تفسير سورة هود

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة هود من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ هُودٍ - عَلَيهِ السَّلَامُ -
قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ... (١)﴾
أشار الزمخشري إلى أن في الآية الطباق واللف والنشر؛ أما الطباق فبين أحكام الآية وتفصيلها، فإن قلت: ليس أحدهما ضد الآخر، قلنا: أحدهما ليس نسب مع ضد الآخر، وأما اللف والنشر ففي (حَكِيمٍ خَبِيرٍ).
قوله تعالى: ﴿نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)﴾
قدم النذارة بوجهين. أحدهما: إن وقع المؤلم آكد من طلب الملائم.
الثاني: أن النذارة لمن خالف، والبشارة لمن امتثل، وحالهم ابتداء إنما هي الكفر والمخالفة.
قوله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ... (٣)﴾
إذا قلت: ما أفاد عطف التوبة على الاستغفار، قلت: الاستغفار الندم على فعل المعاصي وطلب سترها فقط، والتوبة كذلك مع زيادة العزم على ألا يعود، فإن قلت: كيف يفهم يمتع المؤمن متاعا حسنا مع ما ورد أن "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وراحته"، فالجواب: إما بأن ما ناله كل فريق منهما في الدنيا بالنسبة إلى ما يناله في الآخرة ليس بشيء.
الثاني: أن [يمتع*] المؤمن موصوف بكونه حسنا بخلاف الكافر.
قوله تعالى: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ... (١٤)﴾
ابن عرفة: الصواب في معناه أنتم تقولون إنه مفترًى فاعلموا أن الله أنزله عالماً [... ].
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) قيل: أي منقادون، وقيل: أي مخلصون.
ابن عرفة: وهو أصوب لأنهم كانوا منقادين غير أن عبادتهم لله [أشركوا*] فيها غيره معه، فطلب منهم إخلاصه لله عز وجل.
قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا... (١٥)﴾
ابن عطية: عن قتادة، والضحاك هي خاصة بالكفار، وعن مجاهد هي عامة فيهم، وفي أهل الرياء من المسلمين، قال: فعلى الأول معناه يتعمدها ويقصدها ولا يقصد به، وعلى الثاني معناه يجمعها [ويفضلها*] ويؤثرها على الآخرة.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ... (١٦)﴾
هو في الأول على ظاهره، وفي الثاني عام باق على عمومه ويكون ليس لهم في الآخرة إلا النار مجاز فيتعارض فيه المجاز والتخصيص، وكان بعضهم يقول: معنى قوله (لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) أي ليس لأعمالهم جزاء بوجه؛ لأنها أعمال خالطها الرياء فليس لها ثواب بوجه، كقولك: ليس لفلان عندي إلا السيف، وأنه لا تعاقبه، وإنما تقصد عندك أنك لَا تعظم شيء بوجه.
قوله تعالى: (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قال ابن عرفة: هذا تأسيس وليس بتأكيد، فقوله (وَحَبِطَ) إشارة إلى ما هو صحيح باعتبار أصله، وعرض له ما أوجب فساده.
وقوله (وَبَاطِلٌ) إشارة إلى ما هو فاسد من أصله، فكذلك أتى بلفظ الاسم، والأول بالفعل هذا كعمل الكافر وعمل المسلم المرائي؛ فمن قوله (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ... (١٧).. والشرعي هو ما دل عليه كتاب موسى.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ).
إن قلت: ما أفاد قوله (مِنَ الْأَحْزَابِ)؟ فالجواب أن فيه [تبكيتا*] على صناديد الكفار كأبي جهل ونحوه، واختار ابن عرفة في (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أنها عامة في جميع المؤمنين من الأمم كلهم، فقيل: فكيف يفعل في قوم نوح مع قوله (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى) فقال: يتلوه شاهد منه هو النبي عليه السلام، ومن قبله عائد على الشاهد لَا على من كان على بينة.
قوله تعالى: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ).
ابن عرفة: يؤخذ منها بأن الشك ليس هو أول الواجبات بل أولها النظر؛ لأنه في الآية منهي عنه، فلو كان واجبا لما صح النهي عنه يقول: الواجب غير منهي عنه فليس بواجب، وأجيب بأن ذلك في الشك المطلق، وهو في الآية مقيد بشيء خاص.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى... (١٨)﴾
مع قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) متناقض والجمع بينهما بوجهين: إما بتساويهما، وإما بأن أحدهما عام مخصوص.
قوله تعالى: (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ).
[لم يقل*] (على الله)، مع أنه المناسب في الآية، فالجواب أن عصيان المحسن إليك أشد وأشنع من عصيان العادل فيك، [فالعرض*] على من أسأت إليه، وهو يحسن إليك أشد بأسا من العرض على من أسأت إليه وهو يعدل فيك.
قوله تعالى: ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا... (١٩)﴾
فسر ابن عرفة بوجهين: إما ويبغون العوج فيها، أو ويبغون العوج لغيرهم؛ وهو إبعاده عنها، وقال ابن عطية (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) أي يطلبون الوصول إليها بطريق وهو قولهم (مَا نَعْبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ... (٢١)﴾
أي خسروا نجاة أنفسهم وهذا مثل ما قالوا في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) إلى قوله (ثُمَّ أنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) فيه الإنباء بما يأتي، أو التهكم بما يأتي؛ لأنه يأتي بلفظ يستدل به على ما يأتي بعده؛ فلذلك قال عبد الله بن سعد بن أبي سرح (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) قيل له: كذا [نزلت*] فارتد عن الإسلام ثم أسلم [وحسن*] إسلامه.
