ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الطّارقوهي مكية لا خلاف بين المفسرين في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠)
أقسم الله تعالى ب السَّماءِ المعروفة في قول جمهور المتأولين، وقال قوم: السَّماءِ هنا، المطر، والعرب تسميه سماء، لما كان من السماء، وتسمي السحاب سماء، ومن ذلك قول الشاعر [جرير] :[الوافر]
إذا نزل السماء بأرض قوم | رعيناه وإن كانوا غضابا |
[البسيط]
يا نائم الليل مغترا بأوله | إن الحوادث قد تطرقن أسحارا |
«لمّا» بتشديد الميم، وقال أبو الحسن الأخفش: «لمّا» بمعنى: إلا، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم، يقال:
أقسمت عليك لمّا فعلت كذا، أي إلا فعلت كذا، ومعنى هذه الآية فيما قال قتادة وابن سيرين وغيرهما: إن كل نفس مكلفة فعليها حافظ يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها، وبهذا الوجه تدخل الآية في الوعيد الزاجر، وقال الفراء، المعنى: عَلَيْها حافِظٌ يحفظها حتى يسلمها إلى القدر، وهذا قول فاسد المعنى لأن مدة الحفظ إنما هي بقدر، وقال أبو أمامة: قال النبي ﷺ في تفسير هذه الآية إن لكل نفس حفظة من الله تعالى يذبون عنها كما يذب عن العسل، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الطير والشياطين، وقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ، توقيف لمنكري البعث على أصل الخلقة، أي أن البعث جائز ممكن، ثم بادر اللفظ إلى الجواب اقتضابا وإسراعا إلى إقامة الحجة، إذ لا جواب لأحد إلا هذا، ودافِقٍ، قال كثير: هو بمعنى: مدفوق، وقال الخليل وسيبويه: هو على النسب أي ذي دفق، والدفق: دفق الماء بعضه إلى بعض، تدفق الوادي والسيل، إذا جاء يركب بعضه بعضا، ويصح أن يكون الماء دافقا، لأن بعضه يدفع بعضا، فمنه دافِقٍ ومنه مدفوق. وقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ، قال قتادة والحسن وغيره: معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه، وقال سفيان وقتادة أيضا وجماعة: من بين صلب الرجل وترائب المرأة، والضمير في يَخْرُجُ يحتمل أن يكون للإنسان، ويحتمل أن يكون للماء، وقرأ الجمهور: «الصلب»، وقرأ أهل مكة وعيسى:
«الصلب» بضم اللام على الجميع، والتريبة من الإنسان: ما بين الترقوة إلى الثدي، وقال أبو عبيدة: معلق الحلي على الصدر، وجمع ذلك: ترائب ومنه قول الشاعر [المثقب العبدي] :[الوافر]
ومن ذهب يسن على تريب | كلون العاج ليس بذي غضون |
هو عائد على الْإِنْسانُ لكن المعنى يرجعه ماء كما كان أولا، وقال الضحاك أيضا: يرد من الكبر إلى الشباب، وقال عكرمة ومجاهد: هو عائد على الماء، أي يرده في الإحليل، وقيل في الصلب، والعامل في يَوْمَ على هذين القولين الأخيرين فعل مضمر تقديره اذكر يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، وعلى القول الأول، وهو أظهر الأقوال وأبينها، اختلفوا في العامل في يَوْمَ، فقيل: العامل ناصِرٍ من قوله تعالى: وَلا ناصِرٍ، وقيل العامل الرجع في قوله تعالى: عَلى رَجْعِهِ، قالوا وفي المصدر من القوة بحيث يعمل وإن حال خبر ان بينه وبين معموله، وقال الحذاق العامل فعل مضمر تقديره: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، فرجعه يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، وكل هذه الفرق فسرت من أن يكون العامل «قادر»، لأن ذلك يظهر منه تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده، وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب، جاز أن يكون العامل «قادر»، وذلك أنه قال: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، أي على الإطلاق أولا وآخرا وفي كل وقت، ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصل إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه، وتُبْلَى السَّرائِرُ معناه: تختبر وتكشف بواطنها، وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن السَّرائِرُ التي يبتليها الله تعالى من العباد: التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة.
قال القاضي أبو محمد: هذه عظم الأمر، وقال قتادة: الوجه في الآية، العموم في جميع السرائر، وليس يمتنع في الدنيا من المكاره إلا بأحد الوجهين: إما بقوة في ذات الإنسان، وإما بناصر خارج عن ذاته، فأخبره الله تعالى عن الإنسان أنه يعدمها يوم القيامة، فلا يعصمه من أمر الله شيء.
قوله عز وجل:
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١١ الى ١٧]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥)
وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)
السَّماءِ في هذا القسم يحتمل أن تكون المعروفة، ويحتمل أن تكون السحاب، والرَّجْعِ المطر وماؤه، ومنه قول الهذلي: [السريع]
أبيض كالرجع رسوب إذا | ما شاخ من محتفل يختلي |
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أن عقابه لهم الذي سماه: كَيْداً، متأخر حتى ظهر ببدر وغيره، وقرأ جمهور الناس:
«أمهلهم»، وقرأ ابن عباس: «مهلهم»، وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف، وقوله تعالى: رُوَيْداً معناه: قليلا، قاله قتادة، وهذه حال هذه اللفظة إذا تقدمها شيء تصفه كقولك سر رويدا وتقدمها فعل يعمل فيها كهذه الآية، وأما إذا ابتدأت بها فقلت: رويدا يا فلان، فهي بمعنى الأمر بالتماهل يجري مجرى قولهم: صبرا يا زيد، وقليلا يا عمرو.