانه، ونعلم أن بني إسرائيل اختلطوا بالناس في مصر، ومنهم من تعلم السحر. ولذلك اتهم فرعون السحرة بأنهم قد اتفقوا مع موسى على هذه المسألة.
لقد كان فرعون في مأزق ويريد أن يخرج منه ؛ لأن الناس جميعا قد شاهدوا المسألة، وهو لا يريدهم أن يتشككوا في ألوهيته، فينهدم الصرح الذي أقامه على الأكاذيب ؛ لذلك قال للسحرة : إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة.. أي أنكم اتفقتم مع موسى، وسيأتي ويقول : اتهاما لموسى :﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ ( من الآية ٧١ سورة طه ) ونتيجة لهذا المكر المتوهم بين بني إسرائيل وموسى يتوعدهم فرعون :﴿ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٢٤ ) ﴾.
والوعيد كما نراه قاس وفظيع، فتقطيع الأيدي والأرجل ثم الصلب كلها أمور تخيف.
فماذا يكون الرد ممن يتلقون هذا الوعيد، وقد خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم ؟ إنهم يقولون :﴿ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ( ١٢٥ ) ﴾.
إنك قد عجلت لنا الخير لأننا سنكون في جوار ربنا، فأنت بطيشك وحماقتك قد أسديت لنا معروفا وخيرا من حيث لا تدري.
ويزيدون في تقريع فرعون بما يجيء في القرآن على ألسنتهم :﴿ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ( ١٢٦ ) ﴾.
ما الذي تكرهه منا لأن " تنقم " تعني تكره، وقولهم لفرعون : أليس الذي تكرهه منا أنا آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ؟ وهل الإيمان بآيات الإله حين تجيء مما يُكره ؟ ! ! ويسمون ذلك في اللغة تأكيد المدح بما يشبه الذم ؛ كأن يقول إنسان : ماذا تكره في ؟ أصدقي ؟ أمانتي ؟ أجودي ؟ أعلمي ؟.
كأنه يعدد أشياء يعرف كل الناس واقعا أنها لا تُكره، لكن الخطأ في المقاييس من يكره الصواب، فهي أمور لا تستحق أن تُكره أو تعاب أو تُذَم. لقد تيقنوا أن لقاء الله على الإيمان هو الخير وكلهم يفضل جوار الله على جوار فرعون. وهذا الذي يعتبره فرعون عقابا إنما يثبت خيبته حتى في توقع العقوبة ؛ لأنه لو لم يهددهم بهذه الميتة فهم سيموتون ليرجعوا إلى الله، وهذا أمر مقطوع به، وكل مخلوق مصيره أن ينقلب إلى الله، وكأنهم أبطلوا وعيد فرعون حين قال لهم :
﴿ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٢٤ ) ﴾( سورة الأعراف ) ثم يتجهون إلى ربهم وخالقهم فيقولون :﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾. و " الإفراغ " أن ينصب شيء على شيء ليغمره، وكأنهم يقولون : أعطنا يا رب كل الصبر، وهم يحتاجون إلى الصبر لأن فرعون قد توعدهم بأن يقطع أيديهم وأرجله. ولذلك قال بعض العارفين بالله : عجبي لسحرة فرعون كانوا أول النهار كفرة سحرة وكانوا آخر النهار شهداء بررة.
ويقول سبحانه :﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( ١٢٧ ) ﴾.
وهكذا نعرف أن المقربين من فرعون هم أول من خافوا على سلطانهم، ويدل هذا القول أيضا على أن فرعون لم يتعرض لموسى بأي أذى ؛ لأنه ما زال يعيش في رهبة اليقين وصولة الحق مما جعله متوجسا وخائفا من موسى ؛ لأن فرعون أول من يعلم أن مسألة ألوهيته كذب كلها، ويعلم جيدا أن موسى على حق، لكن إعلان انهزامه أمام الجمع ليس أمرا سهلا على النفس البشرية، وسأل الملأ من قوم فرعون الذين اهتز أمامهم سلطانه ومكانته، قالوا لفرعون : أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ؟. أو فيما يبدوا أن موسى وهارون تركا المكان بعد أن انتهيا من أمر السحرة، ولم يقبض عليهما فرعون ؛ لذلك تساءل الملأ من قوم فرعون :﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ ﴾( من الآية ١٢٧ سورة الأعراف ) : و " يذرك " أي يدعك ويتركك، وكان فرعون يعتقد أن هناك آلهة علويين وآلهة سفليين، وهو رب العالم السفلي كله. لذلك قالوا :﴿ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ ﴾. وهناك قراءة أخرى " ويذرك إلاهتك أي عبادتك }. أي يتركك أنت ويترك عبادتك.
ويقول فرعون :﴿ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ﴾.
وحتى تلك اللحظة لم يتعرض فرعون لموسى، ولا يزال خوفه من موسى يمنعه من الاقتراب أو الدنو منه أو الاتصال به ولو بكلمة، إنه يأخذ الحذر من أن يقدم على شيء ضد موسى، فيفاجئه موسى مفاجئة ثانية. ويقال إن الثعبان الذي ظهر ساعة ألقى موسى عصاه فتح شدقيه واتجه إلى فرعون، فقال : كف عني وأومن بما جئت به. وهو أمر محتمل ؛ لأن فرعون حتى هذه اللحظة لم يجرؤ على الاقتراب من موسى، وجاء بخبر قتل الأبناء وسبي النساء ولم يأت بسيرة موسى. ﴿ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ ( من الآية ١٢٧ سورة الأعراف ).
والقوي حين يملك القدرة على الضعيف لا يشد الخناق عليه شدا ليفتك به ؛ لأنه يعرف ضعفه، ويستطيع أن يناله في أي وقت، لكن لو كان الخصم أمامك قويا فأنت ترهبه بالقوة حتى يخضع لك. وهنا يقول فرعون :﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ :
إن فرعون يؤكد لقومه أنهم مسيطرون وغالبون، ولن يستطيع قوم موسى أن يفلتوا منهم. ويؤكد فرعون : سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم ؛ لأن الأبناء هم العدة، والنساء عادة شأنهن مبني على الحجاب، وعلى الستر، وفي إبقاء المرأة وقتل الرجل إذلال للرجال ؛ لأن التعب سيكون من نصيب النساء. ولذلك كان العرب حين يغيرون على عدو، يصحبون نساءهم لتزيد الحمية ولا يخور ولا يجبن واحد واحد وتراه زوجته أو أخته أو ابنته وهو على هذا الحال، وكذلك كان العرب يخافون الانهزام حتى لا يمسك العدو نساءهم ويأخذهن سبايا.
وهنا يؤكد فرعون إصراره على إذلال قوم موسى بأن يعيد قتل الأبناء، وأن يستحيي النساء، وكان الفرعون يفعل مثل ذلك الأمر من قبل، والسبب في ذلك أن بني إسرائيل كانوا يساعدون ملوك الهكسوس، وبعد أن طرد الفراعنة الهكسوس، اتجهوا إلى إيذاء بني إسرائيل الذي كانوا في صف الهكسوس، ومن بقي من بني إسرائيل تعرض لتقتيل الأبناء، لكن الحق أنقذ موسى حين أوحى لأمه أن تلقيه في اليم ليربيه فرعون. وهاهو ذا فرعون يعيد الكرة مرة أخرى بالأمر بتقتيل الأبناء وسبي النساء.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( ١٢٨ ) ﴾.
ويقرر موسى الحقيقة الواضحة وهي أن الأرض ليست لفرعون، والعاقبة لا تكون إلا للمتقين. وكأنه بهذا القول يريد أن يردهم إلى حكم التاريخ حيث لا تكون العاقبة دائما للمتقين، فإن قال فرعون : وإنا فوقهم قاهرون، مستعلون غالبون مسلطون مسيطرون، فإن موسى يرد على ذلك : أنا أستعين بمن هو أقوى منك. إن موسى عليه السلام يأمر قومه بأن يستعينوا بالله، ويصبروا على ما ينالهم من بطش فرعون وظلمه.
ولأن قوم موسى كانوا من المستضعفين، فإن الله وعدهم أن يؤمّنهم في الأرض ويمكن لهم فيها وهذا إخبار من الله وإخبار الله حقائق. لكن ماذا كان موقف قوم موسى منه بعد هذا النصر العظيم لموسى، والنصر لهم ؟.
نجد الحق سبحانه يقول :﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( ١٢٩ ) ﴾.
لقد قالوا لموسى : من قبل أن تأتينا أوذينا بأن قتلوا الأبناء واستحيوا النساء، وبعد أن جئت ها نحن أولاء نتلقى الإيذاء. كأن مجيئك لم يصنع لنا شيئا. إذن هم نظروا للابتلاءات التي يجريها الله على خلقه، ولم ينظروا إلى المنة والمنحة والعطاء وإلى آلاء الانتصار، وإلى أن فرعون قد حشد كل السحرة، وبعد ذلك هزمهم موسى، وكان يجب أن يكون ذلك تنبيها لهم لقدر عطاءات الله، هم يحسبون أيام البلاء، ولم يحسبوا أيام الرخاء.
وقوله :﴿ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ يدل على أنهم سوف يخونون العهود، ويفعلون الأشياء التي لا تتناسب مع هذه المقومات. وفي الإسلام نجد عمرو بن عبيد وقد دخل على المنصور قبل أن يكون أميرا للمؤمنين، وكان أمامه رغيف أو رغيفان، فقال : التمسوا رغيفا لابن عبيد. فرد عليه العامل : لا نجد. فلما ولي الخلافة وعاش في ثراء الملك ونعمته دخل عليه ابن عبيد وقال : لقد صدق معكم الحق يا أمير المؤمنين في قوله :﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾( من الآية ١٢٩ سورة الأعراف ) : وقد قال موسى لقومه هذا القول بعد أن عايروه بعدم قدرته على رد العذاب عنهم. وهكذا استقبل قوم موسى أول هزيمة لفرعون أمام موسى، وقالوا له : أوذينا من قبل أن تأتينا، ومن بعد ما جئتنا، أي بالتذبيح، واستحياء النساء، وقتل الأبناء، فكأن مجيئك لم يفدنا شيئا لأننا مقيمون على العذاب الذي كنا نُسامه. فلا حاجة لنا بك، ولا ضرورة في أن تكون موجودا ؛ بدليل أن الذي حدث بعدك هو الذي حدث قبلك.
ولم يلتفتوا إلى أن الإيذاء من قبل ومن بعد لا ينشأ إلا من عدو، فكأن موسى يرد عليهم بأن أسباب الإيذاء ستنتهي، وأن الله سيهلك عدوكم الذي آذاكم من قبل ويؤذيكم من بعد. ولن يقتصر الأمر على هذه النعمة ؛ بل يزيدكم بأن يستخلفكم في الأرض، ويعطيكم ملكهم ويعطيكم أرضهم. وكأن هنا أمرين : الأمر الأول سلبي : وهو إهلاك العدو، والأمر الثاني إيجابي : وهو استخلافكم في الأرض وهذا أمر لكم، ووعد من الله بأن تكون لكم السيادة والملك وعليكم أن تنتبهوا إلى نعمة الله عليكم بإهلاك عدوكم، وباستخلافكم في الأرض لن تترك هكذا، بل أنا رقيب عليكم أنظر ماذا تفعلون، هل تستقبلون هذه النعم بالشكر وزيادة الإيمان واليقين والارتباط بالله، أو تكفرون بهذه النعمة ؟
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى ﴿ عسى ﴾ فهي كلمة كما يقول علماء اللغة تدل على الرجاء، ومعنى الرجاء أن ما بعدها يكون مرجو الحصول. وهناك فرق بين التمني وبين الرجاء. فالتمني أن تتطلب أمرا مستحيلا أو يكون في الحصول عليه عسر، ولكنك تريد فقط بالتمني إشعار حبك له، فأنت إذا قلت : ليت الشباب يعود، فهذا أمر لا يكون، ولكنك تعلن حبك لمرحلة الشباب. وقصارى ما يعطيه أن يعلمنا أنك تحب هذا المتمنى. لكن هل يتحقق أولا يتحقق.. فهذه ليست واردة.
لكن " الرجاء " شيء محبوب يوشك أن يقع، وهكذا نعرف أن الرجاء أقوى من التمني. وأداة التمني " ليت "، وأداة الرجاء " عسى ". وحين يكون بعد " عسى " ما يُرْجى فلذلك مراحل تتفاوت بقوة أسباب الرجاء في الوقوع. فأنا مثلا إذا قلت : عسى أن أكرمك فهذا أمر يعود إلىّ أنا، لأن إكرامي لك يقتضي بقائي، وعدم تغير نفسي من ناحيتك، فمن الجائز أن تتغير نفسي قبل أن أكرمك ولا يقع إكرامي لك. هذا هو الرجاء من صاحب الأغيار، ومادمت صاحب أغيار فقد لا أقدر على الإكرام، أو أقدر ولكني لم أعد أحب هذا الأمر فقد انصرفت نفسي عنه، وهذا يفسد الرجاء ويقلل الأمل في حصوله. فإذا قلت لإنسان : عسى أن يكرمك فلان وهو مساويه، فهذا أمر مستبعد قليلا ؛ لأن من يقول ذلك لا يملك أن يقوم فلان بإكرام المساوي له، لأنه صاحب أغيار.
لكن إذا قلت : عسى الله أن يكرمك فهذه أقوى، لأن ربنا لا يعجزه شيء عن إكرام إنسان. وهل يقبل الله أن يجيب رجاءك ؟ هذه مسألة تحتاج إلى وقفة، فسبحانه من ناحية القوة له مطلق القدرة فلا شيء يعطله أو يستعصي أو يتأبى عليه. فإذا ما قال الحق عن نفسه :﴿ عسى ربّكم ﴾ فقد انتهت المسألة وتقرر الوعد وتحقق، وهذا ما يقال عنه رجاء محقق. إذن مراجل الرجاء هي : عسى أن أكرمك، وعسى أن يكرمك زيد، وعسى الله أن يكرمك، وأقوى ألوان الرجاء أن يعد الحق بالإكرام أو بالرحمة.
﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾ ( من الآية ١٢٩ سورة الأعراف ) : والكلام كما نراه هو من موسى، ولا يقدر على هذه المسألة إلا الله، فما موقع هذا من تحقيق الرجاء ؟. نعلم أن موسى رسول أرسله الله لهداية الخلق ؟، وأرسله مؤيدا بالمعجزة، فإذا كان الرسول المؤيد بالمعجزة قد أمره الله أن يبلغهم ذلك، فيكون الرجاء منه مقبولا :﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾.
ومرة تكون إزالة الشيء الضار نعمة بمفردها، أما أن يهلك الله عدوي ويعطيني الحق مكانة عدوي العالية فهذه نعمة إيجاب، تكون بعد نعمة سلب. ومثل هذا ما سوف يحدث يوم القيامة ؛ لأن الحق يقول :﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ ( من الآية ١٨٥ سورة آل عمران ) : ومجرد الزحزحة عن النار فضل ونعمة، فما بالك بمن زُحزح عن النار وادخل الجنة ؟.
لقد نال نعمتين. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾. وتلك وحدها نعمة تليها نعمة أخرى هي :﴿ ويستخلفكم في الأرض ﴾. لكن ثمن هذه النعم هو أن ينظر ماذا تعملون ؟. هل ستشكرون هذه النعم وتكونون عبادا صالحين، أو تجحدونها وتكفرونها ؟ فالإنسان ظلوم كفار.
وكلمة " ينظر " إذا جاءت على الإنسان فُهم المراد منها أي يراك بناظره. وإذا أُسندت لله فالأمر مختلف، فتعالى الله أن تكون له حدقة عين مثل عيوننا. لكنه سبحانه لا يجهل شيئا لينظره ؛ لأنه هو سبحانه عالمه قبل أن يقع. ونعلم أن هناك فارقا بين الحكم على المخلوق بعلم الخالق، وبين الحكم على المخلوق بعمل المخلوق.
مثال ذلك نجد الأستاذ في مادة ما يعرف مستويات الطلاب الذين يدرسون على يديه. وعميد الكلية يقول له : ما رأيك ؟ فيقول فلان تلميذ يستحق النجاح بتقدير مرتفع والثاني لابد أن يرسب. الأستاذ يقول هذا الحكم بناء عن علمه بحال كل طالب. لكن إذا أرسب الأستاذ طالبا بناء على تقديره دون امتحان فالطالب الذي رسب قد يقول لأستاذه : أنت شططت في الحكم ؛ ولو مكنتني من الامتحان لنجحت. وحين يقرر العميد امتحان الطالب، ويؤدي الامتحان بالفعل، ولكنه يرسب. هنا يتأكد للعميد أن الحكم برسوب طالب قد عرفه الأستاذ أولا ثم تلا ذلك إخفاق الطالب في الامتحان.
إن الله سبحانه حين يقول :﴿ فينظر كيف تعملون ﴾. هو سبحانه لا ينظرها ليعلمها حاشا لله فهو عالمها، ولكنه لا يريد أن يحكم بعلمه على خلقه. ولكن يريد أن يحكم على خلقه بفعل خلقه، وسبحانه عالم أزلا بكل من يهدي ومن يضل، ولذلك خلق الجنة وخلق النار لتسع كل منهما كل الخلق، ولم يخلق أماكن في الجنة على قدر من سوف يدخلونها فقط، وكذلك لم يخلق أماكن في النار لا تسع فقط أهل النار، بل يمكنها أن تسع كل الخلق، ولم يحكم بعلمه في هذه المسألة، بل يترك الحكم الأخير لواقع الأشياء مادام هناك اختيار للإنسان، فعلى فرض أنكم جميعا آمنتم فلكم كلكم أماكن في الجنة. وعلى فرض أنكم والعياذ بالله كفرتم فلكم أماكن في النار، وسبحانه لن ينشئ شيئا جديدا، بل أعد كل شيء وانتهى الأمر.
وحين يأتي أهل الجنة ليدخلوا الجنة، وأهل النار سوف يكون لأهل الجنة مقاعد أخرى كانت مخصصة لمن دخلوا النار. ويعلن لأهل الجنة : أورثتموها وخذوها أنتم :﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ﴾ ( من الآية ٤٣ سورة الأعراف ) : وهي ميراث من الذين كانت معدة لهم ولم يقوموا بالعمل المؤهل لامتلاكها. فإياك أن تفهم أن نظر الله إلى خلقه ليعلم منه شيئا. لا. إنه العليم أزلا.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ﴾ ( من الآية ٢٥ سورة الحديد ) : وسبحانه يعلم أزلا ويتحقق بسلوك الناس علمهم بأفعالهم واقعا، وعلم الواقع هو الذي يكون حجة على الخلق. وهنا في الآية التي نحن بصددها ثلاثة أشياء : أن يهلك سبحانه عدوكم، وأن يستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون. ونحقق فيما تحقق منهما.
وجاء سبحانه في مقدمة الإهلاك، فقال :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٣٠ ) ﴾.
وهكذا نرى أن الإهلاك لم يحدث دفعة واحدة، بل على مراحل لعلهم إذاأصابتهم شدة يضرعون إلى الله.
نحن نعلم أن السنة هي العام.. أي من مدة إلى نهاية مدة مثلها، لكنها تطلق أيضا على الجدب والقحط. ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في دعائه على قومه :" اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ١أي أن ينزل بهم سبحانه بعضا من الجدب ليتأدبوا قليلا.
ويقال : " أسنت القوم " أي أصابهم قحط وجدب. إذن فالسنة المراد منها هنا القحط والجدب.
ولماذا سماها سنة ؟ لأن نعم الله متوالية كثيرة، وابتلاءاته لخلقه بالشر قليلة في الكون، وسبحانه ينعم عليهم مدة طويلة ثم يبتليهم في لحظة، فإذا ما ابتلاهم في وقت يؤرخ به، ويقال حدث الابتلاء سنة كذا. فيقال : سنة الجراد، سنة حريق القاهرة، وهكذا نجد الناس تؤرخ بالأحداث المفجعة ؛ لأن الأحداث السارة عادة تكون أكثر من الأحداث السيئة. ولذلك قلنا إن الذي يعد أيام البلاء عليه أن يقارناها بأيام الرخاء، وعلى الواحد منا أن ينظر إلى أيام السنة التي عاشها، إن جاء له يوم بلاء حزن نقل له : وكم مرة عشت ونعمت بالرخاء ؟ ونجد أن أيام الرخاء هي أكثر من أيام البلاء :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾.
وعرفنا أن السنين كما قلنا تعني الجدب والقحط، أما قوله سبحانه :﴿ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾. فهو يدل على أن بعضا من الثمار كان موجودا، أو كان الجدب والقحط في البادية، أما " نقص الثمرات " فكان في الحضر، ويقال : إن النخلة الواحدة في الحضر كانت لا تطرح في السنة إلا بلحة واحدة. ولماذا هذه البلحة ؟ لأن أسباب رحمته سبحانه يجب أن تبقى في خلقه، ولو أن النخل كله لم يطرح ولا بلحة واحدة لا نقطع نسل النخيل ؛ لذلك يُبقي الله أسباب رحمته لنا.
إننا نرى في واقعنا أنهم مهما حاولوا أن يستزرعوا فواكه بدون بذور بواسطة التقدم العلمي المعاصر، نجد ثمرة وقد شذت وفيها بذرة، لماذا ؟ يقال لنا لاستبقاء النوع، فلو خرجت كل الثمار بلا بذور ثم أكلناها جميعها فكيف نزرع محصولا جديدا ؟ ولذلك قلنا من قبل إن الحق سبحانه وتعالى من رحمته بالخلق في استبقائه للنعم ومقومات الحياة لم يجعل الثمار حلوة تستساغ إلا بعد أن تَنْضج بذرتها، فأنت حين تفتح البطيخة إن كان بذرها أبيض تجد طعمها لا يستساغ وترميها. لكن حين يسودُّ بذرها ويكون صالحا لأن تعيد زراعته، هنا تكون ثمرة البطيخة ناضجة وحلوة الطعم. وبذلك يوضح لك الحق أن الثمار لن تصير مقبولة ومستساغة إلا بعد أن تنضج بذرتها لتكون صالحة لاستنباتها من جديد، وفي هذا استبقاء للرحمة، وحتى مع العاصين نجده سبحانه يستبقي الرحمة معهم.
﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ١٣٠ )( سورة الأعراف ) : وقوله :{ لعلهم يذكرون ﴾ يعني أن على الإنسان أن يتذكر أنه الخليفة في الأرض وأنه غير أصيل في الكون حتى يظل العالم مستقيما. لكن الذي يفسد العالم أن الإنسان حينما تستجيب له أسباب الحياة، وسننها الكونية ويحرث ويبذر ويطلع الزرع، ويشعل النار ويستخرج المياه من الآبار ينسى أن كل ذلك " أسباب " ولا يتذكر المُسبّب إلا حينما تمتنع عليه الأسباب.
والمثال في حياتنا اليومية أن الإنسان منا إذا جعل ليفتح صنبور المياه في البيت فلم يجد ماء فيتجه أول ما يتجه إلى محبس المياه الذي يتحكم في مياه المنزل ويرى هل به خلل أو سدد، وإن وجده سليما، يبحث هل أنبوبة وماسورة المياه الرئيسية مكسورة أولا ؟ وإن كانت ماسورة المياه سليمة فهو يبحث عن الخلل في آلة رفع المياه، ويظل يبحث في الأسباب الكثيرة، وقديما لم تكن المياه تأتي إلا من الآبار وعندما لا يوجد في البئر ماء يقول العبد : يا رب اسقني. والحضارة الآن أبعدتنا بالأسباب عن المسبّب.
والحق قد أخذ قوم فرعون بالسنين ونقص الثمرات لينفض أيديهم من أسبابها، فإذا نفضت اليد من الأسباب لم يبق إلا أن يلتفتوا إلى المسبِّب ويقولون : " يا رب " ويقول القرآن عن الإنسان :﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ﴾ ( من الآية ١٢سورة يونس ) : إذن فالإنسان يذكر المسبِّب حين تمتنع عنه الأسباب، لأنها مقومات الحياة، فإذا امتنعت مقومات الحياة يقول الإنسان : يا رب، وهكذا كان ابتلاء الله لقوم فرعون بأخذهم بالسنين ونقص الثمرات ليذكروا خالقهم.
١ رواه البخاري في التفسير، ومسلم في المنافقين، وأحمد ١ ـ ٢٨٠، ٤٤١..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٣١ ) ﴾.
والحسنة إذا أطلقت فهي الأمر الذي يأتي من ورائه الخير. ولكن الحسنة مرة تكون لك، ومرة تُطْلب منك، فالحسنة التي لك في ذاتك أولا أن تكون في عافية وسلام، ثم الحسنة في مقومات الذات ومقومات الحياة، وهي في النبات، والحيوان، والخصب والثروة. والحسنة المطلوبة منك هي أيضا لك. فسبحانه يطلب منك عمل شيء يورِّثك في الآخرة حسنة، ولذلك يقول سبحانه :﴿ من جاء بالحسنة فله، عشر أمثالها ﴾ ( من الآية ١٦٠ سورة الأنعام ) : وهذه هي الحسنة التي تعطي الإنسان خيرا فيما بعد. إذن فالحسنة التي في ذاتك من عافية وسلامة أو في مقومات الذات من ثمرات وحيوانات وخصب وأعشاب وثراء فكلها موقوتة بزمن موقوت هو الدنيا. والحسنة الثانية غير محدودة لأن زمنها غير محدد. فأي الحسنات أرجح وأفضل بالنسبة للإنسان ؟. إنها حسنة الآخرة.
وقوله الحق :﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ﴾ أي جاء لهم قدر من الخصب والثمار وغير ذلك من الرزق يقولون : " لنا هذه " أي أننا نستحقها ؛ فواحد يقول : أنا استحقها لأنني رتبت لها وأتقنت الزراعة والحصاد مثلما قال قارون :﴿ إنما أوتيته على علم عندي ﴾ ( من الآية ٧٨ سورة القصص :)وأجري عليه الحق التجربة، فمادام يدعي أنه جاء بالمال على علم من عنده فليجعل العلم الذي عنده يحافظ له على المال أو يحافظ له على ذاته. وهم قالوا عن الحسنات التي يهبها الله لهم : " قالوا لنا هذه " أي نستحقها، لأننا قدمنا مقدمات تعطينا هذه النتائج. وجرت العادة قديما بأن يفيض النيل كل سنة يغمر الأرض، ثم يبذرون الحب وينتظرون الثمار. فإن جاءت لهم سيئة مثل أخذهم الله لهم بالسنين ينسبون ذلك إلى موسى.
﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ( من الآية( ١٣١ ) سورة الأعراف ) : فإذا ما جاءتهم سيئة يطّيّرون أي يتشاءمون لأن الطيرة هي التشاؤم، وضده التفاؤل، ويقال : " فلان طائره نحس "، و " فلان طائره يمن وسعد ". وقديما حينما كانوا يريدون طلب مسألة ما، يأتون بطير ويضعه صاحب المسألة على يده ويزجره ويثيره، فإن طار يمينا فهذا فأل حسن، وإن طار يسارا فهذا فأل سيئ، والحق هنا يوضح : لا تظلموا موسى، لأن شؤمكم أو حظكم السيئ ليس من موسى. لأن موسى لا يملك في كون الله شيئا، وإنما المالك للكون هو رب موسى. وكأن الحق يريدهم أيضا ألا يفتنوا في موسى إن صنع شيئا يأتي لهم بخير، وهنا يقول لهم لا تتطيروا بموسى، لأن طائركم من عند الله.
ولأن أحداث الحياة صنفان : حدث لك فيه مدخل، مثل التلميذ الذي لم يذاكر ويرسب، أو إنسان لا يحسن قيادة سيارته فقادها فعطبت به أو أصاب أحدا إصابة خطيرة. وهنا لا غريم لهذا الإنسان، بل هو غريم نفسه. وهناك شيء يقع عليك، واسمه حدث قهري، فالإنسان في الأحداث بين أمرين اثنين : إما مصيبة دخلت عليه من ذات نفسه لتقصيره في شيء. وإما أحداث قدرية تنزل بالإنسان ونقول إنها من عند الله لحكمة لا يعرفها الإنسان ؛ لأن الإنسان ينظر إلى سطحيات الأشياء، وإلى عاجل الأمر فيها، ولكنه لا ينظر إلى عاقبة الأمر. ولهذا تحدث له بعض من الأحداث ليس له فيها مدخل.
مثال ذلك : أن يكون للإنسان ابن نجيب وذكي وترتيبه دائما من العشرة الأوائل، ثم جاء في ليلة الامتحان أو في أول يوم الامتحان وأصابه صداع جعله لا يعرف كيف يجيب عن أسئلة الامتحان ورسب، وهذه مصيبة ليس له مدخل فيها. وعادة ما يحزن الناس من مثل هذه المصائب لكن المؤمن يقول : إن الولد لم يقصر، وهذا أمر جاء من الله، وسبحانه منزه عن العبث، بل حكيم ولابد أن له حكمة في مثل هذه الأمور. وبعد مدة تتبين الحكمة، فلو كان الولد قد نجح لأصابته عين الحسود. وحدث له ما يكره، فكأن الله يصنع له تميمة يحميه بها من الحسد. وقديما حين كانوا يصنعون للطفل الجميل " فاسوخة "، ولا يهتمون بنظافته ولا بملابسه، لماذا ؟ يقال حتى لا تتجه إليه عين الحاسد.
وأقول : وما الذي يدريك أن الله سبحانه وتعالى صنع الحادث الطارئ ليرد عنه العين، ويُسكت الناس عنه ؟ وما الذي يدريك أن الله أراد له أن يرسب هذا العام لأنه لم يكن يستطيع الحصول على المجموع الذي يدخله الكلية التي يريدها، ثم يستذكر في العام التالي وتكون المذاكرة سهلة بالنسبة له، ونقول له : احمد ربك على أنك لم تنجح في العام السابق وأن الله أراد بك خيرا.. لتبذل جهدا وتنجح وتنال المجموع الذي أردته لنفسك.
إذن فالمقادير التي تجري على الناس بدون دخل لهم فيها، فلله فيها حكمة، وهنا يقال :﴿ طائركم عند الله ﴾، أما إن كان للإنسان دخل فيما يجري له فيقال : طائرك من عندك أنت وشؤمك من نفسك وعصيانك.
﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٣١ ) ﴾ : ألم يتطير اليهود في المدينة برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قالوا : قلت الأمطار وارتفعت الأسعار من شؤم مجيء هذا الرجل، ولم يتفهموا حكم الله. لقد كانوا سادة في الجزيرة ؛ لأنهم أهل علم بالكتاب وسيطروا على حركة السوق التجارية، وتعاملوا في الربا وتجارة السلاح وكان عندهم الحصون، والأسلحة، وأراد الله أن يشغلهم بأخذ شيء من أسبابهم ويهد كيانهم ليلفتهم إلى أنهم خرجوا عن المنهج وإلى أن هناك رسولا قد جاء بعودة إلى المنهج.
وقوله الحق :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ يفيد أن هناك قلة تعلم. فما موقف هذه القلة، ولماذا لم يرفضوا موقف الكثرة ؟. كان موقفهم هو الصمت خوفا من الطغيان ؛ لأن الطاغية أجبرهم وقهرهم وجعلهم يسكتون ولا يعترضون على باطل، ونرى في حياتنا كثيرا من الناس يعلمون الزور ويعلمون الطغيان ولكنهم لا يتكلمون.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( ١٣٢ ) ﴾.
أي وقال قوم فرعون لموسى عليه السلام : أي شيء تأتينا به من المعجزات لتصرفنا عما نحن عليه فلن نؤمن لك، وسموا ما جاء به موسى " آية " استهزاء منهم وسخرية. وكل هذه مقدمات تبرر الإهلاك الذي قال الله فيه :﴿ عسى ربكم أن يهلك عدوكم ﴾ ( من الآية ١٢٩ سورة الأعراف ) : وأعلنوا أن ما جاء به موسى هو سحر على الرغم من أنهم رأوا السحرة الذين برعوا في السحر وعرفوا طرائقه وبذّوا فيه سواهم قد خروا ساجدين وآمنوا، كيف يحدث هذا والسحرة كلهم جُمِعوا إلى وقت معلوم ؟ وشهد كل الناس التجربة الواقعية التي ابتلعت فيها عصا موسى كل سحر السحرة فآمنوا وسجدوا، فكيف يتأتى لمن لا يعرفون السحر أن يتهموا موسى بالسحر ؟ وكيف يظنون أن ما يأتي به من آيات الله هو لون من السحر ؟. إنهم يقولون كلمة " مهما " وهي تدل على استمرارية العناد في نفوسهم مثلما يقول واحد لآخر : لقد صممت على ألا أقبل كلامك، فيكرر الرجل : انتظر لتسمع حجتي الثانية فقد تقنعك، فيقول : مهما تأتني من حجج فلن أسمع لك، وهذا يعني استمرارية العناد والجحود والتمرد ويقدمون حيثيات هذا الجحود فيقولون :﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( ١٣٢ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : وإذا كانوا يظنون أن آيات الله التي مع موسى من السحر، فهل للمسحور إرادة مع الساحر ؟. ولو كانت المسألة سحرا لسحركم وانتهى الأمر. وقلنا قديما في الرد على الذين قالوا : إن محمدًا يسحر الناس ليؤمنوا به، قلنا إذا كان هو قد سحر الناس ليؤمنوا به، فلماذا لم يسحركم لتؤمنوا وتنفض المسألة ؟ إن بقاءكم على العناد دليل على أنه لا يملك شيئا من أمر السحر.
وأنت ساعة تسمع كلمة " مهما " تعرف أن هناك شرطا، وله جواب، ويقول العلماء : إن أصلها " مه " أي كُفّ عن أن تأتينا بأية آية فلن نصدقك. وهذا يعني أن هناك إصرارا وعنادا على عدم الإيمان.
ويبين الحق عقابه لهم على ذلك :
﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( ١٣٣ ) ﴾.
وكلمة الطوفان يراد بها طغيان ماء، والماء كما نعلم هو سبب الحياة، وقد يجعله الله سببا للدمار حتى لا تفهم أن المسائل بذاتيتها، بل بتوجيهات القادر عليها، وعندما ننظر إلى الطوفان الذي أغرق من قبل قوم نوح، ولم ينج أحد إلا من ركب مع نوح في السفينة ؛ وهنا مع قوم موسى لا توجد سفينة، لأن الله يريد أن يؤكد لهم العقاب على طغيانهم. وإذا كان الطوفان قد أصاب آل فرعون ومعهم بنو إسرائيل لدرجة أن الواحد منهم كانت المياه تبلغ التراقي فيبقى واقفا لأنه لو جلس يموت، ويظل هكذا، وأمطرت عليهم السماء سبعة أيام، لا يعرفون فيها الليل من النهار ويرون أمامهم بيوت بني إسرائيل لا تلمسها المياه، وهذه معجزة واضحة، لقد عمّ الطوفان وأراد الحق أن ينجي بني إسرائيل منه دون حيلة منهم حتى لا يقال آية كونية جاءت على هيئة طوفان وانتهت المسألة، لكن الطوفان جاء لبيوتهم ولم يلمس بني إسرائيل.
وقال الرواة : إن الطوفان دخل على فرعون حتى صرخ واستنجد بموسى، وقال له : كف عنا هذا ونؤمن بما جئت به، ودعا موسى ربه فكف عنهم الطوفان
لكنهم عادوا إلى الكفر.
وجعل الله من آياته لمحات، وإشارات، بدأت بالطوفان، وحين يوضح ربنا : أنا عذبت بالطوفان قوم نوح، وقوم فرعون، فهو يعطينا ملامح تشعرنا بصدق القضية، فيهبط السيل في أي بلد ويهدم الديار ويغرق الزرع والحيوانات، لنرى صورة كونية، وكذلك الجراد يرسله الله على فترات فيهبط في أي وقت من الأوقات ؟، ونقيم الحملات لمكافحته، وهذا دليل على صدق الأشياء التي حكى الله عنها، فلو لم يوجد جراد ولا طوفان لكنا عرضة ألا نصدق. وابتلاهم الله بالقمل كذلك. " والقُمَّل " هو غير القَمْل. فالقَمْل هو الآفة التي تصيب الإنسان في بدنه وثيابه وتنشأ من قذارة الثياب، أما القُمَّل فقيل هو السوس الذي يصيب الحبوب، ومفردها قُمَّلَة، وقيل هو ما نسميه بالقراد : وقيل هو الحشرات التي تهلك النبات والحرث، وحين نراه نفزع ونبحث عن تخليص الزرع منه باليد والمبيدات، وكل ذلك من تنبيهات الحق للخلق، وهي مجرد تنبيه وإرشاد ولَفْتٌ للالتفات إلى الحق.
وكذلك يرسل الله عليهم " الضفادع "، وعندما يضع أي إنسان منهم يده في شيء يجد فيها الضفادع ؛ فإناء الطعام يرفع عنه الغطاء فترى فيه الضفادع، والمياه التي يشربها يجد فيها الضفادع ! ! وإن فتح فمه تدخل ضفدعة في الفم ! !. فهي آية ومعجزة، وكذلك إلى " الدم "، فكان كل شيء ينقلب لهم دما.
ويقال : إن امرأة من قوم فرعون أرادت أن تشرب ماء، فذهبت إلى امرأة من بني إسرائيل وقالت لها : خذي الماء في فمك ومُجيه في فمي، كأنها تريد أن تحتال على ربنا وتأخذ مياهها من غير دم، فينتقل من فم الإسرائيلية وهو ماء، فإذا ما دخل فم المرأة التي هي من قوم فرعون صار دما. ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ ﴾ ( من الآية ١٣٣ سورة الأعراف ) : وقوله سبحانه :﴿ مفصلات ﴾ أي لم يأت بها جل وعلا كلها مجتمعة مع بعضها البعض لتفزعهم دفعة واحدة وتختبرهم أيعلنون الإيمان أم لا ؟ بل جاء سبحانه بكل آية مُفصلة عن الأخرى ؛ فلا توجد آية مع آية أخرى في وقت واحد، أو جاء بها علامات واضحات فيها مواعظ وعبر، مما يدل على موالاة الإنذارات للرغبة في أن يذَّكروا، وأن يرتدعوا، فلو اذكروا وارتدعوا من آية واحدة يكف عنهم سبحانه البأس.
وأرسل سبحانه الآيات وهي : طوفان، جراد، قمل، ضفادع، دم، هذه آيات خمس في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، ومن قبل قال الحق إنه أخذهم بالسنين، وكذلك نقص الثمرات، فأصبحت الآيات سبعا، ومن قبل كانت عصا موسا التي تلقف ما صنعه السحرة فصارت ثماني آيات، وكذلك " اليد البيضاء " التي أراها موسى لفرعون ومثله فيصبح العدد تسع آيات، إذن فالآيات بترتيبها هي : العصا، اليد، والأخذ بالسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
والآيات المفصلات.. هي عجائب ؛ كل منها عجيبة يسلطها الله على مَن يريد إذلاله، ويبتلي الله بها نوعا من الناس ولا يبتلي بها قوما آخرين. فماذا كان موقفهم من الآيات والعجائب ؟ نجد الحق يذيل الآية :﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾. إنهم لم يؤمنوا، بل تكبروا وأجرموا في حق أنفسهم وقطعوا ما بينهم وبين الإيمان.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٣٤ ) ﴾.
هم إذن بعد أن استكبروا وكانوا قوما مجرمين، وتوالت عليهم الأحداث، والرجز هو الأمور المفزعة وما نزل بهم من العذاب، وهنا ذهبوا إلى موسى ليسألوه أن يدعوا الله ليكشف ويرفع عنهم ما نزل بهم من العقاب. إذن فهم آمنوا بأن موسى مرسل من رب، وهم قد فهموا أن الرجز الذي عاشوا فيه لن يرتفع إلا من ذلك الرب. وهذا ينقض ربوبية إلههم فرعون، لأنه لو كانت ربوبية فرعون في عقيدتهم لذهبوا إليه ولم يذهبوا إلى عدوهم موسى ليسألوه أن يدعو لهم الله. ومن هنا نأخذ أكثر من قضية عقدية هي أولا : أن ألوهية فرعون باطلة، وثانيا : أن موسى مقبول الدعاء عند ربه، وثالثا : أنه إن لم يكشف ربه هذا العذاب فسيستمر هذا العذاب، وكل هذه مقدمات تعطي الإيمان بالله.
﴿ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ( من الآية ١٣٤ سورة الأعراف ) : أي ادع ربّك بما أعطاك الله من العهد أن ينصرك لأنك رسوله المؤيَّد بمعجزاته وهو لن يتخلى عنك. ادع الله أن يرفع عنا العذاب والله لئن رفعت وكشفت عنا ما نحن فيه من العذاب لنؤمنن بك ولنصدقن ما جئت به ولنرسلن ونطلقن معك بني إسرائيل، وقد كانوا يستخدمونهم في أحط وأرذل الأعمال، ولكنهم في كل مرة بعد أن يكشف الحق عنهم العذاب يعودون إلى نقض العهد بدليل قوله سبحانه عنهم :
﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ( ١٣٥ ) ﴾.
فكأن لهم مع كل آية نقضا للعهد، وانظر الفرق بين العبارتين : بين قوله الحق :
﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾ وبين قوله السابق :﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ ﴾، فمن إذن يكشف الرجز ؟ إن الكشف هنا منسوب إلى الله، وكل كشف للرجز له مدة يعرفها الحق، فهو القائل :﴿ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾. والنكث هو نقض العهد.
ويتابع سبحانه :﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( ١٣٦ ) ﴾.
ويوضح هنا سبحانه أنه مادام قد أخذهم بالعقاب في ذواتهم، وفي مقومات حياتهم، وفي معكرات صفوهم لم يبق إلا أن يهلكوا ؛ لأن لا فائدة منهم ؛ لذلك جاء الأمر بإغراقهم، لا عن جبروت قدرة، بل عن عدالة تقدير ؛ لأنهم كذبوا بالآيات وأقاموا على كفرهم. ويلاحظ هنا أن أهم ما في القضية وهو الإغراق قد ذكر على هيئة الإيجاز، وهو الحادث الذي جاء في سورة أخرى بالتفصيل، فالحق سبحانه يقول :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ( ٥٢ ) ﴾
( سورة الشعراء ) : ولم يأت الحق هنا بتفاصيل قصة الإغراق ؛ لأن كل آية في القرآن تعالج موقفا، وتعالج لقطة من اللقطات ؛ لأن القصة تأتي بإجمال في موضع وبإطناب في موضع آخر، وهنا يأتي موقف الإغراق بإجمال :﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ﴾. وكلمة " فأغرقناهم " لها قصة طويلة معروفة ومعروضة عرضا آخر في سورة أخرى، فحين خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر خرج وراءهم فرعون، وحين رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا بمنطق الأحداث :﴿ إنا لمدركون ﴾. مدركون من فرعون وقومه لأن أمامهم البحر وليس عندهم وسيلة لركوب البحر. لكن موسى المرسل من الله علم أن الله لن يخذله ؛ لأنه يريد أن يتم نعمة الهداية على يديه، كان موسى عليه السلام ممتلئا باليقين والثقة لذلك قال بملء فيه :﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾( من الآية ٦١ سورة الشعراء ) : هو يقول : " كلا " أي لن يدركوكم لا بأسبابه، بل بأسباب من أرسله بدليل أنه جاء بحيثيتها معها وقال :﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾. لقد تكلم بمنطق المؤمن الذي أوى إلى ركن شديد، وأن المسائل لا يمكن أن تنتهي عند هذا الوضع ؛ لأنه لم يؤد المهمة بكاملها، لذلك قال : " كلا " بملء فيه، مع أن الأسباب مقطوع بها. فالبحر أمامهم والعدو من خلفهم، وأتبع ذلك بقوله :﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ بالحفظ والنصرة.. أي أن الأسباب التي سبق أن أرسلها معي الله فوق نطاق أسباب البشر، فالعصا سبق أن نصره الله بها على السحرة، وهي العصا نفسها التي أوحى له سبحانه باستعمالها في هذه الحالة العصيبة قائلا له :﴿ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ﴾ ( من الآية ٦٣ سورة الشعراء ) : ونعرف أن البحر وعاء للماء، وأول قانون للماء هو السيولة التي تعينه على الاستطراق، ولم لم يكن الماء سائلا، وبه جمود وغلظة لصار قطعا غير متساوية، ولكن الذي يعينه على الاستطراق هو حالة السيولة، ولذلك حين نريد أن نضبط دقة استواء أي سطح نلجأ إلى ميزان الماء.
وقال الحق سبحانه لموسى عليه السلام :﴿ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ﴾ ( من الآية ٦٣ سورة الشعراء ) : وحين ضرب موسى بعصاه البحر امتنع عن الماء قانون السيولة وفقد قانون الاستطراق، ويصور الله هذا الأمر لنا تصويرا دقيقا فيقول :﴿ فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾. أي صار كل جزء منه كالطود وهو الجبل، ونجد في الجبل الصلابة، وهكذا فقد الماء السيولة وصار كل فرق كالجبل الواقف، ولا يقدر على ذلك إلا الخالق، لأن السيولة والاستطراق سنة كونية، والذي خلق هذه السنة الكونية هو الذي يستطيع أن يبطلها. وحين سار موسى وقومه في اليابس، وقطع الجميع الطريق الموجود في البحر سار خلفهم فرعون وجنوده وأراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ليعود إلى السيولة وإلى الاستطراق حتى لا يتبعه فرعون وجنوده، وهذا تفكير بشري أيضا، ويأتي لموسى أمر من الله :﴿ واترك البحر رهوًا ﴾ ( من الآية ٢٤ سورة الدخان ) : أي اترك البحر ساكنا على هيئته التي هو عليها ليدخله فرعون وقومه، إنه سبحانه لا يريد للماء أن يعود إلى السيولة والاستطراق حتى يُغري الطريق اليابس فرعون وقومه فيأتوا وراءكم ليلحقوا بكم، فإذا ما دخلوا واستوعبهم اليابس ؛ أعدنا سيولة الماء واستطراقه فيغرقون ؛ ليثبت الحق أنه ينجي ويهلك بالشيء الواحد، وكل ذلك يجمله الحق هنا في قوله :﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ﴾. و " اليم " هو المكان الذي يوجد به مياه عميقة، ويطلق مرة على المالح، ومرة على العذب، فمثلا في قصة أم موسى، يقول الحق :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ ( من الآية ٧ سورة القصص ) : وكان المقصود باليم هناك النيل، لكن المقصود به هنا في سورة الأعراف هو البحر. ويأتي سبب الإغراق في قوله :﴿ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ : كيف إذن يعذبهم ويغرقهم نتيجة الغفلة، ونعلم أن الغفلة ليس عليها حساب ؟ بدليل أن الصائم قد يغفل ويأكل ويصح صيامه. ويقال إن ربنا أعطى له وجبة تغذية بالطعام وحسب له الصيام لأنه غافل. لكن هنا يختلف أمر الغفلة ؛ فالمراد ب " غافلين " هنا أنهم كانوا قد كذبوا بآيات الله ثم أعرضوا إعراضا لا يكون إلا عن غافل عن الله وعن منهجه، ولو أنهم كانوا عبادا مستحضرين لمنهج الله لما صح أن يغفلوا، وهذا القول يحقق ما سبق أن قاله سبحانه :﴿ عسى ربكم أن يهلك عدوكم ﴾ ( من الآية ١٢٩ سورة الأعراف ).
ثم يأتي بعد ذلك القول الذي يحقق ما سبق أن قاله سبحانه :﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ ( من الآية ١٢٩ سورة الأعراف ). ويقول الحق تأكيدا لذلك :﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ( ١٣٧ ) ﴾.
أي صارت مصر والشام تحت إمرة بني إسرائيل، وهي الأرض التي باركها الله، بالخصب، وبالنماء، بالزروع، بالثمار، بالحيوانات، وبكل شيء من مقومات الحياة، وترف الحياة :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ﴾
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ أي استمرت عليهم الكلمة وتم وعد الله الصادق بالتمكين لبني إسرائيل في الأرض ونصره إياهم على عدوهم، واكتملت النعمة ؛ لأن الله أهلك عدوهم وأورثهم الأرض، وتحققت كلمته سبحانه التي جاءت على لسان موسى :
﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ ( من الآية ١٢٩ سورة الأعراف )
هكذا تمت كلمة الله بقوله سبحانه :﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ﴾ ( من الآية ١٣٧ سورة الأعراف ) : ونعلم أن كلمة " مشارق ومغارب " تقال بالنسبيات، فليس هناك مكان اسمه مشرق وآخر اسمه مغرب، لكن هذه اتجاهات نسبية ؛ فيقال هذا مشرق بالنسبة لمكان ما، وكذلك يقال له " مغرب " بالنسبة لمكان آخر. وحين ينتقل الإنسان إلى مكان آخر يوجد مشرق آخر ومغرب آخر. وعلى سبيل المثال نجد من يسكن في الهند واليابان يعلمون أن منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لهم مغرب، ومن يسكنون أوروبا يعرفون أن الشرق الأوسط بالنسبة لهم مشرق.
وقلنا من قبل : إن الحق حين جاء " بالمشرق والمغرب " بصيغة الجمع كما هنا فذلك إنما يدل على أن لكل مكان مشرقا، ولكل مكان مغربا ؛ فإذا غربت الشمس في مكان فهي تشرق في مكان آخر. وفي رمضان نجد الشمس تغرب في القاهرة قبل الإسكندرية بدقائق.
ونعلم أن سبب هذه الدورة إنما هو ليبقى ذكر الله بكل مطلوبات الله في كل أوقات الله، مثال ذلك حين نصلي نحن صلاة الفجر نجد أناسا يصلون في اللحظة نفسها صلاة الظهر، ونجد آخرين يصلون صلاة العصر، وقوما غيرهم يصلون صلاة المغرب، وغيرهم يصلي صلاة العشاء. وبذلك تحقق إرادة الله في أن هناك عبادة في كل وقت وفي كل لحظة، فحين يؤذن مسلم قائلا " الله أكبر " لينادي لصلاة الفجر، هناك مسلم آخر يقول " الله أكبر " مناديا لصلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء، وهذا هو الاختلاف في المطالع أراد به سبحانه أن يظل اسمه مذكورا على كل لسان في كل مكان لتعلوا " الله أكبر، الله أكبر " في كل مكان.
وأنت إذا حسبت الزمن بأقل من الثانية تجد أن كون الله لا يخلوا من " لا إله إلا الله " أبدا :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى ﴾. ونعلم أن كلمة " الحسنى " وصف للمؤنث، و " كلمة " مؤنثة، والكلمة هي قول الحق :﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( ٥ ) ﴾ ( سورة القصص ) : لقد قال الحق القصة بإيجاز، وهذه هي التي قالها ربنا وهي كلمة " الحسنى " لأنه سبحانه لم يعط لهم نعمة معاصرة لنعمة العدو، بل نعمة على أنقاض العدو، فهي نعمة تضم إهلاك عدوهم، ثم أعطاهم بعد ذلك أن جعلهم أئمة وهداة وورثهم الأرض :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ﴾. وهم بالفعل قد صبروا على الإيذاء الذي نالوه وذكره سبحانه من قبل حين قال :﴿ يسُومُونكُمْ سُوء الْعذابِ يُذبِّحُون أبْناءكُمْ ويسْتحْيُون نِساءكُمْ ﴾ ( من الآية ( ٤٩ ) سورة البقرة ). وجاء عقاب الله لقوم فرعون :﴿ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾( من الآية ( ١٣٧ ) سورة الأعراف ) : والتدمير هو أن تدك شيئا وتخربه، وقد ظل ما فعله الله بقوم فرعون باقيا في الآثار التي تدلك على عظمة ما فعلوا، وتجد العلماء في كل يوم يكتشفون تحت الأرض آثارا كثيرة. ومن العجيب أن كل كشوف الآثار تكون تحت الأرض، ولا يوجد كشف أثري جاء من فوق الأرض أبدا.
وكلمة " دمرنا " تدل على أن الأشياء المدمرة كانت عالية الارتفاع ثم جاءت عوامل التعرية لتغطيها، ويبقي الله شواهد منها لتعطينا نوع ما عمّروا ؛ كالأهرام مثلا، وكل يوم نكتشف آثارا جديدة موجودة تحت الأرض مثلما اكتشفنا مدينة طيبة في وادي الملوك، وكانت مغطاة بالتراب بفعل عوامل التعرية التي تنقل الرمال من مكان إلى مكان. وأنت إن غبت عن بيتك شهرا ومع أنك تغلق الأبواب والشبابيك قبل السفر ؛ ثم تعود فتجد التراب يغطي جميع المنزل والأثاث ؛ كل ذلك بفعل عوامل التعرية التي تنفذ من أدق الفتحات، ولذلك لو نظرت إلى القرى القديمة قبل أن تنشأ عمليات الرصف التي تثبت الأرض نجد طرقات القرية التي تقود إلى البيوت ترتفع مع الزمن شيئا فشيئا وكل بيت تنزل له قليلا، وكل فترة يردمون أرضية البيوت لتعلو، وكل ذلك من عوامل التعرية التي تزيد من ارتفاع أرضية الشوارع.
وكل آثار الدنيا لا تكتشف إلا بالتنقيب، إذن فكلمة " دمرنا " لها سند. والحق يقول عن أبنية فرعون :﴿ وفرعون ذي الوتاد١٠ ﴾ ( سورة الفجر. )
ونجد الهرم مثلا كشاهد على قوة البناء، وإلى الآن لم يكتشف أحد كيف تم بناء الهرم. وكيف تتماسك صخوره دون مادة كالإسمنت مثلا، بل يقال : إن بناءالهرم قد تم بأسلوب تفريغ الهواء، ولا أحد يعرف كيف نقل المصريون الصخرة التي على قمة الهرم. إذن فقد كانوا على علم واسع. وإذا ما نظرنا إلى هذا العلم عمارة وآثارا وتحنيطا لجثث القدماء، إذا نظرت إلى كل هذا وعلمت أن القائمين به كانوا من الكهنة المنسوبين للدين، لتأكدنا أن أسرار هذه المسائل كلها كانت عند رجال الدين، وأصل الدين من السماء، وإن كان قد حرِّف. وهذا يؤكد لنا الحق هو الذي هدى الناس من أول الخلق إلى واسع العلم.
﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ( ١٣٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : و " يَعْرِشُونَ " أي يقيمون جنات معروشات، وقلنا من قبل : إن الزروع مرة تكون على سطح الأرض وليس لها ساق، ومرة يكون لها ساق، وثالثة يكون لها ساق لينة فيصنعون له عريشة أو كما نسميه نحن التكعيبية لتحمله ثمرهُ.
وبعد ذلك يقول الحق :﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( ١٣٨ ) ﴾.
لقد قالوا ذلك وهم مازالوا مغمورين في نعم الله إنجاء من عدو، واستخلافا في الأرض، ومع ذلك بمجرد أن طلعوا إلى البر ورأوا جماعة يعبدون صنما طالبوا موسى أن يجعل لهم صنما يعبدونه. لقد حسدوا من يجهلون قيمة الإيمان ويعكفون على عبادة الأصنام، ويعكف تعني أن يقيم إقامة لازمة، ومنه الاعتكاف في المسجد، أي الانقطاع عن حركة الحياة خارج المسجد إلى عبادة الله في بيته. ﴿ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾
( من الآية ١٣٧ سورة الأعراف ).