قوله تعالى: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
تأسيس والمراد أن الإنسان في الدنيا إذا نالته مشقة فإنه تأتيه أصحابه وأقاربه فيسألونه ويصبرونه، ويأخذون بقلبه، وهؤلاء في الآخرة يذهب عنهم جميع من كانوا يعتقدون أنه ينفعهم.
قوله تعالى: ﴿وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ... (٢٣)﴾
هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنهم إذا تضرعوا إليه مع استحضارهم رحمته ورأفته عليهم فأحرى مع استحضارهم قهره وعذابه، قيل لابن عرفة: ذكر في فريق الكافرين لازم الجزاء، وذكر هنا نفس الجزاء، فقال في الأول (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يقل (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ)، ولم يقل في الثاني (أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فأجيب بوجهين:
الأول: أن في الآية حذف المقابل؛ أي وهم أصحاب النار، وفي الثاني (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهم المفلحون.
الثاني: أن مقام التخويف يكتفى فيه.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ... (٣٤)﴾
احتج هنا المقترح لأهل السنة في أن الله تعالى يخلق الخير والشر ويريدهما، وأجيب بما قال ابن الأثير من أن ملازمة الشيء للشيء لَا تدل على وقوعه ولا على إمكان وقوعه حسبما تقدم في قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا)، وتقدم الرد عليه بأن سياق الآية يدل على ذلك لأنها سيقت للمدح؛ وذلك دليل على الوقوع ولذلك هذه سيقت للذم فتدل على الوقوع، وأجاب بعض الطلبة بأن الشرط الثاني جواب للشرط الأول، والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، ونصحه وعدم نصحه واقع فوقوع الجواب يدل على وقوع الشرط، ورد ابن عرفة بأن الشرط ملزوم وجوابه لازم، ولا يلزم من وقوع اللازم وقوع ملزومه بوجه؛ بل يقع وقد لَا يقع.
قوله تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا... (٣٧)﴾
جمع الأعين، وقال في طه (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَينِي) فأفرد الجواب أن الفلك هنا حفظ لنوح ولقومه، فلذلك جمع الأعين والحفظ في طه لموسى فقط.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا... (٤١)﴾
الضمير عائد على نوح أو على الله وما قبله يدل على أنه لله تعالى، لقوله (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا) ويكون التفاتا بالخروج من التكلم إلى الغيبة، وما بعده يدل على أنه لنوح لقوله (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، فإن قلت: المناسب هنا وصف القهر والغلبة، قلنا: وصف الرحمة أنسب لأنه نسب نوحا إلى عمل السفينة لينجو فيها هو وقومه.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢)﴾
ولم يقل: مع المغرقين إشارة إلى أن من له عقل وهمه ينبغي أن يكون تحفظه على صون نفسه؛ لأن حفظ الأديان له من حفظ النفوس، وذكر هنا الزمخشري وابن عطية أن هذا الولد لم يكن ابن رشد، وإنما كان ابن زنا، قال ابن عرفة: وعادتهم ينكرون هذا فإن الأنبياء معصومون من أن ينسبوا لأنفسهم ما ليس لهم، قال: والدليل على ذلك قوله في سورة التحريم (فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) فدل على أنه طلب نجاة زوجته من العذاب، فلم يسعف بمطلبه، فهو بريء من ذلك، ولو كان له في ذلك من ذلك ذنب لما كان في [وسعه*] أن يطلب نجاتها من العذاب.
قوله تعالى: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ... (٤٣)﴾
قال ابن عرفة: هذا على أسلوب المنطق من أن [الموجبة*] الجزئية ترتفع بالسالبة الكلية، قال: ويعصمني إنما هو بمعنى يحفظني، وإن [**جعلنا بمعنى] فيرد فيه إشكال وهو أن المتبادر للفهم إن كان يقال [**بمنع العاصم؛ لأنه هو الذي يتضرر بالماء، ويتسبب فيما يمنع العاصم أن يضره].
قوله تعالى: (لَا عَاصِمَ الْيَومَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ).
استثناء إما منفصل أو متصل؛ فإن كان المراد لَا معصوم؛ أي لأن العصمة [... ].
قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ).
[لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله*] (١)، وإما أن المراد إلا الراحم، والراحم هو الله تعالى لَا غيره، وجعله ابن عطية مستثنى من المفهوم فهو، كما يقول الزمخشري: مستثنى من أعم الأعم؛ لأن نفي العاصم يستلزم نفي المعصوم باستثناء المرحوم من رحم لازم لَا بها، وقيل: إنه استثناء منقطع، قال: وعادة الطلبة يقولون: جاء الحكم في زيادة لفظ اليوم مع أن العاصم من أمر الله منفي مطلقا، قال: فمفهومه أنه موجود في غير ذلك اليوم، قال: وأجيب بأنه مفهوم موافقة؛ لأن الإنسان ما يطلب على العاصم والمنجي إلا عند نزول الشدائد به والمصائب، أما إذا كان بمنجاة منا فلا يطلب عليه بوجه فإذا انتفى العاصم حالة الحرص على طلبه والحاجة إليه فأحرى أن ينتفي حالة عدم الحرص على طلبه والبحث عنه.
قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ... (٤٤)﴾
(١) العبارة في المطبوع غير مفهومة، ونصها "أي ذو لبن وذو تمر" والمثبت من الكشاف. اهـ
والماء فيها الجلال في إيضاح بيانه، ابن عرفة: وعادتهم يوردون فيها سؤالا وهو أن العادة المألوفة في الأراضي أن الإنسان يشتغل أولا بدفع الماء الوارد عليها قبل اشتغاله بزوال ما حصل فيها، وجاءت الآية على العكس، وأجيب بوجهين:
أحدهما: أن الماء كان يطلع من الأرض مثلما ينزل من السماء فهو أكثر لأن الأرض فيها ما فيها وما في السماء.
