تفسير سورة الإسراء

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الإسراء.
في السورة إشارة إلى حادث الإسراء النبوي، ومجموعة من الوصايا والأوامر والنواهي والحكم الدينية والأخلاقية والاجتماعية، وفيها استطرادات إلى أحداث بني إسرائيل التاريخية، وإلى قصة آدم وإبليس، وقصة موسى وفرعون في معرض التمثيل والموعظة، وفيها حكاية لمواقف الكفار، وعقائدهم، وأقوالهم، وتعجيزاتهم، ومناقشتهم فيها، وتسفيههم، وإشارة إلى محاولات الكفار لزحزحة النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما يدعو إليه ومساواته، وإلى بعض أزماته، وتسليته من جهة، ومعاقبته من جهة ثانية، وحكاية لموقف بعض علماء الكتابيين وإيمانهم بالقرآن، وإشارة بالقرآن في مواضع عديدة، وتنويه بما فيه من حق وهدى وروحانية وشفاء وإعجاز، وفصولها مترابطة، وآياتها متوازنة ومتساوقة، مما يمكن أن يلهم أن فصولها نزلت متلاحقة إلى أن تمت.
وقد روي أن الآيات [ ٢٦ و٣٢ و ٣٣ و ٥٧ و ٧٣ ٨٠ ] مدنيات، وليست الروايات وثيقة السند من جهة، وسياقُ الآيات ومضامينها وتوازنها وانسجامها مع ما سبقها ولحق بها يسوغ الشك في الرواية، ويرجّح مكية الآيات. وللسورة اسم آخر هو " بني إسرائيل "، لأن فيها فصلا عنهم.

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُو السَّمِيعُ البَصِيرُ ١ ﴾ [ ١ ]
سبحان : أوجه الأقوال فيها أنها مصدر سبّح، وهي هنا وفي كل موضع مماثل بمعنى " تسبيحا لله " والتسبيح هو التقديس والتمجيد والثناء.
أسرى : من الإسراء وهو السير في الليل.
عبده : كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
المسجد : مكان السجود والعبادة مطلقا.
المسجد الحرام : مسجد مكة. والجملة تعني حين نزولها المصلى أو الفناء المعدّ لإقامة الصلاة والطقوس حول الكعبة.
المسجد الأقصى : الأقصى بمعنى الأبعد. وقد قصد بالجملة مكان عبادة الله في بيت المقدس، ونعت الأقصى للدلالة على البعد الشاسع بين مكة وبيت المقدس، ثم صار تعبير " المسجد الأقصى " علما على مسجد بيت المقدس الإسلامي بعد الإسلام اقتباسا من الوصف القرآني. وكان قبل الإسلام مكان المعبد الذي بناه سليمان عليه السلام، وكان خرابا حين نزول الآية.
الذي باركنا حوله : ضمير " حوله " راجع إلى المسجد الأقصى. والكلمة تعني بلاد فلسطين التي فيها المسجد، وقد ذكرت آيات سورة الأعراف [ ١٣٧ ] وسورة الأنبياء [ ٧١ ] أن الله بارك فيها.
في الآية تقديس لله تعالى الذي أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة مكان المسجد الحرام إلى مكان مسجد الأبعد في بيت المقدس الذي بارك الله حوله ليريه من آياته ودلائل عظمته، وهو السميع لكل شيء، البصير بكل شيء.
لقد شرحنا بشيء من الإسهاب ما جاء ودار حول حادثي الإسراء والمعراج في سياق تفسير سورة النجم. فلم يبق ضرورة لتكرار شيء من ذلك ؛ إلاّ القول في مناسبة هذه الآية، إن حادث الإسراء النبوي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مذكور بصراحة في القرآن دون المعراج، وإن روح الآية قد تلهم أنه كان بالجسد واليقظة. لأنه لو كان في المنام أو مشهدا روحانيا كما رجحنا أن يكون هذا بالنسبة للمعراج الذي تظاهرت الأحاديث في صدد وقوعه لما ظهرت حكمة ذكره والتنويه به بهذه القوة.
وهناك أحاديث عديدة. منها ما ورد في الصحاح فيها ما قد يكون فيه تأييد لذلك. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس في الحجر، فجلّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه " ١. وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قطّ فرفعه الله لي أنظر إليه. ما يسألوني عن شيء إلاّ أنبأتهم به " ٢. وروى ابن كثير حديثا رواه البيهقي عن عروة عن عائشة قالت " لمّا أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممّن كانوا آمنوا به وصدّقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا : هل بك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس فقال : أو قال ذلك ؟ قالوا : نعم، قال : لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا : فتصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح. قال : نعم إنّي لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك أصدّقه في خبر السماء غدوة أو روحة ". ومما رواه البغوي " أنّه كان لجماعة من قريش عير قادمة فسألوه هل لقيت منها شيئا ؟ قال : نعم مررت على عير بني فلان وهي بالرّوحاء، وقد أضلّوا بعيرا لهم، وهم في طلبه. وفي رحالهم قدح ماء فعطشت فأخذته فشربته ثم وضعته كما كان، فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه، قالوا : هذه آية، قال ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي طوى فنفر عيرهما منّي، فرمى بفلان فكسرت يده فسلوهما عن ذلك، فقالوا : هذه آية. وسأله جماعة عن عيرهم فقال : مررت بها بالتّنعيم. قالوا : فما عدّتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها ؟ فقال : نعم هيئتها كذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشمس. وقالوا : وهذه آية، ثمّ خرجوا يشتدّون نحو الثّنية وهم يقولون : والله لقد قصّ محمد شيئا وبيّنه حتّى أتوا كداء، فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون حتّى تطلع الشمس فيكذبون، إذ قال قائل منهم : والله هذه الشمس قد طلعت فقال آخر : هذه الله الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق. وفيها فلان وفلان كما قال ". ويصح أن نذكر في هذا السياق الحديث المروي عن أم هانئ عمّة النبي الذي ذكرناه في سياق سورة النجم وجاء فيه " أنّه كان في بيتها فافتقدته في فراشه فلم تجده، ثمّ وجدته في الصباح فلمّا استيقظ أخبر بخبر إسرائه إلى المسجد الأقصى ".
ومن الجدير بالتنبيه هنا أيضا أن الأحاديث التي وردت في كتب الصحاح عن الإسراء والمعراج لا تقرن الإسراء بالمعراج. وهذا له مغزى مهم في صدد ما نحن بسبيله. ومن هذه الأحاديث التي أوردنا نصوصها آنفا عن أبي هريرة وجابر ما اقتصر على ذكر الإسراء إلى بيت المقدس فقط.
ومع ذلك فإن الحديثين اللذين يرويهما البخاري عن مالك بن صعصعة وشريك بن عبد الله واللذين أشرنا إليهما في التعليق المسهب في سورة النجم، واللذين يذكران أن الحادث كان في أثناء النوم أو بين اليقظة والنوم مع شقّ بطن النبي وغسله وحشوه والحديث المروي عن عائشة بأن النبي لم يفارق فراشه ليلة الاسراء والحديث المروي عن معاوية بأن الإسراء والمعراج كان في المنام، كل هذا يجعل احتمال الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أيضا مشهدا روحانيا واردا كذلك. ولاسيما أن هناك حديثا يرويه الطبري بطرقه عن أبي هريرة يذكر فيه فيما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أثناء مسراه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو راكب على البراق ومع جبريل جماعات من الناس في أشكال وحالات متنوعة في العذاب بسبب آثام وذنوب اقترفوها، وأنه رأى فيما رأى أثناء هذا المسرى أيضا الجنة والنار وسمع كلاما لكل منهما. وفي هذه السورة آية أشير فيها إلى حادث الإسراء على قول أكثر أهل التأويل بكلمة ( الرؤيا ) وهي هذه ﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس ﴾ [ ٦٠ ] ومع أن أهل التأويل قالوا : إن كلمة الرؤيا تطلق على الرؤيا العيانية أيضا. إلاّ أنها في القرآن لم ترد إلاّ في معنى الرؤيا المنامية فقط كما يستفاد من آيات سورة الصافات [ ١٠٢ ١٠٩ ] وسورة يوسف [ ٤ ٥ و ٤٣ و ١٠٠ ] وسورة الفتح [ ٢٧ ] وإن كان من الواجب أن نقول أيضا إن روح آية الإسراء تلهم أن الرؤيا كانت عيانية ؛ لأنها لو لم تكن كذلك لما ظهر سبب لفتنة الناس بها إذا كانت الكلمة تعني الإسراء.
ويبقى بعد ذلك كله الحديثان الصحيحان اللذان يرويهما جابر وأبو هريرة وفيهما ما كان من سؤال قريش للنبي صلى الله عليه وسلم عن صفة بيت المقدس، ووصفه لهم مما فيه تأييد للرؤيا العيانية وبالتالي لكون الإسراء بالجسد واليقظة حتى ولو أغفلنا الحديث الطويل الذي يرويه البغوي والذي فيه مثل ذلك بتفصيل أوفى على أنه لن يفوتنا أن نذكّر ثانية بأن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح وغيرها يرويها أناس من أهل العهد المدني، وأنه لم يرو شيئا منها أناس من أهل العهد المكي الذين يفرض أنهم كانوا شهود خبر الحادث والذين يفرض أن يكونوا هم الأولى في رواية خبره.
ومهما يكن من أمر، فإن روح الآية ومضمونها يلهمان أن الحادث كان تكريما للنبي صلى الله عليه وسلم بقصد إطلاعه على بعض آيات الله ومشاهد ملكوته أولا. وأنه حادث خاص بمدركات النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به غيره ثانيا. وأنه ليس من قبيل المعجزات التي تظهر على يد الرسل لأجل إثبات صلتهم بالله أو يثبت بها صلتهم بالله. والأولى أن يوقف من ماهيته وكيفيته موقف التحفظ مثل سائر مدركات النبي صلى الله عليه وسلم الروحانية الخاصة على ما نبهنا عليه في سياق سورة العلق والتكوير والنجم والقيامة دون تزيد ولا تخمين مع واجب الإيمان به كحقيقة إيمانية ما دام قد ذكر وقوعه صراحة في القرآن، وإن لم يدرك كنهه مثل الإيمان بالوحي وسائر مدركات النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة التي وردت فيها نصوص صريحة في القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة ومع التسليم بقدرة الله تعالى على كل شيء. والله تعالى أعلم.
ويظل هذا الحادث من الأحداث التي يصح الحفاوة بها من قبل المسلمين مثل ليلة القدر ما دام قد حظي بحفاوة القرآن مثلها. ولاسيما أن ذلك أدى إلى الارتباط الوثيق بين المسلمين والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. وغدت هذه البقاع بالنسبة للمسلمين من البقاع المقدسة المرتبطة بقرآنهم ورسولهم.
ولقد رويت أحاديث نبوية في فضل المسجد الأقصى والعناية به ستأتي نصوصها بعد قليل. وفيها نبوءة نبوية بما صار من أمر المسجد الأقصى الذي لم يكن قائما في حياته، مما فيه تدعيم من جهة وإيجاب على المسلمين بتكريمه والاحتفاظ به والدفاع عنه من جهة أخرى.
تعليق على تعبيري المسجد الحرام والمسجد الأقصى
وفي التعبيران يأتيان هنا لأول مرة. وقد تكرر الأول مرارا، والثاني يذكره للمرة الأولى والوحيدة.
وكلمة مسجد قد جاءت في سورة الأعراف لأول مرة وشرحنا مداها في القرآن مما يغني عن التكرار، والمسجد الحرام كان يعني حين نزول الآية الكعبة والساحة التي حولها التي كان يقام فيها الطقوس والصلاة. وكان العرب يفعلون ذلك قبل البعثة على ما تفيده آية سورة الأنفال هذه ﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية ﴾ [ ٢٥ ] ولقد كان مداها يتسع حتى يشمل منطقة مكة على ما تلهم آية سورة البقرة هذه ﴿ ولا تقاتلون عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ﴾ [ ١٩١ ] وهذه ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ والْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [ ٢١٧ ] ولقد ورد هذا التعبير في أحاديث عديدة منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد الأقصى " ٣. ثم صار يطلق إطلاقا تطبيقيا على الساحة والأواوين المحيطة ببناء الكعبة الشريفة. وكلمة الحرام تعني المحرّم فيه العدوان والواجب الإحرام على ما شرحناه في سياق سورة قريش بما يغني عن الإعادة.
وكلمة ( الأقصى ) بمعنى الأبعد أو البعيد جدا. وتعبير ( المسجد الأقصى ) عنى فيه نزول الآية مكان معبد بيت المقدس الذي أنشأه سليمان على الأرجح على ما شرحناه في سياق سورة ص. وكان المعبد حينئذ خرابا فأطلق التعبير عليه على اعتبار ما كان. وقد ذكر هذا التعبير في أحاديث نبوية، وهو على ما هو عليه من خراب، من ذلك الحديث الذي أوردناه قبل. ومن ذلك حديث رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أهلّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ووجبت له الجنة " ٤. وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " قلت : يا ر
١ التاج ج ٣ ص ٢٣٤..
٢ المصدر نفسه والحجر هو مكان في فناء الكعبة..
٣ التاج ج ١ ص ٢٠٩..
٤ التاج ج ١ ص ٢١٠..
﴿ وآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ألاّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وكِيلاً ٢ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ٣ وقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤ فَإِذَا جَاء وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَّفْعُولاً ٥ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وبَنِينَ وجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ٦ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ ولِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَولَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ٧ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ٨ ﴾ [ ٢ ٨ ]
تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة
في أول هذه السورة
في هذه الآيات إشارة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت على بني إسرائيل نتيجة لبغيهم وفسادهم وانحرافهم واغترارهم، وتقرير لسنن الله الكونية والاجتماعية فيهم :
١ فالله تعالى قد أتى موسى عليه السلام الكتاب، وجعله هدى لبني إسرائيل، ووصاهم بالتمسك به وعدم اتخاذ غيره وكيلا وربّا، ولاسيما أنهم من ذرية نوح ومن نجاه الله معه. وقد كان عبدا شكورا مخلصا لربّه ولهم به الأسوة الحسنة.
٢ ولكنهم نقضوا وصية الله وأفسدوا وتكبروا، فكتب الله عليهم العقاب مرتين فيسلط في الأولى عليهم أناسا أقوياء فيدخلون بلادهم، وينكّلون بهم ثم يتوب عليهم فيعودون إلى قوتهم ويعمرون بلادهم. وينذرهم الله بأنهم إذا أحسنوا سلوكهم وأخلصوا فنفع ذلك يعود عليهم، وإذا أساءوا وغدروا وانحرفوا فضرر ذلك يرجع إليهم حيث تحلّ بهم كارثة ثانية فيدخل الغزاة بلادهم وينتهكون حرمة مسجدهم، ويدمروا ما شادوه وتربدّ وجوههم وتبدو عليها المساءة مما ينزل بهم من النكال والهوان.
٣ وقد أبلغوا أيضا بأن الله ليس من شأنه أن يسدّ باب الرحمة في وجوه عباده وأن من الممكن أن ينالوا رحمته إذا أحسنوا وأخلصوا، ولكنهم إذا عادوا إلى البغي والظلم والكفران فيتكرر نكال الله بهم في الدنيا، وبأنه خصص جهنم للكافرين في الآخرة.
ولقد قال المفسرون١ : إن الآيات جاءت استطرادية إلى ذكر ما آتاه الله موسى من الكتاب ليكون هدى لبني إسرائيل بعد ما ذكرت الآية السابقة ما كان من إسراء الله بالنبي صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته. ولا يخلو القول من وجاهة وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وبهذا تقوم الصلة بين هذه الآيات والآية الأولى من السورة.
والآيات وإن كانت تذكر أن الله تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقووا ويضعفوا مرتين متناوبتين، فإن مما تتحمله العبارة أنها ليست لتقرير الحتمية لمرتين فقط كما أن من الممكن أن يكون المراد بها الإشارة إلى أشد حادثين تاريخيين وقعا أو يقعان عليهم أيضا.
ولقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل قووا وضعفوا وانحرفوا وصلحوا وبغوا وتابوا ونالهم النكال مرارا. ولقد سجل حادثين شديدين غزاهم في أحدهما ملوك الأشوريين سنحاريب وسرجون وأسرحدون في القرن الثامن قبل الميلاد، ونسفوا دولة إسرائيل التي كان مركزها في السامرة وسط فلسطين والتي كانت تحكم معظم فلسطين ونفوا أهلها إلى بلادهم وأسكنوا محلهم مجموعات أتوا بهم منها. وغزاهم في ثانيهما نبوخذ نصر ملك بابل في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد ونسف دولتهم الثانية " يهوذا " التي عاصمتها أورشليم ( بيت المقدس ) كذلك، ونفى أكثرهم إلى بابل بعد تدمير العاصمة والمعبد ونهبهما. وهاتان الضربتان ذكرنا في سفري الملوك الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية والثالث والرابع في الطبعة الكاثوليكية، ثم في سفري أخبار الأيام الأول والثاني في الطبعتين. وكل هذه الأسفار متداولة اليوم. ولقد سجل التاريخ أيضا أنهم ضُربوا بعد هذا بضربتين شديدتين من قبل الدولة السلوقية اليونانية التي حكمت بلاد الشام من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواسط القرن الأول، ثم من الدولة الرومانية التي حكمتها منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد. فقد أعاد ملك الفرس كورش الذي قضى على دولة بابل جماعات من المسبيين في بابل من بني إسرائيل إلى فلسطين فجددوا عاصمتهم ومعبدهم، ولكنهم بطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة فضربتهم ضربة شديدة. وقد قووا بعد ذلك فبغوا وبطروا حينما صار الحكم للدولة الرومانية فضربتهم ضربة شديدة ودمرت عاصمتهم ومعبدهم، وقتلت منهم خلقا كبيرا في القرن الأول بعد الميلاد فتشتتوا وظل أمرهم منتكسا ومعبدهم خرابا، وكان الأمر كذلك حينما نزلت الآيات. والضربتان الأخيرتان ذكرتا في مدونات يهودية ويونانية ورومانية قديمة أيضا٢.
وفي الإصحاح السادس والعشرون من سفر الأخبار ( اللاويين ) تحذير رباني رهيب لبني إسرائيل بأنهم إذا نبذوا وصايا الله تعالى وانحرفوا عن طريق الحق وظلموا وبغوا فيسلط عليهم أعدائهم ويشدد نكاله فيهم كما أن هذا التحذير قد تكرر في أسفار عديدة بعد عهد موسى عليه السلام، مثل أسفار القضاة ونبوة أشعيا ونبوة أرميا ؛ مما فيه شيء من التطابق مع بعض ما جاء في الآيات.
ومهما يكن من أمر، فالمتبادر أن الآيات لا تستهدف بيان الأحداث التاريخية لذاتها، وإنما تقصد إلى تعليل ما وقع على بني إسرائيل وتقرير السنن الاجتماعية فيهم ليكون فيها العبرة والمثل للناس جميعهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهذا شأن القصص القرآنية عامة. واكتفاء الآيات بالإشارة المقتضبة مما ينطوي فيه قرينة على ذلك.
وفي تفسير الطبري والبغوي بنوع خاص وفي غيرهما أيضا تفصيلات كثيرة ومسهبة في صدد الأحداث التي جرت لبني إسرائيل والمشار إليها في الآيات. منها المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في كتب الصحاح، ومنها المعزو إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدي ومجاهد وابن وهب وغيرهم من أهل العلم والتأويل والأخبار في الصدر الإسلامي الأول. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار والمدونات وتأخير ما هو متقدم. مثل كون بختنصر هو ملك فارس وكون الله تعالى قد ملكه سبعمائة عام، وكونه زحف على بيت المقدس وأقام يحاربها مائة عام. وقتله بدم يحيي بن زكرياء سبعين ألفا الخ الخ.
ولم نر طائلا ولا فائدة في إيراد ما أوردوه ولو ملخصا ؛ لأنه غير متصل بأهداف الآيات وإن كان يدل على أن الأحداث المقصودة بالتذكير والتمثيل لم تكن مجهولة من سامعي القرآن مما يجعل الأهداف محكمة شأن سائر القصص القرآنية.
والمتبادر أن من أهداف الآيات تقرير كون الفساد والتكبّر والتجبّر في الأرض سيكون سيئ العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى. وكون الإحسان في السلوك والتزام حدود الحق والعدل والاستقامة سيكون حسن العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى كذلك.
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن مثلا..
٢ انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص ١٥٠ ـ ١٧٩ و ٢٣٥ ـ ٢٩٦ وص ٨٢ ـ٩٠ و ١٧٩ ـ ١٩٦..
ذرية من حملنا مع نوح : ذرية منصوبة على النداء تقديرها : يا ذرية من حملنا مع نوح. والمفسرون يروون عن أهل التأويل أن المقصود بالنداء بني إسرائيل على اعتبار أنهم من ذرية نوح. وهذا متبادر من فحوى الجملة وروحها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢:﴿ وآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ألاّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وكِيلاً ٢ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ٣ وقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤ فَإِذَا جَاء وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَّفْعُولاً ٥ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وبَنِينَ وجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ٦ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ ولِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَولَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ٧ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ٨ ﴾ [ ٢ ٨ ]
تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة
في أول هذه السورة
في هذه الآيات إشارة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت على بني إسرائيل نتيجة لبغيهم وفسادهم وانحرافهم واغترارهم، وتقرير لسنن الله الكونية والاجتماعية فيهم :
١ فالله تعالى قد أتى موسى عليه السلام الكتاب، وجعله هدى لبني إسرائيل، ووصاهم بالتمسك به وعدم اتخاذ غيره وكيلا وربّا، ولاسيما أنهم من ذرية نوح ومن نجاه الله معه. وقد كان عبدا شكورا مخلصا لربّه ولهم به الأسوة الحسنة.
٢ ولكنهم نقضوا وصية الله وأفسدوا وتكبروا، فكتب الله عليهم العقاب مرتين فيسلط في الأولى عليهم أناسا أقوياء فيدخلون بلادهم، وينكّلون بهم ثم يتوب عليهم فيعودون إلى قوتهم ويعمرون بلادهم. وينذرهم الله بأنهم إذا أحسنوا سلوكهم وأخلصوا فنفع ذلك يعود عليهم، وإذا أساءوا وغدروا وانحرفوا فضرر ذلك يرجع إليهم حيث تحلّ بهم كارثة ثانية فيدخل الغزاة بلادهم وينتهكون حرمة مسجدهم، ويدمروا ما شادوه وتربدّ وجوههم وتبدو عليها المساءة مما ينزل بهم من النكال والهوان.
٣ وقد أبلغوا أيضا بأن الله ليس من شأنه أن يسدّ باب الرحمة في وجوه عباده وأن من الممكن أن ينالوا رحمته إذا أحسنوا وأخلصوا، ولكنهم إذا عادوا إلى البغي والظلم والكفران فيتكرر نكال الله بهم في الدنيا، وبأنه خصص جهنم للكافرين في الآخرة.
ولقد قال المفسرون١ : إن الآيات جاءت استطرادية إلى ذكر ما آتاه الله موسى من الكتاب ليكون هدى لبني إسرائيل بعد ما ذكرت الآية السابقة ما كان من إسراء الله بالنبي صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته. ولا يخلو القول من وجاهة وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وبهذا تقوم الصلة بين هذه الآيات والآية الأولى من السورة.
والآيات وإن كانت تذكر أن الله تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقووا ويضعفوا مرتين متناوبتين، فإن مما تتحمله العبارة أنها ليست لتقرير الحتمية لمرتين فقط كما أن من الممكن أن يكون المراد بها الإشارة إلى أشد حادثين تاريخيين وقعا أو يقعان عليهم أيضا.
ولقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل قووا وضعفوا وانحرفوا وصلحوا وبغوا وتابوا ونالهم النكال مرارا. ولقد سجل حادثين شديدين غزاهم في أحدهما ملوك الأشوريين سنحاريب وسرجون وأسرحدون في القرن الثامن قبل الميلاد، ونسفوا دولة إسرائيل التي كان مركزها في السامرة وسط فلسطين والتي كانت تحكم معظم فلسطين ونفوا أهلها إلى بلادهم وأسكنوا محلهم مجموعات أتوا بهم منها. وغزاهم في ثانيهما نبوخذ نصر ملك بابل في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد ونسف دولتهم الثانية " يهوذا " التي عاصمتها أورشليم ( بيت المقدس ) كذلك، ونفى أكثرهم إلى بابل بعد تدمير العاصمة والمعبد ونهبهما. وهاتان الضربتان ذكرنا في سفري الملوك الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية والثالث والرابع في الطبعة الكاثوليكية، ثم في سفري أخبار الأيام الأول والثاني في الطبعتين. وكل هذه الأسفار متداولة اليوم. ولقد سجل التاريخ أيضا أنهم ضُربوا بعد هذا بضربتين شديدتين من قبل الدولة السلوقية اليونانية التي حكمت بلاد الشام من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواسط القرن الأول، ثم من الدولة الرومانية التي حكمتها منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد. فقد أعاد ملك الفرس كورش الذي قضى على دولة بابل جماعات من المسبيين في بابل من بني إسرائيل إلى فلسطين فجددوا عاصمتهم ومعبدهم، ولكنهم بطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة فضربتهم ضربة شديدة. وقد قووا بعد ذلك فبغوا وبطروا حينما صار الحكم للدولة الرومانية فضربتهم ضربة شديدة ودمرت عاصمتهم ومعبدهم، وقتلت منهم خلقا كبيرا في القرن الأول بعد الميلاد فتشتتوا وظل أمرهم منتكسا ومعبدهم خرابا، وكان الأمر كذلك حينما نزلت الآيات. والضربتان الأخيرتان ذكرتا في مدونات يهودية ويونانية ورومانية قديمة أيضا٢.
وفي الإصحاح السادس والعشرون من سفر الأخبار ( اللاويين ) تحذير رباني رهيب لبني إسرائيل بأنهم إذا نبذوا وصايا الله تعالى وانحرفوا عن طريق الحق وظلموا وبغوا فيسلط عليهم أعدائهم ويشدد نكاله فيهم كما أن هذا التحذير قد تكرر في أسفار عديدة بعد عهد موسى عليه السلام، مثل أسفار القضاة ونبوة أشعيا ونبوة أرميا ؛ مما فيه شيء من التطابق مع بعض ما جاء في الآيات.
ومهما يكن من أمر، فالمتبادر أن الآيات لا تستهدف بيان الأحداث التاريخية لذاتها، وإنما تقصد إلى تعليل ما وقع على بني إسرائيل وتقرير السنن الاجتماعية فيهم ليكون فيها العبرة والمثل للناس جميعهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهذا شأن القصص القرآنية عامة. واكتفاء الآيات بالإشارة المقتضبة مما ينطوي فيه قرينة على ذلك.
وفي تفسير الطبري والبغوي بنوع خاص وفي غيرهما أيضا تفصيلات كثيرة ومسهبة في صدد الأحداث التي جرت لبني إسرائيل والمشار إليها في الآيات. منها المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في كتب الصحاح، ومنها المعزو إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدي ومجاهد وابن وهب وغيرهم من أهل العلم والتأويل والأخبار في الصدر الإسلامي الأول. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار والمدونات وتأخير ما هو متقدم. مثل كون بختنصر هو ملك فارس وكون الله تعالى قد ملكه سبعمائة عام، وكونه زحف على بيت المقدس وأقام يحاربها مائة عام. وقتله بدم يحيي بن زكرياء سبعين ألفا الخ الخ.
ولم نر طائلا ولا فائدة في إيراد ما أوردوه ولو ملخصا ؛ لأنه غير متصل بأهداف الآيات وإن كان يدل على أن الأحداث المقصودة بالتذكير والتمثيل لم تكن مجهولة من سامعي القرآن مما يجعل الأهداف محكمة شأن سائر القصص القرآنية.
والمتبادر أن من أهداف الآيات تقرير كون الفساد والتكبّر والتجبّر في الأرض سيكون سيئ العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى. وكون الإحسان في السلوك والتزام حدود الحق والعدل والاستقامة سيكون حسن العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى كذلك.
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن مثلا..
٢ انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص ١٥٠ ـ ١٧٩ و ٢٣٥ ـ ٢٩٦ وص ٨٢ ـ٩٠ و ١٧٩ ـ ١٩٦..

قضينا : هنا بمعنى حكمنا أو أخبرنا أو قدرنا.
في الكتاب : أكثر المفسرين يفسرون الكتاب بالتوراة المنزلة على موسى أي أن الله أخبرهم فيها بما يكون من أمرهم وما يكون منه تجاه ذلك. والقاسمي في محاسن التأويل يقول : إن الكتاب هنا بمعنى اللوح المحفوظ ويتبادر لنا أنها بمعنى علم الله وحكمه، والله تعالى أعلم.
ولتعلنّ علوا كبيرا : ولتتكبرنّ تكبرا كبيرا. والقصد من ذلك الإشارة إلى ما سوف يكون منهم من بغي واستكبار.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢:﴿ وآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ألاّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وكِيلاً ٢ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ٣ وقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤ فَإِذَا جَاء وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَّفْعُولاً ٥ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وبَنِينَ وجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ٦ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ ولِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَولَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ٧ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ٨ ﴾ [ ٢ ٨ ]
تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة
في أول هذه السورة
في هذه الآيات إشارة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت على بني إسرائيل نتيجة لبغيهم وفسادهم وانحرافهم واغترارهم، وتقرير لسنن الله الكونية والاجتماعية فيهم :
١ فالله تعالى قد أتى موسى عليه السلام الكتاب، وجعله هدى لبني إسرائيل، ووصاهم بالتمسك به وعدم اتخاذ غيره وكيلا وربّا، ولاسيما أنهم من ذرية نوح ومن نجاه الله معه. وقد كان عبدا شكورا مخلصا لربّه ولهم به الأسوة الحسنة.
٢ ولكنهم نقضوا وصية الله وأفسدوا وتكبروا، فكتب الله عليهم العقاب مرتين فيسلط في الأولى عليهم أناسا أقوياء فيدخلون بلادهم، وينكّلون بهم ثم يتوب عليهم فيعودون إلى قوتهم ويعمرون بلادهم. وينذرهم الله بأنهم إذا أحسنوا سلوكهم وأخلصوا فنفع ذلك يعود عليهم، وإذا أساءوا وغدروا وانحرفوا فضرر ذلك يرجع إليهم حيث تحلّ بهم كارثة ثانية فيدخل الغزاة بلادهم وينتهكون حرمة مسجدهم، ويدمروا ما شادوه وتربدّ وجوههم وتبدو عليها المساءة مما ينزل بهم من النكال والهوان.
٣ وقد أبلغوا أيضا بأن الله ليس من شأنه أن يسدّ باب الرحمة في وجوه عباده وأن من الممكن أن ينالوا رحمته إذا أحسنوا وأخلصوا، ولكنهم إذا عادوا إلى البغي والظلم والكفران فيتكرر نكال الله بهم في الدنيا، وبأنه خصص جهنم للكافرين في الآخرة.
ولقد قال المفسرون١ : إن الآيات جاءت استطرادية إلى ذكر ما آتاه الله موسى من الكتاب ليكون هدى لبني إسرائيل بعد ما ذكرت الآية السابقة ما كان من إسراء الله بالنبي صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته. ولا يخلو القول من وجاهة وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وبهذا تقوم الصلة بين هذه الآيات والآية الأولى من السورة.
والآيات وإن كانت تذكر أن الله تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقووا ويضعفوا مرتين متناوبتين، فإن مما تتحمله العبارة أنها ليست لتقرير الحتمية لمرتين فقط كما أن من الممكن أن يكون المراد بها الإشارة إلى أشد حادثين تاريخيين وقعا أو يقعان عليهم أيضا.
ولقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل قووا وضعفوا وانحرفوا وصلحوا وبغوا وتابوا ونالهم النكال مرارا. ولقد سجل حادثين شديدين غزاهم في أحدهما ملوك الأشوريين سنحاريب وسرجون وأسرحدون في القرن الثامن قبل الميلاد، ونسفوا دولة إسرائيل التي كان مركزها في السامرة وسط فلسطين والتي كانت تحكم معظم فلسطين ونفوا أهلها إلى بلادهم وأسكنوا محلهم مجموعات أتوا بهم منها. وغزاهم في ثانيهما نبوخذ نصر ملك بابل في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد ونسف دولتهم الثانية " يهوذا " التي عاصمتها أورشليم ( بيت المقدس ) كذلك، ونفى أكثرهم إلى بابل بعد تدمير العاصمة والمعبد ونهبهما. وهاتان الضربتان ذكرنا في سفري الملوك الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية والثالث والرابع في الطبعة الكاثوليكية، ثم في سفري أخبار الأيام الأول والثاني في الطبعتين. وكل هذه الأسفار متداولة اليوم. ولقد سجل التاريخ أيضا أنهم ضُربوا بعد هذا بضربتين شديدتين من قبل الدولة السلوقية اليونانية التي حكمت بلاد الشام من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواسط القرن الأول، ثم من الدولة الرومانية التي حكمتها منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد. فقد أعاد ملك الفرس كورش الذي قضى على دولة بابل جماعات من المسبيين في بابل من بني إسرائيل إلى فلسطين فجددوا عاصمتهم ومعبدهم، ولكنهم بطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة فضربتهم ضربة شديدة. وقد قووا بعد ذلك فبغوا وبطروا حينما صار الحكم للدولة الرومانية فضربتهم ضربة شديدة ودمرت عاصمتهم ومعبدهم، وقتلت منهم خلقا كبيرا في القرن الأول بعد الميلاد فتشتتوا وظل أمرهم منتكسا ومعبدهم خرابا، وكان الأمر كذلك حينما نزلت الآيات. والضربتان الأخيرتان ذكرتا في مدونات يهودية ويونانية ورومانية قديمة أيضا٢.
وفي الإصحاح السادس والعشرون من سفر الأخبار ( اللاويين ) تحذير رباني رهيب لبني إسرائيل بأنهم إذا نبذوا وصايا الله تعالى وانحرفوا عن طريق الحق وظلموا وبغوا فيسلط عليهم أعدائهم ويشدد نكاله فيهم كما أن هذا التحذير قد تكرر في أسفار عديدة بعد عهد موسى عليه السلام، مثل أسفار القضاة ونبوة أشعيا ونبوة أرميا ؛ مما فيه شيء من التطابق مع بعض ما جاء في الآيات.
ومهما يكن من أمر، فالمتبادر أن الآيات لا تستهدف بيان الأحداث التاريخية لذاتها، وإنما تقصد إلى تعليل ما وقع على بني إسرائيل وتقرير السنن الاجتماعية فيهم ليكون فيها العبرة والمثل للناس جميعهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهذا شأن القصص القرآنية عامة. واكتفاء الآيات بالإشارة المقتضبة مما ينطوي فيه قرينة على ذلك.
وفي تفسير الطبري والبغوي بنوع خاص وفي غيرهما أيضا تفصيلات كثيرة ومسهبة في صدد الأحداث التي جرت لبني إسرائيل والمشار إليها في الآيات. منها المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في كتب الصحاح، ومنها المعزو إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدي ومجاهد وابن وهب وغيرهم من أهل العلم والتأويل والأخبار في الصدر الإسلامي الأول. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار والمدونات وتأخير ما هو متقدم. مثل كون بختنصر هو ملك فارس وكون الله تعالى قد ملكه سبعمائة عام، وكونه زحف على بيت المقدس وأقام يحاربها مائة عام. وقتله بدم يحيي بن زكرياء سبعين ألفا الخ الخ.
ولم نر طائلا ولا فائدة في إيراد ما أوردوه ولو ملخصا ؛ لأنه غير متصل بأهداف الآيات وإن كان يدل على أن الأحداث المقصودة بالتذكير والتمثيل لم تكن مجهولة من سامعي القرآن مما يجعل الأهداف محكمة شأن سائر القصص القرآنية.
والمتبادر أن من أهداف الآيات تقرير كون الفساد والتكبّر والتجبّر في الأرض سيكون سيئ العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى. وكون الإحسان في السلوك والتزام حدود الحق والعدل والاستقامة سيكون حسن العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى كذلك.
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن مثلا..
٢ انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص ١٥٠ ـ ١٧٩ و ٢٣٥ ـ ٢٩٦ وص ٨٢ ـ٩٠ و ١٧٩ ـ ١٩٦..

وعد أولاهما : وعد عقاب أولاهما.
جاسوا : تخللوا أو توغلوا أو اخترقوا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢:﴿ وآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ألاّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وكِيلاً ٢ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ٣ وقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤ فَإِذَا جَاء وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَّفْعُولاً ٥ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وبَنِينَ وجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ٦ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ ولِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَولَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ٧ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ٨ ﴾ [ ٢ ٨ ]
تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة
في أول هذه السورة
في هذه الآيات إشارة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت على بني إسرائيل نتيجة لبغيهم وفسادهم وانحرافهم واغترارهم، وتقرير لسنن الله الكونية والاجتماعية فيهم :
١ فالله تعالى قد أتى موسى عليه السلام الكتاب، وجعله هدى لبني إسرائيل، ووصاهم بالتمسك به وعدم اتخاذ غيره وكيلا وربّا، ولاسيما أنهم من ذرية نوح ومن نجاه الله معه. وقد كان عبدا شكورا مخلصا لربّه ولهم به الأسوة الحسنة.
٢ ولكنهم نقضوا وصية الله وأفسدوا وتكبروا، فكتب الله عليهم العقاب مرتين فيسلط في الأولى عليهم أناسا أقوياء فيدخلون بلادهم، وينكّلون بهم ثم يتوب عليهم فيعودون إلى قوتهم ويعمرون بلادهم. وينذرهم الله بأنهم إذا أحسنوا سلوكهم وأخلصوا فنفع ذلك يعود عليهم، وإذا أساءوا وغدروا وانحرفوا فضرر ذلك يرجع إليهم حيث تحلّ بهم كارثة ثانية فيدخل الغزاة بلادهم وينتهكون حرمة مسجدهم، ويدمروا ما شادوه وتربدّ وجوههم وتبدو عليها المساءة مما ينزل بهم من النكال والهوان.
٣ وقد أبلغوا أيضا بأن الله ليس من شأنه أن يسدّ باب الرحمة في وجوه عباده وأن من الممكن أن ينالوا رحمته إذا أحسنوا وأخلصوا، ولكنهم إذا عادوا إلى البغي والظلم والكفران فيتكرر نكال الله بهم في الدنيا، وبأنه خصص جهنم للكافرين في الآخرة.
ولقد قال المفسرون١ : إن الآيات جاءت استطرادية إلى ذكر ما آتاه الله موسى من الكتاب ليكون هدى لبني إسرائيل بعد ما ذكرت الآية السابقة ما كان من إسراء الله بالنبي صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته. ولا يخلو القول من وجاهة وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وبهذا تقوم الصلة بين هذه الآيات والآية الأولى من السورة.
والآيات وإن كانت تذكر أن الله تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقووا ويضعفوا مرتين متناوبتين، فإن مما تتحمله العبارة أنها ليست لتقرير الحتمية لمرتين فقط كما أن من الممكن أن يكون المراد بها الإشارة إلى أشد حادثين تاريخيين وقعا أو يقعان عليهم أيضا.
ولقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل قووا وضعفوا وانحرفوا وصلحوا وبغوا وتابوا ونالهم النكال مرارا. ولقد سجل حادثين شديدين غزاهم في أحدهما ملوك الأشوريين سنحاريب وسرجون وأسرحدون في القرن الثامن قبل الميلاد، ونسفوا دولة إسرائيل التي كان مركزها في السامرة وسط فلسطين والتي كانت تحكم معظم فلسطين ونفوا أهلها إلى بلادهم وأسكنوا محلهم مجموعات أتوا بهم منها. وغزاهم في ثانيهما نبوخذ نصر ملك بابل في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد ونسف دولتهم الثانية " يهوذا " التي عاصمتها أورشليم ( بيت المقدس ) كذلك، ونفى أكثرهم إلى بابل بعد تدمير العاصمة والمعبد ونهبهما. وهاتان الضربتان ذكرنا في سفري الملوك الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية والثالث والرابع في الطبعة الكاثوليكية، ثم في سفري أخبار الأيام الأول والثاني في الطبعتين. وكل هذه الأسفار متداولة اليوم. ولقد سجل التاريخ أيضا أنهم ضُربوا بعد هذا بضربتين شديدتين من قبل الدولة السلوقية اليونانية التي حكمت بلاد الشام من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواسط القرن الأول، ثم من الدولة الرومانية التي حكمتها منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد. فقد أعاد ملك الفرس كورش الذي قضى على دولة بابل جماعات من المسبيين في بابل من بني إسرائيل إلى فلسطين فجددوا عاصمتهم ومعبدهم، ولكنهم بطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة فضربتهم ضربة شديدة. وقد قووا بعد ذلك فبغوا وبطروا حينما صار الحكم للدولة الرومانية فضربتهم ضربة شديدة ودمرت عاصمتهم ومعبدهم، وقتلت منهم خلقا كبيرا في القرن الأول بعد الميلاد فتشتتوا وظل أمرهم منتكسا ومعبدهم خرابا، وكان الأمر كذلك حينما نزلت الآيات. والضربتان الأخيرتان ذكرتا في مدونات يهودية ويونانية ورومانية قديمة أيضا٢.
وفي الإصحاح السادس والعشرون من سفر الأخبار ( اللاويين ) تحذير رباني رهيب لبني إسرائيل بأنهم إذا نبذوا وصايا الله تعالى وانحرفوا عن طريق الحق وظلموا وبغوا فيسلط عليهم أعدائهم ويشدد نكاله فيهم كما أن هذا التحذير قد تكرر في أسفار عديدة بعد عهد موسى عليه السلام، مثل أسفار القضاة ونبوة أشعيا ونبوة أرميا ؛ مما فيه شيء من التطابق مع بعض ما جاء في الآيات.
ومهما يكن من أمر، فالمتبادر أن الآيات لا تستهدف بيان الأحداث التاريخية لذاتها، وإنما تقصد إلى تعليل ما وقع على بني إسرائيل وتقرير السنن الاجتماعية فيهم ليكون فيها العبرة والمثل للناس جميعهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهذا شأن القصص القرآنية عامة. واكتفاء الآيات بالإشارة المقتضبة مما ينطوي فيه قرينة على ذلك.
وفي تفسير الطبري والبغوي بنوع خاص وفي غيرهما أيضا تفصيلات كثيرة ومسهبة في صدد الأحداث التي جرت لبني إسرائيل والمشار إليها في الآيات. منها المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في كتب الصحاح، ومنها المعزو إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدي ومجاهد وابن وهب وغيرهم من أهل العلم والتأويل والأخبار في الصدر الإسلامي الأول. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار والمدونات وتأخير ما هو متقدم. مثل كون بختنصر هو ملك فارس وكون الله تعالى قد ملكه سبعمائة عام، وكونه زحف على بيت المقدس وأقام يحاربها مائة عام. وقتله بدم يحيي بن زكرياء سبعين ألفا الخ الخ.
ولم نر طائلا ولا فائدة في إيراد ما أوردوه ولو ملخصا ؛ لأنه غير متصل بأهداف الآيات وإن كان يدل على أن الأحداث المقصودة بالتذكير والتمثيل لم تكن مجهولة من سامعي القرآن مما يجعل الأهداف محكمة شأن سائر القصص القرآنية.
والمتبادر أن من أهداف الآيات تقرير كون الفساد والتكبّر والتجبّر في الأرض سيكون سيئ العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى. وكون الإحسان في السلوك والتزام حدود الحق والعدل والاستقامة سيكون حسن العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى كذلك.
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن مثلا..
٢ انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص ١٥٠ ـ ١٧٩ و ٢٣٥ ـ ٢٩٦ وص ٨٢ ـ٩٠ و ١٧٩ ـ ١٩٦..