وهذا القول من قوم موسى هو قمة الغباء، كأن الإله بالنسبة لهم مجهول على رغم أنه قد أسبغ عليهم من النعم الكثير، وهذه أول خيبة، وهم يريدون أن يكون الإله مجعولا رغم أن الإله بكمالاته وطلاقة قدرته جاعل، ولكن عقليتهم لم تستوعب النعم الغامرة وقلوبهم مغلقة لم يعمها الإيمان. وقالوا : اجعل لنا إلها ! وأرادوا أن ينحت لهم الأصنام، وقد يقول واحد منهم : رأس الإله كبيرة قليلا صغّرها بعض الشيء، وأنفه غير مستقيمة فلنعدلها بالإزميل، وقولهم :﴿ اجعل لنا إلها ﴾. وهذا ما يجعلنا نفهم أن عقولهم لم تستوعب حقيقة الإيمان ؛ لذلك يقول لهم موسى :﴿ إنكم قوم تجهلون ﴾.
ولم يقل لهم : " لا تعلمون " بل قال : " تجهلون " لأن هناك فارقا بين عدم العلم بالشيء، وبين الجهل بالشيء، فعدم العلم يعني أن الذهن قد يكون خاليا من أي قضية، أما " الجهل " فهو يعني أن تعلم مناقضا للقضية، إذن فهناك قضية يعتقدها الجاهل ولكنها غير واقعية. أما الذي لا يعلم فليس في باله قضية، وحين تأتي له القضية يقتنع بها، ولا يحتاج ذلك إلى عملية عقلية واحدة مثل الأمي مثلا الذي لا يعلم، لأن ذهنه خال من قضية، أما الذي يعلم قضية مخالفة فهو يحتاج من الرسول إلى عمليتين عقليتين : الأولى أن يخرج ما في نفسه من قضية الجهل، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة، إن الذي يرهق العالم هم الجهلاء لا الأميون، لأن الأمي حين تعطي له المعلومة فليس عنده ما يناقضها. لكن الجاهل عنده ما يناقضها ويخالف الواقع.
ويقول سبحانه بعد ذلك :{ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
( ١٣٩ ) }.
و " مُتبرَّ " أي هالك ومدمر، وهنا يوضح لهم موسى أن هؤلاء الجماعة التي تعبد الأصنام ؛ وهم وأصنامهم هالكون، وما يعلمون هو باطل لأن قضايا الكون إن أردتم أن تعرفوا حقيقتها فلابد لها من ثبوت، والحق ثابت لا يتغير أبدا لأن له واقعا يُستقرأ، ومثال ذلك إذا حصلت حادثة بالفعل أمامنا جميعا، ثم طلب من كل واحد على انفراد أن يقول ما رآه فلن نختلف في الوصف لأننا نستوحي واقعا، لكن إن كانت القضية غير واقعة فكل واحد سيقولها بشكل مختلف، ولذلك نجد من لباقة القضاء أن القاضي يحاور الشهود محاورات ليتبيّن ما يثبتون عليه وما يتضاربون فيه. وإن كان الشهود يستوحون حقيقة واقعة، فلن يختلفوا في روايتهم، ولكنهم يختلفون حين لا يتأكد أحدهم من الواقعة أو أن تكون غير حقيقة.
والمثل العربي يقول : " إن كنت كذوبا فكن ذكورا " أي إن كذبت والعياذ بالله وقلت قولا غير صادق فعليك أن تتذكر كذبتك، وأنت لن تتذكرها لأنها أمر متخيّل وليس أمرا ثابتا. وقد يجوز أن يأخذ غير الواقع زهوة ولمعانا فنقول : إياك أن تغتر بهذه الزهوة لأن الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ( ١٧ ) ﴾ ( سورة الرعد ) : لقد شبه سبحانه الباطل بالزبد وهو ما يعلوا السائل أو الماء من الرغوة والقش والمخلفات التي تعوم على سطح المياه إنه يتلاشى ويذهب، أما ما ينفع الناس فيبقى. ونحن نختبر المعادن لنعرف هل هي مغشوشة أو لا.. ونعرضها على النار، فيطفوا ما فيها من مادة غير أصيلة وما فيها من شوائب، ويبقى في القاع المعدن الأصيل.
وهنا يقول الحق على لسان موسى :﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٣٩ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
والأحداث إما فعل أو قول، والقول : عملية اللسان، والفعل : لبقية الجوارح، وكل الأحداث ناشئة عن قول، أو عن فعل، والقول والفعل معا هما " عمل ". ولذلك يقول الحق :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ﴾ ( من الآية ٢ سورة الصف ) : إذن فالعمل يشمل القول، ويشمل الفعل.
وقوله الحق :﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ إن الأصنام التي كانوا يصنعونها ويعبدونها، كانت تقوم على أقوال وأفعال، كان يقولوا : يا هبل، يا لات، يا عزّى، ويناجون هذه الأصنام ويطلبون منها أن تحقق لهم بعضا من الأعمال وكانوا يقفون أمامها صاغرين أذلاء، إذن فقد صدر منهم قول وفعل يضمهما معا العمل.
ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلام :﴿ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ١٤٠ ) ﴾.
هم حينما قالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال لهم أولا :﴿ إنكم قوم تجهلون ﴾، ثم قال :﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، وبعد ذلك رجع إلى الدليل على أن هذا طلب جهل، وأن الذين يعبدون الأصنام من دون الله إنما يفعلون باطلا ؛ فقال :﴿ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾. وقوله ﴿ أغير الله ﴾ أي أن الإله الذي عرفتم بالتجربة العملية أنه فضلكم على العالمين ورأيتم ما صنع بعدوكم الذي استذلكم وسامكم سوء العذاب، إنه قد أهلكه ودمره، هل يمكن أن تطلبوا ربا غيره ؟
وقوله :﴿ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ ﴾ أي أأطلب لكم إلها غيره ؟ وفي سؤاله هذا استنكار لأنه يتبعه بتفضيل الله لهم على العالم.
ثم أراد أن يذكرهم بقمة التفضيل لهم فيقول سبحانه على لسان موسى :﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( ١٤١ ) ﴾
وإذا سمعت " إذ " فافهم أن معناها ظرف زمان يريد الحق أن نتذكر ما حدث فيه، و " إذ " يعني اذكروا جيدا ولا يغب عن بالكم حين أنجاكم الله من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب وأفظعه وأشده.
ويقول بعدها مبينا ومفسرا ذلك العذاب :﴿ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ﴾.
ونلحظ أنه لم يأت بالعطف هنا، فلم يقل : يسومونكم سوء العذاب ويقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم. مما يدل على أنه جاء بقمة سوء العذاب ؛ لأن الاحتقار، والتسخير هما جزء من العذاب. لكن قمة العذاب هي تقتيل الأبناء، واستحياء النساء.
وفي آية ثانية يقول سبحانه :﴿ وإِذْ نجّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعوْن يسُومُونكُمْ سُوء الْعذابِ يُذبِّحُون أبْناءكُمْ ﴾( من الآية ٤٩ سورة البقرة ) : أي أنهم تعرضوا للتقتيل، وتعرضوا للتذبيح، وفي آية ثالثة يقول :﴿ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ﴾( من الآية ٦ سورة إبراهيم ) : لقد جاء ب " الواو " هنا للعطف. لأن المتكلم هنا مختلف، فقد يكون المتكلم الله، وسبحانه يمتن بقمة النعم. لكن :﴿ إذ قال موسى لقومه اذكروا ﴾، فموسى يمتن بكل النعم التي ساقها الله إلى بني إسرائيل صغيرة وكبيرة.
ويذيل الحق الآية الكريمة :﴿ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ : هو بلاء شديد الإيلام والوقع لفراق من يقتل أو يذبح، وبلاء آخر في الهم والحزن على من يستبقي من النساء لاستباحة أعراضهن وامتهانهن في الخدمة.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( ١٤٢ ) ﴾.
وعلمنا من قبل في مسألة الأعداد أن هناك أسلوبين : الأسلوب الأول إجمالي والثاني تفصيلي ؛ فمرة يتفق التفصيل مع الإجمال، وبذلك لا توجد شبهة أو إشكال، وسبحانه في سورة البقرة يقول :﴿ وإذا وعدنا موسى أربعين ليلة ﴾ ( من الآية ٥١ سورة البقرة ) : جاء بها هناك بالإجمال. ولكنه شاء هنا في سورة الأعراف ألا يأتي بها مرة واحدة مجملة. بل فصلها بثلاثين ليلة ثم أتمّها الحق بعشر أخر لمهمة سنعرفها فيما بعد، ليكون الميقات قد تم أربعين ليلة، وإذا جاء العدد مجملا مرة، ومفصلا مرة، واتفق الإجمال مع التفصيل فلا إشكال. لكن إذا اختلف الإجمال عن التفصيل فعادة يحمل التفصيل على الإجمال، لأن المفصَّل يمكن أن يتداخل ليصير إلى الإجمال.
وضربنا من قبل المثل في خلق السماء والأرض في ستة أيام، وكل آيات الخلق تأتي بخبر الستة الأيام وهي مجملة. لكنه شاء سبحانه في موضع آخر بالقرآن أن يقول :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٩ ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ( ١٠ ) ﴾ ( سورة فصلت. )
وظاهر الأمر هنا أن المهمة قد اكتمل أمرها وخلقها في ستة أيام، لكنه قال جل وعلا بعدها :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( ١١ ) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾. ( الآية ١١ وجزء من الآية ١٢ سورة فصلت ) : وهنا نجد في موقف أيام خلق الدنيا نجد إجمالا وتفصيلا، والتفصيل يصل في ظاهر الأمر بأيام الخلق إلى ثمانية، والإجمال يحكي أنها ستة أيام فقط.
فهل هي ستة أيام أو ثمانية أيام ؟ نقول : إنها ستة أيام لأننا نستطيع أن ندخل المفصل بعضه في بعضه، فإذا قلت : سافرت من مصر إلى طنطا في ساعتين، وإلى الإسكندرية في ثلاث ساعات، فمعنى هذا القول أن الساعتين دخلتا في الثلاث ساعات :﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ : والوعد هو أن الله وعد موسى بعد أن تحدث عملية إنجاء بني إسرائيل أنه سبحانه سينزل عليه كتابا يجمع فيه كل المنهج المراد من خلق الله لتسير حركة حياتهم عليه، لكن ما إن ذهب موسى لميقات ربه حتى عبدوا العجل، في مدة الثلاثين يوما ولم يشأ الله أن يرسل موسى بعد الثلاثين يوما بل أتمها بعشر أخر حتى لا يعود موسى ويرى ما فعله قومه ؛ لأنه بعد أن عاد أمسك برأس أخيه يعنفه ويشتد عليه ويأخذ بلحيته يجره إليه إذ كيف سمح لبني إسرائيل أن يعبدوا العجل. وفي ذلك يقول الحق على لسان هارون :﴿ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ( ٩٤ ) ﴾ ( سورة طه ).
فكأن العشرة أيام زادوا عن الثلاثين يوما ليعطيك الصورة الأخيرة الموجودة في سورة البقرة.
وهنا يقول الحق في سورة الأعراف :﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾( من الآية ١٤٢ سورة الأعراف ) : و " اخلفني " أي كن خليفة لي فيهم إلى أن أرجع وذلك فيما هو مختص بموسى من الرسالة فاستخلاف موسى لهارون ليس تكليفا لهارون بامتداد إرسال الله لموسى وهارون، فأسلوب تقديم موسى وهارون أنفسهما لفرعون جاء بضمير التثنية التي تجمع بين موسى وهارون :﴿ إنا رسولا ربك ﴾ ( من الآية ٤٧ سورة طه ) : لأن كلا منهما رسول، وقوله الحق :﴿ وقال موسى لأخيه هارون ﴾ فيه التحنن، أي أنني لي بك صلة قبل أن تكون شريكا لي في الرسالة فأنا أخ لك وأنت أخ لي، ومن حقي عليك أن تسمع كلامي وتخلفني. فالأخوة مقرونة بأنك شريك معي في الرسالة، إذن نجد أن موسى قد قدم حيثية الأخوة، والمشاركة في الرسالة. وأكد موسى عليه السلام بكلمة " قومي " أنهم أعزاء عليه، ولا يريد بهم إلا الخير الذي يريده لنفسه، فإذا جاءكم بأمر فاعلموا أنه لصالحكم، وإذا نهاكم نهيا فاعلموا أن موسى هو أول من يطبقه على نفسه.
وقيل كان موسى عليه السلام قد قام بإعداد نفسه للقاء ربه، ولابد أن يكون الإعداد بطهر وبتطهير وبتزكية النفس بصيام، فصام ثلاثين يوما، وبعد ذلك أنكر رائحة فمه، فأخذ سواكا وتسوك به ليذهب رائحة فمه، فأوضح الحق سبحانه له : أما علمت يا موسى أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك. وما دمت قد أزلت الخلوف وأنا أريد تقبل عليّ بريح المسك فزد عشرة أيام ؛ حتى تأتي كذلك. وقال بعض العلماء : إن تفصيل الأربعين إلى ثلاثين وإلى عشرة، لأن الثلاثين يوما هي الأيام التي عبد فيها القوم بعد موسى العجل، فكان ولابد أن تكون هناك فترة من الفترات ؛ حتى يميز الله الخبيث من الطيب.
﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾
( من الآية ١٤٢ سورة الأعراف ) : وهنا أمر ونهي " أصلح " هي أمر، و " لا تتبع " هي نهي، ونعرف أن كل تكاليف الحق سبحانه وتعالى محصورة في " افعل كذا "، و " لا تفعل كذا "، ولا يقول الحق للمكلّفين : " افعلوا كذا " إلا إذا كانوا صالحين للفعل ولعدم الفعل، وإن قال لهم : " لا تفعلوا " فلابد أن يكونوا صالحين أيضا للفعل ولعدم الفعل، ولذلك أوضحنا من قبل أن الله ركز كل التكليف في مسألة آدم وحواء في الجنة فقال :﴿ وكلا منها رغدا حيث شئتما ﴾، وكان هذا هو الأمر. وقال :﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾، وهذا نهي :﴿ وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾.
وكلمة أصلح تستلزم أن يبقى الصالح على صلاحه فلا يفسده، وإن شاء أن يزيد فيه صلاحا فليفعل. وقوله :﴿ ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ لأنه قول موجه لنبي وهو هارون، لا يتأتى منه الإفساد، ولكنّ موسى أعلمه أنه ستقوم فتنة بعد قليل، فكأن موسى قد ألهم أنه سيحدث إفساد، فقصارى ما يطلبه من أخيه هارون ألاّ يتبع سبيل المفسدين، ولذلك سيقول هارون بعد ذلك مبررا تركه بني إسرائيل على عبادة العجل بعد أن بذل غاية جهده في منعهم وإنذارهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه.
﴿ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ ( من الآية ٩٤ سورة طه ).
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٤٣ ) ﴾ :
والميقات هو الوقت الذي يعد لعمل من الأعمال، ونسميه وقت العمل. وغلب على أشياء في الإسلام، كمواقيت الحج. ونحن نعلم أن كل عمل وحدث يتطلب أمرين يُظْرَف فيهما، أي يكونان ظرفا له ؛ فلابد له مكان يحدث فيه، ومن زمان يحدث فيه كذلك، واسمهما ظرف الزمان، وظرف المكان. إلا أن ظرف الزمان غير قار أي غير ثابت ؛ فقد يأتي الصبح ويذهب ويأتي بعده، الظهر، والعصر والمغرب والعشاء. لكن ظرف المكان قار وثابت.
والمواقيت إذن إما أن يتحكم فيها الزمان، وإما أن يتحكم فيها المكان، وإما أن يتحكم فيها المكان والزمان معا. فإذا أخذنا المواقيت على أنها زمن كل فعل نجد فريضة " الصوم " لها زمن محدد وهو رمضان. فالذي يتحكم في الصوم هو الزمن، فيكون ويحدث في أي مكان. وكذلك صيام يوم عرفة، ومن يجلس في أي مكان يصوم يوم عرفة ولكنه غير مطلوب من الحاج. ولكن الوقوف بعرفة يتحكم فيه المكان والزمان معا.
والإحرام بالحج أو العمرة يتحكم فيه المكان وهو ما يسمى بالميقات المكاني ولكل أهل جهة ميقاتهم المكاني الذي يطلب منهم ألاّ يمروا عليه إلاّ وهم محرومون. فمرة يتحكم الزمان، ومرة يتحكم المكان، وثالثة يتحكمان معا.
وجاء موسى لميقاتنا المضروب له بعد أربعين ليلة. وهل جاء موسى للميقات أو جاء في الميقات ؟ لقد جاء في الميقات، واللام تأتي بمعنى " عند ". ونعلم أن " اللام " تأتي بمعنى " عند " كثيرا في القرآن، مثل قوله :﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾ ( من الآية ٧٨ سورة الإسراء ) : أي أقم الصلاة عند دلوك الشمس أي عند زوالها عن وسط وكبد السماء إلى غسق الليل. ومن الدلوك إلى الغسق نجد صلاة الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء، وهذه أربعة فروض، وبقي الفرض الخامس وهو الفجر، وقال فيه الحق :﴿ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ ( من الآية ٧٨ سورة الإسراء ) : ولماذا بدا بدلوك الشمس ؟ وهل النهار يبدأ بالظهر أو يبدأ بالصبح ؟. إن الإسراء والمعراج كانا ليلا، ورسول الله جاء صباحا إلى مكة، وقد فرضت الصلاة في المعراج، فكانت أول فريضة هي الظهر، وكأن الحق يعني خذ الغاية وخذ البداية هي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبقي الفجر، وجاء فيه :﴿ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ﴾ : ثم يخص الله رسوله بالتهجد وهو قيام الليل لأنه فرض على رسول الله دون غيره، فإنه بالنسبة لسائر الأمة تطوع :﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ( ٧٩ ) ﴾.
ومن يتشبه برسول الله فله الثواب الجزيل والجر العظيم ولكن هذا الأمر مرجعه إلى اختيار المسلم :﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾. وهذه المسألة تحتاج إلى بحث، وقوله سبحانه :﴿ وكلمة ربُّه ﴾ هو قول يدل على أن كلاما حصل من الله لموسى فكيف يحدث ذلك وسبحانه قد قال في مسألة الكلام بالنسبة للبشر كلاما عاما :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ﴾ ( من الآية ٥١ سورة الشورى ) : وفي هذا نفي أن يكلم الله البشر. إلا بالوسائل الثلاث : الوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا، والوحي بالنسبة للأنبياء يكون بإلقاء المعنى في قلب النبي دفعة، مع العلم اليقيني بأن ذلك من الله عز وجل، وقد يراد بالوحي الإلهامات ؛ مثل الوحي إلى أم موسى، والوحي إلى الحواريين، وكذلك إلى الملائكة، وقد يراد بالوحي : التسخير ؛ كالوحي للأرض، والنحل.
وبعد ذلك.. " أو من وراء حجاب " أي أن يسمع كلاما ولا يرى متكلما، " أو يرسل رسولا " هو جبريل عليه السلام. والقرآن لم ينزل إلا بطريقة واحدة، بواسطة نزول جبريل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما نزل القرآن بالإلهام، وما نزل القرآن من وراء حجاب بل نزل بواسطة رسول من الله وهو جبريل وله علامات.
وهنا في كلام موسى نقول إن الكلام وقع فيه من وراء حجاب وهنا نمسك عن الخوض فيما وراء ذلك لأنه غيب لم يكشف لنا عنه ونترك الأمر فيه لله.
وقد سبق أن قلنا : إن صفات الله لا يوجد مثلها في البشر. فليس وجود الإنسان كوجود الله، وليس غنى الإنسان كغنى الله، وكذلك لن يكون أبدا كلامك ككلام الله، لأن كل شيء يخص الله إنما نأخذه في إطار " ليس كمثله شيء ". وقد بين الحق سبحانه وتعالى أن كلامه لموسى تميز لموسى، ولذلك يقول الحق :﴿ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ﴾ ( من الآية ١٤٤ سورة الأعراف ).
ويجب أن نأخذ كل وصف يوجد في البشر، ويوجد مثله. في وصف الله مثل " استوى "، و " جلس " و " وجه "، و " يد " نأخذ كل ذلك في إطار " ليس كمثله شيء ".
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ ( من الآية ١٤٣ سورة الأعراف ) : وحينما خص الله موسى بميزة أن تكلم إليه، حصل من موسى استشراق اصطفائي، وكأنه قال لنفسه : مادام قد كلمني فقد أقدر أن أراه ؛ لأن استطابة الأنس تمد للنفس سبل الأمل في الامتداد في الأشياء قال موسى من قبل ردا على سؤال الله :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ( ١٧ ) ﴾ ( سورة طه )، وكان الجواب يكفي أن يقول : " عصا " لكنه قال :﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ﴾ ( من الآية ١٨ سورة طه ) : قال ذلك على الرغم من أن الحق لم يسأله : ماذا تفعل بها ؟ وأراد بالكلام أن يطيل الأنس بربه، وكأنه عرف أنه من غير اللائق أن يكون الجواب مجرد كلمة ردا على سؤال. ولله المثل الأعلى نجد الإنسان منا حين يرى طفلا صغيرا فهو يداعبه ويطيل الكلام معه إيناسا له. وحين وجد موسى أن الله يكلمه استشرفت نفسه أن يراه :﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾.
لم يقل موسى : أرني ذاتك. بل قال :﴿ أرني أنظر إليك ﴾ كأنه يعلم أنه بطبيعة تكوينه يعرف أنه لا يمكن أن يرى الله، لكن إن أراه الله، فهذا أمر بمشيئة الحق. وقدم موسى الطلب معلقا بمشيئة الله وإرادته ؛ لأنه يعلم أنه غير معد لاستقبال رؤية الله ؛ لأن تكوينه لا يقوى على ذلك، وحتى في الوحي والكلام لم يكلم ربنا الناس مباشرة، بل لابد أن يصطفي من الملائكة رسلا، ثم تكون مرحلة ثانية أن يصطفي من البشر رسلا، ويبلغ الرسل الناس كلام الله ؛ لأن الصفات الكمالية العليا الخالقة لا يمكن أن يستوعبها المخلوق.
ضربنا المثل من قبل ولله المثل العلى بصناعات البشر، وأن الإنسان حين ينام ليلا، قد يستيقظ لأي شيء، فإذا كانت الدنيا ظلاما قد يحطم الأشياء التي هي أقل منه أو تحطمه الأشياء التي هي أكثر صلابة منه ؛ وإن اصطدم بشيء صغير فقد يكسره، وإن اصطدم بدولاب أو حائط فقد ينكسر الإنسان. ولذلك ترك الإنسان في البيت شيئا من النور الضئيل ؛ ليستفيد من سكون الليل وظلمته، فيضع ما نسميه " الوناسة " قوة شمعتين أو خمس شمعات، ولا يقدر أن يركبها على قوة التيار الموجودة في المنزل ؛ لأنها تفسد فورا، لذلك يأتي لها بمحول يأخذ من القوي ويعطي الضعيف.
إذن إذا كانت صناعة البشر نجد فيها الضعيف الذي لا يأخذ من القوي إلا بواسطة، فمن باب أولى أنه لا يمكن أن يتلقى خلق الله عن الله إلا بواسطة. وكانت الواسطة من البشر اصطفاء، فليس كل ذلك صالحا لهذه المسألة، فمصطفى من الملائكة يعطي مصطفى من البشر.
وبعد ذلك يعطي المصطفى من البشر للبشر. كذلك الرؤية وسيظهر ذلك لنا حينما يعطي الله الدليل على أنه خلقكم لا على هيئة أن تروه الآن، ولكن تبرزون في الآخرة وتعدون إعدادا آخر، فمن الممكن أن تنالوا شرف رؤيته :
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾. ولا يستوي الناس في ذلك ؛ لأن المؤمن هو من ينال شرف النظر إلى الله، أما الكافر فهو محجوب عن رؤية الحق. يقول تعالى في شان الكفار :﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ فلا يستوي المؤمن والكافر في هذه الحالة، فمادام الكافر محجوبا فالمؤمن غير محجوب ويرى ربّه. وقال موسى :﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾. قال الحق :﴿ قال لن تراني ﴾.
وفي اللغة نجد أن " لن " تأتي تأبيدية، أي تؤبد المستقبل أي لا يحدث ولا يتحقق ما بعدها. فهل معنى ذلك أن قول الحق :﴿ لن تراني ﴾ أن موسى لن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة ؟. ونقول : ومن قال إن زمن الآخرة هو زمن الدنيا ؟ إن هذه لها زمن وتلك لها زمن آخر :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسماوات وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( ٤٨ ) ﴾ ( سورة إبراهيم ).
إذن فزمن الآخرة وإعادة الخلق فيها سيكون أمرا آخر، يكفي أن أهل الجنة سيأكلون ولن تكون لهم فضلات، إنه خلق جديد. إن مجيء " لن " في قوله الحق :﴿ لن تراني ﴾ تأبيدها إضافي، أي بالنسبة للدنيا، وفيها تعليل لعدم قدرة موسى على الرؤية، وأضاف سبحانه :﴿ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾ ( من الآية ١٤٣ سورة الأعراف ) : وسبحانه هنا يعلل لموسى بعملية واقعية فأوضح : لن تراني ولكن حتى أطمئنك أنك مخلوق بصورة لا تمكنك من رؤيتي انظر إلى الجبل، والجبل مفروضة فيه الصلابة، والقوة، والثبات، والتماسك ؛ فإن استقر مكانه، يمكنك أن تراني. إن الجبل بحكم الواقع، وبحكم العقل، وبحكم المنطق أقوى من الإنسان، وأصلب منه وأشد، ولما تجلى ربه للجبل اندك. والدك هو الضغط على شيء من أعلى ليسوّي بشيء أسفل منه. والحق هو القائل :﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( ٢١ ) ﴾ ( سورة الفجر ) : وهنا في موقف موسى وحواره مع الله يتأكد لنا أن الله تجلى على خلق من خلقه، ولكن أيقدر المتجلي عليه على هذا التجلي أم لا يقدر ؟. إن أقدره الله فهو يقدر، أما إن لم يقدره الله فلن يقدر. والجبل هو الأصلب، فلماذا تجلى له ربه أنداك، إذن فمن الممكن أن يتجلى الله على بعض خلقه، ولكن المهم أيقوى المستقبل للتجلي أو لا يقوى ؟ ولم تقو طبيعة موسى على التجلي لله بدليل أن الأقوى منه لم يقو. وبعد ذلك أراد الله أن يلفتنا لفتة تصاعدية. ويبين لنا أن موسى قد صعق لرؤية المتجلّي عليه فكيف لو رأى المتجلِّي ؟ ! ! ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾. ويقال : خر الش
والاصطفاء هو استخلاص الصفوة، وقوله :﴿ اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ﴾ تعبير فيه دقة الأداء لأنه لو قال اصطفيتك فقط، ولم يقل على الناس، فقد يُفهم الاصطفاء على الملائكة أيضا. ولكن الاصطفاء هنا محدد في دائرة الاصطفاء البشري :
﴿ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ﴾. ولقائل أن يقول : إن الحق اصطفى غيره أيضا من الرسل، والحق هو القائل :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا ﴾ ( من الآية ٣٣ سورة آل عمران ) : ونقول : هناك فرق بين اصطفاء رسالة منفردة، وبين اصطفاء في رسالة ومعها شيء زائد، وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى فإذا جئت كمدرس لتلاميذ وأعطيت واحدا منهم هدية عبارة عن قلم كمكافأة، ثم أعطيت الثاني قلما وزجاجة حبر، أنت بذلك اصطفيت التلميذ الأول بهدية القلم، واصطفيت الآخر باجتماع قلم وزجاجة حبر في هدية واحدة. والاصطفاء هنا لموسى بالرسالة كما اصطفى غيره من الرسل بالإضافة إلى شرف الكلام :﴿ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ﴾.
وعرفنا من قبل أن " رسالاتي " هي في مجموعها رسالة واحدة، ولكن الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرت جزئياتها ثلاثا وعشرين سنة في النزول، فكأن كل نجم رسالة، أو كل باب من أبواب الخير رسالة، فهي رسالات متعددة، أو أن رسالته جمعت رسالات السابقين :﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( ١٤٤ ) ﴾
( الأعراف ) : أي لا تنظر إلى ما منعتك، بل اذكر أني اصطفيتك وكلمتك وعليك أن تشكر لي هذا. ولذلك يجب على الإنسان المؤمن حين يتلقى قضاء الله فيه أن ينظر دائما إلى ما بقي له من النعم. لا إلى ما سلب عنه من النعم. ولذلك نجد المؤمن المتفائل ينظر إلى الكوب الذي نصفه مملوء بالماء فيقول : الحمد لله نصف الكوب ملآن. أما المتشائم فيقول : إن نصف الكوب فارغ، وبرغم أن كلا منهما يقرر الحقيقة إلا أن المؤمن المتفائل نظر إلى ما بقي من نعم الله.
إننا نجد ابن جعفر حين ذهب للخليفة الأموي في دمشق وجرحت رجله في أثناء السير من المدينة إلى دمشق، ولم تكن هناك عناية طبية فتقيحت، وحين أحضروا له الأطباء وقرروا قطع رجله، قال بعض الحاضرين : التمسوا له مرقدا أي دواء تخدير يجعله لا يحس بالألم، فقال : لا، فإني لا أريد أن أغفل عن ربي لحظة عين، فلما قطعوها أخذوها ليدفنوها، فقال هاتوها. فأحضروها له وأمسك بها وقال : اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو فقد عافيت في أعضاء.
هذه نظرة المؤمن الذي لا ينظر إلى ما أُخذ منه، بل ينظر إلى ما بقي له. وكذلك كان توجيه الحق لموسى عليه السلام، فقد أوضح له : لا تنظر إلى أني منعتك الرؤية، لا، بل انظر الاصطفاء وشرف الكلمة إلى الخالق واشكر ذلك.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( ١٤٥ ) ﴾.
والكِتْب هو الرقم بقلم على ما يكتب عليه من ورق أو جلد أو عظم أو أي شيء، وعندما يقول ربنا :﴿ وكتبنا ﴾ فالله لم يزاول الكتابة بنفسه، ولكن رسله من الملائكة يكتبون بأمر من الحق وهو القائل :﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ﴾ ( من الآية ١٢ سورة يس ).
وكتابة الرسل من الملائكة لأعمالنا هي بالأمر من الله، ومرة ينسب الأمر إلى الأعلى، أو ينسب إلى المباشر أو إلى الواسطة :﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا ﴾. ونحن نعرف الألواح، وكنا نكتب عليها قديما. وللكتابة على الألواح سبب، فقديما كانوا يكتبون على أي شيء مبسوط، وتبين لنا الآثار أن هناك كتبا مكتوبة على جلود الحيوانات، مثلا نجد قدماء المصريين قد كتبوا على الأحجار، مثل حجر رشيد الذي أتاح لنا معرفة تاريخهم. وكان العرب يكتبون على القحف المأخوذ من النخل، وكذلك كتبوا على عظام الذبائح، أخذوا منها قطعة العظم المبسوطة مثل عظم اللوح وكتبوا عليها، وكانت هذه الوسيلة مشهورة جدا لديهم، وصار كل مكتوب عليه يسمونه لوحا.
﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ ( من الآية ١٤٥ سورة الأعراف ) : وقوله سبحانه :﴿ من كل شيء ﴾ يعني : من كل شيء تتطلبه خلافة الإنسان في الأرض في الوقت المناسب له ؛ فالرسل تأتي بعقيدة، لكن قد يأتي تشريع مناسب للفترة الزمنية التي جاء فيها الرسول، ويضيف الله لرسول آخر يأتي من بعده، إلى أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالمنهج المكتمل إلى قيام الساعة.
لقد أوضح سبحانه أنه كتب في الألواح الموعظة والتفصيل لمنهج الحياة،
والموعظة تعني ألا تنشئ حكما للسامع، بل تعظه بتنفيذ ما عُلِم له من قبل، ولذلك يقال : واعظ وهو الذي لا ينشئ مسائل جديدة. بل يعرف أن المستمع يعلم أركان الدين ويعظه بما يعلم.
وقوله الحق سبحانه :﴿ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ أي أن الكلام لم يأت
مجملا، بل يأتي بالتفصيل، ويأمر الحق موسى أن يقبل على الموعظة والتفصيلات التي في الألواح بقوة. ولماذا جاء الأمر هنا بأن يأخذها بقوة ؟ لأن الإنسان حين يؤمر أمرا قد يكون الأمر مخالفا لرتابة ما ألف، وحين يُنهى نهيا قد يكون هذا النهي مخالفا لرتابة ما ألف. وبذلك ينزع هذا النهي أو ذلك الأمر الإنسان مما ألف، ويأخذه ويخرجه عما اعتاد.
إن الإنسان في هذه الحالة إلى قوة نفس تتغلب على الشهوة الرتيبة التي تخلقها العادة، ولذلك فمن يريد أن يقبل على منهج الله فعليه أن يعرف أن المنهج سوف يخرجه مما ألف، ولابد له أن يقبل على المنهج بقوة وعزم ليواجه إلف النفس، لأن إلف النفس قد يقول للإنسان : لا تفعل، والمنهج يقول له : " افعل " وعلى المؤمن إذن أن يأخذ التكاليف بقوة، لأن شهوات النفس تحقق متع الدنيا الزائلة، والمنهج يعطي متعة طويلة الأجل.
إن الشهوة قد تحقق للإنسان لذة على مقدار قدرته واستعداده، لكن التكليف يعطي للمؤمن نفعا يتناسب مع طلاقة قدرة الله في النفع. إذن لابد أن تشحن نفسك بما يعطيه الله لك من المنهج، وإياك ساعة أن ترى المنهج مطالبا لك ببعض من الجهد أن تقول : إن تلك أمور صعبة لأنك لست وحدك في المنهج، بل معك غيرك. فإذا قال لك : لا تسرق، إياك أن تقول : أيحدد المنهج حريتي ؟ لا، لا تنظر إلى أن حظر وتحريم السرقة هو تحديد لحريتك بل هو صيانة لك من أن يتعدى عليك آخرون ؛ فقد قال المنهج للناس كلهم لا تسرقوا منه وأنت الكاسب في هذه الحالة. ويتابع الحق بيان ما في الألواح من قيم فيقول سبحانه :
﴿ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾. " أحسن " تفيد أن هناك مرتبة أقل منها وهي " حسن " ؛ فأمرهم الحق أن يتركوا الحسن ويأخذوا بالأحسن، ونعلم أن الإنسان من الأغيار، إذا ما أصابته مصيبة من أحد يعتبره غريما له، فإذا ما كان للإنسان غريم تحركت نوازع نفسه إلى عقابه بمثل ما أصابه به. وهذا ما يبيحه الله في القصاص، ولكن الله يطلب من المؤمن إن قدر على نفسه أن يعفو، إذن فالعقوبة بالقصاص أو بغيره ما دامت مشروعة من الله بمثل ما عوقبت فهذه مرتبة الحسن، لكن إذا تركت نوازع نفسك وعفوت فهذه مرتبة " الأحسن "، وجاءت هذه الترقيات لأن الحق سبحانه وتعالى خلق في الإنسان عواطف وغرائز مهمة في حركة الحياة، ولكن العواطف لا يمكن أن يسيطر عليها الإنسان، ولذلك لا يقنن الله للعاطفة ولكنه سبحانه يقنن للغرائز. كيف ؟.
نحن نعلم أن " حب الطعام " غريزة، ولكن يجب ألا يصل حب الطعام إلى مرتبة النهم والشره. وأيضا " بقاء النوع " أو المتعة الجنسية أوجدها الحق من أجل بقاء النوع. لكن لا يصح أن تتحول إلى درجة الشرود والوقوع في أعراض الناس وانتهاك حرماتهم، وحب الاستطلاع غريزة، والذين اكتشفوا الكشوف العلمية جاءت أعمالهم من حب استطلاعهم على أسرار الوجود. لكن لا يصح ولا ينبغي أن يصل حب الاستطلاع إلى التجسس الاستذلالي.
إن للإنسان غرائز يعليها الشرع ؛ أما الحب فهو مسألة عاطفية. فالمشرع، يقول لك : أحبب من شئت وأبغض من شئت، ولكن لا تظلم من أبغضته ولا تظلم الناس لحساب من أحببت.
ولنا في رسول الله أسوة حسنة حين قال :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين " ١، فقال عمر : كيف ؟ وكررها رسول الله فعلم عمر رضي الله عنه بفطرته أن ذلك أمر تكليفي. وعرف أن الحب المراد هو الحب العقلي. فيقول المؤمن لنفسه : من أنا لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟. وكل مؤمن يحب رسول الله حبا عقليا، وقد يتسامى إلى أن يصير حبا عاطفيا. والإنسان منا كما قلنا سابقا يحب الدواء بعقله لا بعاطفته لأنه مُرّ، ولكنه يغضب إن اختفى الدواء من الأسواق ويفرح بمن يأتي له به.
إذن التكليف يتطلب الحب العقلي. ومن أخبار سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما مرّ أمامه قاتل أخيه زيد بن الخطاب فقال له عمر : ازو نفسك عني فأنا لا أحبك، فرد الرجل بكل جرأة إيمانية : أو عدم حبك لي يمنعني حقا من حقوقي ؟. قال عمر : لا، قال الرجل : إنما يبكي على الحب النساء.
والحق يقول هنا :﴿ يأخذوا بأحسنها ﴾ فمثلا، حين يُقتَل إنسان فلولي الدم أن يقتص، لكن الحق يحنن قلب ولي الدم على القاتل فيقول :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ( من الآية ١٧٨ سورة البقرة ).
وحين يسمي الحق القاتل أخا فهو يهدئ من صراع العواطف ويخفف من رغبة الانتقام. ويقول سبحانه أيضا :﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ( ٤٣ ) ﴾ ( سورة الشورى )، ونجده سبحانه يؤكد أن مثل هذا الأمر من " عزم الأمور " لأنه أمر يتطلب الصبر والمغفرة. ومادام المؤمن قد استطاع أن يصبر وأن يغفر لغريم له، أفلا يصبر إذا نزلت مصيبة عليه بدون غريم كمرض مفاجئ أو افتقاد حبيب ؟. من إذن غريمك في المرض ؟ وممن تغضب، وعلى من تهيج وإلى أين انفعالك ؟ ولذلك يقول لك الحق سبحانه :﴿ واصبر على ما أصابك ﴾ أي مما لا غريم لك فيه، ويوضح لك سبحانه :﴿ إن ذلك من عزم الأمور ﴾. ونلحظ أن الحق هنا يؤكد " باللام " لكنه أكد الأخرى " باللام " ؛ لأن لك غريما يهيجك ساعة أن تراه، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق لسيدنا موسى :﴿ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾.
يعني إذا وجدت لهم ذريعة ووسيلة وسببا إلى شيء ويوجد ما هو أحسن فأمرهم أن يأخذوا بالأحسن، لماذا ؟ ؛ لأن الإنسان إذا روّض نفسه وذللها وعودها على الأحسن قد فهم عن الله. ونفرض أن واحدا أساء إليك ويمكنك أن تسيء إليه، فعليك أن تراعي في ردك للإساءة أن تكون بقدرها مصداقا لقول الحق سبحانه :
﴿ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ ( من الآية ١٢٦ سورة النحل ).
ولكن من منا يتصف بالدقة في الموازين النفسية حتى يستطيع أن يعرف المثلية بالهوى ؟ فإن كان هناك من صفعك وتريد أن ترد الصفعة، فمن أين لك أن تقدر حجم الألم الذي في صفعتك له ؟. لا يمكن لك أن تحدد هذا القدر من الألم ؛ لأن هذه مسألة تتناسب مع القوة. إذن لماذا تدخل نفسك في متاهات، ولماذا لا تعفو وينتهي الأمر ؟.
وحين يدلك الحق على أن العفو أحسن، إنما يريد بذلك أن ينهي شراسة النفوس وضغن الصدور. فحين يقتل إنسان إنسانا آخر ؛ سيكون هناك قصاص ودم، ولكن إذا عفا وليّ الدم تكون حياة المعفو عنه هبة من وليّ الدم فيستحي القاتل بعد ذلك أن يجعل أية حركة من حركات هذه الحياة ضد وليّ الدم أو من ينسب إلى وليّ الدم، وحينذاك تنتهي أي ضغينة أو رغبة في الثأر، ولذلك نجد البلاد التي تحدث فيها الثأرات وتستشري فيها عادة الأخذ بالثأر مثل صعيد مصر نجد القاتل إذا ما أخذ كفنه على يده ودخل على وليّ الدم وقال له : أنا جئت إليك.. يعفو عنه وليّ الدم وتفهم العائلة كلها أن حياة المطلوب للثأر صارت هبة من وليّ الدم، وتصفى الثأرات وتنتهي. ولذلك جاء الأمر من الحق بالأخذ بالأحسن :﴿ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾. ومثال آخر على الأخذ بالأحسن، قد نجد مدينا غير قادر أن يوفي الدين، هنا نجد الحق يقول :﴿ فنظرة إلى ميسرة ﴾ ( من الآية ٢٨٠ سورة البقرة ) : اقترض الرجل لأنه محتاج ؛ لأن القرض لا يكون إلا عن حاجة، وهو عكس السؤال الذي قد يكون عن حاجة أو عن غير حاجة، ولهذا نجد ثواب القرض أكثر من ثواب الصدقة ؛ لأن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، ولأن المتصدق حين يتصدق بشيء من ماله يكون قد أخرج هذا المال من نفسه ولم يعد يتعلق به. لكن القرض تتعلق به النفس، فكلما صبر المقرض مع تعلق نفسه بماله أخذ أجرا، وهكذا يكون القرض أحسن من الصدقة.
إذن فهناك حَسَنٌ وهناك أحسن، الحسن هو أن تأخذ حقك المشروع، والأحسن أن تتنازل عنه، ومن يتنازلون هم الفاهمون عن الله فهما واسعا، ولنا المثل والأسوة في سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه الذي أحسن لمن أساء إليه فقال كلمته : " ألا نحسن إلى من جعل الله في جانبنا ". ودائما أضرب هذا المثل ولله المثل العلى هب أن إنسانا عنده أولاد وأساء واحد منهم للآخر. نجد قلب الأب يكون مع من أُسيء إليه، وكذلك الأمر فينا نحن خلق الله. إن أساء واحد من خلق الله إلى واحد آخر من خلق الله ؛ نجد رب الخلق مع من أُسئ إليه، وعلى من أسيء إليه أن يقول : هذا الإنسان الذي أساء إلي قد جعل ربنا في جانبي ولذلك فهو يستحق أن أحسن إليه. ولهذا يقول الحق سبحانه :
﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ ( من الآية ١٨ سورة الزمر )، وفي آية ثانية يقول الحق :﴿ واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ ( من الآية ٥٥ سورة الزمر ).
ويذيل الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله :﴿ سأريكم دار الفاسقين ﴾.
ود
١ رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
..........................................................................
راجع أصله وخرج أحاديثه الدكتور عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر..

ويقول الحق بعد ذلك :﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( ١٤٦ ) ﴾.
والآيات جمع آية وهي الأمر العجيب، وتطلق ثلاث إطلاقات، فإما أن تكون آية كونية مثل قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾، وإما أن تكون آية دلالة على صدق الرسول في البلاغ،
وإما أن تكون آية قرآنية فيها حكم من أحكام الله، وهنا يقول الحق :﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ ( من الآية ١٤٦ سورة الأعراف ) : إذن يوضح سبحانه هنا أنه سيصرف الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق عن أن ينظروا نظر اعتبار في آيات الكون، أو أن الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق سيبطل كيدهم في أن يتجهوا للحق بالهدم ؛ لأن الواحد من هؤلاء ساعة يرى آية من آيات الله سينظر إليها على أنها سحر، أو شعوذة، أو أن يقول عنها إنها ضمن أساطير الأولين.
إذن وجه الصرف أن يسلط الحق عليه من الكبر ما يجعله غير قادر على وزن الآية بالميزان الصحيح لها، والمتكبر هو من ظن أن غيره أدنى منه وأقل منزلة، ومقومات الكبر قد تكون قوة، لكن ألم يرَ المتكبر قويا قد ضعف ؟ وقد يكون الثراء من مقومات التكبر، لكن ألم يرَ المتكبر غنيا قد افتقر ؟ أو يكون المتكبر صاحب جاه، ألم يرَ المتكبر ذا جاه صار ذليلا ؟.
إذن فمن يتكبر، عليه أن يتكبر بشيء ذاتي لا يُسْلب منه أبدا. فإذا ما أردت أن تطبق هذا على البشر فلن تجد واحدا يستحق أن يكون متكبرا أبدا ؛ لأنه لا يوجد في الإنسان خاصية ذاتية فيه تلازمه ولا تفارقه أبدا، بل كلها موهوبة، ومن الأغيار التي تحدث وقد تزول. فكلها من الله وليست أمورا ذاتية، لأن القوة فيك إن كانت ذاتية فحافظ عليها، ولن تستطيع. وإن كان الثراء ذاتيا فحافظ على غناك أبدا، ولن تستطيع. وإن كانت العزة ذاتية فحافظ على عزتك أبدا ولن تستطيع. إذن فمقومات الكبرياء في البشر غير ذاتية.
وقوله سبحانه :﴿ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ يفيد أن هناك كبرياء بحق لمن يملك في ذاته كل عناصر القوة والثراء والجاه والعزة، ولذلك فالكبرياء لله وحده. واعلموا أن كل متكبر في الأرض لا يخطر الله بباله ؛ لأنه لو خطر الله بكماله وجلاله في باله لتضاءل ؛ لأن الله يخطر فقط ببال المتواضعين من الناس، ولذلك نضرب هذا المثل : إننا نجد من حولنا إنسانا هو الرئيس الأعلى، وهناك رئيس لطائفة ومرؤوس لآخر، وهناك مرؤوس فقط. والرئيس المرؤوس لا يستطيع أن يجلس مع المرؤوسين له بتكبر ويضع ساقا على ساق ويعطي أوامر ؛ لأنه قد يلتفت فيجد رئيسه وقد دخل عليه. فلو فعل الرئيس المرؤوس ذلك لضحك منه المرؤوسون له. فكذلك الناس الذين لا يستحضرون الله في بالهم نجدهم مثار سخرية، لك الذين يستحضرون الله الذي له الكبرياء في السماوات والأرض لا يتكبرون أبدا.
إنه سبحانه يصرف عن المتكبرين النظر في الآيات الكونية فلا يعتبرون، ويصرف عنهم تصديق الآيات الدالة على نبوة الأنبياء، ويصرف عنهم القدرة على تصديق أحكام القرآن، ويطبع على قلوبهم، فما بداخل هذه القلوب من الكفر لا يخرج، وما في خارج هذه القلوب من الإيمان لا يدخل. وهو برغم حركتهم في الحياة إلا أن الحق يعجزهم عن رؤية آياته في الكون. ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ﴾( من الآية ١٤٦ سورة الأعراف :)وحين يرى أهل الكبر الآية الكونية أو الآية الإعجازية أو آيات الأحكام فهم لا يؤمنون بها، وحين يرون سبيل الرشد لا يتخذونه سبيلا ؛ لأن سبيل الرشد يضغط على شهوات النفس وهواها، فينهى عن السيئات وهم لا يقدرون على كبح جماح شهواتهم لأنها تمكنت منهم، ولكن سبيل الغي يطلق العِنان لشهوات النفس، ولا يكون كذلك إلا إذا غفل عن معطيات الإيمان الذي يحرمه من شيء ليعطيه أشياء أثمن، وهكذا تكون نظرة أهل الكبر سطحية. ونلحظ أن كلمة السبيل تأتي مرة كمذكر كقوله ؛ ﴿ لا يتخذون سبيلا ﴾، ومرة تأتي مؤنثة، فالحق يقول :﴿ قل هذه سبيلي ﴾.
وهنا يقول الحق عن الذين يتبعون سبيل الغي من أهل الكبر :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾. وقديما قلنا إن الغفلة لا توجب الجزاء عليها ؛ لأن الغافل ساه وناس، ولكن هؤلاء صدفوا عن الأمر صدوفا عقليّا مقصودا، لدرجة أنهم لا يعيرون الإيمان أي التفات.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤٧ ) ﴾.
وقد جاء لفظ الآيات هنا أكثر من مرة، فقد قال الحق :﴿ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾. ويقول أيضا :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾. ويقول سبحانه :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾.
إذن فالمسألة كلها مناطها في الآيات الكونية للاستدلال على من أوجدها،
والإعجازية للاستدلال على صدق مَنْ أُرسل من الرسل، والقرآنية لأخذ منهج الله لتقويم واستواء حركة الإنسان.
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ ( من الآية ١٤٧ سورة
الأعراف ) : ويقال : حبط الشيء أي انتفخ وورم من علة أو مرض. أي أنهم في ظاهر الأمر يبدوا لهم أنهم عملوا أعمالا حسنة ولكنها في الواقع أعمال باطلة وفاسدة، وقد يوجد من عمل عملا حسنا نافعا للناس، ولكن ليس في باله أن يفعل ذلك إرضاء لله، بل للشهرة لينتشر ذكره ويذيع صِيتُه ويثني الناس عليه، أو للجاه والمركز والنفوذ. ولذلك حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من الشهيد ؟. قال :" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " ١، لأن الرجل قد يقاتل حمية، أو ليعرف الناس مثلا أنه شجاع. إذن فهناك من يعمل عملا ليفتخر به. ويقال مثلا : إن الكفار هم من اكتشفوا الميكروب وصعدوا إلى الفضاء. ونقول نعم لقد أخذوا التقدير من الناس لأن الناس كانت في بالهم، ولن يأخذوا التقدير من الله لأنهم عملوا أعمالهم وليس في بالهم الله. والإنسان يأخذ أجره ممن عمل له، والله سبحانه وتعالى لن يضيع أجر أعمالهم الحسنة، بل أعطى لهم أجورهم في الدنيا، لكن الحرث الآخرة ليس لهم.
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾ ( من الآية ٢٠ سورة الشورى ) : فمن زرع وأحسن اختيار البذور، واختيار التربة وروى بنظام يأتي له الزرع بالثمر لأنه أخذ بالأسباب، وهذا اسمه عطاء الربوبية وهو عطاء عام لكل من خلق الله، مؤمنا كان أو كافرا، عاصيا أو طائعا، لكن عطاء الألوهية يكون في إتباع المنهج ب " افعل ولا تفعل " وهذا خاص بالمؤمنين فإذا ما أحسنوا استعمال أسباب الحياة في السنن الكونية. يأخذون حظهم منها، والكافرون أيضا يأخذون حظهم منها إذا أحسنوا الأخذ بالأسباب ؛ ويكون ذلك بتخليد الذكرى وإقامة التماثيل لهم. وأخذ المكافآت والجوائز وحفلات التكريم. أما جزاء الآخرة فيأخذه من عمل لرب الآخرة، أما من لم يفعلوا من أجل لقاء الله فهو سبحانه يقول في حقهم :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ( ٢٣ ) ﴾( سورة الفرقان ) : وكذلك يقول :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة النور )
فالكافرون مثلهم مثل الظمآن الذي يسير في صحراء ويخيل له أن أمامه ماء، ويمشي ويمشي فلا يجد ماء. أما غير الظمآن فلا يهمه إن كان هناك ماء أو لا يوجد ماء، فالظمآن ساعة يرى السراب يمني نفسه بأن المياه قادمة وأنه سيحصل عليها. ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة النور ).
وليس المهم أنه لم يجد شيئا. بل يفاجأ :﴿ ووجد الله عنده ﴾. إنه يفاجأ بأن الإله الذي كان لا يصدق بأنه موجود يجده أمامه يوم القيامة فيوفيه حسابه ويجزيه على عمله القبيح. إذن فإن عمل الإنسان عملا فلينتظر الأجر ممن عمل له، وإن عمل الإنسان عملا وليس في باله الله فعليه ألا يتوقع الأجر منه، وعلى الرغم من ذلك يعطي لهؤلاء الأجر في قانون نواميس الحياة الكونية ؛ لأن من يحسن عملا يأخذ جزاءه عنه. ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : هم إذن كذبوا بآيات الله، وكذبوا باليوم الآخر، ولم يعملوا وفق منهج الإيمان، فلهم جزاء وعقاب من الحق الذي أنزل هذا المنهج، ولكنهم أعرضوا عنه وكذبوه.
ولذلك يقول سبحانه :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ( ١٠٣ ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ١٠٤ ) ﴾ ( سورة الكهف ).
١ رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ( ١٤٨ ) ﴾.
وقوله :﴿ من بعده ﴾ أي من بعد ذهابه لميقات ربه بعد أن قال لهارون :﴿ اخلفني في قومي ﴾.
بعد ذلك اتخذ قوم موسى من حليهم عجلا جسدا له خُوار، ونعرف أن الحلي هو ما يُتَزَيّن به من الذهب، والجواهر والأشياء الثمينة، وسيد هذه الحلي هو الذهب دائما، ونعلم أن الصائغ الماهر يشكل الذهب كما يريد، وإن انكسر يسهل إصلاحه، كما أن كسر الذهب بطئ، ولذلك يقال : إن الذهب كالإنسان الطيب كسره بطيء، وانجباره سهل.
وساعة نسمع كلمة " زينة " قد يدخل فيها الماس والزمرد، والياقوت، لكن الذهب سيد هذه الحلي. ونعلم أن العالم مهما ارتقى، فلن يكون هناك رصيد لأمواله إلا الذهب، ولذلك لم يأت سبحانه بالياقوت، أو بالجواهر، أو بالماس. ولذلك إذا أطلقت كلمة " الحلي " فالمراد بها الذهب.
وهذه الزينة هي التي صنع منها موسى السامري تمثال العجل، وبطبيعة الحال أخذ الحلي الذهبية لأن الماس والجواهر لا يمكن صهرها. لكن من أين جاء قوم موسى بالحلي وقد كانوا مستضعفين، ومستذلين ؟ لقد احتالوا على أهل مصر وأخذوا منهم الحلية كسلفة سيردونها من بعد ذلك. ثم جاء رحيلهم فأخذوا الحلي معهم.
وغرق قوم فرعون وبقيت الحلي مع قوم موسى، وصنع موسى السامري من ذهب هذه الحلي عجلا، والعجل هو الذكر من ولد البقر، وساعة تسمع قوله :﴿ عِجْلًا جَسَدًا ﴾ أي أنه محَجَّم، أي له حجم واضح. وأخذ أهل التفسير من كلمة " جسدا " أن ذلك العجل هو بدن لا روح له، مثلما نقول : " فلان هذا مجرد " جثة ". أي كأنه جثة بلا روح.