الثاني: أن المقصود حصول استقرار السفينة فكان الأهم البداء بالأرض التي تستقر فيها إذا بلغت ماءها، قال: وكان بعضهم يقول إن في الآية اللف والنشر، فقوله (وَغِيضَ الْمَاءُ) راجع لقوله (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي).
قوله تعالى: ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي... (٤٥)﴾
ابن عرفة: هذا السؤال بعد وقوع ما وقع إنما هو ليبين له فهم ما وقع عنده فيه وهمٌ وإشكال، وأورد الزمخشري هنا سؤالا، قال: كيف عطف هذا بالفاء مع أن الجملة الثانية في معنى الأولى؛ فالمناسب فيها الوصل لَا الفصل؟ وأجاب بأن المعنى أراد النداء (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) فهو من عطف المسبب على السببية ولو أراد النداء نفسه؛ لجاز بغير عطف كقوله (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) ابن عرفة: وكان بعضهم يقول في هذا بإن كان النفع بالنداء راجعا للمنادي فإِنه لَا يؤتى فيه بحرف العطف ولا بلفظ قال، كقوله تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا)، وإن كان النفع راجعا للمنادي؛ فإن لم يَكن فيه بعد وغرابة فإنه يؤتى فيه بقال دون حرف العطف، كقوله (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) إذ لَا غرابة في تضرع المخلوق للخالق، وإن كان فيه بعد وغرابة فإنه يؤتى فيه بقال مع حرف العطف، فهذه الآية إشعار بأن هناك مقدر؛ أي ناداه وخشع له وأظهر الذلة والافتقار (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي).
قوله تعالى: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي).
[على*] معنى مقدمتين، أي وكل أهلي ناج بوعدك الحق الصدق فإنني ناج، قال: وكان بعضهم يقول: في الآية حجة للمعتزلة القائلين بأن الأمر يستلزم الإرادة؛ لأن قبلها (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) ففهم نوح عليه السلام من أمره له بحمل أهله وعده له بسلامة من يحمله معه، فدل ذلك على أن الأمر يستلزم الإرادة إذ لو لم يستلزمها لما قال نوح (وَعْدَكَ الْحَقُّ) وأجيب بأنه إنما فهمه من القرائن
الحالية لَا من لفظ الأمر، وأخطأ ابن عطية هنا في أمرين؛ أحدهما أنه قال: وقرأ بعضهم (٤٦) [(إنهُ عَمِلَ غَيرَ صَالِحٍ) *] وهي قراءة الكسائي: [وروت*] هذه القراءة أم سَلمة وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وضعفها الطبري وطعن في الحديث؛ لأنه من طريق شهر بن حوشب، قال ابن عرفة: فتح الميم غير متواترة وهذا خطأ، الثاني: قوله في ولد نوح [إنه ليس*] يؤكده، وأن امرأته خائنة فيه، وأخطأ أبو حيان وقال: قرأ حمزة والكسائي (تَسْأَلَنِّ) بالنون والياء وليس [كذلك*]. إنما قرآ بالنون لا غير*] (١).
قوله تعالى: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)
وقال في سورة الأنعام (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وتكلم عليها ابن عطية هناك، وتقدم لنا نحن الكلام عليها بما فيه كفاية.
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ... (٤٧)﴾
ابن عرفة: كان بعضهم يقول: معناه أن أسألك ما ليس لي به علم بإباحة السؤال عنه، ولا يسأل الإنسان إلا عن ما ليس له به علم، وقال (إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) بلفظ المستقبل، وكذلك في سورة قد أفلح (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)، وقال في سورة الدخان (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) بلفظ الماضي، فكان بعضهم يقول: حكمة ذلك أنه إن كان المستعيذ تقدمت منه حالة منافية لحالة الاستعاذة؛ فيؤتى بفعل الاستبعاد مستقبلا، ونوح عليه السلام تقدم عنه السؤال، وموسى عليه السلام ينتهي عنه سؤال.
قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ).
قال أكثر النحويين على أن حتى حرف غاية، وأن الغاية لازمة لها مطلقا، وقال ابن خروف في شرح سيبويه، قوله تعالى: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الزوج يطلق على الذكر وحده وعلى الأنثى وحدها، لقوله تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)، ولو كان إنما يطلق على مجموع الزوجين لقال أربعة أزواج، وقدم الحيوان غير العاقل على الأهل؛ لأنه أقل لهم قدرة على القيام بأنفسهم بخلاف غير العاقل.
(١) في نسبة هذا الكلام إلى أبي حيان نظر.
وهذا نص في البحر المحيط هكذا:
"وَقَرَأَ الصَّاحِبَانِ: تَسْأَلَنِّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَكْسُورَةً، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ أثبتوا الياء بَعْدَ النُّونِ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِهَا مَفْتُوحَةً وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تَسَالْنِي مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، مِنْ سَالَ يَسَالُ، وَهُمَا يَتَسَاوَلَانِ، وَهِيَ لُغَةٌ سَائِرَةٌ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهَا، وَأَثْبَتَ الْيَاءَ فِي الْوَصْلِ وَرْشٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ". اهـ (البحر المحيط. ٦/ ١٦٢).
قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ).