أكثر نفيرا : أكثر عددا أو جندا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢:﴿ وآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ألاّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وكِيلاً ٢ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ٣ وقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤ فَإِذَا جَاء وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَّفْعُولاً ٥ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وبَنِينَ وجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ٦ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ ولِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَولَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ٧ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ٨ ﴾ [ ٢ ٨ ]
تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة
في أول هذه السورة
في هذه الآيات إشارة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت على بني إسرائيل نتيجة لبغيهم وفسادهم وانحرافهم واغترارهم، وتقرير لسنن الله الكونية والاجتماعية فيهم :
١ فالله تعالى قد أتى موسى عليه السلام الكتاب، وجعله هدى لبني إسرائيل، ووصاهم بالتمسك به وعدم اتخاذ غيره وكيلا وربّا، ولاسيما أنهم من ذرية نوح ومن نجاه الله معه. وقد كان عبدا شكورا مخلصا لربّه ولهم به الأسوة الحسنة.
٢ ولكنهم نقضوا وصية الله وأفسدوا وتكبروا، فكتب الله عليهم العقاب مرتين فيسلط في الأولى عليهم أناسا أقوياء فيدخلون بلادهم، وينكّلون بهم ثم يتوب عليهم فيعودون إلى قوتهم ويعمرون بلادهم. وينذرهم الله بأنهم إذا أحسنوا سلوكهم وأخلصوا فنفع ذلك يعود عليهم، وإذا أساءوا وغدروا وانحرفوا فضرر ذلك يرجع إليهم حيث تحلّ بهم كارثة ثانية فيدخل الغزاة بلادهم وينتهكون حرمة مسجدهم، ويدمروا ما شادوه وتربدّ وجوههم وتبدو عليها المساءة مما ينزل بهم من النكال والهوان.
٣ وقد أبلغوا أيضا بأن الله ليس من شأنه أن يسدّ باب الرحمة في وجوه عباده وأن من الممكن أن ينالوا رحمته إذا أحسنوا وأخلصوا، ولكنهم إذا عادوا إلى البغي والظلم والكفران فيتكرر نكال الله بهم في الدنيا، وبأنه خصص جهنم للكافرين في الآخرة.
ولقد قال المفسرون١ : إن الآيات جاءت استطرادية إلى ذكر ما آتاه الله موسى من الكتاب ليكون هدى لبني إسرائيل بعد ما ذكرت الآية السابقة ما كان من إسراء الله بالنبي صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته. ولا يخلو القول من وجاهة وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وبهذا تقوم الصلة بين هذه الآيات والآية الأولى من السورة.
والآيات وإن كانت تذكر أن الله تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقووا ويضعفوا مرتين متناوبتين، فإن مما تتحمله العبارة أنها ليست لتقرير الحتمية لمرتين فقط كما أن من الممكن أن يكون المراد بها الإشارة إلى أشد حادثين تاريخيين وقعا أو يقعان عليهم أيضا.
ولقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل قووا وضعفوا وانحرفوا وصلحوا وبغوا وتابوا ونالهم النكال مرارا. ولقد سجل حادثين شديدين غزاهم في أحدهما ملوك الأشوريين سنحاريب وسرجون وأسرحدون في القرن الثامن قبل الميلاد، ونسفوا دولة إسرائيل التي كان مركزها في السامرة وسط فلسطين والتي كانت تحكم معظم فلسطين ونفوا أهلها إلى بلادهم وأسكنوا محلهم مجموعات أتوا بهم منها. وغزاهم في ثانيهما نبوخذ نصر ملك بابل في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد ونسف دولتهم الثانية " يهوذا " التي عاصمتها أورشليم ( بيت المقدس ) كذلك، ونفى أكثرهم إلى بابل بعد تدمير العاصمة والمعبد ونهبهما. وهاتان الضربتان ذكرنا في سفري الملوك الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية والثالث والرابع في الطبعة الكاثوليكية، ثم في سفري أخبار الأيام الأول والثاني في الطبعتين. وكل هذه الأسفار متداولة اليوم. ولقد سجل التاريخ أيضا أنهم ضُربوا بعد هذا بضربتين شديدتين من قبل الدولة السلوقية اليونانية التي حكمت بلاد الشام من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواسط القرن الأول، ثم من الدولة الرومانية التي حكمتها منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد. فقد أعاد ملك الفرس كورش الذي قضى على دولة بابل جماعات من المسبيين في بابل من بني إسرائيل إلى فلسطين فجددوا عاصمتهم ومعبدهم، ولكنهم بطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة فضربتهم ضربة شديدة. وقد قووا بعد ذلك فبغوا وبطروا حينما صار الحكم للدولة الرومانية فضربتهم ضربة شديدة ودمرت عاصمتهم ومعبدهم، وقتلت منهم خلقا كبيرا في القرن الأول بعد الميلاد فتشتتوا وظل أمرهم منتكسا ومعبدهم خرابا، وكان الأمر كذلك حينما نزلت الآيات. والضربتان الأخيرتان ذكرتا في مدونات يهودية ويونانية ورومانية قديمة أيضا٢.
وفي الإصحاح السادس والعشرون من سفر الأخبار ( اللاويين ) تحذير رباني رهيب لبني إسرائيل بأنهم إذا نبذوا وصايا الله تعالى وانحرفوا عن طريق الحق وظلموا وبغوا فيسلط عليهم أعدائهم ويشدد نكاله فيهم كما أن هذا التحذير قد تكرر في أسفار عديدة بعد عهد موسى عليه السلام، مثل أسفار القضاة ونبوة أشعيا ونبوة أرميا ؛ مما فيه شيء من التطابق مع بعض ما جاء في الآيات.
ومهما يكن من أمر، فالمتبادر أن الآيات لا تستهدف بيان الأحداث التاريخية لذاتها، وإنما تقصد إلى تعليل ما وقع على بني إسرائيل وتقرير السنن الاجتماعية فيهم ليكون فيها العبرة والمثل للناس جميعهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهذا شأن القصص القرآنية عامة. واكتفاء الآيات بالإشارة المقتضبة مما ينطوي فيه قرينة على ذلك.
وفي تفسير الطبري والبغوي بنوع خاص وفي غيرهما أيضا تفصيلات كثيرة ومسهبة في صدد الأحداث التي جرت لبني إسرائيل والمشار إليها في الآيات. منها المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في كتب الصحاح، ومنها المعزو إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدي ومجاهد وابن وهب وغيرهم من أهل العلم والتأويل والأخبار في الصدر الإسلامي الأول. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار والمدونات وتأخير ما هو متقدم. مثل كون بختنصر هو ملك فارس وكون الله تعالى قد ملكه سبعمائة عام، وكونه زحف على بيت المقدس وأقام يحاربها مائة عام. وقتله بدم يحيي بن زكرياء سبعين ألفا الخ الخ.
ولم نر طائلا ولا فائدة في إيراد ما أوردوه ولو ملخصا ؛ لأنه غير متصل بأهداف الآيات وإن كان يدل على أن الأحداث المقصودة بالتذكير والتمثيل لم تكن مجهولة من سامعي القرآن مما يجعل الأهداف محكمة شأن سائر القصص القرآنية.
والمتبادر أن من أهداف الآيات تقرير كون الفساد والتكبّر والتجبّر في الأرض سيكون سيئ العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى. وكون الإحسان في السلوك والتزام حدود الحق والعدل والاستقامة سيكون حسن العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى كذلك.
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن مثلا..
٢ انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص ١٥٠ ـ ١٧٩ و ٢٣٥ ـ ٢٩٦ وص ٨٢ ـ٩٠ و ١٧٩ ـ ١٩٦..

ليسوؤوا وجوهكم : ليجعلوا المساءة بادية على وجوهكم من الحزن والقهر.
ليتبروا ما علوا : ليدمروا ما أنشئوه ورفعوه عاليا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢:﴿ وآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ألاّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وكِيلاً ٢ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ٣ وقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤ فَإِذَا جَاء وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَّفْعُولاً ٥ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وبَنِينَ وجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ٦ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ ولِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَولَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ٧ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ٨ ﴾ [ ٢ ٨ ]
تعليق على أحداث بني إسرائيل المذكورة
في أول هذه السورة
في هذه الآيات إشارة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت على بني إسرائيل نتيجة لبغيهم وفسادهم وانحرافهم واغترارهم، وتقرير لسنن الله الكونية والاجتماعية فيهم :
١ فالله تعالى قد أتى موسى عليه السلام الكتاب، وجعله هدى لبني إسرائيل، ووصاهم بالتمسك به وعدم اتخاذ غيره وكيلا وربّا، ولاسيما أنهم من ذرية نوح ومن نجاه الله معه. وقد كان عبدا شكورا مخلصا لربّه ولهم به الأسوة الحسنة.
٢ ولكنهم نقضوا وصية الله وأفسدوا وتكبروا، فكتب الله عليهم العقاب مرتين فيسلط في الأولى عليهم أناسا أقوياء فيدخلون بلادهم، وينكّلون بهم ثم يتوب عليهم فيعودون إلى قوتهم ويعمرون بلادهم. وينذرهم الله بأنهم إذا أحسنوا سلوكهم وأخلصوا فنفع ذلك يعود عليهم، وإذا أساءوا وغدروا وانحرفوا فضرر ذلك يرجع إليهم حيث تحلّ بهم كارثة ثانية فيدخل الغزاة بلادهم وينتهكون حرمة مسجدهم، ويدمروا ما شادوه وتربدّ وجوههم وتبدو عليها المساءة مما ينزل بهم من النكال والهوان.
٣ وقد أبلغوا أيضا بأن الله ليس من شأنه أن يسدّ باب الرحمة في وجوه عباده وأن من الممكن أن ينالوا رحمته إذا أحسنوا وأخلصوا، ولكنهم إذا عادوا إلى البغي والظلم والكفران فيتكرر نكال الله بهم في الدنيا، وبأنه خصص جهنم للكافرين في الآخرة.
ولقد قال المفسرون١ : إن الآيات جاءت استطرادية إلى ذكر ما آتاه الله موسى من الكتاب ليكون هدى لبني إسرائيل بعد ما ذكرت الآية السابقة ما كان من إسراء الله بالنبي صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته. ولا يخلو القول من وجاهة وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وبهذا تقوم الصلة بين هذه الآيات والآية الأولى من السورة.
والآيات وإن كانت تذكر أن الله تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقووا ويضعفوا مرتين متناوبتين، فإن مما تتحمله العبارة أنها ليست لتقرير الحتمية لمرتين فقط كما أن من الممكن أن يكون المراد بها الإشارة إلى أشد حادثين تاريخيين وقعا أو يقعان عليهم أيضا.
ولقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل قووا وضعفوا وانحرفوا وصلحوا وبغوا وتابوا ونالهم النكال مرارا. ولقد سجل حادثين شديدين غزاهم في أحدهما ملوك الأشوريين سنحاريب وسرجون وأسرحدون في القرن الثامن قبل الميلاد، ونسفوا دولة إسرائيل التي كان مركزها في السامرة وسط فلسطين والتي كانت تحكم معظم فلسطين ونفوا أهلها إلى بلادهم وأسكنوا محلهم مجموعات أتوا بهم منها. وغزاهم في ثانيهما نبوخذ نصر ملك بابل في الثلث الأول من القرن السادس قبل الميلاد ونسف دولتهم الثانية " يهوذا " التي عاصمتها أورشليم ( بيت المقدس ) كذلك، ونفى أكثرهم إلى بابل بعد تدمير العاصمة والمعبد ونهبهما. وهاتان الضربتان ذكرنا في سفري الملوك الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية والثالث والرابع في الطبعة الكاثوليكية، ثم في سفري أخبار الأيام الأول والثاني في الطبعتين. وكل هذه الأسفار متداولة اليوم. ولقد سجل التاريخ أيضا أنهم ضُربوا بعد هذا بضربتين شديدتين من قبل الدولة السلوقية اليونانية التي حكمت بلاد الشام من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواسط القرن الأول، ثم من الدولة الرومانية التي حكمتها منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد. فقد أعاد ملك الفرس كورش الذي قضى على دولة بابل جماعات من المسبيين في بابل من بني إسرائيل إلى فلسطين فجددوا عاصمتهم ومعبدهم، ولكنهم بطروا وبغوا حينما صار الحكم للدولة فضربتهم ضربة شديدة. وقد قووا بعد ذلك فبغوا وبطروا حينما صار الحكم للدولة الرومانية فضربتهم ضربة شديدة ودمرت عاصمتهم ومعبدهم، وقتلت منهم خلقا كبيرا في القرن الأول بعد الميلاد فتشتتوا وظل أمرهم منتكسا ومعبدهم خرابا، وكان الأمر كذلك حينما نزلت الآيات. والضربتان الأخيرتان ذكرتا في مدونات يهودية ويونانية ورومانية قديمة أيضا٢.
وفي الإصحاح السادس والعشرون من سفر الأخبار ( اللاويين ) تحذير رباني رهيب لبني إسرائيل بأنهم إذا نبذوا وصايا الله تعالى وانحرفوا عن طريق الحق وظلموا وبغوا فيسلط عليهم أعدائهم ويشدد نكاله فيهم كما أن هذا التحذير قد تكرر في أسفار عديدة بعد عهد موسى عليه السلام، مثل أسفار القضاة ونبوة أشعيا ونبوة أرميا ؛ مما فيه شيء من التطابق مع بعض ما جاء في الآيات.
ومهما يكن من أمر، فالمتبادر أن الآيات لا تستهدف بيان الأحداث التاريخية لذاتها، وإنما تقصد إلى تعليل ما وقع على بني إسرائيل وتقرير السنن الاجتماعية فيهم ليكون فيها العبرة والمثل للناس جميعهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهذا شأن القصص القرآنية عامة. واكتفاء الآيات بالإشارة المقتضبة مما ينطوي فيه قرينة على ذلك.
وفي تفسير الطبري والبغوي بنوع خاص وفي غيرهما أيضا تفصيلات كثيرة ومسهبة في صدد الأحداث التي جرت لبني إسرائيل والمشار إليها في الآيات. منها المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في كتب الصحاح، ومنها المعزو إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدي ومجاهد وابن وهب وغيرهم من أهل العلم والتأويل والأخبار في الصدر الإسلامي الأول. ومنها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار والمدونات وتأخير ما هو متقدم. مثل كون بختنصر هو ملك فارس وكون الله تعالى قد ملكه سبعمائة عام، وكونه زحف على بيت المقدس وأقام يحاربها مائة عام. وقتله بدم يحيي بن زكرياء سبعين ألفا الخ الخ.
ولم نر طائلا ولا فائدة في إيراد ما أوردوه ولو ملخصا ؛ لأنه غير متصل بأهداف الآيات وإن كان يدل على أن الأحداث المقصودة بالتذكير والتمثيل لم تكن مجهولة من سامعي القرآن مما يجعل الأهداف محكمة شأن سائر القصص القرآنية.
والمتبادر أن من أهداف الآيات تقرير كون الفساد والتكبّر والتجبّر في الأرض سيكون سيئ العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى. وكون الإحسان في السلوك والتزام حدود الحق والعدل والاستقامة سيكون حسن العقبى على أصحابه وبلادهم في الدرجة الأولى كذلك.
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن مثلا..
٢ انظر كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص ١٥٠ ـ ١٧٩ و ٢٣٥ ـ ٢٩٦ وص ٨٢ ـ٩٠ و ١٧٩ ـ ١٩٦..

التي هي أقوم : الطريق الأفضل والأصلح الذي فيه قوام حياة البشر وسعادتهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْومُ ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ٩ وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ١٠ ﴾ [ ٩ ـ ١٠ ]
الآيتان جاءتا معقبتين أو نتيجتين لما تقدمهما كما هو المتبادر. فبعد أن ذكر في الآيات السابقة الكتاب الذي آتاه الله تعالى موسى ليكون هدى لبني إسرائيل، وأشير إلى ما كتب الله على بني إسرائيل من عقاب دنيوي بسبب بغيهم وفسادهم جاءتا لتقررا أن الله أنزل القرآن أيضا ليهدي الناس إلى أفضل السبل وأصلحها وليبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الكبير وينذر الكافرين بعذاب الآخرة الأليم.
وواضح من روح الآيتين وفحواهما أن ما يهدي القرآن إليه من الطريق الأقوم شامل لصلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة معا.
ويلحظ أمر مهم حين المقارنة. فقد ذكر في الآيات السابقة أن الله تعالى قد جعل الكتاب الذي آتاه موسى هدى لبني إسرائيل، بينما جاءت الآيتان مطلقتين ليشمل هدى القرآن جميع الناس، ولتبشرا المؤمنين الصالحين من جميع الناس بالأجر. والكافرين منهم بالعذاب إطلاقا ما هو متسق مع عموم الرسالة المحمدية على ما قررته آيات عديدة مرّت أمثلة بها.
وفي الآيتين تأييد لما قلناه في مناسبات سابقة من أن كلمة ( القرآن ) أريد بها في الأصل التعبير عما في القرآن من أسس الدعوة ومبادئها.
تعليق على تكرر التنويه بالقرآن
في هذه السورة بخاصة وفي القرآن بعامة
وما ورد في ذلك من أحاديث
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه الآيات ليست الوحيدة في هذه السورة التي احتوت تنويها بالقرآن. حيث تكرر ذلك مرارا على ما سوف يأتي التنبيه إليه. وجاء في ما جاء إعلان رباني بأن الجن والإنس لو تظاهروا سيكونون عاجزين عن الإتيان بمثله، حيث يبدو من ذلك أن القرآن كان موضوع أخذ وردّ شديدين بين النبي والكفار في ظرف نزول السورة. ولقد احتوت هذه السورة فصولا عديدة فيها جماع أسباب الصلاح والسعادة والنجاة للبشر في الدنيا والآخرة حيث يمكن أن يكون تكرار التنويه متصلا بهذا أيضا.
على أن من الواجب أن ننبه مع ذلك إلى أن التنويه بما في القرآن من هدى ورحمة وإحكام وحكمة وبينات وذكرى قد تواصل في مختلف السور المكية والمدنية فضلا عن أنه كان موضوع قسم رباني في مطالع السور مما مرّ منه أمثلة يكون القرآن معجزة النبوة المحمدية الكبرى.
وهناك أحاديث نبوية عديدة. منها ما ورد في كتب الصحاح فيها تنويه بالقرآن وما فيه من هدى ورحمة وفضل نكتفي منها بهذا الحديث الشامل الذي رواه الترمذي عن الحارث الأعور قال :" مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على عليّ رضي الله عنه فقلت : يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث ؟. قال : وقد فعلوها قلت : نعم، قال أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : ألا إنها ستكون فتنة فقلت : ما المخرج يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة. ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرّشد، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل. ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم " ١.

﴿ ويَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً ١١ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ والنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ١٢ ﴾ [ ١١ ١٢ ]
في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى خلق من أخلاق كثير من الناس حيث تقرر أنهم طبعوا على العجلة في أمورهم سواء أأدت إلى شرّ أم إلى خير. وهم يستعجلون بأعمالهم الشرّ مثل استعجالهم الخير.
وفي الثانية تقرير رباني بأن الله قد جعل الليل والنهار من أدلة حكمة النواميس الكونية التي أبدعها، فجعل النهار مضيئا ليسعى الناس فيه ويحصلوا من فضل الله على وسائل عيشهم وقوام حياتهم. وجعل الليل مظلما ليسكنوا فيه ويستريحوا، وبالإضافة إلى ذلك فإنه جعل الليل والنهار وسيلة لمعرفة السنين وحساب الأيام. وهو يبين للناس في قرآنه كل أمر ؛ ليدركوا حكمته البالغة وقدرته الشاملة.
ويتبادر لنا أن الآيتين غير منقطعتين عن الآيتين السابقتين لهما. ويبدو أن الكفار حينما سمعوا ما احتوته الآيتان السابقتان من بشرى للمؤمنين وعذاب للكافرين تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل العذاب على عادتهم فنزلت الآيتان للرد عليهم ؛ ففي أولاهما نددت بهم ؛ لاستعجالهم الشرّ والعذاب كما لو كان خيرا. وفي ثانيتهما نبهتهم إلى أن لكل شيء موعدا وأجلا، فالعاجل لا يكون آجلا بالدعاء والطلب، والآجل لا يكون عاجلا به أيضا، كما هو شأن تعاقب الليل والنهار وشأن حساب الأيام والسنين، فلا الليل سابق النهار ولا السنون سابقة للأيام ؛ فكل شيء يكون في وقته المعين له.
ومدى ما احتوته الآيتان من تنبيه وتنديد وتوضيح وتعليم شامل على كل حال لسامعي القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ما هو المتبادر من أسلوبها وفحواها. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة مرّ بعضها ؛ لأن ما احتوته الآيتان متصل بحياة الناس وشؤونهم وأخلاقهم بعامة.
وننبه بصورة خاصة إلى صيغة الآية الثانية، حيث ينطوي فيها تنبيه إلى أمر يشاهده ويمارسه الناس وسامعو القرآن الأولون من الجملة، وهو كون النهار ظرفا للسعي والتكسب الذي عبر عنه بجملة ﴿ لتبتغوا فضلا من ربكم ﴾ [ ١٢ ] ولكون الليل والنهار وسيلة إلى معرفة دوران الزمن وحساب الأيام والسنين. وهو أسلوب القرآن عامة في تقرير مشاهد الكون ونواميسه. فلا ينفي أن يتجاوز الأمر الهدف الملموح في الآيات وهو التدليل على آثار نعمة الله ونواميسه في الكون إلى التمحل والتجوز لإثبات نظريات فنية من الآيات القرآنية على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
مبصرة : منيرة أو مضيئة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١:﴿ ويَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً ١١ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ والنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ١٢ ﴾ [ ١١ ١٢ ]
في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى خلق من أخلاق كثير من الناس حيث تقرر أنهم طبعوا على العجلة في أمورهم سواء أأدت إلى شرّ أم إلى خير. وهم يستعجلون بأعمالهم الشرّ مثل استعجالهم الخير.
وفي الثانية تقرير رباني بأن الله قد جعل الليل والنهار من أدلة حكمة النواميس الكونية التي أبدعها، فجعل النهار مضيئا ليسعى الناس فيه ويحصلوا من فضل الله على وسائل عيشهم وقوام حياتهم. وجعل الليل مظلما ليسكنوا فيه ويستريحوا، وبالإضافة إلى ذلك فإنه جعل الليل والنهار وسيلة لمعرفة السنين وحساب الأيام. وهو يبين للناس في قرآنه كل أمر ؛ ليدركوا حكمته البالغة وقدرته الشاملة.
ويتبادر لنا أن الآيتين غير منقطعتين عن الآيتين السابقتين لهما. ويبدو أن الكفار حينما سمعوا ما احتوته الآيتان السابقتان من بشرى للمؤمنين وعذاب للكافرين تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل العذاب على عادتهم فنزلت الآيتان للرد عليهم ؛ ففي أولاهما نددت بهم ؛ لاستعجالهم الشرّ والعذاب كما لو كان خيرا. وفي ثانيتهما نبهتهم إلى أن لكل شيء موعدا وأجلا، فالعاجل لا يكون آجلا بالدعاء والطلب، والآجل لا يكون عاجلا به أيضا، كما هو شأن تعاقب الليل والنهار وشأن حساب الأيام والسنين، فلا الليل سابق النهار ولا السنون سابقة للأيام ؛ فكل شيء يكون في وقته المعين له.
ومدى ما احتوته الآيتان من تنبيه وتنديد وتوضيح وتعليم شامل على كل حال لسامعي القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ما هو المتبادر من أسلوبها وفحواها. وقد تكرر ذلك في آيات عديدة مرّ بعضها ؛ لأن ما احتوته الآيتان متصل بحياة الناس وشؤونهم وأخلاقهم بعامة.
وننبه بصورة خاصة إلى صيغة الآية الثانية، حيث ينطوي فيها تنبيه إلى أمر يشاهده ويمارسه الناس وسامعو القرآن الأولون من الجملة، وهو كون النهار ظرفا للسعي والتكسب الذي عبر عنه بجملة ﴿ لتبتغوا فضلا من ربكم ﴾ [ ١٢ ] ولكون الليل والنهار وسيلة إلى معرفة دوران الزمن وحساب الأيام والسنين. وهو أسلوب القرآن عامة في تقرير مشاهد الكون ونواميسه. فلا ينفي أن يتجاوز الأمر الهدف الملموح في الآيات وهو التدليل على آثار نعمة الله ونواميسه في الكون إلى التمحل والتجوز لإثبات نظريات فنية من الآيات القرآنية على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.

طائره : كناية عن عمله أو علامة طالعة من سعد وشؤم.
منشورا : مفتوحا أو معلنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ١٣ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ١٤ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ولاَ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ١٥ ﴾ [ ١٣ ـ ١٥ ]
في الآيات بيان رباني بأن كل إنسان في الآخرة ملزم بعمله وعليه تبعته إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن الله تعالى سيخرج له كتاب أعماله مفتوحا ويقول له : اقرأه وحاسب نفسك على ما فيه، والحكم عليها وفاقا له، وأن المهتدي إنما ينفع نفسه باهتدائه وأن الضال إنما يضر نفسه بضلاله، وأنه لا يحمل أحد تبعة عمل أحد ولا مسؤولية، وأن من تمام حكمة الله وعدله ألاّ يعذب أحدا حتى ينذره بلسان رسول من قبله يعرف بواسطته طريق الهدى وطريق الضلال حتى يكون ما يلقاه من عذاب أو ثواب في الآخرة قد استحقه وناله عدلا وحقّا.
والآيات متصلة بما سبقها اتصال سياق وتعقيب على ما هو المتبادر، وفيها قرينة مرجحة للتأويل الذي أولنا الآيات السابقة به.
والمتبادر كذلك أنها بالإضافة إلى حقيقة الحساب والثواب والعقاب الأخروية التي يجب الإيمان بها بسبيل تنبيه السامعين إلى أن كل ما يفعلونه في الدنيا محصي عليهم ومحاسبون عليه، وحملهم على اجتناب الكفر والإثم والإقبال على الإيمان بالله والعمل الصالح.
وفي الآية الأخيرة صراحة قطعية بتقرير قابلية الاختيار للإنسان، وكون ما يلقاه جزاء عمله من نعيم وعذاب هو جزاء على هذا الاختيار، وفيها كذلك تقرير لحكمة إرسال الرسل، حيث يبينون للناس الحدود التي لا يستطيعون معرفتها بعقولهم واجتهادهم.
ولقد شرحنا موضوع كتب أعمال الناس التي سوف تعلن لهم يوم القيامة في سياق تفسير سورة ( ق ) فنكتفي بهذه الإشارة.
تعليق على مدى الآية
{ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
ولاَ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }
في كتب التفسير تأويلات وتعليقات حول محتوى هذه الآية :
فأولا : إن بعضهم يفسر كلمة ( رسول ) بالعقل الإنساني ويوجب على الإنسان العاقل بأن يؤمن بالله وحده وباليوم الآخر، ويعمل العمل الصالح سواء أبلغته دعوة ربانية بطريق رسول أم لم تبلغه. ويجعل مصيره الأخروي مماثلا لمصير من بلغته دعوة مثل هذه.
وبقطع النظر عن وجاهة مسؤولية العاقل الراشد عن هداه وضلاله بالذات، فالذي يتبادر لنا أن المقصود بالكلمة هو النبي الذي يرسله الله لدعوة الناس وبيان الحدود التي يجب أن يسيروا في نطاقها مما قد لا يستطيع العقل تبينه وحده وأن في ذلك التفسير تحويلا للكلام لا يتحمله المقصود القرآني. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك منها آيات سورة الشعراء [ ٢٠٨ و ٢٠٩ ] وآية سورة القصص [ ٥٩ ] وآية سورة طه [ ١٣٤ ] اللتين مرّ تفسيرهما حيث تذكر : أن الله لا يهلك ولا يعذب أمة وقرية إلا بعد أن يرسل إليها رسولا يتلو عليها آياته ويبلغها دعوته.
وثانيا : ويدور جدل حول ما إذا كان ما قررته الآية من قابلية الإنسان للاهتداء والضلال ومسؤوليته عن ذلك وعدم مسؤولية أحد عن عمل غيره متناقضا أو غير متناقض مع آيات أخرى فيها تقرير كون الله خالق كل شيء بما في ذلك أفعال الناس وكون ما يقع منهم إنما يقع بمشيئة الله. وهذا الجدل يدور حول كل عبارة مماثلة مما مرّت أمثلة منه. ولقد شرحنا هذا الأمر في المناسبات السابقة بما رأينا أنه الحق إن شاء الله. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن المتبادر من روح الآية ومقامها : أنها على سبيل الإنذار والتنبيه ؛ ليكون في ذلك رادع وحافز للسامعين، وأن الأولى أن تُتلقى على هذا الاعتبار وتبقى في نطاقه. ومع ذلك فإن من الممكن أن يقال : إن قابلية الإنسان للاهتداء والضلال التي تقررها هذه الآية وأمثالها بصراحة هي من مشيئة الله تعالى المودعة في جبلّته فيزول بذلك وهم التناقض الذي لا يصحّ أن يفرض بين العبارات القرآنية والله أعلم.
وثالثا : وبين علماء الكلام القدماء جدل على هامش هذه الآية وأمثالها حول ما إذا كان يجب على الله تعالى إرسال الرسل لهداية الناس وما إذا كان يجب على الله تعالى جزاؤهم وفق أعمالهم. وما إذا كان يجب على الله تعالى الأصلح لهم.
ومع أن القرآن قرر في مواضع عديدة مرّت أمثلة منها : أن الله عز وجل لم يعذب الناس إلاّ بعد أن يرسل إليهم الرسل والمنذرين ويكفروا برسالاتهم وبالله ويبغوا ويفسدوا. وأن عذاب من يعذبهم وثواب من يثيبهم منهم نتيجة لمواقفهم من دعوة رسله ومنذريه هو حق عليه. وأنه ليس بظلام للعبيد. فإننا نرى واجب المسلمين اليوم أن يكفوا عن مجاراة علماء الكلام القدماء في ما كانوا يقولونه حينما كانوا يتجادلون مع بعضهم. وأن يكتفوا بما قرره القرآن ويقفوا عنده دون مماحكة ومراء وأن يتذكروا أن الله الحكيم العادل يعامل خلقه بمقتضى هاتين الصفتين وكفى.
ورابعا : لقد أثار المفسر ابن كثير في سياق هذه الآية مسألة المصير الأخروي لمن يموتون في طفولتهم والمجانين والصمّ والبكم والذين لم تبلغهم دعوة ربانية بواسطة رسله وكتبه. وقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة معزوّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها تضارب وغرابة ووصف بعضها بالمرفوع وبعضها بالضعيف. وليس فيها حديث صحيح يمكن الاحتجاج به نفيا وإثباتا في هذه المسألة، ولم نطلع نحن أيضا على مثل هذا الحديث. وما دام في القرآن نصوص صريحة بأن الله لا يعذب إلاّ بعد أن يرسل رسلا ومنذرين ويكفر الناس بهم وأن الله لا يكلف نفسا إلاّ وسعها ويدخل في مدى هذا التكليف الرباني الذي يترتب عليه الثواب والعقاب والذي إنما يكون بالنسبة للراشدين العاقلين الذين تبلغهم رسالات الله بواسطة رسله فإننا نرى الأولى أن يوقف في هذه المسألة عند هذه النصوص من الوجهة الكلامية. ونرى في الوقت نفسه أن في إثارتها في نطاق وسياق الآية تكلفا لا ضرورة له ولا طائل منه، والله تعالى أعلم.
مذهب السلف الصالح
في فهم القرآن وأسباب انفتاح باب الجدل والكلام حوله
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة ـ ويصح أن يذكر في كل مناسبة مماثلة سابقة ولاحقة ـ أن السلف الإسلامي الأول رضي الله عنه كان يأخذ القرآن بمفهومه المتبادر الذي كان يعيش في جوه، ولا يحمّله غير ما يحمل ولا يحاول التخمين والتزيّد ولا يثير الإشكالات والفروض بسبيلها، وكل ما كان من ذلك قد كان بعد أن اشتدت الفتن والخلافات السياسية ومزجها أهلها بالدين واستغلوا نصوص القرآن وأوّلوها وفق أهوائهم، ثم ترجمت كتب المنطق والفلسفة اليونانية، وولع بها بعض المسلمين وصاروا يطبقونها على النصوص القرآنية واندست بينهم عناصر مريبة، فتفاقم الخطب وانفتح باب الجدل والكلام على مصراعيه، حتى كادوا يقفون عند كل آية ويتجادلون فيها، فأدى ذلك إلى شيء كثير من البلبلة والتشويش في سياق تفسير القرآن وتأويل آياته مما هو مبثوث في كتب علماء الكلام والشيعة وفرقها المتعددة.
وأفضل خطة لنظر القرآن وفهمه هي خطة ذلك السلف الصالح التي نوهنا بها أولا. وتأويل القرآن بالقرآن ثانيا.
والمتدبر في القرآن يرى معجزة باهرة فيه، حيث يجد في مكان ما تفسيرا وتأويلا وحلاّ لعبارة ما في مكان آخر قد تثير في نفسه إشكالا أو وهما، بل وإنه كثيرا ما يجد ذلك في نفس الآية التي فيها العبارة أو في سياقها القريب السابق أو اللاحق. وهذا مصداق قول الله تعالى ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ولَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [ ٨٢ ] النساء.
وقد مرّت أمثلة كثيرة من ذلك في المناسبات السابقة ونبهنا إليها.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ١٣ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ١٤ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ولاَ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ١٥ ﴾ [ ١٣ ـ ١٥ ]
في الآيات بيان رباني بأن كل إنسان في الآخرة ملزم بعمله وعليه تبعته إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن الله تعالى سيخرج له كتاب أعماله مفتوحا ويقول له : اقرأه وحاسب نفسك على ما فيه، والحكم عليها وفاقا له، وأن المهتدي إنما ينفع نفسه باهتدائه وأن الضال إنما يضر نفسه بضلاله، وأنه لا يحمل أحد تبعة عمل أحد ولا مسؤولية، وأن من تمام حكمة الله وعدله ألاّ يعذب أحدا حتى ينذره بلسان رسول من قبله يعرف بواسطته طريق الهدى وطريق الضلال حتى يكون ما يلقاه من عذاب أو ثواب في الآخرة قد استحقه وناله عدلا وحقّا.
والآيات متصلة بما سبقها اتصال سياق وتعقيب على ما هو المتبادر، وفيها قرينة مرجحة للتأويل الذي أولنا الآيات السابقة به.
والمتبادر كذلك أنها بالإضافة إلى حقيقة الحساب والثواب والعقاب الأخروية التي يجب الإيمان بها بسبيل تنبيه السامعين إلى أن كل ما يفعلونه في الدنيا محصي عليهم ومحاسبون عليه، وحملهم على اجتناب الكفر والإثم والإقبال على الإيمان بالله والعمل الصالح.
وفي الآية الأخيرة صراحة قطعية بتقرير قابلية الاختيار للإنسان، وكون ما يلقاه جزاء عمله من نعيم وعذاب هو جزاء على هذا الاختيار، وفيها كذلك تقرير لحكمة إرسال الرسل، حيث يبينون للناس الحدود التي لا يستطيعون معرفتها بعقولهم واجتهادهم.
ولقد شرحنا موضوع كتب أعمال الناس التي سوف تعلن لهم يوم القيامة في سياق تفسير سورة ( ق ) فنكتفي بهذه الإشارة.
تعليق على مدى الآية
{ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
ولاَ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }
في كتب التفسير تأويلات وتعليقات حول محتوى هذه الآية :
فأولا : إن بعضهم يفسر كلمة ( رسول ) بالعقل الإنساني ويوجب على الإنسان العاقل بأن يؤمن بالله وحده وباليوم الآخر، ويعمل العمل الصالح سواء أبلغته دعوة ربانية بطريق رسول أم لم تبلغه. ويجعل مصيره الأخروي مماثلا لمصير من بلغته دعوة مثل هذه.
وبقطع النظر عن وجاهة مسؤولية العاقل الراشد عن هداه وضلاله بالذات، فالذي يتبادر لنا أن المقصود بالكلمة هو النبي الذي يرسله الله لدعوة الناس وبيان الحدود التي يجب أن يسيروا في نطاقها مما قد لا يستطيع العقل تبينه وحده وأن في ذلك التفسير تحويلا للكلام لا يتحمله المقصود القرآني. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك منها آيات سورة الشعراء [ ٢٠٨ و ٢٠٩ ] وآية سورة القصص [ ٥٩ ] وآية سورة طه [ ١٣٤ ] اللتين مرّ تفسيرهما حيث تذكر : أن الله لا يهلك ولا يعذب أمة وقرية إلا بعد أن يرسل إليها رسولا يتلو عليها آياته ويبلغها دعوته.
وثانيا : ويدور جدل حول ما إذا كان ما قررته الآية من قابلية الإنسان للاهتداء والضلال ومسؤوليته عن ذلك وعدم مسؤولية أحد عن عمل غيره متناقضا أو غير متناقض مع آيات أخرى فيها تقرير كون الله خالق كل شيء بما في ذلك أفعال الناس وكون ما يقع منهم إنما يقع بمشيئة الله. وهذا الجدل يدور حول كل عبارة مماثلة مما مرّت أمثلة منه. ولقد شرحنا هذا الأمر في المناسبات السابقة بما رأينا أنه الحق إن شاء الله. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن المتبادر من روح الآية ومقامها : أنها على سبيل الإنذار والتنبيه ؛ ليكون في ذلك رادع وحافز للسامعين، وأن الأولى أن تُتلقى على هذا الاعتبار وتبقى في نطاقه. ومع ذلك فإن من الممكن أن يقال : إن قابلية الإنسان للاهتداء والضلال التي تقررها هذه الآية وأمثالها بصراحة هي من مشيئة الله تعالى المودعة في جبلّته فيزول بذلك وهم التناقض الذي لا يصحّ أن يفرض بين العبارات القرآنية والله أعلم.
وثالثا : وبين علماء الكلام القدماء جدل على هامش هذه الآية وأمثالها حول ما إذا كان يجب على الله تعالى إرسال الرسل لهداية الناس وما إذا كان يجب على الله تعالى جزاؤهم وفق أعمالهم. وما إذا كان يجب على الله تعالى الأصلح لهم.
ومع أن القرآن قرر في مواضع عديدة مرّت أمثلة منها : أن الله عز وجل لم يعذب الناس إلاّ بعد أن يرسل إليهم الرسل والمنذرين ويكفروا برسالاتهم وبالله ويبغوا ويفسدوا. وأن عذاب من يعذبهم وثواب من يثيبهم منهم نتيجة لمواقفهم من دعوة رسله ومنذريه هو حق عليه. وأنه ليس بظلام للعبيد. فإننا نرى واجب المسلمين اليوم أن يكفوا عن مجاراة علماء الكلام القدماء في ما كانوا يقولونه حينما كانوا يتجادلون مع بعضهم. وأن يكتفوا بما قرره القرآن ويقفوا عنده دون مماحكة ومراء وأن يتذكروا أن الله الحكيم العادل يعامل خلقه بمقتضى هاتين الصفتين وكفى.
ورابعا : لقد أثار المفسر ابن كثير في سياق هذه الآية مسألة المصير الأخروي لمن يموتون في طفولتهم والمجانين والصمّ والبكم والذين لم تبلغهم دعوة ربانية بواسطة رسله وكتبه. وقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة معزوّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها تضارب وغرابة ووصف بعضها بالمرفوع وبعضها بالضعيف. وليس فيها حديث صحيح يمكن الاحتجاج به نفيا وإثباتا في هذه المسألة، ولم نطلع نحن أيضا على مثل هذا الحديث. وما دام في القرآن نصوص صريحة بأن الله لا يعذب إلاّ بعد أن يرسل رسلا ومنذرين ويكفر الناس بهم وأن الله لا يكلف نفسا إلاّ وسعها ويدخل في مدى هذا التكليف الرباني الذي يترتب عليه الثواب والعقاب والذي إنما يكون بالنسبة للراشدين العاقلين الذين تبلغهم رسالات الله بواسطة رسله فإننا نرى الأولى أن يوقف في هذه المسألة عند هذه النصوص من الوجهة الكلامية. ونرى في الوقت نفسه أن في إثارتها في نطاق وسياق الآية تكلفا لا ضرورة له ولا طائل منه، والله تعالى أعلم.
مذهب السلف الصالح
في فهم القرآن وأسباب انفتاح باب الجدل والكلام حوله
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة ـ ويصح أن يذكر في كل مناسبة مماثلة سابقة ولاحقة ـ أن السلف الإسلامي الأول رضي الله عنه كان يأخذ القرآن بمفهومه المتبادر الذي كان يعيش في جوه، ولا يحمّله غير ما يحمل ولا يحاول التخمين والتزيّد ولا يثير الإشكالات والفروض بسبيلها، وكل ما كان من ذلك قد كان بعد أن اشتدت الفتن والخلافات السياسية ومزجها أهلها بالدين واستغلوا نصوص القرآن وأوّلوها وفق أهوائهم، ثم ترجمت كتب المنطق والفلسفة اليونانية، وولع بها بعض المسلمين وصاروا يطبقونها على النصوص القرآنية واندست بينهم عناصر مريبة، فتفاقم الخطب وانفتح باب الجدل والكلام على مصراعيه، حتى كادوا يقفون عند كل آية ويتجادلون فيها، فأدى ذلك إلى شيء كثير من البلبلة والتشويش في سياق تفسير القرآن وتأويل آياته مما هو مبثوث في كتب علماء الكلام والشيعة وفرقها المتعددة.
وأفضل خطة لنظر القرآن وفهمه هي خطة ذلك السلف الصالح التي نوهنا بها أولا. وتأويل القرآن بالقرآن ثانيا.
والمتدبر في القرآن يرى معجزة باهرة فيه، حيث يجد في مكان ما تفسيرا وتأويلا وحلاّ لعبارة ما في مكان آخر قد تثير في نفسه إشكالا أو وهما، بل وإنه كثيرا ما يجد ذلك في نفس الآية التي فيها العبارة أو في سياقها القريب السابق أو اللاحق. وهذا مصداق قول الله تعالى ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ولَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [ ٨٢ ] النساء.
وقد مرّت أمثلة كثيرة من ذلك في المناسبات السابقة ونبهنا إليها.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ١٣ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ١٤ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ولاَ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ١٥ ﴾ [ ١٣ ـ ١٥ ]
في الآيات بيان رباني بأن كل إنسان في الآخرة ملزم بعمله وعليه تبعته إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن الله تعالى سيخرج له كتاب أعماله مفتوحا ويقول له : اقرأه وحاسب نفسك على ما فيه، والحكم عليها وفاقا له، وأن المهتدي إنما ينفع نفسه باهتدائه وأن الضال إنما يضر نفسه بضلاله، وأنه لا يحمل أحد تبعة عمل أحد ولا مسؤولية، وأن من تمام حكمة الله وعدله ألاّ يعذب أحدا حتى ينذره بلسان رسول من قبله يعرف بواسطته طريق الهدى وطريق الضلال حتى يكون ما يلقاه من عذاب أو ثواب في الآخرة قد استحقه وناله عدلا وحقّا.
والآيات متصلة بما سبقها اتصال سياق وتعقيب على ما هو المتبادر، وفيها قرينة مرجحة للتأويل الذي أولنا الآيات السابقة به.
والمتبادر كذلك أنها بالإضافة إلى حقيقة الحساب والثواب والعقاب الأخروية التي يجب الإيمان بها بسبيل تنبيه السامعين إلى أن كل ما يفعلونه في الدنيا محصي عليهم ومحاسبون عليه، وحملهم على اجتناب الكفر والإثم والإقبال على الإيمان بالله والعمل الصالح.
وفي الآية الأخيرة صراحة قطعية بتقرير قابلية الاختيار للإنسان، وكون ما يلقاه جزاء عمله من نعيم وعذاب هو جزاء على هذا الاختيار، وفيها كذلك تقرير لحكمة إرسال الرسل، حيث يبينون للناس الحدود التي لا يستطيعون معرفتها بعقولهم واجتهادهم.
ولقد شرحنا موضوع كتب أعمال الناس التي سوف تعلن لهم يوم القيامة في سياق تفسير سورة ( ق ) فنكتفي بهذه الإشارة.
تعليق على مدى الآية
{ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
ولاَ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }
في كتب التفسير تأويلات وتعليقات حول محتوى هذه الآية :
فأولا : إن بعضهم يفسر كلمة ( رسول ) بالعقل الإنساني ويوجب على الإنسان العاقل بأن يؤمن بالله وحده وباليوم الآخر، ويعمل العمل الصالح سواء أبلغته دعوة ربانية بطريق رسول أم لم تبلغه. ويجعل مصيره الأخروي مماثلا لمصير من بلغته دعوة مثل هذه.
وبقطع النظر عن وجاهة مسؤولية العاقل الراشد عن هداه وضلاله بالذات، فالذي يتبادر لنا أن المقصود بالكلمة هو النبي الذي يرسله الله لدعوة الناس وبيان الحدود التي يجب أن يسيروا في نطاقها مما قد لا يستطيع العقل تبينه وحده وأن في ذلك التفسير تحويلا للكلام لا يتحمله المقصود القرآني. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك منها آيات سورة الشعراء [ ٢٠٨ و ٢٠٩ ] وآية سورة القصص [ ٥٩ ] وآية سورة طه [ ١٣٤ ] اللتين مرّ تفسيرهما حيث تذكر : أن الله لا يهلك ولا يعذب أمة وقرية إلا بعد أن يرسل إليها رسولا يتلو عليها آياته ويبلغها دعوته.
وثانيا : ويدور جدل حول ما إذا كان ما قررته الآية من قابلية الإنسان للاهتداء والضلال ومسؤوليته عن ذلك وعدم مسؤولية أحد عن عمل غيره متناقضا أو غير متناقض مع آيات أخرى فيها تقرير كون الله خالق كل شيء بما في ذلك أفعال الناس وكون ما يقع منهم إنما يقع بمشيئة الله. وهذا الجدل يدور حول كل عبارة مماثلة مما مرّت أمثلة منه. ولقد شرحنا هذا الأمر في المناسبات السابقة بما رأينا أنه الحق إن شاء الله. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن المتبادر من روح الآية ومقامها : أنها على سبيل الإنذار والتنبيه ؛ ليكون في ذلك رادع وحافز للسامعين، وأن الأولى أن تُتلقى على هذا الاعتبار وتبقى في نطاقه. ومع ذلك فإن من الممكن أن يقال : إن قابلية الإنسان للاهتداء والضلال التي تقررها هذه الآية وأمثالها بصراحة هي من مشيئة الله تعالى المودعة في جبلّته فيزول بذلك وهم التناقض الذي لا يصحّ أن يفرض بين العبارات القرآنية والله أعلم.
وثالثا : وبين علماء الكلام القدماء جدل على هامش هذه الآية وأمثالها حول ما إذا كان يجب على الله تعالى إرسال الرسل لهداية الناس وما إذا كان يجب على الله تعالى جزاؤهم وفق أعمالهم. وما إذا كان يجب على الله تعالى الأصلح لهم.
ومع أن القرآن قرر في مواضع عديدة مرّت أمثلة منها : أن الله عز وجل لم يعذب الناس إلاّ بعد أن يرسل إليهم الرسل والمنذرين ويكفروا برسالاتهم وبالله ويبغوا ويفسدوا. وأن عذاب من يعذبهم وثواب من يثيبهم منهم نتيجة لمواقفهم من دعوة رسله ومنذريه هو حق عليه. وأنه ليس بظلام للعبيد. فإننا نرى واجب المسلمين اليوم أن يكفوا عن مجاراة علماء الكلام القدماء في ما كانوا يقولونه حينما كانوا يتجادلون مع بعضهم. وأن يكتفوا بما قرره القرآن ويقفوا عنده دون مماحكة ومراء وأن يتذكروا أن الله الحكيم العادل يعامل خلقه بمقتضى هاتين الصفتين وكفى.
ورابعا : لقد أثار المفسر ابن كثير في سياق هذه الآية مسألة المصير الأخروي لمن يموتون في طفولتهم والمجانين والصمّ والبكم والذين لم تبلغهم دعوة ربانية بواسطة رسله وكتبه. وقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة معزوّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها تضارب وغرابة ووصف بعضها بالمرفوع وبعضها بالضعيف. وليس فيها حديث صحيح يمكن الاحتجاج به نفيا وإثباتا في هذه المسألة، ولم نطلع نحن أيضا على مثل هذا الحديث. وما دام في القرآن نصوص صريحة بأن الله لا يعذب إلاّ بعد أن يرسل رسلا ومنذرين ويكفر الناس بهم وأن الله لا يكلف نفسا إلاّ وسعها ويدخل في مدى هذا التكليف الرباني الذي يترتب عليه الثواب والعقاب والذي إنما يكون بالنسبة للراشدين العاقلين الذين تبلغهم رسالات الله بواسطة رسله فإننا نرى الأولى أن يوقف في هذه المسألة عند هذه النصوص من الوجهة الكلامية. ونرى في الوقت نفسه أن في إثارتها في نطاق وسياق الآية تكلفا لا ضرورة له ولا طائل منه، والله تعالى أعلم.
مذهب السلف الصالح
في فهم القرآن وأسباب انفتاح باب الجدل والكلام حوله
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة ـ ويصح أن يذكر في كل مناسبة مماثلة سابقة ولاحقة ـ أن السلف الإسلامي الأول رضي الله عنه كان يأخذ القرآن بمفهومه المتبادر الذي كان يعيش في جوه، ولا يحمّله غير ما يحمل ولا يحاول التخمين والتزيّد ولا يثير الإشكالات والفروض بسبيلها، وكل ما كان من ذلك قد كان بعد أن اشتدت الفتن والخلافات السياسية ومزجها أهلها بالدين واستغلوا نصوص القرآن وأوّلوها وفق أهوائهم، ثم ترجمت كتب المنطق والفلسفة اليونانية، وولع بها بعض المسلمين وصاروا يطبقونها على النصوص القرآنية واندست بينهم عناصر مريبة، فتفاقم الخطب وانفتح باب الجدل والكلام على مصراعيه، حتى كادوا يقفون عند كل آية ويتجادلون فيها، فأدى ذلك إلى شيء كثير من البلبلة والتشويش في سياق تفسير القرآن وتأويل آياته مما هو مبثوث في كتب علماء الكلام والشيعة وفرقها المتعددة.
وأفضل خطة لنظر القرآن وفهمه هي خطة ذلك السلف الصالح التي نوهنا بها أولا. وتأويل القرآن بالقرآن ثانيا.
والمتدبر في القرآن يرى معجزة باهرة فيه، حيث يجد في مكان ما تفسيرا وتأويلا وحلاّ لعبارة ما في مكان آخر قد تثير في نفسه إشكالا أو وهما، بل وإنه كثيرا ما يجد ذلك في نفس الآية التي فيها العبارة أو في سياقها القريب السابق أو اللاحق. وهذا مصداق قول الله تعالى ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ولَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [ ٨٢ ] النساء.
وقد مرّت أمثلة كثيرة من ذلك في المناسبات السابقة ونبهنا إليها.