وقوله الحق :﴿ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ﴾، هذا القول يدل على أن جسدية العجل لم تكن لها حياة ؛ لأنه لو كان جسدا فيه روح لما احتاج إلى أن يقول عجلا جسدا له خوار، ولاكتفى بالقول بأنه عجل. لكن قوله سبحانه :﴿ له خوار ﴾ دليل على أن الجسدية في العجل لا تعطي له الحياة. وجاء بالوصف في قوله :﴿ له خوار ﴾ والخُوار هو صوت البقر. وقد صنعه من الذهب وكأنه يريد أن يتميز عن الآلهة التي كانت من الحجار، وحاول أن يجعله إلها نفيسا، فصنعه كما نعرف من الحلي المسروقة، وصنعه بطريقة أن هذا أن هذا العجل الجسد إذا ما استقبل من دبره هبة الهواء ؛ صنعت وأحدثت في جوفه صوتا يشبه صوت وخوار البقر الذي يخرج من فمه، وهذه مسألة نراها في الناي وهو أنبوبة من القصب مما يسمى الغاب البلدي وتصنع به ثقوب، ويعزف عليه العازف ليخرج منه النغمة التي يريدها.
وحين صنع موسى السامري العجل بهذه الحيلة، حدث هذا الصوت مشابها لخوار البقر. وقصة هذا العجل تأتي في سورة طه بوضوح وسنتعرض لها حين نتعرض بخواطرنا الإيمانية لسورة طه بإذن الله :﴿ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ ( من الآية ١٤٨ سورة الأعراف ) : ولماذا اختار السامري العجل ؟ لأنهم حين خروجهم من مصر، رأوا قدماء المصريين وهم يعبدون العجل لمزية فيه، فقد كانوا يرون فيه مظهر قوة، كما عبد الآخرون الشمس حين رأوا فيها مظهر قوة، وكذلك من عبدوا القمر، والنجوم. وقدماء المصريين عبدوا العجل لأن فيضان النيل كان يغمر الأرض بالمياه، وكانوا يستخدمون العجل. حين يريدون حرث الأرض. وكان أَيِّدا أي قويا وشديدا في حرث الأرض وهذا مظهر من مظاهر القوة، ولكن كيف اتخذ قوم موسى من بعده عجلا يعبدونه بعد أن أتم عليهم الله المنة العظيمة حين أنجاهم وأغرق فرعون وآله ؟ وهنا أوضح لنا الله أنه جاوز ببني إسرائيل البحر ومروا على قوم يعبدون الأصنام ؛ فقالوا لموسى عليه السلام : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
ويأتي القول من الحق :﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ ( من الآية ١٤٨ سورة الأعراف ) : وهذه قضية تهدم كل عبادة دون عبادة الله ؛ لأن العبد لابد أن يلتقي من المعبود أوامر، وأن يكون عند المعبود منهج يريد من العبد أن ينفذه، وأن يأتي المنهج بواسطة رسل يبلغون رسالات الله وكلام الله للبشر. أما الذين يعبدون الشمس مثلا فنسألهم : لماذا تعبدونها ؟ وما المنهج الذي أرسلته الشمس لكم ؟. إن العبادة هي طاعة العابد للمعبود في " افعل " و " لا تفعل " فهل قالت لكم الشمس " افعلوا " و " لا تفعلوا " ؟ لا ؛ لأنه لا توجد واسطة كلامية تقول لكم المنهج، وكيف يوجد إذن معبود بدون منهج للعابد ؟ وهل قالت : إن من يعبدني سأشرق عليه، وأعطيه الضوء والحرارة، ومن لا يعبدني فلن أعطيه شيئا من ذلك ؟ لم تقل الشمس ذلك فهي تعطي من آمن بها ومن كفر، ولم ترسل خبرا عن الآخرة وقيام القيامة.
وهكذا يبطل أمامنا كل عبادة لغير الله من ناحية أن العبادة تقتضي أمرا ونهيا، في " افعل " و " لا تفعل " ولم يقل معبود من هؤلاء ما الذي نطيعه وما الذي نعصاه. والأصل في المعبود أن يهدي العابد السبيل الموصل إلى خيره في الدنيا وفي الآخرة. لذلك يقول الحق :﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾. و﴿ كانوا ظالمين ﴾ لأنهم أعطوا حقا لمن ليس له الحق، والحق سبحانه أعلى قمة في الحق، ولذلك قال عن الشرك به :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ١٤٩ ) ﴾.
هذا يوضح لنا أن عبادة العجل بين قوم موسى صار لها جمهور. لكن الناس الذين يمتلكون قدرا من البصيرة، أو بقية إيمان قالوا : هذه الحكاية سخيفة، وما كان لنا أن نفعلها وندموا على ما كان، ويقال : سُقِط في يده، وهذه من الدلالات الطبيعية الفطرية التي لا تختلف فيها أمة عن أمة، بل هي في كل الأجناس، وفي كل لغة تشير إلى أن الإنسان إذا ما فعل فعلا وحدث له عكس ما يفعل يعض على الأنامل ندما وغمّا، وهذه من الدلالات الفطرية الباقية لنا من الالتقاء الطبعي في المخاطبات، في كل الأجناس. ويعض الإنسان الأنامل لأنه عمل شيئا ما كان يصح أن يعمله، فإذا كان الشيء عظيما فهو لا يكتفي بالأنملة بل يمسك يده كلها ويعضها. والحق يقول :﴿ ويوم يعض الظالم على يديه ﴾،
" وسُقِط في أيديهم " أي جاءت أنيابهم على أيديهم، كأن الندم بلغ أشده، إن ذلك حدث من التائبين الذين أبصروا بعيونهم ورأوا أن ذلك باطل وخسران. أي قالوا : لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته لنكونن من الهالكين، وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ١٥٠ ) ﴾.
وكون موسى يعود إلى قومه حالة كونه غضبان أسِفا، يدلنا على أنه علم الخبر بحكاية العجل. والغضب والأسف عملية نفسية فيها حزن وسموها : " المواجيد النفسية "، أي الشيء الذي يجده الإنسان في نفسه، وقد يعبر عن هذه المواجيد بانفعالات نزوعية، ولذلك تجد فارقا بين من يحزن ويكبت في نفسه، وبين من يغضب، فمن يغضب تنتفخ أوداجه ويحمر وجهه ويستمر هياجه وتبرق عيناه بالشر وتندفع يداه، وهذا اسمه : غضبان. وصار موسى إلى الحالتين الاثنتين ؛ وقدم الغضب لأنه رسول له منهجه. ولا يكفي في مثل هذا الأمر الحزن فقط، بل لابد أن يكون هناك الغضب نتيجة هياج الجوارح.
وقديما قلنا : إن كل تصور شعوري له ثلاث مراحل : المرحلة الأولى. مرحلة إدراكية، ثم مرحلة وجدانية في النفس، ثم مرحلة نزوعية بالحركة، وضربنا المثل لذلك بالوردة. فمن يرى الوردة فهذا إدراك، وله أن يعجب بها ويسر من شكلها ويطمئن لها ويرتاح، وهذا وجدان. لكن من يمد يده ليقطفها فهذا نزوع حركي. والتشريع لم يقنن للإدراك أو للوجدان لكنه قنن للسلوك. إلا في غض البصر عما حرم الله وذلك رعاية لحرمة الأعراض.
والأسف عند موسى لن يظهر للمخالفين للمنهج. بل يظهر الغضب وهو عملية نزوعية، ونلحظ أنه يأتي بكلمة أَسِف. وهي مبالغة. فهناك فرق بين أَسِف وآسف، آسف خفيفة قليلا، لكن أَسِف صيغة مبالغة، مما يدل على أن الحزن قد اشتد عليه وتمكن منه. ﴿ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ ( من الآية ١٥٠ سورة الأعراف ).
وقوله سبحانه :﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾ أي استبطأتموني، وهذا نتيجة لذهاب موسى لثلاثين ليلة وأتممها بعشر، فتساءل موسى : هل ظننتم أنني لن آتي ؟ أو أنني أبطأت عليكم ؟ وهل كنتم تعتقدون وتؤمنون من أجلي أو من أجل إله قادر ؟. ولذلك قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه : عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى :" من كان يعبد محمدًّا فإن محمدًّا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ". وهنا يقول سيدنا موسى : افترضوا أنكم عجلتم الأمر واستبطأتموني أو خفتم أن أكون قد مت. فهل كنتم تعبدونني أو تعبدون ربنا :﴿ أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح ﴾، ونعلم أن الألواح فيها المنهج، وقدر موسى على أخيه :﴿ وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ﴾ وهذا " النزوع الغضبي " الذي جعله يأخذ برأس أخيه، كأن الأخوة هنا لا نفع لها، فماذا كان رد الأخ هارون : ؟
﴿ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ( من الآية ١٥٠ سورة الأعراف ) : نلحظ أنه قال : " ابن أم " ولم يقل : " ابن أب " لأن أبا موسى وهارون طُوي اسمه في تاريخ النبوات ولم يظهر عنه أي خبر، والعلم جاءنا عن أمه لأنها هي التي قابلت المشقات في أمر حياته، لذلك جاء هنا بالقدر المشترك البارز في حياتهما، ولأن الأمومة مستقر الأرحام ؛ لذلك أنت تجد أخوة من الأم، وأخوة من الأب فقط، وأخوة من الأب والأم، والأخوة من الأب والأم أمرهم معروف. لكن نجد في أخوة الأم حنانا ظاهرا، ويقل الحنان بين الأخوة من الأب. وجاء الحق هنا بالقدر المشترك بينهما موسى وهارون وهو أخوة الأم، وله وجود مستحضر في تاريخهم. أما الأب عمران فنحن لا نعرف عنه شيئا، وكل الآيات التي جاءت عن موسى متعلقة بأمه، لذلك نجد أخاه هارون يكلمه بالأسلوب الذي يحننه :﴿ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ﴾. ومادام قد قال :﴿ وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ﴾ فهذا دليل على أنه وقف منهم موقف المعارض والمقاوم الذي أدى ما عليه إلى درجة أنهم فكروا في قتله، ويتابع الحق بلسان هارون :﴿ فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
والشماتة هي إظهار الفرح بمصيبة تقع بخصم، والأعداء هم القوم الذين اتخذوا العجل، وقد وصفهم بالأعداء كدليل على أنه وقف منهم موقف العداوة، وأن موقف الخلاف بين موسى وهارون سيفرحهم. وقوله :﴿ وأخذ برأس أخيه ﴾.. إجمال للرأس في عمومها، وفي آية أخرى يقول :﴿ لا تأخذ بلحيتي ولا براسي ﴾.
ولقد صنع موسى ذلك ليسمع العذر من هارون ؛ لأنه يعلم أن هارون رسول مثله، وأراد أن يسمعنا ويسمع الدنيا حجة أخيه حين أوضح أنه لم يقصر. قال : إن القوم استضعفوني لأني وحدي وكادوا يقتلونني، مما يدل على أنه قاومهم مقاومة وصلت وانتهت إلى آخر مجهودات الطاقة في الحياة ؛ حتى أنهم كادوا يقتلونه، إذن فهو لم يوافقهم على شيء، ولكنه قاوم على قدر الطاقة البشرية، لذلك يذيل الحق الآية بقوله سبحانه :﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾.
وكأنه يقول : لموسى إنك إن آخذتني هذه المؤاخذة في حالة غضبك، ربما ظُنّ بي أنني كنت معهم، أو سلكت مسلكهم في اتخاذ العجل وعبادته. وأراد الحق سبحانه أن يبين لنا موقف موسى وموقف أخيه ؛ فموقف موسى ظهر حين غضب على أخيه وابن أمه، وموقف هارون الذي بيّن العلة في أن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولا يمكن أن يطلب منه فوق هذا، وحينما قال هارون ذلك تنبه موسى إلى أمرين : الأمر الأول : أنه كيف يلقي الألواح وفيها المنهج ؟ والأمر الثاني : أنه كيف يأخذ أخاه هذه الأخذة قبل أن يتبن وجه الحق منه ؟
ويقول الحق على لسانه بعد ذلك :﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( ١٥١ ) ﴾.
قال يا رب اغفر لي إن كان قد بدر مني شيء يخالف منطق الصواب والحق. واغفر لأخي هارون ما صنع، فقد كان يجب عليه أن يأخذ في قتال من عبدوا العجل حتى يمنعهم أو ينالوا منه ولو مادون القتل جرحا أو خدشا أو.. أو.. الخ.
ويطلب موسى لنفسه ولأخيه الرحمة :﴿ وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة ).
وحين تسمع ﴿ أرحم الراحمين ﴾، أو ﴿ خير الرازقين ﴾، أو ﴿ خير الوارثين ﴾، أو ﴿ أحسن الخالقين ﴾، وكل جمع هو وصف لله، وإنه بهذا أيضا يدعو خلقه إلى التخلق بهذا الخلق، ويوصف به خلقه. فاعلم أن الله لم يحرمهم من وصفهم بهذه الصفات لأن لهم فيها عملا وإن كان محدودة يتناسب مع قدرتهم ومخلوقيتهم وعبوديتهم، فضلا على أنها عطاء ومنحة منه سبحانه أما صفات الله فهي صفات لا محدودة ولا متناهية جلالا وكمالا وجمالا فسبحانه ﴿ ليس كمثله شيء ﴾، فإذا كان الله هو ﴿ أرحم الراحمين ﴾ فهذا يعني أنه سبحانه لم يمنع الرحمة من خلقه على خلقه ؛ فمن رحم أخاه سُميّ رحيما، وراحما، ولكن الله أرحم الراحمين ؛ لأن الرحمة من كل إنسان ضمان لمظهرية الغضب في هذا الأحد، يقال : " رحمت فلانًا " أي من غضبك عليه وعقوبتك، وإن عقوبتك على قدر قوتك، لكن الله حين يريد أن يأخذ واحدا بذنب فقوته لا نهاية لها، وكذلك رحمته أيضا لا نهاية لها.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ( ١٥٢ ) ﴾.
حين يقال :﴿ اتخذوا العجل ﴾ قد نجد من يتساءل : هل اتخذوه مذبوحا يأكلونا ؟ أو يثير الأرض أو يسقي الحرث ويدير السواقي ؟ لأن العجل موجود لهذه المهام، لكنهم لم يأخذوا العجل لتلك المهام، بل إنهم قد اتخذوا العجل إلها ومعبودا، أما اتخاذه فيما خُلِق له فلا غبار عليه، وهو هنا محذوف ومتروك لفطنة السامع ؛ فإذا اتخذنا العجل فيما خُلِق له العجل لا ينالنا غضب من الله، أما الذين سينالهم غضب الله فهم من اتخذوا العجل في غير ما خُلق له، إنهم اتخذوه إلها :﴿ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾.
وقوله :﴿ سَيَنَالُهُمْ ﴾ يدل على أن أوان الغضب والذلة لم يأت بعد، وسيحدث في المستقبل، ومستقبل الدنيا هو الآخرة، ولكن الحق هنا يقول : إن الذلة ستحدث في الدنيا، فكيف يكون ﴿ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ ﴾ مع أنهم تابوا ؟ ويوضح سبحانه لنا ذلك في قوله :﴿ فتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فاقْتُلُوا أنْفُسكُمْ ذلِكُمْ خيْرٌ لكُمْ عِنْد بارِئِكُمْ فتاب عليْكُمْ ﴾.
فبعضهم تاب إلى بارئه وقتل نفسه فلماذا إذن الغضب ؟ ويوضح الحق لنا أن الذي نالهم من الغضب هو ما ألجأهم إلى أن يقال لهم : " اقتلوا أنفسكم "، وهكذا نفهم أن قوله تعالى :﴿ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ ﴾ أي قبل أن يتوبوا، وقتل النفس هو منتهى اللذة ومنتهى الإهانة.
﴿ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ ( من الآية ١٥٢ سورة الأعراف ) : أي أن هذا الأمر ليس بخاصية لهم، فكل مفتر يتجاوز حده فوق ما شرعه الله لابد أن يناله هذا الجزاء ؛ لأن ربنا حين يقول لنا ما حدث في تاريخهم ؛ وحين يسرد لنا هذه القصة فإنه يريد من وراء ذلك سبحانه أن يعتبر السامع للقصة في نفسه. واعتبار السامع للقصة في نفسه لا يتأتى إلا بأن يقول له الله تنبيها وتحذيرا :﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ أي احذر أن تكون مثل هؤلاء فينالك ما نالهم، وهو سبحانه ينبه كلا منا لينتفع من هذه العبرة وهذه اللقطة فإن التاريخ مسرود لأخذ العبرة، والعظة ليتعظ بها السامع.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٥٣ ) ﴾.
وهذا ما حدث، فبعد أن اتخذوا العجل، وقال لهم : اقتلوا أنفسكم توبة إلى بارئكم، ثم تابوا ورجعوا إلى الله وآمنوا بما جاءهم، غفر الله لهم. وإذا كان الحق قد قص علينا مظهرية جباريته فإنه أيضا لم يشأ أن يدعنا في مظهرية الجبارية، وأراد أن يدخلنا في حنان الرحمانية. لذلك يقول هنا :﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٥٣ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : وقوله :﴿ ثم تابوا ﴾ أي ندموا على ما فعلوا وأصروا وعزموا على ألّا يعودوا، ونعلم من قبل أن التوبة لها مظهريات ثلاثة ؛ أولا : لها مظهرية التشريع، ولها مظهرية الفعل من التائب ثانيا، ولها قبولية الله للتوبة من التائب ثالثا. ومشروعية التوبة نفسها فيها مطلق الرحمة، ولو لم يكن ربنا قد شرع التوبة في ذاتها لتعب الخلق جميعا ؛ لأن كل من عمل سيئة، ولم يشرع الله له التوبة، سيشتري شره في عمل السيئات. لكن حين يشرع ربنا للمسيء التوبة، ويدعو العبد للكف عن السيئة فهذه رحمة بالمذنب، وبالمجتمع الذي يعيش فيه المذنب. بعد ذلك يتوب العبد، ثم يكون هنا مظهرية أخرى للحق، وهو أن يقبل توبته.
التوبة إذن لها تشريع من الله، وذلك رحمة، وفعل من العبد بأن يتوب، وذلك هو الاستجابة، وقبول من الله، وذلك هو قمة العطاء والرحمة منه سبحانه.
وقوله الحق :﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا ﴾( من الآية ١٥٣ سورة الأعراف :)إن هذا القول يدل على أن عمل السيئة يخدش الإيمان، فيأمر سبحانه عبده : جدّد إيمانك، واستحضر ربك استحضارا استقباليا ؛ لأن عملك السيئة يدل على أنك قد غفلت عن الحق في أمره ونهيه، وحين تتوب فأنت تجدد إيمانك وتجد ربك غفورا رحيما :﴿ نَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
إن ذنب العبد يكون فيما خالف منهج ربه في " افعل " و " لا تفعل "، ومادام العبد قد استغفر الله وتاب فسبحانه يقبل التوبة. ويوضح : إذا كنت أنا غفورا رحيما، فإياكم يا خلقي أن تُذَكِّروا مذنبا بعد أن يتوب ؛ لأن صاحب الشأن غفر، فإياك أن تقول للسارق التائب " يا سارق "، وإياك أن تقول للزاني التائب : " يا زاني "، وإياك أن تقول للمرتشي التائب : " يا مرتشي " لأن المذنب ما دام قد جدّد توبته وآمن، وغفر الله له، فلا تكن أنت طفيليّا وتبرز له الذنب من جديد.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ( ١٥٤ ) ﴾.
وهل للغضب سكوت ؟ هل للغضب مشاعر حتى يسكت ؟ نعم ؛ لأن الغضب هيجان النفس لتعمل نزوعيّا أمام من أذنب، فكأن الغضب يلح عليه، ويقول للغاضب : اضرب، اشتم، اقتل. كأن الغضب قد مُثِّل وصُوِّر في صورة شخص له قدرة إصدار الأوامر، فشبَّه الله الغضب بصورة إنسان يلح على موسى في أن يفعل كذا، ويفعل كذا، فلما قال الله ذلك كأن الغضب قد سكت عنه.
أو هو كما قال إخواننا العلماء : من القلب في اللغة، أي أنه يقلب المسألة، اتكالا على أن فطنة السامع سترد كل شيء إلى أصله ؛ كما نسمع في اللغة : خرق الثوبُ المسمارَ، نفهم من هذا القول أن المسمار هو الذي قام بخرق الثوب ؛ لأننا لن نتخيل أنّ الثوب يخرق مسمارا. ويسمى ذلك " القلب " أي أن يأتي بمسألة مقلوبة تفهمها فطنة السامع. أو أن المسمار مستقر في مكانه، والثوب هو الذي طرأ عليه فانخرق، فيكون سبب الخرق من الثوب، فكأن الفاعليه الحقيقة من الثوب :﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ﴾. أو تكون كلمة " سكت " كناية عن أن الغضب زال وانتهى. ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ( ١٥٤ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
وأول عمل قام به موسى ساعة أن كان غضبان أسفا أنه ألقى الألواح، وأول ما ذهب الغضب عنه وزايله أخذ الألواح، وهذا أمر منطقي، فالغضب جعله يلقي الألواح، ويأخذ برأس أخيه، ثم فهم ما فعله أخوه واعتذر به فقبل عذره، وطلب من الله أن يغفر له، وأن يغفر لأخيه وانتهى الغضب وكانت الألواح ملقاة فأخذها ثانية.
﴿ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ ( من الآية ١٥٤ سورة الأعراف ) : النسخة من الكتاب مأخوذة من الشيء المنسوخ أي المنقول من مكان إلى مكان، ويقال : نسخت الكتاب الفلاني من الكتاب الفلاني.. أي أن هناك كتابا مخطوطا ثم نقلناه بالطباعة أو بالكتابة إلى نسخة أو عدد من النسخ، أي أخذته من الأصل إلى الصورة، واسمه منسوخ، وكلمة نُسخة، على وزن " فُعْلة " وتأتي بمعنى مفعولة، فنسخة تعني منسوخة، وفي القرآن مثل هذا كثير. والحق سبحانه وتعالى قال :﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ ( من الآية ٢٤٩ سورة البقرة ) : و " غُرْفة " أي مغروفة، وهي القليل من المياه في اليد لتبل الريق فقط، والغرفة أيضا تكون في البيوت ؛ لأنها مكان مقتطع من مكان آخر ولها جدران تحددها، واسمها غرفة لأنها مغروفة من المكان في حيز مخصوص. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ وفي نسختها هدى ورحمة ﴾.
و " هدى " المقصود بها المنهج الموصل للغاية في " افعل " و " لا تفعل ". إنه يوصل للغاية وهي ثواب الآخرة. إذن فالهدى والرحمة شيء واحد له طرفان، فالهدى هو المنهج الذي إن اتبعته تصل إلى الرحمة، ولذلك يقول الحق " ﴿ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾.
وهكذا نجد المنهج هدى ورحمة، فمن يسمع كلام الله ويتبعه ويهتدي ويرحمه ربنا لأنه جعل الله في باله، وخاف من صفات الجبارية في الحق، ولهذا لابد أن يستحضر الإنسان أو المؤمن رهبته لربه وخوفه منه سبحانه ليكون المنهج هدى ورحمة له. ويكون من الذين يرهبون ربهم.
وساعة ترى المفعول تقدم في مثل قوله سبحانه هنا :﴿ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ ( من الآية ١٥٤ سورة الأعراف ) : نفهم أن هذا ما يسمى في اللغة " اختصاص " وقَصْر مثلما قال الحق في فاتحة الكتاب :﴿ إياك نعبد ﴾.
وما الفرق بين ﴿ إياك نعبد ﴾ و " نعبدك " ؟ إن قلنا " نعبدك " فهو قول لا يمنع من العطف عليه، فقد نعبدك ونعبد الشركاء معك ؛ لكن قولنا :﴿ إياك نعبد ﴾ أي خصصناك بالعبادة وقصرناها عليك سبحانك فلا تتعدى إلى غيرك.
إذن حين تقدم المفعول فهذا هو عمل الاختصاص. ومثال ذلك في حياتنا حين نقول : " أكرمتك "، ولا مانع أن نقول بعدها " وأكرمت زيدا وأكرمت عمرا }. لكن إن قلت : إياك أكرمت، فهذا يعني أني لم أكرم إلا إياك. وهنا يقول الحق :﴿ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾. ولقائل أن يقول : ألا يمكن أن يدعي أحد الرهبة ظاهرا وأنه ممتثل لأمر الله رياء أو سمعة حتى يقول الناس : إن فلانا حسن الإسلام، ويأخذون في الثناء عليه ؟ ولكن هنا نجد التخصيص الذي يدل على أن العبد لا يرهب أحدا غير الله، وأن الرهبة خالصة لله، وليست رياء، ولا سمعة، ولا لقصد الثناء.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ( ١٥٥ ) ﴾.
وكلمة " اختار " تدل على أن العمل الاختياري يُرجح العقل فيه فعلا على عدم فعل أو على فعل آخر، وإلا فلا يكون في الأمر اختيار ؛ لأن " اختار " تعني طلب الخير والخيار، وكان في مكنتك أن تأخذ غيره، وهذا لا يتأتى إلا في الأمور الاختيارية التي هي مناط التكليف، مثال ذلك : اللسان خاضع لإرادة صاحبه فخضع للمؤمن حين قال : لا إله إلا الله، وخضع للملحد حين قال لعنه الله : لا وجود لله، ولم يعص اللسان في هذه، ولا في تلك. والذي رجح أمرا على أمر هو ترجيح الإيمان عند المؤمن في أن يقول : لا إله إلا الله، وترجيح الإلحاد عند الملحد في أن يقول ما يناقض ذلك. والحق هنا يقول :﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا ﴾.
والذين درسوا اللغة يقولون : إن هناك حدثا. وأن هناك موجودا للحدث نسميه فاعلا مثل قولنا : " كتب زيد الدرس " أي أن زيدا هو الذي أدى الكتابة، ونسمي " الدرس " الذي وقعت عليه الكتابة مفعولا به، ومرة يكون هناك ما نسميه " مفعولا له " أو " مفعولا لأجله " مثل قوله الابن : قمت لوالدي إجلالا، فالذي قام هو الابن، والإجلال كان سببا في إيقاع الفعل فنسميه " مفعولا لأجله " ونقول : " صُمْت يوم كذا " ونسميه " مفعولا فيه "، وهو أن الفعل، وقع في هذا الزمن. فمرة يقع الحدث على شيء فيكون مفعولا به، ومرة يقع لأجل كذا فيكون مفعولا لأجله، ومرة يقع في يوم كذا ؛ العصر أو الظهر فيكون مفعولا فيه، ومرة يكون مفعولا معه " مثل قولنا : سرت والنيل : أي أن الإنسان سار بجانب النيل وكلما مشى وجد النيل في جانبه.
وهنا يقول الحق :﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ﴾ ( من الآية ١٥٥ سورة الأعراف ) : ولأن اختيار موسى للسبعين كان وقع من القوم ؛ فيكون المفعول قد جاء من هؤلاء القوم، ويسمى " مفعولا منه " ؛ لأنه لم يخترهم كلهم، إنما اختار منهم سبعين رجلا لميقاته مع الله سبحانه.
وقالوا في علة السبعين إن من اتبعوا موسى كانوا أسباطا، فأخذ من كل سبط عددا من الرجال ليكون كل الأسباط ممثلين في الميقات، وكلمة " ميقات " مرت قبل ذلك حين قال الله :﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ ( من الآية ١٤٣ سورة الأعراف ) : وهل الميقات هذا هو الميقات الأول ؟ لا ؛ لأن الميقات الأول كان لكلام موسى مع الله، والميثاق الثاني هو للاعتذار عن عبدة العجل.
﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ ﴾( من الآية ١٥٥ سورة الأعراف ) : ولماذا أخذتهم الرجفة ؟
لأنهم يقاوموا الذين عبدوا العجل المقاومة الملائمة، وأراد الله أن يعطي لهم لمحة من عذابه، والرجفة هي الزلزلة الشديدة التي تهز المرجوف وتخفيه وترهبه من الراجف. وحين أخذتهم الرجفة قال موسى :﴿ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ﴾.
أوضح موسى : لقد أحضرتهم من قومهم. وأهلوهم يعرفون أن السبعين رجلا قد جاءوا معي، فإن أهلكتهم يا رب فقد يظن أهلهم أنني أحضرتهم ليموتوا وأسلمتهم إلى الهلاك. ولو كنت مميتهم يا رب وشاءت مشيئتك ذلك لأمّتهم من قبل هذه المسألة وأنا معهم أيضا. ويضيف القرآن على لسان موسى والقوم معا :
﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴾( من الآية ١٥٥ سورة الأعراف ) : أنت أرحم يا رب من أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا، وهذا القول يدل على أن العملية عملية فعل، والفعل هو عبادة العجل ؛ فلو أن هذا هو الميقات الأول لما احتاج إلى مثل هذا القول ؛ لأن قوم موسى لم يكونوا قد عبدوا العجل بعد. ولكنهم قالوا بعد الميقات الأول : مادام موسى قد كلم الله، فلابد لنا أن نرى الله، وقالوا فعلا لموسى :﴿ أرنا الله جهرة ﴾ ( من الآية ١٥٣ سورة النساء ).
إذن نجد أن ما حصل من قوم موسى بعد الميقات الأول هو قولهم :﴿ أرنا الله جهرة ﴾ وليس الفعل، أما هنا فالآية تتحدث عن الفعل :﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ﴾.
وهكذا نعلم أن الآية تتحدث عن ميقات ثان تحدد بعد أن عبد بعضهم العجل. والفتنة هي الاختبار، والاختبار ليس مذموما في ذاته، ولا يقال في أي امتحان إنه مذموم. إنما المذموم هو النتيجة عند من يرسب، والاختبار والامتحان غير مذموم عند من ينجح.
إذن فالفتنة هي الابتلاء والاختبار يواجه الإنسان الجاهل الذي لا يعلم بما تصير إليه الأمور وتنتهي إليه ليختار الطريق ويصل إلى النتيجة. ولا يكون ذلك بالنسبة لله ؛ لأنه يعلم أزلا كل سلوك لعباده، لكن هذا العلم لا يكون حجة على العباد ؛ ولابد من الفعل من العباد ليبرز ويظهر ويكون له وجود في الواقع لتكون الحجة عليهم. والأخذ بالواقع هو الأعدل.
وقول موسى عليه السلام :﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ﴾ ( من الآية ١٥٥ سورة الأعراف ). هذا القول يعني : أنك يا رب قد جعلت الاختبار لأنك خلقتهم مختارين ؛ فيصح أن يطيعوا ويصح أن يعصوا. والله سبحانه هو من يُضل ويهدي ؛ لأنه ما دام قد جعل الإنسان مختارا فقد جعل فيه القدرة على الضلال، والقدرة على الهدى.
وقد بيّن سبحانه من يشاء هدايته، ومن يشاء إضلاله فقال :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ ( من الآية ٨٦ سورة آل عمران ) : والسبب في عدم هدايتهم هو ظلمهم، وكذلك يقول الحق :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ ( من الآية ٢٦٤ سورة البقرة )،
وهكذا نرى أن الكفر هو الذي يمنعهم من الهداية. إذن فقد جعل الله للعبد أن يختار الهداية أو أن يختار الضلال، وما يفعله العبد ويختاره لا يفعله قهرا عن الله ؛ لأنه سبحانه لو لم يخلق كلا منا مختارا لما استطاع الإنسان أن يفعل غير مراد الله، ولكنه خلق الإنسان مختارا، وساعة ما تختار أيها الإنسان الهداية أو تختار الضلال فهذا ما منحه الله لك، وسبحانه قد بيّن أن الذي يظلم، والذي يفسق هو أهل لأن يعينه الله على ضلاله، تماما كما يعين من يختار الهداية ؛ لأنه أهل أن يعينه الله على الهداية.
ويقول الحق على لسان سيدنا موسى في نهاية هذه الآية : أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } ( من الآية ١٥٥ سورة الأعراف ) : والولي هو الذي يليك، ولا يليك إلا من قربته منك بودك له، ولم تقربِّه إلا لحيثية فيه تعجبك وتنفعك وتساعدك إذا اعتدى عليك أحد أو تأخذ من عمله لأنه عليم. إذن فالمعنى الأول لكلمة الولي أي القريب الذي قربته لأن فيه خصلة من الخصال التي قد تنفعك، أو تنصرك، أو تعلمك.
وقول موسى أنت " ولينا " أي ناصرنا، والأقرب إلينا. فإن ارتكب الإنسان منا ذنبا فأنت أولى به، إنك وحدك القادر على أن تغفر ذنبه ؛ لذلك يقول موسى : " فاغفر لنا "، ونعلم من هذا أنه يطلب درء المفسدة أولا لأن درءها مقدم على جلب المصلحة، فقدم موسى عليه السلام طلب غفر الذنب، ثم طلب ودعا ربّه أن يرحمهم، وهذه جلب منفعة. وقد قال ربنا في مجال درء المفسدة :﴿ فمن زحزح عن النار ﴾ وهذا درء مفسدة وهو البعد عن النار :﴿ وادخل الجنة ﴾.
وهذا جلب منفعة ومصلحة.
إذن فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وعلى سبيل المثال إنك ترى تفاحة على الشجرة، وتريد أن تمد يدك لتأخذها، ثم التفت فوجدت شابا يريد أن يقذفك بطوبة، فماذا تصنع ؟ أنت في مثل هذه الحالة الانفعالية تدفع الطوبة أولا ثم تأخذ التفاحة من بعد ذلك. وهذا درء المفسدة المقدم على جلب المصلحة، وهنا درء المفسدة متمثل في قول موسى :﴿ فاغفر لنا ﴾ ثم قال بعد ذلك :﴿ وارحمنا ﴾ وهذا جلب مصلحة، والقرآن يقول :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة ﴾ ( من الآية ٨٢ سورة الإسراء ) : لأن الداء يقع أولا، وحين تذهب لمنهج القرآن يشفيك من هذا الداء، والرحمة ألا يجيء لك داء بالمرة. فإذا أخذت القرآن لك نصيرا فلن يأتي لك الداء أبدا.
﴿ فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴾ ( من الآية ١٥٥ سورة الأعراف ) :
ومثلها مثل قول الحق سبحانه :﴿ خير الرازقين ﴾، و﴿ خير الماكرين ﴾، و﴿ خير الوارثين ﴾ و﴿ خير الغافرين ﴾ هنا ؛ لأن المغفرة قد تكون من الإنسان للإنسان، ولكنا نعرف أن مغفرة الرب فوق الخلق ؛ لأن الغافر من البشر قد يغفر رياء، وقد يغفر سمعة، قد يغفر لأنه خاف بطش المقابل. لكنه سبحانه لا يخاف من أحد، وهو خير الغافرين من غير مقابل.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ( ١٥٦ ) ﴾.
ونلحظ أن هذه الآية تضم طلبات جديدة لسيدنا موسى من ربه بعد قوله :﴿ فاغفر لنا وارحمنا ﴾. ونرى أن خير الغافرين تعود لقول موسى عليه السلام :﴿ فاغفر لنا ﴾ أما الحسنة في قوله :﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ فإنها تعود على طلب الرحمة :﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ ﴾.
هو إذن يطلب الحسنة في الدنيا وكذلك في الآخرة، والحسنة لها معنى " لغوي "، ومعنى " شرعي ". أما المعنى اللغوي فكل ما يستحسنه الإنسان يسمى حسنة، ولكن الحسنة الشرعية هي ما حسنه الشرع، فالشرع رقيب على كل فعل من أفعالنا وتصرفاتنا، فالحسنة ليست ما يستحسنه الإنسان ؛ لأن الإنسان يستحسن المعصية، وهذا استحسان بشري بعيد عن المنهج، أما الاستحسان الشرعي فهو في تنفيذ المنهج ب " افعل " و " لا تفعل ".
والحسنة المعتبرة في عرف المكلفين من الله هي الحسنة الشرعية ؛ لأن الإنسان قد يستحسن شيئا وهو غير شرعي لأنه ينظر إلى عاجلية النفع فيه، ولا ينظر إلى آجلية النفع، ولا ينظر إلى كمية النافع. والنفع كما نعلم في الدنيا على قدر تصورك في النفع، أما النفع في الآخرة فلا يعلم قدره إلا علاّم الغيوب سبحانه إذن فقوله :﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ يكون المراد بها الحسنة الشرعية في الدنيا عملا، وفي الآخرة جزاء.
ونلحظ أن موسى أراد بالحسنة الأولى ما يعم الحسنة الشرعية والحسنة اللغوية ؛ فهو دعاء بالعافية والنعم الجليلة الطيّبة، وكل خير الدنيا في ضوء منهج الله. والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ( من الآية ٣٢ سورة الأعراف ) : إذن فالحسنة الخاصة هي في يوم القيامة، ولكن هناك من ينتفع بها في الدنيا ؛ فالجماد منتفع برحمة الله، والنبات منتفع برحمة الله، والحيوان منتفع برحمة الله، والكافر منتفع برحمة الله. كل ذلك في الدنيا، وهي الرحمة التي وسعت كل شيء، لكن مسألة الآخرة كجزاء على الإحسان فهو جزاء خاص بالمؤمنين.
ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلام :﴿ إنا هدنا إليك ﴾.
و " هاد " أي رجع، و " هدنا إليك " أي رجعنا إليك، وهذا كلام موسى عن نفسه وعن أخيه، وعن القوم الذين عبدوا العجل ثم تابوا، ومادمنا قد رجعنا إليك يا ربي فأنت أكرم من أن تردنا خائبين. ويرد الحق سبحانه :﴿ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ ( من الآية ١٥٦ سورة الأعراف ).
وقوله الحق :﴿ عذابي أصيب به من أشاء ﴾ أي لا يوجد من يدفعني ويرشدني في توجيه العذاب لأحد ؛ فحين يذنب عبد ذنبا أنا أعذبه أو أغفر له ؛ لذلك لا يقولن عبد لمذنب إن الله لابد أن يعذبه ؛ لأنه سبحانه هو القائل :﴿ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كل شيء ﴾ ( من الآية ١٥٦ سورة الأعراف ) : وما المقصود بالرحمة هنا ؟ أهي الرحمة في الدنيا أو الرحمة في الآخرة ؟ إنها الرحمة في الدنيا التي تشمل الطائع والعاصي، والمؤمن والكافر، ولكنها خالصة في اليوم الآخر كما قلنا للمؤمنين.
وقوله سبحانه :﴿ فسأكتبها ﴾ يدل على أن هذا سيكون في الآخرة. أي أن رحمة الله وسعت كل شيء في الدنيا ولكنها رحمة تنتهي بالنسبة للكافرين في إطار الدنيا، ولكن بالنسبة للمؤمنين فهي رحمة مستمرة قد كتبها الله أزلا وتعطي للمؤمنين فضلا ومنّة وعطاء منه سبحانه فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ( من الآية ١٥٦ سورة الأعراف ).
وعندما سمع بعض اليهود ذلك قالوا : نحن متقون، فقيل لهم : في أي منهج أنتم متقون أفي منهج موسى ؟ لو كنتم متقين في منهج موسى كما تزعمون لآمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن من تعاليم موسى أن تؤمنوا برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام ولذلك جاء قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ١٥٧ ) ﴾.
فهذه تسع صفات لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أن الله أوحى إليه كتابا مختصا به وهو القرآن، وأنه صاحب المعجزات، وأنه بلغ ونبأ بأفضل وأتم العقائد والعبادات والأخلاق وهو عليه الصلاة والسلام الأمي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ولم يجلس إلى معلم، فهو عليه السلام باق على الحالة التي ولد عليها، وقد ذكره ربّه جل وعلا باسمه وصفاته ونعوته عند اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل وقد كتمها الكافرون منهم أو أساءوا تأويلها، كما وصفه ربه بأن يأمرهم بالمعروف ويكلفهم بفعل كل ما تدعوا إليه الطبائع المستقيمة والفطر السليمة ؛ لأن في ذلك النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وأنه صلى الله عليه وسلم يزجرهم وينهاهم عن كل منكر مستهجن تستقبحه الجبلة القويمة، والخلقة السوية، ويحل لهم ما حرم عليهم من الطيبات التي منعوا منها وحظرها الله عليهم جزاء طغيانهم وضلالهم، ويحرم عليهم كل ضار وخبيث : كأكل الميتة والمال الحرام من الربا والرشوة والغش، ويخفف عنهم ما شق عليهم وثقل من التكاليف التي كانت في شريعة موسى عليه السلام كقطع الأعضاء الخاطئة وتحريم الغنائم عليهم ووجوب إحراقها، وكذلك يخفف الله ويحط عنهم المواثيق الشديدة التي فرضت عليهم عقابا لهم على فسوقهم وظلمهم.
يقول جل شأنه :﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾ ( سورة النساء ).
وهكذا أعلم الله الرسل السابقين على سيدنا رسول الله أن يبلغوا أقوامهم بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يؤمن الأقوام التي يشهدون ويعاصرون رسالته صلى الله عليه وسلم، صحيح أن رسول الله لم يكن معاصرا لأحد من الرسل، ولكن البشارة به قد جاءت بها أنبياؤهم وسجلت في الكتب المنزلة عليهم، وكل رسول سبق سيدنا محمدا صلوات الله وسلامه عليه، قد أمره الله أن يبلغ الذين أرسل إليهم أن يتبعوا الرسول محمدا ويؤمنوا به ولا يتمسكوا بسلطة زمنية ويخافوا أن تنزع منهم. وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه معجزة وبينة فلابد أن يؤمنوا به.
﴿ وإذا أخذ الله ميثاق النبيين ﴾ ( من الآية ٨١ سورة آل عمران ).
إذن فقد صنع الله سبحانه وتعالى خميرة إيمانية حتى لا يتعارض أتباع الأديان. ولا يفهم أصحاب دين موجود أن دينا آخر جاء لينسخه ويأخذ منه السلطة الزمنية ؛ لأن رسالة الإيمان موصولة وتحدث الأقضية للناس بامتداد الزمان. فكل الرسل يحرصون على أن تكون الحياة آمنة سعيدة تتساند فيها المواهب ولا تتعاند فيها الحركات. وقد طلب الحق من الرسل ذلك وأخذ عليهم العهد وبعد ذلك أكده فقال :﴿ أأقررتم ﴾ واستوحى منهم الكلام الذي يؤيد هذا المنهج. ولذلك لا يصح لتابع نبي أن يصادم رسالة جديدة مؤيدة بمعجزة ومؤيدة بمنهج يضمن للإنسان الحياة وسلامتها وسعادتها.
ولم يكتف الحق بأن يجعل الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد خبر، بل وضع لمحمد وحده سمة في الكتب التي سبقته، ووصفه لهم مشخصا، وحين يصفه مشخصا فهذا أوضح من الخبر عنه بكلام. ولذلك قال عبد الله بن سلام عندما سأله عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أعلم به مني بابني. قال : وَلِمَ ؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبيّ، فأما ولدي فلعل ولدي فلعل والدته قد خانت، فقبّل عمر رأسه. ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ يعرفون كما يعرفون أبناءهم ﴾.
ولا شك أن الإنسان يعرف ابنه معرفة دقيقة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له سمات خاصة وهي التي تثبت شخصيته صلى الله عليه وسلم المادية، وليس الأمر في رحلة الإسراء والمعراج مجرد كلام، بل إنه حينما سئل عن هذه الرحلة قال : " رأيت موسى وإذا رجل ضَرْب، رَجُل١ كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى فإذا هو رَبعة أحمر كأنه خرج من ديماس الحمّام وأنا أشبه ولد إبراهيم به " ٢، وكذلك أعطى الله في التوراة والإنجيل لا الخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم فقط، بل أعطى تفاصيل صورته بحيث تتشخص لهم، فلا يلتبس به عند مجيئه مع التشخيص شريك، فيقول سبحانه :﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾. ولكن فريقا منهم كتموا الحق ليحتفظوا بالسلطة الزمنية، لأنهم كانوا يظنون أنه حين يأتي دين جديد سيأخذ منهم هذه السلطة الزمنية ويقود الأمم والشعوب. لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل رسل السماء إلى الأرض متعاونين لا متعاندين، ينصر بعضهم بعضا. كما جاء في سورة الفتح :﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( ٢٩ ) ﴾. ( من الآية ٢٩ سورة الفتح ).
لقد جاء الحق بصورة المؤمنين برسالة رسول الله في التوراة والإنجيل، لأن الدين الإسلامي الذي نزل على محمد لن يأتي دين بعده ؛ لذلك جاء بسيرة رسول الله وصفاته وصفات أتباعه في التوراة والإنجيل، وفي هذا الدين ما تفتقده اليهودية التي انجرفت إلى مادية صرفة وتركت الروحانيات ؛ لذلك تأتي سيرة أتباع محمد في التوراة :﴿ سيماهم في وجوههم من أثر السجود ﴾.
حين أسرف اليهود في المادية أراد الله أن يأتي برسول يجنح ويميل إلى
الروحانية وهو سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام.. ليحصل الاعتدال في تناول الحياة دون إفراط أو تفريط. إذن فالحق سبحانه وتعالى مهد لكل رسول بأن يبشر به الرسول السابق لأنه لا معاندات في الرسالات. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الموكب الرسالي، كان ولابد أن يصفه الله سبحانه وصفا ليس بالكلام، بل يصفه كصورة، بحيث إذا رأوه يعرفونه، ولذلك نجد سيدنا سليمان الفارسي حين رأى رسول الله في المدينة ورأى منه علامات كثيرة أحب أن يرى فيه علامة مادية فرأى في كتف الرسول خاتم النبوة.
ولكن هل نفع ذلك ؟ نعم، فكثير من الناس آمن به. وقد أقام رسول الله مناظرة بينه وبين اليهود بواسطة عبد الله بن سلام، الذي قال بعد أن أسلم بين يدي رسول الله : " يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني٣ عندك، فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رجل فيكم عبد الله بن سَلَام ؟ قالوا : أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا ابن أخيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك ؟ فخرج عبد الله إليهم، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا : شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه " ٤.
إذن فالأوصاف الكلامية والأوصاف الشخصية المشخصة جاءت حتى لا يقال : إن أديان السماء تتعاند، إنها كلها متكاثفة في أن تصل الأرض بالسماء على ما تقتضيه حالة العصر زمانا ومكانا. وقديما كان العالم معزولا عن بعضه، وكل بيئة لها أجواؤها وداءاتها ؛ فيأتي الرسول ليعالج في مكان خاص داءات خاصة، لكن الله جاء برسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توحدت هذه الداءات في الدنيا ؛ جاء رسولنا الكريم ليعالج هذه الداءات العالمية، وجاء رسول الله مؤيدا بأوصافه ومؤيدا بتعاليمه التي تخفف عنهم إصرهم وأغلالهم، والإصر هو الحِمْل الثقيل، والأغلال جمع غُلّ وهو الحديدة التي تجمع اليدين إلى العنق لتقييد الحركة.
١ الضرب: الخفيف اللحم، والرَّجل هو من شعره بين البسوطة والجعودة، وقوله: من رجال شنوءة أي طويل؛ لأن هذه القبيلة كانت مشهورة بطول قامة رجالها، ورَبْعة أي مربوع الخلق لا طويل ولا قصير..
٢ متفق عليه..
٣ بهتوني: قالوا عليّ ما لم أفعل، من البهت والبهتان وهو الباطل والكذب والافتراء..
٤ من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ـ كتاب بدء الخلق ـ عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
وقد ذكر الحق الأوصاف ومهّد الأذهان إلى مجيء رسالة محمد صلى الله عليه وسلمن ليضع عنهم الأغلال بالنور الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسالة المحمدية هي الجامعة المانعة، ولذلك يقول الحق بعد ذلك :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ١٥٨ ) ﴾.
هنا يأمر الحق رسوله بالآتي :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ في رسالة تعم الزمان، وتعم المكان. وفي ذلك يقول رسول الله :" أعطيت خمسا لم يُعْطَهن أحد من الأنبياء قبلي.. نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة " ١، ثم بعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يثبت عمومية الرسالة بعمومية تسخير الكون للخلق ؛ لذلك كان الحديث موجها إلى كافة الناس :﴿ قل يا أيها الناس ﴾. وكل من يطلق عليهم ناس فالرسول مرسل إليهم :﴿ إني رسول الله إليكم جميعا ﴾ وأراد سبحانه أن يعطينا الحيثيات التي تجعل لله رسولا يبلغ قومه وكافة الأقوام منهج الله في حركة حياتهم، فقال :﴿ الذي له ملك السماوات والأرض ﴾.
ومادام هو الذي يملك السماوات والأرض، ولم يدّع أحد من خلقه أنه يملكها، وفي السماوات والأرض وما بينهما حياتنا ومقومات وجودنا فهو سبحانه أولى وأحق أن يعبد. ولو أن السماء لواحد، والهواء لواحد، والأرض لواحد، وما بينهما لواحد لكان من الممكن أن يكون إله هنا، وإله هناك وإله هنالك. وفي هذا يقول الحق :﴿ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ ( من الآية ٩١ سورة المؤمنين ) : إذن فمادان الوجود كله من السماوات والأرض وما سواهما لله، فهو الأوْلى أن يعبد، وأول قمة العبادة أن تشهد بأنه لا إله إلا الله، وحيثية ألوهيته الأولى أن له ملك السماوات والأرض. ومادام إلها فلابد أن يطاع إلا بمنهج، ولا منهج إلا بافعل ولا تفعل. وأول المنهج القمة العقدية إنه هو التوحيد. وجعل الله للتوحيد حيثية من واقع الحياة فقال :﴿ يحيي ويميت ﴾. وهذا أمر لم يدعه أحد أبدا ؛ لأن الله هو الذي له ملك السماوات والأرض، ولأنه يحي ويميت. ولذلك نجد من حاجّ إبراهيم في ربه يقول الحق عنه :﴿ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ ( من الآية ٢٥٨ سورة البقرة ) : وحاول هذا الملك أن يدير حوارا سفسطائيا مضللا ليفحم ويسكت إبراهيم عليه السلام فقال :﴿ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ ( من الآية ٢٥٨ سورة البقرة ) : وذلك بأن يأمر بقتل إنسان ثم يعفو عنه، وهو بذلك لا يميته بل يحييه في منطق السفسطائيين. لكن هل الأمر بالقتل هو الموت ؟. طبعا لا ؛ لأن هناك فارقا بين الموت والقتل، فقد يقتل إنسان إنسانا آخر، لكنه لا يمكن أن يميته ؛ لأن الموت يأتي بدون هدم بنيته بشيء ؛ برصاصة أو بحجر أو بقنبلة. ولا أحد قادر على أن يميت أحدا إذا رغب في أن يميته، فالموت هو الحادث بدون سبب. لكن أن يقتل إنسان إنسانا آخر فهذا ممكن، ولذلك يقول الحق سبحانه عن نفسه :﴿ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ( من الآية ١٥٧ سورة الأعراف ).
وانظروا إلى الدقة في الأداء ؛ فمادام قد أمر الحق رسوله أن يقول : إني رسول الله إليكم جميعا، وحيثية الإيمان هي الإقرار والاعتقاد بوحدانية الإله الذي له ملك السماوات والأرض، وهو لا إله إلا هو، وهو يحي ويميت ؛ لذلك يدعوهم إلى الإيمان بالخالق الأعلى :﴿ فآمنوا بالله ورسوله ﴾.
لم يقل محمد وآمنوا بي ؛ لأنها ليست مسألة ذاتية في شخصك يا محمد، إنما هو تكريم لرسالتك إلى الناس، فالإيمان لا بذاتك وشخصك، ولكن لأنك رسول الله، فجاء بالحيثية الأصيلة ﴿ فآمنوا بالله ورسوله ﴾، والرسول قد يكون محمدا أو غير محمد. وبعد ذلك قال في وصف النبي :﴿ النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ﴾. والأمية كما علمنا من قبل شرف في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يؤمن بكلمات الله، وهي إما بما بلغنا عنه من أسلوب القرآن، وإما بالذي قاله موسى لقومه :﴿ واجعل كلامي في فيه ﴾.
ويقول فيه عيسى الذي لا يتكلم من قبل نفسه، وإنما تأتي له كلمات ربنا في فمه، والقول الشامل في وصف كلمات محمد صلى الله عليه وسلم : ما بيّنه الحق في قوله :﴿ وما ينطق عن الهوى٣ ﴾ ( سورة النجم )، أو أن الإيمان بالكلمات هو أن يؤمن بأن كل كون الله مخلوق بكلمة منه :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ٨٢ ) ﴾ ( سورة يس ).
ولقائل أن يقول : كيف يخاطب الله شيئا وهو لم يكن بعد ؟ ونقول : إنه سبحانه قد علمه أزلا، ووجده ثابت وحاصل، ولكن الله يريد أن يبرز هذا الموجود للناس، فوجود أي شيء هو أزلي في علم الله، وكأنه يقول للشيء : اظهر يا كائن للوجود ليراك الناس بعد أن كنت مطمورا في طيّ قدرتي.
وسواك أكانت الكلمة بخلق الأسباب، مثل خلق الشمس والقمر أم بخلق شيء بلا أسباب، كعيسى عليه السلام فإنه " كلمة منه " أي كلمة تخطت نطاق الأسباب ؛ بأن ولدت سيدتنا مريم من غير رجل. وفي هذا تخطٍ للأسباب، ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ بكلمة منه ﴾. ونعلم أن كل شيء لا يكون إلا بكلمة منه سبحانه، ولكن بكلمة لها أسباب، أو بكلمة لا أسباب لها. والكلمات هي أيضا الآيات التي فيها منهج الأحكام، ولذلك يأتي قوله الحق :﴿ قُولُوا آمنّا بِاللّهِ وما أُنْزِل إِليْنا وما أُنْزِل إِلى إِبْراهِيم وإِسْماعِيل وإِسْحاق ويعْقُوب والْأسْباطِ وما أُوتِي مُوسى وعِيسى وما أُوتِي النّبِيُّون مِنْ ربِّهِمْ لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْهُمْ ونحْنُ لهُ مُسْلِمُون ( ١٣٦ ) ﴾ ( سورة البقرة ).
ويروي لنا الأثر أن سيدنا موسى عليه السلام قال لربه :" إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد " ٢.
وقول موسى آمنوا بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، هو الذي يدل عليه قول الحق سبحانه :
﴿ قُولُوا آمنّا بِاللّهِ وما أُنْزِل إِليْنا وما أُنْزِل إِلى إِبْراهِيم وإِسْماعِيل وإِسْحاق ويعْقُوب والْأسْباطِ ﴾ ( من الآية ( ١٣٦ ) سورة البقرة ).