نص ابن عصفور على أنه لَا يجوز استثناء المجهول، فلا يقول: قام القوم إلا رجال، وأجيب بأن من سبق عليه القول مجهول الذات، معلوم الوصف، كما نقول: قام القوم إلا الغفلاء.
قوله تعالى: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا).
ابن عرفة: على مقتضى تركيب هذه الآية يكون قول القائل: بسم الله عند أكله مريدا به آكل بسم الله أبلغ من قوله: بسم الله يريد به أبدأ بسم الله؛ لأنه في الأول ناله بركة التسمية في جميع الطعام، وكذلك اقتضت [أن اسم الله*] مصاحب لها في [الطعام*] من أوله إلى آخره.
قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ... (٥٢)﴾
قال ابن عطية: الاستغفار طلب [طلب المغفرة، وقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة]، وهذه أحواله يمكن أن تقع من الكافرين، فكأنه قال لهم: اطلبوا غفران الله بالإنابة، وطلب الدليل في [نبوتي*] ثم توبوا بالإيمان من [كفركم*]، ثم تكلم ابن عطية بكلام كثير، ورده ابن عرفة: بأن التوبة من الكفر لَا يحتاج فيها إلى الندم على الكفر بوجه مغفور له كلما سلف فيه؛ لأن الإسلام يجبُّ ما قبله؛ بخلاف التوبة من المعاصي فإنها مظنونة فلا بد فيها من الندم على ما فات.
قوله تعالى: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا... (٥٥)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يأخذ منه أنه أعم بالمعجزة؛ لأنه أمرهم بأن يكيدوه فلم يقدروا مع أن الجماعة إذا اجتمعوا على الواحد يغلبونه من غير كيد فأحرى مع الكيد.
قوله تعالى: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا... (٥٦)﴾
قال ابن عرفة: هذا من العام الباقي على عمومه، قيل له: إن الناموس والنحلة وغيرهما لَا ناصية لها، فقال: ناصية كل شيء بجنسه، أو ليس المراد حقيقة الناصية بل المراد القدرة على الأشياء والاستيلاء عليها.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ... (٥٧)﴾
أورد الزمخشري هنا أن الجزاء متأخر عن الشرط مع أن التولي متقدم في الآية على التبليغ، وأجاب بأن المراد: فإن تولوا فلا حرج لأني قد أبلغتكم، قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بوجهين:
الأول: أن ذلك إنما هو في الأمر البسيط والتبليغ مركب [فالتبليغ*] متقدم على التولي أو بعده؛ فإن قلتم: إنه [منفي*] قبله فلا فائدة لنفيه بعده، وإن قلتم: إنه مثبت قبل التولي خالفتم الإجماع إذ هو منفي عنه بالإجماع فلا يزال السؤال واردا.
قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)﴾
قال ابن عرفة: دخلت كل على جبار، ولم يقل: اتبعوا كل أمر جبار عنيد، هذا هو الصواب؛ لأن المراد أنهم اتبعوه فيما فيه مخالفة للشرع فلم يتبعوا كل أمره.
قوله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا... (٦١)﴾
ثم قال (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عطف استغفروه بالفاء، والتوبة بـ ثم؛ لأن الاستغفار طلب ودعاء، والطلب لما يحتاج فيه الإنسان إلى تردد لَا إلى تأمل، والتوبة فعل، والفعل لَا يقدم عليه الإنسان إلا بعد تأمل وتدبر.
قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ).
ابن عرفة: إن قلت كان الأصل أن يقول: أرأيتم إن كنت على بينة من ربي فيستحيل رجوعي عنها لأن من فهم المقدمتين والنتيجة حصل له علم ضروري بمعلوم يستحيل زواله عقلا، فالجواب أن الدليل البرهاني لَا يجادل به العوام؛ فأتاهم بما يفهمونه وهو الدليل الخطابي.
قوله تعالى: ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا... (٦٢)﴾
أخذوا منها أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، قال: لأنه قال لهم: اعبدوا الله، فأجابوه بأنه نهاهم عن عبادة غيره إنكارا عليه، وأجيب بأن النهي راجع لقوله (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي... (٦٣)﴾
هذا الخطاب على سبيل التلطف؛ لأنه لو قال لهم: إنك على بينة من ربي لعائد وإن لم يرجعوا لقوله، وخاطبهم بـ[إن*] المقتضية للشك؛ لأنهم خاطبوه أيضا مخاطبة الشاك من ثلاثة أوجه:
أحدها: خطابهم له بلفظ الرجاء، والثاني: قد المقتضية للتوقع مع الماضي دون التحقيق، فقالوا: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا)، والثالث: قولهم (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ابن عرفة: الريب أخص من الشك فلذلك وصف به، قلت: وانظر ما تقدم في براءة في قوله تعالى: (وَارْتَابَت قُلُوبُهُمْ).
قوله تعالى: (فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ).