أمرنا : تعددت قراءة الكلمة كما تعدد تأويلها، فقرئت آمرنا بمعنى أكثرنا أي أكثرنا عدد المترفين. وأمّرنا بمعنى جعلناهم أمراء وسادة، وأمرنا بمعنى طلبنا منهم، وأوّل بعضهم جملة ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فيها ﴾ [ ١٦ ] بمعنى أمرناهم بالطاعة ففسقوا بسبب ترفهم وانحرافهم. وأوّلها بعضهم بمعنى أغدقنا عليهم فبطروا وفسقوا، ونفى المفسرون أن يكون معناها أمرناهم بالفسق لأن الله لا يأمر بالفحشاء على ما جاء في آية سورة الأعراف [ ٢٨ ] والنفي سديد وحق.
مترفيها : الكلمة هنا كناية عن الزعماء والوجهاء والأثرياء لأنهم هم الذين تيسّر لهم أن يحيوا حياة الترف والنعيم.
فسقوا : عصوا وتمردوا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ١٦وكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا ١٧ ﴾ [ ١٦ ـ١٧ ]
تعليق على آية
﴿ وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾ الخ وتلقيناتها
في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى إنما يهلك الأمة أو البلدة ويدمرها بفسق زعمائها ومترفيها ووجهائها وأثريائها إذا ما اغتروا بما صار لهم من مال وجاه فكفروا بنعمة الله وانحرفوا عن طريق الحق والفضيلة، وبأن الله قد أهلك على هذا الوجه كثيرا من الأمم والمدن من بعد نوح، وهو الأخبر الأبصر بذنوب عباده وما يستحقون عليها من عذاب وعقاب.
والآيات متصلة بسابقاتها كذلك اتصال سياق وتعقيب كما هو المتبادر، ويتبادر لنا أنها تنطوي على إنذار للكفار الذين هم موضوع الكلام وبخاصة لزعمائهم الذين حكت آيات كثيرة ـ مرت أمثلة عديدة منها ـ أنهم كانوا مغترين بقوتهم وأموالهم وأن ذلك جعلهم يقفون موقف المناوأة للدعوة النبوية التي خافوا منها على جاههم وزعامتهم وأموالهم. أما الإنذار لسائر الكفار المنطوي في جملة ﴿ فحق عليها القول ﴾ فهو في تنبيههم إلى أن نكال الله وتدميره لا يقتصر على المترفين الفاسقين ذوي الحكم والنفوذ بل سوف يشملهم أيضا إذا ظلوا يطيعونهم ويستجيبون إليهم ولا يستجيبون إلى دعوة الله تعالى. والكفار السامعون كانوا يعرفون أنباء نكال الله في الأمم السابقة على ما شرحناه في مناسبات سابقة فلزمتهم الحجة. وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى.
وليس من محل للتوهم بما جاء عليه أسلوب الآية. والظن بأن الله عز وجل يدمر قرية ما اعتباطا بدون سبب منها بأمر مترفيها أن يفسقوا فيها ليحل عليها القول كما ذهب إلى ذلك بعض الملحدين١. ويمنع هذا الظن الآية التي سبقت الآية والآيات التالية منعا حاسما كما يمنعه آيات كثيرة منها ﴿ ومَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ هود [ ١١٧ ] و﴿ ومَا كنا مُهْلِكَي الْقُرَى إلاّ وأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ القصص [ ٥٩ ].
ومع ما في هذا الشرح من تلقين مستمر المدى. ومع صواب تخريجات المؤولين لمدى الآية التي أوردناها في شرح العبارة سابقا، فإنه يتبادر لنا أن الآية تنطوي على تقرير ناموس من النواميس التي أقام الله عليها المجتمعات البشرية. وهو أن المترفين إذا صار لهم الأمر في بلد ما وفسقوا فيها وسكت أهل البلد عليهم استحقوا الدمار والهلاك منهم.
وهذا وارد في آية سورة الأنفال هذه ﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ [ ٢٥ ] حيث توجب على المجتمع أن يمنعوا الفتنة فإن لم يفعلوا لا تقتصر عاقبتها على مشعليها فقط، بل تصيب الجميع ؛ لأنهم قصروا في منعها. وفي هذا المعنى حديث رواه أصحاب السنن عن أبي بكر قال " سمعت رسول الله يقول : إن الناس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب ".
وقد يكون في الآية إلى هذا قصد التقرير بأن من النواميس التي أقام الله المجتمعات عليها أن يكون القائمون على المجتمع النافذون الحاكمون فيه صالحين أحيانا وفاسقين أحيانا، فإذا ما تولاه الأخيرون صار أمره إلى الدمار والفساد. وقصد التقرير بأن الزعماء تأثيرا في حالة أممهم صلاحا وفسادا على اعتبار أنهم يتأثرون بهم ويقلدونهم. وقصد التنبيه إلى عظم مسؤولية هذه الطبقة وخطورة الدور الذي تقوم فيه في أممهم وبلادهم والتنويه بواجب الجمهور تجاههم فيؤيدونهم إذا كانوا صالحين ويقفون في وجههم إذا كانوا فاسقين. والله تعالى أعلم.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ١٦وكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا ١٧ ﴾ [ ١٦ ـ١٧ ]
تعليق على آية
﴿ وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾ الخ وتلقيناتها
في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى إنما يهلك الأمة أو البلدة ويدمرها بفسق زعمائها ومترفيها ووجهائها وأثريائها إذا ما اغتروا بما صار لهم من مال وجاه فكفروا بنعمة الله وانحرفوا عن طريق الحق والفضيلة، وبأن الله قد أهلك على هذا الوجه كثيرا من الأمم والمدن من بعد نوح، وهو الأخبر الأبصر بذنوب عباده وما يستحقون عليها من عذاب وعقاب.
والآيات متصلة بسابقاتها كذلك اتصال سياق وتعقيب كما هو المتبادر، ويتبادر لنا أنها تنطوي على إنذار للكفار الذين هم موضوع الكلام وبخاصة لزعمائهم الذين حكت آيات كثيرة ـ مرت أمثلة عديدة منها ـ أنهم كانوا مغترين بقوتهم وأموالهم وأن ذلك جعلهم يقفون موقف المناوأة للدعوة النبوية التي خافوا منها على جاههم وزعامتهم وأموالهم. أما الإنذار لسائر الكفار المنطوي في جملة ﴿ فحق عليها القول ﴾ فهو في تنبيههم إلى أن نكال الله وتدميره لا يقتصر على المترفين الفاسقين ذوي الحكم والنفوذ بل سوف يشملهم أيضا إذا ظلوا يطيعونهم ويستجيبون إليهم ولا يستجيبون إلى دعوة الله تعالى. والكفار السامعون كانوا يعرفون أنباء نكال الله في الأمم السابقة على ما شرحناه في مناسبات سابقة فلزمتهم الحجة. وفي ذلك تلقين جليل مستمر المدى.
وليس من محل للتوهم بما جاء عليه أسلوب الآية. والظن بأن الله عز وجل يدمر قرية ما اعتباطا بدون سبب منها بأمر مترفيها أن يفسقوا فيها ليحل عليها القول كما ذهب إلى ذلك بعض الملحدين١. ويمنع هذا الظن الآية التي سبقت الآية والآيات التالية منعا حاسما كما يمنعه آيات كثيرة منها ﴿ ومَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ هود [ ١١٧ ] و﴿ ومَا كنا مُهْلِكَي الْقُرَى إلاّ وأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ القصص [ ٥٩ ].
ومع ما في هذا الشرح من تلقين مستمر المدى. ومع صواب تخريجات المؤولين لمدى الآية التي أوردناها في شرح العبارة سابقا، فإنه يتبادر لنا أن الآية تنطوي على تقرير ناموس من النواميس التي أقام الله عليها المجتمعات البشرية. وهو أن المترفين إذا صار لهم الأمر في بلد ما وفسقوا فيها وسكت أهل البلد عليهم استحقوا الدمار والهلاك منهم.
وهذا وارد في آية سورة الأنفال هذه ﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ [ ٢٥ ] حيث توجب على المجتمع أن يمنعوا الفتنة فإن لم يفعلوا لا تقتصر عاقبتها على مشعليها فقط، بل تصيب الجميع ؛ لأنهم قصروا في منعها. وفي هذا المعنى حديث رواه أصحاب السنن عن أبي بكر قال " سمعت رسول الله يقول : إن الناس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب ".
وقد يكون في الآية إلى هذا قصد التقرير بأن من النواميس التي أقام الله المجتمعات عليها أن يكون القائمون على المجتمع النافذون الحاكمون فيه صالحين أحيانا وفاسقين أحيانا، فإذا ما تولاه الأخيرون صار أمره إلى الدمار والفساد. وقصد التقرير بأن الزعماء تأثيرا في حالة أممهم صلاحا وفسادا على اعتبار أنهم يتأثرون بهم ويقلدونهم. وقصد التنبيه إلى عظم مسؤولية هذه الطبقة وخطورة الدور الذي تقوم فيه في أممهم وبلادهم والتنويه بواجب الجمهور تجاههم فيؤيدونهم إذا كانوا صالحين ويقفون في وجههم إذا كانوا فاسقين. والله تعالى أعلم.

العاجلة : كناية عن الدنيا وزينتها.
مدحورا : مطرودا ومبعدا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ١٨ ومَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وهُو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ١٩ كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ ومَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ٢٠ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ٢١ ﴾ [ ١٨ ـ٢١ ]
في الآيات تقرير رباني بأن الله يمكن أن يحقق أمل من يشاء من الذين يرغبون في متاع الحياة الدنيا وزينتها فقط دون اهتمام بالعواقب ؛ ولكن مصير هؤلاء في الآخرة إلى جهنم يدخلونها مذمومين مطرودين من رحمة الله. أما الذين يفكرون في الآخرة ويحسبون حسابها ويفضلون ما فيها من خير دائم على متاع الحياة القصيرة فيؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة فإن سعيهم عند الله مشكور ومثاب عليه. وفيها تقرير رباني كذلك بأن ما يتمتع به هؤلاء وهؤلاء في الدنيا هو من فضل الله الذي يمدهم به على ما فيه من تفاضل وتفاوت، وبأن هذا التفاوت والتفاضل في الآخرة أعظم وأكبر.
والآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وسياق أيضا. والمتبادر أنه انطوى فيها تحذير وإنذار وتطمين للمؤمنين، فإذا كان الكفار وبخاصة زعماءهم المترفون قد حظوا بالمال والجاه وشغلوا بهما عن الآخرة فسوف يكون مصيرهم إلى جهنم مذمومين مدحورين. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم بذلك قد أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها وسوف تكون منزلتهم عند الله هي الفضلى والكبرى.
وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى أيضا. فقد اقتضت حكمة الله تعالى ألاّ يمنع متاع الدنيا ووسائلها عن الناس وأن يكون ذلك في متناولهم فإذا شاء ييسر لأحد نصيبا وحظّا فليس معناه أنه راض عنه، وإنما معناه أنه تحت الاختبار فعليه ألاّ يكتفي بذلك ويغتر وينشغل به عن التفكير في العواقب، وأن يفكر في الآخرة ويسعى في سبيل النجاة من أهوالها ونيل رضاء الله ونعيمه فيها بالإيمان والعمل الصالح.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح المستلهَم من روح الآية والنصوص القرآنية الأخرى لا تتضمن تقبيح الاستمتاع بالحياة الدنيا وزينتها، وإنما تتضمن التحذير من الاستغراق فيها استغراقا ينسى صاحبه التفكير في العواقب والقيام بواجباته نحو الله والناس.
وجملة ﴿ وهو مؤمن ﴾ في الآية الأولى هي قيد تنبيهي سبق وروده في الآية [ ١١٢ ] من سورة طه. ونبهنا على ما انطوى فيه من مغزى هام. فنكتفي بهذه الإشارة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ١٨ ومَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وهُو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ١٩ كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ ومَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ٢٠ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ٢١ ﴾ [ ١٨ ـ٢١ ]
في الآيات تقرير رباني بأن الله يمكن أن يحقق أمل من يشاء من الذين يرغبون في متاع الحياة الدنيا وزينتها فقط دون اهتمام بالعواقب ؛ ولكن مصير هؤلاء في الآخرة إلى جهنم يدخلونها مذمومين مطرودين من رحمة الله. أما الذين يفكرون في الآخرة ويحسبون حسابها ويفضلون ما فيها من خير دائم على متاع الحياة القصيرة فيؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة فإن سعيهم عند الله مشكور ومثاب عليه. وفيها تقرير رباني كذلك بأن ما يتمتع به هؤلاء وهؤلاء في الدنيا هو من فضل الله الذي يمدهم به على ما فيه من تفاضل وتفاوت، وبأن هذا التفاوت والتفاضل في الآخرة أعظم وأكبر.
والآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وسياق أيضا. والمتبادر أنه انطوى فيها تحذير وإنذار وتطمين للمؤمنين، فإذا كان الكفار وبخاصة زعماءهم المترفون قد حظوا بالمال والجاه وشغلوا بهما عن الآخرة فسوف يكون مصيرهم إلى جهنم مذمومين مدحورين. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم بذلك قد أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها وسوف تكون منزلتهم عند الله هي الفضلى والكبرى.
وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى أيضا. فقد اقتضت حكمة الله تعالى ألاّ يمنع متاع الدنيا ووسائلها عن الناس وأن يكون ذلك في متناولهم فإذا شاء ييسر لأحد نصيبا وحظّا فليس معناه أنه راض عنه، وإنما معناه أنه تحت الاختبار فعليه ألاّ يكتفي بذلك ويغتر وينشغل به عن التفكير في العواقب، وأن يفكر في الآخرة ويسعى في سبيل النجاة من أهوالها ونيل رضاء الله ونعيمه فيها بالإيمان والعمل الصالح.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح المستلهَم من روح الآية والنصوص القرآنية الأخرى لا تتضمن تقبيح الاستمتاع بالحياة الدنيا وزينتها، وإنما تتضمن التحذير من الاستغراق فيها استغراقا ينسى صاحبه التفكير في العواقب والقيام بواجباته نحو الله والناس.
وجملة ﴿ وهو مؤمن ﴾ في الآية الأولى هي قيد تنبيهي سبق وروده في الآية [ ١١٢ ] من سورة طه. ونبهنا على ما انطوى فيه من مغزى هام. فنكتفي بهذه الإشارة.

محظورا : ممنوعا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ١٨ ومَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وهُو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ١٩ كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ ومَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ٢٠ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ٢١ ﴾ [ ١٨ ـ٢١ ]
في الآيات تقرير رباني بأن الله يمكن أن يحقق أمل من يشاء من الذين يرغبون في متاع الحياة الدنيا وزينتها فقط دون اهتمام بالعواقب ؛ ولكن مصير هؤلاء في الآخرة إلى جهنم يدخلونها مذمومين مطرودين من رحمة الله. أما الذين يفكرون في الآخرة ويحسبون حسابها ويفضلون ما فيها من خير دائم على متاع الحياة القصيرة فيؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة فإن سعيهم عند الله مشكور ومثاب عليه. وفيها تقرير رباني كذلك بأن ما يتمتع به هؤلاء وهؤلاء في الدنيا هو من فضل الله الذي يمدهم به على ما فيه من تفاضل وتفاوت، وبأن هذا التفاوت والتفاضل في الآخرة أعظم وأكبر.
والآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وسياق أيضا. والمتبادر أنه انطوى فيها تحذير وإنذار وتطمين للمؤمنين، فإذا كان الكفار وبخاصة زعماءهم المترفون قد حظوا بالمال والجاه وشغلوا بهما عن الآخرة فسوف يكون مصيرهم إلى جهنم مذمومين مدحورين. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم بذلك قد أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها وسوف تكون منزلتهم عند الله هي الفضلى والكبرى.
وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى أيضا. فقد اقتضت حكمة الله تعالى ألاّ يمنع متاع الدنيا ووسائلها عن الناس وأن يكون ذلك في متناولهم فإذا شاء ييسر لأحد نصيبا وحظّا فليس معناه أنه راض عنه، وإنما معناه أنه تحت الاختبار فعليه ألاّ يكتفي بذلك ويغتر وينشغل به عن التفكير في العواقب، وأن يفكر في الآخرة ويسعى في سبيل النجاة من أهوالها ونيل رضاء الله ونعيمه فيها بالإيمان والعمل الصالح.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح المستلهَم من روح الآية والنصوص القرآنية الأخرى لا تتضمن تقبيح الاستمتاع بالحياة الدنيا وزينتها، وإنما تتضمن التحذير من الاستغراق فيها استغراقا ينسى صاحبه التفكير في العواقب والقيام بواجباته نحو الله والناس.
وجملة ﴿ وهو مؤمن ﴾ في الآية الأولى هي قيد تنبيهي سبق وروده في الآية [ ١١٢ ] من سورة طه. ونبهنا على ما انطوى فيه من مغزى هام. فنكتفي بهذه الإشارة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ١٨ ومَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وهُو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ١٩ كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ ومَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ٢٠ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ٢١ ﴾ [ ١٨ ـ٢١ ]
في الآيات تقرير رباني بأن الله يمكن أن يحقق أمل من يشاء من الذين يرغبون في متاع الحياة الدنيا وزينتها فقط دون اهتمام بالعواقب ؛ ولكن مصير هؤلاء في الآخرة إلى جهنم يدخلونها مذمومين مطرودين من رحمة الله. أما الذين يفكرون في الآخرة ويحسبون حسابها ويفضلون ما فيها من خير دائم على متاع الحياة القصيرة فيؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة فإن سعيهم عند الله مشكور ومثاب عليه. وفيها تقرير رباني كذلك بأن ما يتمتع به هؤلاء وهؤلاء في الدنيا هو من فضل الله الذي يمدهم به على ما فيه من تفاضل وتفاوت، وبأن هذا التفاوت والتفاضل في الآخرة أعظم وأكبر.
والآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وسياق أيضا. والمتبادر أنه انطوى فيها تحذير وإنذار وتطمين للمؤمنين، فإذا كان الكفار وبخاصة زعماءهم المترفون قد حظوا بالمال والجاه وشغلوا بهما عن الآخرة فسوف يكون مصيرهم إلى جهنم مذمومين مدحورين. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم بذلك قد أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها وسوف تكون منزلتهم عند الله هي الفضلى والكبرى.
وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى أيضا. فقد اقتضت حكمة الله تعالى ألاّ يمنع متاع الدنيا ووسائلها عن الناس وأن يكون ذلك في متناولهم فإذا شاء ييسر لأحد نصيبا وحظّا فليس معناه أنه راض عنه، وإنما معناه أنه تحت الاختبار فعليه ألاّ يكتفي بذلك ويغتر وينشغل به عن التفكير في العواقب، وأن يفكر في الآخرة ويسعى في سبيل النجاة من أهوالها ونيل رضاء الله ونعيمه فيها بالإيمان والعمل الصالح.
وواضح أن الآيات بهذا الشرح المستلهَم من روح الآية والنصوص القرآنية الأخرى لا تتضمن تقبيح الاستمتاع بالحياة الدنيا وزينتها، وإنما تتضمن التحذير من الاستغراق فيها استغراقا ينسى صاحبه التفكير في العواقب والقيام بواجباته نحو الله والناس.
وجملة ﴿ وهو مؤمن ﴾ في الآية الأولى هي قيد تنبيهي سبق وروده في الآية [ ١١٢ ] من سورة طه. ونبهنا على ما انطوى فيه من مغزى هام. فنكتفي بهذه الإشارة.

مخذولا : لا نصير له ولا مؤيد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة : واخفض لهما جناحك متذللاّ من فرط رحمتك بهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

الأوابين : التائبين الراجعين إلى الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

وإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا : بمعنى إذا لم تستطع مساعدتهم فورا وتأخرت في ذلك انتظارا ليسر تنتظره من الله، فعليك أن تطيّب قلوبهم بالقول.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

مغلولة إلى عنقك : مقيدة. والجملة كناية عن شدة الإمساك والتقتير.
محسورا : أصل الحسر بمعنى الكشف. والحسرة هي انكشاف ما كان مانعا من الغمّ. وقيل : إن الحسر هو الكلال والعجز. والكلمة على كل حال بمعنى فناء جميع ما في اليد والعجز والحسرة بعد ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

يبسط : يوسع.
يقدر : يضيق ويقتر ولعلّ معناها اللغوي هو أن الرزق أحيانا يكون بحساب وقدر محدود. وفي القرآن آيات تذكر مقابل ذلك أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

الإملاق : الفقر والعجز عن الإعالة.
خطأ : ذنبا وإثما.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

إنه كان منصورا : إن له حق النصر والقصاص وليس له حق الإسراف في الانتقام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

القسطاس المستقيم : الميزان المضبوط السليم من الغش.
أحسن تأويلا : هنا بمعنى أحسن عاقبة، من الأيلولة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

ولا تقف ما ليس لك به علم : من القيافة وهي تتبع الأثر. ومعنى الجملة : لا تتدخل فيما ليس لك به علم وشأن.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ٢٢ وقَضَى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ٢٣ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ٢٤ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوابِينَ غَفُورًا ٢٥ وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧ و إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ٢٨ ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٣٠ و لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا ٣١ ولاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاء سَبِيلاً ٣٢ ولاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِولِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ٣٣ ولاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ٣٤ وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً٣٧ ُ كل ذلك كان سيئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ٣٩ ﴾ [ ٢٢ ـ ٣٩ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني لا تحتاج إلى أداء آخر. والمتبادر أنها جاءت بعد الآيات السابقة لها التي ذكرت الفرق بين الراغب في الآخرة والساعي لها بالإيمان والعمل الصالح وبين المستغرق في الحياة الدنيا المنشغل بها عن التفكير في العواقب لتستطرد إلى بيان الحدود التي يجب على الناس أن يسيروا في نطاقها لنيل رضاء الله وضمان السعادة في الدنيا والآخرة معا. ويلمح صلة أخرى بين الآيات وبين أوائل السورة أيضا. فكما آتى الله موسى عليه السلام الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل وأوحى إليه بوصاياه وحكمه أنزل الله تعالى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله هاديا للناس جميعا إلى التي هي أقوم، وأوحى إليه بوصاياه وحكمه كذلك.
تعليق على مجموعة الوصايا الربانية الرائعة في السورة
والآيات مجموعة رائعة من الحكم والوصايا المتصلة بعقيدة التوحيد وواجب الإنسان تجاه والديه وأقاربه والمساكين وأبناء السبيل والأيتام من برّ وقول معروف وحفظ حق، ثم واجب الاعتدال والقصد في حالة اليسر وعدم التبرّم بأحداث الحياة وضيق المعيشة وكثرة الولد في حالة الفقر والعسر. ثم واجب احترام أعراض الناس ودمائهم وعهودهم وأسرارهم واجتناب الإثم والفحش والبغي والكبر والخيلاء والتصدي للأمور بدون علم وبينة وفائدة بأسلوب قوي محكم الحلقات.
وقد سبق في سورة الفرقان مجموعة رائعة. غير أنها جاءت بأسلوب التنويه بأخلاق عباد الله الصالحين، في حين جاءت هذه بصيغة الأوامر والنواهي والوصايا والإلزام والتنبيه، وهي من هذه الناحية، ومن ناحية شمولها أجمع وأقوى جوامع القرآن في صدد الأخلاق الدينية والاجتماعية والشخصية التي من شأنها أن تكفل رضاء الله وعنايته، وأن تحفظ الناس من الشرور والمهالك وأن تضمن لهم السعادة والطمأنينة، وأن تبثّ فيهم روح التعاون والتراحم والإخاء، وأن تجنبهم ما لا يليق بالكرامة الإنسانية والشعور الإنساني من مواقف وحركات.
ومما يحسن لفت النظر إليه أن الوصايا لم تذكر مجردة، وإنما ردفت بأسباب التحسين والتقبيح العقلية، وصيغت بأسلوب مؤثر مقنع مما امتاز به الأسلوب القرآني بوجه عام، كذلك من الجدير بالذكر أن الأوامر والوصايا جاءت بأسلوب الترغيب والتحذير والترهيب دون التشريع ؛ لأن هذا إنما كان في العهد المدني الذي صار للمسلمين فيه دولة برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فمعظم ما نزل فيه تشريع مدني من المحذورات والمحظورات والواجبات والتكاليف قد ذكرت بأسلوب الترغيب والتحذير في القرآن المكي ؛ حيث ينطوي في هذا أن أسس الرسالة الإسلامية ومحكماتها أصيلة وطيدة منذ البدء. وفي هذا ردّ على المغرضين الذين يقولون كذبا وافتراء : إن الإسلام ونبيّه قد تطوّرا وتحوّلا عمّا كانا عليه في العهد المكي حتى الجهاد الذي هو دفاعي في الإسلام قد احتوى القرآن المكي نواته في آية من آيات سورة الشورى على ما سوف نشرحه في مناسبته.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء ويَقْدِرُ ﴾ الخ
هذه الآية جاءت في وضعها بمثابة تهدئة وتنبيه للناس. فقد جرت عادة الله عزّ وجل على بسط الرزق وتقتيره ؛ لأنه الأخبر الأبصر بمصالح عباده.
وقد يلمح فيها مع ذلك إلى هذا والله أعلم قصد الإشارة إلى النظام الذي أقام الله عليه المجتمع البشري والذي من مقتضاه أن ينبسط الرزق لفريق ويضيق على فريق. أو أن ينبسط في ظرف ويضيق في ظرف آخر حسب نواميس الخلق والاجتماع والاقتصاد الربانية وما من آثار ذلك من تفاوت الناس في النشاط والمواهب والفرص.
وهذا كله قد تكرر في آيات مماثلة في سور أخرى. منها آيات سورة الفجر ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ١٦ كلا... ﴾ وقد نبهنا فيها إلى تلك النواميس. ومنها آيات سورة الروم [ ٣٧ ] وسورة سبأ [ ٣٦ ] والمعنى الملموح يبدو أكثر وضوحا في هاتين الآيتين على ما سوف نشرحه بعد.
صور من تقاليد العرب وعاداتهم
ولقد احتوت الآية [ ٣١ ] صورة من صور ما كان العرب أو بعضهم يفعله في الأزمات الغذائية، حيث كانوا يقتلون أطفالهم تخلصا من كثرة العائلة وما تسببه من ضيق وإملاق، والمتبادر أن هذه الصورة هي غير ما كان من عادة ذبح الأبناء قرابين للمعبودات والأصنام مما ينطوي في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ ﴾ وهي على الأرجح غير ما كان من وأد البنات أحياء مما ذكرته آيات سورة النحل هذه ﴿ وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْودًّا وَهُو كَظِيمٌ٥٨ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ألا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ٥٩ ﴾ على ما سوف نشرحه بعد.
واحتوت الآية [ ٣٣ ] كذلك صورة لما كان عليه العرب في حالة وقوع حادث قتل ؛ حيث كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطا فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيرة من ذوي قرباه ويسرفون أحيانا في الثأر والانتقام، لاسيما إذا كانوا أقوى من أرومة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق ؛ حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، وتنبه على أن المفسرين بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكرناه حملوا جملة ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ على محمل آخر أيضا حيث قالوا : إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل من باب التحذير، ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان حملها على أنها خطاب لوالي المقتول أكثر وجاهة لأنه الأقرب للكلام.
تنويه بما احتوته الآيات من تلقينات هامة

ويلفت النظر خاصة :

( ١ ) إلى الوصية بالإخلاص لله وحده ثلاث مرات : مرتين في أول المجموعة ومرة في ختامها. ولعل الحكمة في هذا بالإضافة إلى أنه من أهم الأهداف الرئيسية للرسالة المحمدية هو قصد التوكيد على أن الإيمان بالله تعالى وحده وعبادته ونبذ ما سواه هو رأس كل خير وصلاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة. فهو يملأ القلب بالطمأنينة والشعور بالغنى عن الغير. ويجعل صاحبه يعزف عن الخضوع للغير ويلتزم أوامر الله ونواهيه التي فيها قوام الحياة وسعادة الدارين.
( ٢ ) إلى التوكيد القوي النافذ على البرّ بالوالدين وجعله في الذكر بعد حق الله تعالى على الإنسان ؛ حيث يدل هذا على عناية القرآن بهذا الواجب الإنساني العظيم. وقد تكرر هذا كثيرا في القرآن. وهو حقّا امتحان لقلب المرء وروحه وعاطفته وطويته وشكره وجحوده. فالذي لا يعترف بحق والديه ولا يقوم به على الوجه الأفضل التام أولى به ألاّ يعترف بحق الله وحق الغير، والذي يقسو عليهما أولى به أن يكون أشد قسوة وكفرانا للغير.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن جملة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ في الآية [ ٢٤ ] قد نسخت بآية سورة التوبة هذه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ ﴾ والمتبادر أن النسخ وارد بالنسبة للوالدين الكافرين إذا ماتوا كفارا وحسب. وأن الجملة هي مع ذلك بسبيل أمر الله تعالى للأولاد بأن يظلوا معترفين بما كان لآبائهم عليهم من فضل العناية والتنشئة في ظرف طفولتهم وعجزهم وشدة الحاجة إلى ذلك.
( ٣ ) إلى استعمال كلمة ﴿ حقه ﴾ في سياق معاونة ذي القربى والمسكين وابن السبيل حيث انطوى فيها تقرير قوة الواجب على القادر تجاه أقاربه والطبقات المعوزة واعتبار ذلك حقا وليس منة. وذكر ذي القربى بخاصة ينطوي فيه تلقين بكون مساعدة ذوي القربى المحتاجين وغير المحتاجين قرينة من القرب. بالإضافة إلى ما فيها من صلة الرحم وتلقين الامتناع عما يقع كثيرا من الجنف والبغي بين الأقارب.
( ٤ ) إلى النهي القوي عن التبذير ووصف المبذرين بإخوان الشياطين زيادة في التشديد والتنديد. وما ينطوي في ذلك من حظر إنفاق المال في غير وجهه الحق والنافع وبكلمة أخرى حظر إنفاقه في الترف السفيه في المسكن والملبس والزينة واللهو والفسق والفجور والاستعلاء والفساد في الأرض. في حين يكون السوا

أفاصفأكم : هل اختصكم واصطفاكم.
قولا عظيما : قولا عظيما في النكر والافتراء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ٤٠ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ ومَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُورًا ٤١ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا ْإِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ٤٢ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤٣ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ والأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وإِن مِّن شَيْءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ٤٤ ﴾ [ ٤٠ ـ ٤٤ ]
الآيات واضحة والألفاظ والمعاني كذلك. والصلة ملموحة بينها وبين السياق السابق من حيث إن المجموعة السابقة انتهت بالنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله تعالى وأن هذه الآيات بدأت ملتفتة إلى الذين ينسبون إلى الله سبحانه ما لا يليق من اتخاذ البنات يشركون معه آلهة أخرى.
وواضح من الضمير المخاطب في الآية الأولى أن التسفيه والتقريع موجهان إلى العرب الذين يسمعون القرآن، وأن تلك العقيدة هي من عقائدهم، وقد تكرر هذا في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
وقد احتوت الآية الأولى حجة جدلية للمساجلة حيث أرادت تقرير كون هذه العقيدة قد فقدت أي شيء من المنطق ؛ إذ كيف يجوز أن يظن أصحابها أن الله يتخذ لنفسه البنات وهنّ في نظرهم أدنى من البنين في حين أنه هو الذي يمنحهم البنين.
واحتوت الآية الثالثة حجة جدلية أخرى، فلو كان لله سبحانه شركاء في كونه لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء.
واحتوت الآيتان الأخيرتان تنزيها لله تعالى عن هذا اللغو الباطل وتقريرا بوحدة ربوبيته وخضوع كل شيء له وتسبيح كل شيء باسمه وحمده، ثم تنويها بصفتي الغفور الحليم الربانيتين كأنما أريد بهما في هذا المقام أن الله سبحانه وتعالى بمقتضى صفتيه هاتين لا يعجل بالعذاب على الذي يعتقدون ويقولون تلك العقائد والأقوال التي لا تليق بحقه، ويحلم عليهم ويفسح المجال لهم للتوبة ويشملهم بغفرانه.
وروح الآيات تلهم أن الذين كانوا يعتقدون أن لله سبحانه شركاء ويقولون : إن الملائكة بناته كانوا يسلمون بأنه تعالى هو الإله الأعظم خالق الأكوان ومدبرها. مما ورد في آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة. ومن هنا كانت الحجة ملزمة قارعة والتنديد محكما بليغا.
ولقد ذكر بعض المفسرين في صدد تسبيح ما في كون الله تعالى من موجودات متنوعة أقوالاّ ورووا روايات عديدة والرواية غير وثيقة الإسناد وفيها وفي الأقوال غرابة وتكلف ولم نر طائلا وفائدة في إيراد ذلك. على أن جمهورهم قرروا أن التسبيح هو بلسان الحال وعلى معنى الخضوع لحكم الله ومطلق تصرفه وكون ما في الكون هو من صنعه وخلقه وقد منحه الله ما هو في حاجة إليه. وهذا هو الأوجه المتسق من العبارة فحوى روحا كما هو ظاهر.
وقد تلهم الآية الأولى أن الآيات بسبيل التعقيب على مشهد جدلي وجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حيث قال هؤلاء : إننا نعتقد بالله وإنما نتخذ الملائكة شفعاء لديه لأنهم بناته فنزلت الآيات مفنّدة مقرّعة منزّهة. وهذا إن صح لا يتعارض مع ما قررناه من الصلة بينها وبين ما سبقها.
تعليق على تحديد عدد السماوات بسبع
وهذه أول مرة يحدد فيها عدد السماوات بسبع، وقد تكرر هذا في أكثر من سورة منها المكي ومنها المدني.
وفي الإصحاحات الأولى من سفر التكوين التي ذكرت كيف بدأ الله تعالى خلق الأكوان وردت جملة ( السماوات والأرض ) فقط بدون عدد. وهذه الجملة هي أكثر ما ورد في القرآن أيضا.
وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية ورد فيها عدد السماوات سبعا. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الصحاح أيضا، وهذا واحد منها رواه الترمذي عن أبي هريرة قال " بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال : هل تدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : هذا العنان روايا الأرض يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثمّ قال : هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف، قال : هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع سماوات ما بين كلّ سماءين كما بين السّماء والأرض. ثمّ قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السّماء بعد مثل ما بين السماءين. ثمّ قال : هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّها الأرض، ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثمّ قال : والذي نفسي بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله. ثم قرأ ﴿ هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم٣ ﴾١ وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الصحاح إيضاح للماهية.
ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإيكال ما لا يدرك تأويله عقل الإنسان إلى الله تعالى، فإنه يلمح من الحديث حكمة صدوره وحكمة حديثه وهي التنويه بعظمة الله تعالى وقدرته وعظمة كونه كما هو المتبادر.
ولم نطلع في كتب التفسير على شيء معقول وثيق في ماهية السماوات السبع، إلاّ ما جاء في الجزء الأول من محاسن التأويل للقاسمي الذي قال فيه : إن بعض علماء الفلك قالوا : إن السماوات السبع هي السيارات السبع في العالم الشمسي، وإن بعض علماء اللغة ذكروا أن ( سبع ) و( سبعين ) و( سبعمائة ) يورد أحيانا للتعبير عن الكثرة في مراتب الآحاد والعشرات والمئات.
ومهما يكن من أمر فإن ورود العدد في الآية بحرف التعريف قد يدل على أن سامعي القرآن من العرب أو كان بعضهم يعرفون أن عدد السماوات سبع، وإن المتبادر من صيغة الآية وروحها أن ذكر العدد فيها ليس بقصد تقرير فني عددي لذاته، وإنما هو بقصد التنويه بأن جميع ما خلق الله تعالى خاضع له مسبح بحمده اعترافا بربوبيته وعظمته بسبيل الرد على الذين يزعمون أن له أولادا وشركاء هؤلاء السامعين وتسفيههم. ونرى الأولى الوقوف عند ذلك دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف حكمة التنزيل في ذكر ذلك وهو التنبيه على ما في سماوات الله من عظمة وروعة.
ولا تخمين، مع الإيمان بقدرة الله على كل شيء وحكمته في كل ما جاء في القرآن. ولما كانت السماوات من أعظم ما تروع الأذهان والأبصار من مشاهد كون الله وعظمته وكان العدد مما يسمعه السامعون فيكون التنويه بذلك من تلك الحكمة، والله أعلم.

نفورا : بعدا وانصرافا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ٤٠ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ ومَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُورًا ٤١ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا ْإِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ٤٢ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤٣ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ والأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وإِن مِّن شَيْءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ٤٤ ﴾ [ ٤٠ ـ ٤٤ ]
الآيات واضحة والألفاظ والمعاني كذلك. والصلة ملموحة بينها وبين السياق السابق من حيث إن المجموعة السابقة انتهت بالنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله تعالى وأن هذه الآيات بدأت ملتفتة إلى الذين ينسبون إلى الله سبحانه ما لا يليق من اتخاذ البنات يشركون معه آلهة أخرى.
وواضح من الضمير المخاطب في الآية الأولى أن التسفيه والتقريع موجهان إلى العرب الذين يسمعون القرآن، وأن تلك العقيدة هي من عقائدهم، وقد تكرر هذا في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
وقد احتوت الآية الأولى حجة جدلية للمساجلة حيث أرادت تقرير كون هذه العقيدة قد فقدت أي شيء من المنطق ؛ إذ كيف يجوز أن يظن أصحابها أن الله يتخذ لنفسه البنات وهنّ في نظرهم أدنى من البنين في حين أنه هو الذي يمنحهم البنين.
واحتوت الآية الثالثة حجة جدلية أخرى، فلو كان لله سبحانه شركاء في كونه لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء.
واحتوت الآيتان الأخيرتان تنزيها لله تعالى عن هذا اللغو الباطل وتقريرا بوحدة ربوبيته وخضوع كل شيء له وتسبيح كل شيء باسمه وحمده، ثم تنويها بصفتي الغفور الحليم الربانيتين كأنما أريد بهما في هذا المقام أن الله سبحانه وتعالى بمقتضى صفتيه هاتين لا يعجل بالعذاب على الذي يعتقدون ويقولون تلك العقائد والأقوال التي لا تليق بحقه، ويحلم عليهم ويفسح المجال لهم للتوبة ويشملهم بغفرانه.
وروح الآيات تلهم أن الذين كانوا يعتقدون أن لله سبحانه شركاء ويقولون : إن الملائكة بناته كانوا يسلمون بأنه تعالى هو الإله الأعظم خالق الأكوان ومدبرها. مما ورد في آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة. ومن هنا كانت الحجة ملزمة قارعة والتنديد محكما بليغا.
ولقد ذكر بعض المفسرين في صدد تسبيح ما في كون الله تعالى من موجودات متنوعة أقوالاّ ورووا روايات عديدة والرواية غير وثيقة الإسناد وفيها وفي الأقوال غرابة وتكلف ولم نر طائلا وفائدة في إيراد ذلك. على أن جمهورهم قرروا أن التسبيح هو بلسان الحال وعلى معنى الخضوع لحكم الله ومطلق تصرفه وكون ما في الكون هو من صنعه وخلقه وقد منحه الله ما هو في حاجة إليه. وهذا هو الأوجه المتسق من العبارة فحوى روحا كما هو ظاهر.
وقد تلهم الآية الأولى أن الآيات بسبيل التعقيب على مشهد جدلي وجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حيث قال هؤلاء : إننا نعتقد بالله وإنما نتخذ الملائكة شفعاء لديه لأنهم بناته فنزلت الآيات مفنّدة مقرّعة منزّهة. وهذا إن صح لا يتعارض مع ما قررناه من الصلة بينها وبين ما سبقها.
تعليق على تحديد عدد السماوات بسبع
وهذه أول مرة يحدد فيها عدد السماوات بسبع، وقد تكرر هذا في أكثر من سورة منها المكي ومنها المدني.
وفي الإصحاحات الأولى من سفر التكوين التي ذكرت كيف بدأ الله تعالى خلق الأكوان وردت جملة ( السماوات والأرض ) فقط بدون عدد. وهذه الجملة هي أكثر ما ورد في القرآن أيضا.
وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية ورد فيها عدد السماوات سبعا. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الصحاح أيضا، وهذا واحد منها رواه الترمذي عن أبي هريرة قال " بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال : هل تدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : هذا العنان روايا الأرض يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثمّ قال : هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف، قال : هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع سماوات ما بين كلّ سماءين كما بين السّماء والأرض. ثمّ قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السّماء بعد مثل ما بين السماءين. ثمّ قال : هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّها الأرض، ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثمّ قال : والذي نفسي بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله. ثم قرأ ﴿ هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم٣ ﴾١ وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الصحاح إيضاح للماهية.
ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإيكال ما لا يدرك تأويله عقل الإنسان إلى الله تعالى، فإنه يلمح من الحديث حكمة صدوره وحكمة حديثه وهي التنويه بعظمة الله تعالى وقدرته وعظمة كونه كما هو المتبادر.
ولم نطلع في كتب التفسير على شيء معقول وثيق في ماهية السماوات السبع، إلاّ ما جاء في الجزء الأول من محاسن التأويل للقاسمي الذي قال فيه : إن بعض علماء الفلك قالوا : إن السماوات السبع هي السيارات السبع في العالم الشمسي، وإن بعض علماء اللغة ذكروا أن ( سبع ) و( سبعين ) و( سبعمائة ) يورد أحيانا للتعبير عن الكثرة في مراتب الآحاد والعشرات والمئات.
ومهما يكن من أمر فإن ورود العدد في الآية بحرف التعريف قد يدل على أن سامعي القرآن من العرب أو كان بعضهم يعرفون أن عدد السماوات سبع، وإن المتبادر من صيغة الآية وروحها أن ذكر العدد فيها ليس بقصد تقرير فني عددي لذاته، وإنما هو بقصد التنويه بأن جميع ما خلق الله تعالى خاضع له مسبح بحمده اعترافا بربوبيته وعظمته بسبيل الرد على الذين يزعمون أن له أولادا وشركاء هؤلاء السامعين وتسفيههم. ونرى الأولى الوقوف عند ذلك دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف حكمة التنزيل في ذكر ذلك وهو التنبيه على ما في سماوات الله من عظمة وروعة.
ولا تخمين، مع الإيمان بقدرة الله على كل شيء وحكمته في كل ما جاء في القرآن. ولما كانت السماوات من أعظم ما تروع الأذهان والأبصار من مشاهد كون الله وعظمته وكان العدد مما يسمعه السامعون فيكون التنويه بذلك من تلك الحكمة، والله أعلم.