ويذيل الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله :
﴿ واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾. و " لعل " رجاء وطلب. ونعلم أن كل طلب يتعلق بأحد أمرين : إما طلب لمحال لكنك تطلبه لتدل بذلك على أنك تحبه، وهو لون من التمني مثل قول من قال : ليت الشباب يعود يوما، إنه يعلم أن الشباب لا يعود لكنه يقول ذلك ليشعرك بأنه يحب الشباب. أو كقول إنسان : ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح، وهذا طلب لمحال، إلا أنه يريد أن يشعرك بأن هذا أمر يحبه، وإما طلب ممكن التحقيق. وهو ما يسمى بالرجاء. وله مراحل : فأنت حين ترجو لإنسان كذا، تقول : لعل فلانا يعطيك كذا، والإدخال في باب الرجاء أن تقول : لعلي أعطيك ؛ لأن الرجاء منك أنت، وأنت الذي تقوله، ومع ذلك قد لا تستطيع تحقيقه، والأقوى أن تقول : لعل الله يعطيك. ولكنها من كلامك أنت فقد يستجيب الله لك وقد لا يستجيب، أما إذا قال الله : لعلكم، فهذا أرجى الرجاءات، ولابد أن يتحقق.
١ متفق عليه..
٢ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ولما سكت عن موسى الغضب..﴾ الخ..
وحينما يتكلم الحق عن قوم موسى، يتكلم عنهم بعرض قصصهم، وفضائحهم ونقضهم للعهد بعد نعم الله الواسعة الكثيرة عليهم، وأوضح لنا : إياكم أن تأخذوا هذا الحكم عاما ؛ لأن الحكم لو كان عاما، لما وُجد من أمة موسى من يؤمن بمحمد. ولذلك قلنا قديما إن هناك ما يسمى " صيانة الاحتمال ". ومثال على ذلك نجد من اليهود من آمنوا برسالة رسول الله مثل مخريق الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مخريق خير يهود ". وعبد الله بن سلام إن بعض اليهود كانوا مشغولين بقضية الإيمان، ولذلك لا تأخذ المسألة كحكم عام ؛ لأن من قوم موسى من يصفهم الحق بالقول الكريم :
﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( ١٥٩ ) ﴾.
وحين يسمع قوم موسى هذا القول سيقولون في أنفسهم إنه يعلم ما في صدورنا من تفكير في الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن لو عمّم الحكم فمن يفكر في الإيمان بمحمد يقول : لماذا يصدر حكما ضدي وأنا أفكر في الإيمان ؟ لكن الحق " صان الاحتمال " وأوضح لكل واحد من هؤلاء الذين يفكرون في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يتجه إلى إعلان الإيمان فقال :
﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( ١٥٩ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
أي يدلون الناس على الحق ويدعونهم إلى طريق الخير، وبهذا الحق يعدلون في حكمهم بين الناس ولا يجورون.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ١٦٠ ) ﴾.
وحين يقول الحق " قطعناهم " فهذه عودة لقوم موسى، ونعرف أن القرآن لا يخصص كأي كتاب فصلا لموسى وآخر لعيسى وثالثا لمحمد، لا، بل يجعل من المنهج الإيماني عجينة واحدة في الدعوة، فيأتي بقضية عيسى، ثم يدخل في الدعوة قضية موسى وغيره وهكذا، ثم يرجع إلى القضية الأصلية كي يستغل انفعالات النفس بعد أي قصة من القصص.
وهنا يعود الحق سبحانه لقوم موسى مرة أخرى. فبعد أن أنصفهم وبيّن أن فيهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. يقول :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ﴾. والمقصود هنا بنو إسرائيل، ومعنى " قطعت الشيء " أن الشيء كان له تمام وجودي مع بعضه، ثم قطعته وفصلت بعضه على بعض، وجعلته قطعا وأجزاء. فهم كلهم بنو إسرائيل، ولكن الحق يوضح أنه قطعهم وجعلهم " أسباطا "، و " السبط " هو ولد الولد، وهم هنا أولاد سيدنا يعقوب وكانوا اثني عشر ولدا، وحكت سورة يوسف وقالت :﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ( ٤ ) ﴾( من الآية ٤ سورة يوسف ).
وحين تعد وتحصي ستجد أحد عشر كوكبا مرئية، وتضم إليها الشمس والقمر والرائي، فيصير العدد أربعة عشر واترك الشمس والقمر لأنهما يرمزان إلى يعقوب وزوجه، وخذ الأحد عشر كوكبا، وأضف الرائي وهو يوسف فيكون العدد اثني عشر. وهؤلاء هم الاثنا عشر سبطا، فقد أنجب سيدنا يعقوب اثني عشر ابنا من أمهات مختلفة، وعرفنا من قبل أن الأمهات حين تتعدد فالميول الأهوائية بين البناء قد تتعاند. ولذلك تنبأ سيدنا يعقوب وقال لسيدنا يوسف :
﴿ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ﴾ ( من الآية ٥ سورة يوسف ) : هذا أول دليل على أنهم مختلفون، وهو سبب من أسباب وحيثية التقطيع :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا ﴾. وفي سورة يوسف نقرأ :﴿ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ ( من الآية ١٠٠ سورة يوسف ).
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾ ( من الآية ١٦٠ سورة الأعراف ).
إنهم لا يريدون حتى مجرد الاشتراك في الماء تحسبا للاختلاف فيما بينهم، فجعل الحق لكل سبط منهم عينا يشرب منها ليعالج ما فيهم من داءات الغيرة والحقد على بعضهم البعض ؛ لأن الحق قال عنهم :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُممًا ﴾.
وهنا وقفة لغوية فقط، والأسباط في أولاد يعقوب وإسحاق يقابلون القبائل في أولاد إسماعيل، وأولاد إسماعيل " العرب " يسمونهم قبائل، وهؤلاء يسمونهم " أسباطا "، ونعرف أن لفظ " اثنتي " يدل على أنهم إناث، و " عشرة " أيضا إناث، لأننا نقول : " جاءني رجلان اثنان " و " امرأتان اثنتان " ؛ أي اثنان للذكور، واثنتان للإناث، وكلمة " اثنتي عشرة " عدد مركب وتمييزه يكون دائما مفردا، ولذلك يقول الحق :﴿ أحد عشر كوكبا ﴾.
إذن " اثنتا عشر " يدل على أنه مؤنث. لكن المذكور هنا " سبط " وسبط مذكر، ولنا أن نعرف أنه إذا جمع صار مؤنثا لأنهم يقولون : " كل جمع مؤنث " وأيضا فالمراد بالأسباط القبائل، ومفردها قبيلة وهي مؤنثة، وقطعهم أي كانت لهم من قبل وحدة تجمعهم، فأراد الحق أن يلفتنا إلى أنهم من شيء واحد، فجاء بكلمة " أسباط " مكان قبيلة، وقبيلة مفردة مؤنثة، ويقال : " اثنتا عشرة قبيلة "، ولا يقال اثنتا عشرة قبائل، فوضع أسباطا، موضع قبيلة لأن كل قبيلة تضم أسباطا لذا جاء التميز مذكرا..
﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُممًا ﴾. ( من الآية ١٦٠ سورة الأعراف ) :
أي جعلنا كل سبط أمة بخصوصها. والواقع الكوني أثبت أنهم كذلك ؛ لأنك لا تجد لهم فيما مضى تجمعا قوميا وهو ما يسمونه " الوطن القومي لليهود " برغم أن الدول الظالمة القوية أعانوهم وأقاموا لهم وطنا على أرض فلسطين، ومع ذلك نجد في كل بلد طائفة منهم تعيش معزولة عن الشعوب التي تحيا في رحابها، كأنهم لا يريدون أن يذوبوا في الشعوب، ففي باريس مثلا تجد " حي اليهود "، وفي لندن المسألة نفسها، وفي كل مدينة كبيرة تتكرر هذه الحكاية، فهم يعيشون فيها بطقوسهم وبشكلهم وبأكلهم، وبعاداتهم معزولين عن الشعوب، كأنهم ينفذون قدر الله فيهم :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُممًا ﴾.
وقطعهم ربنا في الأرض أي أنه نشرهم في البلاد، ولم يجعل لهم وطنا مستقلا، ولذلك ستقرأ في سورة الإسراء إن شاء الله :﴿ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ﴾.
أي أنه سبحانه قال لهم بعد سيدنا موسى : اسكنوا الأرض وحين تقول لنا يا رب : " اسكن " فأنت تحدد مكانا من الأرض. كأن يسكن الإنسان في الإسكندرية أو القاهرة أو الأردن أو سوريا، لكن أن يصدر الحكم بأن " اسكنوا الأرض " فهذا يعني أن انساحوا فيها فلا تجمع لكم.
ويقول الحق :﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ﴾.
أي أنه حين يجيء وعد الآخرة تكون ضربة قاضية عليكم أيها اليهود لأن عدوكم لن يتتبعكم في كل أمة من الأمم، ويبعث جيشا يحاربكم في كل مكان تعيش فيه طائفة منكم، لكن إذا جاء وعد الآخرة يأتي بهم الحق لفيفا ويتجمعون. في هذا الوطن القومي الذين يفرحون به، ونقول لهم : لا تفرحوا فهذا هو التجمع الذي قال الله عنه : " جئنا بكم لفيفا " لتكون الضربة موجهة لكم في مكان واحد تستأصلكم وتقضي عليكم.
ويأتي الحق بعد ذلك بخبر المعجزات :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ﴾( من الآية ١٦٠ سورة الأعراف ) :
و " استسقى " المراد منه هو طلب السقيا، والسقيا هي طلب الماء الذي يمنع عن الإنسان العطش، ومادام قد طلبوا السقيا فلابد أنهم يعانون من ظمأ، كأنهم في التيه. وأراد الله سبحانه أن يبرز لهم نعمه وقت الحاجة، فقد تركهم إلى أن عطشوا ليستسقوا وليشعروا بنعمة الرّي.
والحق يقول :﴿ إذا استسقاه قومه ﴾، أي طلبوا من سيدنا موسى أن يسأل الله السقيا. فلماذا لجأوا إلى موسى وقت الظمأ ؟ وقال لهم موسى : ليس بذاتي أرويكم، ولكن سأستسقي لكم ربي، ونعلم أن مقومات الحياة بالترتيب الوجودي الاضطراري : الهواء والماء والطعام. وساعة ترى " همزة " وسينا " وتاء " واقعة على شيء من الأشياء فاعرف أنه أمر مطلوب ومرغوب فيه.
مثال ذلك : حين سار موسى والعبد الصالح ونزلا قرية استطعما أهلها، أي طلبا طعاما وهذا هو المقوم الثالث للحياة. وهنا " استسقي " أي طلب المقوم الثاني وهو الماء، ونعلم أن المقوم الأول وهو الهواء لا نستغني عنه. لذل لم يضعه الله في يد أحد بل أعطاه ومنحه كل الخلق.
ولما كان الهواء غير مملوك وهو مشاع ؛ لذلك لم توجد فيه هذه العملية. إنما الطعام يُمكن أن يملك، والماء يمكن أن يُملك، فقال سبحانه مرة " استطعم "، وقال هنا " استسقى : ، ولم يوجد " استهوى " لطلب الهواء، لكن وجد في القران " استهوى " بمعنى طلب أن تكون على هواه :﴿ كالذي استهوته الشياطين ﴾ ( من الآية ٧١ سورة الأنعام ) : أي طلبت الشياطين أن يكون هواه ومراده تبعا لما يريدون لا لما يريده الله.
وقصة الاستسقاء وردت من قبل في سورة البقرة :﴿ وإذ استسقى موسى لقومه ﴾. وفي سورة الأعراف التي نحن بصدد خواطرنا عنها هم الذين طلبوا الاستسقاء. فهل هناك تعارض ؟. طبعا لا ؛ لأن قوم موسى طلبوا السقيا من موسى، فطلب لهم السقيا من ربه. فهل هذا تكرار ؟ لا ؛ لأنه سبحانه تكلم عن الواسطة، وبعد ذلك تكلم عن الأصل، وهو سبحانه الواهب للماء ؛ فقال هنا : " إذ استسقاه قومه "، وفي سورة البقرة قال :﴿ وإذا استسقى موسى لقومه ﴾.
وهذا ترتيب طبيعي. أقول ذلك لنعرف الفارق بين العبارتين حتى نؤكد أنه لا خلاف ولا تكرار ؛ لأن المستسقي هنا القوم، والمستسقى لهم هنا هو موسى والمستسقى منه هو الله جلت قدرته وهذا أمر طبيعي.
والحق سبحانه يقول في سورة البقرة :
﴿ وإِذِ اسْتسْقى مُوسى لِقوْمِهِ فقُلْنا اضْرِبْ بِعصاك الْحجر ﴾ ( من الآية ٦٠ سورة البقرة ).
ونجد الوحي نزل إلى موسى بقوله :﴿ فقلنا اضرب ﴾ ؛ وهنا في سورة الأعراف نجد الحق يقول :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ﴾( من الآية ١٦٠ سورة الأعراف ).
ولنا أن نعرف أنّ " قُلْنَا " تساوي " أوحينا " تماما، لأن المقصود بالقول هنا ليس من مناطات تكليم الله لموسى، بل مناط هذه القضية غير المناط في قوله الحق
﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾.
فليس كل وحي لموسى جاء بكلام مباشر من الله، بل سبحانه كلمه مرة واحدة كتشريف له، ثم أوحى له من بعد ذلك كغيره من الرسل.
وقوله الحق :﴿ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾( من الآية ١٦٠ سورة الأعراف ).
هذا القول يدلنا على الإعجاز المطلق، فمرة أمر الحق موسى أن يضرب الماء بالعصا ﴿ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾، ومرة يأمره هنا أن يضرب الحجر فينبجس منه الماء، وهكذا نرى طلاقة قدرة الله في أن يعطي ويمنع بالشيء الواحد، ولم يكن ذلك إلا بالأسباب التي في يد الله يحركها كيف يشاء. ولذلك رأينا أمر الله حين ضرب موسى البحر بعصاه، فصار كل فرق كالطود، أي كالجبل، وامتنعت السيولة، ولما خرج موسى وقومه إلى البر بعد أن عبر البحر أراد أن يضرب البحر ليعود ثانية إلى سيرته الأولى من السيولة، فأوحى له الله : اترك البحر رهوا }.
أي اتركه كما هو عليه ؛ لأن الله يريد أن يغتر فرعون وقومه بأن يروا اليابس طريقا موجودا بين الماء، فيحاولوا النفاذ منه وراء موسى وقومه، وما أن دخل فرعون وقومه خلف موسى حتى عاد الماء إلى سيولته فغرف فرعون وقومه. وهكذا أنجى الله وأغرق بالشيء الواحد، وكذلك في أمر العصا ؛ إنها هي حين ضربت الماء فلقته فصار كل فرق كالطود والجبل الشامخ، ثم ضرب موسى بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء، وهكذا نرى قدرة من بيده القدرة والأسباب.
﴿ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾( من الآية ١٦٠ سورة الأعراف ).
وهنا تعبير " انبجست، وهناك تعبير " انفجرت "، ونعلم أن الانبجاس يحدث أولا ثم يتبعه الانفجار ثانيا ؛ فالانبجاس أن يأتي الماء قطرة قطرة، ثم يأتي الانفجار وتتدفق المياه الكثيرة، فكان
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( ١٦١ ) ﴾ " :
وهذه القصة مذكورة أيضا في سورة البقرة، ونعرف أن قوله سبحانه :﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ﴾، ولم يذكر الحق من القائل ؛ لأن طبيعة الأمر في الأسباط أنه سبحانه جعل لكل سبط منهم عينا يشرب منها، وكل سبط له نقيب، وهذا دليل على أنهم لا يأتلفون ؛ فلا يكون القول من واحد إلى الجميع، بل يصدر القول من المشرع الأعلى وهو الحق إلى الرسول، والرسول يقول للنقباء، والنقباء يقولون للناس.
وبعد أن تلقى موسى القول أبلغه للنقباء، والنقباء قالوه للأسباط، وفي آية أخرى قال الحق :﴿ وإذا قلنا ﴾. وهذا القول الأول وضعنا أمام لقطة توضح أن المصدر الأصيل في القول هو الله، ولأنهم أسباط ولكل سبط مشرب ؛ لذلك يوضح الحق هنا أنه أوحي لموسى. وساعة ما تسمع " وإذ " فاعلم أن المراد اذكر حين قيل لهم اسكنوا هذه القرية، لقد قيل إن هذه القرية هي بيت المقدس أو أريحا، لكنهم قالوا : لن ندخلها أبدا لأن فيها قوما جبارين وأضافوا :﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ ( من الآية ٢٤ سورة المائدة ).
والحق لا يبين لنا القرية في هذه الآية ؛ لأن هذا أمر غير مهم، بل جاء بالمسألة المهمة التي لها وزنها وخطرها وهي تنفيذ الأمر على أي مكان يكون :﴿ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا ﴾.
ويوضح الحق : أنا تكفلت بكم فيها كما تكفلت بكم في التيه من تظليل غمام، وتفجير ماء من صخر، ومَنّ وسلوى. وحين أقول لكم ادخلوا القرية واسكنوها فلن أتخلى عنكم :﴿ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ﴾. وقديما كان لكل قرية باب ؛ لذلك يتابع سبحانه :﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ﴾.
والحطة تعني الدعاء بأن يقولوا : يا رب حط عنا ذنوبنا فنحن قد استجبنا لأمرك وجئنا إلى القرية التي أمرتنا أن نسكنها، وكان عليهم أن يدخلوها ساجدين ؛ لأن الله قد أنجاهم من التيه بعد أن أنعم عليهم ورفّههم فيه. وإذا ما فعلوا ذلك سيكون لهم الثواب وهو :﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ( من الآية ١٦١ سورة الأعراف ) : وسبحانه يغفر مرة ثم يكتب حسنة، أي سلب مضرة، وجلب منفعة، لكن هناك في سورة البقرة قد جاء النص التالي :
﴿ وإِذْ قُلْنا ادْخُلُوا هذِهِ الْقرْية فكُلُوا مِنْها حيْثُ شِئْتُمْ رغدًا وادْخُلُوا الْباب سُجّدًا وقُولُوا حِطّةٌ نغْفِرْ لكُمْ خطاياكُمْ وسنزِيدُ الْمُحْسِنِين ( ٥٨ ) ﴾ ( سورة البقرة ).
فالكيان العام واحد ونجد خلافا في الألفاظ واللقطات عن الآية التي وردت في سورة الأعراف. أول خلاف ﴿ وإذا قلنا ﴾، ﴿ وإذا قيل ﴾، وشاء الحق ذلك ليأتي لنا بلقطة مختلفة كما أوضحنا من قبل. ففي آية سورة البقرة يقول سبحانه :﴿ ادخلوا ﴾ وفي آية سورة الأعراف يقول :﴿ اسكنوا ﴾، ونعلم أن الدخول يكون لغاية وهي السكن أي ادخلوا لتسكنوا، وأوضح ذلك بقوله في سورة الأعراف :﴿ اسكنوا ﴾ ليبين أن دخولهم ليس للمرور بل للإقامة. وأراد سبحانه أن يعطيهم الغاية النهائية ؛ لأنه لا يسكن أحد في القرية إلا إذا دخلها.
وهكذا نرى أن كلمات القرآن لا تأتي لتكرار، بل للتأسيس وللإتيان بمعنى جديد يوضح ويبين ويشرح. ويقول الحق هنا في سورة الأعراف :﴿ وَكُلُوا مِنْهَا حيْثُ شِئْتُمْ ﴾. وفي آية سورة البقرة يقول :﴿ فكُلُوا مِنْها حيْثُ شِئْتُمْ رغدًا ﴾.
وحين أمرهم الله بالدخول وكانوا جوعى أمرهم الحق أن يأكلوا، على الفور والتوّ بتوسع، لذلك أتى بكلمة " رغدا " لأن حاجتهم إلى الطعام شديدة وملحة، لكنه بعد أن أمرهم بالسكن أوضح لهم أن يأكلوا ؛ لأن السكن يحقق الاستقرار ويتيح للإنسان أن يأكل براحة وتأن. وقال الحق هنا في سورة الأعراف :﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ﴾. أي أنه قدم قولهم " حطة " على السجود، وفي آية سورة البقرة قدم السجود فقال :﴿ وادْخُلُوا الْباب سُجّدًا وقُولُوا حِطّةٌ ﴾ ( من الآية( ٥٨ ) سورة البقرة ).
جاء الحق بهذا الاختلاف لأنه علم أن انفعالات السامعين تختلف ساعة الدخول، فهناك من ينفعل للقول، فيقول أول دخوله ما أمر به من طلب الحطة وغفران الذنب من الله، وهناك آخر ينفعل للفعل فيسجد من فور الدخول تنفيذا لأمر الله. وأيضا قال الحق هنا في سورة الأعراف.
﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ( من الآية ١٦١ سورة الأعراف ).
وفي سورة البقرة يقول :﴿ نغْفِرْ لكُمْ خطاياكُمْ وسنزِيدُ الْمُحْسِنِين ﴾.
ونعلم أن صيغة الجمع تختلف ؛ فهناك " جمع تكسير " وجمع تأنيث، ففي جمع التكسير نغير من ترتيب حروف الكلمة، مثل قولنا " قفل " فنقول في جمعها " أقفال ". أما في جمع التأنيث فنحن نزيد على الكلمة ألفا وتاء بعد حذف ما قد يوجد في المفرد من علامة تأنيث، مثل قولنا " فاطمة "، و " فاطمات "، و " أكلة "، و " أكلات " وهذا جمع مؤنث سالم، أي أن ترتيب حروفه لم يتغير، وجمع المؤنث السالم الذي يدل على القلة ويجمع التكسير الذي يدل على الكثرة لاختلاف درجات ونسب الخطايا ؛ لأن المخاطبين غير متساوين في الخطايا، فهناك من ارتكب أخطاء كثيرة، وهناك من أخطأ قليلا. والاختلاف حدث أيضا في عجز الآيتين، فقال في سورة البقرة :﴿ وسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
وجاء عجز سورة العراف بدون " واو " فقال :﴿ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
وقد عودنا ودعانا الحق إلى أن نقول : اغفر لنا وأنت خير الغافرين، وارحمنا وأنت خير الراحمين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة. وهنا يوضح سبحانه : أنا لن أكتفي بأن أغفر لكم وأن أرفع عنكم الخطايا. لكني سأزيدكم حسنا، وفي هذا سلب للضرر وجلب للنفع. كأن الله حينما قال : " خطاياكم بجمع التكسير الذي ينبئ ويدل على كثرة الذنوب والخطايا و " خطياتكم " التي تدل على القلة انشغلوا وتساءلوا : وماذا بعد الغفران يا رب فقيل ؟ لهم :﴿ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هل سيغفر لنا فقط، أو أنه سيجازينا بالحسنات أيضا ؟ وكانت إجابة الله أنه سيغفر لهم ويزيدهم ويمدهم بالحسنات. وقد عقدنا هذه المقارنة المفصلة بين آية سورة البقرة وآية سورة الأعراف لنعرف أن الآيات لا تتصادم مع بعضها البعض، بل تتكامل مصداقا لقوله الحق :﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ ( من الآية ٨٢ سورة النساء ).
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ( ١٦٢ ) ﴾ :
هذه الآية تدل على أنهم افترقوا فرقتين ؛ لأن الحق سبحانه مادام قد قال :﴿ منهم ﴾ فهذا يعني أن بعضهم قالوا وفعلوا المطلوب، وبعضهم ظلموا وبدلوا القول، فقد أمرهم الحق أن يقولوا : " حطة " وطلب منهم أن يدخلوا سجدا. والتغيير منهم جاء في القول ؛ لأن القول قد يكون بين الإنسان وبين نفسه بحيث لا يسمعه سواه. لكن الفعل مرئي مما يدل على أن بعضهم يرائي بعضا، ففي القول أرادوا أن يهذروا ويتكلموا بما لا ينبغي ولا يليق، فبدلا من أن يقولوا : " حطة " قالوا : " حنطة " استهزاءا بالكلمة.
وهكذا نرى أن التبديل جاء في القول، لكن الفعل لم يأت فيه كلام، وإن قال بعضهم : إن التبديل أيضا حدث من بعضهم في الفعل. فبدلا من أن يدخلوا ساجدين دخلوا زاحفين على مقعداتهم، كنوع من التعالى، لكن الحق لم يذكر شيئا من ذلك ؛ لأن سلوكهم في الفعل قد يكون السبب فيه أن بعضهم لا قدرة له على الفعل.
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ ( من الآية ١٦٢ سورة الأعراف ).
وكأن الحق يذكرنا بما فعله معهم من رعايتهم في أثناء التيه وكيف ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، واستسقى لهم موسى فجاءت المياه. لكن غريزة التبديل والتمرد لم تغادرهم. وماداموا قد بدّلوا في كلمات الله، فعليهم أن ينالوا العقاب :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ ﴾.
وهناك آية ثانية في سورة البقرة يقول فيها الحق :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ﴾. والفارق بين " الإنزال " وبين " الإرسال " أن الإنزال يكون مرة واحدة. أما الإرسال فهو مسترسل ومتواصل. ولذلك يقول الحق سبحانه في المطر :﴿ وأنزلنا من السماء ماء طهورا ﴾. لأن المطر لا ينزل طوال الوقت من السماء. لكن في الإرسال استمرار، اللهم إلا بعضا من تأثير الهواء. ولذلك يقول الحق :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح ﴾. فالذي يحتاج إلى استمرارية في الفعل يقول فيه الحق : " أرسل " بدليل أن الله حينما أراد أن يجئ بالطوفان ليغرق المكذبين بموسى قال :﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان ﴾ ( من الآية ١٣٣ سورة الأعراف ).
وعندما أراد أن يرغب عادا قوم سيدنا هود في الاستغفار والتوبة والرجوع عما كانوا عليه من الكفر والآثام قال لهم :
﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ ( من الآية ٥٢ سورة هود ).
إذن فالإرسال يعني التواصل، أما الإنزال فهو لمرة واحدة، وأراد الحق سبحانه من قصة بني إسرائيل أن يأتي لنا بلقطة فجاء بكلمة " أنزلنا "، ولقطة أخرى جاء فيها ب " أرسلنا " ؛ لأن العقوبة تختلف باختلاف المذنبين، والمذنبون مقولون بالتشكيك، فهذا ذنب صغير، وآخر ذنبه أكبر، وكل إنسان يأخذ العذاب على قدر ذنبه ؛ فمن أذنب ذنبا صغيرا أنزل الله عليه عقابا على قدر ذنبه. ومن تمادى أرسل الله عليه عذابا يستمر على قدر ذنوبه الكبيرة.
وهنا يقول الحق :﴿ فأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾ ( من الآية ١٦٢ سورة الأعراف ).
و " رجزا " أي عذابا، وهناك رِجْز، ورُجْز، والرِّجز يُولد من الرُُّجْز ؛ وينشأ مثل قوله الحق :﴿ والرُّجزَ فاهجر ﴾. أي اهجر الرُّجْز.. أي المآثم والمعاصي والذنوب لتسلم من الرِّجز.. أي من العذاب. وهنا يبين الحق أنهم تلقوا العذاب بسبب ظلمهم، وهناك في الآية الأخرى قال :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾.
والفسق يسبق الظلم ؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يظلم نفسه بمخالفة منهج إلا إذا فسق أولا، ولذلك جاء الحق بالمسبِّب وجاء بالسبب، وهكذا نتأكد أن كل كلمة في القرآن جاءت لمعنى أساسي تؤديه ولا تكرار إلا لمجموع القصة في ذاتها، أما لقطات القصة هنا، ولقطات القصة هناك فأمور جاءت تأسيسا في كل شيء لتعطي معاني ولقطات جديدة.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ١٦٣ ) ﴾ :
هنا سؤال عن القرية التي كانت حاضرة البحر، ونعلم أن القرية الأولى التي دخلوها هي " بيت المقدس " ولم تكن على البحر، والقرية التي كانت على البحر هي " أيلة " أو " مدين " أو " طبرية "، المهم أنها كانت " حاضرة البحر " أي قريبة من البحر ومشرفة عليه ؛ لأننا نقول فلان حضر، أي كان بعيدا فاقترب. فمثل الإسكندرية يمكن أن نسميها حاضرة البحر.
وقوله : " واسألهم " والسؤال هنا موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوجه السؤال إلى أهل الكتاب، ويطلب منهم أن ينظروا في كتبهم ليعرفوا أن ما يقوله هو وحي من الله إليه ؛ لأنهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس إلى معلم، ولم يقرأ في كتاب، وإنما علّمه من أرسله، إنّه صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يَعْلم منهم، بل يريد أن يُعْلِمهم أنه يعلم، وهو يعلمون أنه لا مصدر له كعلم سائر البشر ؛ لا جلس على معلم ولا قرأ في كتاب تجد " ماكُنّات " القرآن أي قوله الحق : " ما كنت " و " ما كنت " و " ما كنت " و " ما كنت " مثل قوله :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة القصص ).
ومثل قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا ﴾ ( من الآية ٤٥ سورة القصص ).
ومثل قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾( من الآية ٤٤ سورة آل عمران ).
إذن فأنت يا رسول الله لم تكن معهم لتقول لهم ما حدث وحصل لهم، بل إن ذلك موجود عندهم في كتبهم، إذن فالذي علمك هو من أرسلك. كذلك هنا مصداقا لقوله تعالى :﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( ٤٨ ) ﴾( سورة العنكبوت ).
وفي هذا القول أمر من الله سبحانه وتعالى أن يخبرهم أنه سبحانه قد علمه وأعلمه بما لا يستطيعون إنكاره ليتيقنوا أن الله يعلمه ليؤمنوا به.
﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ﴾ ( من الآية ١٦٣ سورة الأعراف ).
وكلمة " واسألهم " تحل لنا إشكالات كثيرة، مثال ذلك حديث الإسراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء بصلاة إبراهيم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله إليّ أنظر إليه، ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، وإذا موسى قائم يصلي وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى قائم يصلي أقرب الناس شبها به عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبها به صاحبكم يعني نفسه فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت قال قائل : يا محمد هذا مالك خازن جهنم فالتفت إليه فبدأني بالسلام " ١ :
وتأتي آية في القرآن تقول :﴿ وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ﴾ ( من الآية ٤٥ سورة الزخرف ).
والأمر لرسول الله عليه الصلاة والسلام أن يسأل رسل الله من قبله، ومتى يسألهم ؟ لابد أن توجد فرصة ليلتقوا فيسأل. إذن حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه التقى بالأنبياء وكلمهم وصلى بهم فالخبر مصدق لأنه قد أدى أمر الله :﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ﴾. والسؤال هنا سؤال للتقرير والتقريع والتوبيخ : وما قصة القرية التي كانت حاضرة البحر ؟
لقد قلنا إن حاضرة البحر أي القريبة من البحر، ونفهم أن ما تتعرض له الآية من سؤالهم يشير إلى أنّ للبحر فيه مدخلا ؛ لأن المسألة متعلقة بالحيتان والسمك والصيد، لذلك لابد أن تكون بلدة ساحلية.
﴿ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ ( من الآية ١٦٣ سورة الأعراف ) : وحيتان جمع حوت، مثلما يجمعون " نُونا " وهو الحوت أيضا على " نينان " ؛ وهو صنف من الأسماك. لقد حرم الله عليهم العمل في يوم معين لينقطعوا فيه للعبادة وهو يوم " السبت "، وما زالت عندهم بعض هذه العادات، حتى إن واحدا منهم زار أمريكا ورفض أن يركب سيارة يوم السبت لأنه يوم عطلة، ورفض كذلك أن يعمل حتى جاء اليوم التالي. وشاء الحق سبحانه أن يؤدبهم حينما ارتكبوا أشياء مخالفة للمنهج، وسلب منهم وقتا للعمل وقال :﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ ( من الآية ١٦٠ سورة النساء ).
وفي هذه مُثُل وعِبَر لأي منحرف، ولكل منحرف نقول : إياك أن تظن أنك بانحرافك عن منهج الله ستأخذ أشياء من وراء ربنا وتسرقها، لا ؛ لأن ربنا قادر أن يبتليه بعقاب يفوق ما أخذ آلاف المرات، فالمرتشي مثلا يفتح له الله أبوابا من الأمراض ومن العلل ومن المصائب فيضيع عليه كل شيء أخذه.
إذن فقد استحل بنو إسرائيل أشياء محرمة، فابتلاهم الله بأن يحرمهم من أشياء كانت حلالا لهم. وهكذا نرى أن ما وقع عليهم من عقاب كان بظلمهم لأنفسهم ؛ لأنهم انشغلوا بالدنيا وبالمادة، فحرم عليهم العمل في يوم السبت، وهؤلاء الذين كانوا يقيمون قريبا من حاضرة البحر يبتليهم الله البلاء العظيم، ويرون السمك في المياه وهو يرفع زعانفه كشراع المركب، وتطل عليهم أشرعة الحيتان وهم في بيوتهم، وهذا ابتلاء من ربهم لهم وعقاب ؛ لأنهم ممنوعون من صيده، ويرون هذا السمك أمامهم في يوم السبت، لكن في بقية الأيام التي يباح فيها العمل، كيوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لا تظهر لهم ولا سمكة واحدة :﴿ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾.
وهنا قالوا : ما دام ربنا قد حرم علينا أن نصطاد يوم السبت فعلينا أن نحتال. وصنعوا كيسا من السلك المضفر والذي نسميه " الجوبية " وهم أول من صنعوا هذه الجوبية بشكل خاص، ويدخل السمك فيها ولا يستطيع الخروج منها، فيأتي السمك يوم السبت ويدخل في الجوبية ويستخرجونه يوم الأحد. وفي هذا اعتداء. أو يصنعون حوضا له مدخل وليس له مخرج وفي هذا مكر. وتمكر لهم السماء بحيلة أشد. لقد أراد الله ابتلاءهم لأنهم فسقوا عن المنهج. وخرجوا عن الطاعة، واستحلوا أشياء حرمها الله ؛ لذلك يحرم عليهم أشياء أحلها لغيرهم.
١ أخرجه مسلم في صحيحه..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ١٦٤ ) ﴾.
وحينما تجد أن طائفة قالت قولا، فلابد أن هناك أناسا قيل لهم هذا القول. إذن ففيه " قوم واعظون "، و " قوم موعوظون "، و " قوم مستنكرون وعظ الواعظين ". وهكذا صاروا ثلاث فرق :
الذين قالوا وعظا لهم : لماذا لا تلتزمون بمنهج الله ؟ هؤلاء هم المؤمنون حقا. وقالوا ذلك لأنهم رأوا من يخالف منهج الله. والذين لاموا الواعظين هم الصلحاء من أهل القرية الذين يئسوا من صلاح حال المخالفين للمنهج.
وحين ندقق في الآية :﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ﴾ ( من الآية ١٦٤ سورة الأعراف ).
نعلم أن القائلين هم من الذين لم يعتدوا، ولم يعظوا وقالوا هذا التساؤل لمن وعظوا ؛ لأنهم رأوا أن الوعظ مع الخارجين على منهج الله لا ينفع. كما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾.
هنا يسأل الحق رسوله : ولماذا تُحزن نفسك وتعمل على إزهاق روحك. وهنا قال بعض بني إسرائيل : لم تعظون هؤلاء المغالين في الكفر، لماذا ترهقون أنفسكم معهم، إنهم يعملون من أجل أن يعذبهم الله. وماذا قال الواعظون ؟ :﴿ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.
وما هي المعذرة إلى الله ؟. يقال : عذرك فلان إذا كنت قد فعلت فعلا كان في ظاهره أنه ذنب ثم بينت العذر في فعله، كأن تقول : لقد جعلتني انتظرك طويلا وتأخرت في ميعادك معي. أنت تقول ذلك لصديق لك لأنه أتى بعمل مخالف وهو التأخر في ميعاد ضربه لك. فيرد عليك : تعطلت مني السيارة ولم أجد وسيلة مواصلات، وهذا عذر. إذن فمعنى " العذر " هو إبداء سبب لأمر خالف مراد الغير. ولذلك يقال : أعذر من أنذر، والحق يقول :﴿ وجاء المعذرون من الأعراب ﴾ ( من الآية ٩٠ سورة التوبة ).
ونعلم أيضا أن هناك مُعْذِرا، ومُعْذِّرا. والمُعَذِّر هو من يأتي بعذر كاذب، والمُعْذِر هو من يأتي بعذر صادق. وقال الواعظون : نحن نعظهم، وأنتم حكمتم بأن العظة لا تنفع معهم لأنهم اختاروا أن يهلكهم الله ويعذبهم ولكنا لم نيأس، وعلى فرض أننا يئسنا من فعلهم، فعلى الأقل نكون قد قدمنا لربنا المعذرة في أننا عملنا على قدر طاقتنا.
وكلمة " وَعْظ " تقتضي أن نقول فيها : إن هناك فارقا بين بلاغ الحكم، والوعظ بالحكم ؛ فالوعظ أن تكرر لموعوظ ما يعلمه لكنه لا يفعله. كأن تقول لإنسان :
قم إلى الصلاة، وهو يعلم أن الصلاة مطلوبة لكنه لا يقوم بأدائها.
إذن فالوعظ معناه تذكير الغافل عن حكم، ومن كلمة الوعظ نشأت الوعَّاظ. وهم من يقولون للناس الأحكام التي يعرفونها، ليعملوا بها، فالوعاظ إذن لا يأتون بحكم جديد.
وبعض العلماء قال : إن قول الحق :﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ﴾ ليس مرادا به الفئة التي لم تفعل الذنب ولم تعظ، إنما يراد به الفئة الموعوظة، كأن الموعوظين قالوا : إن ربنا سيعذبنا فلماذا توعظوننا ؟. ونقول : لا ؛ لأن عجز الآية ينافي هذا. فالحق يقول :﴿ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾. ومجيء " لعلهم " يؤكد أن هذا خبر عن الغير لا أنّه من الموعوظين.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ١٦٥ ) ﴾.
ويخبرنا الحق هنا أن الموعوظين حينما نسوا ما وعظهم به بعض المؤمنين أهلكهم الله بالعذاب الشديد جزاء لخروجهم وفسوقهم عن المنهج وأنجى الله الفرقة الواعظة. وماذا عن الفرقة الثالثة التي لم تنضم إلى الواعظين أو الموعوظين ؟ الذين قالوا :﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ﴾ إن قولهم هذا لون من الوعظ ؛ فساعة يخوفونهم بأن ربنا مهلك أو معذب من يخرج على منهجه، فهو وعظ من طرف آخر.
وقوله الحق :﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ يدل على أنه قد وعظهم غيرهم وذكروهم. ويعذب الحق هؤلاء الذين ضربوا عرض الحائط بمنهجه ولم يسمعوا مَن وعظوهم، وخرجوا على تعاليمه فظلموا أنفسهم واستحقوا العذاب الشديد ؛ فالمسألة ليست تعنتا من الله ؛ لأنهم السبب في هذا، إما بفسق، وإمّا بظلم للنفس.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( ١٦٦ ) ﴾.
وأخذهم بعذاب يدل على أنه لم يزهق حياتهم ويميتهم ؛ لأن العذاب هو إيلام من يتألم، والموت ليس عذابا لأنه ينهي الإحساس بالألم، ولنتعرف على الفارق بين الموت والعذاب حين نقرأ قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، يقول سيدنا سليمان حين تنبه لغياب الهدهد عندما وجد مكانه خاليا :﴿ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ( ٢٠ ) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ﴾ ( من الآيتين ٢٠، ٢١ سورة النمل ).
هكذا نرى الفارق بين العذاب وبين الموت. وهنا يقول الحق :﴿ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ و " عتوا " تعني أبوْا وعصوْا واستكبروا فحق عليهم عذاب الله الذي أوضحه قول الحق :﴿ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾.
لأن " العتو " كبرياء وإباء ؛ فيعاقبهم الله بأن جعلهم كأخس الحيوانات، فصيرهم أشباه القرود، كل منهم مفضوح السوءة، يسخر الناس منهم ويستهزئون بهم. فهل انقلبوا قردة ؟. نعم ؛ لأنك حين تأمر إنسانا بفعل.. ألا تُقَدِّر قبل الأمر له بالفعل أنه صالح أن يفعل وألا يفعل ؟. وحين يقول الله :﴿ كُونُوا قِرَدَةً ﴾ فهل في مكنتهم أن يصنعوا من أنفسهم قردة ؟. ونقول : إن هذا اسمه " أمر تسخيري " أي أصبحوا وصُيِّروا قردة. وقد رأوهم على هذه الهيئة من وعظوهم، وهي هنا مقوله " خبر " نصدقه بتوثيق من قاله، وكان هذا الخبر واقعا لمن شاهده.
ولذلك نجد المعجزات التي حدثت لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن الذي وصلنا ككتاب منهج ومعجزة وسيظل كذلك إلى قيام الساعة، لكن ألم ينبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ؟ لقد حدث ذلك وغيره من المعجزات وشاهده أصحابه صلى الله عليه وسلم، وأخبرونا بالخبر، وكان ذلك آية تُثبِّت يقينهم وإيمانهم. وتثبت لنا خبرا، فإن اتسع لها ذهنك فأهلا وسهلا، وإن لم يتسع لها فلا توقف إيمانك ؛ لأنها آية لم تأت من أجلك أنت، وكل معجزة كونية حدثت لرسول الله فالمراد بها من شاهدها، ووصلتك أنت كخبر، إن وثقت بالخبر صدقته، وإن لم تثق به ووقفت عنده فلن ينقص إيمانك. غير أنه يجب على من وصل إليه الخبر بطريق مقطوع به، أن يصدق ويذعن.
وقد أخبر الحق هنا بالأمر بقوله :﴿ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ بأنه أوقع عليهم عذابا بأن جعلهم قردة خاسئين، فهذا عقاب للذين عتوا عمّا نهوا عنه. والذين وعظوهم أو عاصروهم هم من شاهدوا وقوع العذاب.
وهل الممسوخ يظل ممسوخا ؟. إن الممسوخ قردا أو خنزيرا، يظل فترة كذلك ليراه من رآه ظالما، ثم بعد ذلك يموت وينتهي.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٦٧ ) ﴾.
وتَأَذَّن نجد مادتها من الهمزة والذال والنون، فمنه أُذُن، ومنها أًذَان، وكلها يراد بها الإعلام، والوسيلة للإعلام هي الأذن والسمع، حتى الذي سنُعلمه بواسطة الكتابة نقول له ليسمع. ثم يكتب ويقرأ، وما قرأ إلا بعد أن سمع ؛ لأنه لن يعرف القراءة إلا بعد أن يسمع أسماء الحروف " ألف "، " باء " الخ، ثُم تهجاها. إذن فلا أحد يقرأ إلا بعد أن يسمع، وهكذا يكون السمع هو الأصل في المعلومات، ونقرأ في القرآن :﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ( ١ ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( ٢ ) ﴾ ( سورة الإنشقاق ).
وأذنت لربها.. أي سمعت لربها، فبمجرد أن قال لها : " انشقي " امتثلت وانشقت.
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٦٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : والكلام هنا بالنسبة لبني إسرائيل، ويبين لنا سبحانه أنهم مع كونهم مختارين في أن يفعلوا، " فإن مواقفهم الإيمانية ستظل متقلبة مترددة، ولن يهدأ لهم حال في نشر الفساد وإشاعته، ولذلك يسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، ولماذا ؟
لأنهم منسوبون لدين، والله لا يسوم العذاب للكافر به وللملحد، لأنه بكفره وإلحاده خرج عن هذه الدائرة، إذ لم يبعث الله له رسولا. ولكن المنسوب لله ديانة، والمنسوب لله رسالة، والمنسوب لله كتابا ؛ إذا فسد مع كون الناس ويعلمون عنه أنه تابع لنبي، وأن له كتابا، حينئذ يكون أسوة سيئة في الفساد للناس، فإذا ما سلط الله عليهم العذاب فإنما يسلط عليهم لا لأجل الفساد فقط، ولكن لأنه فساد منسوب لمن هو منسوب إلى الله. وعرفنا أم مادة أذن كلها مناط الإعلام، وحينما تكلم الله عن خلقنا قال :﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ﴾( من الآية ٧٨ سورة النحل ).
إن الحق سبحانه يسمي العرب المعاصرين لرسول الله أميين، أي ليس عندهم شيء من أسباب العلم، وسبحانه خلق لنا وسائل العلم. بأن جعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، وهي وسائل العلم التي تبدأ بالسمع ثم بالأبصار ثم الأفئدة. ومن العجيب أنه رتبها في أداء وظيفتها ؛ لأن الإنسان منا إذا كان له وليد كما قلنا سابقا ثم جاء أحد بعد ميلاده ووضع أصبعه أمام عينه فإنه لا يطرف ؛ لأن عينه لم تؤد بعد مهمة الرؤية، وعيون الوليد لا تؤدي مهمة الرؤية إلا بعد مدة من ثلاثة أيام إلى عشرة، ولكنك إذا جئت في أذنه وصرخت انفعل.
إن هذا دليل على أن أذنه أدت مهمتها من فور ولادته، بينما عينه لا تؤدي مهمة الرؤية إلا بعد مدة، فأولا يأتي السمع، ثم يأتي البصر، ومن السمع والبصر تتكون المعلومات، فتنشأ عند الإنسان معلومات عقلية، ويقولون للطفل مثلا : إياك أن تقبل على هذه النار حتى لا تحرقك، فلا يصدق، ومنظر النار يجذبه فيلمسها، فتلسعه مرة واحدة، وبعد أن لسعته النار مرة واحدة، لم يعد في حاجة إلى أن يتكرر له القول : بأن النار محرقة. فقد تكونت عنده معلومة عقلية. فأولا يأتي السمع، ثم الأبصار، ثم تأتي الأفئدة. ولذلك قال سبحانه :﴿ لعلكم تشكرون ﴾. تشكرون له سبحانه أن أمدكم بوسائل العلم ليخرجكم من أميتكم.
وهناك لفتة إعجازية أخرى ؛ فحين تكلم الحق عن وسائل العلم، تكلم عن السمع بالإفراد، وعن الأبصار بالجمع. مع أن هذه آلة، وهذه آلة، فقال :( السمع والأبصار ) ولم يقل السمع والبصر، ولم يقل الأسماع والأبصار ؛ لأن السمع هي الآلة التي تلتقط الأصوات، وليس لها سد من طبيعتها، أما العين فليست كذلك، ففي طبيعة تكوينها حجاب لتغمض. وإذا أنت أصدرت صوتا من فمك يسمعه الكل، وعلى هذا فمناط السمع واحد، لكن في أي منظر من المناظر قد تكون لديك رغبة في أن تراه، فتفتح عينيك، وإن لم تكن بك رغبة للرؤية فأنت تغمضهما.
إذن فالأبصار تتعدد مرائيها، أما السمع فواحد ولا اختيار لك في أن تسمع أو لا تسمع. أما البصر فلك اختيار في أن ترى أو لا ترى، وهذه أمور رتبها لنا الحق في القرآن قبل أن ينشأ علم وظائف الأعضاء، ورتبها سبحانه فأفرد في السمع، وجمع في البصر مع أنهما في مهمة واحدة، إلا آية واحدة جاءت في القرآن :﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة الإسراء ).
قال الحق ذلك لأن المسؤولية هنا هي الفردية الذاتية، وكل واحد مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده، وليس مسئولا عن أسماع وأبصار وأفئدة الناس. ونرى مادة السمع قد تقدمت، وبعدها جاءت مادة البصر إلا في آية واحدة أيضا، تتحدث عن يوم القيامة :﴿ رينا أبصرنا وسمعنا ﴾ ( من الآية ١٢ سورة السجدة ).
هنا قدّم الحق مادة الإبصار على مادة السمع ؛ لأن هول القيامة ساعة يأتي سنرى تغيرا في الكون قبل أن نسمع شيئا.
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٦٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ). وتأذن أي أَعْلم الله إعلاما مؤكدا بأنّكم يا بني إسرائيل ستظلون على انحراف دائم، ولذلك سيسلط الله عليكم من يسومكم سوء العذاب، إما من جهة إيمانية، مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع وخيبر، وإما أن يسلط عليهم حاكما ظالما غير متدين، مصداقا لقوله الحق :﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ﴾ ( من الآية ١٢٩ سورة الأنعام ).
وكذلك مثلما حدث من بختنصر، وهتلر. إذن " وإذ تأذن ربك " أي أعلم ربك إعلاما مؤكدا ؛ لأن البشر قد يُعْلمون بشيء، ولكن قدرتهم ليست مضمونة لكي يعملوا ما أعلموا به، فإذا أعلمت أنت بشيء فأنت قد لا تملك أدوات التنفيذ، أما الله سبحانه فهو المالك لأدوات التنفيذ، والإعلام منه مؤكد، ولذلك يُعْلم بالشيء، أما غيره فالظروف المحيطة به قد لا تساعده على أن ينفذ. مثال ذلك : صحابة رسول الله الأول وهم مستضعفون ولم يستطيعوا أن يحموا أنفسهم من اضطهاد المشركين والكافرين، وصار كل واحد يبحث لنفسه عن مكان يأمن فيه ؛ منهم من يذهب إلى الحبشة أو يذهب إلى قوي يحتمي به، فينزل الله في هذه الظروف العصيبة آية قرآنية لرسول الله يقول فيها :﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ٤٥ ﴾ ( سورة القمر ).
وتساءل البعض كيف يُهْزمون ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا. فعندما نزلت هذه الآية قال سيدنا عمر : أي جمع يُهزم، قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدروع وهو يقول :﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾، فعرفت تأويلها يومئذ. إن الله سبحانه وتعالى أَعْلَم بالنصر، وهو قادر على إنفاذ ما أَعْلَم به على وفق ما أعَلم ؛ لأنه لا يوجد إله آخر يصادمه. إذن " وإذ تأذن ربك " يعني أعلم إعلاما مؤكدا، وحيثية الإعلام المؤكد أنه لا توجد قوة أخرى تمنع قدرته ولا تنقض حكمه.
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ( من الآية ١٦٧ سورة الأعراف ).
أي يبعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب. وهناك بنص القرآن مبعوث، والله يخلي بينه وبينهم، فلا يمنعهم الله منه، إنما يسلط الله عليهم العذاب باختيار الظالم. مثلما قال الحق :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ( ٨٣ ) ﴾ ( سورة مريم ) : أي أنه سبحانه أرسلهم لهذه المهمة وخلّى بينهم وبين الذين يستمعون إليهم :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾.
وكلمة " إلى يوم القيامة " تفيد أن هذا العنصر، المشاكس من اليهود سيبقى في الكون كخميرة ( عكننة ) إلى أن تقوم الساعة، لماذا ؟ !
هم يقومون بمهمة الشر في الوجود، ولولا أن هذا الشر موجود في الوجود، ويعض الناس بمساوئه وإفساداته، لم يكن من الناس من يتهافت على الحق وعلى الخير. فالشر إذن جاء ليعضّ الناس بآلامه وإفساده ليتجه الناس إلى الخير، ولذلك تجد أقوى انفعالات تعتمل في صدور المسلمين وأقوى نزوع حركي إلى الإسلام حين يجدون من يضطهد قضية الإسلام.
إن مهمة الشر في الوجود أنه يجمع عناصر الخير في الوجود، ومهمة الباطل في الوجود أنه يحفز عناصر الحق ويحضهم على محاربة الشر ومناهضته ؛ لأن الباطل حين يعم، ويتضايق منه الناس، ترفع يدها وتقول : يا ناس افعلوا الخير. ولو لم يحدث ذلك فلن تجد من يقبل على الخير بحمية وحرارة.
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ ( من الآية ١٦٧ سورة الأعراف ) :
و( يسوم ) من مادتها سام، ونسمعها في البهائم ونسميها السائمة وهي التي تطلب مقومات حياتها، وليس صاحبها هو الذي يجهز لها مقومات حياتها. أما البهائم التي تُرْبط وليست سائمة فهي التي تجد من يجهز لها طعامها، إذن أصل " سام " أي طلب، وبهيمة سائمة أي تطلب رزقها وأكلها بنفسها.
و " سام " أيضا طلب العذاب، ولا يطلب أحد العذاب إلا أن يكون قد أفرغ قوته في التعذيب. فيطلب ممن يقدر على العذاب أن يعذب، أي أن الله يسلك ويبعث عليهم من يقوم بتعذيبهم جهد طاقته، فإذا فترت طاقته أو ضعفت فإنه يستعين على تعذيبهم بغيره.
إذن فطلب العذاب معناه أنه : عذَّب هو، ولم يكتف بأنه عذَّب بل طلب لهم عذابا آخر، و " يسومهم سوء العذاب " أي العذاب السيئ الشديد. ويذيل الحق الآية بقوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ( من الآية ١٦٧ سورة الأعراف ).
ومعنى سرعة الشيء أن تأخذ زمنا أقل مما يتوقع له ؛ لأن السرعة هي اختصار الزمن. " لسريع العقاب " هي للدنيا وللآخرة، فساعة يقترفون ذنبا. يسلط عليهم من يعذبهم في الدنيا، أما الآخرة ففيها سرعة عالية ؛ لأن مسافة كل إنسان إلى العذاب ليست هي عمر الدنيا، فالإنسان بمجرد أن يموت تنتهي الدنيا بالنسبة له. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته " ١.
إن هناك سرعة لحساب الآخرة. وحتى لو افترضنا أننا سنبقى جميعا دون حساب إلى أن تنتهي الدنيا، فإن الحساب سيكون سريعا لأن كل لحظة تمر على أي إنسان تقربه من العقاب، وحتى لو كان عمر الدنيا مليون سنة، فكل يوم يمر سينقص من عمر الدنيا.
وحين يقول الحق سبحانه بعد سرعة العقاب " وإنه لغفور رحيم " قد نجد من يسأل كيف والحديث هنا عن العقاب ؟ ونقول : إنه سبحانه الذي يتكلم. وهو القادر، فإذا قال : إنه لسريع العقاب، فهذا يعني أنه يسرع بعقاب المفسدين والظالمين ؛ لأنه غفور رح
١ رواه الديلمي عن أنس مرفوعا..
ويقول سبحانه بعد ذلك :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ١٦٨ ) ﴾.
وقد قال سبحانه قبل ذلك أيضا :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ﴾ ( من الآية ١٦٧ سورة الأعراف ).
ولكن القول هنا يجيء لمعنى آخر :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ﴾.
وقد قطعهم الحق حتى لا يبقى لهم وطن، ويعيشون في ذلة ؛ لأنهم مختلفون غير متفقين مع بعضهم بعضا منذ البداية، كانوا كذلك منذ أن كانوا أسباطا وأولادا إخوة على خلاف دائم. وهنا يقول الحق :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا ﴾.
ومعنى " قطعناهم " أي أن كل قطعة يكون لها تماسك ذاتي في نفسها، وأيضا لا تشيع في المكان الذي تحيا فيه، ولذلك قلنا : إنهم لا يذوبون في المجتمعات أبدا، كما قلنا فعندما تذهب إلى اسبانيا تجد لهم حيّا خاصّا، كذلك في فرنسا، وألمانيا، وكل مكان يكون لهم فيه تجمع خاص بهم، لا يدخل فيه أحد، ولا يأخذون أخلاقا من أحد، وشاء الحق ذلك بعد أن قال لهم :﴿ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ ( من الآية ٢١ سورة المائدة ).
فبعد أن منّ عليهم بأرض يقيمون فيها، قالوا :﴿ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ ( من الآية ٢٤ سورة المائدة ).