إما أن المراد غير خسارة تنالكم وعدم إيمانكم بلحوق العذاب بكم، والإهلاك وصل فيَّ بالغمِّ اللاحق لي بسبب كفركم، أو يراد الجميع؛ أي خسارة لي ولكم.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ... (٦٩)﴾
قال ابن عرفة: قالوا [سلام الملائكة بليغ من جهة المصدر*]، وسلام إبراهيم بليغ من جهة إتيانه معبرا عنه بالاسم دون الفعل، والاسم يقتضي الثبوت واللزوم، ولذلك قال الشاعر:
[لَا يأْلَفُ الدرْهَمُ المَضْرُوبُ صُرّتَنا... لكنِ يمُرُّ عَليها وَهْوَ مُنْطَلِقُ*]
وكان بعضهم يقول: إنما إلى سلام الملائكة بالفعل، وسلام إبراهيم بالاسم من ناحية أن سلام الأشرف بعيد على المشروف فما يتوهم عدم وقوعه بالفعل المقتضي للوقوع والتجرد، وسلام المشروف على الأشرف لَا يستغرق وقوعه، وإنما يتوهم فيه عدم الدوام بحصوله ثابت في الذهن؛ وإنما المتوهم انقطاعه وعدم دوامه فعبر عنه بالاسم المقتضي للثبوت واللزوم دائما، وقيل لابن عرفة: هذا على القول بأن الملائكة أشرف من الأنبياء، فقال: وإذ قلنا إن الأنبياء أشرف؛ فسلام الملائكة مما يستغرب؛ لأنه من سلام الجنس على غير جنسه، أما الرد فلا يستغرب، وانظر ما تقدم في أول سورة الفاتحة، وفي سورة الأنعام قوله (فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).
قوله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا).
قال ابن عرفة: جرت عادة المفسرين في القرآن إما تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لتخويف الكفار وزجرهم لما جرى لمن قبلهم.
قوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
إشارة إلى كمال افتقارهم؛ لأن الإله هو المفتقر إليه، وقولكم له (لَكُم) إشارة إلى عدم استقلالهم، وكمال احتياجهم إليه.
قوله تعالى: (أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).
362
قال الزمخشري: أنشأ آباءكم.
وقال الفخر: أنشأنا من المني، والمني من الدم، والدم من الأغذية، والأغذية من النبات، والنبات من الأرض. قال ابن عرفة: وهذا أحسن ولا يحتاج فيه إلى إضمار.
قوله تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ).
إما بمعنى أنه أعمركم، وإما من العمر أي أبقاكم فيها، أو جعلكم معمرين غيركم أي [**قصور الجنة]، ورده بأنه ليس في هذا نعمة، والآية خرجت مخرج الامتنان.
قوله تعالى: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ).
عطف استغفروه بالفاء للسبب؛ أي استغفروه بسبب هذه النعم، وعطف توبوا بـ ثم لأن الاستغفار دعاء وطلب والتوبة فعل، والإنسان ما يحتاج في المطلب إلى تروٍّ، وأما الفعل ولاسيما التوبة فإِنه لَا يقدم عليها حتى يتروى ويفكر.
قوله تعالى: (مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا).
قلت لابن عرفة: إن كان المراد به الزمن القريب من الحال فلا فائدة، فيدفع قوله (قَدْ كُنْتَ)، وإن أراد البعيد فذلك مناقض لمعنى قد، فقال: أتى به ليفيد أنه في الحال غير مرجو.
قوله تعالى: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ).
قال ابن عرفة: وذلك أن الإنسان إذا حصلت له [... ] يستحيل له [العلم الضروري*] الذي يستحيل زواله عقلا؛ بخلاف غير هذا، فإن الإنسان قد يكون يشرب الخمر ثم يتركه، ويكون يزني ثم يتوب، وصالح عليه السلام قال (إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) قول يقال: كان الأصل أن يقول: إن كنت على بينة من ربي فيستحيل رجوعي عن ذلك؛ لأنه من الأمر الضروري الذي يستحيل زواله، فأجاب ابن عرفة: بأن الدليل البرهاني لَا يخاطب به العوام، فأتى بالدليل الخطابي، لأنه هو الذي يفهمونه.
قوله تعالى: (لَكُم آيَةً).
قال: آية حال، والحال من شرطها عند ابن عصفور الانتقال، وهذه ليست إلا آية، فأجاب بوجهين:
363
الأول: أن ابن هشام في شرح [الإيضاح*]. نص على عدم اشتراط الانتقال فيها.
والثاني: أنها مثل خلق الله [زيدا أزرق]؛ لأن الناقة من حيث هي يمكن أن تكون آية، [أو لا*].
قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ).
راجع لقوله تعالى: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ).
قوله تعالى: (الْعَزِيزُ).
راجع لقوله (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) لأن الخزي يستلزم الإذلال والإهانة وذلك ضد العز، وعبر بالديار هنا لأن الصيحة صوت عام ليخص كل واحد في خزيه على حدته والرجفة حركة يقال بجميعهم، ولا يتخلف بل هي في حقهم واحدة.
قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا).
شبه حالهم بعد الهلاك بحالهم قبل وجودهم، والوصف الجامع بينهم هو قوله تعالى: [(أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) *] قال أبو طالب في القوت: إن البعد من الله أشد من العقوبة بعذابه، واستدل بأن قصة صالح وقصة هود محتجا بهما، فقيل: ألا بعدا لعاد قوم هود ألا بعدا لثمود.
قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا)
قيل: الظاهر أن اللام جواب قسم، وظاهر كلام الفخر أنها لام الابتداء، وهو غير صحيح؛ لأنها مع قد.
قوله تعالى: (رُسُلُنَا).
قال [الفخر: الصحيح أنهم ثلاثة لأنه المتعين*]، قال ابن عرفة: بل الصحيح أنهم اثنان؛ لأن أصل الجمع على أحد القولين؛ اثنان فهو يفيد الاثنين على كل مأول.
قوله تعالى: (قَالُوا سَلَامًا).