لابتغوا : لتطلعوا إلى ذي العرش وحاولوا أن يتجاوزوا عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ٤٠ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ ومَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُورًا ٤١ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا ْإِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ٤٢ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤٣ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ والأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وإِن مِّن شَيْءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ٤٤ ﴾ [ ٤٠ ـ ٤٤ ]
الآيات واضحة والألفاظ والمعاني كذلك. والصلة ملموحة بينها وبين السياق السابق من حيث إن المجموعة السابقة انتهت بالنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله تعالى وأن هذه الآيات بدأت ملتفتة إلى الذين ينسبون إلى الله سبحانه ما لا يليق من اتخاذ البنات يشركون معه آلهة أخرى.
وواضح من الضمير المخاطب في الآية الأولى أن التسفيه والتقريع موجهان إلى العرب الذين يسمعون القرآن، وأن تلك العقيدة هي من عقائدهم، وقد تكرر هذا في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
وقد احتوت الآية الأولى حجة جدلية للمساجلة حيث أرادت تقرير كون هذه العقيدة قد فقدت أي شيء من المنطق ؛ إذ كيف يجوز أن يظن أصحابها أن الله يتخذ لنفسه البنات وهنّ في نظرهم أدنى من البنين في حين أنه هو الذي يمنحهم البنين.
واحتوت الآية الثالثة حجة جدلية أخرى، فلو كان لله سبحانه شركاء في كونه لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء.
واحتوت الآيتان الأخيرتان تنزيها لله تعالى عن هذا اللغو الباطل وتقريرا بوحدة ربوبيته وخضوع كل شيء له وتسبيح كل شيء باسمه وحمده، ثم تنويها بصفتي الغفور الحليم الربانيتين كأنما أريد بهما في هذا المقام أن الله سبحانه وتعالى بمقتضى صفتيه هاتين لا يعجل بالعذاب على الذي يعتقدون ويقولون تلك العقائد والأقوال التي لا تليق بحقه، ويحلم عليهم ويفسح المجال لهم للتوبة ويشملهم بغفرانه.
وروح الآيات تلهم أن الذين كانوا يعتقدون أن لله سبحانه شركاء ويقولون : إن الملائكة بناته كانوا يسلمون بأنه تعالى هو الإله الأعظم خالق الأكوان ومدبرها. مما ورد في آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة. ومن هنا كانت الحجة ملزمة قارعة والتنديد محكما بليغا.
ولقد ذكر بعض المفسرين في صدد تسبيح ما في كون الله تعالى من موجودات متنوعة أقوالاّ ورووا روايات عديدة والرواية غير وثيقة الإسناد وفيها وفي الأقوال غرابة وتكلف ولم نر طائلا وفائدة في إيراد ذلك. على أن جمهورهم قرروا أن التسبيح هو بلسان الحال وعلى معنى الخضوع لحكم الله ومطلق تصرفه وكون ما في الكون هو من صنعه وخلقه وقد منحه الله ما هو في حاجة إليه. وهذا هو الأوجه المتسق من العبارة فحوى روحا كما هو ظاهر.
وقد تلهم الآية الأولى أن الآيات بسبيل التعقيب على مشهد جدلي وجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حيث قال هؤلاء : إننا نعتقد بالله وإنما نتخذ الملائكة شفعاء لديه لأنهم بناته فنزلت الآيات مفنّدة مقرّعة منزّهة. وهذا إن صح لا يتعارض مع ما قررناه من الصلة بينها وبين ما سبقها.
تعليق على تحديد عدد السماوات بسبع
وهذه أول مرة يحدد فيها عدد السماوات بسبع، وقد تكرر هذا في أكثر من سورة منها المكي ومنها المدني.
وفي الإصحاحات الأولى من سفر التكوين التي ذكرت كيف بدأ الله تعالى خلق الأكوان وردت جملة ( السماوات والأرض ) فقط بدون عدد. وهذه الجملة هي أكثر ما ورد في القرآن أيضا.
وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية ورد فيها عدد السماوات سبعا. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الصحاح أيضا، وهذا واحد منها رواه الترمذي عن أبي هريرة قال " بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال : هل تدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : هذا العنان روايا الأرض يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثمّ قال : هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف، قال : هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع سماوات ما بين كلّ سماءين كما بين السّماء والأرض. ثمّ قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السّماء بعد مثل ما بين السماءين. ثمّ قال : هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّها الأرض، ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثمّ قال : والذي نفسي بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله. ثم قرأ ﴿ هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم٣ ﴾١ وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الصحاح إيضاح للماهية.
ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإيكال ما لا يدرك تأويله عقل الإنسان إلى الله تعالى، فإنه يلمح من الحديث حكمة صدوره وحكمة حديثه وهي التنويه بعظمة الله تعالى وقدرته وعظمة كونه كما هو المتبادر.
ولم نطلع في كتب التفسير على شيء معقول وثيق في ماهية السماوات السبع، إلاّ ما جاء في الجزء الأول من محاسن التأويل للقاسمي الذي قال فيه : إن بعض علماء الفلك قالوا : إن السماوات السبع هي السيارات السبع في العالم الشمسي، وإن بعض علماء اللغة ذكروا أن ( سبع ) و( سبعين ) و( سبعمائة ) يورد أحيانا للتعبير عن الكثرة في مراتب الآحاد والعشرات والمئات.
ومهما يكن من أمر فإن ورود العدد في الآية بحرف التعريف قد يدل على أن سامعي القرآن من العرب أو كان بعضهم يعرفون أن عدد السماوات سبع، وإن المتبادر من صيغة الآية وروحها أن ذكر العدد فيها ليس بقصد تقرير فني عددي لذاته، وإنما هو بقصد التنويه بأن جميع ما خلق الله تعالى خاضع له مسبح بحمده اعترافا بربوبيته وعظمته بسبيل الرد على الذين يزعمون أن له أولادا وشركاء هؤلاء السامعين وتسفيههم. ونرى الأولى الوقوف عند ذلك دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف حكمة التنزيل في ذكر ذلك وهو التنبيه على ما في سماوات الله من عظمة وروعة.
ولا تخمين، مع الإيمان بقدرة الله على كل شيء وحكمته في كل ما جاء في القرآن. ولما كانت السماوات من أعظم ما تروع الأذهان والأبصار من مشاهد كون الله وعظمته وكان العدد مما يسمعه السامعون فيكون التنويه بذلك من تلك الحكمة، والله أعلم.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ٤٠ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ ومَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُورًا ٤١ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا ْإِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ٤٢ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤٣ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ والأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وإِن مِّن شَيْءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ٤٤ ﴾ [ ٤٠ ـ ٤٤ ]
الآيات واضحة والألفاظ والمعاني كذلك. والصلة ملموحة بينها وبين السياق السابق من حيث إن المجموعة السابقة انتهت بالنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله تعالى وأن هذه الآيات بدأت ملتفتة إلى الذين ينسبون إلى الله سبحانه ما لا يليق من اتخاذ البنات يشركون معه آلهة أخرى.
وواضح من الضمير المخاطب في الآية الأولى أن التسفيه والتقريع موجهان إلى العرب الذين يسمعون القرآن، وأن تلك العقيدة هي من عقائدهم، وقد تكرر هذا في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
وقد احتوت الآية الأولى حجة جدلية للمساجلة حيث أرادت تقرير كون هذه العقيدة قد فقدت أي شيء من المنطق ؛ إذ كيف يجوز أن يظن أصحابها أن الله يتخذ لنفسه البنات وهنّ في نظرهم أدنى من البنين في حين أنه هو الذي يمنحهم البنين.
واحتوت الآية الثالثة حجة جدلية أخرى، فلو كان لله سبحانه شركاء في كونه لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء.
واحتوت الآيتان الأخيرتان تنزيها لله تعالى عن هذا اللغو الباطل وتقريرا بوحدة ربوبيته وخضوع كل شيء له وتسبيح كل شيء باسمه وحمده، ثم تنويها بصفتي الغفور الحليم الربانيتين كأنما أريد بهما في هذا المقام أن الله سبحانه وتعالى بمقتضى صفتيه هاتين لا يعجل بالعذاب على الذي يعتقدون ويقولون تلك العقائد والأقوال التي لا تليق بحقه، ويحلم عليهم ويفسح المجال لهم للتوبة ويشملهم بغفرانه.
وروح الآيات تلهم أن الذين كانوا يعتقدون أن لله سبحانه شركاء ويقولون : إن الملائكة بناته كانوا يسلمون بأنه تعالى هو الإله الأعظم خالق الأكوان ومدبرها. مما ورد في آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة. ومن هنا كانت الحجة ملزمة قارعة والتنديد محكما بليغا.
ولقد ذكر بعض المفسرين في صدد تسبيح ما في كون الله تعالى من موجودات متنوعة أقوالاّ ورووا روايات عديدة والرواية غير وثيقة الإسناد وفيها وفي الأقوال غرابة وتكلف ولم نر طائلا وفائدة في إيراد ذلك. على أن جمهورهم قرروا أن التسبيح هو بلسان الحال وعلى معنى الخضوع لحكم الله ومطلق تصرفه وكون ما في الكون هو من صنعه وخلقه وقد منحه الله ما هو في حاجة إليه. وهذا هو الأوجه المتسق من العبارة فحوى روحا كما هو ظاهر.
وقد تلهم الآية الأولى أن الآيات بسبيل التعقيب على مشهد جدلي وجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حيث قال هؤلاء : إننا نعتقد بالله وإنما نتخذ الملائكة شفعاء لديه لأنهم بناته فنزلت الآيات مفنّدة مقرّعة منزّهة. وهذا إن صح لا يتعارض مع ما قررناه من الصلة بينها وبين ما سبقها.
تعليق على تحديد عدد السماوات بسبع
وهذه أول مرة يحدد فيها عدد السماوات بسبع، وقد تكرر هذا في أكثر من سورة منها المكي ومنها المدني.
وفي الإصحاحات الأولى من سفر التكوين التي ذكرت كيف بدأ الله تعالى خلق الأكوان وردت جملة ( السماوات والأرض ) فقط بدون عدد. وهذه الجملة هي أكثر ما ورد في القرآن أيضا.
وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية ورد فيها عدد السماوات سبعا. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الصحاح أيضا، وهذا واحد منها رواه الترمذي عن أبي هريرة قال " بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال : هل تدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : هذا العنان روايا الأرض يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثمّ قال : هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف، قال : هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع سماوات ما بين كلّ سماءين كما بين السّماء والأرض. ثمّ قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السّماء بعد مثل ما بين السماءين. ثمّ قال : هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّها الأرض، ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثمّ قال : والذي نفسي بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله. ثم قرأ ﴿ هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم٣ ﴾١ وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الصحاح إيضاح للماهية.
ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإيكال ما لا يدرك تأويله عقل الإنسان إلى الله تعالى، فإنه يلمح من الحديث حكمة صدوره وحكمة حديثه وهي التنويه بعظمة الله تعالى وقدرته وعظمة كونه كما هو المتبادر.
ولم نطلع في كتب التفسير على شيء معقول وثيق في ماهية السماوات السبع، إلاّ ما جاء في الجزء الأول من محاسن التأويل للقاسمي الذي قال فيه : إن بعض علماء الفلك قالوا : إن السماوات السبع هي السيارات السبع في العالم الشمسي، وإن بعض علماء اللغة ذكروا أن ( سبع ) و( سبعين ) و( سبعمائة ) يورد أحيانا للتعبير عن الكثرة في مراتب الآحاد والعشرات والمئات.
ومهما يكن من أمر فإن ورود العدد في الآية بحرف التعريف قد يدل على أن سامعي القرآن من العرب أو كان بعضهم يعرفون أن عدد السماوات سبع، وإن المتبادر من صيغة الآية وروحها أن ذكر العدد فيها ليس بقصد تقرير فني عددي لذاته، وإنما هو بقصد التنويه بأن جميع ما خلق الله تعالى خاضع له مسبح بحمده اعترافا بربوبيته وعظمته بسبيل الرد على الذين يزعمون أن له أولادا وشركاء هؤلاء السامعين وتسفيههم. ونرى الأولى الوقوف عند ذلك دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف حكمة التنزيل في ذكر ذلك وهو التنبيه على ما في سماوات الله من عظمة وروعة.
ولا تخمين، مع الإيمان بقدرة الله على كل شيء وحكمته في كل ما جاء في القرآن. ولما كانت السماوات من أعظم ما تروع الأذهان والأبصار من مشاهد كون الله وعظمته وكان العدد مما يسمعه السامعون فيكون التنويه بذلك من تلك الحكمة، والله أعلم.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ٤٠ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ ومَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُورًا ٤١ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا ْإِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ٤٢ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤٣ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ والأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وإِن مِّن شَيْءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ٤٤ ﴾ [ ٤٠ ـ ٤٤ ]
الآيات واضحة والألفاظ والمعاني كذلك. والصلة ملموحة بينها وبين السياق السابق من حيث إن المجموعة السابقة انتهت بالنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله تعالى وأن هذه الآيات بدأت ملتفتة إلى الذين ينسبون إلى الله سبحانه ما لا يليق من اتخاذ البنات يشركون معه آلهة أخرى.
وواضح من الضمير المخاطب في الآية الأولى أن التسفيه والتقريع موجهان إلى العرب الذين يسمعون القرآن، وأن تلك العقيدة هي من عقائدهم، وقد تكرر هذا في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
وقد احتوت الآية الأولى حجة جدلية للمساجلة حيث أرادت تقرير كون هذه العقيدة قد فقدت أي شيء من المنطق ؛ إذ كيف يجوز أن يظن أصحابها أن الله يتخذ لنفسه البنات وهنّ في نظرهم أدنى من البنين في حين أنه هو الذي يمنحهم البنين.
واحتوت الآية الثالثة حجة جدلية أخرى، فلو كان لله سبحانه شركاء في كونه لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء.
واحتوت الآيتان الأخيرتان تنزيها لله تعالى عن هذا اللغو الباطل وتقريرا بوحدة ربوبيته وخضوع كل شيء له وتسبيح كل شيء باسمه وحمده، ثم تنويها بصفتي الغفور الحليم الربانيتين كأنما أريد بهما في هذا المقام أن الله سبحانه وتعالى بمقتضى صفتيه هاتين لا يعجل بالعذاب على الذي يعتقدون ويقولون تلك العقائد والأقوال التي لا تليق بحقه، ويحلم عليهم ويفسح المجال لهم للتوبة ويشملهم بغفرانه.
وروح الآيات تلهم أن الذين كانوا يعتقدون أن لله سبحانه شركاء ويقولون : إن الملائكة بناته كانوا يسلمون بأنه تعالى هو الإله الأعظم خالق الأكوان ومدبرها. مما ورد في آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة. ومن هنا كانت الحجة ملزمة قارعة والتنديد محكما بليغا.
ولقد ذكر بعض المفسرين في صدد تسبيح ما في كون الله تعالى من موجودات متنوعة أقوالاّ ورووا روايات عديدة والرواية غير وثيقة الإسناد وفيها وفي الأقوال غرابة وتكلف ولم نر طائلا وفائدة في إيراد ذلك. على أن جمهورهم قرروا أن التسبيح هو بلسان الحال وعلى معنى الخضوع لحكم الله ومطلق تصرفه وكون ما في الكون هو من صنعه وخلقه وقد منحه الله ما هو في حاجة إليه. وهذا هو الأوجه المتسق من العبارة فحوى روحا كما هو ظاهر.
وقد تلهم الآية الأولى أن الآيات بسبيل التعقيب على مشهد جدلي وجاهي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حيث قال هؤلاء : إننا نعتقد بالله وإنما نتخذ الملائكة شفعاء لديه لأنهم بناته فنزلت الآيات مفنّدة مقرّعة منزّهة. وهذا إن صح لا يتعارض مع ما قررناه من الصلة بينها وبين ما سبقها.
تعليق على تحديد عدد السماوات بسبع
وهذه أول مرة يحدد فيها عدد السماوات بسبع، وقد تكرر هذا في أكثر من سورة منها المكي ومنها المدني.
وفي الإصحاحات الأولى من سفر التكوين التي ذكرت كيف بدأ الله تعالى خلق الأكوان وردت جملة ( السماوات والأرض ) فقط بدون عدد. وهذه الجملة هي أكثر ما ورد في القرآن أيضا.
وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية ورد فيها عدد السماوات سبعا. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الصحاح أيضا، وهذا واحد منها رواه الترمذي عن أبي هريرة قال " بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال : هل تدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : هذا العنان روايا الأرض يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثمّ قال : هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف، قال : هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّ فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع سماوات ما بين كلّ سماءين كما بين السّماء والأرض. ثمّ قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السّماء بعد مثل ما بين السماءين. ثمّ قال : هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإنّها الأرض، ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتّى عدّد سبع أرضين بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثمّ قال : والذي نفسي بيده لو أنكم دلّيتم رجلا بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط على الله. ثم قرأ ﴿ هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم٣ ﴾١ وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الصحاح إيضاح للماهية.
ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإيكال ما لا يدرك تأويله عقل الإنسان إلى الله تعالى، فإنه يلمح من الحديث حكمة صدوره وحكمة حديثه وهي التنويه بعظمة الله تعالى وقدرته وعظمة كونه كما هو المتبادر.
ولم نطلع في كتب التفسير على شيء معقول وثيق في ماهية السماوات السبع، إلاّ ما جاء في الجزء الأول من محاسن التأويل للقاسمي الذي قال فيه : إن بعض علماء الفلك قالوا : إن السماوات السبع هي السيارات السبع في العالم الشمسي، وإن بعض علماء اللغة ذكروا أن ( سبع ) و( سبعين ) و( سبعمائة ) يورد أحيانا للتعبير عن الكثرة في مراتب الآحاد والعشرات والمئات.
ومهما يكن من أمر فإن ورود العدد في الآية بحرف التعريف قد يدل على أن سامعي القرآن من العرب أو كان بعضهم يعرفون أن عدد السماوات سبع، وإن المتبادر من صيغة الآية وروحها أن ذكر العدد فيها ليس بقصد تقرير فني عددي لذاته، وإنما هو بقصد التنويه بأن جميع ما خلق الله تعالى خاضع له مسبح بحمده اعترافا بربوبيته وعظمته بسبيل الرد على الذين يزعمون أن له أولادا وشركاء هؤلاء السامعين وتسفيههم. ونرى الأولى الوقوف عند ذلك دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف حكمة التنزيل في ذكر ذلك وهو التنبيه على ما في سماوات الله من عظمة وروعة.
ولا تخمين، مع الإيمان بقدرة الله على كل شيء وحكمته في كل ما جاء في القرآن. ولما كانت السماوات من أعظم ما تروع الأذهان والأبصار من مشاهد كون الله وعظمته وكان العدد مما يسمعه السامعون فيكون التنويه بذلك من تلك الحكمة، والله أعلم.

﴿ وإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ٤٥ وجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفِي آذَانِهِمْ وقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ٤٦نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ٤٧ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ٤٨ ﴾ [ ٤٥ ٤٨ ]
الخطاب في الآيات موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها وصف لحالة الكفار وعنادهم وحكاية لبعض أقوالهم، وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد.
والآيتان الأوليان قد توهمان أنهما تقرران بأن الله عز وجل يحجب الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة وحسابها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويغلق قلوبهم وآذانهم دون فهم القرآن حينما كان يتلوه عليهم، غير أن التمعن فيهما، وفي الآيتين التاليتين لهما يزيل ذلك التوهم، ويبين أنهما في الحقيقة في صدد وصف شدة عنادهم وغلظ قلوبهم وتصاميمهم ونفورهم. فهم في حالة كحالة المضروب بينه وبين الحق حجاب فلا يراه، والمغطّى على قلبه فلا يتأثر به، والأصمّ فلا يسمعه، وفي سورة لقمان آية يمكن أن تكون قرينة على صحة هذا التأويل وهي ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٧ ﴾ ووصف الكفار بوصف الذين لا يؤمنون بالآخرة في الآية الأولى وبوصف الظالمين في الآية الثالثة وحكاية قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسحور والتنديد بهم في الآية الرابعة مؤيد كذلك لهذا التأويل المتطابق مع تأويل المفسرين على اختلاف في الصيغة والأسلوب١، ومثل هذا ورد بأساليب متنوعة في سور سابقة مثل سورتي يس والأعراف.
والمتبادر أن في العبارة في الوقت نفسه تطمينا وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم : فلا ينبغي أن يحزن وييأس من موقف الكفار وأقوالهم، فهم من غلظ القلب وعمى البصيرة وخبث الطويّة ما يجعلهم محجوبين عن التأثر بالقرآن وفهمه، وليس هو المسؤول عن ذلك ولا المكلّف بالتغلب عليه وإنما هو نذير وبشير.
على أن من الممكن أن يقال هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة، وهو أن هذه الآيات بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها، لأن كثيرين من الذين عنتهم قد أسلموا بعد الهجرة وبخاصة الفتح المكي.
والآية الثانية تؤيد ما قلناه في مناسبة الآيات السابقة وغيرها بأن الكفار لم يكونوا جاحدين الله تعالى، وإنما كانوا يشركون معه شركاء فينفرون حينما يذكر وحده بدون شركائهم أو شفعائهم.
والآيتان الثالثة والرابعة تشيران إلى ما كان الكفار يقولونه للمؤمنين حينما كانوا يسمعون القرآن ويرون شدة تأثرهم به، وحينما كانوا يتسارّون فيما بينهم، حيث كانوا يقولون لهم : إنكم تتبعون رجلا مسحورا، وقد نددتا بهم ووصفتاهم بالظلم والضلال والعجز عن الحجة والتمحل بالافتراء الباطل. وبتشبيههم حالة النبي صلى الله عليه وسلم بما في أذهانهم من صور وأمثال لا يمكن أن تنطبق عليه، مما عنته آية ﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ٤٨ ﴾.
والآية الثالثة تحتمل أن تكون بسبيل تقرير أن الكفار كانوا يعيرون المؤمنين ويسفّهون رأيهم مواجهة أيضا، ويساعد على هذا الاحتمال صيغة الخطاب في عبارة ﴿ تتبعون ﴾ وفي هذا صورة لما كان يقع بين المسلمين والكفار من صلات وحجاج ونقاش.
والمتبادر أن الكفار حينما كانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور كانوا يريدون أن يقولوا : إنه فيما يقوله وينذر به من أمر الآخرة والحساب والجنة والنار يشبه حالة المسحور الذي يرى ما لا يرى حقيقة، ويتوهم وجود ما لا وجود له حقيقة، وينذر بشيء لا يدخل في نطاق العقل والواقع والممكن، وفي الآيات التالية توكيد لذلك.
١ انظر تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي..
أكنة : جمع كنان بمعنى الغشاوة.
الوقر : بفتح الواو بمعنى الصمم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:﴿ وإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ٤٥ وجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفِي آذَانِهِمْ وقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ٤٦نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ٤٧ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ٤٨ ﴾ [ ٤٥ ٤٨ ]
الخطاب في الآيات موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها وصف لحالة الكفار وعنادهم وحكاية لبعض أقوالهم، وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد.
والآيتان الأوليان قد توهمان أنهما تقرران بأن الله عز وجل يحجب الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة وحسابها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويغلق قلوبهم وآذانهم دون فهم القرآن حينما كان يتلوه عليهم، غير أن التمعن فيهما، وفي الآيتين التاليتين لهما يزيل ذلك التوهم، ويبين أنهما في الحقيقة في صدد وصف شدة عنادهم وغلظ قلوبهم وتصاميمهم ونفورهم. فهم في حالة كحالة المضروب بينه وبين الحق حجاب فلا يراه، والمغطّى على قلبه فلا يتأثر به، والأصمّ فلا يسمعه، وفي سورة لقمان آية يمكن أن تكون قرينة على صحة هذا التأويل وهي ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٧ ﴾ ووصف الكفار بوصف الذين لا يؤمنون بالآخرة في الآية الأولى وبوصف الظالمين في الآية الثالثة وحكاية قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسحور والتنديد بهم في الآية الرابعة مؤيد كذلك لهذا التأويل المتطابق مع تأويل المفسرين على اختلاف في الصيغة والأسلوب١، ومثل هذا ورد بأساليب متنوعة في سور سابقة مثل سورتي يس والأعراف.
والمتبادر أن في العبارة في الوقت نفسه تطمينا وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم : فلا ينبغي أن يحزن وييأس من موقف الكفار وأقوالهم، فهم من غلظ القلب وعمى البصيرة وخبث الطويّة ما يجعلهم محجوبين عن التأثر بالقرآن وفهمه، وليس هو المسؤول عن ذلك ولا المكلّف بالتغلب عليه وإنما هو نذير وبشير.
على أن من الممكن أن يقال هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة، وهو أن هذه الآيات بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها، لأن كثيرين من الذين عنتهم قد أسلموا بعد الهجرة وبخاصة الفتح المكي.
والآية الثانية تؤيد ما قلناه في مناسبة الآيات السابقة وغيرها بأن الكفار لم يكونوا جاحدين الله تعالى، وإنما كانوا يشركون معه شركاء فينفرون حينما يذكر وحده بدون شركائهم أو شفعائهم.
والآيتان الثالثة والرابعة تشيران إلى ما كان الكفار يقولونه للمؤمنين حينما كانوا يسمعون القرآن ويرون شدة تأثرهم به، وحينما كانوا يتسارّون فيما بينهم، حيث كانوا يقولون لهم : إنكم تتبعون رجلا مسحورا، وقد نددتا بهم ووصفتاهم بالظلم والضلال والعجز عن الحجة والتمحل بالافتراء الباطل. وبتشبيههم حالة النبي صلى الله عليه وسلم بما في أذهانهم من صور وأمثال لا يمكن أن تنطبق عليه، مما عنته آية ﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ٤٨ ﴾.
والآية الثالثة تحتمل أن تكون بسبيل تقرير أن الكفار كانوا يعيرون المؤمنين ويسفّهون رأيهم مواجهة أيضا، ويساعد على هذا الاحتمال صيغة الخطاب في عبارة ﴿ تتبعون ﴾ وفي هذا صورة لما كان يقع بين المسلمين والكفار من صلات وحجاج ونقاش.
والمتبادر أن الكفار حينما كانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور كانوا يريدون أن يقولوا : إنه فيما يقوله وينذر به من أمر الآخرة والحساب والجنة والنار يشبه حالة المسحور الذي يرى ما لا يرى حقيقة، ويتوهم وجود ما لا وجود له حقيقة، وينذر بشيء لا يدخل في نطاق العقل والواقع والممكن، وفي الآيات التالية توكيد لذلك.
١ انظر تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي..

وإذ هم نجوى : إذ هم وحدهم يتسارّون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:﴿ وإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ٤٥ وجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفِي آذَانِهِمْ وقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ٤٦نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ٤٧ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ٤٨ ﴾ [ ٤٥ ٤٨ ]
الخطاب في الآيات موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها وصف لحالة الكفار وعنادهم وحكاية لبعض أقوالهم، وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد.
والآيتان الأوليان قد توهمان أنهما تقرران بأن الله عز وجل يحجب الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة وحسابها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويغلق قلوبهم وآذانهم دون فهم القرآن حينما كان يتلوه عليهم، غير أن التمعن فيهما، وفي الآيتين التاليتين لهما يزيل ذلك التوهم، ويبين أنهما في الحقيقة في صدد وصف شدة عنادهم وغلظ قلوبهم وتصاميمهم ونفورهم. فهم في حالة كحالة المضروب بينه وبين الحق حجاب فلا يراه، والمغطّى على قلبه فلا يتأثر به، والأصمّ فلا يسمعه، وفي سورة لقمان آية يمكن أن تكون قرينة على صحة هذا التأويل وهي ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٧ ﴾ ووصف الكفار بوصف الذين لا يؤمنون بالآخرة في الآية الأولى وبوصف الظالمين في الآية الثالثة وحكاية قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسحور والتنديد بهم في الآية الرابعة مؤيد كذلك لهذا التأويل المتطابق مع تأويل المفسرين على اختلاف في الصيغة والأسلوب١، ومثل هذا ورد بأساليب متنوعة في سور سابقة مثل سورتي يس والأعراف.
والمتبادر أن في العبارة في الوقت نفسه تطمينا وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم : فلا ينبغي أن يحزن وييأس من موقف الكفار وأقوالهم، فهم من غلظ القلب وعمى البصيرة وخبث الطويّة ما يجعلهم محجوبين عن التأثر بالقرآن وفهمه، وليس هو المسؤول عن ذلك ولا المكلّف بالتغلب عليه وإنما هو نذير وبشير.
على أن من الممكن أن يقال هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة، وهو أن هذه الآيات بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها، لأن كثيرين من الذين عنتهم قد أسلموا بعد الهجرة وبخاصة الفتح المكي.
والآية الثانية تؤيد ما قلناه في مناسبة الآيات السابقة وغيرها بأن الكفار لم يكونوا جاحدين الله تعالى، وإنما كانوا يشركون معه شركاء فينفرون حينما يذكر وحده بدون شركائهم أو شفعائهم.
والآيتان الثالثة والرابعة تشيران إلى ما كان الكفار يقولونه للمؤمنين حينما كانوا يسمعون القرآن ويرون شدة تأثرهم به، وحينما كانوا يتسارّون فيما بينهم، حيث كانوا يقولون لهم : إنكم تتبعون رجلا مسحورا، وقد نددتا بهم ووصفتاهم بالظلم والضلال والعجز عن الحجة والتمحل بالافتراء الباطل. وبتشبيههم حالة النبي صلى الله عليه وسلم بما في أذهانهم من صور وأمثال لا يمكن أن تنطبق عليه، مما عنته آية ﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ٤٨ ﴾.
والآية الثالثة تحتمل أن تكون بسبيل تقرير أن الكفار كانوا يعيرون المؤمنين ويسفّهون رأيهم مواجهة أيضا، ويساعد على هذا الاحتمال صيغة الخطاب في عبارة ﴿ تتبعون ﴾ وفي هذا صورة لما كان يقع بين المسلمين والكفار من صلات وحجاج ونقاش.
والمتبادر أن الكفار حينما كانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور كانوا يريدون أن يقولوا : إنه فيما يقوله وينذر به من أمر الآخرة والحساب والجنة والنار يشبه حالة المسحور الذي يرى ما لا يرى حقيقة، ويتوهم وجود ما لا وجود له حقيقة، وينذر بشيء لا يدخل في نطاق العقل والواقع والممكن، وفي الآيات التالية توكيد لذلك.
١ انظر تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي..

انظر كيف ضربوا لك الأمثال : انظر كيف شبهوا حالتك بما في أذهانهم من صور وأمثال.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:﴿ وإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ٤٥ وجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفِي آذَانِهِمْ وقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ٤٦نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ٤٧ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ٤٨ ﴾ [ ٤٥ ٤٨ ]
الخطاب في الآيات موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها وصف لحالة الكفار وعنادهم وحكاية لبعض أقوالهم، وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد.
والآيتان الأوليان قد توهمان أنهما تقرران بأن الله عز وجل يحجب الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة وحسابها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويغلق قلوبهم وآذانهم دون فهم القرآن حينما كان يتلوه عليهم، غير أن التمعن فيهما، وفي الآيتين التاليتين لهما يزيل ذلك التوهم، ويبين أنهما في الحقيقة في صدد وصف شدة عنادهم وغلظ قلوبهم وتصاميمهم ونفورهم. فهم في حالة كحالة المضروب بينه وبين الحق حجاب فلا يراه، والمغطّى على قلبه فلا يتأثر به، والأصمّ فلا يسمعه، وفي سورة لقمان آية يمكن أن تكون قرينة على صحة هذا التأويل وهي ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٧ ﴾ ووصف الكفار بوصف الذين لا يؤمنون بالآخرة في الآية الأولى وبوصف الظالمين في الآية الثالثة وحكاية قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسحور والتنديد بهم في الآية الرابعة مؤيد كذلك لهذا التأويل المتطابق مع تأويل المفسرين على اختلاف في الصيغة والأسلوب١، ومثل هذا ورد بأساليب متنوعة في سور سابقة مثل سورتي يس والأعراف.
والمتبادر أن في العبارة في الوقت نفسه تطمينا وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم : فلا ينبغي أن يحزن وييأس من موقف الكفار وأقوالهم، فهم من غلظ القلب وعمى البصيرة وخبث الطويّة ما يجعلهم محجوبين عن التأثر بالقرآن وفهمه، وليس هو المسؤول عن ذلك ولا المكلّف بالتغلب عليه وإنما هو نذير وبشير.
على أن من الممكن أن يقال هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة، وهو أن هذه الآيات بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها، لأن كثيرين من الذين عنتهم قد أسلموا بعد الهجرة وبخاصة الفتح المكي.
والآية الثانية تؤيد ما قلناه في مناسبة الآيات السابقة وغيرها بأن الكفار لم يكونوا جاحدين الله تعالى، وإنما كانوا يشركون معه شركاء فينفرون حينما يذكر وحده بدون شركائهم أو شفعائهم.
والآيتان الثالثة والرابعة تشيران إلى ما كان الكفار يقولونه للمؤمنين حينما كانوا يسمعون القرآن ويرون شدة تأثرهم به، وحينما كانوا يتسارّون فيما بينهم، حيث كانوا يقولون لهم : إنكم تتبعون رجلا مسحورا، وقد نددتا بهم ووصفتاهم بالظلم والضلال والعجز عن الحجة والتمحل بالافتراء الباطل. وبتشبيههم حالة النبي صلى الله عليه وسلم بما في أذهانهم من صور وأمثال لا يمكن أن تنطبق عليه، مما عنته آية ﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ٤٨ ﴾.
والآية الثالثة تحتمل أن تكون بسبيل تقرير أن الكفار كانوا يعيرون المؤمنين ويسفّهون رأيهم مواجهة أيضا، ويساعد على هذا الاحتمال صيغة الخطاب في عبارة ﴿ تتبعون ﴾ وفي هذا صورة لما كان يقع بين المسلمين والكفار من صلات وحجاج ونقاش.
والمتبادر أن الكفار حينما كانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور كانوا يريدون أن يقولوا : إنه فيما يقوله وينذر به من أمر الآخرة والحساب والجنة والنار يشبه حالة المسحور الذي يرى ما لا يرى حقيقة، ويتوهم وجود ما لا وجود له حقيقة، وينذر بشيء لا يدخل في نطاق العقل والواقع والممكن، وفي الآيات التالية توكيد لذلك.
١ انظر تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي..

رفاتا : ذرات بالية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ٤٩ * قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ٥٠ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَولَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ويَقُولُونَ مَتَى هُو قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ٥١ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً ٥٢ ﴾ [ ٤٩ ـ٥٢ ]
الآيات متصلة كما هو المتبادر واستمرار لها في صدد حكاية موقف الكفار ومشاهد حجاجهم الوجاهية، حيث احتوت حكاية سؤالهم الاستنكاري عن صحة ما ينذرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من البعث بعد أن يصبحوا عظاما بالية، وعن موعد هذا البعث وعمن يبعثهم، وحيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد ذلك لهم حتى لو كانوا حجارة أو حديدا أو شيئا أشد استعصاء على الإعادة والإرجاع، وبإخبارهم بأن ذلك قد يكون أقرب كثيرا مما يظنون، وبأنهم حينما يدعون ويبعثون سيدركون ما يكون من وفاء الله بوعده حتى إنهم ليظنون أنهم لم يلبثوا بين الموت والبعث إلاّ فترة قصيرة ويستجيبون لأمره مسبحين حامدين له برغم أنوفهم، معترفين بقدرته وعظمته، وحيث حكت إصرارهم على الإنكار والجحود وهزهم لرؤوسهم استنكارا واستهزاء حينما قيل لهم إن الله الذي خلقهم أول مرة هو قادر بطبيعة الحال على بعثهم ثانية.
وفي الآيات صورة من صور الجدل الذي كثيرا ما كان يحتدم بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وبخاصة حول البعث والحساب، وأسلوب من أساليب الحجاج التي كانت تختلف باختلاف المواقف.
وقد احتوت حجة ملزمة مستمدة من عقيدتهم بأن الله هو الخالق الفاطر مما تكرر في القرآن ومرت منه أمثلة عديدة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ٤٩ * قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ٥٠ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَولَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ويَقُولُونَ مَتَى هُو قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ٥١ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً ٥٢ ﴾ [ ٤٩ ـ٥٢ ]
الآيات متصلة كما هو المتبادر واستمرار لها في صدد حكاية موقف الكفار ومشاهد حجاجهم الوجاهية، حيث احتوت حكاية سؤالهم الاستنكاري عن صحة ما ينذرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من البعث بعد أن يصبحوا عظاما بالية، وعن موعد هذا البعث وعمن يبعثهم، وحيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد ذلك لهم حتى لو كانوا حجارة أو حديدا أو شيئا أشد استعصاء على الإعادة والإرجاع، وبإخبارهم بأن ذلك قد يكون أقرب كثيرا مما يظنون، وبأنهم حينما يدعون ويبعثون سيدركون ما يكون من وفاء الله بوعده حتى إنهم ليظنون أنهم لم يلبثوا بين الموت والبعث إلاّ فترة قصيرة ويستجيبون لأمره مسبحين حامدين له برغم أنوفهم، معترفين بقدرته وعظمته، وحيث حكت إصرارهم على الإنكار والجحود وهزهم لرؤوسهم استنكارا واستهزاء حينما قيل لهم إن الله الذي خلقهم أول مرة هو قادر بطبيعة الحال على بعثهم ثانية.
وفي الآيات صورة من صور الجدل الذي كثيرا ما كان يحتدم بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وبخاصة حول البعث والحساب، وأسلوب من أساليب الحجاج التي كانت تختلف باختلاف المواقف.
وقد احتوت حجة ملزمة مستمدة من عقيدتهم بأن الله هو الخالق الفاطر مما تكرر في القرآن ومرت منه أمثلة عديدة.

ينغضون رؤوسهم : يهزونها هزة استنكار أو استهزاء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ٤٩ * قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ٥٠ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَولَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ويَقُولُونَ مَتَى هُو قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ٥١ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً ٥٢ ﴾ [ ٤٩ ـ٥٢ ]
الآيات متصلة كما هو المتبادر واستمرار لها في صدد حكاية موقف الكفار ومشاهد حجاجهم الوجاهية، حيث احتوت حكاية سؤالهم الاستنكاري عن صحة ما ينذرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من البعث بعد أن يصبحوا عظاما بالية، وعن موعد هذا البعث وعمن يبعثهم، وحيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد ذلك لهم حتى لو كانوا حجارة أو حديدا أو شيئا أشد استعصاء على الإعادة والإرجاع، وبإخبارهم بأن ذلك قد يكون أقرب كثيرا مما يظنون، وبأنهم حينما يدعون ويبعثون سيدركون ما يكون من وفاء الله بوعده حتى إنهم ليظنون أنهم لم يلبثوا بين الموت والبعث إلاّ فترة قصيرة ويستجيبون لأمره مسبحين حامدين له برغم أنوفهم، معترفين بقدرته وعظمته، وحيث حكت إصرارهم على الإنكار والجحود وهزهم لرؤوسهم استنكارا واستهزاء حينما قيل لهم إن الله الذي خلقهم أول مرة هو قادر بطبيعة الحال على بعثهم ثانية.
وفي الآيات صورة من صور الجدل الذي كثيرا ما كان يحتدم بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وبخاصة حول البعث والحساب، وأسلوب من أساليب الحجاج التي كانت تختلف باختلاف المواقف.
وقد احتوت حجة ملزمة مستمدة من عقيدتهم بأن الله هو الخالق الفاطر مما تكرر في القرآن ومرت منه أمثلة عديدة.

تستجيبون بحمده : قيل معناها تستجيبون لأمره، وقيل تستجيبون إليه مسبحين حامدين رغم أنوفكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ٤٩ * قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ٥٠ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَولَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ويَقُولُونَ مَتَى هُو قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ٥١ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً ٥٢ ﴾ [ ٤٩ ـ٥٢ ]
الآيات متصلة كما هو المتبادر واستمرار لها في صدد حكاية موقف الكفار ومشاهد حجاجهم الوجاهية، حيث احتوت حكاية سؤالهم الاستنكاري عن صحة ما ينذرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من البعث بعد أن يصبحوا عظاما بالية، وعن موعد هذا البعث وعمن يبعثهم، وحيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بتوكيد ذلك لهم حتى لو كانوا حجارة أو حديدا أو شيئا أشد استعصاء على الإعادة والإرجاع، وبإخبارهم بأن ذلك قد يكون أقرب كثيرا مما يظنون، وبأنهم حينما يدعون ويبعثون سيدركون ما يكون من وفاء الله بوعده حتى إنهم ليظنون أنهم لم يلبثوا بين الموت والبعث إلاّ فترة قصيرة ويستجيبون لأمره مسبحين حامدين له برغم أنوفهم، معترفين بقدرته وعظمته، وحيث حكت إصرارهم على الإنكار والجحود وهزهم لرؤوسهم استنكارا واستهزاء حينما قيل لهم إن الله الذي خلقهم أول مرة هو قادر بطبيعة الحال على بعثهم ثانية.
وفي الآيات صورة من صور الجدل الذي كثيرا ما كان يحتدم بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وبخاصة حول البعث والحساب، وأسلوب من أساليب الحجاج التي كانت تختلف باختلاف المواقف.
وقد احتوت حجة ملزمة مستمدة من عقيدتهم بأن الله هو الخالق الفاطر مما تكرر في القرآن ومرت منه أمثلة عديدة.

﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ٥٣ ﴾ [ ٥٣ ]
( ١ ) عبادي : المرجح أن المقصود بالكلمة : المسلمون.
( ٢ ) ينزغ : يدس ويوسوس ويفسد.
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ عباد الله المسلمين أن يقولوا التي هي أحسن، أو ألاّ يتجادلوا إلاّ بالتي هي أحسن، وأن يتجنبوا المخاشنة، وأن يحذروا من وساوس الشيطان ودسائسه بينهم فهو ألدّ أعداء الإنسان.
تعليق على آية
﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ وظروفها وتلقينها
وقد روى الزمخشري في كشافه : أن الآية نزلت في مناسبة مشادّة وقعت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورجل من الكفار، فبدر من هذا كلام بذيء، فهمّ عمر رضي الله عنه بتأديبه. كما روى الطبرسي في مجمع البيان أنها نزلت بمناسبة طلب المسلمين الإذن بقتال المشركين الذين يؤذون المسلمين. وليس ما يمنع صحة إحدى الروايتين. غير أن وحدة أسلوب السياق تلهم أن الآية تضمنت إشارة إلى الحادث في سياق قرآني عام، وأنها استمرار للسياق السابق الذي احتوى صورا لما كان يحتدم بين المسلمين والكفار من جدل. فأمرت النبي صلى الله عليه وسلم تبليغ المسلمين بوجوب الجدل بالتي هي أحسن واجتناب العنف والإثارة مع الكفار الذين يلعب الشيطان في عقولهم. فذلك أحرى أن يسد الباب على الشيطان وأن يؤلف القلوب ويخفف العناد ويحمل على الرجوع إلى الصواب.
وقد قال بعض المفسرين : إن الوصية في الآية عائدة إلى تعامل المسلمين فيما بينهم١. ومع أن هذا مما وصّى به القرآن في مواضع عديدة على ما سوف نشرحه في مناسباته فإن صرف الكلام في الآية إلى ما بين المسلمين والكفار هو الأوجه والمستلهم من روحها وسياقها، وقد قال به غير واحد من المفسرين أيضا٢.
وفي سورة الجاثية آية فيها شيء من الصراحة والتأييد وهي هذه ﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ ١٤ ﴾ وقد نزلت في مناسبة مماثلة على ما رواه المفسرون٣.
وفي الآية تلقين جليل مستمر المدى فيما احتوته من الأمر بالمحاسنة واللين وقول التي هي أحسن والمجادلة بالتي هي أحسن ؛ لأن المخاشنة والعنف مما يوسع الخلاف ويثير العداء والحقد ويدفع إلى العناد والمكابرة. ويغطي على الحق والحقيقة مطلقا. وسواء أكان ذلك في سياق الجدل والمناظرة أو التعامل فيما بين المسلمين وغيرهم أو فيما بين المسلمين أنفسهم.
وقد تكرر هذا الأمر في سور أخرى عديدة مكية ومدنية مما يدل على ما أعارته حكمة التنزيل من عناية له.
وفي كتب التفسير أحاديث متنوعة في صدد ذلك. منها ما ورد في كتب الصحاح، من ذلك حديثان رواهما الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعده فتخلفه " ٤ و " كفى بك ألاّ تزال مخاصما " ٥ وحديث رواه الأربعة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه " ٦ وحديث رواه أبو داود ومسلم عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا عائشة أرفقي فإنّ الرّفق لم يكن في شيء إلاّ زانه ولا نزع من شيء قطّ إلاّ شانه " ٧.
١ انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي. والغريب أن هذا المفسر هو الذي روى أن سبب نزولها طلب المسلمين الإذن بقتال الذين يؤذون المسلمين من المشركين..
٢ انظر تفسيرها في كشاف الزمخشري وتفسيري ابن كثير والطبري..
٣ انظر تفسير الآية في ابن كثير و الكشاف مثلا..
٤ المصدر نفسه..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه..
٧ المصدر نفسه..
﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ومَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وكِيلاً٥٤ ﴾ [ ٥٤ ].
قال غير واحد من المفسرين١ : إن ضمائر الجمع المخاطب في الآية عائدة إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في السياق السابق، وقال بعضهم : إنها عائدة إلى المسلمين أو سامعي القرآن إطلاقا٢ والقول الأول هو الأوجه المستلهم من روح الآيات والسياق أيضا. وقد أوّلها أصحاب هذا القول بأنها تتضمن أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول الكفار إن أمركم بيد الله وهو أعلم بكم إن شاء رحمكم فتاب عليكم وهداكم، وإن شاء خذلكم فبقيتم على كفركم.
أما خاتمة الآية ففيها التفات إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يجعله وكيلا عنهم ولا مسؤولا عن هدايتهم وكفرهم، وكل ما عليه أن ينذرهم ويبشرهم، مما ينطوي فيه تسلية له إزاء مواقف الحجاج والعناد التي يقفها الكفار من دعوته.
وواضح من هذا أن الآية غير منقطعة عن السياق السابق. ولقد انطوى فيها تعليل لمشيئة الله تعالى فيهم على ما هو المتبادر. فهو تعالى أعلم بما في ضمائرهم وقلوبهم فيهدي من فيه الخير والرغبة في الهدى في نطاق رحمته، ويخذل من لم يتوفر فيه ذلك فيكون مصيره إلى العذاب على حد ما جاء في آية سورة الرعد هذه ﴿ ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء ويَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ٢٧ ﴾ وآية سورة إبراهيم هذه ﴿ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء ٢٧ ﴾ وبهذا يزول ما يمكن أن يحيك في صدر القارئ من وهم من ظاهر عبارة الآية.
١ انظر تفسير الآية في القاسمي والكشاف والطبري والخازن..
٢ انظر تفسيرها في ابن كثير..
﴿ ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ ولَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ٥٥ ﴾ [ ٥٥ ].
لم يرو المفسرون رواية في مناسبة هذه الآية. وهي معطوفة على ما سبقها. وقد بدئت بما بدئت به الآية السابقة حيث يسوغ هذا القول إنها استمرار للسياق. وقد تضمنت الآية السابقة لها تقرير كون الله تعالى كما هو أعلم بما في ضمائر الكفار فيرحم بمشيئته من يكون أهلا للرحمة ويعذب من يكون أهلا للعذاب، فجاءت هذه الآية بعدها لتقرر أن الله أعلم بكل من في السماوات والأرض، وقد فضل نتيجة لذلك بعض النبيين على بعض وآتى نتيجة لذلك داود الزبور. وهذا الشرح الذي يلهم الآية يوثق الصلة بين الآية وسابقاتها موضوعا أيضا.
وقد قال بعض المفسرين١ : إن في الآية ردّا على الذين كانوا ينكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين. ومع أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد في آيات ومظاهر عديدة منها أنه خاتم الأنبياء، وأن القرآن مهيمن على الكتب السابقة، وأن الله قد أرسله بالهدى ودين الحق ووعد بأن يظهر دينه على سائر الأديان، فإننا نتحفظ في كون الآية قد تضمنت ما قاله المفسرون.
والزبور هو على الأرجح المزامير التي تعزى إلى داود عليه السلام في سفر من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. وعددها في هذا السفر مئة وخمسون، وفيها تمجيد وتسبيح وابتهالات لله تعالى بليغة المبنى والمعنى، فيها كثير من المواعظ والأمثال والحكم. واسم داود مذكور في نصفها ويرافقه عبارة لإمام ( الغناء ) في بعضها والنصف الثاني غفل من الأسماء أو مذكور فيه أسماء أخرى وصفوا في بعضها بنفس العبارة. وظاهرها أنها من إنشاء من ذكرت أسمائهم فيها. وهذا لا يتعارض مع جملة ﴿ وآتينا داود زبورا ﴾ ولا مع كون ما عزي إلى داود منها هو من وحي الله تعالى وإلهامه.
ويقول البغوي في سياق تفسير الآية : إن الزبور كتاب علّمه الله داود ويشتمل على مائة وخمسين سورة ( وهذا عدد المزامير في السفر ) كلها تمجيد ودعاء وثناء على الله عز وجل. ليس فيها حرام ولا حلال ولا فرائض ولا حدود. وقد يفيد هذا أن سفر المزامير كان مترجما وأن المفسر قد اطلع عليه. ووفاة هذا المفسر كانت عام ٥١٦ ه.
تعليق في صدد تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض
لقد ذكر المفسرون في صدد تفضيل بعض النبيين على بعض أن من مظاهر ذلك اتخاذ الله تعالى إبراهيم خليلا. وهو ما ذكرته آية النساء [ ١٢٥ ] وتكليمه لموسى مباشرة وخلقه عيسى بدون أب، وجعله محمدا خاتم النبيين، وإيتائه موسى ومحمدا كتبا فيها تشريعات وأحكام في حين لم يكن في زبور داود مثل ذلك واختصاصه نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى مع النبي بالذكر والميثاق في بعض الآيات مثل آية الشورى [ ١٣ ] المكية وآية الأحزاب المدنية [ ٧ ] وتأييده عيسى بروح القدس في بعض الآيات مثل آيات سورة البقرة [ ٨٧ و ٢٥٣ ] وإنطاق عيسى في المهد كما جاء في آيات آل عمران [ ٤٦ ] والمائدة [ ١١٠ ] ومريم [ ١٤ ٢٣ ] وفي هذا وجاهة ظاهرة. ولقد نبّه ابن كثير في سياق هذا الموضوع والآية إلى أنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تفضّلوا بين الأنبياء " ثم قال : إن هذا النهي هو بسبيل النهي عن التفضيل لمجرد التشهّي والعصبية ؛ لأنه لا خلاف في فضل بعضهم على بعض وفي فضل الرسل على الأنبياء من غير الرسل وفي فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء. وهذا أيضا وجيه سديد يدعمه النص القرآني في الآية التي نحن في صددها وفي آية سورة البقرة هذه ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ورَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ... ﴾ [ ٢٥٣ ] ويدعمه بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم نعت القرآن له بأنه خاتم النبيين آية الأحزاب [ ٤٠ ] وكون دينه مرشحا للظهور على سائر الأديان آية الفتح حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلاّ موضع لبنة من زاوية فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلاّ وضعت هذه اللبنة، قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النّبيين " ٢ وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة كنت إمام النّبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر " ٣.
١ انظر تفسير الآية في الطبرسي والخازن والكشاف والقاسمي مثلا..
٢ التاج ج ٣ ص ٢٠٤ و ٢٠٦ وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه..
٣ التاج ج ٣ ص ٢٠٤ و ٢٠٦ وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه..
﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ ولاَ تَحْوِيلاً ٥٦ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ٥٧ ﴾[ ٥٦ ٥٧ ].
في الآيتين عود على بدء في تحدي الكفار، وتسفيه شركهم بالله، فهي والحال هذه متصلة بالسياق الذي ما يزال يدير الكلام بعد مجموعة الوصايا على الكفار المشركين ويندد بهم ويحكي مواقفهم وأقوالهم.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أن يقول لهم متحديا مسفها منذرا : ادعوا الذين تدعون من دون الله فإنكم إنما تدعون عبثا لأنهم لا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلا له. وإنهم هم أنفسهم يتحرون الطريقة المثلى التي تقربهم إلى الله أكثر ويرجون رحمته ويخافون عذابه الذي ينبغي على خلق الله جميعهم خشيته والحذر منه.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في المقصود من جملة ﴿ من دون الله ﴾ البقرة [ ٢٣ ] منها عن ابن مسعود أنهم نفر من الجن كان يعبدهم العرب فأسلموا ولم يعرف العرب إسلامهم فظلوا على عبادتهم إياهم فأنزل الله الآية. ومنها عن ابن عباس أنهم المسيح وأمه والعزيز والشمس والقمر. ومنها عن قتادة أنهم الملائكة. واستبعد الطبري المسيح وأمه والعزيز لأنهم غير موجودين وقت نزول الآية. ورجح رواية ابن مسعود، ويتبادر لنا أن الكلام أوسع وأهم من نفر من العرب يعبدون نفرا من الجن أسلموا. فضلا عن أن إسلامهم لو صحّ هو إخبار غيبي ليس فيه حجة على العرب. ونرى القول : أنهم الملائكة هو الأصوب المتساوق مع السياق القريب الذي ذكر فيه عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وأنهم شركاء مع الله. وكانوا يعبدونهم على سبيل الانتفاع بهم كما حكته آيات عديدة مرّ بعضها.
الوسيلة : الطريقة إلى الزلفى والتقرب إلى الله.
محذورا : واجب الاتقاء والحذر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ ولاَ تَحْوِيلاً ٥٦ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ٥٧ ﴾[ ٥٦ ٥٧ ].
في الآيتين عود على بدء في تحدي الكفار، وتسفيه شركهم بالله، فهي والحال هذه متصلة بالسياق الذي ما يزال يدير الكلام بعد مجموعة الوصايا على الكفار المشركين ويندد بهم ويحكي مواقفهم وأقوالهم.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أن يقول لهم متحديا مسفها منذرا : ادعوا الذين تدعون من دون الله فإنكم إنما تدعون عبثا لأنهم لا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلا له. وإنهم هم أنفسهم يتحرون الطريقة المثلى التي تقربهم إلى الله أكثر ويرجون رحمته ويخافون عذابه الذي ينبغي على خلق الله جميعهم خشيته والحذر منه.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في المقصود من جملة ﴿ من دون الله ﴾ البقرة [ ٢٣ ] منها عن ابن مسعود أنهم نفر من الجن كان يعبدهم العرب فأسلموا ولم يعرف العرب إسلامهم فظلوا على عبادتهم إياهم فأنزل الله الآية. ومنها عن ابن عباس أنهم المسيح وأمه والعزيز والشمس والقمر. ومنها عن قتادة أنهم الملائكة. واستبعد الطبري المسيح وأمه والعزيز لأنهم غير موجودين وقت نزول الآية. ورجح رواية ابن مسعود، ويتبادر لنا أن الكلام أوسع وأهم من نفر من العرب يعبدون نفرا من الجن أسلموا. فضلا عن أن إسلامهم لو صحّ هو إخبار غيبي ليس فيه حجة على العرب. ونرى القول : أنهم الملائكة هو الأصوب المتساوق مع السياق القريب الذي ذكر فيه عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وأنهم شركاء مع الله. وكانوا يعبدونهم على سبيل الانتفاع بهم كما حكته آيات عديدة مرّ بعضها.

كان ذلك في الكتاب مسطورا : بمعنى أن ما قررته الآية التي وردت فيها الجملة هو سنة الله المستمرة الحتمية التي قضاها منذ الأزل في علمه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وإِن مَّن قَرْيَةٍ إلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ٥٨ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إلاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَولُونَ وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا ومَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاّ تَخْوِيفًا ٥٩ ﴾ [ ٥٨ ـ ٥٩ ]
وفي الآية الأولى تقرير رباني بأنه ما من قرية أو أمّة إلاّ سوف تهلك قبل يوم القيامة سواء أكان ذلك بسنة الكون الطبيعية أم بالعذاب الرباني، وأن هذه هي سنة الله التي كانت ولن تزال مقررة في علمه المحيط الأزلي.
وفي الآية الثانية تقرير رباني كذلك بأن الله لم يمتنع عن إظهار الآيات والمعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلاّ بسبب تكذيب الأمم السابقة لرسلهم وعدم تأثرهم بالمعجزات التي كان يظهرها على أيديهم، كما كان ذلك من ثمود مثلا الذين أظهر الله تعالى لهم الناقة آية من آياته البينة فكفروا بآيات الله ورسوله وظلموا، وأن الله إنما يرسل الآيات لتخويف الناس وإنذارهم حتى يرتدعوا عن ضلالهم وغوايتهم ويسلكوا سبيله القويم.
تعليق على الآية
{ وإِن مَّن قَرْيَةٍ إلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }
والآية التالية لها
لقد روى الطبري في سياق تفسير الآيتين عن سعيد بن جبير من علماء التابعين أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :" إن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك فادع ربّك أن يكون جبل الصّفا ذهبا، فأوحى الله إليه إن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العقاب فإنّه ليس بعد إظهار المعجزة مناظرة إن لم يؤمنوا وإن شئت استأنيت بهم قال : يا ربّ استأن ".
والرواية لم ترد في كتب الصحاح، ووحدة السبك بين الآيتين والآيات السابقة واللاحقة والصلة الملموحة بين الآيتين وما سبقهما، حيث انتهت الآيات السابقة بالتخويف من عذاب الله وجاءت الآيتان على أثرها تؤكدان قدرة الله على إيقاع هذا العذاب، كل هذا يجعلنا نرجح أن الآيات سياق متصل وأن الآيتين لم تنزلا في مناسبة ما طلبه المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنفي بهذا ما ترويه الرواية من مطلب المشركين التعجيزي. ومن المحتمل أن يكون قد وقع منهم في ظروف نزول السورة، ولقد كان الكفار ينكرون البعث ويستهترون بما ينذره القرآن بإنزال العذاب، ويتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بالتعجيل به مما حكته عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور التي فسرناها قبل. ومن المحتمل أن يكون هذا أيضا قد تكرر منهم في ظرف نزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآيتان الرد عليهم في الأمرين في سياق ذكر مواقفهم والتنديد بها. وقد انطوى في الردّ الأول إيذان بأن هلاك السامعين أمر محتم لأنه سنة ربانية عامة.
وفي هذا الردّ تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنذار للكافرين، فلا محل ليأس الأولين أو فرح الآخرين، إذا ما تأخر ذلك وقتا ما.
وانطوى في الردّ الثاني تعليل لعدم إظهار الآيات على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو أن الله إنما يرسل الآيات للتخويف، وقد ظهر من التجارب السابقة أن ذلك لم يُجد، ولم يؤد إلى نتيجة إيجابية، وفي هذا إيذان قرآني بأن المعجزات التي كان الله يظهرها على أيدي رسله السابقين لم تكن للإقناع بصحة رسالة الرسل بالذات. وبأن حكمة الله تعالى اقتضت أن لا تظهر معجزة على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لطلب الكفار لأنها لن تؤدي إلى نتيجة إيجابية. وهذا المعنى قد جاء صريحا في آيات سورة الأنعام [ ١٠٩ـ ١١١ ] وآية سورة الرعد [ ٣١ ] ويلمح في هذا أن المعجزة ليست ضرورية لإقناع الكفار بصحة الدعوة التي يدعو إليها رسول الله ؛ لأنها دعوة إلى توحيد الله عز وجل ومكارم الأخلاق الضامنة لسعادة الدارين واجتناب الشرك والفواحش مما لا ضرورة لإثبات صوابها وصحتها إلى معجزة خارقة، والقرآن الذي احتوى مبادئ هذه الدعوة هو آية الله العظمى ويهدي للتي هو أقوم كما جاء في آية سابقة في هذه السورة. وجاء هذا في آيات سورة العنكبوت هذه صريحا قويا ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٥٠ أَولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ ﴾ حيث قررت أن في القرآن الغناء والكفاية والرحمة والذكرى لمن يرغب حقا في الإيمان والهدى.
وعلى ضوء رواية سعيد بن جبير وآيات أخرى مرّت أمثلة منها في سورتي الشمس والقمر آيات الشمس [ ١٠ ـ ١٥ ] وآيات القمر [ ٢٢ـ ٣١ ] ذكرت أن الله قد أهلك ثمود حينما كفروا وعقروا الناقة من جهة أخرى قد يكون انطوى في الرد القرآني المنطوي في الآية الثانية من الآيتين موضوع التعليق إيذان بأن حكمة الله قد اقتضت تأجيل إهلاك كفار العرب بالعذاب الدنيوي كما جرى لأمثالهم ليكون لهم مهلة أخرى قد يرعوون فيها. ولقد تكرر الإيذان بهذه الحكمة في آيات أخرى مرّت أمثلة منها الآية [ ٤٥ ] من سورة فاطر. ولقد ظهرت آثار حكمة الله ومصداقها في ما كان من ارعواء كثير من الذين كفروا بالرسالة المحمدية وناوأوها في بدء الأمر.

مبصرة : آية بينة واضحة.
فظلموا بها : كفروا بها، وعتوا على الله، وعقروا الناقة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وإِن مَّن قَرْيَةٍ إلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ٥٨ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إلاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَولُونَ وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا ومَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاّ تَخْوِيفًا ٥٩ ﴾ [ ٥٨ ـ ٥٩ ]
وفي الآية الأولى تقرير رباني بأنه ما من قرية أو أمّة إلاّ سوف تهلك قبل يوم القيامة سواء أكان ذلك بسنة الكون الطبيعية أم بالعذاب الرباني، وأن هذه هي سنة الله التي كانت ولن تزال مقررة في علمه المحيط الأزلي.
وفي الآية الثانية تقرير رباني كذلك بأن الله لم يمتنع عن إظهار الآيات والمعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلاّ بسبب تكذيب الأمم السابقة لرسلهم وعدم تأثرهم بالمعجزات التي كان يظهرها على أيديهم، كما كان ذلك من ثمود مثلا الذين أظهر الله تعالى لهم الناقة آية من آياته البينة فكفروا بآيات الله ورسوله وظلموا، وأن الله إنما يرسل الآيات لتخويف الناس وإنذارهم حتى يرتدعوا عن ضلالهم وغوايتهم ويسلكوا سبيله القويم.
تعليق على الآية
{ وإِن مَّن قَرْيَةٍ إلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }
والآية التالية لها
لقد روى الطبري في سياق تفسير الآيتين عن سعيد بن جبير من علماء التابعين أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :" إن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك فادع ربّك أن يكون جبل الصّفا ذهبا، فأوحى الله إليه إن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العقاب فإنّه ليس بعد إظهار المعجزة مناظرة إن لم يؤمنوا وإن شئت استأنيت بهم قال : يا ربّ استأن ".
والرواية لم ترد في كتب الصحاح، ووحدة السبك بين الآيتين والآيات السابقة واللاحقة والصلة الملموحة بين الآيتين وما سبقهما، حيث انتهت الآيات السابقة بالتخويف من عذاب الله وجاءت الآيتان على أثرها تؤكدان قدرة الله على إيقاع هذا العذاب، كل هذا يجعلنا نرجح أن الآيات سياق متصل وأن الآيتين لم تنزلا في مناسبة ما طلبه المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنفي بهذا ما ترويه الرواية من مطلب المشركين التعجيزي. ومن المحتمل أن يكون قد وقع منهم في ظروف نزول السورة، ولقد كان الكفار ينكرون البعث ويستهترون بما ينذره القرآن بإنزال العذاب، ويتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بالتعجيل به مما حكته عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور التي فسرناها قبل. ومن المحتمل أن يكون هذا أيضا قد تكرر منهم في ظرف نزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآيتان الرد عليهم في الأمرين في سياق ذكر مواقفهم والتنديد بها. وقد انطوى في الردّ الأول إيذان بأن هلاك السامعين أمر محتم لأنه سنة ربانية عامة.
وفي هذا الردّ تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنذار للكافرين، فلا محل ليأس الأولين أو فرح الآخرين، إذا ما تأخر ذلك وقتا ما.
وانطوى في الردّ الثاني تعليل لعدم إظهار الآيات على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو أن الله إنما يرسل الآيات للتخويف، وقد ظهر من التجارب السابقة أن ذلك لم يُجد، ولم يؤد إلى نتيجة إيجابية، وفي هذا إيذان قرآني بأن المعجزات التي كان الله يظهرها على أيدي رسله السابقين لم تكن للإقناع بصحة رسالة الرسل بالذات. وبأن حكمة الله تعالى اقتضت أن لا تظهر معجزة على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لطلب الكفار لأنها لن تؤدي إلى نتيجة إيجابية. وهذا المعنى قد جاء صريحا في آيات سورة الأنعام [ ١٠٩ـ ١١١ ] وآية سورة الرعد [ ٣١ ] ويلمح في هذا أن المعجزة ليست ضرورية لإقناع الكفار بصحة الدعوة التي يدعو إليها رسول الله ؛ لأنها دعوة إلى توحيد الله عز وجل ومكارم الأخلاق الضامنة لسعادة الدارين واجتناب الشرك والفواحش مما لا ضرورة لإثبات صوابها وصحتها إلى معجزة خارقة، والقرآن الذي احتوى مبادئ هذه الدعوة هو آية الله العظمى ويهدي للتي هو أقوم كما جاء في آية سابقة في هذه السورة. وجاء هذا في آيات سورة العنكبوت هذه صريحا قويا ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٥٠ أَولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ ﴾ حيث قررت أن في القرآن الغناء والكفاية والرحمة والذكرى لمن يرغب حقا في الإيمان والهدى.
وعلى ضوء رواية سعيد بن جبير وآيات أخرى مرّت أمثلة منها في سورتي الشمس والقمر آيات الشمس [ ١٠ ـ ١٥ ] وآيات القمر [ ٢٢ـ ٣١ ] ذكرت أن الله قد أهلك ثمود حينما كفروا وعقروا الناقة من جهة أخرى قد يكون انطوى في الرد القرآني المنطوي في الآية الثانية من الآيتين موضوع التعليق إيذان بأن حكمة الله قد اقتضت تأجيل إهلاك كفار العرب بالعذاب الدنيوي كما جرى لأمثالهم ليكون لهم مهلة أخرى قد يرعوون فيها. ولقد تكرر الإيذان بهذه الحكمة في آيات أخرى مرّت أمثلة منها الآية [ ٤٥ ] من سورة فاطر. ولقد ظهرت آثار حكمة الله ومصداقها في ما كان من ارعواء كثير من الذين كفروا بالرسالة المحمدية وناوأوها في بدء الأمر.

﴿ وإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ومَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ والشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ ونُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ٦٠ ﴾ [ ٦٠ ].
الآية معطوفة على ما سبقها وهي مماثلة له نظما بحيث يمكن القول : إنها استمرار للسياق. والخطاب في شطرها الأول موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فيه تذكير له بما قاله الله من أن ربّه أحاط بالناس. وفيه إخبار أيضا بأن الله تعالى قد جعل الرؤيا التي أراه إياها والشجرة الملعونة في القرآن فتنة واختبارا للناس. وكأنما أريد بذلك أن من لم يؤمن بخبر الرؤيا والشجرة الذي يخبر به النبي لا يؤمن بالآيات التي قد يظهرها الله تعالى على يده فلا يبقى لها محل ولا فائدة.
وبهذا التقرير المستلهم من روح الآية وفحواها تظهر الصلة الموضوعية أيضا بين الآيات السابقة وهذه الآية. وقد انتهت الآية بالتنديد بالكفار موضوع الكلام الذين يخوفهم الله فما يزدادون إلاّ طغيانا كبيرا.
تعليق على الآية
﴿ وإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ... ﴾ الخ
ولقد روى الطبري عن الحسن وقتادة ومجاهد أن جملة ﴿ أحاط بالناس ﴾ بمعنى منعهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عصمه منهم. وقد تبدو وجاهة هذا التأويل إزاء الفقرة الأخيرة من الآية التي تقرر أن الكفار لا يخافون بما يخوفهم الله به، بل يزدادون طغيانا حيث يرد على البال أن الآية نزلت في ظرف اشتد فيه طغيانهم ومناوأتهم فاقتضت حكمة التنزيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا التطمين تكرر في آيات عديدة مكية ومدنية وظروف قد تكون مماثلة من ذلك آيات سورة الحجر هذه ﴿ فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ٩٤ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ٩٥ ﴾ وآيات الصافات [ ١٧١ ١٧٢ ] وغافر [ ٥١ ] والذاريات [ ٤٩ ] والمائدة [ ٩٧ ].
وتعبير ﴿ وإذ قلنا لك ﴾ يفيد أن ما احتوته الآية قد سبق الوحي به للنبي صلى الله عليه وسلم، فإمّا أن يكون أريد به بعض الآيات التي وردت في سور سابقة النزول فيها شيء من معنى التطمين مثل آيات سورة آيات سورة ص [ ١١ ] والقمر [ ٤٤ ٤٥ ] وإما أن يكون نزل في هذا الأمر قرآن ثم رفع لحكمة ربانية. وإمّا أن يكون وحيا غير قرآني فيه هذا التطمين. وفي القرآن صور يمكن أن ينطبق عليها هذا الأمر الأخير، فقد جاء في سورة الأنفال مثلا هذه العبارة ﴿ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ﴾ وهذا الوعد لم يرد في القرآن وقد روي حديث فيه ذلك حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بدر " سيروا وأبشروا فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ".
ولقد تعددت الأقوال المدوية عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في صدد الرؤيا والشجرة الملعونة. فهناك حديث يرويه البخاري والترمذي عن ابن عباس جاء فيه " الرّؤيا هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به. والشّجرة الملعونة هي شجرة الزّقوم " وروى الطبري عن ابن عباس أن الرؤيا هي الحلم الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه نفسه يدخل مكة بعد الهجرة، فسار إلى مكة للزيارة بوحي هذا الحلم فمنعه المشركون فقال ناس : إن رسول الله قد ردّ وكان حدثنا أنه سيدخل مكة فكانت رجعته بدون زيارة فتنتهم. وهذه الرواية تقتضي أن تكون الآية مدنية ؛ لأن الرؤيا التي سار النبي صلى الله عليه وسلم بها إلى الزيارة وكانت كما قلنا بعد الهجرة وكان نتيجة لسير النبي بأصحابه صلح الحديبية بينه وبين كفار قريش ونزلت فيها سورة الفتح، وليس هناك ما يؤيد مدنية الآية، وليس لها أي مكان ومناسبة في السياق الذي هو في صدد كفار مكة ومواقفهم، ومع كل هذا فإن جمهور المفسرين يرجحون أن الرؤيا هي الرؤيا التي أراها الله لرسوله في الإسراء. وهو ما نراه خاصة بمدركات النبي أخبر بها إخبارا على ما شرحناه في سياق الآية الأولى من السورة. وفي الأحاديث الواردة في صدد الإسراء والمعراج حديث يذكر أن بعض المسلمين ارتدوا حينما أخبر النبي بخبر الإسراء والمعراج فكان ذلك هو ما عنته جملة ﴿ ومَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ﴾.
وفي صدد الشجرة الملعونة نقول إنه بالإضافة إلى الحديث الذي رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس الذي أوردناه قبل والذي يذكر أنها شجرة الزقوم هناك رواية تذكر اسم شجرة أخرى كان يقال لها الكشوت، ورواية أن الآية عنت اليهود الذين لعنهم الله في القرآن. غير أن جمهور المفسرين على أنها الزقوم، وقد رووا في أن أبا جهل وغيره من زعماء الكفار قالوا إن محمدا يعدكم بنار تحترق فيها الحجارة ويزعم أنه ينبت فيها شجرة تأكلون منها زقوما. فكان ذلك سببا لاشتدادهم في التكذيب، وأن هذا هو معنى الفتنة التي كانت بسبب الشجرة. وفي سورة الصافات آيات فيها أن الشجرة كانت فتنة للظالمين وهي ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ٦٢ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ٦٣ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ٦٤ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ٦٥ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ٦٦ ﴾ وقد تكون في الآيات قرينة على صحة الرواية والله أعلم. وقد يكون هناك إشكال في عدم ورود لعن للشجرة في القرآن. وقد علل المفسرون ذلك بتعليلين أحدهما : أن وصف الملعونة عائد لآكلها فيكون تقدير الجملة ( الشجرة المذكورة في القرآن الملعون آكلوها في القرآن ) وقد سبق للشجرة ذكر في سورة الواقعة التي نزلت قبل هذه السورة. وثانيهما : أن العرب يصفون كل كريه الطعم بالملعون فيكون تقدير الجملة ( الشجرة المذكورة في القرآن الملعونة الطعم ) وكلا التعليلين وارد. والله تعالى أعلم.
وننبه على أن الطبري يروي في صدد جملة ﴿ ومَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ والشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ ﴾ مفادها أن النبي رأى في منامه بني فلان وهذه عبارة الطبري ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا حتى مات، وأنزل الله الآية. وفي تفسير الخازن والكشاف إيضاح حيث جاء في روايتهما " أن النبي رأى في منامه ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره فساءه ذلك " وهذه الرواية تقتضي أن تكون الآية مدنية ؛ لأنه لم يكن بني مسجد ومنبر إلاّ في المدينة. وليس لهذا أي سند ولا مناسبة في سياق في صدد مواقف كفار قريش. ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده في مدينته هو درجة أو درجتان وحسب. ونحن نعتقد أن الرواية من مصنوعات الشيعة. وفي تفسير الطبرسي الشيعي رواية عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله أن الشجرة الملعونة في القرآن هي بني أمية، والهوى الحزبي والتعسف بارزان على هذه الروايات شأن كثير مما يرويه مفسرو الشيعة.
﴿ وإِذْ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ٦١ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلاّ قَلِيلاً ٦٢ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ٦٣ واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ وعِدْهُمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُورًا ٦٤ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكَفَى بِرَبِّكَ وكِيلاً ٦٥ ﴾ [ ٦١ ٦٥ ]
في الآيات تذكير بموقف إبليس وعناده واستكباره عن الخضوع لله والسجود لآدم حسب ما أمره، وحكاية ما كان بينه وبين الله من حوار، وتحديه بفعل ما يقدر عليه لصرف الناس عن الإيمان بالله، وتقرير كونه عاجزا عن التأثير في الطيبين الصالحين من عباد الله، ووعد بأن جهنم ستكون جزاءه وجزاء من يتبعه، وبيان بأن ما يزينه الشيطان للناس ويعدهم ليس إلاّ من قبيل الإغراء والتغرير.
والآيات متصلة بسابقاتها واستمرار للسياق في الوقت نفسه على ما هو المتبادر من نظمها وعطفها على ما سبقها. وقد احتوت تعليلا تطمينيّا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لموقف الكفار وتكذيبهم وعنادهم، و تنديدا بهم بحيث يبدو أنها أرادت تقرير كون الكفار يتبعون الشيطان ويغترون بما يزينه ويوسوسه لهم. وأن مصيره ومصيرهم إلى جهنم. وأنه إنما يؤثر في أمثالهم ممن خبثت طويتهم وغلظت قلوبهم. أما عباد الله المؤمنون فلن يكون له سلطان عليهم وتأثير فيهم.
والتنديد بالكفار مستحكم لأنهم يعرفون إبليس وغوايته على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة ص.
والتعبيرات التي استعملت في الآيات بالنسبة لإبليس مستعارة على ما هو المتبادر من الأساليب العربية وخطابهم، ومع هذا فقد رأينا بعض المفسرين١ يقولون : إن لإبليس خيّالة ومشاة ووسائل حرب وتهييج، وأنه يشارك الناس المنحرفين في أكلهم وشربهم ومعاشراتهم الجنسية، دون سند وثيق. وفي هذا تكلف من جهة ودخول في ماهيات غيبية لا طائل من ورائه من جهة أخرى، والحكمة والعبرة في النص القرآني بارزتان وهذا من مقاصده الجوهرية وكفى.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والكشاف وابن كثير والخازن مثلا..
كرّمت عليّ : فضلته وكرمته عليّ.
لأحتنكن : لأحتجزن ولأمنعن وقيل بمعنى : لأستأصلن، من احتنك الجراد الأرض.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:﴿ وإِذْ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ٦١ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلاّ قَلِيلاً ٦٢ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ٦٣ واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ وعِدْهُمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُورًا ٦٤ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكَفَى بِرَبِّكَ وكِيلاً ٦٥ ﴾ [ ٦١ ٦٥ ]
في الآيات تذكير بموقف إبليس وعناده واستكباره عن الخضوع لله والسجود لآدم حسب ما أمره، وحكاية ما كان بينه وبين الله من حوار، وتحديه بفعل ما يقدر عليه لصرف الناس عن الإيمان بالله، وتقرير كونه عاجزا عن التأثير في الطيبين الصالحين من عباد الله، ووعد بأن جهنم ستكون جزاءه وجزاء من يتبعه، وبيان بأن ما يزينه الشيطان للناس ويعدهم ليس إلاّ من قبيل الإغراء والتغرير.
والآيات متصلة بسابقاتها واستمرار للسياق في الوقت نفسه على ما هو المتبادر من نظمها وعطفها على ما سبقها. وقد احتوت تعليلا تطمينيّا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لموقف الكفار وتكذيبهم وعنادهم، و تنديدا بهم بحيث يبدو أنها أرادت تقرير كون الكفار يتبعون الشيطان ويغترون بما يزينه ويوسوسه لهم. وأن مصيره ومصيرهم إلى جهنم. وأنه إنما يؤثر في أمثالهم ممن خبثت طويتهم وغلظت قلوبهم. أما عباد الله المؤمنون فلن يكون له سلطان عليهم وتأثير فيهم.
والتنديد بالكفار مستحكم لأنهم يعرفون إبليس وغوايته على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة ص.
والتعبيرات التي استعملت في الآيات بالنسبة لإبليس مستعارة على ما هو المتبادر من الأساليب العربية وخطابهم، ومع هذا فقد رأينا بعض المفسرين١ يقولون : إن لإبليس خيّالة ومشاة ووسائل حرب وتهييج، وأنه يشارك الناس المنحرفين في أكلهم وشربهم ومعاشراتهم الجنسية، دون سند وثيق. وفي هذا تكلف من جهة ودخول في ماهيات غيبية لا طائل من ورائه من جهة أخرى، والحكمة والعبرة في النص القرآني بارزتان وهذا من مقاصده الجوهرية وكفى.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والكشاف وابن كثير والخازن مثلا..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:﴿ وإِذْ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ٦١ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلاّ قَلِيلاً ٦٢ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ٦٣ واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ وعِدْهُمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُورًا ٦٤ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكَفَى بِرَبِّكَ وكِيلاً ٦٥ ﴾ [ ٦١ ٦٥ ]
في الآيات تذكير بموقف إبليس وعناده واستكباره عن الخضوع لله والسجود لآدم حسب ما أمره، وحكاية ما كان بينه وبين الله من حوار، وتحديه بفعل ما يقدر عليه لصرف الناس عن الإيمان بالله، وتقرير كونه عاجزا عن التأثير في الطيبين الصالحين من عباد الله، ووعد بأن جهنم ستكون جزاءه وجزاء من يتبعه، وبيان بأن ما يزينه الشيطان للناس ويعدهم ليس إلاّ من قبيل الإغراء والتغرير.
والآيات متصلة بسابقاتها واستمرار للسياق في الوقت نفسه على ما هو المتبادر من نظمها وعطفها على ما سبقها. وقد احتوت تعليلا تطمينيّا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لموقف الكفار وتكذيبهم وعنادهم، و تنديدا بهم بحيث يبدو أنها أرادت تقرير كون الكفار يتبعون الشيطان ويغترون بما يزينه ويوسوسه لهم. وأن مصيره ومصيرهم إلى جهنم. وأنه إنما يؤثر في أمثالهم ممن خبثت طويتهم وغلظت قلوبهم. أما عباد الله المؤمنون فلن يكون له سلطان عليهم وتأثير فيهم.
والتنديد بالكفار مستحكم لأنهم يعرفون إبليس وغوايته على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة ص.
والتعبيرات التي استعملت في الآيات بالنسبة لإبليس مستعارة على ما هو المتبادر من الأساليب العربية وخطابهم، ومع هذا فقد رأينا بعض المفسرين١ يقولون : إن لإبليس خيّالة ومشاة ووسائل حرب وتهييج، وأنه يشارك الناس المنحرفين في أكلهم وشربهم ومعاشراتهم الجنسية، دون سند وثيق. وفي هذا تكلف من جهة ودخول في ماهيات غيبية لا طائل من ورائه من جهة أخرى، والحكمة والعبرة في النص القرآني بارزتان وهذا من مقاصده الجوهرية وكفى.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والكشاف وابن كثير والخازن مثلا..

استفزز : حرك وأثر بفسادك ووسوستك.
أجلب عليهم بخيلك ورجلك : الإجلاب بمعنى السوق أو الهجوم بشدة وضجة. وخيلك بمعنى خيّالتك، ورجلك بمعنى رجالك المشاة. والمقصود بالجملة : هاجمهم وأحطهم كما تشاء من الشدة بجنودك الراكبين والمشاة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:﴿ وإِذْ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ٦١ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلاّ قَلِيلاً ٦٢ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ٦٣ واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ وعِدْهُمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُورًا ٦٤ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكَفَى بِرَبِّكَ وكِيلاً ٦٥ ﴾ [ ٦١ ٦٥ ]
في الآيات تذكير بموقف إبليس وعناده واستكباره عن الخضوع لله والسجود لآدم حسب ما أمره، وحكاية ما كان بينه وبين الله من حوار، وتحديه بفعل ما يقدر عليه لصرف الناس عن الإيمان بالله، وتقرير كونه عاجزا عن التأثير في الطيبين الصالحين من عباد الله، ووعد بأن جهنم ستكون جزاءه وجزاء من يتبعه، وبيان بأن ما يزينه الشيطان للناس ويعدهم ليس إلاّ من قبيل الإغراء والتغرير.
والآيات متصلة بسابقاتها واستمرار للسياق في الوقت نفسه على ما هو المتبادر من نظمها وعطفها على ما سبقها. وقد احتوت تعليلا تطمينيّا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لموقف الكفار وتكذيبهم وعنادهم، و تنديدا بهم بحيث يبدو أنها أرادت تقرير كون الكفار يتبعون الشيطان ويغترون بما يزينه ويوسوسه لهم. وأن مصيره ومصيرهم إلى جهنم. وأنه إنما يؤثر في أمثالهم ممن خبثت طويتهم وغلظت قلوبهم. أما عباد الله المؤمنون فلن يكون له سلطان عليهم وتأثير فيهم.
والتنديد بالكفار مستحكم لأنهم يعرفون إبليس وغوايته على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة ص.
والتعبيرات التي استعملت في الآيات بالنسبة لإبليس مستعارة على ما هو المتبادر من الأساليب العربية وخطابهم، ومع هذا فقد رأينا بعض المفسرين١ يقولون : إن لإبليس خيّالة ومشاة ووسائل حرب وتهييج، وأنه يشارك الناس المنحرفين في أكلهم وشربهم ومعاشراتهم الجنسية، دون سند وثيق. وفي هذا تكلف من جهة ودخول في ماهيات غيبية لا طائل من ورائه من جهة أخرى، والحكمة والعبرة في النص القرآني بارزتان وهذا من مقاصده الجوهرية وكفى.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والكشاف وابن كثير والخازن مثلا..

ليس لك عليهم سلطان : ليس لك عليهم تأثير وسيطرة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:﴿ وإِذْ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ٦١ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلاّ قَلِيلاً ٦٢ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ٦٣ واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ وعِدْهُمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُورًا ٦٤ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكَفَى بِرَبِّكَ وكِيلاً ٦٥ ﴾ [ ٦١ ٦٥ ]
في الآيات تذكير بموقف إبليس وعناده واستكباره عن الخضوع لله والسجود لآدم حسب ما أمره، وحكاية ما كان بينه وبين الله من حوار، وتحديه بفعل ما يقدر عليه لصرف الناس عن الإيمان بالله، وتقرير كونه عاجزا عن التأثير في الطيبين الصالحين من عباد الله، ووعد بأن جهنم ستكون جزاءه وجزاء من يتبعه، وبيان بأن ما يزينه الشيطان للناس ويعدهم ليس إلاّ من قبيل الإغراء والتغرير.
والآيات متصلة بسابقاتها واستمرار للسياق في الوقت نفسه على ما هو المتبادر من نظمها وعطفها على ما سبقها. وقد احتوت تعليلا تطمينيّا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لموقف الكفار وتكذيبهم وعنادهم، و تنديدا بهم بحيث يبدو أنها أرادت تقرير كون الكفار يتبعون الشيطان ويغترون بما يزينه ويوسوسه لهم. وأن مصيره ومصيرهم إلى جهنم. وأنه إنما يؤثر في أمثالهم ممن خبثت طويتهم وغلظت قلوبهم. أما عباد الله المؤمنون فلن يكون له سلطان عليهم وتأثير فيهم.
والتنديد بالكفار مستحكم لأنهم يعرفون إبليس وغوايته على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة ص.
والتعبيرات التي استعملت في الآيات بالنسبة لإبليس مستعارة على ما هو المتبادر من الأساليب العربية وخطابهم، ومع هذا فقد رأينا بعض المفسرين١ يقولون : إن لإبليس خيّالة ومشاة ووسائل حرب وتهييج، وأنه يشارك الناس المنحرفين في أكلهم وشربهم ومعاشراتهم الجنسية، دون سند وثيق. وفي هذا تكلف من جهة ودخول في ماهيات غيبية لا طائل من ورائه من جهة أخرى، والحكمة والعبرة في النص القرآني بارزتان وهذا من مقاصده الجوهرية وكفى.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والكشاف وابن كثير والخازن مثلا..

يزجي : يسوق ويسيّر.
لتبتغوا من فضله : كناية عن الكسب والارتزاق البحري.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ٦٦ وإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ٦٧ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وكِيلاً ٦٨ أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ٦٩ ﴾ [ ٦٦ ـ ٦٩ ]
الآيات واضحة المعاني والألفاظ. وهي متصلة بما سبقها اتصالا تعقبيّا واستطراديا كما هو المتبادر. وفيها أسلوب قرآني آخر من أساليب الدعوة والإلزام والإفحام كما هو ظاهر. وهي بسبيل تذكير السامعين بأفضال الله عليهم بما ييسره لهم من أسفار البحر والنجاة من أخطاره، وفيها تنديد بالمشركين الذين لا يستغيثون به إلاّ حينما يقعون في الخطر ثم يعودون إلى شركهم وسخفهم بعد النجاة كفرا بنعمة الله وفضله وجحودا ؛ كأنما هم قد أمنوا انتقام الله منهم في البر خسفا أو رجما، أو في البحر حينما يعودون إليه مرة أخرى.