فحرم الله عليهم أن يستوطنوا وطنا واحدا يتجمعون فيه، ونشرهم في الكون كله لأنهم لو كانوا متجمعين لعم فسادهم فقط في دائرتهم التي يعيشون فيها. ويريد الله أن يعلن للدنيا كلها أن فسادهم فساد عام. ولذلك فهم إن اجتمعوا في مكان فلابد أن تتآلب عليهم القوى وتخرجهم مطرودين أو تعذبهم، وأظن حوادث هتلر الأخيرة ليست بعيدة عن الذاكرة، وقد أوضحنا ذلك من قبل في شرح قوله الحق :﴿ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ﴾ ( من الآية ١٠٤ سورة الإسراء ).
لقد قلنا : إن السكن في الأرض هو أن يتبعثروا فيها ؛ لأنه سبحانه لم يحدد لهم مكانا يقيمون فيه، فإذا جاء وعد الآخرة ينتقم الله منهم بضربة واحدة، ويأتي الحق بهم لفيفا تنهيدا للضربة القاصمة :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ﴾.
هناك فريق منهم جاء إلى المدينة المنورة ووسعتهم المدينة وصاروا أهل العلم وأهل الكتاب، وأهل الثراء وأهل المال، وأهل بناية للحصون، وحين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد معهم معاهدة. فالذي دخل منهم في الإيمان استحق معاملة المؤمنين، فلهم ما لهم وعليهم ما عليهم، والحق قد قال :
﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( ١٥٩ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
وقلنا إن هذه تسمى صيانة الاحتمال لمن يفكرون في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ﴾. و " دون " أي غير، فالمقابل للصالحين هم المفسدون. أو منهم الصالحون في القمة، ومنهم من هم أقل صلاحا. فهناك أناس يأخذون الأحسن، وأناس يأخذون الحسن فقط. ويتابع الحق سبحانه :﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ ( من الآية ١٦٨ سورة الأعراف ).
كلمة " لعلهم يرجعون " هي التي جعلتنا نفهم أن قول الحق سبحانه وتعالى : إن منهم أناسا صالحين، ومنهم دون ذلك، أي كافرون ؛ لأنهم لو كانوا قد صنعوا الحسن والأحسن فقط، لما جاء الحق ب ﴿ لعلهم يرجعون ﴾. أو هم يرجعون إلى الأحسن.
" وبلونا " أي اختبرنا ؛ لأن لله في الاختبارات مطلق الحرية، فهو يختبر بالنعمة ليعلم واقعا منك لأنه سبحانه عالم به، من قبل أن تعمل، لكنه علمه الأزلي لا يُعتبر شهادة منا. لذلك يضع أمامنا الاختبار لتكون نتيجة عملنا شهادة إقرار منا علينا :﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ﴾. وسبحانه وتعالى يختبر بالنعمة ليرى أتغرنا الأسباب في الدنيا عن المسبب الأعلى الذي وهبها :﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ( ٦ ) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ( ٧ ) ﴾ ( سورة العلق ).
فالواجب أن نشكر النعمة ونؤديها في مظان الخير لها. فإن كان العبد سيؤديها بالشكر فقد نجح، وإن أداها على عكس ذلك فهو يرسب في الاختبار. إذن فهناك الابتلاء بالنعم، وهناك ابتلاء بالنقم. والابتلاء بالنقم ليرى الحق هل يصبر العبد أو لا يصبر، أي ليراه ويعلمه واقعا حاصلا، وإلا فقد علمه الله أزلا.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( ١٥ ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( ١٦ ) ﴾ ( سورة الفجر ).
إننا نجد من يقول : " ربي أكرمن ". ومن يقول : " ربي أهانن " والحق يوضح : أنتما كاذبان. فليست النعمة دليل الإكرام، ولا سلب النعمة دليل الإهانة. ولكن الإكرام ينشأ حين تستقبل النعمة بشكر، وتستقبل النقمة بصبر. إذن مجيء النعمة في ذاتها ليس إلا اختبارا. وكذلك إن قَدَر الله عليك رزقك وضيقه عليك، فهذا ليس للإهانة ولكنه للاختبار أيضا.
ويوضح الحق جل وعلا :﴿ كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( ١٧ ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( ١٨ ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ( ١٩ ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( ٢٠ ) ﴾ ( سورة الفجر ).
أنتم لا تطعمون في مالكم يتيما ولا تحضون على طعام مسكين. فكيف يكون المال نعمة ؟ إنه نقمة عليكم. وهنا يقول الحق :﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾. ولله المثل الأعلى، نقول : إن فلانا أتعبني، لقد قلبته على الجنبين، لا الشدة نفعت فيه، ولا اللين نفه فيه، ولا سخائي عليه نفع فيه، ولا ضني عليه نفع فيه، وقد اختبر الله بني إسرائيل فلم يعودوا إلى الطاعة مما يدل على أن هذا طبع تأصل فيهم.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٦٩ ) ﴾.
والخَلَف أو الخَلْف أو الخليفة هو من يأتي بعد ذلك، ويقال : فلان خليفة فلان، ومن قبل قرأنا أن سيدنا موسى قال لسيدنا هارون :﴿ اخلفني في قومي ﴾ ( من الآية ١٤٢ سورة الأعراف ).
أي كن خليفة لي، إلا أنك حين تسمع " خَلْف " بسكون اللام، فاعلم أنه في الفساد، وإن سمعتها " خَلَف " بفتح اللام فاعلم أنه في الخير، ولذلك حين تدعو لواحد تقول : اللهم اجعله خير خَلَف لخير سلف. وهنا يقول الحق :﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾. والحديث هنا عن أنهم هم الفاسدون والمفسدون، والشاعر يقول :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم **** وبقيت في خَلْف كجلد الأجرب
الشاعر هنا يبكي موت الكرماء وأهل السماحة، فلم يعد أحد من الذين كان يعيش في رحابهم وسماحتهم ؛ فقد ذهب الذين يُعاش في أكنافهم أي جوارهم ؛ لأن هذا الجوار كان نعمة أيضا. وحين يجاور رجل ضُيِّق وقُدِر عليه رزقه رجلا طيبا عنده نعمة، فتنضح عليه نعمة الرجل الطيب. والشاعر هنا قال :
" وبقيت في خَلْف كجلد الأجرب " أي أن جلده قريب ولاصق لكنه جلد أجرب.
وعرفنا قصة " أبو دلف " وكان رجلا كريما في بغداد. يعيش في نعمته كل الناس ومن يحتاج يعطيه. وطرأ طارئ على جار فقير له، وأراد أن يبيع داره، فعرض الدار للبيع، وسألوه عن الثمن الذي يرتضيه، فقال : داري بمائة دينار. لكن جواري لأبي دلف بألف دينار، فبلغ هذا الكلام أبا دلف فقال : إن رجلا قدر جوارنا بعشرة أمثال ما قدر به داره لحقيق ألا يفرّط فيه. قولوا له : فليبق جارا لنا وليأخذ ما يريد من مال :﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ ﴾. والكتاب هو التوراة، والخلف أخذوه ميراثا، والشيء لا يكون ميراثا إلا إذا حمله السابق بأمانة وأدّاه للاحق، ولكن لأنهم أهل إفساد فلنر ماذا فعلوا في الكتاب ؟ لقد ورثوه. وبُلِّغ إليهم وعرفوا ما فيه.
﴿ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾
( من الآية ١٦٩ سورة الأعراف ) : أي لا حجة لهم في ألاّ يكونوا أصحاب منهج خير، لكنهم لم يلتفتوا إلى ما في الكتاب التوراة من المواثيق، والحلال، والحرام، وافعل كذا ولا تفعل كذا ؛ لم يلتفتوا لكل هذا ؛ لأنهم قالوا لأنفسهم : إن هذا الكتاب يعطي النعيم البعيد في الآخرة، وهم يريدون النعيم القريب، فمنهم من قبل الرشوة واستغلال النفوذ. وبذلك أخذوا عَرَض الحياة الدنيا وهو عرض الدنيا. ولم يأخذوا إدارة الدنيا بمنهج الله، والدنيا فيها جواهر وأعراض، والجوهر هو الشيء الذاتي، فالإنسان بشحمه ولحمه " جوهر " أما لونه إن كان أسمر أو أبيض فهذا عَرَض، قصيرا أو طويلا، صحيحا أو مريضا، وغنيا أو فقيرا فهذا عرض. إذن فالأعراض هي ما توجد وتزول، والجواهر هي التي تبقى ثابتة على قدر ما كتب لها من بقاء، وكما يقول علماء المنطق : الجوهر ما قام بنفسه، والعَرَض ما قام بغيره.
وهم أخذوا العرض من الحياة الدنيا، وعرض الدنيا قد يتمثل في المال الحرام، وأن يغشوا ويستحلوا الرشوة. ونعلم أن الإنسان حتى المؤمن قد تحدث منه معصية ولا يمنع ربنا هذا ؛ لأن المشرع الأعلى حين يشرع عقوبة لجريمة، فهذا إذن بأنها قد تحدث، وحين يقول الحق :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ ( من الآية ٣٨ سورة المائدة ).
إنّ معنى هذا القول أن المؤمن قد تسول له نفسه أنْ يسرق مثلا، ولم يترك الحق هذا الجرم بدون عقوبة. وإن رأينا مسلما يسرق، نقل له هذا فعل مُجَرّم من الإسلام، وله عقوبة، والمُجْرم لا يمكن أن يرتكب الجُرْم وهو ملتزم بالدِّين، بل هو منسوب للدين فقط، وعندما يرتكب مسلم ذنبا أو معصية ثم يندم ويتوب ويعزم على أنه لن يعود تصح توبته، وكذلك لو ألحَّت عليه معصيته فيعود إليها، ثم تاب، المهم أنه في كل مرة لا يصر على الفعل، ثم يقول : سوف أتوب. وهم كانوا يصرون على المعصية ويقولون : سيغفر الله لنا، بل إنهم لم يفكروا في التوبة، ووجدنا منهم من يقول :﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ ( من الآية ١٨ سورة المائدة ). ويأتي الرد :﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾ ( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
إذن هم يأخذون عرض هذا الأدنى، ويحكمون في أخذهم بهذا العرض أنه سبحانه سوف يَغْفِر لهم. وبذلك استحلوا الحرام وانتقلوا من منطقة المعصية إلى منطقة الكفر ؛ لأن هناك فرقا بين أن تفعل الشيء وتقول هو معصية. لكن أن يرتكب الإنسان المعصية ويقول : ليست بمعصية، فهذا انتقال من العصيان إلى الكفر. ومثال ذلك الربا حين نجد من يحلله، نقول له : اقْبَل أن تكون عاصيا ولا تدخل نفسك في الكفر ؛ لأنك إن حللت ما حرم الله يقع عليك الكفر وتوصف به والعياذ بالله، أما إن قلت : هو حرام ولكن ظروفي صعبة ولا أقدر على نفسي فقد يغفر الله لك. لكن قوم موسى كانوا يصرون على المعصية ويقولون : سيغفر الله لنا : ويقول الحق :﴿ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾.
وهم بعد ذلك تركوا الأعلى وأخذوا عرض الحياة الأدنى ويتمادون في غيهم ويرتكبون المعاصي تلو المعاصي دون أن يدقوا باب التوبة. لذلك ينبههم الحق سبحانه :﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ ( من الآية ١٦٩ سورة الأعراف ).
لقد ورثوا الكتاب، وفي الكتاب قد أُخذ عليهم عهد موثق ألا يقولوا على الله إلا الحق، لكن هل يعدل الفاسق عن الباطل ويعود إلى الحق ؟. طبعا لا، هم إذن تجاهلوا ما في الكتاب، رغم أنهم قد درسوا ما فيه مصداقا لقوله الحق :﴿ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ﴾.
وكلمة " دَرَسَ " تدل على تكرر العمل، فيقال : " فلان درس الفقه " أي تعلمه تعلما متواصلا ليصير الفقه عنده ملكة. وهو مختلف عمن قرأ الكتاب مرة واحدة، هنا لا يصبح الفقه عنده ملكة. وحتى نفهم بين " العلم " و " الملكة "، نقول : إن العلم هو تلقي المعلومات، أما من درس المعلومات وطبقها وصارت عنده مسألة آلية، فهذا هو من امتلك ناصية العلم حتى صار العلم عنده ملكة.
إذا التقى صائم مثلا بفقيه وسأله عن فتوى في أمر الصيام يجيبه فورا ؛ لأنه علم كل صغيرة وكبيرة في الفقه. لكن إن سأل تلميذا مبتدئا في الأزهر فقد يرتبك وقد يطلب أن يرجع إلى كتبه ليعثر على الإجابة ؛ لأن الفقه لم يصبح لديه ملكة.
والملكة في المعنويات هي مقابل الآلية في الماديات التي تحتاج إلى دُرْبة، فمن يمسك النول لينسج النسيج ويتقن تمرير المكوك بين الفتلتين لا يفعل ذلك إلا عن دُرْبة. إنه تعلم ذلك بصعوبة وتكرار تدريب.
إذن فقوله :﴿ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ﴾ أي تكررت دراسة الكتاب حتى عرفوا ما فيه من علم. ونحن أخذنا " درس العلم " من مسألة حسية هي " درس القمح "، ويعلم من تربى في الريف كيف ندرس القمح، حين يدور النورج على سنابل القمح فيخرج لنا الحب من أكمامه، ويقطع لنا العيدان، وهذه العملية تسمى " درس القمح "
إن ما فعلوه من عصيان ليس عن غفلة عن هذا الميثاق في ألا يقولوا على الله إلا الحق، لأنهم درسوا ما في الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة دراسة مستوعبة، لكنهم أخذوا العرض الأدنى. وكان لابد أن يأتي لنا بمقابل العرض الأدنى فيوضح لنا أنّ مصير من يريد الآخرة هو الثواب الدائم ولذلك يقول الحق :﴿ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾. ( من الآية( ١٦٩ ) سورة الأعراف ).
وهذا يعني التنبيه بأنه من الواجب قبل أن تفعلوا الفعل أن تنظروا ما يعطيه من خير، وأن تتركوه إن كان يعطي الكثير من الشر، وزنوا المسألة بعقولكم، وساعة أن تَزنوا المسألة بعقولكم ستعرفون أن عمل الخير راجح.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ( ١٧٠ ) ﴾.
إن الكثير من بني إسرائيل ورثوا الكتاب، وأخذوا العرض الأدنى، ولم يزنوا الأمور بعقولهم ؛ لذلك لم يتمسكوا بالكتاب، وتركوه، وساروا على هواهم ؛ كأنهم غير مقيدين بمنهج افعل كذا ولا تفعل كذا، ويقابلهم بعض الذين يتمسكون بالكتاب الذي ورثوه، ولا يقولوا على الله إلا الحق.
ومادة الميم والسين والكاف تدل على الارتباط الوثيق ؛ فالذي يجعل الإنسان متصلا بالشيء هو ماسكه، وتقول : " مَسَك " وتقول : " مسَّك "، و " أمسك "، وتقول " استمسك "، و " تماسك "، وكلها مادة واحدة. وقوله الحق : " يمسِّكون " مبالغة في المسك، مثل قطع وقطَّع، ولكن قطَّع أبلغ.
و " مسَّك " يعني أن الماسك تمكن مما يمسك، و " استمسك " أي طلب، و " تماسك " أي أن هناك تفاعلا بين الاثنين ؛ بين الماسك والممسوك. ومن رحمة ربنا أنه لا يطلب منا أن نمسك الكتاب. بل يطلب أن نستمسك بالكتاب، ولذلك يوضح لك الحق سبحانه وتعالى : إن أنت ملت إلى القرب مني والزلفى إلىّ، فاترك الباقي عنك فالمعونة منّي أنا، ولذلك يدلنا على أن من ينفذ منهج القرآن لا يلقى الهوان أبدا ﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا ﴾ وهنا يستخدم الحق سبحانه كلمة ( استمسك ) لا كلمة مسَك، فمن وجه نيته في أن يفعل يعطيه الله المعونة، ولذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي :( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ بشبر، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة " ١ ).
فأنت بإيمانك بالله تعزز نفسك وتقويها بمعونة الله لك. فإن أردت أن يذكرك الله فاذكر الله ؛ فإن ذكرته في نفسك يذكرك في نفسه وإن ذكرته في ملأ، يذكرك في ملأ خير منه، وإن تقرب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا، فماذا تريد أكثر من ذلك، خاصة أنك لن تضيف إليه شيئا، إذن فالموقف في يدك، فإذا أردت أن يكون الله معك فسر في طريقه تأت لك المعونة فورا. وهكذا يكون الموقف معك وينتقل إليك، وذلك بإيمانك بالله وإقبالك على حب الارتباط به.
ولذلك قلنا من قبل : إن الإنسان إذا أراد أن يلقى عظيما من عظماء الدنيا وفي يده مصلحة من مصالح الإنسان فهو يكتب طلبا، فإما أن يوافق هذا العظيم وإما ألا يوافق، وحين يوافق هذا العظيم يحدد الزمان ويحدد المكان، ويسألك مدير مكتبه عن الموضوعات التي ستتكلم فيها، وحين تقابله وينتهي الوقت، فهو يقف من كرسيه لينهي المقابلة، هذا هو العظيم من البشر، لكن ماذا عن العظيم الأعلى الذي تلتقي به في الإيمان ؟ أنت تلقى الله في أي وقت، وفي أي مكان، وتقول له ما تريد، وأنت الذي تنهي المقابلة، ألا يكفي كل ذلك لتستمسك بالإيمان ؟
﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ( ١٧٠ ) ﴾
( سورة الأعراف ).
والكتاب هنا هو الكتاب الموروث، والمقصود به التوراة وهو الذي درسوا ما فيه، وقد أخذ الله في هذا الكتاب الميثاق عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق، والحق يقول هنا :﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ فهل هذا الكتاب ليس فيه إلا الصلاة ؟ لا، ولكنه خص الصلاة بالذكر. لأننا نعلم أن الصلاة عماد الدين، وعرفنا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن الصلاة قد فرضت بالمباشرة، وكل فروض الإسلام غير الصلاة قد فرضت بالوحي.
لقد قلنا من قبل ولله المثل الأعلى، إن رئيس أي مصلحة حكومية حين يريد أمرا عاديا روتينيا، فهو يوقع الورق الذي يحمل هذا الأمر ويكتب عليه : " يعرض على فلان " ويأخذ الورق مجراه، وحين يهتم بأمر أكثر، فهو يتحدث تلفونيا إلى الموظف المختص، وحين يكون الأمر غاية في الأهمية القصوى فهو يطلب من الموظف أن يحضر لديه، وهكذا فرضت الصلاة بهذا الشكل لأنها الإعلان الدائم للولاء لله خمس مرات في اليوم، وإن شئت أن تزيد على ذلك تنفلا وتهجدا فعلت.
إنك بالصلاة توالي الله بكل أحكامه، إنك توالي الله بالزكاة كل سنة، وبالصوم في شهر واحد هو رمضان، وبالحج مرة واحدة في العمر إن استطعت. لكن الصلاة ولاء دائم متجدد، ولأن الصلاة لها كل هذه الأهمية ؛ لذلك لا تسقط أبدا. وأركان الإسلام كما نعلم خمسة ؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إنها الإيمان بالله وبالرسول كوحدة واحدة لا تنفصل، ويكفي أن ينطقها الإنسان مرة لتكتب له، ثم تأت أركان الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والحج ليس ركنا مفروضا إلا على من يستطيعون. قد لا يكون للإنسان مال يخرج عنه الزكاة ؛ فلا يجب عليه إخراج شيء حينئذ، وقد يكون الإنسان مريضا أو مسافرا فلا يصوم.
إذن فبعض فروض الإسلام قد تسقط عن المسلم، إلا الصلاة فهي لا تسقط أبدا، لأن في الصلاة في ظاهر الأمر قطعا لبعض الوقت عن حركة عملك، وإن كان كل فرض يأخذ مثلا نصف الساعة، فالإنسان يقتطع من وقته ساعتين ونصف الساعة كل يوم في أداء الصلاة. والوقت عزيز عند الإنسان. ففي الصلاة بذل لبعض الوقت الذي يستطيع أن يكسب الإنسان فيه مالا، وفيها أيضا الصوم عن الأكل والشرب ومباشرة الزوجات، ففيها كل مقومات أركان الإسلام، لذا فهي لا تسقط أبدا.
﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾ ( من الآية ١٧٠ سورة الأعراف ).
إذن الاستمساك واضح هنا جدا، وأداء الصلاة تعبير عن الالتزام بالاستمساك بمنهج الإيمان. ولذلك نسمع من يقول : حين ذهبنا إلى مكة والمدينة عشنا الصفاء النفسي والإشراق الروحي، وعشنا مع التجلي والنور الذي يغمر الأعماق. وأقول لمن يقول ذلك : إن ربنا هنا هو ربنا هناك، فقط أنت هناك التزمت، وساعة كنت تسمع الأذان كنت تجري وتسعى إلى الصلاة، وإذا صنعت هنا مثلما صنعت هناك فسترى التجليات نفسها. إذن إن صرت على ولاء دائم مع الحق سبحانه وتعالى فالحق لن يضيع أجرك كأحد المصلحين. لأنه القائل :﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾.
وهذه قضية عامة، والحق سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المصلح. وقوله :﴿ لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾. بعد قوله :﴿ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾ دليل على أن أي إصلاح في المجتمع يعتمد على من يمسكون بالكتاب ويقيمون الصلاة ؛ لأن المجتمع لا يصلح إلا إذا استدمت أنت صلتك بمن خلقك وخلق المجتمع، وأنزل لك المنهج القويم.
١ من صحيح البخاري في كتاب التوحيد، وأخرجه مسلم في صحيحه بثلاث طرق عن أبي هريرة، كما أخرجه الترمذي وابن ماجة..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٧١ ) ﴾.
والجبل معروف أنه من الأحجار المندمجة في بعضها والمكونة لجرم عال قد يصل إلى ألف متر أو أكثر، والحق يقول عن الجبال :﴿ والجبال أرساها ﴾ ولا يقال أرساها إلا إذا كان وجد شيء له ثقل، فأنت لا تقول : " أرسيت الورقة على المكتب "، ولكنك تقول : " أرسيت لوح الزجاج على المكتب ليحميه "، وأنت بذلك ترسي شيئا له وزن وثقل.
وقد أرسى ربنا الجبال وجعلها في الأرض أوتادا، والوتد كما نعلم ممسوك من الموتود والمثبت فيه، بدليل أنه لو تخلخل في مكانه نضع له ما نسميه " تخشينة " لتلصقه وتربطه بما يثبت فيه، وهنا يقول الحق :﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ ﴾ " نتقنا " أي قلعنا، وهناك قول آخر :﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ﴾ ( من الآية ١٥٤ سورة النساء ).
وقال الحق أيضا :﴿ وإِذْ أخذْنا مِيثاقكُمْ ورفعْنا فوْقكُمُ الطُّور ﴾ ( من الآية ٦٣ سورة البقرة ) : وهنا اختلاف بين " نتق " و " رفع " ؛ لأن الجبل راس في الأرض، وممسوك كالوتد ؛ لذلك يحتاج قبل أن يرفع إلى عملية نزع واقتلاع من الأرض، ثم يأتي من بعد ذلك الرفع، و " نتقنا " تعني نزعنا الجبل من مكان إرسائه حتى نرفعه، وقد رفعه الله ليجعل منه ظلة عليهم، أي أن هناك ثلاث عمليات : نتق أي نزع وخلع، ثم رفع، ثم جعله سبحانه ظلة لهم، وهذا يحتاج إلى اتجاه في المرفوع إلى جهة ما. والحق يقول : " وإذ " أي اذكر إذ نتقنا الجبل، أي نزعناه وخلعناه من الأرض، ولا ننزعه ونخلعه من الأرض إلا لمهمة أخرى أي لنجعله ظلة، وكان تظليل الغمام رحمة لهم من قبل، وصار الجبل ظلة " عذاب " ؛ لأن الحق أنزل لهم التوراة على موسى فقالوا له : إن أحكام هذه التوراة شديدة. وللإنسان أن يتساءل : لماذا كل هذا التلكؤ مع التشريعات التي جاءت لمصلحة البشر ؟. وجاء لهم العقاب من الحق بأن رفع فوقهم الجبل كظلة تحمل التهديد كأنه يقع فوقهم ﴿ كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم ﴾.
لذلك نجد أن كل يهودي يسجد على حاجبه الأيسر، على الرغم من أن السجود يقتضي تساوي وضع الجبهة على الأرض، ولكنهم يسجدون بميل إلى الحاجب الأيسر لأن السابقين لهم رأوا الجبل فوقهم وتملكهم الخوف من سقوط الجبل، وكانوا يسجدون وفي الوقت نفسه يرقبون الجبل، وبقيت هذه المسألة لازمة فيهم، وصاروا لا يسجدون إلا على حاجبهم الأيسر، بسبب حكاية الجبل الذي نتقه الله وقلعه ورفعه فصار فوقهم. ﴿ وظنوا أنه واقع بهم ﴾ : والظن هو رجحان قضية، وقد يأتي ويراد به أنه رجحان قوي قد يصل إلى درجة اليقين، مثل قوله الحق :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾.
وحين بقيت الحالة هذه، وخافوا من الجبل أن يقع عليهم، ولأن هناك كتابا قد أنزل إليهم وهو التوراة وهم يعصون ويتمردون على ما فيه ؛ لذلك قال لهم الحق :﴿ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ( من الآية ١٧١ سورة الأعراف ).
و " خذوا " فعل أمر، والأمر يقتضي آمرا، ولابد له من شيء يأمر به. وكلمة " القوة " هذه هي الطاقة الفاعلة، والأصل في الكون كله أن نقبل على كل شيء بقوة ؛ لأن الكون الذي تراه مسخرا ليس له رأي في أنم يفعل أو لا يفعل، بل هو فاعل دائما إذا أُمر، وكما قلنا من قبل : لم تغضب الشمس على الناس وقالت : لن أطلع هذا اليوم، وكذلك لم يمتنع الهواء، وأيضا لا يرفض الحمار مثلا أن يحمل الروث، أو ينظفه صاحبه ويأتي له ب " البرذعة " ليجعله ركوبة متميزة، الحمار إذن لا يعصي هنا ولا يعصي هناك، والكون كله مسخر بقوانين مادية ثابتة.
﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( ٤٠ ) ﴾ ( سورة يس ).
وقد وضح الحق هذا النظام للكون نظرا لأنه مقهور وليس له تكليف، والمحكوم بالغريزة الكونية صالح للحياة عن المحكوم بالاختيار الفعلي، ومع هذا الاختيار فالإنسان له أشياء تفعل فعلها فيه ولا يدري عنها شيئا مع أن بها قوام حياته، فلا أحد يمسك قلبه ويضبطه ويقول له : دق، والرئة كذلك وحركة التنفس، والحركة الدودية في الأمعاء، والحالب، ويرغب الإنسان في دخول دورة المياه عندما تمتلئ المثانة بالبول، كل هذه مسائل رتيبة لا اختيار للإنسان فيها أبدا، والأمور المحكومة بالغرائز ليس لنا فيها اختيار، كأن يأكل الإنسان ويتكلم في أثناء تناول الطعام فتنزل حبة أرز في القصبة الهوائية فيحاول الإنسان أن يطردها بالسعال، هذا اسمه " غريزة " أي أمر محكوم بالفعل الاختياري.
وكذلك الحيوان إذا أحضرت له طعاما فهو لا يأكل أكثر من طاقته حتى لو ضربه صاحبه. أما الإنسان فقد يأكل بعد أن يشبع، وحين يقول له مُضيفه على سبيل المثال : أنت لم تذق هذا اللون من اللحم، فيأكل. ولهذا نجد أن الأمراض في الإنسان أكثر من الأمراض في الحيوان ؛ لأن اختيار الإنسان يمتد إلى مجالات متعددة متفرقة قد تضربه وتؤذيه.
ونعرف جميعا هذا المثال للفراق بين الإنسان والحيوان، نجد الإنسان يغلي النعناع ويشربه، ويطبخ الملوخية ليأكلها، وقد فعل ذلك لأنه اختبر الاثنين، فلم يأكل النعناع، وأكل الملوخية، رغم تشابه أوراقها. لكن هات شجرة النعناع أمام الجاموسة أو الحمار، وهات النجيل الناشف وضع الاثنين أمام الجاموسة أو الحمار، ستجد الجاموسة والحمار يتجهان إلى النجيل الناشف ويتركان نبات النعناع الأخضر الرطب، وهما يفعلان ذلك بالغريزة، فالمحكوم بالغريزة له نظام، وله كان الحيوان مختارا لارتبكت حركة الحياة كلها واختلطت واشتد على الناس شأنها.
وهكذا نعرف أن مقومات الحياة تقوم على قوانين الغريزة، وهذه القوانين موجودة في الكون لتخدمنا نحن بني البشر. فالكهرباء مثلا كانت موجودة قبل أن ننتفع بها، لكن بعد ذلك انتفعنا بها، وكذلك الجاذبية، كانت موجودة في الكون منذ الأزل، لكنا لم ننتبه لها، وحين اكتشفناها زادت قدراتنا على الاستفادة منها، وهكذا نرى أن الإنسان واحد من هذا الكون، إلا أنه يتميز بأن له جهة اختيار في بعض الأمور، وله جهة قهر في البعض الآخر، فهو يشارك الكون في القهر، ويتميز عن بقية المخلوقات عدا الجن بالاختيار في أمور أخرى. ونجد على سبيل المثال أن الإنسان الذي يعاني قلبه من ضعف ما، عندما يصعد هذا الإنسان سلما ينهج ويتتابع نَفَسه من الإعياء وكثرة الحركة، لأنّ غريزته المحكوم بها تُنبه الجسد إلى ضرورة أن تعمل الرئة أكثر لتعطي الأوكسجين الذي يساعد على الصعود.
ومثال آخر، نجد الذكر من الحيوانات يقترب من أنثاه ليشمها، فإن وجدها حاملا لا يقربها، والحيوان في هذا الأمر مختلف عن الإنسان ؛ لأن الحيوان تحركه الغريزة التي تبين له أن العملية الجنسية بين الذكر والأنثى لحفظ النوع، ومادامت الأنثى قد حملت، فالذكر لا يقربها، فاختلف الإنسان عن الحيوان في هذا الأمر ؛ فلذة الإنسان في الجنس أعلى من لذة الحيوان ؛ لأنها في الحيوان ترضخ للغريزة فحسب، أما في الإنسان فإنها مع الغريزة ترضخ أيضا للاختيار الذي منحه الله للإنسان.
ومن رحمة الله إذن أن يكون الإنسان مقهورا في بعض الأشياء ومختارا في أشياء أخرى، ب " افعل " و " لا تفعل " حتى يختار بين البديلات.
وهنا يقول الحق :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾. أي خذوا ما آتاكم في الكتاب بجد واجتهاد. وكان هذا القول مقدمة لما جاء به العلم في شرح معنى القوة. وقد وصل إلينا خبر العلم قبل أن يصل لنا واقعه المادي، فصرنا نرى الطاقة التي تعطي القوة. وجاء نيوتن ليكشف لنا قانون الجاذبية، القانون الأول والثاني والثالث، واكتشف أن كل جسم يظل على ما هو عليه، فإن كان ساكنا يبق على سكونه إلى أن يأتي محرك يحركه. وإن كان الجسم متحركا فهو لا يتوقف إلى أن يصدمه صادم أو يمسكه ماسك. وسمّى العلماء هذا التأثير بالقصور الذاتي. أو التعطل، أي أن الساكن يُعَطّلُ عن الحركة إلا أن يحركه محرك، والمتحرك يعطل عن السكون إلا أن يتوقفه موقف، فأنت إذا ركبت سيارة وأنت قاعد وساكن والسيارة تسير، فإنك تظل ساكنا، إلى أن يوقفها السائق فجأة فتتحرك من مكانك ما لم تمسك بشيء.
وفي الأسواق نرى الحواة وهم يؤدون بعض الألعاب ليسحروا أعين الناس فيأتي بمنضدة وعليها مفرش لا مع وأملس، ثم يضع عليها أطباقا وأكوابا، ثم يحرك المفرش بخفة لينزعه بهدوء من تحت الأكواب حتى لا تتحرك بحركة المفرش.
وحين جاء نيوتن عقد مقارنة وموازنة بين القوة والحركة والعطالة، وقلنا : إنّ العطالة تعني أن الساكن يتعطل عن الحركة، والمتحرك يتعطل عن السكون، وهذه هي القضية المادية في الكون التي خدمت العلم الفضائي الخاص بسفن الفضاء والصواريخ. ونحن نرى السفن الفضائية ونعتقد أنها تدور في الفضاء بالوقود، رغم أن حجمها لا يسع الوقود الذي يسيرها لسنوات، والحقيقة أنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة إنّها بدون وقود، وهي تندفع إلى الفضاء بقوة الصاروخ إلى أن تخرج إلى الفضاء الكوني، وتظل متحركة ما لم يوقفها موقف. ونرى ذلك في التجربة اليسيرة حين يطلق إنسان رصاصة من مسدس فتنطلق الرصاصة بقوة الطلقة مسافة ثم تقع إن لم يوجد حاجز يصدها، وهي تقع بعد مسافة معينة ؛ لأن الهواء يقابلها فيصادم الحركة إلى أن تتوقف، أما في الفضاء الخارجي فليس هناك هواء ؛ لذلك لا تتوقف سفينة الفضاء، لأنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة.
وهذه السفن الفضائية تعتمد في صعودها إلى الفضاء على الصواريخ لتصل إلى المدار الخارجي. والصواريخ تسير بالغاز المتفلت الذي أخذ القانون الثالث من قوانين نيوتن، وهو القانون القائل : إن كل فعل له رد فعل يساويه و مضاد له في الاتجاه، وحين يسخن هذا الغاز المتفلت يخرج من خلف الصاروخ بقوة فيندفع الصاروخ للأمام.
وهكذا نرى قول الحق :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ في الواقع المادي والواقع القيمي. وانظر إلى غير المتدينين تجدهم ساكنين في بعض الأمور ولا يتحركون عنها ولا يجاوزونها، فالواحد منهم لا يصلي، ولا يزكي، ولا يقول كلمة معروف، وهو في ذلك يحتاج إلى قوة تحرك سكونه عن طاعة الله. ونجد أيضا من غير المتدينين من يشرب خمرة. أو يزني أو يسرق أو يرتشي. وهو هنا يحتاج إلى قوة لتصده عن مثل هذه الحركة. ولذلك نقول : إن الإنسان في أفعاله الاختيارية يحتاج إلى أمرين : الأول إن كان ساكنا عن فعل الخير نأت له بقوة تحركه إلى هذا الخير، وإن كان متحركا إلى الشر نأت له بقوة توقفه عنه، وهذا هو ما يقدمه المنهج الإيماني في " افعل "، و " لا تفعل ". فمن يتراخى عن الصلاة وسكن عنها نقول له صلّ. ومن يذهب للقمار ويتحرك إليه لا يمكن أن يقف إلا إذا جاءت له قوة توقفه عن ذلك وتمنعه إذن فالقوة الشرعية تكون في المنهج ب " افعل " ليحرك الساكن، و " ل
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( ١٧٢ ) ﴾.
وإذا تنصرف إلى الزمن، أي اذكر وقت أن أخذ الله من بني آدم، والآخذ هو الله، والمأخوذ منه بنو آدم، والشيء المأخوذ هو ذريتهم، هذه هي العناصر. ولنتأمل ذلك بدقة، إن الرب هنا هو الأخذ، وبنو آدم مأخوذ منهم، والمأخوذ هو الذرية. وبنو آدم هم أولاد آدم من لدنه إلى أن تقوم الساعة، وهنا اتحد المأخوذ والمأخوذ منه، ولابد أن نرى تصريفا في هذا النص ؛ لأن يشترط أن يكون المأخوذ منه كلا، والمأخوذ بعضه.
والمثال : إن أنا أخذتُ منك شيئا، فالمأخوذ منه هو الكل، والمأخوذ بنفسه هو البعض. لكننا هنا نجد المأخوذ هو عين المأخوذ منه، وأزال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الإشكال في هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه :( لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وميضا من نور عرضهم على آدم، فقال : أي رَبَّ. من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك. فرأى رجلا منهم. فأعجبه وميض ما بين عينيه. فقال : أي رب. من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك، يقال له داود، فقال : رب كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة. قال : أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما قُضي عُمُر آدم جاءه ملك الموت. فقال : أو لم يَبْق من عُمُري أربعون سنة ؟ قال : أو لم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم فجحدتْ ُذُريته، ونسي فنسيت ذريته. وخطئ آدم فخطئت ذريته " ١ ).
إذن ذرية آدم أُخذت من ظهر آدم. وعرفنا من قبل أنّ كُلاّ منا قبل أن تحمل به أمه كان ذَرَّةً في ظهر أبيه، وأبوه كان ذرّة في ظهر أبيه حتى آدم. وهكذا نجد أن كل واحد مأخوذ من ظهره ذرية، هناك أناس يؤخذون كذرية ولا يؤخذ منهم، مثل من فرض عليهم الله أن يكون الواحد منهم عقيما، كذلك آخر جيل تقوم عليه الساعة، ولن ينجبوا. وآدم مأخوذ منه لأنه أول الخلق، وهو غير مأخوذ من أحد. وما بين الأب آدم وآخر ولد ؛ مأخوذ ومأخوذ منه. وبذلك يكون كل واحد مأخوذ ومأخوذ منه، وهكذا يستقيم المعنى.
والمأخوذ منه آدم ثم كل ولد من أولاد آدم إلى الجيل الأخير الذي سينقطع عن النسل.
وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم : أن ربنا سبحانه وتعالى مسح بيده على ظهر آدم وأخرج منه الذرية، وقال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى. وبهذا عَلِمنا أنّ كل ذرّة من الذرات قد أُخذت مما قبلها، وأخذ منها ما بعدها ؛ وكلها مأخوذ ومأخوذ منه، اللهم إلا القوسين ؛ القوس الأول : آدم لأنه مأخوذ منه وليس مأخوذا من شيء، والقوس الثاني : آخر ولد من أولاده مأخوذ وليس مأخوذا منه ؛ لأن الإنسان منا وُجد من حيوان أبيه المنويّ. ولو أن الحيوان المنوي أصابه موت لما أنجب الأب. ومن ولد من حيوان منوي لأب، هذا الأب مأخوذ من حيوان منوي حي من الجد أيضا، وسلسلها إلى آدم ؛ ستجد أن كل واحد منا فيه جزء حي من لدن آدم لن يدركه موت أبدا.
لذلك يقول ربنا :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ﴾ ( من الآية ١٧٢ سورة الأعراف ).
ولا تقل أن الكل سيكون في ظهره ؛ لأن المأخوذ منه هو الأساس الموجود في ظهره، ومادام كل شيء يتكاثر فهو قد وجد من أقل شيء ونعلم أن الأقل يوجد فيه الأكثر مطمورا. وقد أخذ ربنا من ظهور بني آدم الذرية وخاطب الذرية بقوله تعالى :﴿ ألست بربكم ﴾ ؟.
وهنا قد يقول قائل : أكان لهذه الذرية القدرة على النطق ؛ إنها ذرية تنتظر التكوين الآخر ؛ لتتحد مثلا ب " البويضة " في رحم الأم ؟ فنرد عليه ونقول : لماذا تظن أن مخاطبة ربنا لهم أمر صعب ؟ إن الواحد من البشر يستطيع أن يتعلم عشر لغات، ويتزوج من أربع سيدات، وكل سيدة ينجب منها ذرية، ويقعد يوما عند سيدة وذريتها ويعلمها اللغة الإنجليزية مثلا، ويجلس مع الأخرى ويعلمها اللغة الألمانية، ويعلم الثالثة وأولادها اللغة العربية وهكذا، بل يستطيع أن يتفاهم حتى بالإشارة مع من لا يعرف لغته. وإذا كان الإنسان يستطيع أن يعدد وسائل الأداء، ألا يقدر أن يعدد وسائل الأداء لمخلوقاته ؟ إنه قادر على أن يعدد ويخاطب، ألم يقل الحق تبارك وتعالى للجبال :﴿ يا جبال أوبي معه ﴾ ( من الآية ١٠ من سورة سبأ ).
كيف إذن لا يتسع أفق الإنسان لأن يدرك أن الله قادر على أن يخاطب أيا من مخلوقاته ؟. إنه قادر على أن يخاطب كل مخلوق له بلغة لا يفهمها الآخر. وهو القائل سبحانه :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ﴾ ( من الآية ٧٩ من سورة الأنبياء ).
ونعلم من القرآن الكريم كذلك أن الجبال تسبح أيضا من غير داود، شأنها شأن المخلوقات جميعها مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ ( من الآية ٤٤ من سورة الإسراء ).
وحتى ذرات يد الكافر تسبح، وإن كان تسبيحها لا يوافق إرادته.
وقول الحق سبحانه :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ﴾ : يبين لنا أن الجبال كانت تردد تسبيح داود وتلاوته للزبور، ولا يقتصر أمر الحق إلى الجبال بل إلى كل مخلوق، فنحن على سبيل المثال نقرأ في القرآن الكريم أن ربنا أوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون. إذن فلله مع خلقه أدوات خطاب ؛ لأنه هو الذي خلق الكون والمخلوقات، وله سبحانه خطاب بألفاظ، وخطاب إشارات، وخطاب بإلهام، وخطاب بوحي، فإذا قرأنا أن الحق تبارك وتعالى قال لذرية آدم : ألست بربكم ؟ فهذا يعني أنه قالها لهم باللغة التي يفهمونها، لأنه سبحانه الذي قال للسماء والأرض :
﴿ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ ( من الآية ١١ من سورة فصلت ).
ولقد تكلمت النملة وفهم سليمان كلامها، ولو لَمْ يعلم الله سليمان كيف يفهم كلامها لما عرفنا أنها تكلمت :﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾ ( من الآية ١٨ من سورة النمل ).
إنها تفهم ما يفعله البشر حين يدوسون على كائنات صغيرة دون أن يروها، ولكن سليمان نبي من أنبياء الله، ولن يعتدي على خلق الله، والنملة التي تكلمت كانت تحرس بقية النمل. وكذلك تكلم الهدهد ليخبر سيدنا سليمان عن مملكة سبأ وحالة بلقيس وقومها.
إذن فالله عز وجل يخاطب جميع خلقه، ويجيبه جميع خلقه، فلا نقل : كيف خاطب المولى سبحانه الذر، والذر لم يكن مكلفا بعد ؟ ولم يحاول العلماء أن يدخلوا في هذه المسألة ؛ لأنها في ظاهرها بعيدة عن العقل، ويكفي أن ربنا الخالق القادر قد أبلغنا أنه قد خاطب الذرات قائلا : ألست بربكم ؟. قالوا : بلى. ويبدوا من هذا القول أن المسألة تمثيل للفطرة المودعة في النفس البشرية. وكأنه سبحانه قد أودع في النفس البشرية والذات الإنسانية فطرة تؤكد له أن وراء هذا الكون إلها خالقا قادرا مدبرا.
وقديما قلنا : هب أن طائرة وقعت بك في صحراء، وحين أفقت من إغماءة الخوف ؛ فكرت في حالك وكيف أنك لا تجد طعاما أو شرابا أو أنيسا، وأصابك غمّ من هذه الحالة فنمت، ثم استيقظت فوجدت مائدة عليها أطايب الطعام والشراب، ألا تتلفت لتسأل من الذي أقام لك هذه المأدبة قبل أن تمد يدك إلى أطايب الطعام ؟. كذلك الإنسان الذي طرأ على هذا الكون الحكيم الصنع ؛ البديع التكوين ؛ ألا يجدر به أن يسأل نفسه من خلق هذا الكون ؟.
إننا نعلم أن المصباح الكهربائي احتاج لصناعته إلى علماء وصناع مهرة كثيرين وإلى إمكانات لا حصر لها لينير هذا المصباح حجرة محدودة، وحين نرى الشمس تنير الكون كله، ولا يصيبها كلل أو تعب ولا تحتاج منا إلى صيانة، ألا نسأل من صنعها ؟. وخصوصا أنّ أحدا لم يدّع أنه قد صنعها، وقد أبلغنا المولى سبحانه وتعالى بأنه هو الذي خلق الشمس وخلق القمر، فإما أن يكون هذا الكلام صحيحا ؛ فنعبده، وإما لا يكون صحيحا فنبحث عمن صنع وخلق الكون لنعبده.
وبما أن أحدا لم يدع لنفسه صناعة هذه الكائنات، فهي تسلم لصاحبها وأنه لا إله إلا الله. إذن فالفطرة تهدينا أن وراء هذا الكون العظيم قدرة تناسب هذه العظمة ؛ قدرة تناسب الدقة ؛ هذه الدقة التي أخذنا منها موازين لوقتنا ؛ فقد أخذنا من الأفلاك مقياسا للزمن ؛ ولولا حركة الأفلاك مصنوعة بدقة متناهية ؛ لما استطعنا أن نَعُدّها مقياسا للزمن. وحينما نستعرض قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ الشمس والقمر بحسبان ٥ ﴾ ( سورة الرحمان ) : نجد أن " كلمة بحسبان " وردت مرتين، فقد أبلغنا الحق سبحانه وتعالى : أنه جعل الشمس والقمر بحسبان، أو حسبانا، وهما من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه ولم يخلقهما عبثا بل لحكمة عظيمة.
﴿ لتعلموا عدد السنين والحساب ﴾ ( من الآية ٥ سورة يونس ).
فقد أخذنا من دورة الشمس والقمر مقياسا، ولم نكن نفعل ذلك إلا إن كانت مخلوقة بحساب ؛ لأن الكون مصنوع ومخلوق على هذه الدرجة من الدقة والإحكام، لهذا يجب أن نلتفت إلى أن هناك قدرة وراء هذا العالم تناسب عظمته. لكن أنعرف ماذا تريد هذه القوة بالعقل ؟ إن أقصى ما يهدينا العقل هو أن نعرف أن هناك قوة ولا يعرف العقل اسم هذه القوة، وكذلك لم يعرف العقل مطلوبات هذه القوة، وكان لابد أن يأتي لنا رسول من طرف تلك القوة ليقول لنا مرادها، وجاء الموكب الرسالي فجاءت الرسل ليبلغ كلُّ رسول مراد الحق من الخلق، فقال كل رسول : إن اسم القوة التي خلقتكم هو الله، وله مطلق التصرف في هذا الكون، ومراد الحق من الخلق تعمير هذا الكون. وكل هذه أمور ما كانت لتدرك بالعقل.
وهكذا نعلم أن منتهى حدود العقل هو إيمان بقوة خالقة وراء هذا الكون، وتستوي العقول الفطرية في هذه المسألة. أما اسم القوة والمنهج المطلوب لهذا الإله فلابد له من رسول.
وأرهق الفلاسفة أنفسهم في البحث عن هذه القوة ومرادها. وسموا مجال البحث " الميتافيزيقيا " أي " ما وراء الطبيعة " وعادة ما يقابل الفلاسفة من يسألهم من أهل الإيمان : ومن الذي قال لكم إن وراء المادة قوة يجب أن تبحثوا عنها ؟.
وغالبا ما يقول الفيلسوف منهم : إنها الفطرة التي هدتني إلى ذلك. وتشعبت الفلسفة إلى مدارس كثيرة. وحاول أهل الفلسفة أن يتصوروا هذه القوة، وهذا هو الخلل ؛ لأن الإنسان يمكنه أن يعقل وجود القوة الخالقة، ولا يمكن له أن يتصورها. وغرق الكثيرون من الفلاسفة في القلق النفسي المدمَّر. وأنقذ بعضهم نفسه بالإيمان. وكان يجب على كل فيلسوف أن يرهف أذنه ويسمع ما قاله الرسل ليحلّوا لنا هذا اللغز، بدلا من إرهاق النفس بالخلط بين تعقل وجود قوة وراء المادة، وبين تصور هذه القوة.
وإنني في هذا الصدد أضرب هذا المثل وأرجوا ألا تنسوه أبدا : إننا إذا كنا قاعدين في حجرة، والحجرة مغلقة الأبواب. ودق الجرس وكلنا يجمع على أن طارقا بالباب ؛ وهذا الشيء المجمع عليه من الكل يَعدُّ ت
١ واه الترمذي في سننه وقال حديث حسن صحيح.
ويتابع المولى سبحانه : وتعالى قوله :﴿ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( ١٧٣ ) ﴾.
كأن الحق يريد أن يقطع عليهم حجة مخالفتهم لمنهج الله، فينبه إلى عهد الفطرة والطبيعة والسجية المطمورة في كل إنسان ؛ حيث شهد كل كائن بأنه إله واحد أحد، ويذكرنا سبحانه بهذا العهد الفطري قبل أن توجد أغيار الشهوات فينا.
﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ وهل كان أحد من الذر وهو في علم الله وإرادته وقدرته يجرؤ على أن يقول : لا لست ربي ؟. طبعا هذا مستحيل، وأجاب كل الذر بالفطرة " بلى ". وهي تحمل نفي النفي، ونفي النفي إثبات مثل قوله الحق :﴿ ألست بأحكم الحاكمين ٨ ﴾ ( الآية ٨ سورة التين ) : و " أليس " للاستفهام عن النفي ؛ ولذلك يقال لنا : حين تسمع " أليس " عليك أن تقول " بلى " وبذلك تنفي النفي أي أثبت أنه لا يوجد أحكم الحاكمين غيره سبحانه، وهنا يقول الحق : " ألست بربكم " ؟ وجاءت الإجابة : بلى شهدنا. ولماذا كل ذلك ؟ قال الحق ذلك ليؤكد لكل الخلق أنهم بالفطرة مؤمنون بأن الله هو الرب، والذي جعلهم يغفلون عن هذه الفطرة تحرُّك شهواتهم في نطاق الاختيار إن سألتهم من خلقهم ؟ يقولون : الله، ومادام الله هو الذي خلقهم فهو ربهم.
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾
( من الآية ٦١ سورة العنكبوت ) : وجاء الحق بقصة هذه الشهادة حتى لا يقولَنَّ أحد :﴿ إنما أشرك آباؤنا من قبل ﴾.
وبذلك نعلم أن أعذار العاصين وأعذار الكافرين التي يتعللون ويعتذرون بها تنحصر في أمرين اثنين : الغفلة عن عهد الذر، وتقليد الآباء.
وما الغفلة ؟ وما التقليد ؟. الغفلة قد لا يسبقها كفر أو معصية، ويقلدها الناس الذين يأتون من بعد ذلك. والمثال الواضح أن سيدنا آدم عليه السلام قد أبلغ أولاده المنهج السوي المستقيم لكنهم غفلوا عنه ولم يعد من اللائق أن يقول واحد منهم إن أباه قد أشرك. ولكن جاء هذا الأمر من الغفلة، ثم جاء إشراك الآباء في المرحلة الثانية ؛ لأن كل واحد لو قلد أباه في الإشراك ؛ لانتهى الشرك إلى آدم، وآدم لم يكن مشركا، لكن الغفلة عن منهج الله المستقيم حدثت من بعض بني آدم، وكانت هذه الغفلة نتيجة توهم أن هناك تكاليف شاقة يتطلبها المنهج، فذهب بعض من أبناء آدم إلى ما يحبون وتناسوا هذا المنهج ولم يعد في بؤرة شعورهم ؛ لأن الإنسان إنما ينفذ دائما الموجود في بؤرة شعوره. أما الشيء الذي سيكلفه مَشَقّة فهو يحاول أن يتناساه ويغفل عنه، هكذا كانت أول مرحلة من مراحل الانفصال عن منهج الله وهي الغفلة في آبائهم. وهنا يضاف عاملان اثنان عامل الغفلة، وعامل الأسوة في أهله وآبائه. ولم تكن القضايا الإيمانية في بؤرة الشعور، ولذلك يقال : الغالب ألا ينسى أحد ما له ولكنه ينسى ما عليه ؛ لأن الإنسان يحفظ ما له عند غيره في بؤرة الشعور، ويُخرج الإنسان ما عليه بعيدا عن بؤرة الشعور. ولأن البعض قد يتصور أن في التكليف الإيماني مشقة، لذلك فهو يحاول أن يبعد عنه وينساه، وكذلك يحاول هذا البعض أن ينأى بنفسه عن هذه التكاليف.
ونأخذ المثل من حياتنا : قد نجد إنسانا مدينا لمحل بقالة أو لنجَّار وليس عنده مال يعطيه له، لذلك يحاول أن يبتعد عن محل هذا البقال، أو أن يسير بعيدا عن أعين النجار. وهكذا يكون افتعال الغفلة في ظاهره هو أمرا مَنْجِيّا من مشقات التكاليف، لكن البشر في ميثاق الذر قالوا :﴿ بلى شهدنا ﴾.
وقد أُخِذ ذلك العهد عليهم، وأقروا به واستشهد الحق بهم، على أنفسهم حتى لا يقولوا يوم القيامة ﴿ إنا كنا عن هذا غافلين ﴾ لأنه لا يصح أن نغفل عن هذا العهد أبدا، ولكنّ الحقّ تبارك وتعالى عَرَف أننا بشر، وقال في أبينا آدم :﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ﴾ ( من الآية ١١٥ من سورة طه ).
ومادام آدم قد نسي، فنسيانه يقع عليه حيث بيّن وأوضح لنا الإسلام أن الأمم السابقة على الإسلام تؤخذ بالنسيان، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر واضح : فقال عليه الصلاة والسلام :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )١.
والخطأ معلوم، كأن يقصد الإنسان شيئا ويحدث غيرُه، والنسيان ألا يجئ الحكم على بال الإنسان. والمكره هو من يقهره من هو أقوى منه بفقدان حياته أو بتهديد حريته وتقييدها ما لم يفعل ما يؤمر به، وفي الحالات الثلاث يرفع التكليف عن المسلم. وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أكرم الأمة المحمدية بصفة خاصة برفع ما ينساه المسلم. وهذا دليل على أن من عاشوا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤاخذون به. وإذا سلسلنا ما قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصل إلى سيدنا آدم الذي خُلق بيد الله المباشرة، بينما نحن أبناء آدم مخلوقين بالقانون ؛ أن يوجد رجل وتوجد امرأة وتوجد علاقة زوجية فيأتي النسل.
وقد كلف الله آدم في الجنة التي أعدها له ليلتقي التدريب على عمارة الأرض بأمر ونهي ؛ فقال له سبحانه وتعالى :﴿ وكُلا مِنْها رغدًا حيْثُ شِئْتُما ولا تقْربا هذِهِ الشّجرة ﴾ ( من الآية ٣٥ سورة البقرة ).
إذن فقصارى في كل تكليف هو أمر في " افعل "، ونهي في " لا تفعل ؛، وقد نسي آدم التكليف في الأمر الواحد البسيط وهو المخلوق بيد الله والمكلف منه بأمر واحد أن يأكل حيث يشاء ويمتنع عن الأكل من الشجرة، وإن لم يتذكر آدم ذلك، فما الذي يتذكره ؟ وما كان يصح أن ينسى لأنه مخلوق بيد الله المباشرة، ومكلف من الله مباشرة، والتكليف وإن كان بأمرين ؛ لكن ظاهر العبء فيه على أمر واحد ؛ الأكل من حيث شاءا هو أمر لمصلحة آدم، و " لا تقرب " هو تكليف واحد.