قال السكاكي وغيره من البيانيين: سلام إبراهيم أبلغ لأنه بالاسم والآخر بالفعل، فرده ابن عرفة بأن سلام الملائكة مؤكد بالمصدر فهو أبلغ؛ فصار كقوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، وأجيب بأن المصدر إنما يؤكد
364
الفعل المتقدم، والفعل يقتضي التجدد فأكده وبقي على ما هو عليه من اقتضائه التجدد، ورده ابن عرفة بأن قام زيد قياماً أبلغ من زيد قائم، قلت: وهنا ذكر أبو المطرف ابن عمير كلام السكاكي وهو أن الفعل يقتضي التجدد، والإخبار بالاسم يقتضي الثبوت، قال: هذا الرأي غريب ولا مستند له بعلمه إلا أن يكون قد سمع أن في مقولة أن يفعل وأن لَا يفعل، هذا المعنى من التجدد بحسب هذا الفعل القسيم للأسماء فذهب في غير طريق، ثم قال بعد كلام طويل: إن الثبوت صفة لَا بد لها من محل ومحلها السلام إذ هو الثابت، فهذا السلام إن كان المراد به المنطوق به المسموع بالصوت والحروف فقد تساوت السلامات في الحدوث؛ بل سلام الملائكة أسبق، وإن أراد به الكلام النفسي فقد تساوى أيضا في الشعور بدونها أن الإعراب هنالك، وإنما الإعراب للألفاظ المسموعة والمكتوبة، قال ابن عرفة: وهذا كلام في غاية الضعف، وعليه كان الفقيه أبو الطيب الفزاري: قال لي: لو مكني جمع نسخ ابن عميرة كلها لأحرقتها، وتعقبه عليه في قوله: إن الإخبار بالاسم يقتضي الثبوت غير صحيح.
قال الزمخشري: ذكره في قوله هذه السورة (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)، فانظر تجده فيه مستوفى، وذكر أيضا الزمخشري نحوه في أول سورة إبراهيم في قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَاب شَدِيدٍ)، وذكره أيضا الزمخشري في سورة الفاتحة في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
قوله تعالى: (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).
قلت له: لَا يصح أن يكون ما موصولة بمعنى الذي؛ لأنكم قلتم: إن المراد هنا إبراهيم فلا يصح أن يقع إلا بها ما لَا يعقل، فإِن قلتم: المراد بها العجل فأين العائد، فإِن قلتم: العائد الذي في لبث، قلت: اللبث من صفة إبراهيم لَا من صفة العجل.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ... (٨١)﴾
قرأ بالرفع والنصب، قال أبو عبد الله: ولو قرئ: ولا يلتفتُ برفع الفعل لصح رفع امرأتك ولكنه نهي؛ فلو استثنيت منه المرأة للزم إباحة الالتفات إليها فيفسد معنى الآية، قال ابن عطية: هذا مردود فإنه مستثنى من (أَحَدٌ) رُفعت التاء أو جزمت، وأجاب ابن عرفة: بأنه على قراءة الجزم يكون نهيا عن الالتفات؛ فيدل على إباحة ضده؛ بخلاف الرفع فإِنه نفي ونفي الشيء لَا يدل على ثبوت ما عداه بوجه.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا... (٨٧)﴾
ابن عرفة: في الآية دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده؛ لأن الصادر من شعيب عليه السلام هو الأمر بعبادة الله سبحانه، فأجابوه بقولهم (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) فلو لم يكن الأمر بالشيء نهيا عن ضده لكان قولهم غير مطابق.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا... (٩٤)﴾
قال ابن عرفة: [إن قيل لأي شيء جاءت هذه الآية بالفاء في قصة هود عليه السلام*]؟ قالوا: قيل: لما [سيقت*] هذه الآية عقب ذكر الوعد، ناب الإتيان بالفاء المقتضية للتعقيب والإيجاز بخلاف الأخرى، وقال بعضهم: لما كان الوعد سببا في الإتيان بالموعود ناسب الإتيان بالفاء المقتضية للتسبب، وأما الآية الأخرى وهي آية هود عليه السلام فليس فيها ذكر الوعيد فجاءت على الأصل، والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)﴾
قال ابن عرفة غير منقوص تأسيس لَا تأكيد؛ لأن قولك: أوفيت زيدا حقه محتمل أن يكون أوفيته إياه منقوصا أو غير منقوص.
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ... (١١٢)﴾
الكاف إما للتعليل أو للسببية على أن ما موصولة والعائد محذوف؛ أي كما أمرت به، كقول الشاعر:
نُصَلِّي لِلَّذي صَلَّتْ قُرَيْشٌ... وَنَعْبُدُهُ وَإِنْ جَحَدَ العُمُومُ
أي صلت قريش له، وعلى الأول تكون مصدرية، انتهى ما تقدم لابن عرفة فيها، وفي هذه الختمة قلت: وقدمت عنه في الختمة الأخرى أن ما مصدرية.
قوله تعالى: (استَغفِرُوا رَبَّكُم).
أضاف الرب إليهم، ثم قال (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) فأضافه إلى نفسه؛ لأن الأول طلب فناسب إضافته إلى وصف الربوبية المقتضي لرأفة المطلوب وضآلته على الطالب، ولا يقتضي حصول المطلوب، والثانية خبرية تقتضي حصول المخبر به؛ لأنها سبقته وحصول الرحمة من الله خاصة لشعيب، ولم يحصل منه لقومه؛ فلذلك أضاف الرب إليه فقط.
قوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
366
قلت لابن عرفة: هلا قال إن مولاي بما تعملون محيط؛ لأنه لفظ يدل على القهر؟ فقال: من نصرك على عدوك فقد رحمك برحمته لشعيب.
قوله تعالى: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ).