الضرّ : هنا بمعنى خطر البحر ودواره.
ضلّ من تدعون إلاّ إياه : بمعنى ذهب عن بالكم كل من تدعونه غير الله كما تفعلون في غير وقت الخطر.
كفورا : جاحدا للجميل والفضل والنعمة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ٦٦ وإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ٦٧ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وكِيلاً ٦٨ أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ٦٩ ﴾ [ ٦٦ ـ ٦٩ ]
الآيات واضحة المعاني والألفاظ. وهي متصلة بما سبقها اتصالا تعقبيّا واستطراديا كما هو المتبادر. وفيها أسلوب قرآني آخر من أساليب الدعوة والإلزام والإفحام كما هو ظاهر. وهي بسبيل تذكير السامعين بأفضال الله عليهم بما ييسره لهم من أسفار البحر والنجاة من أخطاره، وفيها تنديد بالمشركين الذين لا يستغيثون به إلاّ حينما يقعون في الخطر ثم يعودون إلى شركهم وسخفهم بعد النجاة كفرا بنعمة الله وفضله وجحودا ؛ كأنما هم قد أمنوا انتقام الله منهم في البر خسفا أو رجما، أو في البحر حينما يعودون إليه مرة أخرى.

حاصبا : رجوما من الحجارة.
لا تجدوا لكم وكيلا : لا تجدوا لكم نصيرا ولا محاميا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ٦٦ وإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ٦٧ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وكِيلاً ٦٨ أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ٦٩ ﴾ [ ٦٦ ـ ٦٩ ]
الآيات واضحة المعاني والألفاظ. وهي متصلة بما سبقها اتصالا تعقبيّا واستطراديا كما هو المتبادر. وفيها أسلوب قرآني آخر من أساليب الدعوة والإلزام والإفحام كما هو ظاهر. وهي بسبيل تذكير السامعين بأفضال الله عليهم بما ييسره لهم من أسفار البحر والنجاة من أخطاره، وفيها تنديد بالمشركين الذين لا يستغيثون به إلاّ حينما يقعون في الخطر ثم يعودون إلى شركهم وسخفهم بعد النجاة كفرا بنعمة الله وفضله وجحودا ؛ كأنما هم قد أمنوا انتقام الله منهم في البر خسفا أو رجما، أو في البحر حينما يعودون إليه مرة أخرى.

قاصفا من الريح : ريحا شديدة تقصف ما أمامها وتحطمه.
تبيعا : من يتتبع ثأركم ويأخذه منّا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ٦٦ وإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ٦٧ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وكِيلاً ٦٨ أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ٦٩ ﴾ [ ٦٦ ـ ٦٩ ]
الآيات واضحة المعاني والألفاظ. وهي متصلة بما سبقها اتصالا تعقبيّا واستطراديا كما هو المتبادر. وفيها أسلوب قرآني آخر من أساليب الدعوة والإلزام والإفحام كما هو ظاهر. وهي بسبيل تذكير السامعين بأفضال الله عليهم بما ييسره لهم من أسفار البحر والنجاة من أخطاره، وفيها تنديد بالمشركين الذين لا يستغيثون به إلاّ حينما يقعون في الخطر ثم يعودون إلى شركهم وسخفهم بعد النجاة كفرا بنعمة الله وفضله وجحودا ؛ كأنما هم قد أمنوا انتقام الله منهم في البر خسفا أو رجما، أو في البحر حينما يعودون إليه مرة أخرى.

﴿ * ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ٧٠ ﴾ [ ٧٠ ]
تعليق على آية
﴿ ولقد كرمنا بني آدم... ﴾ الخ
جاءت الآية معقبة على الآيات السابقة. وقد تضمنت تقريرا ربانيا بما اقتضته حكمة الله من تكريمه لبني آدم ورزقهم من الطيبات وتيسير سيرهم في البرّ والبحر وتفضيلهم على كثير من مخلوقاته.
والتنويه المنطوي في الآية رائع عظيم. ومجيء ذلك بعد آيات قصة آدم وإبليس محكمة المناسبة وبالإضافة إلى ما في تكريم الله المذكور في القرآن بأمر الملائكة بالسجود لآدم كما جاء في الآيات السابقة للآية وفي ست سور أخرى، فإن مظاهر هذا التكريم ذكر القرآن أن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه كما جاء في سورة ص [ ٧٧ ] وجعله وبالتبعية خلفاء في الأرض وقد ردّ على الملائكة المعترضين على ذلك بأن ذلك من مقتضى حكمته التي لا يعلمونها. وتعليمه من دونهم الأسماء كلها كما جاء في آيات سورة البقرة [ ٣٠ ٣٣ ]. ومن هذه المظاهر وصف القرآن بأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم كما جاء في سورة التين وبأن الله صور بني آدم على أحسن صورة كما جاء في آية سورة غافر [ ٢٠ ] وغيرها مما مر منه أمثلة عديدة. ومن هذه المظاهر ذكر القرآن أن الله قد سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة كما جاء في سورة لقمان [ ٢٠ ] وآيات عديدة أخرى مرّت أمثلة منها. وإن الله قد اختصهم بالتكليف دون سائر خلقه كنتيجة لما شاءت حكمته من خلق الاستعداد فيهم للكمال الذهني والعقلي وتحمل مسؤولية أعمالهم كما هو المستفاد من آيات كثيرة جدا مرّت أمثلة منها وبخاصة من آيات سورة الأحزاب [ ٧٢ ٧٣ ].
ولقد قال ابن كثير في سياق الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، وأورد حديثا أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمرو قال : " قال رسول الله ليس من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم. قيل : يا رسول الله ولا الملائكة ؟ قال : ولا الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر "، والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن فحواه متساوق مع الآية في مدى تقرير ما لبني آدم عند الله من كرامة ومتساوق مع آيات البقرة [ ٣٠ ٣٣ ] ومتساوق مع أمر ربهم للملائكة بالسجود لآدم تكريما له.
والمتبادر المستلهم من روح الآية ومقامها أنها بسبيل تقرير وإيجاب حق الإخلاص لله عزّ وجل وحده والاعتراف بفضله ونعمه ونبذ ما سواه في كل ظرف على بني آدم تجاه هذا الإيذان الرباني بتكريمهم وإيجاب العزوف عنهم عن كل ما يشين إنسانيتهم ويحط من كرامتهم التي حباهم الله بها في سلوكهم الخاص والعام.
إمامهم : قيل إنها بمعنى رسولهم، وقيل إنها بمعنى كتاب أعمالهم، وقيل إنها بمعنى علاماتهم.
لا يظلمون : لا ينقص من أعمالهم ولا يغبنون فيها.
فتيلا : الخيط الرفيع وهنا كناية عن الشيء التافه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ ولاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ٧١ ومَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُو فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وأَضَلُّ سَبِيلاً ٧٢ ﴾ [ ٧١ ـ٧٢ ]
في الآيتين تقرير رباني بأن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة ويعطي كلاّ منهم كتب أعمالهم، فمنهم من يعطون كتبهم باليمين وهم المهتدون، فيقرأونها فرحين مستبشرين ولا ينقص الله تعالى من أعمالهم شيئا مهما كان تافها، أما الذين كانوا في الدنيا عميا ضالين فيكونون في الآخرة أشدّ عمى وضلالا وخسرانا.
والآيتان متصلتان بالسياق اتصال تعقيب واستطراد أيضا كما هو المتبادر.
ولقد شرحنا موضوع كتب الأعمال وتوزيعها يوم القيامة وما ينطوي في ذكر ذلك بالأسلوب الوارد في القرآن من حكمة في سياق تفسير سورتي القارعة وق فلا ضرورة للإعادة.
والمتبادر أن تعبير ﴿ أعمى ﴾ الأول مجازي للتعبير عن الذين لم يروا نور الهدى في رسالة النبي وكتاب الله وكفروا بهما في الدنيا. والثاني هو للمشاكلة ومن مقاصد التعبير الأول التنديد والثاني الإنذار والله تعالى أعلم.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ ولاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ٧١ ومَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُو فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وأَضَلُّ سَبِيلاً ٧٢ ﴾ [ ٧١ ـ٧٢ ]
في الآيتين تقرير رباني بأن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة ويعطي كلاّ منهم كتب أعمالهم، فمنهم من يعطون كتبهم باليمين وهم المهتدون، فيقرأونها فرحين مستبشرين ولا ينقص الله تعالى من أعمالهم شيئا مهما كان تافها، أما الذين كانوا في الدنيا عميا ضالين فيكونون في الآخرة أشدّ عمى وضلالا وخسرانا.
والآيتان متصلتان بالسياق اتصال تعقيب واستطراد أيضا كما هو المتبادر.
ولقد شرحنا موضوع كتب الأعمال وتوزيعها يوم القيامة وما ينطوي في ذكر ذلك بالأسلوب الوارد في القرآن من حكمة في سياق تفسير سورتي القارعة وق فلا ضرورة للإعادة.
والمتبادر أن تعبير ﴿ أعمى ﴾ الأول مجازي للتعبير عن الذين لم يروا نور الهدى في رسالة النبي وكتاب الله وكفروا بهما في الدنيا. والثاني هو للمشاكلة ومن مقاصد التعبير الأول التنديد والثاني الإنذار والله تعالى أعلم.

ليفتنونك : هنا بمعنى ليصرفونك أو ليحملونك على العدول والرجوع.
خليلا : صاحبا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ٧٣ ولَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ٧٤ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ٧٥ ﴾[ ٧٣ ـ ٧٥ ]
في الآيات تنبيه رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الكفار كادوا يصرفونه عما أوحى الله إليه ويحملونه على العدول عنه ومسايرتهم بوعد اتخاذهم إياه خليلا وصاحبا، وبأنه كاد أن يستجيب إليهم لولا أن ثبته الله، ولو فعل لاستحق من الله عذابا مضاعفا في الحياة وبعد الممات.
وتبدو الآيات لأول وهلة منفصلة موضوعا عن السياق السابق، وقد احتوت إشارة إلى موقف خطير واقعي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وصورة من صور السيرة النبوية.
ويتبادر لنا من وحدة السبك التي تجمع بين الآيات وسابقاتها أن هذا الموقف لم يكن فوريّا نزلت الآيات بسببه وإنما كان قبل ذلك فذكرته الآيات استطرادا بمناسبة ذكر مواقف الكفار ومكابرتهم وطغيانهم كلما ذُكروا بآيات الله، ومن هنا يكون السياق غير منقطع كما هو المتبادر.
تعليق على الآية
{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ }
ولقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في صدد هذا الموقف، فمنها : أن فريقا من الكفار اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم السكوت عن شتم آلهتهم وتحقيرها ليحاسبوه، ومنها : أنهم اقترحوا الإبقاء على بعض تقاليدهم وطقوسهم مدة من الزمن، ومنها : أنهم اقترحوا أن يسمح لهم بتكريم آلهتهم بعض التكريم. ومنها : أنهم اقترحوا أن يُلمّ بآلهتهم أي يمرّ بها ويمسها كما يفعل بالحجر الأسود على سبيل التبرك، ومما جاء في الروايتين الثانية والثالثة أنهم وعدوه ـ إذا فعل ـ أن يؤمنوا به، ومما جاء في الرابعة أنهم أرادوا أن يمنعوه من الحجر الأسود والطواف ما لم يُلمّ بآلهتهم أي أوثانهم التي كانت في فناء الكعبة١، وهناك رواية خامسة وردت في الجزء الأول من الطبقات لابن سعد تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من قومه كفّا عنه، تمنى فقال : ليته لا ينزل عليّ شيء ينفرهم مني وقارب قومه ودنا ودنوا منه، وجلس يوما مجلسا من ناد حول الكعبة فقرأ عليهم ﴿ والنجم إذا هوى ١ ﴾ حتى إذا بلغ ﴿ أفرأيتم اللات والعزى ١٩ ومناة الثالثة الأخرى ٢٠ ﴾ ألقى الشيطان كلمتين على لسانه وهما ( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ) ثم مضى فقرأ السورة كلها وسجد وسجد القوم معه جميعا وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على رسول الله، فلما أمسى أتاه جبريل فقال له : قلت على الله ما لم يقل، فأوحى إليه ﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ﴾ إلى قوله ﴿ ثم لا تجد لك علينا نصير٧٥ ﴾ وبلغ الخبر للمهاجرين في أرض الحبشة بأن أهل مكة أسلموا فبادروا إلى العودة حتى إذا كانوا دون مكة لقوا ركبا من كنانة فسألوهم فقالوا : ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعوه، ثم ارتد عن ذلك وعاد إلى شتم آلهتهم فعادوا له بالشر فائتمر العائدون فعاد أكثرهم ثانية إلى الحبشة وعاد معهم آخرون مجددا. وقليل منهم رحل إلى مكة بجواره، وإن الحادث وقع في السنة الخامسة من البعثة٢.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح، ومع ذلك فروح الآيات ومضمونها متسقان مع رواية ما من الروايات الأربع دون الخامسة بقرينة ما حكته بعض الآيات من أمل كان يداعب الكفار بمداهنة النبي ليداهنوه كما جاء في سورة القلم ﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون٩ ﴾ وكانوا يحلفون له فأمره الله في الآيات التالية لهذه الآية بعدم طاعتهم ثم حمل عليهم حملة قارعة على ما سبق شرحه في تفسير السورة. هذا مع التنبه على أن عبارة الآيات صريحة بأن ما حكته كان خاطرا وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله.
بقيت الرواية الخامسة، ولقد رواها المفسرون في سياق تفسير آيات سورة الحج هذه ﴿ ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٥٢ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ٥٣ ﴾ ورووا أن الآيات أذهبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحزن الذي ألمّ به من معاتبه جبريل. وبعضهم روى مع هذه الرواية أن النبي كان يقرأ سورة النجم وهو يصلي في فناء الكعبة فجرت تلك العبارتان على لسانه.
وهذه الرواية واهية موضوعا ومدى وسياقا وظرفا، فإنه لا يمكن أن يصدر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت محاربته الشرك والمشركين بأية صفة من أهم أسس رسالته، والذي كان هذا الأساس من أكثر وأقوى ما نزل عليه من القرآن. وهو مناقض للعصمة النبوية التي قررها الله خاصة فيما يبلغه عن ربه حين يقول :﴿ وما ينطق عن الهوى ٣ إن هو إلاّ وحي يوحى ٤ ﴾ النجم :[ ٣ ـ ٤ ] ومضمون الآية التي نحن في صددها والآيات التالية لها التي هي منسجمة معها كل الانسجام لا يمكن أن يتحمل ذلك عند التدبر وإنعام النظر فضلا عن أن الآية الأولى من آيات سورة الحج تعني أن كل نبي ورسول قد أجرى الشيطان على لسانه مقاطع غير ما أنزل الله، وأن هذا هو سنة جارية مما هو غريب كل الغرابة ومتهافت كل التهافت. وما رواه بعضهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وهو يصلي بالمؤمنين في فناء الكعبة لا يؤيده أي خبر ؛ لأن النبي والمؤمنين ما كانوا في ظروف نزول الآيات يستطيعون، بل ولم يستطيعوا في أي ظرف في مكة أن يصلوا جماعة وجهرا وعلى ملأ من المشركين في فناء الكعبة. والرواية تذكر أن النبي قال قولا أي وقع منه فعل في حين أن الآية تقول : إنهم كادوا يفتونه عن الذي أوحي إليه. وسياق آيات النجم لا يمكن أن يتحمل استطراد من هذا القبيل ؛ لأنه مصبوب على تسفيه الكفار لاتخاذ الأصنام الثلاثة آلهة وتسميتها بأسماء الإناث ونسبتها إلى الله تعالى كبنات له، ونفي احتمال شفاعتهم لأحد إلاّ بإذن الله ورضائه. وسورة الإسراء نزلت في النصف الأول من العهد المكي، ولم يكن المهاجرين إلى الحبشة قد هاجروا بعد.
ولقد توقف معظم المفسرين الباحثين في الرواية وبخاصة في صدور المقطعين عن النبي صلى الله عليه وسلم وفندوها سندا وموضوعا وأوردوا أقوال كثير من العلماء بالتفنيد بالإضافة إلى تفنيداتهم٣. وحاول بعضهم أن يوفق بين الرواية والمقاطع وعصمة الرسول على غير ضرورة فقال : إن المقاطع لم تجر على لسان رسول الله وإنما هتف بها الشيطان للفتنة. ومنهم من قال : إن المشركين هم الذين هتفوا بها ردا على النبي صلى الله عليه وسلم حينما تلا سورة النجم.
ورواية وصول خبر مبالغ فيه بتحسن الحالة في مكة وإسلام أهلها قد تكون صحيحة بذاتها لأن هناك ما يفيد أن بعض المهاجرين عادوا إلى مكة. ولعل ذلك كان من ركيزة من افتراء المفترين وتضخيمهم.
وكما أن مضمون آيات الإسراء وظروف نزولها وطبيعة مهمة النبي صلى الله عليه وسلم مع رواية الغرانيق فإنها تتنافى أيضا مع القول : إن النبي صلى الله عليه وسلم جنح إلى تساهل ما في أسس الدعوة وعقيدة التوحيد. وكل ما في الأمر على ما تلهمه روح الآيات ومضمونها أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان شديد الحرص على تحويل الكفار عن موقفهم منه وشديد الغمّ والحزن من انصرافهم عنه ومناداتهم له تلقى في لحظة من لحظات أزماته النفسية من جراء هذا الموقف بعض مقترحات من فريق معتدل من الكفار توقع في نفسه أن يستجيب إلى شيء منها على رجاء أن يكون ذلك وسيلة إلى جلبهم واستجابتهم للدعوة. وهذه حالة نفسية ليست مستحيلة والوقوع من وجهة الطبيعة البشرية. والنبي بشر مثل سائر البشر إزاء حالات النفس، وقد حكى القرآن ما كان من أزماته النفسية تجاه مواقف العناد والأذى التي كان يقفها زعماء الكفار مرارا عديدة مرت أمثلة منها لما حكى ما كان من تكرار محاولات الزعماء المعتدلين حمله على المسايرة والمداهنة ليسايروه ويداهنوه مرارا مرّت أمثلة منها كذلك.
ولقد ثبته الله تعالى في هذا الموقف كما ثبته في غيره ؛ لأنه لا يصح أن يكون مساومة ولا حلّ وسط في دين الله الحق والمبادئ المحكمة التي قررها الله في قرآنه وقد أرسله لمحاربة الشرك بكل أنواعه ومظاهره وليكون الدين لله وحده. وفي هذا من التلقين الجليل المستمر المدى ما فيه من الروعة والجلال.
وننبه على أن هناك رواية يرويها المفسرون تذكر أن الآيات التي نحن في صددها نزلت في ثقيف الطائف الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا فإذا قبضناه أسلمناه وكسرنا الآلهة، وفي رواية أنهم طلبوا أن يعفيهم النبي من الانحناء في الصلاة وكسر أصنامهم بأيديهم، وأن يتمتعوا باللات سنة أخرى، وفي رواية أنهم قالوا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا، وأنه خطر لباله أن يستجيب إلى شيء مما طلبوه، فأنزل الله الآيات. وهذه الرواية يرويها الطبري والبغوي عن ابن عباس دون أن يرد فيها أن الآيات مدنية كما هو المقتضى ؛ لأن وفد ثقيف جاؤوا إلى النبي في السنة التاسعة من الهجرة، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآيات مدنية. وهذا يتفق مع مقتضى الرواية، وورود الآيات في سورة مكية، وفي سياق حكى فيه مواقف جدل الكفار وعنادهم. وورود روايات عديدة مؤيدة بقرائن قرآنية بتقدم بعض زعماء مكة باقتراحات متنوعة بسبيل حمل النبي صلى الله عليه وسلم على التساهل معهم. ووحدة السبل التي تجمع بين الآيات السابقة لها التي لا خلاف في مكيتها وانسجام السياق السابق واللاحق معا. وكل ذلك يحمل على الشك في رواية مدنية الآيات، وبالتالي في رواية نزولها في صدد وفد ثقيف.
هذا، وفيما احتوته الآيات دلالة ذات خطورة بالغة من ناحية أخرى، وهي تلقي النبي صلى الله عليه وسلم الآيات التي احتوت تنبيها وعتابا وإنذارا خاصا له على اعتبارها وحيا قرآنيا وإثباتها وتسجيلها، كذلك حيث ينطوي في هذا مظهر من مظاهر العصمة النبوية في تبليغ كل ما يوحى به إليه مهما كان. وحيث ينطوي فيه كذلك دليل آخر على صدق وعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي القرآني وكونه غير نابع من ذاته. ولقد تكرر هذا أكثر من مرة. ومن هذا القبيل آيات سورة القيامة [ ١٦ ـ ١٩ ] وسورة طه [ ١١٤ ] وسورة عبس [ ١ـ ١٠ ] التي مرت وآيات في سور أخرى مكية ومدنية.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ٧٣ ولَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ٧٤ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ٧٥ ﴾[ ٧٣ ـ ٧٥ ]
في الآيات تنبيه رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الكفار كادوا يصرفونه عما أوحى الله إليه ويحملونه على العدول عنه ومسايرتهم بوعد اتخاذهم إياه خليلا وصاحبا، وبأنه كاد أن يستجيب إليهم لولا أن ثبته الله، ولو فعل لاستحق من الله عذابا مضاعفا في الحياة وبعد الممات.
وتبدو الآيات لأول وهلة منفصلة موضوعا عن السياق السابق، وقد احتوت إشارة إلى موقف خطير واقعي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وصورة من صور السيرة النبوية.
ويتبادر لنا من وحدة السبك التي تجمع بين الآيات وسابقاتها أن هذا الموقف لم يكن فوريّا نزلت الآيات بسببه وإنما كان قبل ذلك فذكرته الآيات استطرادا بمناسبة ذكر مواقف الكفار ومكابرتهم وطغيانهم كلما ذُكروا بآيات الله، ومن هنا يكون السياق غير منقطع كما هو المتبادر.
تعليق على الآية
{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ }
ولقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في صدد هذا الموقف، فمنها : أن فريقا من الكفار اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم السكوت عن شتم آلهتهم وتحقيرها ليحاسبوه، ومنها : أنهم اقترحوا الإبقاء على بعض تقاليدهم وطقوسهم مدة من الزمن، ومنها : أنهم اقترحوا أن يسمح لهم بتكريم آلهتهم بعض التكريم. ومنها : أنهم اقترحوا أن يُلمّ بآلهتهم أي يمرّ بها ويمسها كما يفعل بالحجر الأسود على سبيل التبرك، ومما جاء في الروايتين الثانية والثالثة أنهم وعدوه ـ إذا فعل ـ أن يؤمنوا به، ومما جاء في الرابعة أنهم أرادوا أن يمنعوه من الحجر الأسود والطواف ما لم يُلمّ بآلهتهم أي أوثانهم التي كانت في فناء الكعبة١، وهناك رواية خامسة وردت في الجزء الأول من الطبقات لابن سعد تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من قومه كفّا عنه، تمنى فقال : ليته لا ينزل عليّ شيء ينفرهم مني وقارب قومه ودنا ودنوا منه، وجلس يوما مجلسا من ناد حول الكعبة فقرأ عليهم ﴿ والنجم إذا هوى ١ ﴾ حتى إذا بلغ ﴿ أفرأيتم اللات والعزى ١٩ ومناة الثالثة الأخرى ٢٠ ﴾ ألقى الشيطان كلمتين على لسانه وهما ( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ) ثم مضى فقرأ السورة كلها وسجد وسجد القوم معه جميعا وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على رسول الله، فلما أمسى أتاه جبريل فقال له : قلت على الله ما لم يقل، فأوحى إليه ﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ﴾ إلى قوله ﴿ ثم لا تجد لك علينا نصير٧٥ ﴾ وبلغ الخبر للمهاجرين في أرض الحبشة بأن أهل مكة أسلموا فبادروا إلى العودة حتى إذا كانوا دون مكة لقوا ركبا من كنانة فسألوهم فقالوا : ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعوه، ثم ارتد عن ذلك وعاد إلى شتم آلهتهم فعادوا له بالشر فائتمر العائدون فعاد أكثرهم ثانية إلى الحبشة وعاد معهم آخرون مجددا. وقليل منهم رحل إلى مكة بجواره، وإن الحادث وقع في السنة الخامسة من البعثة٢.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح، ومع ذلك فروح الآيات ومضمونها متسقان مع رواية ما من الروايات الأربع دون الخامسة بقرينة ما حكته بعض الآيات من أمل كان يداعب الكفار بمداهنة النبي ليداهنوه كما جاء في سورة القلم ﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون٩ ﴾ وكانوا يحلفون له فأمره الله في الآيات التالية لهذه الآية بعدم طاعتهم ثم حمل عليهم حملة قارعة على ما سبق شرحه في تفسير السورة. هذا مع التنبه على أن عبارة الآيات صريحة بأن ما حكته كان خاطرا وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله.
بقيت الرواية الخامسة، ولقد رواها المفسرون في سياق تفسير آيات سورة الحج هذه ﴿ ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٥٢ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ٥٣ ﴾ ورووا أن الآيات أذهبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحزن الذي ألمّ به من معاتبه جبريل. وبعضهم روى مع هذه الرواية أن النبي كان يقرأ سورة النجم وهو يصلي في فناء الكعبة فجرت تلك العبارتان على لسانه.
وهذه الرواية واهية موضوعا ومدى وسياقا وظرفا، فإنه لا يمكن أن يصدر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت محاربته الشرك والمشركين بأية صفة من أهم أسس رسالته، والذي كان هذا الأساس من أكثر وأقوى ما نزل عليه من القرآن. وهو مناقض للعصمة النبوية التي قررها الله خاصة فيما يبلغه عن ربه حين يقول :﴿ وما ينطق عن الهوى ٣ إن هو إلاّ وحي يوحى ٤ ﴾ النجم :[ ٣ ـ ٤ ] ومضمون الآية التي نحن في صددها والآيات التالية لها التي هي منسجمة معها كل الانسجام لا يمكن أن يتحمل ذلك عند التدبر وإنعام النظر فضلا عن أن الآية الأولى من آيات سورة الحج تعني أن كل نبي ورسول قد أجرى الشيطان على لسانه مقاطع غير ما أنزل الله، وأن هذا هو سنة جارية مما هو غريب كل الغرابة ومتهافت كل التهافت. وما رواه بعضهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وهو يصلي بالمؤمنين في فناء الكعبة لا يؤيده أي خبر ؛ لأن النبي والمؤمنين ما كانوا في ظروف نزول الآيات يستطيعون، بل ولم يستطيعوا في أي ظرف في مكة أن يصلوا جماعة وجهرا وعلى ملأ من المشركين في فناء الكعبة. والرواية تذكر أن النبي قال قولا أي وقع منه فعل في حين أن الآية تقول : إنهم كادوا يفتونه عن الذي أوحي إليه. وسياق آيات النجم لا يمكن أن يتحمل استطراد من هذا القبيل ؛ لأنه مصبوب على تسفيه الكفار لاتخاذ الأصنام الثلاثة آلهة وتسميتها بأسماء الإناث ونسبتها إلى الله تعالى كبنات له، ونفي احتمال شفاعتهم لأحد إلاّ بإذن الله ورضائه. وسورة الإسراء نزلت في النصف الأول من العهد المكي، ولم يكن المهاجرين إلى الحبشة قد هاجروا بعد.
ولقد توقف معظم المفسرين الباحثين في الرواية وبخاصة في صدور المقطعين عن النبي صلى الله عليه وسلم وفندوها سندا وموضوعا وأوردوا أقوال كثير من العلماء بالتفنيد بالإضافة إلى تفنيداتهم٣. وحاول بعضهم أن يوفق بين الرواية والمقاطع وعصمة الرسول على غير ضرورة فقال : إن المقاطع لم تجر على لسان رسول الله وإنما هتف بها الشيطان للفتنة. ومنهم من قال : إن المشركين هم الذين هتفوا بها ردا على النبي صلى الله عليه وسلم حينما تلا سورة النجم.
ورواية وصول خبر مبالغ فيه بتحسن الحالة في مكة وإسلام أهلها قد تكون صحيحة بذاتها لأن هناك ما يفيد أن بعض المهاجرين عادوا إلى مكة. ولعل ذلك كان من ركيزة من افتراء المفترين وتضخيمهم.
وكما أن مضمون آيات الإسراء وظروف نزولها وطبيعة مهمة النبي صلى الله عليه وسلم مع رواية الغرانيق فإنها تتنافى أيضا مع القول : إن النبي صلى الله عليه وسلم جنح إلى تساهل ما في أسس الدعوة وعقيدة التوحيد. وكل ما في الأمر على ما تلهمه روح الآيات ومضمونها أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان شديد الحرص على تحويل الكفار عن موقفهم منه وشديد الغمّ والحزن من انصرافهم عنه ومناداتهم له تلقى في لحظة من لحظات أزماته النفسية من جراء هذا الموقف بعض مقترحات من فريق معتدل من الكفار توقع في نفسه أن يستجيب إلى شيء منها على رجاء أن يكون ذلك وسيلة إلى جلبهم واستجابتهم للدعوة. وهذه حالة نفسية ليست مستحيلة والوقوع من وجهة الطبيعة البشرية. والنبي بشر مثل سائر البشر إزاء حالات النفس، وقد حكى القرآن ما كان من أزماته النفسية تجاه مواقف العناد والأذى التي كان يقفها زعماء الكفار مرارا عديدة مرت أمثلة منها لما حكى ما كان من تكرار محاولات الزعماء المعتدلين حمله على المسايرة والمداهنة ليسايروه ويداهنوه مرارا مرّت أمثلة منها كذلك.
ولقد ثبته الله تعالى في هذا الموقف كما ثبته في غيره ؛ لأنه لا يصح أن يكون مساومة ولا حلّ وسط في دين الله الحق والمبادئ المحكمة التي قررها الله في قرآنه وقد أرسله لمحاربة الشرك بكل أنواعه ومظاهره وليكون الدين لله وحده. وفي هذا من التلقين الجليل المستمر المدى ما فيه من الروعة والجلال.
وننبه على أن هناك رواية يرويها المفسرون تذكر أن الآيات التي نحن في صددها نزلت في ثقيف الطائف الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا فإذا قبضناه أسلمناه وكسرنا الآلهة، وفي رواية أنهم طلبوا أن يعفيهم النبي من الانحناء في الصلاة وكسر أصنامهم بأيديهم، وأن يتمتعوا باللات سنة أخرى، وفي رواية أنهم قالوا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا، وأنه خطر لباله أن يستجيب إلى شيء مما طلبوه، فأنزل الله الآيات. وهذه الرواية يرويها الطبري والبغوي عن ابن عباس دون أن يرد فيها أن الآيات مدنية كما هو المقتضى ؛ لأن وفد ثقيف جاؤوا إلى النبي في السنة التاسعة من الهجرة، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآيات مدنية. وهذا يتفق مع مقتضى الرواية، وورود الآيات في سورة مكية، وفي سياق حكى فيه مواقف جدل الكفار وعنادهم. وورود روايات عديدة مؤيدة بقرائن قرآنية بتقدم بعض زعماء مكة باقتراحات متنوعة بسبيل حمل النبي صلى الله عليه وسلم على التساهل معهم. ووحدة السبل التي تجمع بين الآيات السابقة لها التي لا خلاف في مكيتها وانسجام السياق السابق واللاحق معا. وكل ذلك يحمل على الشك في رواية مدنية الآيات، وبالتالي في رواية نزولها في صدد وفد ثقيف.
هذا، وفيما احتوته الآيات دلالة ذات خطورة بالغة من ناحية أخرى، وهي تلقي النبي صلى الله عليه وسلم الآيات التي احتوت تنبيها وعتابا وإنذارا خاصا له على اعتبارها وحيا قرآنيا وإثباتها وتسجيلها، كذلك حيث ينطوي في هذا مظهر من مظاهر العصمة النبوية في تبليغ كل ما يوحى به إليه مهما كان. وحيث ينطوي فيه كذلك دليل آخر على صدق وعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي القرآني وكونه غير نابع من ذاته. ولقد تكرر هذا أكثر من مرة. ومن هذا القبيل آيات سورة القيامة [ ١٦ ـ ١٩ ] وسورة طه [ ١١٤ ] وسورة عبس [ ١ـ ١٠ ] التي مرت وآيات في سور أخرى مكية ومدنية.

لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وضِعْفَ الْمَمَاتِ : لأذقناك عذابا مضاعفا في الحياة وعذابا مضاعفا بعد الممات على ما ذكره المفسرون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ٧٣ ولَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ٧٤ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ٧٥ ﴾[ ٧٣ ـ ٧٥ ]
في الآيات تنبيه رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الكفار كادوا يصرفونه عما أوحى الله إليه ويحملونه على العدول عنه ومسايرتهم بوعد اتخاذهم إياه خليلا وصاحبا، وبأنه كاد أن يستجيب إليهم لولا أن ثبته الله، ولو فعل لاستحق من الله عذابا مضاعفا في الحياة وبعد الممات.
وتبدو الآيات لأول وهلة منفصلة موضوعا عن السياق السابق، وقد احتوت إشارة إلى موقف خطير واقعي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار وصورة من صور السيرة النبوية.
ويتبادر لنا من وحدة السبك التي تجمع بين الآيات وسابقاتها أن هذا الموقف لم يكن فوريّا نزلت الآيات بسببه وإنما كان قبل ذلك فذكرته الآيات استطرادا بمناسبة ذكر مواقف الكفار ومكابرتهم وطغيانهم كلما ذُكروا بآيات الله، ومن هنا يكون السياق غير منقطع كما هو المتبادر.
تعليق على الآية
{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ }
ولقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في صدد هذا الموقف، فمنها : أن فريقا من الكفار اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم السكوت عن شتم آلهتهم وتحقيرها ليحاسبوه، ومنها : أنهم اقترحوا الإبقاء على بعض تقاليدهم وطقوسهم مدة من الزمن، ومنها : أنهم اقترحوا أن يسمح لهم بتكريم آلهتهم بعض التكريم. ومنها : أنهم اقترحوا أن يُلمّ بآلهتهم أي يمرّ بها ويمسها كما يفعل بالحجر الأسود على سبيل التبرك، ومما جاء في الروايتين الثانية والثالثة أنهم وعدوه ـ إذا فعل ـ أن يؤمنوا به، ومما جاء في الرابعة أنهم أرادوا أن يمنعوه من الحجر الأسود والطواف ما لم يُلمّ بآلهتهم أي أوثانهم التي كانت في فناء الكعبة١، وهناك رواية خامسة وردت في الجزء الأول من الطبقات لابن سعد تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من قومه كفّا عنه، تمنى فقال : ليته لا ينزل عليّ شيء ينفرهم مني وقارب قومه ودنا ودنوا منه، وجلس يوما مجلسا من ناد حول الكعبة فقرأ عليهم ﴿ والنجم إذا هوى ١ ﴾ حتى إذا بلغ ﴿ أفرأيتم اللات والعزى ١٩ ومناة الثالثة الأخرى ٢٠ ﴾ ألقى الشيطان كلمتين على لسانه وهما ( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ) ثم مضى فقرأ السورة كلها وسجد وسجد القوم معه جميعا وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على رسول الله، فلما أمسى أتاه جبريل فقال له : قلت على الله ما لم يقل، فأوحى إليه ﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ﴾ إلى قوله ﴿ ثم لا تجد لك علينا نصير٧٥ ﴾ وبلغ الخبر للمهاجرين في أرض الحبشة بأن أهل مكة أسلموا فبادروا إلى العودة حتى إذا كانوا دون مكة لقوا ركبا من كنانة فسألوهم فقالوا : ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعوه، ثم ارتد عن ذلك وعاد إلى شتم آلهتهم فعادوا له بالشر فائتمر العائدون فعاد أكثرهم ثانية إلى الحبشة وعاد معهم آخرون مجددا. وقليل منهم رحل إلى مكة بجواره، وإن الحادث وقع في السنة الخامسة من البعثة٢.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح، ومع ذلك فروح الآيات ومضمونها متسقان مع رواية ما من الروايات الأربع دون الخامسة بقرينة ما حكته بعض الآيات من أمل كان يداعب الكفار بمداهنة النبي ليداهنوه كما جاء في سورة القلم ﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون٩ ﴾ وكانوا يحلفون له فأمره الله في الآيات التالية لهذه الآية بعدم طاعتهم ثم حمل عليهم حملة قارعة على ما سبق شرحه في تفسير السورة. هذا مع التنبه على أن عبارة الآيات صريحة بأن ما حكته كان خاطرا وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله.
بقيت الرواية الخامسة، ولقد رواها المفسرون في سياق تفسير آيات سورة الحج هذه ﴿ ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٥٢ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ٥٣ ﴾ ورووا أن الآيات أذهبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحزن الذي ألمّ به من معاتبه جبريل. وبعضهم روى مع هذه الرواية أن النبي كان يقرأ سورة النجم وهو يصلي في فناء الكعبة فجرت تلك العبارتان على لسانه.
وهذه الرواية واهية موضوعا ومدى وسياقا وظرفا، فإنه لا يمكن أن يصدر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت محاربته الشرك والمشركين بأية صفة من أهم أسس رسالته، والذي كان هذا الأساس من أكثر وأقوى ما نزل عليه من القرآن. وهو مناقض للعصمة النبوية التي قررها الله خاصة فيما يبلغه عن ربه حين يقول :﴿ وما ينطق عن الهوى ٣ إن هو إلاّ وحي يوحى ٤ ﴾ النجم :[ ٣ ـ ٤ ] ومضمون الآية التي نحن في صددها والآيات التالية لها التي هي منسجمة معها كل الانسجام لا يمكن أن يتحمل ذلك عند التدبر وإنعام النظر فضلا عن أن الآية الأولى من آيات سورة الحج تعني أن كل نبي ورسول قد أجرى الشيطان على لسانه مقاطع غير ما أنزل الله، وأن هذا هو سنة جارية مما هو غريب كل الغرابة ومتهافت كل التهافت. وما رواه بعضهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وهو يصلي بالمؤمنين في فناء الكعبة لا يؤيده أي خبر ؛ لأن النبي والمؤمنين ما كانوا في ظروف نزول الآيات يستطيعون، بل ولم يستطيعوا في أي ظرف في مكة أن يصلوا جماعة وجهرا وعلى ملأ من المشركين في فناء الكعبة. والرواية تذكر أن النبي قال قولا أي وقع منه فعل في حين أن الآية تقول : إنهم كادوا يفتونه عن الذي أوحي إليه. وسياق آيات النجم لا يمكن أن يتحمل استطراد من هذا القبيل ؛ لأنه مصبوب على تسفيه الكفار لاتخاذ الأصنام الثلاثة آلهة وتسميتها بأسماء الإناث ونسبتها إلى الله تعالى كبنات له، ونفي احتمال شفاعتهم لأحد إلاّ بإذن الله ورضائه. وسورة الإسراء نزلت في النصف الأول من العهد المكي، ولم يكن المهاجرين إلى الحبشة قد هاجروا بعد.
ولقد توقف معظم المفسرين الباحثين في الرواية وبخاصة في صدور المقطعين عن النبي صلى الله عليه وسلم وفندوها سندا وموضوعا وأوردوا أقوال كثير من العلماء بالتفنيد بالإضافة إلى تفنيداتهم٣. وحاول بعضهم أن يوفق بين الرواية والمقاطع وعصمة الرسول على غير ضرورة فقال : إن المقاطع لم تجر على لسان رسول الله وإنما هتف بها الشيطان للفتنة. ومنهم من قال : إن المشركين هم الذين هتفوا بها ردا على النبي صلى الله عليه وسلم حينما تلا سورة النجم.
ورواية وصول خبر مبالغ فيه بتحسن الحالة في مكة وإسلام أهلها قد تكون صحيحة بذاتها لأن هناك ما يفيد أن بعض المهاجرين عادوا إلى مكة. ولعل ذلك كان من ركيزة من افتراء المفترين وتضخيمهم.
وكما أن مضمون آيات الإسراء وظروف نزولها وطبيعة مهمة النبي صلى الله عليه وسلم مع رواية الغرانيق فإنها تتنافى أيضا مع القول : إن النبي صلى الله عليه وسلم جنح إلى تساهل ما في أسس الدعوة وعقيدة التوحيد. وكل ما في الأمر على ما تلهمه روح الآيات ومضمونها أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان شديد الحرص على تحويل الكفار عن موقفهم منه وشديد الغمّ والحزن من انصرافهم عنه ومناداتهم له تلقى في لحظة من لحظات أزماته النفسية من جراء هذا الموقف بعض مقترحات من فريق معتدل من الكفار توقع في نفسه أن يستجيب إلى شيء منها على رجاء أن يكون ذلك وسيلة إلى جلبهم واستجابتهم للدعوة. وهذه حالة نفسية ليست مستحيلة والوقوع من وجهة الطبيعة البشرية. والنبي بشر مثل سائر البشر إزاء حالات النفس، وقد حكى القرآن ما كان من أزماته النفسية تجاه مواقف العناد والأذى التي كان يقفها زعماء الكفار مرارا عديدة مرت أمثلة منها لما حكى ما كان من تكرار محاولات الزعماء المعتدلين حمله على المسايرة والمداهنة ليسايروه ويداهنوه مرارا مرّت أمثلة منها كذلك.
ولقد ثبته الله تعالى في هذا الموقف كما ثبته في غيره ؛ لأنه لا يصح أن يكون مساومة ولا حلّ وسط في دين الله الحق والمبادئ المحكمة التي قررها الله في قرآنه وقد أرسله لمحاربة الشرك بكل أنواعه ومظاهره وليكون الدين لله وحده. وفي هذا من التلقين الجليل المستمر المدى ما فيه من الروعة والجلال.
وننبه على أن هناك رواية يرويها المفسرون تذكر أن الآيات التي نحن في صددها نزلت في ثقيف الطائف الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا فإذا قبضناه أسلمناه وكسرنا الآلهة، وفي رواية أنهم طلبوا أن يعفيهم النبي من الانحناء في الصلاة وكسر أصنامهم بأيديهم، وأن يتمتعوا باللات سنة أخرى، وفي رواية أنهم قالوا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا، وأنه خطر لباله أن يستجيب إلى شيء مما طلبوه، فأنزل الله الآيات. وهذه الرواية يرويها الطبري والبغوي عن ابن عباس دون أن يرد فيها أن الآيات مدنية كما هو المقتضى ؛ لأن وفد ثقيف جاؤوا إلى النبي في السنة التاسعة من الهجرة، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآيات مدنية. وهذا يتفق مع مقتضى الرواية، وورود الآيات في سورة مكية، وفي سياق حكى فيه مواقف جدل الكفار وعنادهم. وورود روايات عديدة مؤيدة بقرائن قرآنية بتقدم بعض زعماء مكة باقتراحات متنوعة بسبيل حمل النبي صلى الله عليه وسلم على التساهل معهم. ووحدة السبل التي تجمع بين الآيات السابقة لها التي لا خلاف في مكيتها وانسجام السياق السابق واللاحق معا. وكل ذلك يحمل على الشك في رواية مدنية الآيات، وبالتالي في رواية نزولها في صدد وفد ثقيف.
هذا، وفيما احتوته الآيات دلالة ذات خطورة بالغة من ناحية أخرى، وهي تلقي النبي صلى الله عليه وسلم الآيات التي احتوت تنبيها وعتابا وإنذارا خاصا له على اعتبارها وحيا قرآنيا وإثباتها وتسجيلها، كذلك حيث ينطوي في هذا مظهر من مظاهر العصمة النبوية في تبليغ كل ما يوحى به إليه مهما كان. وحيث ينطوي فيه كذلك دليل آخر على صدق وعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي القرآني وكونه غير نابع من ذاته. ولقد تكرر هذا أكثر من مرة. ومن هذا القبيل آيات سورة القيامة [ ١٦ ـ ١٩ ] وسورة طه [ ١١٤ ] وسورة عبس [ ١ـ ١٠ ] التي مرت وآيات في سور أخرى مكية ومدنية.