ولذلك قال الحق في آية أخرى :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ ( من الآية ١٢١ سورة طه ) : وهو عصيان لأنه نسيان لأمر واحد، ما كان يصح أن ينساه. لعدم تعدده ويقول الحق تبارك وتعالى :﴿ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( ١٧٣ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
جاء هذا القول لينبهنا إلى أن الغفلة لا يجب أن تكون أسوة لأن التكاليف شاقة، والإنسان قد يسهو عنها فيورث هذا السهو إلى الأجيال اللاحقة فيقول الأبناء :﴿ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾.
وهذا يعين أن إيمانهم هو إيمان المقلد، رغم أن الحق قد أرسل لهم البلاغ، وإذا كان الآباء مبطلين للبلاغ بالمنهج فلا يصح للأبناء أن يغفلوا عن صحيح الإيمان.
١ أخرجه ابن ماجة وابن حبان، والدار قطني والطبراني والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ١٧٤ ) ﴾.
والآيات التي فصلها الحق هنا هي العهود الخاصة، ورفع الجبل ليأخذوا التوراة بقوة، وكذلك العهد العام الذي اشترك فيه كل الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وجاء سبحانه بكل ذلك ليؤكد لهم أن قضية الإيمان عقيدة يجب أن تكون في بؤرة الشعور، فمن غفل فليتذكر، ومن قلد أباه في شيء مخالف للمنهج القويم، فليرجع عن هذا التقليد ؛ لأن التكاليف الإيمانية تكاليف ذاتية، وسبحانه لا يكلفك وأنت في حاجة إلى أبيك، أو إلى أمك. لكنه يكلفك من بعد البلوغ ؛ لأنك بعد البلوغ تستقل بذاتيتك استقلالا كاملا مثل والدك، ومادمت مكتمل الرجولة كوالدك وصالحا للإنجاب فلا ولاية إيمانية لأبيك عليك أبدا، فلا تقل إنني أقلد أبي ولو كان على غير المنهج السليم ؛ لأن مثل هذا القول يمكن أن يكون مقبولا لو كان التكليف للإنسان وهو في دور الطفولة، حيث يسعى لإطعام أبنائه ورعايتهم، لكن التكليف لا يأتي للإنسان إلا بعد البلوغ، ومعنى بعد البلوغ : أنك صالح لإنجاب مثلك ورعاية نفسك.
ولذلك يطلب الحق سبحانه وتعالى من الآباء أن يدبوا أبناءهم ويعودوهم على مطلوبات التكليف قبل مجيء أوان تكليف الله، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام :( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع.. الخ " ١. الأب إذن يأمُرُ ويُعاقبُ قبل أوان التكليف ليتدرب الأبناء عليه ويصير دربة سهلة لا يتعب منها الإنسان بعد البلوغ.
﴿ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ﴾. أي أن على الغافل أن يرجع عن غفلته فيتذكر، وأن يرجع المقلد لآبائه عن التقليد، ويقتنع اقتناعا، مصداقا لقوله الحق :﴿ لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ﴾ ( من الآية ٣٣ من سورة لقمان ).
١ رواه أبو داود بإسناد حسن (رياض الصالحين ص١٨١).
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( ١٧٥ ) ﴾.
ولأنهم قالوا :﴿ إنا كنا عن هذا غافلين ﴾، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا خبر هؤلاء فيقول :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾.
والنبأ هو الخبر المهم وله جدوى اعتبارية ويمكن أن ننتفع به وليس مطلق خبر. ولذلك يقول سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر :﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( ١ ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( ٢ ) ﴾ ( سورة النبأ ).
كما يقول :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا ﴾، كأن هذا النبأ كان مشهورا جدا، ويقال : إنه قد قيل في " ابن بعوراء " أو أمية بن أبي الصلت، أو عامر الراهب، أو هو واحد من هؤلاء، والمهم ليس اسمه، المهم أن إنسانا آتاه الله آياته ثم انسلخ من الآيات، فبدلا من أن ينتفع بها صيانة لنفسه، وتقربا إلى ربه ﴿ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ﴾ واتبع هواه ومال إلى الشيطان.
و كلمة " انسلخ " دليل على أن الآيات محيطة بالإنسان إحاطة قوية لدرجة أنها تحتاج جبروت معصية لينسلخ الإنسان منها ؛ لأن الأصل في السلخ إزاحة جلد الشاة عنها، فكأن ربنا يوضح أنه سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الآيات فانسلخ منها، وهذا يعني أن الآيات تحيط بالإنسان كما يحيط الجلد بالجسم ليحفظ الكيان العام للإنسان ؛ لأن هذا الكيان العام فيه شرايين، وأوردة، ولحم، وشحم، وعظام. وجعل الله التكاليف الإيمانية صيانة للإنسان، ولذلك سمي الخارج عن منهج الله " فاسق " مثله مثل الرطبة من البلح، فبعد أن تضرب الشمس البلحة يتبخر منها بعض الماء، فتنكمش ثمرة البلحة داخل قشرتها وتظهر الرطبة من القشرة، ولذلك سمي الخارج عن المنهج " فاسقا " من فسوق الرطبة عن قشرتها، والله عز وجل يقول هنا :﴿ آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا ﴾. وكان يجب ألا يغفل عنها، لأن الإتيان نعمة جاءت ليحافظ الإنسان عليها، لكن الإنسان انسلخ من الآيات.
ونعرف جميعا ثوب الثعبان وهو على شكل الثعبان تماما، ويغير الثعبان جلده كل فترة، ولا ينخلع من الجلد القديم إلا أن يكون الجلد الذي تحته قد نضج، وصلح لتحمل الطقس والجو، وكذلك حين يندلق سائل ساخن على جلد الإنسان، تلحظ تورم المنطقة المصابة وتكون بعض المياه فيها، ولو أفرغ الإنسان هذه المياه تصاب هذه المنطقة بالتهاب، أما إذا تركها فهي تحمي المنطقة المصابة إلى أن يتربى الجلد تحتها وتجف وتنفصل عن الجسم، وكذلك نعلم أن الشاة مثلا لا تسلخ نفسها. بل نحن نسلخها، والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ﴾ ( من الآية ٣٧ سورة يس ).
فكأن الليل كان مجلدا ومغلفا بالنهار، والليل أسود، والنهار فيه الضوء، ونعلم أن اللون الأسود ليس من ألوان الطيف، وكذلك اللون الأبيض ليس من ألوان الطيف ؛ لأن ألوان الطيف : الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلي، البنفسجي، واللون الأسود يأخذ ألوان الطيف ويجعلها غير مرئية، لأنك لا ترى الأشياء إلا إذا جاءت لك منها أشعة لعينيك، واللون الأسود يمتص كل الأشعة التي تأتي عليك فلا يرتد إلى العين شعاع منها فتراه مظلما. والأبيض هو مزيج من ألوان متعددة إن مزجتها مع بعضها يمكنك أن تصنع منها اللون الأبيض، وهكذا نعلم أن الأبيض مثله مثل الأسود تماما، فالأسود يمتص الأشعة فلا يخرج منه شعاع لعينيك، والأبيض يرد الأشعة ولا يخرج منه شعاع لعينيك. وقوله الحق :﴿ نسلخ منه النهار ﴾ كأن سواد الليل جاء يغلف بياض النهار.
وإذا انسلخ من آتاه خبر الإيمان عن المنهج يقول الشيطان : إنه يصلح لن يتبعني، وكأن الشيطان حين يجد واحدا فيه أمل، فهو يجري وراءه مخافة أن يرجع إلى ما آتاه الله من الكتاب الحامل للمنهج، ويزكي الشيطان في نفس هذا الإنسان مسألة الخروج عن منهج ربنا.
وقلنا من قبل : إن المعاصي تأتي مرة من شهوة النفس، ومرة من تزيين الشيطان وأوضحنا الفارق، وقلنا : إن الشيطان لا يجرؤ عليك إلا إن أوضحت للشيطان سلوكك أن له أملا فيك، لكن إن اهتديت وأصلحت من حالك فالشيطان يوسوس للإنسان في الطاعة ويحاول أن يكرهه فيها، والشيطان لا يذهب مثلا إلى الخمارة، بل يقعد عند الصراط المستقيم ليرى جماعة الناس التي تتجه إلى الخير، أما الآخرون فنفوسهم جاهزة له. إذن فالشيطان ساعة يرى واحدا بدأ في الغفلة عن الآيات فهو يلاحقه مخافة أن تستهويه الآيات ثانية، ولذلك لابد لنا أن نفرق بين الدافع إلى المعصية هل هو من النفس أم من نزغ الشيطان، فإن جاءت المعصية وحدثتك نفسك بأن تفعلها ثم عزت عليك تلك المعصية لأي ظرف طارئ ثم ألححت عليها ذاتها مرة ثانية، فاعلم أنها شهوة نفسك. لكن إن عزت عليك ثم فكرت في معصية ثانية فهذا نزغ من الشيطان ؛ لأن الشيطان لا يريدك عاصيا بمعصية مخصوصة، بل يريدك بعيدا عن المنهج فقط، لكن النفس تريد معصية بعينها وتقف عندها، فإن رأيت معصية وقفت عندها نفسك، فاعلم أنها من نفسك، وإن امتنعت عليك معصية وتركتها، ثم فكرت في معصية ثانية. فهذا نزغ من الشيطان ويقول الحق :﴿ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ ( من الآية ١٧٥ سورة الأعراف ).
الغاوي والغَوىّ هو من يضل عن الطريق وهو الممعن في الضلال، ونعلم أن الهدى هو الطريق الموصل للغاية، ومن يشذ عن الطريق الموصل للغاية يضل أو يتوه في الصحراء. وهو الذي يُسمى " الغاوي "، ومادام من الغاوين عن منهج الله فالفساد ينشأ منه لأنه فسد في نفسه ويفْسد غيره.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( ١٧٦ ) ﴾.
وهنا أمران اثنان، الرفعة : وهي العلو والتسامي، ويأتي بعدها الأمر الثاني وهو الإخلاد إلى الأرض أي إلى التسفل، والفعلان منسوبان لفاعلين مختلفين.
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ ﴾، والفعل رفع هنا مسند لله. ولكنه اختار أن يخلد في الأرض. وجاء الأمر كذلك لأن الرفعة من المعقول أن تنسب لله. لكن التسفل لا يصح أن يُنسب لله، وكان كل فعل هو بأمر صاحب الكون. وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج، وحين يقول الحق تبارك وتعالى ﴿ ولو شئنا ﴾ أي أنها مشيئتنا. فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة، لكن هذا الأمر ينقص الاختيار، والحق يريد أن يُبقَى للإنسان الاختيار، فإن اختار الصواب فأهلا به وجزاؤه الجنة، وإن أراد الضلال فلسوف يَلْقى العذاب الحق، ولمزيد من الاعتبار بقصص القرآن اقرأ معي قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام :﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ( ٦٥ ) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ( ٦٦ ) ﴾ ( سورة الكهف ).
ورغم أن موسى رسول من عند الله إلا أنه لم يتأبّ على أن عبدا من عباد الله تقرب إلى الله فاتبعه موسى ليقول له :﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾.
وفي هذا تأكيد على رغبة موسى أن يستزيد بالعلم ممن أعطاه الله العلم. وجاء القرآن بهذه القصة ليعلمنا أدب التعلم.
وماذا قال العبد الصالح ؟ لقد عذر موسى وقال :﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( ٦٧ ) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ( ٦٨ ) ﴾( سورة الكهف ).
أي أنك يا موسى لن تصبر لا لنقص فيك، بل لأنك سترى أمورا لا تعرف أخبارها. لكن سيدنا موسى قال له لا :﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ وأصرّ موسى أن يتبع العبد الصالح وأنه لن يعصي له أمرا، واشترط العبد الصالح ألا يسأله سيدنا موسى عن شيء إلا أن يحدثه العبد الصالح. وكان كل ذلك مجرد كلام نظري، فيه أخذ ورد، وحين جاء الواقع تغير الموقف تماما. بعد أن ركبوا في السفينة وخرقها العبد الصالح، لم يصبر سيدنا موسى بل قال :﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ ( من الآية ٧١ من سورة الكهف ).
وهكذا أثبتت التجربة العملية أن موسى لم يصبر على أفعال العبد الصالح، وحين ذكره العبد الصالح بما وعد به من ألا يسأل، تراجع موسى، وتكرر السؤال، وتكرر التذكير. إلى أن أوضح العبد الصالح لموسى كل أسرار ما لم يحط به علما وهنا يقول الحق :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بها ﴾ لماذا ؟. لأن مشيئة الله مشيئة مطلقة، يفعل ما يريده، ولكنه سبحانه قد سبق منه أن جعل للاختيار جزاءً، لهذا لم يرفعه مع أنه مخالف، لأنها سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وسنة الله أن من عمل عملا طيبا يثيبه الله عليه. ومن عمل سوءا يعاقبه، ومشيئته سبحانه مطلقة، ولا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.
وبمقتضى مشيئة الله فهو يعذب المذنب بعدله ويثيب الطائع بفضله، وله سبحانه مطلق الإرادة فهو عزيز، وحكيم في كل فعل.
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ ( من الآية ١٧٦ سورة الأعراف ).
و﴿ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ﴾، أي أنه اختار أن ينزل إلى الهاوية، رغم أن الحق هدى الإنسان وبين له طريق الخير ليسلكه فيصعد إلى العلو، والحق يقول :﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
ونخطئ حين نفهم أن " تعالوا " بمعنى " أقبلوا " فقط وهذا فهم ناقص، إنها دعوة للقبول وإلى العلو، لأنه سبحانه وتعالى يشرع لنا حتى لا نلزم منهج الأرض السفلي. بل نرتقي ونأخذ منهج الله الذي يضمن لنا العلو. وكأنه سبحانه يقول : تعالوا وتساموا في أخذ منهجكم من الله العلي الأعلى وإياكم أن تأخذوا منهجكم مما وضعه البشر ويناقض ما جاء في شرع الله، لأن في هذا تسفلا ونزولا إلى الحضيض.
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ ( من الآية ١٧٦ سورة الأعراف ).
ويقال : " حملت على الكلب "، فأنت حين تجلس ويقبل الكلب عليك وتزجره وتطرده وتنهره، فهذا تفسير لقوله : " تحمل عليه "، أي أنك تحمل عليه طردا أو زجرا ؛ لذلك يلهث، وإن تركت الكلب بدون حمل عليه طردا أو زجرا فهو أيضا يلهث، لأن طبيعته أنه لاهث دائما، وهذه الخاصية في الكلب وحده، حيث يتنفس دائما بسرعة مع إخراج لسانه.
ونعلم أن الحيوانات لا تلهث إلا إن فزعت فتجري، لتفوت من الألم أو من العذاب الذي يترصدها من كائن آخر، وحين يجري الحيوان فهو يحتاج لطاقة، فيدق القلب بشدة ليدفع الدم بما فيه من غذاء إلى كل الجسم، ولابد للقلب أن يتعاون مع الرئة التي تمد الدم بالهواء. ونلحظ أن الكائن الحي حين يجلس برتابة فهو لا يلحظ تنفسه، لكن إذا جرى يلحظ أن تجويف الصدر أو سعة الصدر تنقبض وتنبسط لتسحب " الأوكسجين " من الهواء لتصل به للدم بكمية تناسب الحركة الجديدة، فيحاول أن يتنفس أكثر. ولا تفعل الحيوانات مثل هذه المسألة إلا إذا كانت جائعة أو متعبة أو مهاجة، لكن الكلب وحده هو الذي يفعلها، جائع أو شبعان، عطشان أو غير عطشان، مزجورا أو غير مزجور، إنه يلهث دائما. ولماذا يشبهه سبحانه بالكلب اللاهث ؟ ؛ لأن الذي يظهر بهذه الصورة تجده مكروها دائما ؛ لأنه متبع لهواه، وتتحكم فيه شهواته. وحين تتحقق له شهوة الآن، يتساءل هل سيفعل مثلها غدا ؟ وتتملك الشهوة كل وقته، لذلك يعيش في كرب مستمر، لأنه يخاف أن يفوته النعيم أو أن يفوت هو النعيم، ويصير حاله كحال الكلب يلهث آمنا أو غير آمن، جائعا أو غير جائع، عطشان أو غير عطشان.
﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ ( من الآية ١٧٦ سورة الأعراف ).
هكذا يكون مصير من كذب بالآيات.
وقوله الحق :﴿ فاقصص القصص ﴾ يوضح لنا أن الله لا يريد أن يعلمنا تاريخا، لكنه يعلمنا كيف نأخذ العبرة من التاريخ، بدليل أن يكرر القصة أكثر من مرة وكل مرة يأتي سبحانه بلقطة جديدة، لتعدد ما في القصة الواحدة من العبر، ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة واحدة. ونجد في القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل، ومن قصص المبطلين مع المحقين، ومن قصص المعاندين مع الرسل ؛ لأن القصة أمر واقعي، والتقنين للمناهج أمر لفظي، فيريد سبحانه وتعالى أن يوضح لنا المنهج المناسب للواقع ؛ لأن واقع الحياة يعطي القصة القولية حرارة وسخونة فلا يظل المنهج مجرد كلام نظري معزول عن الواقع.
وهكذا بيّن الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية، أنه سبحانه قد أنزل علم منهجه بواسطة الرسل إلى بعض خلقه، فمنهم من يأخذ منهج الله بالاستيعاب أولا، وتوظيف ما علم ثانيا، وبذلك يرتفع من منطق الأرض إلى منطق السماء. ومن يعطيه الله ذلك المنهج، ما كان يصح له أن يترك ارتفاعه إلى السماء، ليهبط إلى مستوى الأرض. وهذا ما يفعله البشر حين يقننون لأنفسهم، ويضعون نظم الحياة على وفق هواهم، وعلى وفق نظمهم، ويتركون منهج الله الذي خلقهم وصنعهم ووضع لهم قانون صيانتهم.
وهذا كلام نظري له واقع في ابن " باعوراء "، هذا الذي آتاه الله العلم، ولكنه أخلد إلى الأرض ولم يتبع ما علم، فانسلخ من المنهج كما تنسلخ الشاة من جلدها وقال فيه الحق :
﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ ( من الآية ١٧٦ سورة الأعراف ).
ومن يريد أن يرفعه الله إلى السماء بالوحي بالمنهج ثم يهبط إلى الأرض نجد الحق سبحانه وتعالى يمثل حاله بحال الكلب، مع الفارق بين الاثنين ؛ لأن الكلب يلهث غريزة. فهو غير مذموم حين يلهث وهو مطرود، ويلهث غير مطرود فهي غريزة فيه، ولا يذم على هذه ولا على تلك، لكن الإنسان الذي فطره الله على حب الخير وميز غرائزه بمنهج عقلي يصون حركته ما كان يصح له أن يفعل ذلك ولا ينبغي أن تقولوا : وما ذنب الكلب في أنه يلهث، ويضرب به المثل في الكفر ؟ لأن الكلب يفعلها غريزة، وهو بغير تكليف فيفعل ما يشاء، أما الإنسان الذي ارتفع بفكره وميزه الله بأن يختار بين البديلات ما كان يصح له أن يصل إلى هذا المستوى، ومثل هذا السلوك في الكلب محمود فيه لأن طبيعته هكذا، وإياك أن تقول : لماذا ربنا يضرب المثل بأشياء وما ذنبها هي ؟
والحق سبحانه هو القائل عن اليهود :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ ( من الآية ٥ سورة الجمعة ).
هل الحمار حين يحمل أسفارا يستحق الذم لأنه لم يفقه ما في الأسفار ؟ الجواب لا ؛ لأن مهمته ليس منها فقه وفهم ما في الأسفار، بل مهمته أن يحمل ما عليه فقط، وكأن الحق يقول : لا تكونوا مثل الحمار الذي يكتفي من الخير بأن يحمله، ولكن أريد منكم أن تحملوا المنهج وأن تنتفعوا بما يحويه من التشريع. إذن فهذه الأمثلة ليست ذما للكلب، ولا هي ذما للحمار. إنما ذم لمن يتشبه بهما ؛ لأنه نزل إلى مرتبة لم يرده الله لها، وأراد الله المثل فيها بشيء لا تذم منه، ولكنه مذموم من الإنسان.
والإنسان الذي لا يتبع منهج الله يكون مضطرب الحركة في الحياة، حتى وإن كان في نعمة، لأنه معزول عن الله، ومادام معزولا عن الله تجده دائم التساؤل : أيدوم لي هذا النعيم أو لا يدوم ؟ ويعيش دائما في قلق ورعب مخافة أن يفوت النعيم أو ألا يدوم له النعيم، ومثله كالكلب يلهث حال راحته ويلهث حال تعبه.
﴿ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
إذن حين يضرب الله لنا مثلا من الأمثال الواقعية في هذا الرجل المسمى " ابن باعوراء "، فسبحانه يعطينا واقعا لما حدث بالفعل.
أي أن الذي يريد الله أن يرفعه بما علمه من منهج فانسلخ من دينه فهو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، ولستم بدعا في هذا، فالله يريد أن يرفعكم بمنهج السماء وأنتم تخلدون إلى الأرض، وقد حدث هذا مع ابن باعوراء، وكلمة " مثل " إذا سمعتها هي من مادة ال " م " وال " ث " وال " لام "، وتنطق كما يأتي : إما أن تنطقها مثْل " بكسر الميم وسكون الثاء "، وإما أن تنطقها مَثَل " بفتح الميم والثاء "، والمثْل
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك :﴿ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ( ١٧٧ ) ﴾.
والحق قال فيهم من قبل : إنهم كذبوا بآياتنا، وضرب لهم المثل بابن باعوراء وكان مشهورا في أيامهم. لكنهم فاقوا ابن باعوراء لأنه كان فردا وهم جماعة ؛ لذلك لا تقل إن في المسألة تكرارا ؛ لأن المثل من قبل كان على فرد واحد، أوتي آيات الله فانسلخ منها، ولكنهم كانوا جماعة. لذلك فانسلاخهم عن المنهج يجعل موقفهم أشد سوءا.
﴿ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾ : و " ساء " أي قَبُح، وحين نقول : ساء فلان ؛ أي قبح أمره، ولكم أي أمر من أموره هو القبيح ؟ فنقول : ساء صحة أي صار مريضا أو ساء حالا أي صار فقيرا، أو ساء خلقا أي صار شرسا، وأنت حين تقول : ساء، فهذا السوء عام له جوانب متعددة، ويقتضي الأمر التمييز.
و " ساء مثلا " أي ساء من جهة المثل، والمثل في ذاته لا يسوء ؛ لأن الله تعالى يضرب المثل لنا. والمثل إنما يجيء ليبين ويشرح ويوضح. والمعنى هنا : ساء مثلا حال القوم. أو القوم أنفسهم هم الذين ساءوا. لأنهم حين كذبوا بالآيات ظلموا أنفسهم، فالتكذيب منهم لم يعرقل منهج الله في الأرض، ولم يعرقلوا بالتكذيب شيئا في كون الله تعالى، فالكون بنظامه ونسقه يسير بإرادته سبحانه وآيات الكون سائرة. إذن تكذيبهم بآيات الله لن يضير أبدا في أي شيء. والخيبة إنما تقع عليهم. وإن كان التكذيب في الآيات المعجزات فقد بقي ذكر المعجزات إلى الآن. وهم الذين خابوا، وإن كانوا قد كذبوا بآيات المنهج فهم أيضا الذين خسروا ولم يصب الآيات الإعجازية أو القرآنية أي شيء. وهم قد ظلموا أنفسهم في ذلك مثل المريض الذي لم يسمع كلام الطبيب فإنه يسئ إلى نفسه ولن يضر الطبيب شيء والله سبحانه قد أعطانا المنهج لتستقيم به حركة الحياة، فمن يأخذه ينفع نفسه، ومن لا يأخذه لن يضر الله شيئا.
هم إذن ظلموا أنفسهم، ومن يظلم نفسه كان أول عدو لها ولن يضر الله شيئا، ولا الرسول، ولا المجتمع.
﴿ وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾ ( من الآية ١٧٧ سورة الأعراف ).
وحين تجد معمولا تقدم على عامله قاعدة نحوية فاعلم أن هناك ما يسمى بالقصر في علم البلاغة، وقد نقول : " يظلمون أنفسهم " ويصح أن تعطف قائلا : ويظلمون الناس. ولكن حين نقول : أنفسهم يظلمون، فمعنى ذلك أنه لا يتعدى ظلمهم أنفسهم، ويكون الكلام فيه قصر وتخصيص، مثلما نقول :﴿ لله الأمر من قبل ومن بعد ﴾، أي أن الأمر لا يتعدى إلى غيره أبدا.
ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ١٧٨ ) ﴾.
وهذه الآية هي الوحيدة التي جاء فيها قوله سبحانه وتعالى : " المهتدي " بالياء بينما جاء المولى سبحانه وتعالى بكلمة " المهتد " من غير ياء في آيات متعددة عدا هذه الآية : واقرأ قوله تعالى :﴿ ومَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ ( من الآية ٩٧ سورة الإسراء ).
ويقول الحق :﴿ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ( من الآية ٢٦ سورة الحديد )،
وكذلك تأتي الكلمة بدون " ياء " في قوله سبحانه :﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ ( من الآية ١٧ سورة الكهف ).
والمعركة الخاصة بقضية الهداية والإضلال قائمة من قديم، ولا تزال أيضا ذيول هذه المعركة موجودة إلى الآن، وأوضحنا هذه القضية من قبل ولكننا نكررها للتأكيد ولتستقر في الأذهان، لأن هناك دائما من يقول : إذا كان الله هو الهادي والمضل، فلماذا يعذبني إن ضللت ؟. وشاع هذا السؤال وأخذه المستشرقون والفلاسفة ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة. ونقول لكل مجادل : لماذا قصرت الاعتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت ؟ ولماذا لا تذكر الثواب إن أحسنت وآمنت ؟. إن اقتصارك على الأولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر. ولا يقول ذلك إلا المسرفون على أنفسهم.
وضَرَبْنا من قَبْلُ أمثلة كثيرة. لنفرق في هذه المسائل بين المختلفين ؛ لأن الجهة عندهم منفكة. وهم قد ناقشوا مسألة " خلق أفعال العباد " وتساءلوا : مَنْ خلق هذه الأفعال ؟ هل خلقها الله أم أنّ العبد يخلق أفعاله ؟.
ونسأل : ما هو الفعل ؟. إنه توجيه طاقة لإحداث حدث ؛ فطاقة اليد أنها تعمل أيّ عمل تريده منها ؛ قد تضرب بها إنسانا أو تحمل بها إنسانا واقعا على الأرض، أو تربت بها على اليتيم.
إذن ففي اليد طاقة تصلح لأن تفعل الخير وتفعل الشر، وأنت لحظة أن تضرب إنسانا ؛ فأي عضلة تحركها حين ترتفع اليد لتضرب ؟. إنك بمجرد رغبتك في أن تضرب، تضرب ؛ عكس الإنسان الآلي حين يرفع شيئا، فله أجزاء وأزرار تعمل. وكلها آلات.
وأنت حين تربت على كتف يتيم، ما هي الأعضاء والأجهزة التي تحركها لتعمل هذا العمل ؟. إذن فالله هو الذي خلق فيك الانفعال للفعل. فإن نظرت إلى ذلك، فكل فعل من الله، ولكن توجيه الجارحة إلى الفعل هو محل التكليف.
إذن فأنت تحاسب لأنك فعلت، لا لأنك خلقت ؛ لأن خالق الأفعال هو الله سبحانه وتعالى، وأنت تفعل بمجرد الإرادة والاختيار، مثل اللسان فيه طاقة مخلوقة لبيان ما في النفس ؛ إن أردت أن تقول بها " لا إله إلا الله " صلحت، وصلحت كذلك عند الملحد أن يقول والعياذ بالله لا يوجد إله. واللسان لم يعص في هذه ولا في تلك.
إذن فالذي خلق قدرة الجارحة على الفعل هو الله. وأنت توجه الجارحة، إذن فكل الأفعال مخلوقة لله، لكن توجيه الطاقة للفعل بالميل والاختيار إنما يكون من العبد. والحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع بالمنهج، ومن يقبل عليه بنيّة الإيمان، يعينه على ذلك، ولذلك لا يصح أن نختلف في مسألة مثل هذه، وأن نسأل من خلق الأفعال بل علينا أن نحدد الأفعال وكيف توجد، وما دور الإنسان فيها ؛ لأننا نعلم أن الله قد يسلب طاقة الفعل على الأحداث، مثل من يريد أن يؤذي إنسانا بيده لكنه يصاب بشلل فلا يقدر أن يرفع يده. ولو كان هو الذي يخلق لرفع يده وآذى بها من أراد، لكنه لا يخلق الطاقة الصانعة للفعل.
وعلى ذلك تكون الهدايةُ نوعين : هداية دلالة، وهي للجميع ؛ للمؤمن والكافر ؛ لأن الحق لم يدل المؤمن فقط، بل يدل المؤمن والكافر على الإيمان به، فمن يُقْبل على الإيمان به ؛ فإن الحق تبارك وتعالى يجد فيه أهلا للمعونة. فيأخذ بيده، ويعينه، ويجعل الإيمان خفيفا على قلبه، ويعطي له طاقة لفعل الخير، ويشرح له صدره وييسر له أمره : وسبحانه القائل :﴿ واتقوا الله ويعلمكم الله ﴾ ( من الآية ٢٨٢ سورة البقرة ).
ويقول سبحانه وتعالى :﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ ( من الآية ١٧٨ سورة الأعراف ).
فإذا كان الله قد عمّم حكما ثم خصّصه، فالتخصيص هو الذي يحكم التعميم.
ويقول ربنا عز وجل : إن من شاء هدايته فهو سبحانه وتعالى يعطيه الهداية، ومن شاء له الضلال زاده ضلالا، وقد بيّن أن من شاء هدايته يهتدي وهذه معونة من الله، والكافر لا يهتدي وكذلك الظالم، والفاسق ؛ لأنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لاختياره، وهكذا يمنع سبحانه وتعالى عنهم هداية المعونة. ونقرأ في القرآن الكريم ما يوضح هذه المسألة، فو سبحانه يقول :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ ( من الآية ١٧ سورة فصلت ).
والهداية التي كانت لقوم ثمود إنما هي هداية الدلالة، وليست هداية المعونة.
ويقول سبحانه :﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ( ١٧ ) ﴾ ( سورة محمد ).
أي أنه سبحانه قد زاد من اختاروا الهداية، بالمعونة وجعل بينهم وبين النار وقاية، والحق سبحانه وتعالى يقول لرسوله :﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ ( من الآية ٥٦ سورة القصص ).
أي أنك يا محمد لن تعين أحدا على الطاعة لأن هذا أمر يملكه ربك.
ويقول سبحانه لرسوله :﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ ( من الآية ٥٢ سورة الشورى ).
أي أنك يا محمد تهدي هداية الدّلالة بالمنهج الذي أنزله الله إليك.
إذن إذا رأيت فعلا أو حدثا مُثبتا لواحد ومنفيّا عنه.. فاعلم أن الجهة منفكة، والكلام هنا لحكيم عليم. ولماذا يقول الحق سبحانه :﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ١٧٨ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
لأن الحق سبحانه وتعالى حين ينصرف عن معونة عبده، فعلى العبد أن يواجه حركة الحياة وحده بدون مدد من خالقه. ويعيش وحالته كرب، سواء كان في يسر مادي أو في عسر. هذا إن اعتبر أن الدنيا هي كل شيء، فإذا أضيف إلى ذلك غفلته عن أن الدنيا معبر للآخرة، فالخسارة تكون كبيرة حقا.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( ١٧٩ ) ﴾.
وذرأ، بمعنى بث ونشر، وقد قال الحق سبحانه وتعالى في أول سورة النساء :﴿ وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ﴾، كما يقول الحق أيضا :﴿ يذرؤكم فيه ﴾
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَلَقَدْ ذرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ ( من الآية ١٧٩ سورة الأعراف ).
ونعرف أن في الكون أشياء عابدة بطبيعتها وهي كل ما عدا الإنس والجن ؛ لأن كلا منهما في سلك الاختيار، وهم من يقول عنهم ربنا في سورة الرحمن :
﴿ سنفرغ لكم أيها الثقلان ﴾.
وذرأنا معناها بثثنا ونشرنا وكثّرنا، وكلمة كثير لا تعني أن المقابل قليل، فقد يكون الشيء كثيرا ومقابله أيضا كثير، والحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ﴾ ( من الآية ١٨ سورة الحج ).
إذن كل الكائنات من جمادات ونباتات وحيوانات تسجد لله سبحانه وتسبيحه، ولكن الأمر انقسم عند الإنسان فقط، حيث يقول الحق في ذات الآية ﴿ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾ ( من الآية ١٨ سورة الحج ).
أي أن هناك كثير يسجدون ويخضعون لله. ومقابل ذلك كثير كفروا ولم يسجدوا وحق عليهم العذاب. وإذا كان المولى تبارك وتعالى يقول :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾.
فقد يثور في الأذهان سؤال هو : هل أنت خالقهم يا رب لجهنم. ماذا يستطيعون إذن ؟ ولا شيء في قدرتهم ما دمت قد خلقتهم لذلك ؟.
ونقول : لا. ولنلفت الأنظار إلى أن في اللغة ما يسمى " لام العاقبة "، وهو ما يؤول إليه الأمر بصورة تختلف عما كنت تقصده وتريده ؛ لأن القصد في الخلق هو العبادة مصداقا لقوله الحق تبارك وتعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( ٥٦ ) ﴾ ( سورة الذاريات ).
ومعنى العبادة طاعة الأمر، والكف عن المنهي عنه، والمأمور صالح أن يفعل وألا يفعل، فالعبادة إذن تستدعي وجود طائع ووجود عاص، وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى ومنزه سبحانه وتعالى : يأتي لك من يروي لمحة من سيرة إنسان ويقول لك : لماذا يقف منك هذا الموقف العدائي، أليس هو الذي أخذته معك لتوظفه ؟ فترد عليه : " زرعته ليقلعني ". هل كان وقت مجيئك به كنت تريده أن يقلعك ؟ لا. ولكن النتيجة والنهاية صارت هكذا.
والحق سبحانه لم يخلق البشر من أجل الجنة والنار. لكنه عز وجل خلقهم ليعبدوه، فمنهم من آمن وأصلح فدخل الجنة، ومنهم من عصى فدخل النار وهذا اسمه " لام العاقبة "، أي ما صار إليه الأمر غير مرادك منه، ومثال ذلك حينما قال الله سبحانه لأم موسى :﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٧ ) فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا ﴾
( من الآية ٧ ومن الآية ٨ سورة القصص ).
هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا ؟ لا، لأن زوجة فرعون قالت :﴿ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا ﴾ ( من الآية ٩ سورة القصص ).
فقد كانت علة الالتقاط إذن هي أن يكون قرة عين، لكنه صار عدوا في النهاية، وهذا اسمه كما قلت لام العاقبة.
وهكذا لا تكون علة الخلق أن يدخل كثير من الجن والإنس النار، في قوله الحق :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾.
لأن علة الخلق في الأصل هي العبادة، والعبادة تقتضي طائعا وعاصيا، فالذي يطيع يدخل الجنة، والذي يعصى يدخل النار، ولله المثل الأعلى، أذكركم بالمثل الذي ضربته من قبل حين يسأل وزير التعليم مدير إحدى المدارس أو عميد كلية ما عن حال الدراسة والطلبة فيقول العميد أو المدير : إننا نعلم جيدا من هم أهل للرسوب ومن هم أهل للنجاح وإن شئت أقول لك عليهم وأحددهم. لم يقل العميد أو المدير ذلك لأنه يتحكم في إجابات الطلبة، ولكنه علم تصرفاتهم ما يؤولون إليه، والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير. وعلى ذلك فإن قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾.
يعني أننا نشرنا وبثثنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، وهم من يعرضون عن منهجنا، ثم يأتي الحق بالحيثيات لذلك وهي أولا :﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ ( من الآية ١٧٩ سورة الأعراف ).
وثانيا :﴿ وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾ ( من الآية ١٧٩ سورة الأعراف ).
وثالثا :﴿ وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ ( من الآية ١٧٩ سورة الأعراف ).
ولقائل أن يقول : إن كانت قلوبهم مخلوقة بحيث لا تفقه فما ذنبهم هم ؟. ومادامت عيونهم مخلوقة بحيث لا ترى ما ذنبهم ؟ وكذلك ما دامت الآذان مخلوقة بحيث لا تسمع فلماذا يعاقبون ؟. ونقول : لا، لم يخلقهم الله للعذاب، لكنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم، وصارت عقولهم لا تفكر في شيء غيره وتخطط فقط للحصول على الشهوة، وكذلك العيون لا ترى إلا ما يستهويها، وكذلك الآذان. وكل منهم يرى غير مراد الرؤية، ويسمع غير مراد السمع.
والفرق بين فقه القلب ورؤية العين وسماع الأذن.. أن فقه القلب هو فهم القضايا التي تنتهي إليها الإدراكات. ونعلم أن الإدراكات تأتي بواسطة الحواس الخمس فنحن نعرف أن الحرير ناعم باللمس، ونعرف أن المسك رائحته طيبة بالشم، ونعلم أن العسل حلو الطعم بالذوق.
إذن لكل وسيلة إدراك، وهي من المحسَات، وبعد أن تتكون المحسَات يمتلك الإنسان خميرة علمية في قلبه وتنضج لتصير قضية عقلية منتهية ومسلما بها.
وكلنا يعرف أن النار محرقة، لأن الإنسان أول ما يلمس النار تلسعه، فيعرف أن النار محرقة، ويتحول الإدراك إلى إحساس ثم إلى معنى. إذن فالمعلومات وسائلها إلى النفس الإنسانية وملكاتها الحواس الظاهرة، وهناك حواس أخرى غير ظاهرة مثل قياس وزن الأشياء بالحمل. وقد انتبه العلماء لذلك واكتشفوا حاسة اسمها حاسة العضل ؛ لأنك حين تحمل شيئا قد تجهد العضلة أكثر إن كان الحمل ثقيلا.
وحينما ترى واحدا من قريب وواحدا من بعيد، فهذه اسمها حاسة البعد، وكذلك حاسة البين وهي التي تميز بها سُمك القماش مثلا.
كل الحواس إذن تربي المعاني عند الإنسان وحين تربي المعاني في النفس الإنسانية تتكون القضايا التي تستقر في القلب.
ولذلك يمتن الحق سبحاه وتعالى على خلقه بأنه علمهم فقال تعالى :﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٧٨ ) ﴾ ( سورة النحل ).
ونعود إلى قول الحق تبارك وتعالى :﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾.
والفقه هو الفهم، ويصير الفهم قضية مرجحة انتهى إليها الاقتناع من المرائي والمحسّات، لكن هؤلاء الكافرين لا يرون بأعينهم إلا هواهم، وكذلك لا تسمع آذانهم إلا ما يروق لهم، فلا يستمعون إلى هدى، ولا يلتفتون إلى الآيات التي يستدلون بها على الخالق فتعيش قلوبهم بلا فقه، فهم إذن لهم قلوب وأعين وآذان بدليل أنهم فقهوا بها وسمعوا بها ورأوا بها الأشياء التي تروق لانحرافهم.
ويصف الحق تبارك وتعالى هؤلاء فيقول :﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾.
وهنا وقفة لإثارة سؤال هو : ما ذنب الأنعام التي يُشبه بها الكفار ؟ إن الأنعام غير مكلفة وليس لأي منها قلب يفقه أو عين تبصر آيات الله أو آذان تسمع بها آيات الله. هي فقط ترى المرعى فتذهب إليه، وترى الذئب فتفر منه، وتتعود إلى أصوات تتحرك بها، وكافة الحيوانات تحيا بآلية الغريزة، ويهتدي الحيوان إلى أموره النافعة له وإلى أموره الضارة به بغريزته التي أودعها الله فيه، لا بعقله.
والإنسان منا لا يبتعد عن الضر إلا حين يجربه ويجد فيه ضررا. لكن الحيوان يبتعد عن الضر من غير تجربة بل بالغريزة، لأن الحيوان ليس له عقل وكذلك ليس له قدرة اختيار بين البديلات، وفطره الله على غريزة تُسَيّره إلى مقومات صالحة، ومثال ذلك : أنه قد يوجد الحيوان في بيئة ما، ويعطي الله له لونا يماثل لون هذه البيئة ليحمي نفسه من حيوانات أقوى منه.
ومثال آخر : نحن نعلم أن الحيوان مخلوق لينفع الإنسان، ولابد أن يتناسل ليؤدي ما يحتاج إليه الإنسان من ذرية هذا الحيوان ويمارس الحيوان العملية الجنسية كوسيلة للتناسل وليست كما هي في الإنسان، حيث تصير في بعض الأحيان غاية في ذاتها، بجانب أنها وسيلة للنسل. ولذلك نجد كثيرا من ظواهر الحياة المتعلقة بالإنسان قد تعلمها من الحيوان مثلما قال الحق تبارك وتعالى :﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سوءة أَخِيهِ ﴾ ( من الآية ٣١ سورة المائدة ).
إذن فالغراب مَهْدي بغريزته إلى كل متطلباته، ولذلك نجد من يقول : كيف نشبه الضال بالأنعام ؟ نقول : إن الضال يختلف عن الأنعام في أنه يملك الاختيار وقد رفع فوق الأنعام، لكنه وضع نفسه موضع الأنعام حيث لم يستخدم العقل كي يختار به بين البدائل. وبذلك صار أضل من الأنعام، وكلمة " أضل " تبين لنا أن الأنعام ليست ضالة، لأنها محكومة بالغريزة لا اختيار لها في شيء. لكن الكفار الذين ذرأهم ربنا لجهنم من الجن والإنس، لا يعرفون ربهم، بينما الأنعام، والجمادات والنباتات تعرف ربها لأن الحق يقول :﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة الإسراء ).
إذن فالأنعام تعرف ربنا وتسبحه وتحمده. وفي آية أخرى يقول المولى تبارك وتعالى :﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾ ( من الآية ٤١ سورة النور ).
وعلى ذلك فكل الجماد إذن يعلم صلاته وتسبيحه.
ولذلك قصصنا قصة من قصص العارفين بالله حين يجلسون مع بعضهم البعض كوسيلة تنشيط إلى غايات وأهداف سامية. والعارف بالله من هؤلاء الصالحين يستقبل الأحسن منه في العبادة بالضحك، أما الأحسن منه في أمور الدنيا فيستقبله " بالتكشير "، وقال واحد منهم لآخر : أتشتاق إلى ربك ؟ فرد عليه : لا.
تساءل الآخر : كيف تقول ذلك ؟. قال له : نعم. إنما يُشْتَاق إلى غائب.
﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ ( من الآية ١٧٩ سورة الأعراف ).
ولا تظنن أن الضلال لعدم وجود منهج، أو لعدم مذَكِّر، أو لعدم وجود مُنْذر أو مُبَشِّر. بل هي غفلة منهم، فالأمور واضحة أمامهم، لكنهم يهملونها ويَغْفَلون عنها.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٨٠ ) ﴾.
وحين يقول المولى سبحانه وتعالى ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ نقول : إنه لا يوجد لغير الله اسم يوصف بأنه من الحسنى، إن قلت عن إنسان إنه " كريم "، فهذا وصف، وكذلك إن قلت إنه " حليم "، وكلها صفات عارضة في حادث، ولا تصير أسماء حسنى إلا إذا وصف الله بها. فأنت مثلا لك قدرة تفعل أفعالا متعددة، ولله قدرة، لكن قدرتك حادثة من الأغيار، بدليل أنها تسلب منك لتصير عاجزا، أما قدرة الله تعالى فلها طلاقة لا يحده شيء. فهي قدرة مطلقة وأنت قد تكون غنيا، لك غنى، ولله غنى، لكن ثراءك محدود، وأما غنى الله فإنه غير محدد. إذن الأسماء الحسنى على إطلاقها هي لله، وإن وجدت في غيره صارت صفات محدودة مهما اتسعت.
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ : والحسنى.. تأنيث لكلمة " الأحسن " اسم تفضيل، وهي الأسماء الحسنى في صلاحية الألوهية لها، وصلاحيتها للألوهية. وحين تقول عنه سبحانه : إنه " رحيم "، فهذا أمر حسن عندي وعندك لأنني أنظر إلى رحمته لي، وأنت تنظر إلى رحمته لك. وحين تقول : " غفار "، فأنت وأنا وكل من يسمعنا تعود عليه. وحين نقول : " قهّار " وأنت مذنب ستخاف، وهي صفة حسنى بالنسبة للإله ؛ لأن الإله لابد أن تكون له صفات جمال وصفاتُ جلال، فصفات الجمال لمن أطاع، وصفات الجلال لمن عصى. ولذلك لا تأخذ النعم بمدلولها عندك، بل خذ النعم بمرادات الله تعالى فيها.
وساعة يتكلم الحق سبحانه وتعالى قائلا :﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ( ٣١ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٣٢ ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( ٣٣ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٣٤ ) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ( ٣٥ ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٣٦ ) ﴾ ( سورة الرحمن ).
فهل إرسال الشواظ من النار والنحاس نعمة يقول بعدها :﴿ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان ﴾ ؟.
نقول : نعم، هي نعمة كبيرة، لأنه سبحانه وتعالى ينبهنا قبل أن توجد النار، أن النار قوية، ويعطي لك نعمة العظة والاعتبار. وعظته وتنبيهه إذن قبل أن توجد النار نعمة كبرى، وأيضا هي نعمة بالنسبة للمقابل، فحين يطيعه المؤمنون في الدنيا ويلزمون أنفسهم بمنهج الله، فلهم ثواب حق الالتزام، والمقابل لهم الذين لم يلتزموا وأخذوا الخروج عن المنهج غاية، يتوعدهم سبحانه بالعقاب، وهذه نعمة كبرى.
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ : والحق سبحانه وتعالى عرفنا اسمه بالبلاغ منه، لأننا قد نعرف مسماه من القوى القادرة وهي التي تعرف بالعقل، لكن العقل لا يقدر أن يعرف الاسم. وسبق أن قلت : لنفترض أن أناسا يجلسون في حجرة ثم طرق الباب. هنا يجمع الكل على أن طارقا بالباب، لكن حين دخلوا في التصور اختلفوا، فواحد يقول : إن الطارق رجل، فيرد الآخر : لا إنها امرأة لأن نقرتها خفيفة، ويقول ثالث : هذه النقرة على الباب تأتي من أعلاه وهي دليل على أن الطارق ضخم، وهو نذير لأنه يطرق بشدة، ويختلف تصور كل الحضور عن الطارق، ولا أحد يعرف اسمه. إذن حين تريد أن تعرف من الطارق، فأنت تسأله من أنت ؟ فيقول لك " اسمه ".
إذن فإن الاسم لا يدرك بالعقل. ومن خلق الخلق كله قوي، قادر، حكيم، عليم، لأن عملية الخلق تقتضي كل هذا. أما اسم الله. فهذه مسألة لا يعرفها العقل وتحتاج إلى توقيف. إذن فأسماء الله تبارك وتعالى توقيفية، فحين يقول لنا : هذه أسمائي فإننا ندعوه بها، وما لم يقل لنا عليه لا دعوة لنا به، ولذلك يقول تعالى :﴿ فَادْعُوهُ بِهَا ﴾.
فإذا أنت نقلت هذا إلى غيره. فأنت تدعوا بالأسماء الحسنى سواء، مثلا كذاب اليمامة مسيلمة سمى نفسه الرحمن، وبذلك ألحد في اسم الله حيث نقل أحد أسماء ربنا إلى ذاته، ومثله فعل غيره، ألم يسموا " اللات " من الله ؟. ألم يسموا " العزى " من العزيز ؟. ألم يسموا " مناة " من المنان ؟. كل هؤلاء ألحدوا في أسماء الله التي لا ندعو غيره بها، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله في دعائه : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وذهاب حزني وغمي " ١.
إذن فهذه الأسماء وضعها ربنا لنفسه، لأنها لا تعرف بالعقل. أما إذا نظرت إلى الأوصاف المبدعة للخلق فأنت تتعرف على هذه الأوصاف ؛ لأنه تعالى خلق الكون بحكمة وتدبير وقدرة. وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نؤسس مصانع كثيرة وكبيرة لتصنع المصابيح، فنصنع زجاجا ونفرغه من الهواء، ونضع داخله أسلاكا تتحمل ذبذبة الكهرباء، وبعد استخدام هذه المصابيح لفترة تفسد، بينما الشمس تضيء الكون كل هذا العمر، من بدء الخلق، ولا تحتاج منا إلى قطعة غيار.
وحين نقول هو : " حكيم "، نقولها ونرى أثر ذلك في حركة الكواكب التي تسير منسجمة، وكل كوكب يدور في فلكه ولا يصطدم بآخر، وهذا دليل على أن الكواكب قد خلقت بحكمة.
وينبهنا الحق سبحانه وتعالى أن ندعوه بالأسماء الحسنى في قوله :﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ لأنه يريد من خلقه دائما يذكروه ؛ لأنه هو الرب الذي خلق من عَدَم، وأمد من عُدْم. وصان الخلق بقيومية، وحين تأتي لك حاجة وجب عليك أن تذكر أسماء الله الحسنى وتنادي الله بها، وحين تريد أن تتقرب إلى الله لا تناديه إلا بالاسم الذي وضعه لنفسه وهو " الله "، لأن هذا هو اسم علم على واجب الوجود، وأسماء الله الحسنى كلها صفات وصلت إلى مرتبة الأسماء، وهناك أسماء تدل على مجموع الصفات.
ولله المثل الأعلى : أنت تقول : " زيد " فيعرف السامع أن هذا اسم علم على شخص اسمه زيد، ثم له صفات أخرى، كأن يكون تاجرا، أو عالما متفقها في العلم، أو مهندسا. لكم الاسم العلم هو زيد وهو الذي لا يشترك معه أحد من معارفك فيه وهو زيد، لكن الصفات الأخرى قد يشترك معه فيها غيره.
والأسماء لله نوعان، اسم يدل على ذات الله، الذات المجردة عن أي شيء وهو الله، ولكن هناك صفات لله مثل الرحمن والرحيم والملك والقدوس والسلام والمؤمن والمهيمن، وهذه صفات ارتقت في السمو والعلو لا أعلى منها، حتى أصبحت إذا أطلقت إطلاق الكمال الأعلى لا تنصرف إلا لله. فصارت أسماء.
قد نقول فلان غني، وفلان كريم، وفلان حكيم، لكن الغنى على إطلاقه هو لله تعالى.
والأسماء الحسنى ناشئة من صفات مبالغة في العلو فيها، لأنه سبحانه الأكمل فيها وهي في الأصل صفات لها متعلقات فعلية، وهذه نوعان اثنان : نوع يطلق على الله منها اسم ومقابله، ونوع يطلق عليه الاسم ولا يطلق عليه المقابل، ونأتي بصفة شبيهة بالاشتقاق، فنقول : " غني "، ونقول، " مغني " فهو غني في صفة ذاته قبل أن يوجد من يُغنيه، ومغني وجدت بعد وجود من يُغنيه من عباده، وسبحانه حي في ذاته، ومحيي لغيره، والإحياء صفة فعل في الغير. ولابد لها من مقابل : فنقول : محيي ومميت. ولم نقل حي ومقابله، إذن فالاسم الذي ترى له مقابلا هو من صفات الفعل، أما صفات الذات فهي التي لا يوجد لها المقابل. ويلحدون في أسماء الله أي يُميلونها إلى غير الله وينقلها الواحد منهم لغير الله أو يأتي باسم للغير ويطلقه على الله، أو يطلق اسما ليس له معنى أو لا يفهم منه أي معنى على الله. إذن " الإلحاد " يأتي في ثلاثة أشياء : إما أن ينقل أحد أسماء الله إلى غير الله، أو يأتي باسم للغير ويطلقه على الله، أو يطلق اسما لله من غير أن يكون قد أنزله الله توقيفيا.
﴿ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ : ونعلم أن " العمل " هو اسم للحدث من أي جارحة ؛ فنطق اللسان عمل، وشم الأنف عمل، ونعلم أن هناك ما يسمى ب[ قول وفعل ]، والفعل عمل الجوارح ما عدا اللسان ؛ والقول عمل اللسان، والاثنان يطلق عليهما عمل، ولذلك يقول الحق : تبارك وتعالى في سورة الصف :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ﴾.
إذن فالقول مقابلة الفعل، والجزاء هنا على الفعل والقول لأن كليهما عمل.
وإذا كان لله أسماء كثيرة، فهل يجوز لنا أن نأخذ من فعل الله في شيء اسما له ؟ وخصوصا أنه القائل :﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾ ( من الآية ٣١ سورة البقرة )،
وهو القائل أيضا :﴿ وعلمك ما لم تكن تعلم ﴾ ( من الآية ١١٣ سورة النساء ).
هل يمكن أن نقول : إن الله معلم ؟ وهل يصح أن نأخذ من قوله :﴿ وأكيد كيدا ﴾ ( سورة الطارق ).
اسما هو كائد ؟
لا يجوز ذلك لأن أسماء الله توقيفية، وإن رأيت فعلا منسوبا لله فقف عند الفعل فقط ولا تأخذ منه اسما لله تعالى.
١ رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم في المستدرك.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( ١٨١ ) ﴾.
وبعد أن قال سبحانه :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾ أراد أن يطمئن أهل منهج الله، فلم يقل : " كل الناس "، بل كثير من الجن والإنس "، وعرفنا المقابل يكون كثيرا أيضا بدليل قوله تعالى في سورة الحج :﴿ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾ أي كثير من الناس يسجدون لله وكثير حق عليهم العذاب.
ويعني قول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( ١٨١ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) :
أن كون الله لا يخلو من هداة مهديين، لتستمر الأسوة السلوكية في المجتمع. والأسوة السلوكية في المجتمع هي التي تربي عقائد المواجيد عند الصغار، فالصغير لا يعرف كيف يصلي، ولا كيف يصوم، ولا يميز بين الكذب والصدق ولكنّه يتعلم بالتقليد لوالديه، فالطفل حين يرى والده وأمه ساعة يُؤَذَّن للصلاة يقوم كل منهما إلى الوضوء وأداء الصلاة، هنا يتعلم الطفل كيفية الصلاة، وحين يتكلم الإنسان في سيرة آخر، يقول الأب والأم : لا داعي للخوض في سيرة الآخرين حتى لا نحبط حسناتنا ؛ بذلك يتعلم الطفل كيف يصون لسانه عن الخوض في سيرة الغير، لأن الأسوة السلوكية تنضح عليه، بدليل أن الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الفهم إذا سمع المؤذن بعد ذلك يقوم من نفسه ليُحضر سجادة الصلاة ويقلد والده ووالدته.