قالوا: المراد جميع بنات آدم، وقيل: المراد بنات لوط عليه السلام؛ فأورد على هذا أنه لم يكن له غير ابنتين فقط، وقد قال: (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) فكيف يعطي ابنتيه للجميع؟ فأجاب ابن عرفة بأن كلام لوط مع الأشراف الحاكمين على قومه، [ولم يخاطب بقوله*] (هَؤُلاءِ بَنَاتِي).
قوله تعالى: [(فَأَسْرِ).
قرئ [فاسر*] من [سرى*]، و (فأسر) من [أَسْرى*]، فقيل: ما الحكمة في قوله: (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) دون في والسري لَا يكون إلا بالليل؟، فقال: ظاهر لفظ السري أنه في أول أزمنة الليل، فقال: يقطع من الليل ليفيد التوسعة، فإِنه لو سرى قبل انقضاء آخر أزمنة الليل لعد متمهلا.
قوله تعالى: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ).
قرئ بالرفع بدل من أحد، قال ابن عطية: بل يلزم على القراءتين معا.
قال ابن عرفة: وهذا عندي غير صحيح؛ لأنه على قراءة الجزم يكون نهيا عن الالتفات والنهي عن الشيء يقتضي الإذن في ضده، بخلاف ما لو قرئ بالرفع فإِنه يكون خبرا منفيا، ونفي الشيء لَا يقتضي ما عداه، قال: إنه مثل قولهم: لَا لنهي لوط أي لَا تدع أحد منهم يلتفت، وحينئذ يصح الاستثناء ولا سؤال.
قوله تعالى: (وَاسْتَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ).
قال: لم أضاف الرب إليهم أولا ثم إليه ثانيا؟، فالجواب: أن الجملة طلبية فهو طلب منهم الاستغفار فناسب وصف الربوبية المقتضية للحنان والرأفة على طلب ذلك، والطلب لَا يقتضي حصول الجملة، والجملة الثانية خبرية تقتضي حصول المخبر به لأنها مثبتة [... ] لهم من الله رأفة ولا حنان فناسب إضافة الرب إليه في الخبر، وإضافته إليهم في الطلب [... ] لَا يقتضي حصول المطلوب؛ لأن الإنسان لا يطلب إلا ما لم يكن له حالا وقد يطلب ولا يحصل له شيء.
367
قوله تعالى: (أَعَزُّ عَلَيْكُم مِنَ اللَّهِ).
قلت: [دليل*] على تفضيلهم رهطه عليه وهو بعيد. [... ] العزة مطلقا، كقولهم (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا) فهلا وبخهم على سلبهم عنه مطلق [العزة*] لا على سلب الأفضلية في العزة مطلقا.
قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى).
أي من أنباء أهل القرى، قيل: إنه من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والبناء أخص من الجر، والجر الذي فيه غرابة، فقال المشاهد: هي القرى لأن أهلها دبروا وانعدموا.
قوله تعالى: (مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ).
قال أبو البقاء: ومنها حصيد، قال ابن عرفة: لم احتاج إلى تقدير ومنها؛ فجعله من عطف الجمل، وهلا عطفه على قائم لكون المعنى أن منها قائم وحصيد فيبقى البعض الآخر غير مخبر عنه بشيء، قوله تعالى: (مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى) ولم يقل: من أنباء أهل القرى؛ لانعدامهم والشاهد إنما هي محالهم.
قوله تعالى: (فَمَا أَغْنَت عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ).
يؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر في جميع أحواله وحي الله.
قوله (وَمَا زَادُوهُم غَيرَ تَتْبِيبٍ) من تأكيد الذم بما يشبه المدح، قيل:
هو الكلبُ إلاَّ أنَّ فيه ملالةً... وسوءَ مراعاةٍ وما ذاكَ في الكلبِ
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ... (١٠٢)﴾
شبه إهلاكه كل القرى الظالمة بإهلاكه هذه القرى، فهو شبيه الكلي بالجزئي لا يشبه الشيء نفسه.
قوله (زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦).. الزمخشري: الزفير إخراج النفس، والشهيق رده، قال الشاعر يصف حمارا:
بعيدُ مَدَى التَّطْرِيبِ أوّلُ صَوْتِهِ... زفيرٌ ويتلوه شهيقٌ محشرج
ابن عرفة: لأن الحمار في أول نهاقه ينتج ألقاب القديم تصح عند رفع النفس.
قوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ).
قيل: متصل، وقيل: منفصل، وقيل: ليس باستثناء، والقائلون بالاتصال اختلفوا، فقيل: أنه مستثنى من الأزمنة، والمراد أن أهل الشقاوة خالدون في جهنم أبدا إلا في بعض الأزمنة التي شاء وهذا يتناول الكافر [والعاصي*]، خرج الكافر بالإجماع؛ لأن العاصي هذا على مذهب أهل السنة في أن العاصي غير مخلد في النار، وقيل المراد به التي صح وهو ما بين الوجودين، وقيل: المراد زمن الحشر، وهذا لَا يصح؛ لأن زمن الحشر لَا يدخل في المستثنى منه؛ لأن المستثنى منه إنما يتناول زمن الخلود في النار فما بعده، وقال الزمخشري: المراد به الانتقال من العذاب بالنار إلى العذاب بالزمهرير ورد الزمخشري على أهل السنة بقوله تعالى: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقال في مقابله (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) فمعناه أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العقاب كما يعطي لأهل الجنة عطاء الذي لَا انقطاع له، وأجاب ابن عرفة: بأنه جعل المراد الاستثناء الأول زمان الزمهرير فقد بأن انقطاع العذاب بالنار عنهم، وأن الخلود فيها غير محمول على ظاهره.