لَيَسْتَفِزُّونَكَ : ليثيرونك.
خلافك : بعدك أو من خلفك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً ٧٦ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ولاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً٧٧ ﴾ [ ٧٦ ـ ٧٧ ]
في هاتين الآيتين إشارة ربانية إلى أن إزعاج الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ حدّا كادوا أن يستفزوه ويسروه ويجعلوه يخرج من مكة، وتوكيد تطميني بأن الأمر لو وصل إلى هذا الحد لكانوا عجّلوا على أنفسهم بالعذاب ولما بقوا معافين منه بعده أمدا طويلا ؛ لأن ذلك سنة الله التي جرت مع الرسل والأمم من قبل والتي لا تبديل فيها ولا تحويل.
تعليق على الآية
﴿ وإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ﴾
والآية التي بعدها
روى المفسرون١ في صدد نزول هذه الآيات روايات عديدة. منها أن اليهود كرهوا أن يكون النبي في المدينة فقالوا له : إن أرض الأنبياء هي بلاد الشام وحرضوه على الرحيل، وأن النبي عسكر على ثلاثة أميال من المدينة حتى يجتمع إليه أصحابه ويخرج. ورواية تذكر أن خروج النبي إلى تبوك هو من أثر تحريض اليهود وكان يقصد الشام فأنزل الله الآيتين. ومنها : أن الآيتين في صدد ما كان من مضايقة زعماء قريش له حتى يستفزوه ويضطروه إلى الخروج من مكة. ومقتضى الروايات الأولى أن تكون الآيتان مدنيتين. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنهما مدنيتان.
غير أن أسلوب الآيتين منسجم ومتوازن مع الآيات السابقة لهما واللاحقة بهما، وهما معطوفتان على ما قبلهما الذي ذكر فيه مواقف كفار مكة. وضمير الجمع الغائب في الآيات عائد إليهم. وهو مماثل لضمير جملة ﴿ وإن كادوا ﴾ السابقة. فضلا عن المشاكلة بين الآيتين والآيات السابقة لهما مباشرة، وكل هذا يجعل رواية مدنية الآيتين محل شك بل غير صحيحة، ولقد تعددت الفصول في القرآن المدني، وطالت فيما جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في المدينة فليس من محل ولا حكمة لورود هذه الإشارة عنهم في سورة مكية، وفي سياق عن كفار مكة ؛ ولذلك نرجح بل نجزم والله أعلم أن الآيتين مكيتان، وأنهما نزلتا في محاولات واستفزازات كفار مكة التي ذكرت الرواية الثانية وهو ما رجحه الطبري والبغوي وابن كثير. وقد فند الأخير رواية كون النبي خرج إلى تبوك بتحريض اليهود وقال : إنه إنما خرج لمحاربة قبائل نصارى الشام الذين كانوا تحت سيادة الغساسنة والروم ولثأر شهداء مؤتة وأن خروجه كان بناء على آية سورة التوبة ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ و لاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ و لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ ورَسُولُهُ ولاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ ٢٩ ﴾ وكل هذا وجيه سديد. وروح الآية الأولى بل مضمونها قد يلهمان أنها بسبيل موقف واقعي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. غير أن وحدة السبك التي تجمع بين السياق جميعه تسوغ أن نقول ما قلناه في الآيات السابقة للآيتين مباشرة، أي أن الموقف الذي يمكن أن يكون انطوت إشارة فيهما إليه لم يكن فوريا نزلت الآيتان بسببه، وإنما كان قبل نزولهما بمدة ما فذكر في الآية الأولى استطرادا بمناسبة ذكر مواقف الكفار، ومن هنا يكون السياق متصلا غير منقطع عن بعضه.
ولقد كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة في ظروف نزول سورة الإسراء، ولا بدّ من أنها كانت موضع تفكير وحديث مدة غير قصيرة قبل تنفيذها، فليس من المستبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد فكر أيضا أن يهاجر معهم ثم ثبته الله وجعله يعدل عن ذلك ويكتفي بهجرة الذين كانوا عرضة للاضطهاد والأذى من أصحابه من أسرهم أو من زعماء قريش. ولعل هؤلاء الزعماء اشتدوا بعد هجرة المهاجرين في المناوأة والإحراج والاستفزاز فجعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في الالتحاق بالمهاجرين في الحبشة ثم ثبته الله. ولعل هذا ما كان بعد الموقف الذي حكته الآيات السابقة للآيتين الذي خطر للنبي فيه مسايرة الكفار في بعض مقترحاتهم، فلما ثبته الله وعدل عن تنفيذ ما خطر له اشتد استفزاز الكفار ومناوأتهم فكان ذلك مما جعله يفكر في اللحاق بأصحابه المهاجرين وهذا ما يبدو لنا أنه الأوجه ؛ لأن حكاية الموقفين جاءت متوالية.
ولقد روى البخاري عن عائشة حديثا جاء فيه " لم أعقل أبويّ قطّ إلاّ وهما يدينان الدّين الإسلاميّ ولم يمرّ علينا يوم إلاّ يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلمّا ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتّى بلغ برك الغماد فلقيه ابن الدّغنة وهو سيّد القارة فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربّي وقال ابن الدّغنة : مثلك لا يخرج ولا يخرج. إنّك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكلّ وتقري الضّيف وتعين على نوائب الحقّ، فأنا لك جار فارجع فاعبد ربّك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدّغنة، فطاف ابن الدّغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم : إنّ أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج. أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرّحم ويحمل الكلّ ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدّغنة " ٢.
وأبو بكر رضي الله عنه أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة له وتأييدا وتصديقا. والحديث يذكر أنه لم يكن يمرّ يوم إلاّ يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته بكرة وعشية. وفي الحديث إشارة إلى ما كان من وعد النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة وإياه إلى المدينة وما كان من هجرتهما معا حينما خرج النبي مهاجرا وهو صاحبه في الغار. فمن المحتمل كثيرا أن يكون الاثنان قد اتفقا على الخروج من مكة بعد هجرة جلّ أصحابهم إلى الحبشة واشتداد مناوأة زعماء الكفار واستفزازهم على أن يخرج كل منهما على حدة، ويلتقيا في ثغر جدة أو غيره فيبحران منه إلى الحبشة ثم ثبت الله تعالى رسوله فاستقر. ولم يلبث صاحبه أن عاد فازداد استقرارا وطمأنينة.
ولقد علق ابن كثير على جملة ﴿ إِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً ٧٦ ﴾ والآية التي جاءت بعدها فقال : إن الله قد توعد الكفار فيهما وأنه حقق وعيده فيهم فلم يكن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم إلى المدينة إلاّ سنة ونصف حتى جمعهم الله وإياه في بدر فأمكنه منهم وأظفره بهم فقتل أشرافهم. وهذا التعليق في محله حيث يبدو من خلاله صورة من صور الإعجاز القرآني.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً ٧٦ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ولاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً٧٧ ﴾ [ ٧٦ ـ ٧٧ ]
في هاتين الآيتين إشارة ربانية إلى أن إزعاج الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ حدّا كادوا أن يستفزوه ويسروه ويجعلوه يخرج من مكة، وتوكيد تطميني بأن الأمر لو وصل إلى هذا الحد لكانوا عجّلوا على أنفسهم بالعذاب ولما بقوا معافين منه بعده أمدا طويلا ؛ لأن ذلك سنة الله التي جرت مع الرسل والأمم من قبل والتي لا تبديل فيها ولا تحويل.
تعليق على الآية
﴿ وإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ﴾
والآية التي بعدها
روى المفسرون١ في صدد نزول هذه الآيات روايات عديدة. منها أن اليهود كرهوا أن يكون النبي في المدينة فقالوا له : إن أرض الأنبياء هي بلاد الشام وحرضوه على الرحيل، وأن النبي عسكر على ثلاثة أميال من المدينة حتى يجتمع إليه أصحابه ويخرج. ورواية تذكر أن خروج النبي إلى تبوك هو من أثر تحريض اليهود وكان يقصد الشام فأنزل الله الآيتين. ومنها : أن الآيتين في صدد ما كان من مضايقة زعماء قريش له حتى يستفزوه ويضطروه إلى الخروج من مكة. ومقتضى الروايات الأولى أن تكون الآيتان مدنيتين. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنهما مدنيتان.
غير أن أسلوب الآيتين منسجم ومتوازن مع الآيات السابقة لهما واللاحقة بهما، وهما معطوفتان على ما قبلهما الذي ذكر فيه مواقف كفار مكة. وضمير الجمع الغائب في الآيات عائد إليهم. وهو مماثل لضمير جملة ﴿ وإن كادوا ﴾ السابقة. فضلا عن المشاكلة بين الآيتين والآيات السابقة لهما مباشرة، وكل هذا يجعل رواية مدنية الآيتين محل شك بل غير صحيحة، ولقد تعددت الفصول في القرآن المدني، وطالت فيما جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في المدينة فليس من محل ولا حكمة لورود هذه الإشارة عنهم في سورة مكية، وفي سياق عن كفار مكة ؛ ولذلك نرجح بل نجزم والله أعلم أن الآيتين مكيتان، وأنهما نزلتا في محاولات واستفزازات كفار مكة التي ذكرت الرواية الثانية وهو ما رجحه الطبري والبغوي وابن كثير. وقد فند الأخير رواية كون النبي خرج إلى تبوك بتحريض اليهود وقال : إنه إنما خرج لمحاربة قبائل نصارى الشام الذين كانوا تحت سيادة الغساسنة والروم ولثأر شهداء مؤتة وأن خروجه كان بناء على آية سورة التوبة ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ و لاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ و لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ ورَسُولُهُ ولاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ ٢٩ ﴾ وكل هذا وجيه سديد. وروح الآية الأولى بل مضمونها قد يلهمان أنها بسبيل موقف واقعي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار. غير أن وحدة السبك التي تجمع بين السياق جميعه تسوغ أن نقول ما قلناه في الآيات السابقة للآيتين مباشرة، أي أن الموقف الذي يمكن أن يكون انطوت إشارة فيهما إليه لم يكن فوريا نزلت الآيتان بسببه، وإنما كان قبل نزولهما بمدة ما فذكر في الآية الأولى استطرادا بمناسبة ذكر مواقف الكفار، ومن هنا يكون السياق متصلا غير منقطع عن بعضه.
ولقد كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة في ظروف نزول سورة الإسراء، ولا بدّ من أنها كانت موضع تفكير وحديث مدة غير قصيرة قبل تنفيذها، فليس من المستبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد فكر أيضا أن يهاجر معهم ثم ثبته الله وجعله يعدل عن ذلك ويكتفي بهجرة الذين كانوا عرضة للاضطهاد والأذى من أصحابه من أسرهم أو من زعماء قريش. ولعل هؤلاء الزعماء اشتدوا بعد هجرة المهاجرين في المناوأة والإحراج والاستفزاز فجعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في الالتحاق بالمهاجرين في الحبشة ثم ثبته الله. ولعل هذا ما كان بعد الموقف الذي حكته الآيات السابقة للآيتين الذي خطر للنبي فيه مسايرة الكفار في بعض مقترحاتهم، فلما ثبته الله وعدل عن تنفيذ ما خطر له اشتد استفزاز الكفار ومناوأتهم فكان ذلك مما جعله يفكر في اللحاق بأصحابه المهاجرين وهذا ما يبدو لنا أنه الأوجه ؛ لأن حكاية الموقفين جاءت متوالية.
ولقد روى البخاري عن عائشة حديثا جاء فيه " لم أعقل أبويّ قطّ إلاّ وهما يدينان الدّين الإسلاميّ ولم يمرّ علينا يوم إلاّ يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلمّا ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتّى بلغ برك الغماد فلقيه ابن الدّغنة وهو سيّد القارة فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربّي وقال ابن الدّغنة : مثلك لا يخرج ولا يخرج. إنّك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكلّ وتقري الضّيف وتعين على نوائب الحقّ، فأنا لك جار فارجع فاعبد ربّك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدّغنة، فطاف ابن الدّغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم : إنّ أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج. أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرّحم ويحمل الكلّ ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدّغنة " ٢.
وأبو بكر رضي الله عنه أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة له وتأييدا وتصديقا. والحديث يذكر أنه لم يكن يمرّ يوم إلاّ يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته بكرة وعشية. وفي الحديث إشارة إلى ما كان من وعد النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة وإياه إلى المدينة وما كان من هجرتهما معا حينما خرج النبي مهاجرا وهو صاحبه في الغار. فمن المحتمل كثيرا أن يكون الاثنان قد اتفقا على الخروج من مكة بعد هجرة جلّ أصحابهم إلى الحبشة واشتداد مناوأة زعماء الكفار واستفزازهم على أن يخرج كل منهما على حدة، ويلتقيا في ثغر جدة أو غيره فيبحران منه إلى الحبشة ثم ثبت الله تعالى رسوله فاستقر. ولم يلبث صاحبه أن عاد فازداد استقرارا وطمأنينة.
ولقد علق ابن كثير على جملة ﴿ إِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً ٧٦ ﴾ والآية التي جاءت بعدها فقال : إن الله قد توعد الكفار فيهما وأنه حقق وعيده فيهم فلم يكن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم إلى المدينة إلاّ سنة ونصف حتى جمعهم الله وإياه في بدر فأمكنه منهم وأظفره بهم فقتل أشرافهم. وهذا التعليق في محله حيث يبدو من خلاله صورة من صور الإعجاز القرآني.

دلوك الشمس : زوالها وهو انتصاف النهار، وقيل : إن التسمية بسبب ما يضطر الناظر إلى الشمس إليه من دلك عينيه من شدة الشعاع. وقيل : إنه غروب الشمس وأن التسمية بسبب دلك الناظر عينيه حتى يتبينها. والأكثر على أنه الزوال. وجملة ﴿ إلى غسق الليل ﴾ قرينة على ذلك.
غسق الليل : ظلمة الليل.
قرآن الفجر : كناية عن صلاة الفجر. والفجر تباشير شروق الشمس الأولى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الْفَجْر ِإِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ٧٨ ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ٧٩ وقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ٨٠ وقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾ [ ٧٨ ـ ٨١ ].
المتبادر أن الآيات غير منفصلة عن سابقاتها وأنها جاءت بمثابة تعقيب وبسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته والإهابة به إلى عدم الحزن والغم مما يبدو من الكفار من عداء وعناد وإزعاج وخداع وإغراء، حيث تأمره بأن يتفرغ لعبادة الله تعالى وذكره والصلاة له في الليل والنهار، فيقيم الصلوات في أوقاتها المفروضة منذ الزوال إلى ظلمة الليل وفي الفجر ثم بالتهجد في الليل أيضا، وأن يدعو ربه لييسر له الكرامة والسلامة والثبات والنصر والتأييد في مواقفه وتصرفاته ومداخله ومخارجه، فذلك أحرى أن ينيله ما يرغب فيه وأن يقرّ عينه بالمقام المحمود، وعليه كذلك أن يهتف بالناس : أن قد جاء الحق واضمحل الباطل ؛ لأنه مضمحل بطبيعته أمام الحق.
والآيات قوية التلقين والتطمين. ومن شأنها بثّ الرّوح والراحة والقوة في النفوس والقلوب سواء أفي الظرف الذي نزلت فيه والقصد الذي قصدت إليه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم أم في غيره من الظروف.
تعليق على الآية
﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ... ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
يلفت النظر بخاصة إلى قوة الحثّ على التهجد في الليل وصلاة الفجر وقرآنه. والمتبادر أن هذا متصل بما يكون في ذلك من مظهر الإخلاص التام لله عز وجل، وما تشعر به النفس من سكينة وطمأنينة وقوة روح.
والخطاب وإن كان موجها في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما فيها من حثّ ووعد وتطمين يصح أن يعتبر موجها لجميع المؤمنين الذين أمروا أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة كما هو المتبادر. ولقد كان ذلك واقعا في زمن النبي وفي العهدين المكي والمدني، بقرينة آيات الذاريات ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ١٧ وبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ١٨ ﴾ وآية المزمل الأخيرة التي مرّ تفسيرها.
ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات الأولى أي [ ٧٨ ـ ٨٠ ] مع [ ٧٣ـ ٧٧ ] مدنيات. ولقد روى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالهجرة من مكة أنزل الله عليه ﴿ وقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ٨٠ ﴾١ ولقد توقفنا في رواية مدنية الآيات السابقة ؛ لأن وحدة السياق والموضوع والنظم جامعة بينها وبين ما قبلها. وهذا هو الحال أيضا بالنسبة لهذه الآيات ؛ ولذلك نحن نتوقف في رواية مدنيتها كذلك.
ومن العجيب أن رواية مدنية الآيات لم تشمل الآية [ ٨١ ] في حين أنها جزء غير منفصل عن السياق. وهذا مما يدعم صواب توقفنا. وحديث الترمذي لا يجعلنا نغيّر رأينا، ولاسيما أن مقتضاه أن تكون الآية [ ٨٠ ] نزلت لحدتها للمناسبة المذكورة فيه مع أنها جزء من سياق تام سبكا وموضوعا. ويظهر أن الطبري لم يأخذ بالحديث أو لم يثبت عنده حيث قال : إن الآية متصلة بما قبلها وإنها بسبيل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء بأن ييسر له المخرج الصدق والمدخل الصدق والسلطان الذي ينتصر به على الكفار الذين يحاولون استفزازه ليخرجوه من الأرض وهو قول وجيه سديد.
وعلى كل حال فالمتبادر من روح الآيات جملة أن الأمر القرآني هو بقصد بثّ الروح والقوة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وجعله يأمل ويلتمس من الله النصر التأييد والعزة وحسن المصير في مواقفه ومداخله ومخارجه عامة في مناسبة ما كان من اشتداد مناوأة زعماء الكفار وإزعاجهم.
ولقد أورد البغوي في سياق الآيات أحاديث عن تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل وما كان من اهتمامه الشديد لذلك٢. ولاشك أن هذا من تلقين آيات سورة المزمل الأولى التي مر تفسيرها، وقد شاءت حكمة التنزيل أن تكرر الأمر له بذلك في الآيات التي نحن في صددها وأن تزيد فتؤمله بالمقام المحمود. ولقد ذكر المقام المحمود في أحاديث نبوية عديدة، منها ما فيه توضيح له، رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ يومئذ ـ آدم فمن سواه ـ إلاّ تحت لوائي فيأتيني الناس فأنطلق معهم إلى أن قال : فأخرّ ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي : ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفّع، وقل يسمع قولك، وهو المقام المحمود الذي قال الله ﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ " ٣ وهناك حديث رواه البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمر للمؤمنين بدعاء الله بأن يؤتي رسوله المقام المحمود هذا نصه " من قال حين يسمع النداء ( الأذان ) اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة آت سيّدنا محمّد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة " ٤.
والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تأميل رباني له بأن يبعثه الله مقاما محمودا. وما دام هناك حديث صحيح في توضيح مدى المقام المحمود يجب الوقوف عنده الإيمان بما فيه مع استئناف الحكمة منه. ويتبادر لنا من روح العبارة القرآنية وفحواها أن التنويه بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الروح والقوة فيه إزاء موقف الكفار وحثه على عبادة الله في كل وقت وبخاصة في الليل وبيان ما في ذلك من أسباب السكينة والطمأنينة والبشرى بما يكون له من نصر وسلطان ومقام محمود عند الله، كل ذلك من تلك الحكمة بالإضافة إلى ما شاءت عناية الله ورحمته من اختصاصه يوم القيامة بالشفاعة العظمى دون الأنبياء وهو المقام المحمود حقا وصدقا.
ولقد روى البخاري والترمذي حديثا عن ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول ﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد " ٥ حيث ينطوي في الحديث خبر تحقق فيه نصر الله، وظهور الحق المتمثل بدين الله، وهزيمة الباطل المتمثل بالشرك واضمحلاله. وبالتالي تحقق فيه مصداق الهتاف الذي أمر الله تعالى رسوله بالهتاف به، إبان ضعفه والذي لم يكن من شأنه أن يتبدل لأنه هتاف الله المحكم الخالد ﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾.

التهجد : ترك الهجود. والهجود هو : السكون والنوم. والكلمة كناية عن القيام للصلاة في الليل.
نافلة : زيادة فوق الواجب أو الفرض.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الْفَجْر ِإِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ٧٨ ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ٧٩ وقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ٨٠ وقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾ [ ٧٨ ـ ٨١ ].
المتبادر أن الآيات غير منفصلة عن سابقاتها وأنها جاءت بمثابة تعقيب وبسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته والإهابة به إلى عدم الحزن والغم مما يبدو من الكفار من عداء وعناد وإزعاج وخداع وإغراء، حيث تأمره بأن يتفرغ لعبادة الله تعالى وذكره والصلاة له في الليل والنهار، فيقيم الصلوات في أوقاتها المفروضة منذ الزوال إلى ظلمة الليل وفي الفجر ثم بالتهجد في الليل أيضا، وأن يدعو ربه لييسر له الكرامة والسلامة والثبات والنصر والتأييد في مواقفه وتصرفاته ومداخله ومخارجه، فذلك أحرى أن ينيله ما يرغب فيه وأن يقرّ عينه بالمقام المحمود، وعليه كذلك أن يهتف بالناس : أن قد جاء الحق واضمحل الباطل ؛ لأنه مضمحل بطبيعته أمام الحق.
والآيات قوية التلقين والتطمين. ومن شأنها بثّ الرّوح والراحة والقوة في النفوس والقلوب سواء أفي الظرف الذي نزلت فيه والقصد الذي قصدت إليه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم أم في غيره من الظروف.
تعليق على الآية
﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ... ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
يلفت النظر بخاصة إلى قوة الحثّ على التهجد في الليل وصلاة الفجر وقرآنه. والمتبادر أن هذا متصل بما يكون في ذلك من مظهر الإخلاص التام لله عز وجل، وما تشعر به النفس من سكينة وطمأنينة وقوة روح.
والخطاب وإن كان موجها في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما فيها من حثّ ووعد وتطمين يصح أن يعتبر موجها لجميع المؤمنين الذين أمروا أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة كما هو المتبادر. ولقد كان ذلك واقعا في زمن النبي وفي العهدين المكي والمدني، بقرينة آيات الذاريات ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ١٧ وبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ١٨ ﴾ وآية المزمل الأخيرة التي مرّ تفسيرها.
ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات الأولى أي [ ٧٨ ـ ٨٠ ] مع [ ٧٣ـ ٧٧ ] مدنيات. ولقد روى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالهجرة من مكة أنزل الله عليه ﴿ وقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ٨٠ ﴾١ ولقد توقفنا في رواية مدنية الآيات السابقة ؛ لأن وحدة السياق والموضوع والنظم جامعة بينها وبين ما قبلها. وهذا هو الحال أيضا بالنسبة لهذه الآيات ؛ ولذلك نحن نتوقف في رواية مدنيتها كذلك.
ومن العجيب أن رواية مدنية الآيات لم تشمل الآية [ ٨١ ] في حين أنها جزء غير منفصل عن السياق. وهذا مما يدعم صواب توقفنا. وحديث الترمذي لا يجعلنا نغيّر رأينا، ولاسيما أن مقتضاه أن تكون الآية [ ٨٠ ] نزلت لحدتها للمناسبة المذكورة فيه مع أنها جزء من سياق تام سبكا وموضوعا. ويظهر أن الطبري لم يأخذ بالحديث أو لم يثبت عنده حيث قال : إن الآية متصلة بما قبلها وإنها بسبيل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء بأن ييسر له المخرج الصدق والمدخل الصدق والسلطان الذي ينتصر به على الكفار الذين يحاولون استفزازه ليخرجوه من الأرض وهو قول وجيه سديد.
وعلى كل حال فالمتبادر من روح الآيات جملة أن الأمر القرآني هو بقصد بثّ الروح والقوة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وجعله يأمل ويلتمس من الله النصر التأييد والعزة وحسن المصير في مواقفه ومداخله ومخارجه عامة في مناسبة ما كان من اشتداد مناوأة زعماء الكفار وإزعاجهم.
ولقد أورد البغوي في سياق الآيات أحاديث عن تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل وما كان من اهتمامه الشديد لذلك٢. ولاشك أن هذا من تلقين آيات سورة المزمل الأولى التي مر تفسيرها، وقد شاءت حكمة التنزيل أن تكرر الأمر له بذلك في الآيات التي نحن في صددها وأن تزيد فتؤمله بالمقام المحمود. ولقد ذكر المقام المحمود في أحاديث نبوية عديدة، منها ما فيه توضيح له، رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ يومئذ ـ آدم فمن سواه ـ إلاّ تحت لوائي فيأتيني الناس فأنطلق معهم إلى أن قال : فأخرّ ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي : ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفّع، وقل يسمع قولك، وهو المقام المحمود الذي قال الله ﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ " ٣ وهناك حديث رواه البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمر للمؤمنين بدعاء الله بأن يؤتي رسوله المقام المحمود هذا نصه " من قال حين يسمع النداء ( الأذان ) اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة آت سيّدنا محمّد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة " ٤.
والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تأميل رباني له بأن يبعثه الله مقاما محمودا. وما دام هناك حديث صحيح في توضيح مدى المقام المحمود يجب الوقوف عنده الإيمان بما فيه مع استئناف الحكمة منه. ويتبادر لنا من روح العبارة القرآنية وفحواها أن التنويه بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الروح والقوة فيه إزاء موقف الكفار وحثه على عبادة الله في كل وقت وبخاصة في الليل وبيان ما في ذلك من أسباب السكينة والطمأنينة والبشرى بما يكون له من نصر وسلطان ومقام محمود عند الله، كل ذلك من تلك الحكمة بالإضافة إلى ما شاءت عناية الله ورحمته من اختصاصه يوم القيامة بالشفاعة العظمى دون الأنبياء وهو المقام المحمود حقا وصدقا.
ولقد روى البخاري والترمذي حديثا عن ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول ﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد " ٥ حيث ينطوي في الحديث خبر تحقق فيه نصر الله، وظهور الحق المتمثل بدين الله، وهزيمة الباطل المتمثل بالشرك واضمحلاله. وبالتالي تحقق فيه مصداق الهتاف الذي أمر الله تعالى رسوله بالهتاف به، إبان ضعفه والذي لم يكن من شأنه أن يتبدل لأنه هتاف الله المحكم الخالد ﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾.

مدخل صدق ومخرج صدق : الصدق هنا بمعنى الاستقامة والكرامة والشرف والرضاء أيضا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الْفَجْر ِإِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ٧٨ ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ٧٩ وقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ٨٠ وقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾ [ ٧٨ ـ ٨١ ].
المتبادر أن الآيات غير منفصلة عن سابقاتها وأنها جاءت بمثابة تعقيب وبسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته والإهابة به إلى عدم الحزن والغم مما يبدو من الكفار من عداء وعناد وإزعاج وخداع وإغراء، حيث تأمره بأن يتفرغ لعبادة الله تعالى وذكره والصلاة له في الليل والنهار، فيقيم الصلوات في أوقاتها المفروضة منذ الزوال إلى ظلمة الليل وفي الفجر ثم بالتهجد في الليل أيضا، وأن يدعو ربه لييسر له الكرامة والسلامة والثبات والنصر والتأييد في مواقفه وتصرفاته ومداخله ومخارجه، فذلك أحرى أن ينيله ما يرغب فيه وأن يقرّ عينه بالمقام المحمود، وعليه كذلك أن يهتف بالناس : أن قد جاء الحق واضمحل الباطل ؛ لأنه مضمحل بطبيعته أمام الحق.
والآيات قوية التلقين والتطمين. ومن شأنها بثّ الرّوح والراحة والقوة في النفوس والقلوب سواء أفي الظرف الذي نزلت فيه والقصد الذي قصدت إليه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم أم في غيره من الظروف.
تعليق على الآية
﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ... ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
يلفت النظر بخاصة إلى قوة الحثّ على التهجد في الليل وصلاة الفجر وقرآنه. والمتبادر أن هذا متصل بما يكون في ذلك من مظهر الإخلاص التام لله عز وجل، وما تشعر به النفس من سكينة وطمأنينة وقوة روح.
والخطاب وإن كان موجها في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما فيها من حثّ ووعد وتطمين يصح أن يعتبر موجها لجميع المؤمنين الذين أمروا أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة كما هو المتبادر. ولقد كان ذلك واقعا في زمن النبي وفي العهدين المكي والمدني، بقرينة آيات الذاريات ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ١٧ وبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ١٨ ﴾ وآية المزمل الأخيرة التي مرّ تفسيرها.
ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات الأولى أي [ ٧٨ ـ ٨٠ ] مع [ ٧٣ـ ٧٧ ] مدنيات. ولقد روى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالهجرة من مكة أنزل الله عليه ﴿ وقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ٨٠ ﴾١ ولقد توقفنا في رواية مدنية الآيات السابقة ؛ لأن وحدة السياق والموضوع والنظم جامعة بينها وبين ما قبلها. وهذا هو الحال أيضا بالنسبة لهذه الآيات ؛ ولذلك نحن نتوقف في رواية مدنيتها كذلك.
ومن العجيب أن رواية مدنية الآيات لم تشمل الآية [ ٨١ ] في حين أنها جزء غير منفصل عن السياق. وهذا مما يدعم صواب توقفنا. وحديث الترمذي لا يجعلنا نغيّر رأينا، ولاسيما أن مقتضاه أن تكون الآية [ ٨٠ ] نزلت لحدتها للمناسبة المذكورة فيه مع أنها جزء من سياق تام سبكا وموضوعا. ويظهر أن الطبري لم يأخذ بالحديث أو لم يثبت عنده حيث قال : إن الآية متصلة بما قبلها وإنها بسبيل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء بأن ييسر له المخرج الصدق والمدخل الصدق والسلطان الذي ينتصر به على الكفار الذين يحاولون استفزازه ليخرجوه من الأرض وهو قول وجيه سديد.
وعلى كل حال فالمتبادر من روح الآيات جملة أن الأمر القرآني هو بقصد بثّ الروح والقوة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وجعله يأمل ويلتمس من الله النصر التأييد والعزة وحسن المصير في مواقفه ومداخله ومخارجه عامة في مناسبة ما كان من اشتداد مناوأة زعماء الكفار وإزعاجهم.
ولقد أورد البغوي في سياق الآيات أحاديث عن تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل وما كان من اهتمامه الشديد لذلك٢. ولاشك أن هذا من تلقين آيات سورة المزمل الأولى التي مر تفسيرها، وقد شاءت حكمة التنزيل أن تكرر الأمر له بذلك في الآيات التي نحن في صددها وأن تزيد فتؤمله بالمقام المحمود. ولقد ذكر المقام المحمود في أحاديث نبوية عديدة، منها ما فيه توضيح له، رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ يومئذ ـ آدم فمن سواه ـ إلاّ تحت لوائي فيأتيني الناس فأنطلق معهم إلى أن قال : فأخرّ ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي : ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفّع، وقل يسمع قولك، وهو المقام المحمود الذي قال الله ﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ " ٣ وهناك حديث رواه البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمر للمؤمنين بدعاء الله بأن يؤتي رسوله المقام المحمود هذا نصه " من قال حين يسمع النداء ( الأذان ) اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة آت سيّدنا محمّد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة " ٤.
والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تأميل رباني له بأن يبعثه الله مقاما محمودا. وما دام هناك حديث صحيح في توضيح مدى المقام المحمود يجب الوقوف عنده الإيمان بما فيه مع استئناف الحكمة منه. ويتبادر لنا من روح العبارة القرآنية وفحواها أن التنويه بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الروح والقوة فيه إزاء موقف الكفار وحثه على عبادة الله في كل وقت وبخاصة في الليل وبيان ما في ذلك من أسباب السكينة والطمأنينة والبشرى بما يكون له من نصر وسلطان ومقام محمود عند الله، كل ذلك من تلك الحكمة بالإضافة إلى ما شاءت عناية الله ورحمته من اختصاصه يوم القيامة بالشفاعة العظمى دون الأنبياء وهو المقام المحمود حقا وصدقا.
ولقد روى البخاري والترمذي حديثا عن ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول ﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد " ٥ حيث ينطوي في الحديث خبر تحقق فيه نصر الله، وظهور الحق المتمثل بدين الله، وهزيمة الباطل المتمثل بالشرك واضمحلاله. وبالتالي تحقق فيه مصداق الهتاف الذي أمر الله تعالى رسوله بالهتاف به، إبان ضعفه والذي لم يكن من شأنه أن يتبدل لأنه هتاف الله المحكم الخالد ﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾.

زهق : اضمحل وحبط.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الْفَجْر ِإِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ٧٨ ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ٧٩ وقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ٨٠ وقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾ [ ٧٨ ـ ٨١ ].
المتبادر أن الآيات غير منفصلة عن سابقاتها وأنها جاءت بمثابة تعقيب وبسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته والإهابة به إلى عدم الحزن والغم مما يبدو من الكفار من عداء وعناد وإزعاج وخداع وإغراء، حيث تأمره بأن يتفرغ لعبادة الله تعالى وذكره والصلاة له في الليل والنهار، فيقيم الصلوات في أوقاتها المفروضة منذ الزوال إلى ظلمة الليل وفي الفجر ثم بالتهجد في الليل أيضا، وأن يدعو ربه لييسر له الكرامة والسلامة والثبات والنصر والتأييد في مواقفه وتصرفاته ومداخله ومخارجه، فذلك أحرى أن ينيله ما يرغب فيه وأن يقرّ عينه بالمقام المحمود، وعليه كذلك أن يهتف بالناس : أن قد جاء الحق واضمحل الباطل ؛ لأنه مضمحل بطبيعته أمام الحق.
والآيات قوية التلقين والتطمين. ومن شأنها بثّ الرّوح والراحة والقوة في النفوس والقلوب سواء أفي الظرف الذي نزلت فيه والقصد الذي قصدت إليه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم أم في غيره من الظروف.
تعليق على الآية
﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ... ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
يلفت النظر بخاصة إلى قوة الحثّ على التهجد في الليل وصلاة الفجر وقرآنه. والمتبادر أن هذا متصل بما يكون في ذلك من مظهر الإخلاص التام لله عز وجل، وما تشعر به النفس من سكينة وطمأنينة وقوة روح.
والخطاب وإن كان موجها في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما فيها من حثّ ووعد وتطمين يصح أن يعتبر موجها لجميع المؤمنين الذين أمروا أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة كما هو المتبادر. ولقد كان ذلك واقعا في زمن النبي وفي العهدين المكي والمدني، بقرينة آيات الذاريات ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ١٧ وبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ١٨ ﴾ وآية المزمل الأخيرة التي مرّ تفسيرها.
ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات الأولى أي [ ٧٨ ـ ٨٠ ] مع [ ٧٣ـ ٧٧ ] مدنيات. ولقد روى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالهجرة من مكة أنزل الله عليه ﴿ وقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ٨٠ ﴾١ ولقد توقفنا في رواية مدنية الآيات السابقة ؛ لأن وحدة السياق والموضوع والنظم جامعة بينها وبين ما قبلها. وهذا هو الحال أيضا بالنسبة لهذه الآيات ؛ ولذلك نحن نتوقف في رواية مدنيتها كذلك.
ومن العجيب أن رواية مدنية الآيات لم تشمل الآية [ ٨١ ] في حين أنها جزء غير منفصل عن السياق. وهذا مما يدعم صواب توقفنا. وحديث الترمذي لا يجعلنا نغيّر رأينا، ولاسيما أن مقتضاه أن تكون الآية [ ٨٠ ] نزلت لحدتها للمناسبة المذكورة فيه مع أنها جزء من سياق تام سبكا وموضوعا. ويظهر أن الطبري لم يأخذ بالحديث أو لم يثبت عنده حيث قال : إن الآية متصلة بما قبلها وإنها بسبيل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء بأن ييسر له المخرج الصدق والمدخل الصدق والسلطان الذي ينتصر به على الكفار الذين يحاولون استفزازه ليخرجوه من الأرض وهو قول وجيه سديد.
وعلى كل حال فالمتبادر من روح الآيات جملة أن الأمر القرآني هو بقصد بثّ الروح والقوة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وجعله يأمل ويلتمس من الله النصر التأييد والعزة وحسن المصير في مواقفه ومداخله ومخارجه عامة في مناسبة ما كان من اشتداد مناوأة زعماء الكفار وإزعاجهم.
ولقد أورد البغوي في سياق الآيات أحاديث عن تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل وما كان من اهتمامه الشديد لذلك٢. ولاشك أن هذا من تلقين آيات سورة المزمل الأولى التي مر تفسيرها، وقد شاءت حكمة التنزيل أن تكرر الأمر له بذلك في الآيات التي نحن في صددها وأن تزيد فتؤمله بالمقام المحمود. ولقد ذكر المقام المحمود في أحاديث نبوية عديدة، منها ما فيه توضيح له، رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ يومئذ ـ آدم فمن سواه ـ إلاّ تحت لوائي فيأتيني الناس فأنطلق معهم إلى أن قال : فأخرّ ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي : ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفّع، وقل يسمع قولك، وهو المقام المحمود الذي قال الله ﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ " ٣ وهناك حديث رواه البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمر للمؤمنين بدعاء الله بأن يؤتي رسوله المقام المحمود هذا نصه " من قال حين يسمع النداء ( الأذان ) اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة آت سيّدنا محمّد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة " ٤.
والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تأميل رباني له بأن يبعثه الله مقاما محمودا. وما دام هناك حديث صحيح في توضيح مدى المقام المحمود يجب الوقوف عنده الإيمان بما فيه مع استئناف الحكمة منه. ويتبادر لنا من روح العبارة القرآنية وفحواها أن التنويه بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الروح والقوة فيه إزاء موقف الكفار وحثه على عبادة الله في كل وقت وبخاصة في الليل وبيان ما في ذلك من أسباب السكينة والطمأنينة والبشرى بما يكون له من نصر وسلطان ومقام محمود عند الله، كل ذلك من تلك الحكمة بالإضافة إلى ما شاءت عناية الله ورحمته من اختصاصه يوم القيامة بالشفاعة العظمى دون الأنبياء وهو المقام المحمود حقا وصدقا.
ولقد روى البخاري والترمذي حديثا عن ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول ﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾. جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد " ٥ حيث ينطوي في الحديث خبر تحقق فيه نصر الله، وظهور الحق المتمثل بدين الله، وهزيمة الباطل المتمثل بالشرك واضمحلاله. وبالتالي تحقق فيه مصداق الهتاف الذي أمر الله تعالى رسوله بالهتاف به، إبان ضعفه والذي لم يكن من شأنه أن يتبدل لأنه هتاف الله المحكم الخالد ﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾.

شفاء : هنا بمعناها المعنوي أي شفاء النفوس وراحتها وبرؤها من الريب والوساوس والتعقيد والحيرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ونُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُو شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاّ خَسَارًا ٨٢ وإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا ٨٣ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُو أَهْدَى سَبِيلاً ٨٤ ﴾ [ ٨٢ ـ ٨٤ ]
الآيات معطوفة على ما سبقها كما هو المتبادر، والأمر بالقول الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الآية [ ٨٤ ] يجعل اتصالها بالآيات السابقة وثيقا وكأنها استمرار لها.
وقد احتوت تقريرا ربانيا بأن الله تعالى ينزّل من القرآن ما يجد فيه المؤمنون شفاء نفوسهم وتطمينها رحمتها وإنقاذها من الحيرة والتعقيد، وذلك خلافا للظالمين الذين يزدادون عنادا بسبب ما جبلوا عليه من خبث الطوايا فيزدادون بذلك خسارا، وبأن الناس إنما يسيرون وفق ميولهم وطبائعهم المنبثقة من تربيتهم وأخلاقهم، وأن من طبيعتهم في أكثر الأحيان أن يستكبروا ويبتعدوا عن الحق إذا نالوا خيرا ونعمة، وأن ييأسوا ويكفروا إذا نالهم شر ونقمة، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ألاّ يبالي بالكفار وليشهد الله، فهو الأعلم بمن هو السائر على الحق والطريق القويم.
والآيات كسابقاتها قوية التلقين والتطمين. وقد احتوت مبادئ إيمانية واجتماعية جليلة في أثر القرآن في النفوس الصالحة الراغبة في الحق والهدى، وأثره في الظالمين الذين يصدرون عن ميول منحرفة وقلوب غليظة وأخلاق فاسدة، ثم في تفاوت الناس من حيث التأثر بالحق والدعوة إلى الخير حسب ما يكونون عليه من طيب سرائر وحسن نوايا وخبث وسوء طوايا، وما عليه كثير من الناس من طبائع مذمومة يجب الحذر منها، كالكبر والإعراض عن الحق إذا ما اغتنوا ونالوا أمانيهم في الحياة. وكاليأس والكفر إذا ما مسهم الشر وقست عليهم الظروف.

نأى : ابتعد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ونُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُو شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاّ خَسَارًا ٨٢ وإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا ٨٣ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُو أَهْدَى سَبِيلاً ٨٤ ﴾ [ ٨٢ ـ ٨٤ ]
الآيات معطوفة على ما سبقها كما هو المتبادر، والأمر بالقول الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الآية [ ٨٤ ] يجعل اتصالها بالآيات السابقة وثيقا وكأنها استمرار لها.
وقد احتوت تقريرا ربانيا بأن الله تعالى ينزّل من القرآن ما يجد فيه المؤمنون شفاء نفوسهم وتطمينها رحمتها وإنقاذها من الحيرة والتعقيد، وذلك خلافا للظالمين الذين يزدادون عنادا بسبب ما جبلوا عليه من خبث الطوايا فيزدادون بذلك خسارا، وبأن الناس إنما يسيرون وفق ميولهم وطبائعهم المنبثقة من تربيتهم وأخلاقهم، وأن من طبيعتهم في أكثر الأحيان أن يستكبروا ويبتعدوا عن الحق إذا نالوا خيرا ونعمة، وأن ييأسوا ويكفروا إذا نالهم شر ونقمة، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ألاّ يبالي بالكفار وليشهد الله، فهو الأعلم بمن هو السائر على الحق والطريق القويم.
والآيات كسابقاتها قوية التلقين والتطمين. وقد احتوت مبادئ إيمانية واجتماعية جليلة في أثر القرآن في النفوس الصالحة الراغبة في الحق والهدى، وأثره في الظالمين الذين يصدرون عن ميول منحرفة وقلوب غليظة وأخلاق فاسدة، ثم في تفاوت الناس من حيث التأثر بالحق والدعوة إلى الخير حسب ما يكونون عليه من طيب سرائر وحسن نوايا وخبث وسوء طوايا، وما عليه كثير من الناس من طبائع مذمومة يجب الحذر منها، كالكبر والإعراض عن الحق إذا ما اغتنوا ونالوا أمانيهم في الحياة. وكاليأس والكفر إذا ما مسهم الشر وقست عليهم الظروف.

شاكلته : طريقته وما انطبع عليه من جبلّة وروح وسريرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ونُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُو شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاّ خَسَارًا ٨٢ وإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا ٨٣ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُو أَهْدَى سَبِيلاً ٨٤ ﴾ [ ٨٢ ـ ٨٤ ]
الآيات معطوفة على ما سبقها كما هو المتبادر، والأمر بالقول الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الآية [ ٨٤ ] يجعل اتصالها بالآيات السابقة وثيقا وكأنها استمرار لها.
وقد احتوت تقريرا ربانيا بأن الله تعالى ينزّل من القرآن ما يجد فيه المؤمنون شفاء نفوسهم وتطمينها رحمتها وإنقاذها من الحيرة والتعقيد، وذلك خلافا للظالمين الذين يزدادون عنادا بسبب ما جبلوا عليه من خبث الطوايا فيزدادون بذلك خسارا، وبأن الناس إنما يسيرون وفق ميولهم وطبائعهم المنبثقة من تربيتهم وأخلاقهم، وأن من طبيعتهم في أكثر الأحيان أن يستكبروا ويبتعدوا عن الحق إذا نالوا خيرا ونعمة، وأن ييأسوا ويكفروا إذا نالهم شر ونقمة، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ألاّ يبالي بالكفار وليشهد الله، فهو الأعلم بمن هو السائر على الحق والطريق القويم.
والآيات كسابقاتها قوية التلقين والتطمين. وقد احتوت مبادئ إيمانية واجتماعية جليلة في أثر القرآن في النفوس الصالحة الراغبة في الحق والهدى، وأثره في الظالمين الذين يصدرون عن ميول منحرفة وقلوب غليظة وأخلاق فاسدة، ثم في تفاوت الناس من حيث التأثر بالحق والدعوة إلى الخير حسب ما يكونون عليه من طيب سرائر وحسن نوايا وخبث وسوء طوايا، وما عليه كثير من الناس من طبائع مذمومة يجب الحذر منها، كالكبر والإعراض عن الحق إذا ما اغتنوا ونالوا أمانيهم في الحياة. وكاليأس والكفر إذا ما مسهم الشر وقست عليهم الظروف.