ونفهم من قوله تعالى :﴿ وبه يعدلون ﴾. إنهم في حكمهم على الأشياء يقيمون العدل بالحق، أو أن يكون العدل هو نفي الشرك، وقد يكون العدل في مسألة الكبائر، أو يقيمون العدل في مسألة الحقوق بين الناس.
﴿ وممن خلقنا أمة ﴾ : وقوله في الآية الكريمة : " أمة " يعني أن صفات الكمال المنهجية أكثر من أن يحيط بها واحد لينفذها كلها، فكل واحد له جزء يقوم به، فهناك من يتميز بالصدق، وآخر في الشجاعة، وثالث في الكرم، وهكذا تبقى الأسوة في مجموع الصفات الحسنة، وقد ميز الله سيدنا إبراهيم على نبينا عليه السلام فقال :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١٢٠ ) ﴾( سورة النحل ). أي أنه جامع لخصال الخير التي لا توجد إلا في مجتمع واسع، ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ : وأي أمة من أمم الأرض إذن هي التي تهدي بالحق ؟ لقد قال سبحانه في قوم موسى !
﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ﴾ ( من الآية ١٥٩ سورة الأعراف ).
ثم جاءت أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا رسول بعده، لذلك تظل هذه الأمة المسلمة مأمونة على صيانة منهج الله إلى قيام الساعة.
فإذا رأيت إلحادا انتشر فاعلم أن لله مددا، وكلما زاد الناس في الإلحاد، زاد الله في المدد، وحتى إن صارت بلد مسلمة غارقة في الفسق فقد يكون فيها واحد يجمع كل هذه الصفات الكريمة الهادية إلى الحق لتبقى شريعة الله مصونة بالسلوكيين التابعين لمنهج الله.
إذن فالحق سبحانه وتعالى ترك للفساد أن يصنع الشر، ولسائل أن يسأل : ما لزوم هذا الشر في كون خلقه الله على هيئة محكمة ؟ نقول ! لولا أن الناس يضارون بالشر ؛ لما تنبهوا إلى حلاوة الخير، ولو أن الإنسان لم يصب من أصحاب الباطل بسوء ؛ ما تحمس للحق أحد، ولا عرف الناس ضرورة أن يتأصل الحق في الوجود. فللشر إذن رسالة في الوجود. وهو أن يهيج إلى الخير، فكما ذرأ الله لجهنم كثيرا من الجن والإنس ؛ أوضح سبحانه وتعالى في قوله :﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ في الحكم، عدلا في القمة ؛ وهو ألا يشركوا بالله شيئا، لأن أول مخالفة لقضية العدل هي مخالفة الشرك وهو ظلم عظيم، فالشرك والعياذ بالله ينقل الأمر من مستحقه إلى غير
مستحقه، وكذلك تحريم ما أحل الله، أو حل ما حرم الله، وكل ذلك ظلم، وكذلك عدم حفظ التوازن في الحقوق بين الناس، فإن لم يحصن العدل بحفظ الحقوق بين الناس من حاكم وولي ومسلط ؛ سنجد كل إنسان وهو يضن بجهده في الحياة يكتفي بأن يصنع على قدر حاجته بحيث لا يترك للظالم أن يأخذ منه شيئا، فلا يتحرك في الحياة إلا حركة محدودة، ولا يعمل إلا بقدر ما يكفيه فقط، فإذا ما حدث ذلك ؛ فلن يجد الضعاف الذين لا يقدرون على الحركة الإنتاجية أي فائض ليعيشوا به.
إذن أراد الله أن يضمن بالعدل عَرَق وتعب كل واحد. فأوضح له أن ما تكسبه من حل هو ملك لك. لكن لله حق فيه، وأنت لك الباقي، حتى يجد الضعيف الذي لا يقدر على حركة الحياة من يقيته. ولذلك يحذرك المنهج الإيماني بقوله : إياك أن تستكثر أن تدفع للضعيف، لأن قَوّتك التي استعملتها في تحصيل هذا المال إنما هي عرض لا يدوم لك، فإن أخذنا منك وأنت قوي قادر على الحركة، سنأخذ لك حينما تكون عاجزا لا تقدر على الحركة، وذلك هو التأمين والعدالة.
وبالنسبة للأمة في تلك الآية ﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾.
فقد جاء في الآثار أن المراد بالأمة في هذه الآية الأمة المحمدية، قال قتادة : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إذا قرأ هذه الآية : هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾١، ويخاطب النبي صلى الله علي وسلم صحابته بقوله : هذه لكم، أي في أمتكم ويؤكد ذلك قول الله سبحانه وتعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ ( من الآية ١١٠ سورة آل عمران ).
وكلمة " للناس " هنا تفيد أن الله لم يجعل خيرية الأمة المحمدية وهي أمة الإجابة للمؤمنين فقط، بل جعل خيريتها للناس جميعا ؛ مؤمنهم وكافرهم.
﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾. وذكر " أمة " لأن خصال الخير لا يمكن أن تجتمع في إنسان واحد، بل كل واحد يأخذ لمسة من خير، هذا فيه ذكاء، وذاك فيه شجاعة، وذاك عنده مال، وذلك له خلق. فكأن الأمة المحمدية قد وجد في أفرادها ما يجمع المواهب الصالحة للخلافة في الأرض.
١ تفسير ابن كثير المجلد الثاني، والطبري المجلد السادس..
ويأتي الحق بعد ذلك بمقابلهم، لأن مجيء الشيء بمقابله أدعى إلى أن يتمكن من النفس فيقول سبحانه :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٨٢ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
وهؤلاء هم المقابلون للذين خلقهم الله أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، والآيات جمع آية، وقلنا : إن الآيات التي في الكون ثلاث ؛ آيات تنظرها لتهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي الأطراف بتلك الدقة العظيمة، وذلك الإحكام المتقن، آيات تلفتك مثل الليل والنهار والشمس والقمر، وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل منهج الله. والذين كذبوا بآيات الله الكونية ولم يعتبروا بها، ولم يستنبطوا منها وجود إله قوي قادر حكيم، وكذبوا الآيات المعجزات لصدق النبوة. وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعلموا بها، ولم يتمسكوا بها ؛ هؤلاء يلقون الحكم من الله فلن يدخلهم الحق النار فقط، بل لهم عذاب أقرب من ذلك في الدنيا، لأن المسألة لو أجلت كلها للآخرة لاستشرى بغي الظالم الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة، لكن من يؤمن بالآخرة هو من سيحيا بأدب الإيمان في الكون، وتكون حركته جميلة متوافقة مع المنهج. عكس من يعربد في الكون ؛ لذلك لابد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون أثناء الحياة الدنيا، وسبحانه وتعالى القائل :﴿ وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ﴾ ( من الآية ٤٧ سورة الطور ) : أي أن لهم عذابا قبل الآخرة.
ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ : وحين تقول : أنا استدرجت فلانا، فأنت تعني أنك أخذت تحتال عليه حتى يقر بما فعل، مثل وكيل النيابة حين يحقق مع المجرم، ويحاصره بالأسئلة من هنا، ومن هناك، إلى أن يقر ويعترف، وهذا هو الاستدراج. و " الاستدراج " من الدرج ونسميه في لغتنا اليومية " السلَّم " وهو وسيلة للانتقال من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل فمن المستحيل على الإنسان أن يقفز بخطوة واحدة إلى الدور الخامس مثلا في عمارة ما، ولذلك صمموا الصعود على درجات إلى مستويات متعددة على وفق الحركة العادية للنفس، وهناك من يجعل علو الدرجة مثلا اثني عشر سنتيمترا بحيث يستطيع كل إنسان أن يرفع قدمه ويضعها على الدرج دون إرهاق النفس، وهذا يعني أننا نستدرج العلو لنصل إليه أو ننزل منه.
وقد خصوا في الآخرة الجنة بالدرجات العليا، والنار بالدركات السفلى.
وهنا يقول الحق :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ١٨٢ ﴾ ( سورة الأعراف ).
أي نأخذهم درجة درجة، ونعطي لهم نعمة ثم نرهقهم بما وصلوا إليه، كما قال سبحانه من قبل :﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة الأنعام ).
لأن الله حين يريد أن يعاقب واحدا على قدر جرمه في حق أخيه الإنسان في الدنيا يأخذه من أول جرم ؛ لأن الأخذة في هذه الحالة ستكون لينة، لكنه يملي له ويعلي ثم يلقيه من عَلُ.
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ ( من الآية ٤٤ سورة الأنعام ).
وهكذا يكون الأخذ أخذ عزيز مقتدر.
وحين يَستدرجُ البشرُ، فإن الطرف المستدرج له أيضا ذكاء، ويعرف أن هذا نوع من الكيد وفخ منصوب له، لكن حين يكون ربنا القوي العزيز هو الذي يستدرج فلن يعرف أحد كيف يفلت. والعلة في قوله : " سنستدرجهم " هي قوله :﴿ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ لأن البشر يعلمون طرق استدراج بعضهم لبعض.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( ١٨٣ ) ﴾.
والإملاء هو الإمهال وهو التأخير، أي أنه لا يأخذهم مرة واحدة، فساعة يقوم الفاسد بالكثير من الشر في المجتمع، نجد أهل الخير وهم يزيدون من فعل الخيرات، ونسمع دائما من يقول : لو لم يكن هناك إيمان لأكل الناس بعضهم بعضا، فالإيمان يُعطي الأسوة واليقين. والإملاء للظالم الكافر ليس إهمالا له من المولى تعالى، بل هو إمهال فقط، ثم يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وهنا يوضح الحق : إذا كنت سأستدرج وسأملي فاعلم أن كيدي متين. والكيد هو المكر، والمكر أخذهم من حيث لا يشعرون وهو عملية خفية تسوء الممكور به.
وهو تدبير خفي حتى لا يملك الممكور به ملكات الدفع. وإذا كان البشر يمكرون ويدبرون تدبيرا يخفى على بعضهم، فماذا حين يدبر الله للكافرين مكيدة أو مكرا ؛ أيستطيع واحد أن يكشف من ذلك شيئا ؟ طبعا لن يستطيع أحد ذلك. هذا هو معنى ﴿ إن كيدي متين ﴾ ؛ ومتين أي قوي، والمتانة مأخوذة من المتن وهو الظهر، ونعرف أن الظهر مكوّن من عمود فقري وفقرات عظمية، تحيط بها عضلات. فلو كان العمود الفقري من عظم فقط لكان أي حمل عليه يكسره. فشاءت تجلياتُ ربنا عز وجل واقتضت رحمتُه وقدرتُه أن يحاط هذا العظام بعضلتين كبيرتين، وهما ما نسميه في عرف الجزارين " الفلتو " لحماية الظهر وتقويته ووقايته.
وإذا نظرنا إلى كلمة " متين "، نجد " المتن " هو الشيء العمودي في الأشياء، وفي العلم مثلا ندرس الفقه وندرس النحو، ويقال : هذا هو المتن في الفقه، أي الكلام الموجز الذي يختزل العلم في كلمات محددة، والكي هو من يستوعبه. وغالبا نجد مع المتن الموجز شرحا للمتن، ثم حاشية للمتن.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( ١٨٤ ) ﴾.
وهنا ينَبِّه الحق سبحانه وتعالى كل الخلق أن يتفكروا في أمر الرسول المبلغ الذي ينقل عن القوة العليا مرادَها من الخلق. وأول ما يستحق التفكير فيه أن تعرف هل هذا الإنسان الذي يقول إنه رسول صادق أو غير صادق ؟ ولقد ثبت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل نزول الرسالة عليه، وجاءت الرسالة لتأخذ بيد الخلق إلى الإيمان بالله. لكنهم لا يريدون أن يسمعوا، ليوجدوا لأنفسهم مبررات بالنكوص عن المنهج، فقال بعضهم اتهاما للرسول : إنه مجنون، مثلما قال بعضهم من قبل : إنه ساحر، وكاهن، وقالوا : شاعر، ويرد ربنا على كل تلك الأقاويل.
ونتساءل : من هو المجنون ؟
نعلم أن المجنون هو من فقد التوازن الفكري في الاختيار بين البدائل، وحين يأخذ الله منه هذه القدرة على التوازن الفكري، يصبح غير أهل للتكليف ؛ لأن التكليف فيه اختيار أن تفعل كذا أولا تفعل كذا، والمجنون لا يملك القدرة على هذا الترجيح.
والحق سبحانه وتعالى لم يكلف الإنسان إلا حين يبلغ ويعقل ؛ لأنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة عن أهله وعن أبيه وأمه ؛ لذلك نلاحظ الطفل وهو صغير يختار له والدُه أو والدتُه الملابس والطعام، وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقا يتمرد ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده لأنه قد صارت له ذاتية، والذاتية كما نعلم توجد في النبات وفي الحيوان والإنسان وذلك بمجرد أن يصير الفرد منها قادرا على إنجاب مثله، سواء كان هذا الفرد من النبات أو الحيوان أو الإنسان. أما إن كان الإنسان قد صارت له ذاتية في الإنجاب والنسل، وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في التفكير ؛ فهنا يسقط عنه التكليف ؛ لأنه مكره بفقدان العقل.
وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يَبْلغ، والمجنون والمكره يمن هو أقوى منه، وهذه عدالة الجزاء من الحق، وهكذا نجد أن التكليف لا يلزم إلا من بلغ جسمه ونضج عقله، وبهذا يحرس رَبّنا الكون بقَيّوميَّتهِ.
وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار بين البديلات، فكيف يقولون ذلك على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وهو قد عاش بينهم، ولم يكن قط فاقدا لميزان الاختيار بين البديلات، بل كانوا يعتبرونه الصادق الأمين، وكانوا يحفظون عنده كل غال نفيس لهم حتى وهم كافرون به. وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم.
لقد قالوا ذلك على محمد ظلما له، وبِغَوْغَائِيَّة، وكل واحد يلقى اتهاما ليس له من الواقع نصيب ؛ لذلك قال الحق تبارك وتعالى لأصحاب هذه الاتهامات :
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ﴾ ( من الآية ٤٦ سورة سبأ ).
أي أن يجلس كل اثنين ويتدارسا : هل محمد عاقل أم مجنون ؟ وسيجد كل منهما من واقع تجربته أنّ محمدًا هو أكثر الناس أمانة، وكان الجميع يسمونه الأمين، حتى قبل أن يتصل به الوحي، وليس من المعقول أن يضره الوحي، أو أن يفقد بالوحي توازنه الخلقي، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( ١ ) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ( ٢ ) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ( ٣ ) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( ٤ ) ﴾ ( سورة القلم ).
كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقا عظيما ؛ لأن الخلُق هو الصفات التي تؤهل الإنسان لأن يعيش في مجتمع سليم وهو مسالم. ومادام خُلُقه سليما، فمعيار الحكم عنده سليم.
وبعد ذلك قالوا عنه : إنه " ساحر "، ونقول لهؤلاء : لماذا إذن لم يسحر كبار رجال قريش ليؤمنوا برسالته ؟ إن كل ذلك جدل خائب، والمسألة ليس فيها سحر على الإطلاق.
﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ﴾ : الجِنّة التي تقولون عليها وتفترون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي منتهى العقل ومنتهى الخلق، فمحمد صلى الله عليه وسلم نذير واضح، جاءكم أولا بالبشارة، لكنكم في غيكم لا تسحقون البشارة، بل تستحقون الإنذار.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ١٨٥ ) ﴾.
وبذلك ينتقل لجدل من الرسول المباشر لهم الذي يأخذ بيدهم إلى الإيمان الأعلى، ينتقل الجدل إلى التفكر ومسؤوليته :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
والتفكر هو إعمال العقل حتى لا يقولنَّ أحد : إن رسول الله مجنون، لأن مجرد النظر في الكون يجعل الإنسان رائيا للسماء مرفوعة بلا عمد، والأرض مبسوطة والهواء يتحرك في انتظام دقيق.
﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
إذن فوقنا سماء، وهناك ما فوق السماء، وتحتنا الأرض، وفيها ما تحت الأرض، وهناك ما بين السماوات والأرض. وما نراه في الظاهر هو ما يسمونه " مُلْك " أما الخفي عنك الذي لا تقدر أن تصل إليه بمعادلات تستخرج منها النتائج فاسمه " ملكوت ".
ويقول سبحانه في سيدنا إبراهيم :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ( من الآية ٧٥ سورة الأنعام ).
فكلمة " ملكوت " معناها مبالغة في الملك، مثل رهبوت أي الرهبة الشديدة، ورحموت أي الرحمة الشديدة، وكلها صيغة " فعلوت " وهي صيغة المبالغة.
﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾.
ونحن نرى السماء والأرض بوضوح، ولكن العظمة والسر ليسا في السماء والأرض فقط، بل هناك أشياء دقيقة جدا، بلغت من اللطف أنها لا تدرك بالنظر، ومع ذلك فإن فيها الحكمة العليا للخلق. وأنت قد ترى ساعة " بيج بن " الشهيرة في لندن وتكاد أن تكون أضخم ساعة في العالم، لكن الصانع المحترف من البشر صنع ساعة يد صغيرة في حجم الخاتم، وننبهر ونعجب بدقة عمله وصنعته. فما بالنا بالخالق الأعظم الذي يعظم خلقه من السماوات والأرض لأنها فوق إدراكات البشر، وخلق أيضا مخلوقات دقيقة لطيفة لا تستطيع أن تدركها أنت بمجرد النظر، كالمكروب، أو تدركها بصعوبة كالذبابة والبعوضة وبكل هذه الكائنات كل مقومات حياتها، حتى الكائن الذي لا معدة له يجهزه خالقه بقدرة على امتصاص الدماء مباشرة بعقله أو غريزته ويسعى ليأكل ويملأ معدته وله أجهزة تحول غذاءه ليكون دما.
إذن فليست العظمة مقصورة على خلق السماوات والأرض فقط، لذلك يقول الحق :﴿ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ : أي من أول شيء يقال له شيء، صار محكوما عليه وجوديا، بأنك إن نظرت إليه ستجد الأجهزة التي تعطي له الحياة، وتعينه، حتى وإن كان كانت حواس استشعارية في ذات هذا الكائن، ولا يقوى عليها صاحب العقل. مثال ذلك : نجد أن ما يفر قبل حدوث الزلازل هو الحمير التي نتهمها بالغباء.
وحين يتأمل العقل ما وصل إليه العلم في البحث في عالم الحيوان وعالم البحار، سنجد الإيمان بضرورة وجود خالق حكيم. وإن كان الكافرون مصروفين عن النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من كائنات قد لا تراها العين المجردة، كان عليهم أن يراعوا مصلحتهم فعسى أن يكون قد اقترب أجلهم.
إننا نعلم أن الإنسان جنس، وأن له نوعين : نوع ذكورة، ونوع أنوثة، وبينما جنس مشتبه نسميه الخنثى، والأجناس لها أفراد متعددة. وكل واحد له خلق، وكل واحد له موهبة، وكل واحد له مهمة. وساعة يطلب منا الحق : إياك أن تستصغر شيئا منك ضد غيرك، وإياك أن تستكثر شيئا منك لغيرك، ويجب عليك أن تجعل كلمة " شيء " هذه هي المقياس، ولذلك يقول لك الشرع : إنك حين تقدم حسنة إياك أن تستكثرها، بل قل هي ليست بشيء ذي بال. وإن همّ واحد بعمل سيئة فلا يقل : وماذا ستفعل لي سيئة واحدة ؟ مستصغرا شأن هذه السيئة. وهذا نقول له : لا، لأن كلمة " شيء " يجب أن تحكم الكون. إنك إن نظرت لهذه المسألة قد تجد واحدا مثلا ضئيل التكوين، ولا بسطة له في جسمه، لكن من الجائز أن له موهبة كبيرة، وقد تجد إنسانا آخر متين التكوين وليست عنده أية موهبة ؛ لأن الله قد يعطي الضئيل فكرا عميقا، أو حيلة كبيرة، أو موهبة خاصة في أي شيء. فلا تنظر إلى شيء قليل في أي إنسان، بل انظر إلى الشيء الجميل الذي فيه وهو المخفي عنك في نفسك.
﴿ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾.
ولماذا تأتي هنا حكاية اقتراب الأجل ؟ وللإجابة عن التساؤل أقول : إنها هامة جدا ؛ لأننا مادمنا أفرادا أي جنسين أو ثلاثة أجناس، وقال عنا ربنا إننا خلفاء في الأرض، فعلينا أن نعلم أن الخليفة في الأرض جاء ليخلف من سبقوه، وقد يُميت ربنا أي إنسان في سن شهر أو سنة، أو سنتين أو خمسين عاما ؛ لأن العمر بالنسبة لكل إنسان هو أمر قد اختص به الحق تبارك وتعالى نفسه ولا يعلمه أحد ؛ لأن غاية المتساوي لابد أن تكون متساوية، وعلى سبيل المثال : إن سألنا طلبة كلية الحقوق عن غايتهم من دراسة الحقوق قالوا : لنيل إجازة الليسانس، وسنجد منهم الطويل، والقصير، والأبيض، والأسود، والذكي والغبي، والقوي والضعيف، وهم لا يتفقون إلا على دراسة الحقوق، وكذلك لا نتساوى جميعا كبشر إلا أمام الموت، فهناك من يموت وهو في بطن أمه، ومن يموت وهو طفل، ومن يموت وهو فتى. وإن كنا نختلف فيما بقى بعد ذلك، والمؤمن أو الكافر يرى هذه الأحداث أمامه ولا يستطيع أن يقول : لا لن أموت.
ومادمت ستموت فانظر إلى مصلحتك أنت، لتثاب على ما فعلت في الدنيا بدلا من أن تعاقب، فعسى أن يكون قد اقترب أجلك وأنت لا تعرف متى يجيء الأجل، وإبهام الأجل من الله لنا إشاعة للأجل، والإبهام هو أوضح أنواع البيان، فحين يريد ربنا أن يوضح أمرا توضيحا كاملا فهو يبهمه.
ومثال ذلك : لو جعل الله للموت سنا، لصار الأمر محددا بلا أمل. لكنه سبحانه لم يجعل للموت سنّا أو سببا، وأشاعه في كل زمن، والإنسان عرضة لأن يستقبل الموت في أي لحظة، ونزول الموت لا يتوقف على سبب، فقد يأتي بسبب وقد يأتي بغير سبب، ومادام الإنسان يستقبل الموت في أي وقت، فعلى العاصي ألا يستقبل الموت وهو على عصيان لله.
وإياك أن تقول : كيف مات فلان وهو غير مريض ؟ ؛ لأن هناك العديد من الأسباب للموت، واعلم أن الموت بدون أسباب هو السبب، فالإنسان الذي نفقده بالموت، مات لأن أجله قد انتهى، والحق هنا يوضح : أيها الكافرون ألا تعلمون أن منكم من مات وعمره سنة ومن مات وعمره سنتان، ومن مات وعمره ثلاث سنوات، ومن مات وهو ظالم، ومن مات وهو مظلوم، ولو لم تكن هناك حياة ثانية فماذا تساوي هذه الحياة ؟. وما ذنب الذي لم يعش في الدنيا إلا شهرا ؟ لابد إذن أن تعرفوا أن هناك غاية ثانية تنتظركم، غايات فردية هي آجال الناس بذواتهم، وآجال إجماعية تتمثل في يوم القيامة.
وفي قوله تعالى ﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾.
يوضح الحق تبارك وتعالى : أنه إذا كان هذا الحديث الذي أنزلته إليهم وفيه ما فيه من الإعجاز ومن الإبداع، ويجمع كل أنواع الكمالات، فماذا يريدون أكثر من ذلك ؟
وهل في إتباعهم للأهواء ولتقنينات بعضهم لبعض سعادة لهم ؟ بالعكس إنهم يشقوْن بذلك. وكان يجب عليهم أن يتأدبوا مع الله ومع الرسول.
ولذلك يقول سبحانه وتعالى :﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١٨٦ ) ﴾.
وقد كرر الحق هذا التحذير كثيرا ؛ لأن الأشياء التي قد يقف العقل فيها، أو تأخذه مذاهب الحياة منها، ويكررها الله، ليجعلها في بؤرة الاهتمام دائما، لعل هذا التكرار يصادف وعيا من السامع. وانظر إلى الحق وهو يعدد نعمه في سورة الرحمن فيقول بعد كل نعمة :
﴿ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾، إنه يكرر ذكر النعم ليستقر الأمر في ذهن السامع.
﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ﴾، وسبحانه لا يرغم واحدا على أن يهتدي، فإن اهتدى فلنفسه، وإن لم يهتد فليشرب مرارة الضلال.
وكلنا يعرف أن الطبيب يكتب أسلوب العلاج للمريض، ليتم الشفاء بإذن من الله، الدواء إذن وسيلة إلى العافية، فإن رفض المريض تناول الدواء فهل في ذلك إساءة للطبيب ؟ لا. وكذلك منهج الله.
﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ﴾، لكن هل يريد الله الضلال لأحد، لا، بل سبحانه دعا الناس جميعا بهداية الدلالة، فمن اهتدى زاده بهداية المعونة، ومن ضل فليذهب إلى الكفر كما شاء. ولذلك يقول لنا الشرع : إياك أن تشرك بالله شيئا في أي عمل ؛ لأن ربنا يقول لنا في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول : قال الله تبارك وتعالى : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه " ١.
ومعنى الشركة في عرف البشر، أن مجموعة من الناس عرفوا أن عمل كل منهم ومال كل منهم، وموهبة كل منهم، لا تكفي لإقامة مشروع ما، لذلك يكونون شركة لإنتاج معين، فهل هناك ما ينقص ربنا ليستكمله من آخر ؟ حاشا لله. بل إن مجرد توهم العبد بأن هناك شريكا يجعل الله رافضا لعبادة العبد المشرك. لذلك يقول في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه ". ومادام ربنا قد تنازل عن رعايته له فليتلق المتاعب من حيث لا يدري.
ومن قوله تعالى :﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ﴾ :
نتبين أنه حين يحكم الله بضلال إنسان أو بهداية آخر فلن يستطيع البشر أن يعدِّل على الله، ليجعل شيئا من ضلال هو هدى، أو شيئا من هدى هو ضلال.
كما يتضح من تلك الآية الكريمة أن من في قلوبهم مرض يزيدهم الله مرضا ويتركهم في طغيانهم يعمهون، والعمه هو فقدان القلب للبصيرة، والعمى هو فقدان العين للبصر.
١ أخرجه الإمام مسلم في صحيح في باب تحريم الرياء..
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٨٧ ) ﴾ :
والمسئول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسائل إما هم اليهود الذين سألوه عن الساعة، وعن الروح، وعن ذي القرنين، فكان الجواب منه مطابقا لما عندهم في التوراة لأنهم ظنوا أن الكلام الذي يقوله محمد إنما يأتي منه جزافا بدون ضابط وليس من رب يُنْزله. فلما أجاب بما عندهم في التوراة، علموا أنه لا يقول الكلام من عنده، ولذلك سألوه أيضا عن أهل الكهف وما حدث لهم، وكانوا جماعة في الزمن الماضي، واتفقوا معه على كل شيء حدث لأهل الكهف إلا على الزمن فنزل القرآن يحدد هذا الزمن بقوله سبحانه :
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ( ٢٥ ) ﴾ ( سورة الكهف ) : فقال اليهود : الثلاثمائة سنة نعرفها، أما التسعة فلا نعرفها، وما علموا أن الحق سبحانه وتعالى يؤرخ لتاريخ الكون بأدق حسابات الكون لأن ربنا هو القائل :
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ ( من الآية ٣٦ سورة التوبة ).
إذن التوقيتات كلها حسب التوقيت العربي، ونعلم أن الذين يريدون أن يحكموا التاريخ حكما دقيقا فهم يؤرخون له بالهلال، والمثال أن كل عالَم البحار تكون الحسابات المائية فيها كلها بالهلال، لأنه أدق، وأيضا فالهلال آية تعلمنا متى يبدأ الشهر، ولا نعرف من الشمس متى يبدأ الشهر ؛ لأن الشمس دلالة يومية تدل على النهار والليل، بينما القمر دلالة شهرية، ومجموع الاثني عشر هو الدلالة السنوية. لكنهم لم يفطنوا إلى هذه، وأخذوها على الثلاثمائة سنة بالحساب الشمسي، وأضاف الحق :﴿ وازدادوا تسعا ﴾ لأنك إن حسبت الثلاثمائة سنة الشمسية بحساب السنة القمرية تزداد تسع سنين.
ومادة السؤال في القرآن ظاهرة صحية في الإيمان ؛ لأن الإيمان إنما جاء ليحكم حركة الحياة ب " افعل " و " لا تفعل "، وساعة يقول الشرع : افعل، ففي ظاهر هذا الفعل مشقة، وساعة يقول : لا تفعل ففي ظاهر هذا الطلب أنه سهل ومرغوب، والمنع عنه يناقض شهوات النفس. وللتأكد من أن الأسئلة ظاهرة صحية من المؤمنين نجد أسئلة كثيرة موجهة لرسول الله من أمته، حكاها القرآن بصور متعددة، ورد السؤال مرة بفعل مضارع مثل قوله : " ويسألونك " ؛ ومرة ورد بصورة فعل ماض " وإذا سألك ". وكثيرا ما جاء السؤال بهيئة المضارع " يسألونك "، لأن المضارع يكون للحال وللاستقبال.
وجاءت الأسئلة بالقرآن في صيغة المضارع عشرة مرة، وجاءت بصيغة الماضي مرة واحد. وإن نظرت إلى الخمسة عشرة مرة تجد كل مرة منْها جاءت لتبين حكما. وإذا نظرنا إلى مادة الفعل " يسأل " في القرآن وبترتيب المصحف، نجد القرآن يقول :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ ( من الآية ١٨٩ سورة البقرة ).
ويقول سبحانه :
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ ( من الآية ٢١٥ سورة البقرة ).
ويقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾
( من الآية ٢١٧ سورة البقرة ).
ويقول سبحانه وتعالى :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ ( من الآية ٢١٩ سورة البقرة ).
ومرة أخرى يقول في ذات الآية السابقة :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾.
ويقول سبحانه وتعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ ( من الآية ٢٢٠ سورة البقرة ).
ويقول عز وجل :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾ ( من الآية ٢٢٢ سورة البقرة ).
ويقول الحق تبارك وتعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾.
وبعد ذلك في سورة الأعراف يقول :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾ ( من الآية ١٨٧سورة الأعراف ).
وأيضا يقول سبحانه :﴿ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ﴾ ( من الآية ١٨٧سورة الأعراف ). ثم يقول الحق :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ ( من الآية ١ سورة الأنفال ).
ويقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ ( من الآية ٨٥ سورة الإسراء ).
ويقول المولى سبحانه :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ( ٨٣ ) ﴾ ( سورة الكهف ).
ويقول الحق :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ( ١٠٥ ) ﴾ ( سورة طه ).
ويختم هذه الأسئلة بقوله :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( ٤٢ ) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ( ٤٣ ) ﴾ ( سورة النازعات ).
تلك هي خمس عشرة آية جاء فيها الحق بقوله " يسألونك "، وآية واحدة يقول فيها الحق تبارك وتعالى :﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾( من الآية ١٨٦ سورة البقرة ).
والآيات الخمسة عشرة التي جاء فيها الحق بصيغة المضارع " يسألونك " نجد كل جواب فيها مصدرا ب " قل " وهو أمر للرسول : قل كذا، قل كذا، ولكن في الآية الواحدة التي جاء فيهل بصيغة الفعل الماضي و " إذا سألك "، لم يقل : فقل إني قريب، بل قال :﴿ فإني قريب أجيب دعوة الداع ﴾، لأن الله يعلم حب محمد لأمته، وحرصه عليهم ولذلك يقول :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( ٣ ) ﴾ ( سورة الشعراء ).
ويقول سبحانه :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ( ٦ ) ﴾ ( سورة الكهف ).
ولذلك حين علم الحق علم وقوع : أن رسول الله مهتم بأمر أمته ومشغول بها وحريص على أن يشملها الله بمغفرته ورحمته وألا يسوؤه فيها، أخبره المولى عز وجل بأنه سوف يرضيه في أمته. وقد ورد في الحديث ما يؤيد ذلك، فقد روى عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم صلى الله عليه وسلم ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
وقول عيسى صلى الله عليه وسلم :﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ( فرفع يديه فقال : أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فَسَلْه ما يبكيه ؟ فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك )١.
وتأكيدا لعلم الحق تبارك وتعالى حرص رسوله على أمته، أراد أن يكرم هذه الأمة من نوع ما كرّم به الرسول، فجاء الخطاب في آية الدعاء بدون " قل " :﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾. ( من الآية ١٨٦ سورة البقرة ).
وأراد الله أن يبين لمحمد ولأمته أن الله يعلم لا بما تسألونه فقط، بل يعلم ما سوف تسألونه عنه. لذلك نجد أربعة عشرة آية تأتي فيها " يسألونك " وتكون الإجابة " قل "، والآية الخامسة عشرة جاء فيها " يسألونك " وكانت الإجابة " فقل " لتدل " الفاء " على أن السؤال لم يقع بعد، فكأن الفاء دلت على شرط مقدر هو : إن سألوك فقل ينسفها ربي نسفا، وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٨٧ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) :
و " يجليها " أي يُظهرها، وهناك ما يسمى " الجلوة " وما يسمى " الخلوة "، و " الجلوة " أن يظهر الإنسان للناس، و " الخلوة " أن يختلي عن الناس، و " لا يجليها " أي لا يظهرها، و " لوقتها " ترى أنها مسبوقة باللام، ويسمونها في اللغة العربية " لام التوقيت "، مثلما يقول الحق سبحانه :﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾ ( من الآية ٧٨ سورة الإسراء ).
وهي بمعنى " عند "، ومعنى دلوك الشمس، أنها تتجاوز نصف السماء، وتميل إلى المغرب قليلا. وقوله : " لا يجليها لوقتها إلا هو " أي لا يُبَيّنها عند وقتها إلا هو سبحانه وتعالى.
﴿ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ﴾ : والثقل يعني أن تكون كتلة الشيء أكبر من الطاقة التي تحمله ؛ لأن الكتلة إن تساوت مع الطاقة فهي لا تثقل على الحمل.
أو أن الطاقة التي تحمل لم تقدر على جاذبية الأرض ؛ فيكون الشيء ثقيلا، وقد يكون هذا الثقل أَمْرا ماديا، كما يحمل الإنسان مثلا على ظهره أردبا من القمح فيقدر على حمله، لكنه إن زاد إلى أردب ونصف، فالحمل يكون ثقيلا على ظهره لأن طاقته لا تتحمل مثل هذا الوزن " فينخ " به.
﴿ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ : والثقل لا يكون ماديا فقط، بل هو ثقل فكري وعقلي أيضا، مثال ذلك حين يقوم الطالب بحل تمرين هندسي أو تمرين في مادة الجبر، فالطالب يشعر أحيانا أن مثل هذا التمرين ثقيل على فكره، وصعب الحل في بعض الأحيان.
وقد يكون الأمر ثقيلا على النفس في ملكاتها، مثل الهم جاثم على الصدر وثقيل عليه، وهو أقسى أنواع الثقل، ولذلك فالشاعر القديم يقول :
ليس بحمل ما أطاق الظهر **** ما الحمل إلا ما وعاه الصدر.
إذن هناك ثلاث أثقال : ثقل مادي، وثقل فكري، وثقل نفسي.
و﴿ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾، ونحن نعلم أن السماوات فيها الملائكة. ونعلم أن الملائكة أيضا لا تعرف ميعاد الساعة، ولا يحاول معرفتها إلا الإنسان بشهوة الفكر، أما الملائكة فهي ليست مكلفة لأنها لا اختيار لها، وبعضها يخدم البشر، وهم الملائكة الذين سجدوا لآدم وهم الموكلون بمصالحه، وبحياته، وقد رضخوا لأمر الحق بأن هناك سيدا جديدا للكون. فكونوا جميعا مسخرين في خدمته، وهم الملائكة الحفظة الكرام الكاتبون، ولهم إلف بالخلق، إلف كاره للعاصي، وإلف محب للطائع. ومن يسير على م
١ رواه مسلم..
ويقول سبحانه وتعالى :﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ١٨٨ ) ﴾.
ويقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسوله : أنتم تسألونني عن الساعة، وأنا بشر، ومتلقّ فقط، والإرسال بالمنهج يأتي من الله وأنا أبلغه، ولا علم لي بموعد قيام الساعة، ولا أملك لنفسي لا ضرا ولا نفعا، أي لا أملك أن أدفع الضر عني أو أجذب النفع لنفسي، ولكن حين يسوق الله النفع أو يمنع الضر، فالإنسان يملك ما يعطيه الله، والعاقل حين يملك، يقول : إن هذا ملك عَرَضي، لا آمن أن ينزع مني. ولذلك قال لنا الحق تبارك وتعالى :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٦ ) ﴾ ( سورة آل عمران ).
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾.
أي أنّ أحدا لا يملك شيئا إلا ما شاء الله أن يملكه، ورسول الله من البشر. ويضيف :﴿ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾ ( من الآية ١٨٨ سورة الأعراف ).
ومحمد صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير، فقد حارب وانتصر، وحارب وانهزم، وتاجر فربح، ويسير عليه ما يسير على البشر، ومرة يدبر الأمر الذي لم يكن فيه منهج من السماء، فمرة يصيب ومرة يخطئ. فيصحح له الله ؛ لذلك يأتي القول على لسانه بأمر من الله : لو كنت أعلم الغيب لما وقعت في كل هذه المسائل، وكان أهل رسول الله من قريش قد قالوا : إننا أقاربك، فقل لنا على موعد الساعة. حتى نستعد لملاقاتها.
ويتابع المولى سبحانه قوله :﴿ وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾.
وساعة ترى " إن " فهي مرة تكون شرطية مثل : " إن ذاكرت تنجح "، ومرة تكون للنفي وتجد بعدها اسما، والمعنى : ما أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون. والكلام موجه إلى المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بالنذارة وبالبشارة، وما يُنذروا به لا يفعلوه، وما يبشروا به يفعلوه.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ( ١٨٩ ) ﴾.
وقوله تعالى : " خلقكم من نفس واحدة " المقصود بها آدم، وقول الحق، " وجعل منها زوجها " المقصود بها حواء، ونلحظ في الأداء في هذه الآية أن الضمير عائد إلى مؤنث.
﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ﴾، ثم جاء بالتذكير في قوله :﴿ ليسكن إليها ﴾.
إذن فصل الذكورة عن الأنوثة جاء عند " ليسكن ". فكأن الكلام في النفس معني
به جنس بني آدم وهو الذي نسميه " الإنسان " ومنه ذكورة ومنه أنوثة، ولذلك فسبحانه حينما يتكلم عن الذكورة كذكورة، والأنوثة كأنوثة، يأتي بضمير المذكر، أو بضمير المؤنث، وقوله :﴿ ليسكن إليها ﴾.
لأنه يريد أن يوضح أن المرأة جُعلت للرجل سكنا، لا يقال : إنها له سكن إلا إذا كان هو متحركا، كأن الحركة والكدح في الحياة للرجل، ثم يستريح مع المرأة ويسكن إليها بالحنان، بالعطف، بالرقة. أما إن لم تكن سكنا فهو يخرج من البيت لأن ذلك أفضل له. وقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وجعل منها زوجها ﴾.
يذكرنا بما عرفناه من قبل من أن الله خلق آدم من الطين ومن الصلصال ثم نفخ فيه ربّنا الروحَ، أما حواء فقد ذكرها في هذه المسألة، وأوضح : أنا جعلت منها زوجها، و " منها " أي أنها قطعة منه، وقيل : إنها خلقت من ضلع أعوج، ومن يرجح هذا الرأي يقول لك : لأن الله يريد أن يجعل السكن ارتباطا عضويا، فالمرأة بعض من الرجل، ونعرف أن الواحد منا يحب ابنه لأنه بعض منه. وعلى ذلك فهذا القول جاء لتقديم الألفة. وهناك من يقول : إن حواء خلقت مثل آدم فلماذا جاء ذكر آدم ولم يأت بذكر حواء ؟.
ونقول : إن آدم أعطى الصورة في خلق الإنسان من طين، لأن آدم هو الرسول وهو المسجود له. ونعلم أن المرأة دائما مبنية على الستر. ومثال ذلك نجد الفلاح في مصر لا يقول : زوجتي، بل يقول " الجماعة " أو " الأولاد " أو يقول :" أهلي " ولا يذكر اسم الزوجة أبدا.
والحق يقول هنا : " وجعل منها " فإن كانت مخلوقة من الضلع ف " مِن " تبعيضية، وإن كانت مخلوقة مثل آدم تكون " مِن " بيانية، أي من جنسها، مثلها مثلما يقول ربنا :﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ﴾. ( من الآية ٢ سورة الجمعة ).
أي الرسول من جنسنا البشري ليكون إلف المبلغ عن الله، والمبلغ عن الله واحدا منا ونكون مستأنسين به، ولذلك قلنا : إن اختيار الله للرسول صلى الله عليه وسلم من البشر فيه رد على من أرادوا أن يكون الرسول من جنس آخر غير البشر، فقال الحق على ألسنتهم :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا( ٩٤ ) ﴾ ( سورة الإسراء ).
ويأتي الرد عليهم :
﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا( ٩٥ ) ﴾( سورة الإسراء ).
ثم لو كان الرسول من جنس الملائكة فكيف كانوا يرونه على حقيقته ؟ كان لابد أن يخلقه الله على هيئة الإنسان.
ويتابع سبحانه :﴿ فلما تغشاها حملت حملا خفيفا ﴾ :
و " تغشاها " تعبير مهذب عن عملية الجماع في الوظيفة الجنسية بين الزوج والزوجة، والغشاء هو الغطاء، وجعل الله الجماع من أجل التناسل ليبث منهما رجالا كثيرا ونساء.
والمعنى هنا أنها حملت الجنين لفترة وهي لا تدري أنها حامل، لأن نمو الجنين بطيء بطيء لا تشعر الأم به.
﴿ فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
( من الآية ١٨٩ سورة الأعراف ) :
ومرت به، مقصود بها أنها تتحرك حركة حياتها قياما وقعودا إلى أن تثقل وتشعر بالحمل في شهوره الأخيرة.
وهنا عرف الزوج أن هناك حملا ورفع الاثنان أيديهما بالدعاء لله عز وجل أن يكون الولد صالحا بالتكوين البدني وصالحا للقيام بقيم المنهج.
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾( من الآية ١٨٩ من سورة الأعراف ).
أي أن الذكورة قد انفصلت عن الأنوثة، وصار الذكر يسكن عند الأنثى.
وهكذا كان الأمر الخاص بآدم، ثم جاء الكلام للذرية، وخصوصا أن حواء كانت تحمل بذكر وأنثى، وآدم وحواء وأولادهما هم أصل التواجد البشري وأصل التوالد.
والقرآن قد يتكلم في موضوعات تبدو متباعدة. لكنها تضم قيما ذات نسق فريد، فنجد الحق يتكلم في أمر ثم يتكلم في آخر، مثل قوله تعالى :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم ﴾. ( من الآية ٢٢ سورة يونس ).
ولم يأت بسيرة البر هنا، بل تكلم بالبر والبحر ثم انتقل إلى الحديث عن مجيء الموت، وأيضا انظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ﴾( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
هنا يوصي الحق الإنسان بوالديه، بالأب والأم، ثم يتابع :
﴿ حملته أمه كُرها ووضعته كُرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾( من الآية ١٥ سورة الأحقاف ).
ولم تأت سيرة الرجل بل كل الحيثيات للأم.
ويقول سبحانه وتعالى :﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ( ١٩٠ ) ﴾.
ويروى أن هذه الآية قد نزلت في " قصيّ " وهو جد من أجداده صلى الله عليه وسلم، فقد طلب قُصيّ من الله أن يعطي له الذرية الصالحة، فلما أعطاه ربنا الذرية الصالحة سماها بأسماء العبيد، فلم يقل عبد الله، أو عبد الرحمن، بل قال : عبد مناف، عبد الدار، عبد العزى. وجعل لله شركاء في التسمية، ولهذا جاء قول الحق : " جعلا له شركاء فيما آتاهما " ؛ ليدلنا على أن الإنسان في أضعف أحواله، أي حينما يكون ضعيفا عن استقبال الأحداث، يخطر بباله ربنا، لأنه يحب أن يسلم نفسه لمن يعطي له ما يريده، وبعد أن ينال مطلبه ينسى، ولذلك يقول الحق :
﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ﴾. ( من الآية ١٢ سورة يونس ). إن فائدة الضر أنه يجعلنا نلجأ إلى ربنا، ولذلك نجد الإنسان أحسن ما يكون ذكرا لله وتسبيحا لله حينما يكون في الشدة وفي المرض، ولذلك لو قدر المريض نعمة الله عليه في شدته ومرضه، لا أقول : إنه قد يحب أن يستطيل مدة المرض والشدة. لا، بل عليه فقط ألا يضجر وأن يلجأ إلى ربه ويدعوه. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما قال : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوّ ملّكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك }. ١
والإنسان ساعة يوجد في المرض عليه أن يعرف النعمة فيه، فهو في كل حركة من حركاته يذكر الله، وكما تخمد فيه طاقة الاندفاعات الشهوانية، يمتلئ بإيجابيات علوية، ولذلك نجد الحديث القدسي يقول فيه ربنا سبحانه وتعالى :
﴿ يا ابن آدم مرضت فلن تعدني، قال : وكيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ يا ابن آدم استطعمتك فلن تطعمني، قال : يا رب. كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلانا، فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ يا ابن آدم استسيقتك فلم تسقني، قال : يا رب. كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ﴾٢.
إذن ماذا عن حال مريض يستشعر أن ربه عنده، ويكون في المرض مع المنعم، وفي الصحة مع النعمة.
﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾( سورة الأعراف ).
ومعنى هذا أن ربنا تبارك وتعالى ينزه نفسه عما يقوله المبطلون ويشركون معه ما يزعمون من آلهة. ولذلك يقول سبحانه وتعالى :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ( ١٩١ ) ﴾.
١ السيرة النبوية لابن هشام..
٢ أخرجه مسلم في صحيحه في باب فضل عيادة المريض..
أيشركون في عبادة الله من لا يخلقون شيئا، وهم أنفسهم مخلوقون لله، إن من أشركوا بالله الأصنام فعلوا ذلك بالوهم وتنازلوا عن العقل، وكان الواجب أن يكونوا عقلاء فلا يتخذون من الأصنام آلهة.
﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يُخلقون ﴾، ولذلك فإن هناك آية أخرى تفضح زعمهم يقول فيها الحق تبارك وتعالى :﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يَخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ﴾( من الآية ٧٣ سورة الحج ).
ونعلم أن البشر في المعامل قد عرفوا العجز عن خلق خلية واحدة وهي التي لا ترى بالعين المجردة، ولذلك أوضح الحق أن المسألة ليست أمر خلق، بل إن الذباب لو وقع على طعام إنسان وأخذ على جناحه أو في خرطومه شيئا، لن يستطيع أحد أن يسترد المأخوذ منه، فقد ضعف الطالب والمطلوب.
والحق –كما نعلم- أول مرتبة من مراتب القدرة، فإذا كانت الأصنام التي اتخذها هؤلاء شركاء لا تخلق شيئا بإقرارهم هم، فكيف يعبدونها ؟ إنها لا تخلق شيئا بدليل أنها لا تتناسل. بل إذا أراد العابدون أن يزيدوا صنما صنعه العابدون بأنفسهم. ونلحظ أن الحق جاء هنا بالقول :" أيشركون " بصيغة تعجب، والتعجب ينشأ عن إنكار ما به الاستفهام، أي تعجب منكرا على وفق الطباع العادية، مثلما يقول لنا :﴿ كيف تكفرون بالله ﴾( من الآية ٢٨ سورة البقرة ).
أي قولوا لنا ما الطريقة التي بها تكفرون بالله وتسترون وجوده، مع هذه الآيات البينات الواضحات ؟ فكأن ذلك أمْر عجب يدعو أهل الحق للدهشة والاستغراب والإنكار الشديد، وحينما يتكلم الحق بإنكار شيء لأنه أمر عجيب، يوجه الكلام مرة إليهم، ومرة أخرى يوجهه إلى غيرهم، مثل قوله هنا :﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم لا يخلقون ﴾.
والكلام للمؤمنين لأنه يريد أن يعطي لقطتين في الآية، اللقطة الأولى : أن ينكر ما فعله هؤلاء، وأن يزيد القوم الذين لم يفعلوا ثقة في نفوسهم، وفرحة بمواقفهم الإيمانية، حيث لم يكونوا مثل هؤلاء.
﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم لا يخلقون ﴾ : وفي الآية الكريمة وقفة لفظية في الأسلوب العربي نفسه قد تثير عند البعض إشكالا، في قوله تعالى :" ما لا يخلق شيئا ". و " ما " تعني الذي لم يخلق شيئا، و " يخلق " هنا للمفرد، وسبحانه وتعالى جعل للمفرد هنا عمل الجمع فقال :﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا ﴾.
وأقول : إن الذي يقف هذه الوقفة، ويلاحظ هذا الملحظ إنسان سطحي الثقافة بالعربية، لأنه يعلم أن " ما " و " من " و " أل " تطلق على المفرد والمفردة، وعلى المثنى والمثناة، وعلى جمع الذكور وجمع الإناث، فتقول : جاءني من أكرمته، وجاءتني من أكرمتها، وجاءني من أكرمتهما، وجاءت من أكرمتهما، وجاء من أكرمتهم وجاء من أكرمتهن.
وكذلك " ما ". إذن فقول الحق : " ما لا يخلق " في ظاهرها مفرد، ولكن اللفظ يطلق على المفرد والجماعة، لذلك جاء في الأمر الثاني وراعي الجماعة، إذن " يخلق " للمفرد، و " هم يخلقون " للجمع لأن قوله : " ما " صالح للجميع أي للمفرد وللمثنى وللجمع وللمذكر وللمؤنث.
ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك ﴾( من الآية ١٦ سورة محمد ).
وسبحانه قال هنا : " ومنهم من يستمع إليك "، ولم يقل : " حتى إذا خرج من عندك " بل قال : " ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا " أي أنه جاء بالجماعة، فإذا رأيت ذلك في " ما " و " من " و " ال " فاعلم أن هذه الألفاظ يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى والمثناة وجمع الذكور وجمع الإناث. ﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم لا يخلقون ﴾.
وهنا في هذه الآية وقفة لغوية أخرى في قوله : " هم " وهي لا تطلق إلا على جماعة العقلاء، فكيف يطلق على الأصنام " هم " وليست من العقلاء ؟ وأقول : إن الحق سبحانه وتعالى لما علم أنهم يعتقدون أنها تضر، وأنها تنفع، فقد تكلم معهم على وفق ما يعتقدون، لكي يرتقي معهم في رد الإنكار لكل ما يستحق الإنكار. فأول مرحلة عرفهم أن الأصنام لا تخلق، وثاني مرحلة عرفهم أنهم هم أنفسهم مخلوقون والأصنام لا تقدر على نصرهم، إذن فهم معطلون من كل ناحية، لأنهم لا يخلقون. وهذا أول عجز، ومن ناحية أخرى أنهم يُخلقون وهذا عجز آخر، لكن بعد هذا العجز الأول والعجز الثاني فهل هم قادرون على نصر غيرهم ؟ ها هو ذا سبحانه يترقى في الحوار معهم ترقية أخرى فيقول :
﴿ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( ١٩٢ ) ﴾.
إذن فلا أحد من الأصنام قادر على أن ينصر نفسه أو يضمن نصر غيره.
وهكذا نجد الترقي في الحوار على أربع مراحل، أولا : لا يخلقون، ثانيا : هم يُخلقون، ثالثا : لا ينصرونكم، ورابعا : ولا ينصرون أنفسهم.
ثم تأتي المرحلة الخامسة في قوله الحق :
﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ( ١٩٣ ) ﴾.
وعلى ذلك فهي خمس مراحل –إذن-، أكررها لتستقر في الذهن، أولها أنه من الجائز أن لا يَخلق، ومن الجائز أن يكون مخلوقا، ومن الجائز أن لا يقدر أن ينتصر لغيره لأنه ضعيف، ولا ينتصر لنفسه لأنه أضعف، ومع ذلك إن أردت أن تهديه إلى شيء من ذلك أو إلى شيء من العلم فلا يقبل منك.
وكانوا في الجاهلية حين يفزعهم أمر جسيم ينادونهم ويقولون : يا هبل، يا لات، يا عزى. وإن لم يصبهم أمر سكتوا عن نداء الأصنام ؛ لذلك يقول لهم الله من خلال الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ( ١٩٣ ) ﴾ ( سورة الأعراف ) : أي إن دعوتكم لهم لا تفيد في أي أمر تماما كصمتكم.
ونلحظ أن الأسلوب هنا مختلف " سواء عليكم أدعوتموهم " فلم يقل : " أدعوتموهم أم صَمَتّم " ؛ لأن الفعل يقتضي الحدوث، ولنا أن نعرف أنهم كانوا لا يفزعون إلى آلهتهم إلا عند الأحداث الجسام. أما بقية الوقت فقد كانوا لا يكلمونهم أبدا ؛ لذلك جاءت " صامتون " لازمة، لأنها اسم، والاسم يقتضي الثبوت والاستمرار، أما الفعل فيقتضي الحدوث والتجدد.
والحق هنا يبلغ المشركين : سواء عليكم أدعوتموهم أم لم تدعوا، فعدم الاستجابة متحقق فيهم وواقع منهم، وعدم النصر لأنفسهم ولغيرهم متحقق منهم.
ثم يتكلم الحق عن قضية أخرى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٩٤ ) ﴾.
و " تدعون " لها معنيان، المعنى الأول يعني أنكم قد تتخذونهم آلهة وتعبدونهم، والمعنى الثاني هو أن يقال : " تدعونه " أي تطلب منه شيئا. والمعنيان يجيئان في هذه الآية :﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم ﴾ :
وعند ما يسمع الإنسان كلمة " عباد " يفهم أنها من الجنس المتعقل الحي، فكيف تكون الأصنام عبادا ؟ وأقول : نحن هنا نأخذها على شهرة اللفظ، أما إذا أردنا تحقيق اللفظ وتقعيده، فالبناء مأخوذ من التذلل والخضوع، ألم يقل موسى لفرعون : ؟
﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ( ٢٢ ) ﴾( سورة الشعراء ).
أي أذللتهم. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تكون الأصنام عبادا أمثالهم في أنهم يُذلون ؛ لأن السيل إذا نزل أو هبت الريح نجد هذه الأصنام قد وقعت وتكسرت رقابها، فيهرع المشركون ليأتوا بمن يعيد ترميم هذه الآلهة ! ! إذن فأنتم أيها المشركون ؛ لأنكم مخلوقون بالله قد تملكون قدرة، وقوة تستطيعون بها إن جاء لكم ضر أن تدفعوا الضر عنكم، أما الأصنام فليست لها أدنى قدرة إن جاءها من يحطمها، أو يكسرها، أو يقبلها، فهي أضعف منكم. وبذلك تكون كلمة " عباد أمثالكم " لونا من الترقي. وعلى فرض أنهم عباد أمثالكم، فالعبد من الأحياء حينما يأتي شيء يستذله، قد يستطيع أن يدفع عن نفسه بعض الشيء إلا إن كان الشيء قويا فوق طاقته. فالمراد والمقصود أنهم عباد أمثالكم أي مذللون ومسخرون ولا يستطيعون دفع شيء عن أنفسهم. وأنت إذا ما نظرت إلى هذه المسألة وأخذت معنى عباد على معناها الإطلاقي، فأنت تعلم أن العبد هو كل مسخر مذلل من العباد.