قال [الزمخشري: وما ظنك بقوم [نبذوا*] كتاب الله لما روي لهم بعض [النوابت*] عن عمرو بن العاص "ليأتي على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد"]، ابن عرفة، عن الجوهري: [النوابت*] هم [مِنَ الأَحداثِ: الأَغْمارُ*] من الذين، قال: والحديث حملته أهل السنة على الطبقة العليا من جهنم؛ وهي طبقة عصاة المسلمين، ونقل الطيبي، عن ابن الجوزي: أن هذا الحديث موضوع.
ابن عرفة: وهذا عبد الله بن عمرو هو الذي جرت المداولة بينه وبين النبي ﷺ في الصوم؛ لأنه كان صواما قواما، وكان مخلفا على غزوة حنين، يقول: والله ما ضربت فيها بسيف ولا طعنت فيها برمح، وقول [الزمخشري: ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقالته بهما علي بن أبي طالب ما شغله عن سوق هذا الحديث]، يحتمل أنه يريد بسيفيه لسانه وسيفه، أو رمحه وسيفه، والأول أظهر لمصاحبة [... ] الزمخشري هنا على من تقدم وتأخر وأساء الأدب وعبد الله بن عمرو من الصحابة لا ينفي أن يكلم فيه [... ] بخير.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً... (١١٨)﴾
أي لو شاء أن يجعلهم لجعلهم، فالأول راجع للإرادة، والثاني لإظهار متعلقها، ولما تقدمها (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ) وهو [تخليط] لَا يقال: غالب إلا على [... ] التفجع على المقول له، عقبه بهذا إشارة إلى أن الفعل الخير والشر فلولا أردنا ذلك منهم لوقع.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ... (١١٩)﴾
قال ابن عرفة: لَا يقال إنها دالة على عدم وقوع الإجماع لأنا نقول: الاختلاف الذي اقتضت أنه لَا يزال هو في الاعتقاد فمع بعض الأنبياء الشخص الواحد فقط، والإجماع هو اتفاق بعض العصر على الحكم به.
قوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) يدل على وقوع الإجماع؛ لأن المستثنى هم المتقون على كلمة التوحيد.
قوله تعالى: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم).
قال ابن عطية: اللام للصيرورة، أي خلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك وإن لم يقصد بهم الاختلاف، ابن عرفة: هذا اعتزال؛ ولهذا كان ابن عبد السلام يحذر منه ويقول إنه يضعفه في أصول الدين، فنقل أمورا عن الرماني وهو معتزلي فيعتزل من حيث لا يشعر، والحق أن الله تعالى أراد الخير والشر.
قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ).
ابن عرفة: يرد هنا على ابن التلمساني في تعقبة قول الفخر باللفظ، إما أن يعتبر بالنسبة إلى تمام مسماه، وهو المطابقة بأن التمام يشعر بالتركيب لاستحالة التركيب في كلمة اللَّه، فما معناه إلا الفراغ والاقتضاء، لحديث: "هو العلم وفرع ديننا فيما كان وفيما يكون".
قوله تعالى: ﴿نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ... (١٢٠)﴾
أي قلبك، واختلفوا في العقل هل محله الدماغ أو محله القلب؟ قلت: قال ابن رشد في المقدمات في آخر كتاب الجراحات: ذهب مالك إلى أن محله القلب وهو مذهب المتكلمين من أهل السنة، وذهب ابن الماجشون إلى أن محله الرأس وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الاعتزال.
ابن عرفة: وثمرة الخلاف لو أوضح رجل موضحة ذهب بها عقله فعلى القول أن محلها الدماغ تكون فيه دية موضحة خاصة، وعلى القول بأن محله القلب يكون عليه ديتان؛ لأن مالكا قال: في العقل الدية.
قوله تعالى: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ).
ابن عرفة: الذكرى سبب في الموعظة إذ لَا يتعظ الإنسان حتى يتذكر، والأصل تقديم السبب، فالجواب: أن الوعظ للنبي صلى الله عليه وسلم، والذكرى للمؤمنين فاختلف بالمتعلق.
قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ... (١٢١)﴾
إن قلت كيف يخاطب من لَا يؤمن في المستقبل وهو لَا يعلم ذاته؛ لأن قلنا: يخاطبه باعتبار وصفه، فيقول لهم: من يكثر منكم فليعمل على مكانته من النار، وقدم العمل إذ هو سبب في الانتظار. لأنه يعمل وينتظر عاقبة أمره في عمله من خير أو شر.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ... (١٢٣)﴾
[فيها رد على المنجمين*]؛ لأن الغيب هو ما لم ينصب عليه دليل وهم يسندون فيها أحكامهم إلى الدليل، وقال ابن رشد في المقدمات: إن معرفة الكسوفات لا يستثنى منها، وكذلك معرفة الأهلة وليست من الغيب في شيء، يؤخذ من الآية أن الولي لَا يطلع على الغيب، وما يخبر به إنما هو ظن كما أخبر أويس القرني ابن عمران، أو كان نقلا عن مالك كما يخبر كثير ممن رأى الخضر، ونقل الزمخشري هنا حديثا في فضل سورة هود، ابن عرفة: وقال [ابن الجوزي في الموضوعات*]: إن هذه الأحاديث التي في فضائل السور موضوعة والصحيح منها ما نقل في البخاري ومسلم، وكذا قال ابن الصلاح في علوم الحديث، وقال صاحب المنير والتونسي: إنها منتهية إلى رجل سماه [... ]، نفسه أنه وصفها، وكذا قال الحاكم.
Icon