لكن هناك مذلل ومسخر فيما لا اختيار له فيه، وآخر مذلل ومسخر فيما له فيه اختيار أيضا، والفرق بين الاثنين أن الكافر فيما له اختيار، إما أن يؤمن وإما أن لا يؤمن ويختار الكفر، بل إن الإنسان المؤمن له الاختيار في أن يطيع أو يعصى. ولكن هناك أشياء أخرى تجري على الإنسان لا اختيار له فيها، كأن يمرض ولا يقدر أن يقول : لا لن أمرض، أو قد يأتيه الموت فلا يقدر أن يقول : لن أموت. وقد يهلك ماله أو تحترق داره فلا يستطيع دفع القدر، وكل هذه أمور قهرية يكون الإنسان فيها مذللا مسخرا، والكافر والمؤمن في هذه الأمور سواء.
والمؤمن يتميز بأنه يتبع منهج الله فيما له فيه اختيار، وهذه فائدة الإيمان، وبذلك يخرج المؤمن عن الاختيار المخلوق لله، إلى مراد الله منه في الحكم، ويستوي بكل شيء مسخر لله، ولذلك نقول للذين يكفرون : كفرتم وتأبيتم بما خلق فيكم من الاختيار عن الإيمان بالله.
وقد جعلها الله لكم بقوله :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾( من الآية ٢٩ سورة الكهف ).
ومادام الواحد منكم أيها الكافرون يتأبى ويستكبر على حكم الله، إذن فللواحد منكم أيها الكافرون رياضة على التمرد، فلماذا لا تقول للمرض لن أستسلم لك. ولن يستطيع أحد الكافرين ذلك، لأنه إنما يكفر بما له حق ممنوح من الله في منطقة الاختيار، أما في غير ذلك فالكل عباد مذللون.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ﴾( من الآية ١٩٤ سورة الأعراف )/
وقول الحق تبارك وتعالى : " فادعوهم " أي اطلبوا منهم أن يلبوا لكم أي طلب، وهم لن يستجيبوا لكم، لأنهم لا يقدرون أبدا. وفي هذا القول لون من التحدي " فليستجيبوا لكم " لكنهم لن يستجيبوا، فليست لهم قدرة لأن يخرجوا على أمر ربنا ويقولوا سنعطيكم ما تطلبون، لأن طاقتهم وطبيعتهم لا تقدر أن تستجيب.
وبعد أن قال الحق عن الأصنام : إنهم عباد أمثالكم، أراد أن ينزلهم منزلة أدنى من البشر فقال :
﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ ( ١٩٥ ) ﴾ :
وينبه الحق تبارك وتعالى كل مشرك، وكأنه يقول له : أنت لك رجل تمشي بها، ولك يد قد تبطش بها، ولك أذن تسمع، ولك عين تبصر، فهل للأصنام حواس مثل هذه ؟. لا، ليست لهم إذن، فالأصنام أقل منك، فكيف تجعل الأقل إلها للأكبر ؟ إن هذا هو جوهر الخيبة.
وقوله : " يمشون بها "، و " يسمعون " و " يبصرون " جاءت لأن المشركين صوروا التمثال وله رجلان وله أذنان وله عينان ويضعون في مكان كل عين خرزة لتكون مثل حدقة العين، وحين ينظر إنسان منهم إلى التمثال يخيل إليه أن التمثال ينظر إليه. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ﴾( من الآية ١٩٨ سورة الأعراف ).
وفي قوله تعالى :
﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ ﴾( من الآية ١٩٥ سورة الأعراف ).
حين يعرض الحق مثل هذه الأمور بأسلوب الاستفهام. فإنما يريد أن يحقق المسائل عن أقوى طريق، لأن الاستفهام لا بد له من إجابة. والكلام من الله عند الكافر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. وإجابة الكافر ستكون قطعا بعدم استطاعة الأصنام المشي أو اللمس أو الرؤية أو السماع ؛ لذلك أراد الحق ألا يكون الحكم من جهته. بل الحكم من جهة المشركين، وفي هذا إقرار منهم. ولذلك يقول الحق مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ ألم نشرح لك صدرك( ١ ) ﴾( سورة الانشراح ).
أما كان يستطيع سبحانه وتعالى أن يقول : شرحنا لك صدرك ؟ كان يستطيع ذلك. ولكنه يأتي بالاستفهام الذي يكون جوابه : بلى لقد شرحت لي صدري. وينبه قوله تعالى :
﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ﴾.
إلى مقارنة الأصنام بالبشر. فالبشر لهم أرجل وأيْد وأعين وآذان، وكل من هذه الجوارح لها عمل تؤديه، وهكذا يتأكد للمشركين أنهم أعلى مرتبة من أصنامهم.
فكيف يجوز في عرف العقل أن يكون الأعلى مرتبة مربوبا للأدنى مرتبة ؟ إن ذلك لون من الحمق.
﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدوني فلا تنظرون ﴾.
ورسول الله قد جاء بهذا القول ليدحض إيمانهم بهذه الأصنام التي اتخذوها آلهة وليسفه أحلامهم فيها، وبذلك أعلن العداوة ضدهم-العابدين، والمعبودين- وصارت خصومة واقعة، وسألهم أن يدعوا الشركاء ليكيدوا لرسول الله بالأذى أو التعب أو منع النصر الذي جاء للإسلام، إن كانت عندكم أو عندهم قدرة على ضر أو نفع.
﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدوني فلا تنظرون ﴾ :
ويتحداهم صلى الله عليه وسلم أن يكيدوهم وآلهتهم، والكيد هو التدبير الخفي المحكم. وانظروا ما سوف يحدث، ولن يصيب رسول الله بإذن ربه أدنى ضر.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى قد أجرى على رسول الله أشياء، ليثبت بها أشياء، وقد قالوا : إن واحدا قد سحر النبي، ولنفرض أن مثل ذلك السحر قد حصل، فكيف ينسحر النبي ؟ ونقول : ومن ذا الذي قال : إنه سحر ؟. إن ربنا أعلمه بالساحر وبنوع السحر، وأين وضع الشيء الذي عليه السحر، ليبين لهم أن كيدهم حتى بواسطة شياطينهم مفضوح عند الله.
﴿ وإذ يَمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾( من الآية ٣٠ سورة الأنفال ).
وهم كانوا قد بيتوا المكر لرسول الله وأرادوا أن يضربوه ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل، فأوضح ربنا : أنتم بيتم، ولكن مكركم يبور أمام أعينكم. وليثبت لهم أنهم بالمواجهة لن يستطيعوا مصادمته في دعوته. ولا بالتبييت البشري يستطيعون أن يصدموا دعوته، ولا بتبييت الجن –وهم أكثر قدرة على التصرف- يستطيعون مواجهة دعوته. وما داموا قد عرفوا أنهم لن يظهروا على الرسول، ولن يفيد مكرهم أو سحرهم أو كيدهم مع شياطينهم، إذن فلا بد أن ييأسوا، ولذلك تحداهم وقال :﴿ قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ ﴾
( من الآية ١٩٥ سورة الأعراف ).
وأنظره يعني أخره، والقول هنا : لا تؤخروا كيدكم مع شركائكم، بل نفذوا الكيد بسرعة، وقد أمر الحق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما آوى إلى ركن شديد ؛ لذلك يقول رسول الله بأمر الحق :
﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( ١٩٦ ) ﴾.
ومادام الوليّ هو الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبالي بهم، و " الولي " هو الذي يليك، وأنت لا تجعل أحدا يليك إلا أقربهم إلى نفسك، وإلى قلبك، ولا يكون أقربهم إلى نفسك وإلى قلبك، إلا إذا آنست منه نفعا فوق نفعك، وقوة فوق قوتك، وعلما فوق علمك، وقول الرسول بأمره سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ ﴾ :
أي أنه ناصري على أي كيد يحاول معسكر الشرك أن يصنعه أو يبيته لي. فالله هو ولي الرسول أي ناصره، والقريب منه بصفات الكمال والجلال التي تخصه سبحانه وتعالى، وعندما يكون لمؤمن خصلة ضعف فهو يذهب لمن عنده خصلة قوة، ولذلك قلنا في قصة موسى عليه السلام حين التفت قومه ووجدوا قوم فرعون فقالوا :﴿ إنا لمدركون ﴾ أي أن جيش فرعون سيدركهم، لأن البحر أمامهم والعدو وراءهم. وليس أمامهم فسحة أمامية للهرب ولا منفذ لهم إلا أن يصمدوا أمام جيش فرعون وهم بلا قوة، ولم يكذبهم موسى عليه السلام في قولهم. بل قال لهم يطمئنهم :
﴿ كلا إن معيَ ربي سيهديني ﴾( من الآية ٦٢ سورة الشعراء ).
وهنا خرجت المسألة عن أسباب البشر وانتهت إلى الركن الشديد الذي يأوي إليه الرسل. ولا يقول هذا القول إلا وهو واثق تمام الثقة من نصرة الله، وسبق أن رويت لكم حكاية المرأة الأوربية التي أسلمت لأنها كانت تقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كبطل من أبطال العالم، صنع أكبر انقلاب في تاريخ البشرية، ولما مرت في تاريخه صلى الله عليه وسلم، قرأت أن صحابته كانوا يحرسونه من خصومه وأعدائه، إلى أن فوجئوا في يوم ما بأن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهبوا عني. فإن الله أنزل عليّ :
﴿ والله يعصمك من الناس ﴾( من الآية ٦٧ سورة المائدة ).
واستوقفت هذه الواقعة هذه المرأة فقالت : إن هذا الرجل إن أراد أن يكذب على الناس جميعا ما كذب على نفسه، ولا يمكن أن يُسلم نفسه لأعدائه بدون حراسة إلا إذا كان واثقا من أن الله أنزل عليه هذا، وأنه قادر أن يعصمه، وإلا دخل بنفسه في تجربة. والباحثة من هذه الواقعة قد أخذت لفتة العبرة. وفي مثل هذا يقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ ﴾( من الآية ١٩٥ سورة الأعراف ).
وكأنه صلى الله عليه وسلم يستدعيهم إلى التحدي بالمعركة بالمكر والتبييت، وألا يتأخروا عن ذلك وهو واثق من أن الله عز وجل ينصره.
﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( ١٩٦ ) ﴾( سورة الأعراف ).
وأنزل الحق تبارك وتعالى على رسوله الكتاب المبين ليبلغه للخلق، ولا يمكن أن يسلمه إلى عدو يمنعه من تمام البلاغ عن الله. لقد أنزل الحق الكتاب على رسوله ليبلغه إلى الكافة ولا يمكن أن يتخلى عنه. ﴿ إن وليِّيَ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ﴾.
وقوله :﴿ وهو يتولى الصالحين ﴾ أي أنه لا يجعل الولاية خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم، بل يقول لكل واحد من أتباعه : كن صالحا في أي وقت، أمام أي عدو، ستجد الله وهو يتولاك بالنصر، وساعة يعمم الله الحكم، فهو ينشر الطمأنينة الإيمانية في قلوب أتباعه صلى الله عليه وسلم وكل من يحمل من أمر دعوته صلى الله عليه وسلم شيئا ما سوف يكون له هذا التأييد، وسبحانه الذي جعل رسوله مُبلغا عنه المنهج، وهو سبحانه يتولى الصالحين لعمارة الكون، لأن الله قد جعل الإنسان خليفة ليصلح الكون، وأول مراتب الإصلاح أن يبقى الصالح على صلاحه، أو أن يزيده صلاحا إن أمكن.
ويقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ( ١٩٧ ) ﴾ :
لأن الذي لا يستطيع نصرك يجوز أن يكون ضنينا بنصرتك ؛ لأن حبه لك حب رياء، أو لأنه لا يرغب في أن يحتفظ بما ينصرك به لنفسه، أما حين يكون غير قادر على نصرتك، لأنه لا يملك أدوات النصر، فهذا يبين عجز وقصور من اتخذته وليا، وهكذا كان حال المشركين. وفي يوم الفتح جاء المسلمون بالمعاول وكُسرت الأصنام، ولم يقاوم صنم واحد. بل تكسرت كلها جميعا.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( ١٩٨ ) ﴾ :
وبطبيعة الحال لو أن أحدا دعا هذه الأصنام إلى الهداية فلن تهتدي الأصنام لأنها من الجماد الذي لا تصلح معه دعوة أو فهم. رغم أن الصنم منها لها عيون كالتي تراها حاليا في معابد الهندوس أو البوذيين، حين يضعون للتماثيل في مكان حدقة العين خرزا ملونا يشبه العين، وتوجه الحدقة بميلها وكأنه ينظر إليك وهو لا يرى شيئا.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( ١٩٩ ) ﴾.
وهذه آية جمع فيها المولى سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق.
وبعد أن أبلغ الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدعو المشركين لأن يكيدوا له مع شياطينهم وأصنامهم ولن يستطيعوا. بعد ذلك يوضح له : أنا أحب أن تأخذ بالعفو، وفي هذا تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن يتبعه، وكلمة " العفو " ترد على ألسنتنا، ونحن لا ندري أن لها معنى أصيلا في اللغة. وقد يسألك سائل : من أين أتيت بهذا الشيء ؟ فتقول له : جاءني عفوا، أي بدون جهد، وبدون مشقة، وبدون سعي إليه ولا احتيال لاقتنائه.
ويقال أيضا : إن هذا الشيء جاء لفلان عفو الخاطر، أي لم يفكر فيه، بل جاء ميسرا. وهذا هو معنى العفو. والحق هنا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو، أي أن يأخذ الآمر الميسر السهل، الذي لا تكلف فيه ولا اجتهاد، لأنه بذلك تُسهل على الناس أمورهم ولا تعقدها، أما حين تتكلف الأشياء، فذلك يرهق الناس، ولذلك يأمر الحق رسوله أن يقول :
﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلّفين( ٨٦ ) ﴾( سورة ص ).
وقوله : " وما أنا من المتكلفين " أي أنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلف الأمور حتى تصير الحياة سهلة ولا يوجد لدد بين الناس، لأن الذي يوجد اللدد هو التكلف وقهر الناس، ويجب أن تقوم المعاملة فيما بينهم بدون لدد أو تكلف. ولذلك يقال : إن المؤمن هو السمح إذا باع، والسمح إذا اشترى، والسمح إذا اقتضى، والسمح إذا اقتُضي منه : أي في كل أموره سمح.
وللأمر بأخذ " العفو " معنى آخر وهو أن تعفو عمن ظلمك، لأن ذلك ييسر الأمور.
والعفو أيضا له معنى ثالث، هو الأمر الزائد، مثل قوله الحق تبارك وتعالى من قبل أن تفرض الزكاة :
﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾( من الآية ٢١٩ سورة البقرة ).
ثم حدد الحق بعد ذلك الزكاة وأوجه إنفاقها، ونلحظ أن الأمر بالأنفاق من قبل أن تفرض الزكاة، والأنفاق بعد أن نزل الأمر بالزكاة يلتقيان في السهولة ؛ لأن المؤمن لا ينفق مما يحتاجه. بل من الزائد عن حاجته.
وقول الله سبحانه وتعالى في الآية " خذ العفو " فيه أمر " خذ " ومقابله " أَعْط " وقد تعطي إنسانا فلا يأخذ منك إن رأى أن ما تعطيه له ليس في مصلحته، لكن إذا قال الحق تبارك وتعالى : " خذ "، فهذا أمر يعود نفعه عليك، فإن كان العفو عمن ظلمك في ظاهر الأمر ينقصك شيئا، فاعلم أنك أخذت العفو لنفسك.
واعلم أن الحق سبحانه وتعالى يحب من عبده المؤمن أن يكون هينا لينا مع إخوانه من المؤمنين. فإن عز عليه أخوه المؤمن فَلْيَهنْ له، فإن تعالى أو تعالم أخ مسلم عليك، فلا تتعال عليه أو تتعالم حتى لا تقوم معركة بينكما، بل تواضع أنت، ليزيدك الله رفعة وعزة.
وكأن الله سبحانه وتعالى يؤكد لك : أنك حين تعطي العفو تأخذ الخير من خلاله. ودائما أضرب هذا المثل – ولله المثل الأعلى- أنت حين تدخل إلى منزلك وتجد ابنا لك قد أساء إلى أخيه فيتجه قلبك وحنانك إلى المظلوم. ونحن عيال ربنا، فإن ظلم واحد آخر، فالظالم بظلمه يجعل الله في جانب المظلوم، ولذلك يحتاج الظالم إلى أن نحسن إليه حيث كان سببا في رعاية الله لنا فنفعل معه مثلما فعل سيدنا حسن البصري عندما قيل له : إن فلانا اغتابك بالأمس. ونادى سيدنا حسن البصري الخادم وقال له : جاءنا طبق من باكورة الرطب. اذهب به إلى فلان -وحدد للخادم اسم من اغتابه- وتعجب الخادم : كيف تبعث بالرطب إليه وهو قد اغتابك ؟ فقال : أفلا أحسن إلى من جعل الله بجانبي، قل له : " يقول لك سيدي بلغه أنك قد اغتبته فأهديت إليه حسناتك، وهو أهداك رطبه ".
﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ﴾.
وتتناول الآية الكريمة الأمر بالعرف :
والعرف هو السلوك الذي تعرف العقول صوابه، وتطمئن إليه النفوس، ويوافق شرع الله، ونسميه العرف، لأن الكل يتعارف عليه، ولا أحد يستحيي منه، لذلك نسمع في شتى المجتمعات عن بعض ألوان السلوك : هذا ما جرى به العرف. وما يجري به العرف عند المجتمعات المؤمنة يعتبر مصدرا من مصادر الأحكام الشرعية. وخير مثال على ذلك : أننا نجد الشاب لا يخجل من أن يطرق باب أسرة ليطلب يد ابنتها، لأن هذا أمر متعارف عليه ولا حياء منه، بينما نجد المجتمع المسلم يستحيي أن يوجد بين أفراده إنسان يزني، والغاية من الزنا الاستمتاع، والغاية من طلب يد الفتاة هو الاستمتاع، لكن هناك فارق كبير بين متعة يحرمها الله عز وجل، ومتعة يُحلّها الله تعالى.
وفي نهاية الآية يقول الله تعالى :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾.
وكيف يكون الإعراض عن الجاهلين ؟. يخطئ من يظن أن الجاهل هو الذي لا يعلم، لأن من لا يعلم هو الأمي، أما الجاهل فهو من يعلم قضية تخالف الواقع. ونلحظ أن المشكلات لا تأتي من الأميين الذين لا يعلمون، فالأمي من هؤلاء يصدق أي قضية تحدثه عنها وتكون مقبولة بالفطرة ؛ لأنه لا يملك بديلا لها، أما الجاهل فهو من يعلم قضية مخالفة للواقع ويحتاج إلى تغيير علمه بتلك القضية، والخطوة الثانية أن تقنعه بالقضية الصحيحة.
والحق هنا يوضح : أعرضْ عن الجاهل الذي يعتقد قضية مخالفة للواقع ويتعصب لها، وأنت حين تعرض عن الجاهل، يجب ألا تماريه، أي لا تجادله، لأن الجدل معه لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة ؛ لذلك أقول لكل من يواجه قضية التدين ولم يقرأ عن الدين كتابا واحدا، وقرأ في كتب الانحراف عن الدين المئات، أقول له : كما قرأت فيما يناهض الدين مئات الكتب فمن الحكمة يجب عليك أن تكون عادلا ومنصفا فتقرأ في مجال التدين بعض الكتب الخاصة به مثلما قرأت في غيرها. وإن أردت أن تبحث قضية الدين بحثا منطقيا يصحح لك عقيدتك، فعليك أن تخرج كل الاقتناعات المسبقة من قبلك ووجدانك. وتدرس الأمرين بعيدا عن قبلك، ثم أَدخل إلى قبلك الأمر الذي ترتاح إليه، لكن لا تحتفظ في قلبك بقضية وتناهض منطوقها بظاهر لسانك. والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ﴾( من الآية ٤ سورة الأحزاب ).
فأنت لك قلب واحد، إما أن يمتلئ بالإيمان واليقين وإما بغير ذلك. والقلب حيز واحد فلا تشغله أنت بباطل، حين تبحث قضية الحق، بل أخرج الباطل من قلبك أولا، واجعل الباطل والحق خارجه، وابحث بعقلك، والذي ييسرُ إليك أن تدخله إلى قلبك فأدخله.
وفي بيان معنى هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها روى لنا أبيّ قال : لما أنزل الله عز وجلّ على نبيه صلى الله عليه وسلم : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هذا يا جبريل ؟ قال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك " ١.. وسبحانه – إذن- يريد أن يعلمنا قضية إيمانية إنسانية ؛ لأنك كمسلم تساعد المصاب في بدنه ؛ فما بالك بالمصاب في قيمه، ألا يحتاج إلى معونتك ؟.
١ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم..
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٠٠ ) ﴾.
و " نزغ " تساوي كلمة " نخس " أي أمسك بشيء ووضع طرفه في جسد من بجانبه أو من أمامه. ويتضح من معنى " نخس " أن هناك مسافة بين الناخس والمنخوس ووسيلة أو أداة للنخس.
وعملية النخس لا يدرك بها الناخس أو المنخوس حرارة بعضهما البعض، أما كلمة " مس " فقد يشعر الماس والممسوس كل واحد بحرارة الآخر منهما بسرعة، لكن أحدهما لا يدرك نعومة الآخر، أما اللمس ففيه إدراك لنعومة وحرارة اللامس والملموس. ومعارك الحرب كلها تدور في هذا النطاق، فحين يكون العدو بعيدا يحتاج خصمه إلى أن يبتعد عنه كيلا يصيبه بالنبال أو السهام، ويحاول هو أن يصيب خصمه بالنبال أو السهام. وكما تفعل الجيوش الحديثة حين ترسل طائراتها لترمي القنابل على قوات الخصم. وتقاس قوة الدول بقدرتها على ضرب القوات المعادية دون قدرة تلك القوات على الرد، لأنها تصيبه من بعد في عصر الصواريخ البعيدة المدى. ونجد الإشارة في قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾( من الآية ٦٠ سورة الأنفال ).
وأوضح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى القوة فيما رواه عنه عقبة ابن عامر قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي. ١ لأن الرمي يُمكّن قذيفتك من عدوك، وأنت بعيد عنه فلا يقدر أن يصيبك بما يرميه.
وقديما كانت الجيوش تزحف، فيُلقي الخصوم عليها النبال والسهام، وإذا ما اقتربت الجيوش أكثر من خصومها فكل فريق يوجه الرماح إلى ما يقرب من أجساد الفريق الآخر. وإذا حمى وطيس المعركة تتلاقى السيوف. إذن كلها من النخس، والمس، واللمس.
وحينما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ربه قائلا : يا رب كيف بالغضب ؟ أي كيف يكون علاج الغضب ؟ نزل قول الحق :
﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٠٠ ) ﴾( سورة الأعراف ).
وقد يستفهم قائل فيقول : أينزغ الشيطان الرسول ؟ وأقول : إنّ الحق تبارك وتعالى لم يقل : " إذا نزغك الشيطان "، ولكنه قال : " وإما ينزغنك " أي إن حدث ذلك، وهو قول يفيد الشك – ثم لماذا يحرم الله رسول الله صلى الله عليه وسلم من لذة مجابهة الشيطان ؟. ونعلم عن ابن مسعود أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة. قالوا : وإياك ؟ قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير )٢.
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ﴾.
والاستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ وأنت لا تطلب العون ولا تلجأ ولا تستجير إلا بمن هو أقوى ممن يريد أن ينالك بشر. ومعلوم أن الشيطان له من خفة الحركة، وقدرة التغلغل، ووسائل التسلل الكثير، لذلك فينبغي ألا تستعيذ بمثله أو بمن هو دونه، ولكنك تستعيذ بخالق الأنس والجن وجميع المخلوقات، وهو القادر على أن يعطل فاعلية الشيطان. وسبحانه سميع عليم، والسمع له متعلق، والعلم له متعلق، فحين تستحضر معنى الاستعاذة وأنت مشحون بالإيمان وتلجأ إلى من خلقك. وخلق ذلك الشيطان ؛ عندئذ لا بد أن يهرب الشيطان من طريقك لأنه يعلم أنك تلجأ إلى الخالق القوي القادر وهو ليست له قوة على خالقه، وسبحانه سميع لقولك : " أعوذ بالله "، عليم بما في نفسك من معنى هذه الكلمة.
وإذا كان الحق تبارك وتعالى هنا قد تكلم عن حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، وقال :﴿ وإمّا ينزغنك ﴾.
أي أن الشيطان بعيد، وهو يحاول مجرد النزغ، فماذا عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء هذا ؟. هنا يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( ٢٠١ ) ﴾.
١ أخرجه الإمام مسلم والإمام أحمد وابن ماجه وأبو داود..
٢ مسند الإمام أحمد بن حنبل، الجزء الأول، وجامع الأحاديث للسيوطي ج ٥ ص ٦٠٨..
ومن رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مسّهم " ولم يقل : " لمسَهم ". لأنهم من الذين اتقوا، أي وضعوا بينهم وبين صفات جلال الله وقاية تجعلهم يقفون عند حدوده ولذلك يقول :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا ﴾.
والطائف هو الخيال الذي يطوف بالإنسان ليلا، وبما أن الشيطان لا يرى، لذلك نصوره على أنه خيال، فإذا ما طاف الشيطان بالمس للذين اتقوا وتذكروا خالق الشيطان وخالقهم، وتذكروا منهج الله الذي يصادم شهواتهم، وتذكروا أن عين الله تراهم ولا تغفل عنهم، وأن محارم الله واضحة وبينة، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن بشير :( الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ). ١
وإذا ما تذكر المؤمنون العقوبة المترتبة على أي فعل شائن يزينه الشيطان لهم، هنا تزول عنهم أي غشاوة ويبصرون الطريق القويم.
١ رواه البخاري في كتاب الإيمان ج ١ ص ١٨٥..
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك :
﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ( ٢٠٢ ) ﴾.
ونحن حين نتتبّع كلمة " يمدونهم " في القرآن، نجدها مرة " يمدونهم "، ومرة يمددكم كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ ويمددكم بأموال وبنين ﴾( من الآية ١٢ سورة نوح ).
ونعلم أن الشياطين لن تترك للمؤمنين في حالهم، بل تظل في محاولة الغواية، وتحاول الشياطين غواية المؤمنين الطائعين أكثر من محاولتهم غواية العاصين، لأن العاصي إنما يعاون الشيطان باتباعه شهوات نفسه، ولا يقصر العاصي أو الشيطان في ذلك، بل يحاول العاصي أو الشيطان غواية المؤمنين و " أقصر " من مادة " قصر "، أي أنه قادر أن يطول المسافة لكنه يقصرها. وهكذا إلحاح الشياطين لغواية المؤمنين.
فالشيطان – كما جاء في القرآن- يعترف بموقفه من ملاحقة المؤمنين بالوسوسة وتزيين المعاصي.
﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾( من الآية ١٦ سورة الأعراف ).
والشيطان يعلم أن من لا يتقي الله لا يحتاج إلى تزيين أو غواية، لأنه يرغب ويميل للمعاصي والعياذ بالله ؛ لذلك لا يبذل الشيطان لغوايته جهدا كبيرا.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٢٠٣ ) ﴾ :
وقد جاء الحق تبارك وتعالى من قبل بكلمة " آيات "، والآيات – كما أوضحنا- إما آيات كونية وإما آيات المعجزات الدالة على صدق الرسل، وإما آيات الأحكام.
والله سبحانه وتعالى جاء هنا بكلمة : " آية " لا " آيات "، والكون أمامهم مليء بآياته، والمنهج المنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام واضح، ولا ينقص إلا أن تأتي الآية المعجزة – من وجهة نظرهم- وينبه الحق هؤلاء بقوله تبارك وتعالى في سورة الإسراء :
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ( ٨٩ ) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنبُوعًا ( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلا بَشَرًا رَّسُولا ( ٩٣ ) ﴾( سورة الإسراء ).
إذن فالآيات المعجزات التي طلبوها، لا يأتي بها الرسول من عنده، والآيات التي ينزل بها المنهج أيضا ليست من عنده، بل هي تنزيل من لدن عزيز حكيم.
وكانوا يتهمونه صلى الله عليه وسلم أنه يفتري القرآن. لذلك طلبوا منه صلى الله عليه وسلم المعجزة الحسية متناسين ما جاءت به آيات القرآن الكريم من معجزة لم يستطيعوا هم أن يأتوا بآية واحدة من مثل آياتها ؛ وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم :﴿ قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ﴾.
يأمره هنا ربه أن يقول :﴿ قل إنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي ﴾.
أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكلف بأن يبلغهم بما يأتي به الوحي يحمله الروح الأمين جبريل عليه السلام من آيات القرآن الحاملة للمنهج الإلهي، وهذا المنهج في حد ذاته معجزة متجددة العطاء، لذلك يضيف :
﴿ هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٢٠٣ ) ﴾( سورة الأعراف ).
ففي القرآن الكرم بصائر وهدى ورحمة، والبصائر جمع بصيرة، من الإبصار، إذا امتلأ القلب بنور اليقين الإيماني فإن صاحبه يعيش في شفافية وإشراق، ويسمى صاحب هذه الرؤية المعنوية صاحب بصيرة، أما البصر فهو مهمة العين في الأمور الحسية، لكنْ هناك أمور معنوية لا تكتشفها إلا البصيرة، والبصيرة تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك الأمور المعنوية، ولا يمتلك القلب البصيرة إلا حين يكون مشحونا باليقين الإيماني.
والقرآن الكريم بصائر، لأنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله بصائر ليجدد الأمور المعنوية وقد صارت مُبْصَرَةً، وكأنه قادر على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عين اليقين.
وهذا القرآن المجيد بصائر وهدى، أي يدل الإنسان ويهديه إلى المنهج الحق وإلى طريق الله المستقيم، وهو رحمة أيضا لمن لا يملك إشراقات القلب التي تهدي للإيمان ولا يملك قوة أخذ الدليل الذي يوصله إلى الهداية، إذن فهو رحمة لكل الناس، وهدى لمن يسأل عن الدليل، وبصائر لمن تيقن أصول الإيمان مشهديا.
وكما قلنا من قبل : إنّ الله قد أخبر المؤمنين بأمور غيبية، ومن هذه الأمور الغيبية أن له جنة وأن له نارا، وصدق المؤمنون بكل ما جاءهم من البلاغ عن ربهم، وعلموا أن ذلك من الله، وصار هذا العلم علم يقين كقدر مشترك فيما بينهم، فإذا جاء يوم القيامة ورأوا الصراط مضروبا على متن جهنم مطابقا لما صدقوه وصار عين يقين، وإذا ما دخل بعضهم النار – والعياذ بالله- تكفيرا لذنوب ارتكبوها، فهذا حق يقين. وضربت المثل من قبل – ولله المثل الأعلى- كان الجغرافيون يحدثوننا ونحن طلاب عن خريطة الولايات المتحدة، ويقولون : إن عاصمتها " واشنطن "، والميناء الكبير فيها اسمه " نيويورك "، وفي " نيويورك " توجد ناطحات السحاب وهي مبان ضخمة يزيد ارتفاع المبنى الواحد من هذه المباني على مائة طابق أي أكثر من مائتي متر، وصدقنا نحن أستاذ الجغرافيا، وعندما أتيحت للبعض منا فرصة السفر ورأوا واشنطن ونيويورك من الطائرة، صارت الرؤية عين يقين بعد أن كانت علم يقين. وعند هبوط الطائرة في مطار واشنطن صارت الرؤية حق يقين.
وقد عرض الله سبحانه وتعالى لنا الإيمان ببعض من الغيب في قوله تعالى :
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ( ١ ) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ( ٢ ) كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٣ ) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٤ ) كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ( ٥ ) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ( ٦ ) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ( ٧ ) ﴾( سورة التكاثر ).
أورد سبحانه هنا " علم اليقين "، وأما " حق اليقين " فقد جاء في قوله :
﴿ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٨٨ ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ( ٨٩ ) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( ٩٠ ) فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( ٩١ ) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ( ٩٢ ) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ( ٩٣ ) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( ٩٤ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( ٩٥ ) ﴾( سورة الواقعة ).
والمؤمنون المصدقون بأخبار الغيب على درجات مختلفة.. فهناك من صدق الله في الخبر عن الغيب كعين يقين، وهناك من صدق قول الله حق اليقين، ولذلك فإننا نجد الإمام عليا – كرم الله وجهه- يقول : " لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا ".
وفي الحوار الآتي الذي دار بين حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي الجليل الحارث بن مالك ما يكشف لنا جوهر هذا اللون من الإيمان :
" فقد روى الحارث بن مالك الأنصاري : أنه مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقّا، قال : " انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضارغون١ فيها. فقال يا حارث عرفت فالزم ثلاثا " ٢.
هذا الصحابي الجليل وصل إلى أن كل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قد صار حق يقين، وامتلك البصيرة التي رأى بها كلَّ ذلك.
﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٢٠٣ ) ﴾ ( سورة الأعراف ).
وهكذا نجد القرآن الكريم بصائر لأصحاب المنزلة والدرجات العالية، وهدى لأصحاب الاستدلال ورحمة للجميع.
١ يتضارغون: أي يرفعون أصواتهم بالصراخ والعويل..
٢ أخرجه الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري..
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك :
﴿ وَإِذَا قُِرئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٢٠٤ ) ﴾ :
وما دام قد أوضح لك المولى سبحانه وتعالى من قبل أن هذا القرآن بصائر من ربنا وهدى ورحمة، ألا يستحق أن تحتفي به أيها المؤمن ؟.. ألا تجذبك هذه الحيثيات الثلاث لأن تعطي له أذنك وألا تنصرف عنه ؟.
إذن لابد أن تنصت للقرآن الكريم لتتلقى الفوائد الثلاث ؛ البصائر، والهدى، والرحمة، وهو حقيق وجدير أن يُحْرَص على سماعه إن قُرئ.
ولنلحظ أن الله تعالى قال :﴿ فاستمعوا له ﴾ ولم يقل " اسمعوا "، لأن الاستماع فيه تعمد أن تسمع كل ما يقال حولك، أما السمع فأنت تسمع كل ما يقال حولك، وقد تنتبه إلى ما تسمع وقد لا تنتبه، ومن الرحمة المحمدية يقول حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ناهيا عن التسمع لأسرار الغير تجسسا عليهم بالبحث عن عوراتهم فيما يرويه عنه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تجسّسُوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا " ١.
وفي هذا تحذير من هذه الأمور الخمسة التي منها التلصص والتصنت إلى أسرار الناس.
﴿ وَإِذَا قُِرئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٢٠٤ ) ﴾( سورة الأعراف ).
والإنسان قد يصمت ويستمع ولكن بغير نية التعبد فيحرم من ثواب الاستماع، فاستمع وأنصت بنية العبادة، لأن الله هو الذي يتكلم، وليس من المعقول والتأدب مع الله أن يتكلم ربك ثم تنصرف أنت عن كلامه، وقد لفت أنظارنا سيدنا جعفر الصادق٢ : ونبهنا إلى ما فيه من الخير حيث يقول :
" عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى : " حسبنا الله ونعم الوكيل "، فإني سمعت الله عقبها يقول :" فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ".
وعجبت لمن اغتم، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " فإني سمعت الله عقبها يقول :
" فاستجبنا له ونجيناه من الغم، وكذلك ننجي المؤمنين ".
وعجبت لمن مُكر به، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى : " وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ". فإني سمعت الله عقبها يقول :- " فوقاه الله سيئات ما مكروا ".
وعجبت لمن طلب الدنيا ولم يَفزَع إلى قوله تبارك وتعالى : " ما شاء الله لا قوة إلا بالله ". فإني سمعت الله عقبها يقول :" فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ".
ونحن حين نستمع لقراءة القرآن الكريم بنية التعبد فذلك هو حُسن الأدب الذي يجب أن نستقبل به العبر التي تعود بالفائدة علينا.
ووقف العلماء حول الإنصات سماعا للقرآن، أيكون الإنصات إذا قرئ القرآن مطلقا في أي حال من الأحوال، أو حين يُقرأ في الصلاة، أو حين يُقرأ في خطبة الجمعة ؟
وقد اختلفوا في ذلك، فبعضهم قال : إن المقصود هنا هو الإنصات للقرآن حين يُقرأ في الصلاة، والسبب في ذلك أن الأوائل من المسلمين كانوا حينما يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، يعيدون بعده كل جملة قرأها فإذا قال : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ قالوا : بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا قال : ّالحمد لله رب العالمين "، قالوا : " الحمد لله رب العالمين " فينبههم الله عز وجل إلى أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهم يستمعون إليه دون ترديد للقراءة.
وقال آخرون من العلماء : الإنصات للقرآن الكريم يكون في الصلاة، وفي خطبة الجمعة أو العيدين، لأنها تشتمل على آيات من القرآن، ولكن اشتمالها على الآيات أقل مما يقوله الخطيب، ونبه البعض إلى أن الإنصات للخطبة ثبت بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام.
( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت )٣.
إذن الإنصات للخطبة جاء بدليل من السنة.
وهناك قول بأن الاستماع مطلوب للقرآن في أي وضع من الأوضاع حين يُقرأ، ففي هذا احترام ومهابة لكلام الله عز وجل، وينسب هذا القول إلى إمامنا وسيدنا ومولانا سيدي " أبي عبد الله الحسين "، فيقول :
إذا قُرئ القرآن سواء إن كنت في صلاة أو كنت في خطبة، أو كنت حرّا فأنصت، لأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يميز القرآن على مطلق الكلام، فميزه بأشياءَ، إذا قُرئ تنصت له، وإذا مسّ المصحف لابد أن يكون على " وضوء " حتى لا يجترئ الناس ويمسّوا المصحف كأي كتاب من الكتب، وهذا يربي المهابة فلا تمسك المصحف إلا وأنت متوضئ، فإذا علمنا أولادنا، نقول للواحد منهم : لا تقرب المصحف إلا وأنت متوضئ ؛ فتنشأ المهابة في نفس الولد.
وأيضا في " الكتابة " شاء الحق تبارك وتعالى لبعض ألفاظه كتابة خاصة غير كتابة التقعيد الإملائي ؛ حيث يكون للقرآن قداسة خاصة، فهو كتاب فريد وليس ككل كتاب وكلامه ليس ككل كلام.
﴿ وَإِذَا قَُِرئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٢٠٤ ) ﴾ ( سورة الأعراف ). وبعض العلماء قال : ليس المطلوب مجرد الاستماع بالآذان، بل المقصود بالاستماع هنا هو أن نستجيب لمطالبه، ألا تقولون لبعضكم حين يدعو بعضكم لبعض : " الله يسمع دعاك " ؟ إنك تقولها وأنت تعلم أن الله سامعك، ولكنك تقصد بها أن يستجيب سبحانه وتعالى لهذا الدعاء، إذن فالاستماع للقرآن يقتضي الاستجابة لمطلوبات القرآن. لماذا ؟ لننال الرحمة من الحق فهو الرحمن الرحيم. ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ : ونعلم أن " لعل " و " عسى " حين تقال يقصد بها الرجاء، و " ليت " تعني التمني وهو مستحيل ولا يُتَوَقّع، ونحن نتمنى لنظهر أن هذا أمر محبوب لنا، لكننا نعلم أنه مستحيل، مثلما قال الشاعر العجوز :
ألا ليت الشباب يعود يوما **** فأخبره بما فعل المشيب
إنه يعلم يقينا أن الشباب لن يعود ولكن قوله يدل على أن الشباب فترة محبوبة.
ومثل قول الشاعر :
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها****عقود مدح فما أرضى لكم كَلِم
ولن تدنو الكواكب.
إذن ساعة تسمع " عسى " أو " لعل " يتبادر إلى ذهنك أن هذا رجاء لأن يحدث، وإذا كان رجاء من الله، فهو رجاء من كريم لابد له من واقع.
١ أخرجه الإمام مسلم (كتاب البر والصلة والآداب) ج ١٦ ص ١١٩..
٢ الإمام جعفر الصادق بن سيدي محمد الباقر، بن سيدي علي زين العابدين ابن سيدنا الحسين..
٣ رواه الإمام مالك في مسنده، ورواه الإمام أحمد في مسنده، والبيهقي، وأبو داود والنسائي-عن أبي هريرة-..
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ( ٢٠٥ ) ﴾ :
والذكر مرور الشيء، إن كان بالبال، فهو ذكر في النفس، وإن كان باللسان ولا يُسْمِع الغير ويُسمعك أنت فهذا ذكر السر، وإن كان جهرا فهو قسمان ؛ جهر مقبول، وجهر غير مقبول، والجهر غير المقبول هو أن يتحول الذِّكر إلى إزعاج والعياذ بالله، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ﴾( من الآية ١١٠ سورة الإسراء ).
ولعل إخواننا القراء ينتبهون إلى هذه الآية، تنبها يجعلهم يلتفتون إلى أداء أمر الله في هذا المجال فلا يجهرون ولا يرفعون أصواتهم به لدرجة الإزعاج، لأني أقول لكل واحد منهم : إن ربك لم يطلب منك حتى الجهر، إنما طلب دون الجهر، وأقول ذلك خاصة لهؤلاء الذين يفسدون نعمة الله على خلقه، فيصيحون ليلا ويمنعونهم من رحمة الله ليلا التي قال عنها :﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ٧٣ ) ﴾( سورة القصص ).
فلا تفسدوا على الناس رحمة ربنا ؛ لأن الدعوة إلى الله ليست صياحا على المنابر ؛ اللهم إلا إذا كنتم تصنعون لأنفسكم دعاية إعلامية على مساجد الله وعلى منابر الله. وهذا أمر مرفوض وغير مقبول شرعا. ﴿ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ﴾ والحق تبارك وتعالى يقول مرة :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا( ٤١ ) ﴾( سورة الأحزاب ). ومرة يقول :﴿ واذكر ربك ﴾، وقوله : " اذكر الله " يستشعر سماعها التكاليف ؛ لأن الله هو المعبود، والمعبود هو المطاع في الأوامر والنواهي. أما قوله : " اذكر ربك " فهو تذكير لك بما حباك به من أفضال ؛ خلقك ورباك وأعطاك من فيض نعمه ما لا يعد ولا يحصى. فاذكر ربك ؛ لأنك إن لم تعشقه تكليفا، فأنت قد عشقته لأنه ممدك بالنعم، وسبحانه يتفضل علينا ويوالينا جميعا بالنعم.
وأضرب لك هذا المثل- ولله المثل الأعلى وهو منزل عن التشبيه- وأنت لك أولاد، وتعطي لهم مصروفا، وحين تعطي لهم المصروف كل شهر، تجدهم لا يحرصون على أن يروك إلا كل شهر، لكن إن كنت تعطي لهم مصروفهم يوميا فأنت تلتفت لتجدهم حولك، فإن كنت نائما يدخل ابنك لغرفة نومك يسير بجانبك ويتنحنح ليقول إنه يحتاج لشيء موجود بالغرفة، فما بالك وأنت بكل وجودك عبد لإحسان ربك ؟ وما دمت عبد الإحسان فاذكر من يحسن إليك، اذكر ربك دائما. واذكره على حالين : الأول تضرعا. أي بذلة، لأنك قد تذكر واحدا بكبرياء، إنما الخالق المحسن يجب عليك أن تذكره بذلة عبودية لمقام الربوبية، واذكر ربك " خيفة " أي خائفا متضرعا ؛ لأنك كلما ذللت له يعزك، ولذلك نجد العبودية مكروهة في البشر وهي استعباد، والناس ينفرون ممن يستعبدهم ؛ لأن عبودية الإنسان لمساويه طغيان كبير وظلم عظيم فهي تعطي خير العبد للسيد، ولكن عبوديتك لله تعطي خير الله لك. ولذلك نجد الحق يمتن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ( ١ ) ﴾. ( سورة الإسراء ).
وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة كبرى بحادث الإسراء، وكان الحديث عنها بامتنان من الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والشاعر المؤمن يقول :
حسب نفسي عزاً بأني عبد **** يحتفي بلا مواعيد ربي
هو في قدسه الأعز ولكن **** أنا ألقى متى وأين أحب
وأنت أيها العبد المؤمن تلقى الله متى أردت، وإذا أسلمت زمامك للإيمان، فالزمام في يدك. يكفي أن تنوي الصلاة وتقول : الله أكبر فتكون في حضرته سبحانه سواء كنت في البيت أو في الشارع أو في أي مكان. وفي هذا منتهى العزة لك.
﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾( من الآية ٢٠٥ من سورة الأعراف ). ولم يقل هنا رب العالمين : بل ربك أنت يا محمد، وهذه قمة العطاءات التي جاءت للناس، فهذا العطاء الذي جاء بمحمد رسولا، نعمة ومنة من الله على المؤمنين برسالته، وبعد ذلك ينسب لكل مسلم العطاء الذي جاء لمحمد. وقوله تعالى لرسوله : " واذكر ربك في نفسك " أي أنه سبحانه لم يعجل دليل عنايته بك مقصورا على ما يشاهد في الخارج والبعيد عنك فقط ؛ لأنك قد لا ترى شيئا في الكون أو لا تسمع شيئا في الكون، لأن الكون منفصل عنك، إنما انظر إلى نفسك أنت وستجد الآيات كلها تذكرك بخالقك.
﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون( ٢١٠ ) ﴾( سورة الذاريات ). فقبل أن يجعل ربنا الدليل في الكون الذي حولك، جعل لك الدليل أيضا في نفسك ؛ لأن نفسك لا تفارقك وأنت أعلم بملكاتها وبجوارحها، وبنوازعها، ولهذا كان التضرع إلى الله والخيفة منه لهما مجال هنا ؛ لأنك تستطيع أن ترى سر صنعته فيك، وستجد الكثير من الآيات، وهي آيات أكبر منك، لذلك أنت تتضاءل أمام من وهب لك كل هذا، وتخاف ألا تؤدي حقه لديك.
ونعود إلى قول الله تعالى :﴿ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ﴾ والذكر حَدَثٌ، والحدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان. والغدو والآصال زمنان يستوعبان النهار، فالغدو هو أول النهار، والآصال هو من العصر للمغرب، مثلما نقول : " شمس الأصيل ". وهذه الآية الكونية تتكرر في القرآن الكريم كثيرا، فالحق تبارك وتعالى يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا( ٤١ )وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا( ٤٢ ) ﴾( سورة الأحزاب ). وكما يقول عز وجل :﴿ إنا أرسلناك شهيدا ومبشرا ونذيرا( ٨ ) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعززوه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا( ٩ ) ﴾( سورة الفتح ).
و " الأصيل " هنا مشترك، ومقابل الأصيل يطلق الحق عليه مرة بكرة، وأخرى يطلق عليه : الغدو، وسبحانه القائل :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٣٥ ) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ( ٣٦ ) ﴾. ( سورة النور ).
إنك ساعة أن تقرأ " في بيوت " تعرف أن هذا حدثا ؛ لأن قوله : " في بيوت " شبه جملة " في معنى الظرف، وإذا استقرأت ما قبلها، لم تجد لها مُتَعَلَّقاً. والحظ إذن أن ما قبلها هو ﴿ نور على نور ﴾ ﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ﴾ فأنت حين تذهب إلى المسجد لتلقى الله، فذلك نور، وتصلي له فذلك نور، وتخرج من هذا النور بنور يهبط عليك في بيته، وكل هذا نور على نور، فمن أراد أن يتعرض لنفحات نور الله عز وجل، فليكثر من الذهاب إلى بيوت الله وللمساجد، مهابة النور لأنها مكان الصلاة، ونعلم أن الصلاة هي الخلوة التي بين العبد وربه، وكان رسول الله إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. وأنت إذا ما اتبعت حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وتصلي ركعتين لله إن حزبك أمر وعزت عليك مسألة وكانت فوق أسبابك ثم ذهبت إلى الله فلن يخرجك الله إلا راضيا. ﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ﴾.
والغدو والآصال أو البكرة والأصيل كما عرفنا هي أزمنة أول النهار وأزمنة أول الليل. ولماذا أزمنة أول النهار وأزمنة أول الليل ؟ لأن هذه الأزمنة هي التي يطلب فيها الذكر. فقبل أن تخرج للعمل في أول النهار أنت تحتاج لشحنة من العزيمة تقابل بها العمل من أجل مطالب الحياة، وفي نهاية النهار أنت تحتاج أن تركن إلى ربك ليزيح عنك متاعب هذا اليوم، لذلك إياك أن تشغلك الحياة عن واهب الحياة، ولك أن تذكر ربنا وأنت تعيش مع كل عمل تؤديه وتقوم به وأن تقابل كل نتيجة للعمل بكلمة :( الحمد لله ) وعندما ترى أي جميل من الوهاب سبحانه وتعالى يجب عليك أن تقول : " ما شاء الله " وعندما ترى أي شيء يعجبك تقول :( سبحان الله ). ولذلك حينما دعا الله خلقه المؤمنين به إلى الصلاة قال :﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٩ ) ﴾. ( سورة الجمعة ).
وهذا التكليف في صلاة الجمعة المفروضة كصلاة للجماعة، والجماعة مطلوبة فيها، ومن الضروري أن تتواجد فيها كجمع، لأن الجماعة مشروطة فيها فلا تصح بدون الجماعة. ونعرف أن الصلاة إنما هي ذكر لربنا، فماذا بعدها ؟
﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرض وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٠ ) ﴾ ( سورة الجمعة ).
أي إياك أن يشغلك انتشارك في الأرض وابتغاؤك من فضل الله، والأخذ بأسباب الدنيا عن واجبك نحو الله، بل عليك أن تذكره سبحانه وتعالى :﴿ وَاذكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ والآصال وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ( ٢٠٥ ) ﴾. ( سورة الأعراف }.
أي لا تكن من الغافلين عن مطلوبات الله بالحدود التي بينها الله عز وجل، لأن الغفلة معناها انشغال البال بغير خالقك، وأنت إن جعلت خالقك في بالك دائما فإنك لا تغفل عن مطلوباته في الغدو والآصال وفي كل وقت، سواء كنت في الصلوات الخمس، أو كنت تضرب الأرض في أي معنى من المعاني، وتأس أيها المؤمن بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان الملائكة والذين لم يرتكبوا أية معصية وليس لهم موجبات المعصية، ولا يأكلون ولا يتناسلون، وليس لهم شهوة بطن ولا شهوة فرج، وكل المعاصي جميعها تأتي من هذه الناحية، مع ذلك يجب عليك أن تتأسى بهم، لأنهم هم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه، وله يسجدون، لذلك يقول الحق بعد ذلك :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( ٢٠٦ ) ﴾.
وإذا كنا كلنا عند ربنا وفي حضرة ما منحه لنا من خَلْق وما أمدنا به من إيجاد من عُدم سواء، فلماذا خص هؤلاء بالعندية ؟.
إياك أن تفهم من العندية أنها عندية المكان، لأن المكان مُحَيَّز، وربنا عز وجل لا يتحيز في مكان، والعندية هنا عندية الفضل، وعندية الرحمة، وعندية الملك، وعندية العناية. أو إن كل خلق لله جعل لهم أسبابا ومسبَّبات، ولكن خلقا من خلقه يسبحونه بذاته، وليس لهم عمل آخر، ويعرفون بالملائكة العالين، لا الملائكة المدبرات أمرا أو الحفظة. ولذلك قلنا سابقا : إن الحق سبحانه وتعالى حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم، وامتنع إبليس، قال له :
﴿ أستكبرت أم كنت من العالين ﴾( من الآية ٧٥ سورة ص ).
و " العالين " هم الذين لم يشملهم أمر السجود، فهم ملائكة موجودون ولا عمل لهم إلا تسبيح الذات العلية ولا يدرون عن الخلق أو الدنيا شيئا. وهم غير الملائكة المسخرين لخدمتنا ؛ فالذين عند ربنا هم الملائكة المُهيَّمون الذين لا يعرفون شيئا إلا الذات الإلهية وتسبيح الذات وعملهم يحدده الله هنا :﴿ لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ﴾.
واختلف العلماء في كيفية سجود الملائكة، أهو الخضوع ؟ أهو الصلاة ؟ أهو السجود الذي نعرفه نحن ؟ والسجود عندنا هو منتهى ما يمكن من الخضوع لله عز وجل وقت الصلاة. لأنه نزول بأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه الذي يضعه المؤمن على الأرض خضوعا لله عز وجل. ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا إذا مررنا على آية سجدة من آيات كتاب الله فيها مثل ذلك فعلينا أن نستجيب لها استجابة حقيقة ونسجد لها سجدة تسمى سجدة التلاوة، ويكون ذلك عند تلاوتها أو سماعها من القارئ وحصرها العلماء فيما تجدونه في المصحف عند كل سجدة وجعلوا عندها علامة ووضعوا تحت الكلمة التي نسجد عندها خطأ. وحين قام العلماء ببيان المواضع التي تطلب فيها السجدات وجدوها قد ابتدأت بسجدة آخر سورة " الأعراف " التي نتناولها بخواطرنا الآن، وانتهت بسجدة " العلق ".
﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق( ١ ) ﴾( سورة العلق ).
وبينهما سجدات، وبعض العلماء عدّ في سورة الحج سجدتين وبعضهم أهمل السجدة الثانية في هذه السورة. فمن حسبها خمس عشرة سجدة، عدّ سجدة الحج الثانية المختلف عليها مع سجدة الحج الأولى –المتفق عليها- وبعض العلماء قال : إنها أربع عشرة سجدة ؛ لأنه لم يحسب سجدة الحج الثانية.
وهب أنك أردت أن تسجد لله شكرا في أي وقت، وعند أي آية فاسجد لله سجدة الشكر، وهي سجدة واحدة كسجدة التلاوة وتستحب عند تجدد نعمة أو انقشاع غمّة، أو زوال نقمة ولا تكون إلا خارج الصلاة.
والسجود بطبيعة الحال تبدأه بالتكبير، ورفع اليدين كأنك تبدأ الصلاة، والمفترض أن تقول : " سبحان ربي الأعلى، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا ما نقوله في السجود للتلاوة، وروي عن ابن عباس قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فقال : إنِّي رأيت البارحة- فيما يرى النائم كأنّي أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول : الله احطُطْ عني بها وزرا، واكتب لي بها أَجْراً، واجْعلْها لي عندك ذُخْرا. قال ابن عباس : فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة١أجرا، أ.
١ رواه ابن ماجة والترمذي وزاد فيه: وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام..
Icon