﴿ ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إلاّ قَلِيلاً ٨٥ ﴾ [ ٨٥ ]
في الآية حكاية لسؤال أورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح. وأمر له بالإجابة بأن الروح من أمر الله تعالى واختصاصه وعلمه، وليس من شأن البشر إدراكه، وإن ما أوتيه الناس من العلم هو قليل بالنسبة إلى علم الله وآياته في كونه.
تعليق على جملة
﴿ ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾
لقد رويت عدة روايات وتأويلات في صدد السؤال وماهيته. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله قال : " كنت أمشي مع رسول الله في حرث بالمدينة وهو يتوكّأ على عسيب فمرّ بنفر من اليهود فقال بعضهم : لو سألتموه فقالوا : لا تسألوه فإنّه يسمعكم ما تكرهون. فقالوا : يا أبا القاسم حدّثنا عن الروح ؟ فقام النبيّ ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه حتّى صعد الوحي ثمّ قال :﴿ ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إلاّ قَلِيلاً ٨٥ ﴾ " ١ وروى الطبري أن اليهود قالوا للنبي حينما تلا عليهم الآية جوابا عن سؤالهم : " أتزعم أنّا لم نؤت من العلم إلاّ قليلا، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت الآية ﴿ ولَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ والْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر ٍمَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ … ﴾ لقمان :[ ٢٧ ] فقال لهم ما أوتيتم من علم فنجّاكم به الله من النار هو كثير وهو قليل في علم الله "، وروى عن قتادة أن اليهود تغشوا الرسول فسألوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، فأنزل الله في كتابه ذلك كله. وروى البغوي عن ابن عباس أن قريشا اجتمعوا وقالوا : إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق، وقد ادّعى ما ادّعى فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا إليهم فقالوا : سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلّها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحدة فهو نبي. سلوه عن فتنة في الزمن الأول كان لهم حديث عجيب. وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، وعن الروح. فسألوه فقال النبيّ : أخبركم غدا بما سألتم، ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي اثنتي عشرة ليلة أو أكثر في رواية، وأهل مكة يقولون : وعدنا محمد غدا وأصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي، وشقّ عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل بقوله ﴿ ولَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ٢٣ إلاّ أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾ الكهف :[ ٢٣ ٢٤ ] وما بعدها وهي الآيات [ ٢٣ ٢٤ ] من سورة الكهف ثم نزل في الفينة آيات سورة الكهف [ ٩ ٢٥ ] وفي من بلغ الشرق والغرب ﴿ ويسألونك عن ذي القرنين ﴾ الآيات [ ٨٣ ٩٩ ] من سورة الكهف وعن ﴿ الروح ﴾ الآية التي نحن في صددها.
هذا في صدد مصدر السؤال، وفي ماهية الروح قولان يروهما الطبري عن ابن مسعود جاء في أحدهما : أنه جبريل وفي ثانيهما : أنه ملك من الملائكة. وقول ثالث يرويه نفس المفسر عن علي بن أبي طالب أنه ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله عز وجل بها كلها، ويخلق الله مع كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. وروى البغوي عن مجاهد وسعيد بن جبير أن الروح خلق عظيم لم يخلق الله أكبر منه إلاّ العرش لو شاء أن يبتلع السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهما بلقمة واحدة لفعل وهو مزدوج الصور الخلقية من ملائكة وبشر... يقوم يوم القيامة عن يمين العرش.. ثم قال المفسر : وقد قيل إن الكلمة تعني القرآن. أو عيسى عليه السلام الذي وصف الله بأنه روح منه أو أنها الروح الذي يحيا وقال : إن القول الأخير هو الأصح. وروى الطبري أن المشركين إنما سألوا النبي عن الروح الذي هو القرآن. كيف يلقاك به الملك وكيف ينظم ويرتب ؟ وعقب على هذه الرواية بقوله : إن القرآن سمي روحا في آية سورة الشورى هذه ﴿ وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولَا الْإِيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا... ﴾ الشورى :[ ٥٢ ].
والحديث الذي رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله هو الوثيق بسند صحيح من بين هذه الروايات. ومقتضاه أن تكون الآية مدنية، ولسنا نرى حكمة ولا محلا ولا مناسبة لإيراد سؤال أورده اليهود في المدينة على النبيّ مع جوابه في سورة مكية، وفي سياق يحكي مواقف كفار مكة إزاء النبي ودعوته. في حين أن السور المدنية احتوت الفصول الكثيرة فيما كان من اليهود من مواقف وأسئلة وتحديات وتعجيزات للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته. وقد لحظ هذا المفسر ابن كثير فقال : إن جميع السورة مكية ثم قال : يمكن أن يجاب على هذا بالقول إن الآيات نزلت في المدينة مرة ثانية. وهذا القول لا يحل الإشكال. ومقتضاه أن يكون سؤال مثله أورد في مكة وأجيب عليه في مكة. وقد خطر لنا إزاء الحديث أن يكون اليهود في المدينة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم نفس السؤال، فتلا عليهم الآية المكية ولما قالوا له أوتينا التوراة والحكمة تلا عليهم آية لقمان المكية وأن الأمر التبس على الرواة فرووا أنه حادث حدث في المدينة ولا ضرورة لفرض نزول الآية مرة ثانية في المدينة والله أعلم.
ورواية السؤال عن الروح فقط هي الأكثر وجاهة واتساقا مع نصّ الآيات ومقامها، دون الرواية التي تذكر أن هذا السؤال هو أحد أسئلة ثلاثة أوعز اليهود للمشركين بسؤالها للنبي صلى الله عليه وسلم، وعدم وجاهة هذه الرواية يبدو قويا في كون المسألتين الثانيتين جاءتا في سورة أخرى، وكل منهما بعيدة في ترتيب النزول عن الأخرى.
ومن المحتمل أن يكون السؤال أورد من المشركين بإيعاز من اليهود أو بدون إيعازهم. ومن المحتمل أن يكون أورد من بعض اليهود أو النصارى مباشرة وكان منهم أفراد في مكة. بل ومن المحتمل أن يكون أورد من بعض المسلمين، فموضوع السؤال من المواضيع الدقيقة التي تخطر لبال كل من هؤلاء أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها.
والروايات التي تذكر أن الروح المسؤول عنه هو ذلك الخلق العظيم العجيب من الملائكة أو غيرهم أو عيسى عليه السلام لا تستند إلى سند وثيق. ويتبادر لنا من مقام الآيات وسياقها أن الرواية التي تذكر أن المقصود من السؤال هو القرآن وكيفية نزول الملك به على النبي هي الأكثر وجاهة وورودا. فالقرآن ذكر قبل هذه الآيات، فيجوز أن يكون السؤال أورد على النبي في ظرف نزولها فنزل الجواب في ذلك مع السياق. وورود آية بعد قليل من الآية فيها إيذان بعجز الجن والإنس عن الإتيان بالقرآن قد يكون قرينة قوية على هذا الترجيح كما هو المتبادر.
وفي سورة الشعراء التي نزلت قبل هذه السورة بقليل آيات عديدة عن القرون ونزول الملك به [ ١٩٢ ١٩٥ و٢١١ ٢١٣ ] فيجوز أن يكون ما جاء فيها هو المناسبة للسؤال أيضا. والآيات السابقة لهذه الآية والتالية لها التي فيها ذكر القرآن والانسجام الذي يبدو قويا تاما يمكن أن تكون قرائن مرجحة لترجيحنا. ولقد كان القرآن من أكثر المواضيع التي دار جدل الكفار حولها ونزل فيه آيات مكية. وهذا كذلك يمكن أن يكون من القرائن المرجحة بخلاف ما إذا فرض أن السؤال كان عن نسمة الحياة ؛ حيث إنه لا يبدو مناسبة ما بين هذا السؤال وسياق الآية. والله تعالى أعلم.
ولقد جاء الجواب محكما قويا فليس من الممكن لعقل الإنسان أن يستكنه سرّ الله والوحي القرآني متصل بسرّ الله سبحانه وتعالى وعلى الناس أن يريحوا أنفسهم وأن يسلموا وأن يؤمنوا ويكتفوا بما هو ماثل لهم من حقيقة فظهر هذا السرّ وهو القرآن الذي يتلى عليهم والذي معجزة رسول الله الكبرى.
وقد يكون في الجواب القوي المحكم جواب على كل تساؤل عن أمور لا يعيها العقل البشرى وأخبر بها القرآن وثبت خبرها عن النبي صلى الله عليه وسلم فوجب الإيمان بها وإيكال أمر تأويلها إلى الله.
١ التاج ج ٤ ص ١٤٥..
﴿ ولَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وكِيلاً ٨٦ إلاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ٨٧ ﴾ [ ٨٦ ٨٧ ]
تضمنت الآيتان تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لو شاء لذهب بما أوحاه الله إليه. وحينئذ لن يجد له نصيرا على الله يمنع ذلك. وأن ذلك لم يكن إلاّ رحمة من ربه الذي له الفضل الكبير عليه.
ولم يرو المفسرون في صدد نزول الآيتين شيئا على ما اطلعنا عليه. وكل ما هنالك رواية يرويها الطبري تقول : إن ابن مسعود كان يتأول معنى ذهاب الله عز وجل بما أوحاه الله من قرآن هو رفعه من صدور المسلمين ومصاحفهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى ابن كثير الرواية وزاد عليها عزوا إلى ابن مسعود أنه يطرق في آخر الزمان من قبل الشام ريح حمراء فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية من القرآن. وروى البغوي الرواية ومعها رواية عن عبد الله بن عمرو فيها : أنه لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الرب : ما لك ؟ وهو أعلم بما يقول فيقول : يا رب أتلى ولا يعمل بي. وروى الزمخشري شيئا من أقوال ابن مسعود ثم قال : يمكن أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى ( ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به ) وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه.
والذي يتبادر لنا من عطف الآيتين على ما سبقهما مع توجيه الخطاب فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم مثل الآية السابقة لهما مباشرة أنهما جاءتا للتعقيب على هذه الآية لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تلقى الجواب عن الروح وكونه من أمر الله إلى أنه ليس عليه إلاّ أن يتلقى وحي الله ويبلغه وأنه يتأكد في نفسه ويعلن للناس أنه ليس له من الأمر شيء. فإذا كان الله تعالى قد اختصه بوحيه وقرآنه فذلك فضل منه ورحمة. وفضله عليه كبير، وإنه لقادر إذا شاء أن يذهب به فلا يستطيع أحد أن يحول دون ذلك أو يجد له على الله نصيرا.
وما قاله الزمخشري من احتمال أن يكون الاستثناء منقطعا وكون الجملة قد تضمنت منا من الله تعالى لا يخلو من وجاهة، وليس من شأنه التعارض مع ما تبادر لنا. أما ما روي عن ابن مسعود وابن عمرو فإنه من نوع الأمور المغيبة التي لا يصح الأخذ بها حتى لو صحت عنهما، وليس هناك ما يثبت ذلك إلاّ بخبر وثيق عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه فيما يتبادر لنا تجاوز للمدى الذي قصدت إليه الآيتان ؛ لأنهما موجهتان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحسب، والله تعالى أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٦:﴿ ولَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وكِيلاً ٨٦ إلاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ٨٧ ﴾ [ ٨٦ ٨٧ ]
تضمنت الآيتان تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لو شاء لذهب بما أوحاه الله إليه. وحينئذ لن يجد له نصيرا على الله يمنع ذلك. وأن ذلك لم يكن إلاّ رحمة من ربه الذي له الفضل الكبير عليه.
ولم يرو المفسرون في صدد نزول الآيتين شيئا على ما اطلعنا عليه. وكل ما هنالك رواية يرويها الطبري تقول : إن ابن مسعود كان يتأول معنى ذهاب الله عز وجل بما أوحاه الله من قرآن هو رفعه من صدور المسلمين ومصاحفهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى ابن كثير الرواية وزاد عليها عزوا إلى ابن مسعود أنه يطرق في آخر الزمان من قبل الشام ريح حمراء فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية من القرآن. وروى البغوي الرواية ومعها رواية عن عبد الله بن عمرو فيها : أنه لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الرب : ما لك ؟ وهو أعلم بما يقول فيقول : يا رب أتلى ولا يعمل بي. وروى الزمخشري شيئا من أقوال ابن مسعود ثم قال : يمكن أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى ( ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به ) وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه.
والذي يتبادر لنا من عطف الآيتين على ما سبقهما مع توجيه الخطاب فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم مثل الآية السابقة لهما مباشرة أنهما جاءتا للتعقيب على هذه الآية لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تلقى الجواب عن الروح وكونه من أمر الله إلى أنه ليس عليه إلاّ أن يتلقى وحي الله ويبلغه وأنه يتأكد في نفسه ويعلن للناس أنه ليس له من الأمر شيء. فإذا كان الله تعالى قد اختصه بوحيه وقرآنه فذلك فضل منه ورحمة. وفضله عليه كبير، وإنه لقادر إذا شاء أن يذهب به فلا يستطيع أحد أن يحول دون ذلك أو يجد له على الله نصيرا.
وما قاله الزمخشري من احتمال أن يكون الاستثناء منقطعا وكون الجملة قد تضمنت منا من الله تعالى لا يخلو من وجاهة، وليس من شأنه التعارض مع ما تبادر لنا. أما ما روي عن ابن مسعود وابن عمرو فإنه من نوع الأمور المغيبة التي لا يصح الأخذ بها حتى لو صحت عنهما، وليس هناك ما يثبت ذلك إلاّ بخبر وثيق عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه فيما يتبادر لنا تجاوز للمدى الذي قصدت إليه الآيتان ؛ لأنهما موجهتان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحسب، والله تعالى أعلم.

﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨ ولَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلاّ كُفُورًا ٨٩ ﴾ [ ٨٨ ٨٩ ]
عبارة الآيتين واضحة. وهي قوية في تحديها قوية في تنديدها. فالقرآن سيظل المعجز الممتنع عن التقليد على جميع المخلوقات إنسهم وجنهم ولو تضامنوا معا ؛ لأنه وحي الله تعالى ومظهر سره. وقد صرّف فيه للناس من كل مثل وحجة وحقيقة ما يكفي لإقناعهم، وإن أكثرهم أهل لكل تنديد لأنهم يأبون مع ذلك إلاّ المماراة والعناد والجحود.
وقد روى الطبري عن ابن عباس : أن الآيتين نزلتا في نفر من اليهود جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وقالوا له : إنا لا نراه متناسقا كالتوراة وسألوه أن يأتيهم بآية غيره شاهدة على نبوته وأنهم قادرون على أن يأتوا بمثله، فقال لهم رسول الله : أما وإنكم لتعلمون أنه من عند الله وتجدونه مكتوبا عندكم فأنزل الله الآيتين. وقد توقف ابن كثير في الرواية وقال : إن السورة كلها مكية وسياقها مع قريش. واليهود إنما اجتمعوا بالنبي في المدينة. وقال البغوي : إن الكفار لما قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا، كذبهم الله بالآيتين.
ولقد حكت آية سورة الأنفال المدنية على سبيل التذكير بمواقف وأقوال كفار مكة قبل الهجرة قولا روى المفسرون أن قائله النضر بن الحارث وهي ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين ٣١ ﴾ حيث يصح أن يقال بشيء من الجزم : إن في الآيتين ردا وتكذيبا لكفار مكة وإن رواية نزولهما في صدد جدل اليهود مع النبي وتحديهم إياه غير صحيحة.
على أن وحدة السبك والسياق في الآيتين وما قبلهما وما بعدهما تلهم كما هو المتبادر لنا أنهما لم تنزلا فورا بسبب هذا القول الذي حكته آية الأنفال، وأن هذا القول قد صدر عن قائله قبل نزولهما بمدة ما، وأنهما جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد بعد الآيات السابقة مباشرة التي نوّه فيها القرآن الذي فيه شفاء ورحمة للمؤمنين، والتي تقرر أن تنزيله سرّ من أسرار الله وبعد الآيات السابقة لهذه الآيات التي حكى فيها بعض مواقف وأقوال الكفار واستفزازاتهم. ومن المحتمل أن تكونا تضمنتا في الوقت نفسه ردا وتحديا قويين للقائل المتبجح، والله أعلم.
تعليق على إعجاز القرآن وعجز الناس عنه
ولقد تكررت الإشارة إلى عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن كما تكرر تحدي الكفار بالإتيان بحديث أو سورة أو عدة سور من مثله جوابا على ما كانوا ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من افترائه أو تعلمه أو اقتباسه من أساطير الأولين، مثل آيات سورة الطور هذه ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَولَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ٣٣ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ٣٤ ﴾ ومثل سورة يونس هذه ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٣٨ ﴾ ومثل آية سورة هود هذه ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُورٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١٣ ﴾ ومثل آيات سورة البقرة هذه ﴿ وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٢٣ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ولَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ٢٤ ﴾. وآيات البقرة مدنية. وهذا يعني أن التحدي تكرر في العهد المكي مرارا، ثم تكرر في العهد المدني بالإتيان بأي شيء من مثله مهما قلّ. وآيات البقرة صريحة بأن أحدا لم يحاول إجابة التحدي سابقا، وحاسمة بأن أحدا لن يفعل ذلك في المستقبل.
ولقد تكلم المفسرون وعلماء القرآن كثيرا في موضوع إعجاز القرآن وتحدي الناس بالإتيان بمثله أو بشيء من مثله وعجزهم عن ذلك١ ومنهم من قال : إن العرب وهم فرسان البلاغة والفصاحة قادرون على سبك بعض السور والجمل المماثلة ولكن الله تعالى صرفهم عنه فظهر منهم العجز. ولا نرى هذا وجيها ولا نفهم حكمة الله بتحديه الناس وصرفهم عنه مع قدرتهم عليه. ومنهم من قال : إن لغة القرآن أعلى من أفهام العرب وأساليبهم ولذلك عجزوا عن الإتيان بمثله. وهذا يتناقض فيما يبدو لنا مع نصوص قرآنية صريحة بأن لغة القرآن وأساليبه مثل لغة العرب وأساليبهم وفي متناول أفهامهم ليعقلوه ويتدبروه كما جاء في آية سورة ص هذه ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ٢٩ ﴾ وآيات سورة الزمر هذه ﴿ ولَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٧ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٢٨ ﴾ وآية سورة فصلت هذه ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٣ ﴾ وآية سورة الزخرف هذه ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٣ ﴾. ولقد حكى القرآن كثيرا من أقوال العرب فجاءت منسجمة مع نظمه ولغته. وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة ومنها آيات سورة الأنفال هذه ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين ٣١ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ٣٢ ﴾ ومنها آيات سورة الأحزاب هذه ﴿ وإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ إلاّ غُرُورًا ١٢ وإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلاّ فِرَارًا ١٣ ﴾ وآية سورة سبأ هذه ﴿ وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إلاّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ٤٣ ﴾ ومنهم من جمع بين التنويه ببلاغة أسلوب القرآن وروعة نظمه وسمو طبقته وبين ما احتواه من المبادئ والأسس والتلقينات التي فيها هدى ورحمة للعالمين في كل ظرف ومكان، والتي لا تناقض بينها ولا تخالف وبين تأثيره في السامعين وروحانيته القوية النافذة٢. وفي هذا الحق والصواب. وبذلك كله كان معجزة الله الكبرى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل واكتفى بها عن إظهار معجزات خارقة استجابة لتحدي الكفار ؛ على ما جاء في آيات عديدة مرّ بعضها ومنها آيات سورة العنكبوت هذه ﴿ وقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٥٠ أَولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ ﴾.
١ انظر كتابنا القرآن المجيد ص ١٤٨ وما بعدها والإتقان للسيوطي ج ٢ (النوع الرابع والستون) و تفسير الآيات وتفسير آيات البقرة و يونس وهود والطور المذكورة في المتن في كتب التفسير المنار والطبري والقاسمي وابن كثير والخازن والبغوي والزمخشري والطبرسي..
٢ انظر بخاصة تفسير آيات البقرة [٢٣ ـ ٢٤] في تفسير الخازن والقاسمي الذي ينقل مثل هذا عن بعض العلماء القدماء..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٨:﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨ ولَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلاّ كُفُورًا ٨٩ ﴾ [ ٨٨ ٨٩ ]
عبارة الآيتين واضحة. وهي قوية في تحديها قوية في تنديدها. فالقرآن سيظل المعجز الممتنع عن التقليد على جميع المخلوقات إنسهم وجنهم ولو تضامنوا معا ؛ لأنه وحي الله تعالى ومظهر سره. وقد صرّف فيه للناس من كل مثل وحجة وحقيقة ما يكفي لإقناعهم، وإن أكثرهم أهل لكل تنديد لأنهم يأبون مع ذلك إلاّ المماراة والعناد والجحود.
وقد روى الطبري عن ابن عباس : أن الآيتين نزلتا في نفر من اليهود جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وقالوا له : إنا لا نراه متناسقا كالتوراة وسألوه أن يأتيهم بآية غيره شاهدة على نبوته وأنهم قادرون على أن يأتوا بمثله، فقال لهم رسول الله : أما وإنكم لتعلمون أنه من عند الله وتجدونه مكتوبا عندكم فأنزل الله الآيتين. وقد توقف ابن كثير في الرواية وقال : إن السورة كلها مكية وسياقها مع قريش. واليهود إنما اجتمعوا بالنبي في المدينة. وقال البغوي : إن الكفار لما قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا، كذبهم الله بالآيتين.
ولقد حكت آية سورة الأنفال المدنية على سبيل التذكير بمواقف وأقوال كفار مكة قبل الهجرة قولا روى المفسرون أن قائله النضر بن الحارث وهي ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين ٣١ ﴾ حيث يصح أن يقال بشيء من الجزم : إن في الآيتين ردا وتكذيبا لكفار مكة وإن رواية نزولهما في صدد جدل اليهود مع النبي وتحديهم إياه غير صحيحة.
على أن وحدة السبك والسياق في الآيتين وما قبلهما وما بعدهما تلهم كما هو المتبادر لنا أنهما لم تنزلا فورا بسبب هذا القول الذي حكته آية الأنفال، وأن هذا القول قد صدر عن قائله قبل نزولهما بمدة ما، وأنهما جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد بعد الآيات السابقة مباشرة التي نوّه فيها القرآن الذي فيه شفاء ورحمة للمؤمنين، والتي تقرر أن تنزيله سرّ من أسرار الله وبعد الآيات السابقة لهذه الآيات التي حكى فيها بعض مواقف وأقوال الكفار واستفزازاتهم. ومن المحتمل أن تكونا تضمنتا في الوقت نفسه ردا وتحديا قويين للقائل المتبجح، والله أعلم.
تعليق على إعجاز القرآن وعجز الناس عنه
ولقد تكررت الإشارة إلى عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن كما تكرر تحدي الكفار بالإتيان بحديث أو سورة أو عدة سور من مثله جوابا على ما كانوا ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من افترائه أو تعلمه أو اقتباسه من أساطير الأولين، مثل آيات سورة الطور هذه ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَولَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ٣٣ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ٣٤ ﴾ ومثل سورة يونس هذه ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٣٨ ﴾ ومثل آية سورة هود هذه ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُورٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١٣ ﴾ ومثل آيات سورة البقرة هذه ﴿ وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٢٣ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ولَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ٢٤ ﴾. وآيات البقرة مدنية. وهذا يعني أن التحدي تكرر في العهد المكي مرارا، ثم تكرر في العهد المدني بالإتيان بأي شيء من مثله مهما قلّ. وآيات البقرة صريحة بأن أحدا لم يحاول إجابة التحدي سابقا، وحاسمة بأن أحدا لن يفعل ذلك في المستقبل.
ولقد تكلم المفسرون وعلماء القرآن كثيرا في موضوع إعجاز القرآن وتحدي الناس بالإتيان بمثله أو بشيء من مثله وعجزهم عن ذلك١ ومنهم من قال : إن العرب وهم فرسان البلاغة والفصاحة قادرون على سبك بعض السور والجمل المماثلة ولكن الله تعالى صرفهم عنه فظهر منهم العجز. ولا نرى هذا وجيها ولا نفهم حكمة الله بتحديه الناس وصرفهم عنه مع قدرتهم عليه. ومنهم من قال : إن لغة القرآن أعلى من أفهام العرب وأساليبهم ولذلك عجزوا عن الإتيان بمثله. وهذا يتناقض فيما يبدو لنا مع نصوص قرآنية صريحة بأن لغة القرآن وأساليبه مثل لغة العرب وأساليبهم وفي متناول أفهامهم ليعقلوه ويتدبروه كما جاء في آية سورة ص هذه ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ٢٩ ﴾ وآيات سورة الزمر هذه ﴿ ولَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٧ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٢٨ ﴾ وآية سورة فصلت هذه ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٣ ﴾ وآية سورة الزخرف هذه ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٣ ﴾. ولقد حكى القرآن كثيرا من أقوال العرب فجاءت منسجمة مع نظمه ولغته. وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة ومنها آيات سورة الأنفال هذه ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين ٣١ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ٣٢ ﴾ ومنها آيات سورة الأحزاب هذه ﴿ وإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ إلاّ غُرُورًا ١٢ وإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلاّ فِرَارًا ١٣ ﴾ وآية سورة سبأ هذه ﴿ وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إلاّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ٤٣ ﴾ ومنهم من جمع بين التنويه ببلاغة أسلوب القرآن وروعة نظمه وسمو طبقته وبين ما احتواه من المبادئ والأسس والتلقينات التي فيها هدى ورحمة للعالمين في كل ظرف ومكان، والتي لا تناقض بينها ولا تخالف وبين تأثيره في السامعين وروحانيته القوية النافذة٢. وفي هذا الحق والصواب. وبذلك كله كان معجزة الله الكبرى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل واكتفى بها عن إظهار معجزات خارقة استجابة لتحدي الكفار ؛ على ما جاء في آيات عديدة مرّ بعضها ومنها آيات سورة العنكبوت هذه ﴿ وقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٥٠ أَولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ ﴾.
١ انظر كتابنا القرآن المجيد ص ١٤٨ وما بعدها والإتقان للسيوطي ج ٢ (النوع الرابع والستون) و تفسير الآيات وتفسير آيات البقرة و يونس وهود والطور المذكورة في المتن في كتب التفسير المنار والطبري والقاسمي وابن كثير والخازن والبغوي والزمخشري والطبرسي..
٢ انظر بخاصة تفسير آيات البقرة [٢٣ ـ ٢٤] في تفسير الخازن والقاسمي الذي ينقل مثل هذا عن بعض العلماء القدماء..

﴿ وقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ٩٠ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ٩١ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ٩٢ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء ولَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلاّ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٣ ﴾ [ ٩٠ ٩٣ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني. وقد روى المفسرون في سياق طويل أنها نزلت بمناسبة دعوة زعماء قريش النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع للتفاوض والتفاهم فجاءهم مسرعا آملا بارعوائهم الذي كان شديد الحرص عليه، فعرضوا عليه الكّف عن آلهتهم واستعدادهم لإعطائه ما يبتغيه من مال وملك وشرف أو يعالجونه إذا كان له تابع من الجنّ ومريضا به فجادلهم وبين لهم رغبته الشديدة في هدايتهم، وأن الله إنما بعثه لذلك وليس له أي مطلب آخر فإن لم يستجيبوا صبر حتى يحكم الله بينه وبينهم، وحينئذ أخذوا يطلبون منه البراهين والمعجزات التي حكتها الآيات١.
ومع احتمال صحة الرواية فإن وحدة النظم والتساوق التي تجمع بين الآيات وسابقاتها ولاحقاتها تلهم أنها استمرار للسياق، ولقد ذكرت الآية السابقة مباشرة لها أن أكثر الناس أبوا إلاّ الكفر برغم ما صرفت لهم في القرآن من الأمثال، فأعقبتها هذه الآيات تحكي ما يقولونه ويطلبونه من مطالب ومعجزات، حيث تقوم القرينة على استمرار السياق وصلة الآيات بسابقاتها، وحيث يتبادر أن الآيات لم تتنزل فور كلام الكفار وأنه قد وقع قبل مدة منها فذكرته الآيات في معرض ما تذكره من مواقف الكفار وتعجيزاتهم.
وقد أمرت الفقرة الأخيرة النبي صلى الله عليه وسلم بالرد على الكفار واستنكاره لهذه المطالب وتوكيده أنه ليس إلاّ بشرا أرسله الله ليبلغهم دعوته ويهديهم إليه، وأسلوبها قوي أخّاذ، وقد انطوى فيها قصد التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أي تصرف في الكون وأي قدرة على خرق النواميس.
١ انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:﴿ وقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ٩٠ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ٩١ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ٩٢ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء ولَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلاّ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٣ ﴾ [ ٩٠ ٩٣ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني. وقد روى المفسرون في سياق طويل أنها نزلت بمناسبة دعوة زعماء قريش النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع للتفاوض والتفاهم فجاءهم مسرعا آملا بارعوائهم الذي كان شديد الحرص عليه، فعرضوا عليه الكّف عن آلهتهم واستعدادهم لإعطائه ما يبتغيه من مال وملك وشرف أو يعالجونه إذا كان له تابع من الجنّ ومريضا به فجادلهم وبين لهم رغبته الشديدة في هدايتهم، وأن الله إنما بعثه لذلك وليس له أي مطلب آخر فإن لم يستجيبوا صبر حتى يحكم الله بينه وبينهم، وحينئذ أخذوا يطلبون منه البراهين والمعجزات التي حكتها الآيات١.
ومع احتمال صحة الرواية فإن وحدة النظم والتساوق التي تجمع بين الآيات وسابقاتها ولاحقاتها تلهم أنها استمرار للسياق، ولقد ذكرت الآية السابقة مباشرة لها أن أكثر الناس أبوا إلاّ الكفر برغم ما صرفت لهم في القرآن من الأمثال، فأعقبتها هذه الآيات تحكي ما يقولونه ويطلبونه من مطالب ومعجزات، حيث تقوم القرينة على استمرار السياق وصلة الآيات بسابقاتها، وحيث يتبادر أن الآيات لم تتنزل فور كلام الكفار وأنه قد وقع قبل مدة منها فذكرته الآيات في معرض ما تذكره من مواقف الكفار وتعجيزاتهم.
وقد أمرت الفقرة الأخيرة النبي صلى الله عليه وسلم بالرد على الكفار واستنكاره لهذه المطالب وتوكيده أنه ليس إلاّ بشرا أرسله الله ليبلغهم دعوته ويهديهم إليه، وأسلوبها قوي أخّاذ، وقد انطوى فيها قصد التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أي تصرف في الكون وأي قدرة على خرق النواميس.
١ انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..

كسفا : قطعا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:﴿ وقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ٩٠ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ٩١ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ٩٢ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء ولَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلاّ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٣ ﴾ [ ٩٠ ٩٣ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني. وقد روى المفسرون في سياق طويل أنها نزلت بمناسبة دعوة زعماء قريش النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع للتفاوض والتفاهم فجاءهم مسرعا آملا بارعوائهم الذي كان شديد الحرص عليه، فعرضوا عليه الكّف عن آلهتهم واستعدادهم لإعطائه ما يبتغيه من مال وملك وشرف أو يعالجونه إذا كان له تابع من الجنّ ومريضا به فجادلهم وبين لهم رغبته الشديدة في هدايتهم، وأن الله إنما بعثه لذلك وليس له أي مطلب آخر فإن لم يستجيبوا صبر حتى يحكم الله بينه وبينهم، وحينئذ أخذوا يطلبون منه البراهين والمعجزات التي حكتها الآيات١.
ومع احتمال صحة الرواية فإن وحدة النظم والتساوق التي تجمع بين الآيات وسابقاتها ولاحقاتها تلهم أنها استمرار للسياق، ولقد ذكرت الآية السابقة مباشرة لها أن أكثر الناس أبوا إلاّ الكفر برغم ما صرفت لهم في القرآن من الأمثال، فأعقبتها هذه الآيات تحكي ما يقولونه ويطلبونه من مطالب ومعجزات، حيث تقوم القرينة على استمرار السياق وصلة الآيات بسابقاتها، وحيث يتبادر أن الآيات لم تتنزل فور كلام الكفار وأنه قد وقع قبل مدة منها فذكرته الآيات في معرض ما تذكره من مواقف الكفار وتعجيزاتهم.
وقد أمرت الفقرة الأخيرة النبي صلى الله عليه وسلم بالرد على الكفار واستنكاره لهذه المطالب وتوكيده أنه ليس إلاّ بشرا أرسله الله ليبلغهم دعوته ويهديهم إليه، وأسلوبها قوي أخّاذ، وقد انطوى فيها قصد التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أي تصرف في الكون وأي قدرة على خرق النواميس.
١ انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..

زخرف : هنا بمعنى الذهب، على ما قاله المفسرون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:﴿ وقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ٩٠ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ٩١ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ٩٢ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء ولَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلاّ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٣ ﴾ [ ٩٠ ٩٣ ]
الآيات واضحة الألفاظ والمعاني. وقد روى المفسرون في سياق طويل أنها نزلت بمناسبة دعوة زعماء قريش النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع للتفاوض والتفاهم فجاءهم مسرعا آملا بارعوائهم الذي كان شديد الحرص عليه، فعرضوا عليه الكّف عن آلهتهم واستعدادهم لإعطائه ما يبتغيه من مال وملك وشرف أو يعالجونه إذا كان له تابع من الجنّ ومريضا به فجادلهم وبين لهم رغبته الشديدة في هدايتهم، وأن الله إنما بعثه لذلك وليس له أي مطلب آخر فإن لم يستجيبوا صبر حتى يحكم الله بينه وبينهم، وحينئذ أخذوا يطلبون منه البراهين والمعجزات التي حكتها الآيات١.
ومع احتمال صحة الرواية فإن وحدة النظم والتساوق التي تجمع بين الآيات وسابقاتها ولاحقاتها تلهم أنها استمرار للسياق، ولقد ذكرت الآية السابقة مباشرة لها أن أكثر الناس أبوا إلاّ الكفر برغم ما صرفت لهم في القرآن من الأمثال، فأعقبتها هذه الآيات تحكي ما يقولونه ويطلبونه من مطالب ومعجزات، حيث تقوم القرينة على استمرار السياق وصلة الآيات بسابقاتها، وحيث يتبادر أن الآيات لم تتنزل فور كلام الكفار وأنه قد وقع قبل مدة منها فذكرته الآيات في معرض ما تذكره من مواقف الكفار وتعجيزاتهم.
وقد أمرت الفقرة الأخيرة النبي صلى الله عليه وسلم بالرد على الكفار واستنكاره لهذه المطالب وتوكيده أنه ليس إلاّ بشرا أرسله الله ليبلغهم دعوته ويهديهم إليه، وأسلوبها قوي أخّاذ، وقد انطوى فيها قصد التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أي تصرف في الكون وأي قدرة على خرق النواميس.
١ انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..

﴿ ومَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إلاّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٤ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ٩٥ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٩٦ ﴾ [ ٩٤ ٩٦ ]
الآيات متصلة بما سبقها اتصال تعقيب واستطراد كما هو المتبادر. وقد احتوت أولاها تعليلا لعدم إيمان أكثر الناس بما جاءهم أنبياؤهم به من الهدى، وهو استغرابهم أن يكون رسول الله إليهم من البشر وعدم تصديقهم بذلك، واحتوت ثانيتها بيانا لحكمة الله وسنته حيث اقتضتا أن يكون رسله من جنس المرسل إليهم، فلو كان من سكان الأرض ملائكة لأرسل إليهم رسولا ملكا. وإنما أرسل رسولا بشرا إليهم ؛ لأنهم بشر مثله حتى يتمكن من مخاطبتهم ومساجلتهم وليس في هذا ما يستوجب الاستغراب والإنكار، أما الآية الثالثة فقد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جعْله الله تعالى شهيدا وحكما بينه وبينهم، فهو الأعلم بأمر عباده وما هم عليه ومن هو المحق ومن هو المبطل، وقد جاءت بأسلوب انطوى فيه الاطمئنان بشهادة الله وتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الصادق المحق الداعي إلى الحق والهدى، وهذا الأسلوب القوي النافذ قد تكرر كثيرا في معرض الجدل مع الكفار وإفحامهم.
والآية الأولى مطلقة حيث تشمل الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأمم السابقة التي حكت آيات كثيرة استغرابهم من إرسال الله رسله من البشر وجحودهم رسالاتهم، منها آيات سورة المؤمنون هذه ﴿ و لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٢٣ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ولَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَولِينَ ٢٤ إِنْ هُو إلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ٢٥ ﴾ ولقد كان سامعو القرآن يعرفون قصص الأقوام السابقة مع رسلهم وما كان من تدمير الله لهم لجحودهم، وهكذا تستحكمهم الآيات بحجتها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٤:﴿ ومَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إلاّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٤ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ٩٥ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٩٦ ﴾ [ ٩٤ ٩٦ ]
الآيات متصلة بما سبقها اتصال تعقيب واستطراد كما هو المتبادر. وقد احتوت أولاها تعليلا لعدم إيمان أكثر الناس بما جاءهم أنبياؤهم به من الهدى، وهو استغرابهم أن يكون رسول الله إليهم من البشر وعدم تصديقهم بذلك، واحتوت ثانيتها بيانا لحكمة الله وسنته حيث اقتضتا أن يكون رسله من جنس المرسل إليهم، فلو كان من سكان الأرض ملائكة لأرسل إليهم رسولا ملكا. وإنما أرسل رسولا بشرا إليهم ؛ لأنهم بشر مثله حتى يتمكن من مخاطبتهم ومساجلتهم وليس في هذا ما يستوجب الاستغراب والإنكار، أما الآية الثالثة فقد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جعْله الله تعالى شهيدا وحكما بينه وبينهم، فهو الأعلم بأمر عباده وما هم عليه ومن هو المحق ومن هو المبطل، وقد جاءت بأسلوب انطوى فيه الاطمئنان بشهادة الله وتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الصادق المحق الداعي إلى الحق والهدى، وهذا الأسلوب القوي النافذ قد تكرر كثيرا في معرض الجدل مع الكفار وإفحامهم.
والآية الأولى مطلقة حيث تشمل الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأمم السابقة التي حكت آيات كثيرة استغرابهم من إرسال الله رسله من البشر وجحودهم رسالاتهم، منها آيات سورة المؤمنون هذه ﴿ و لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٢٣ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ولَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَولِينَ ٢٤ إِنْ هُو إلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ٢٥ ﴾ ولقد كان سامعو القرآن يعرفون قصص الأقوام السابقة مع رسلهم وما كان من تدمير الله لهم لجحودهم، وهكذا تستحكمهم الآيات بحجتها.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٤:﴿ ومَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إلاّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٤ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ٩٥ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ٩٦ ﴾ [ ٩٤ ٩٦ ]
الآيات متصلة بما سبقها اتصال تعقيب واستطراد كما هو المتبادر. وقد احتوت أولاها تعليلا لعدم إيمان أكثر الناس بما جاءهم أنبياؤهم به من الهدى، وهو استغرابهم أن يكون رسول الله إليهم من البشر وعدم تصديقهم بذلك، واحتوت ثانيتها بيانا لحكمة الله وسنته حيث اقتضتا أن يكون رسله من جنس المرسل إليهم، فلو كان من سكان الأرض ملائكة لأرسل إليهم رسولا ملكا. وإنما أرسل رسولا بشرا إليهم ؛ لأنهم بشر مثله حتى يتمكن من مخاطبتهم ومساجلتهم وليس في هذا ما يستوجب الاستغراب والإنكار، أما الآية الثالثة فقد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جعْله الله تعالى شهيدا وحكما بينه وبينهم، فهو الأعلم بأمر عباده وما هم عليه ومن هو المحق ومن هو المبطل، وقد جاءت بأسلوب انطوى فيه الاطمئنان بشهادة الله وتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الصادق المحق الداعي إلى الحق والهدى، وهذا الأسلوب القوي النافذ قد تكرر كثيرا في معرض الجدل مع الكفار وإفحامهم.
والآية الأولى مطلقة حيث تشمل الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأمم السابقة التي حكت آيات كثيرة استغرابهم من إرسال الله رسله من البشر وجحودهم رسالاتهم، منها آيات سورة المؤمنون هذه ﴿ و لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٢٣ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ولَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَولِينَ ٢٤ إِنْ هُو إلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ٢٥ ﴾ ولقد كان سامعو القرآن يعرفون قصص الأقوام السابقة مع رسلهم وما كان من تدمير الله لهم لجحودهم، وهكذا تستحكمهم الآيات بحجتها.

خبت : خفت شدتها أو خفّ ضرامها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ومَن يَهْدِ اللّهُ فَهُو الْمُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا مَّأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ٩٧ ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ورُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ٩٨ أَولَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلاّ كُفُورًا ٩٩ ﴾ [ ٩٧ ـ ٩٩ ]
الآيات متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وإنذار كما هو المتبادر وعبارتها واضحة.
وفقرة الآية الأولى وإن كانت تنسب الإهداء والإضلال إلى الله تعالى وحسب، فإن بقيتها مع الآية التالية لها تزيلان ما يمكن أن يقوم من وهم تحتيم الهدى والضلال في الأزل على أناس بأعيانهم، حيث تنسب الكفر والجحود والضلال إلى أصحابه وتقرر أن عذابهم إنما هو على اختيارهم ذلك.
وقد مرّ مثل ذلك كثيرا وشرحناه شرحا وافيا، ونبهنا إلى وجوب تأويل الآيات بالآيات وعدم أخذ فقرة ما لحدتها، وبهذا يزول كل إشكال.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ومَن يَهْدِ اللّهُ فَهُو الْمُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا مَّأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ٩٧ ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ورُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ٩٨ أَولَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلاّ كُفُورًا ٩٩ ﴾ [ ٩٧ ـ ٩٩ ]
الآيات متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وإنذار كما هو المتبادر وعبارتها واضحة.
وفقرة الآية الأولى وإن كانت تنسب الإهداء والإضلال إلى الله تعالى وحسب، فإن بقيتها مع الآية التالية لها تزيلان ما يمكن أن يقوم من وهم تحتيم الهدى والضلال في الأزل على أناس بأعيانهم، حيث تنسب الكفر والجحود والضلال إلى أصحابه وتقرر أن عذابهم إنما هو على اختيارهم ذلك.
وقد مرّ مثل ذلك كثيرا وشرحناه شرحا وافيا، ونبهنا إلى وجوب تأويل الآيات بالآيات وعدم أخذ فقرة ما لحدتها، وبهذا يزول كل إشكال.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ومَن يَهْدِ اللّهُ فَهُو الْمُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا مَّأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ٩٧ ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ورُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ٩٨ أَولَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلاّ كُفُورًا ٩٩ ﴾ [ ٩٧ ـ ٩٩ ]
الآيات متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وإنذار كما هو المتبادر وعبارتها واضحة.
وفقرة الآية الأولى وإن كانت تنسب الإهداء والإضلال إلى الله تعالى وحسب، فإن بقيتها مع الآية التالية لها تزيلان ما يمكن أن يقوم من وهم تحتيم الهدى والضلال في الأزل على أناس بأعيانهم، حيث تنسب الكفر والجحود والضلال إلى أصحابه وتقرر أن عذابهم إنما هو على اختيارهم ذلك.
وقد مرّ مثل ذلك كثيرا وشرحناه شرحا وافيا، ونبهنا إلى وجوب تأويل الآيات بالآيات وعدم أخذ فقرة ما لحدتها، وبهذا يزول كل إشكال.

﴿ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا ١٠٠ ﴾ [ ١٠٠ ]
عبارة الآية واضحة وقد انطوى فيها تقرير طبيعة من طبائع الإنسان وهي خشيته من نفاد ما في يده والتقتير بسبب ذلك ؛ وتقرر أن الله لا يستشعر بشيء من هذا ؛ لأن خزائن رحمته لا تنفذ.
ولا يروي المفسرون رواية ما في صدد الآية. وبدؤها بالأمر بالقول مع ضمير الجمع المخاطب قرينة على أن الآية متصلة بموقف الكفار الذي حكته الآيات السابقة، ولعلها انطوت على جواب لسؤال أورده الكفار على سبيل التحدي وهو : ما بالهم ما يزالون أحياء يرزقون متمتعين بمتع الحياة وزينتها ونعيمها مع كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم واليوم الآخر ؟ فأجيبوا بما انطوى فيه : أن الله قد جعل لهم أجلا هو آت لا ريب فيه، وأن سنته اقتضت تيسير الرزق للناس خلال الأجل المضروب لهم وهو المتصف بالرحمة وليس هو كالبشر يخشى نفاد ما في خزائنه.
وواضح أن الجواب متسق مع ما اعتاده البشر من عادات وطبائع بسبيل الإلزام والإفحام.
ووحدة النظر والتساوق تسوغ القول : إن الآية لم تنزل فور ما فرضناه من سؤال، فهو على ما هو المتبادر سابق بمدة ما. وقد احتوت الآية جوابا عليه في مناسبة ذكر أقوال ومواقف الكفار في سياق متصل.
﴿ ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ١٠١ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إلاّ رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا ١٠٢ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ ومَن مَّعَهُ جَمِيعًا ١٠٣ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ١٠٤ ﴾ [ ١٠١ ١٠٤ ]
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزولها. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن السياق، وأنها جاءت استطرادية على سبيل الإنذار والتذكير للكفار الذين حكت الآيات السابقة مواقفهم وأقوالهم بحيث تؤذنهم بأنهم إذا كانوا وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقفهم الباغي، فقد وقف فرعون من موسى عليه السلام نفس الموقف. وقد انطوى الاستطراد على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتبشيرهم، فالله الذي أهلك فرعون ومكّن لبني إسرائيل أعداؤه في الأرض من بعده قادر على إهلاك أعدائهم والتمكين لهم من بعدهم أيضا، والعرب السامعون كانوا يعرفون قصة رسالة موسى عليه السلام لفرعون ونتائجها على ما مرّ شرحه في مناسبات سابقة وبذلك تكون الحجة محكمة عليهم.
والأمر بسؤال بني إسرائيل الذي احتوته الآية الأولى أريد به توكيد الوقائع والنتائج على ما هو المتبادر، فبنو إسرائيل بين ظهراني العرب ومنهم أفراد في مكة، ومن الممكن أن يستشهدوهم عليها. وقد انطوى الكلام معنى الاطمئنان بالشهادة الإيجابية والتصديقية. وهذا الأسلوب قد تكرر في القرآن كثيرا ؛ لأن العرب كانوا يثقون بالكتابيين واليهود بخاصة ومعارفهم.
ويلحظ في الآيات عود على بدء السورة بذكر بني إسرائيل في آخرها كما ذكروا في أولها مما فيه صور من صور النظم القرآني. ولقد أورد الطبري في سياق الآيات حديثا رواه أيضا الترمذي بسند صحيح عن صفوان بن عسّال جاء فيه " إنّ يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبيّ نسأله فقال : لا تقل نبيّ، فإنّه إن سمعها كانت له أربعة أعين، فأتيا النبيّ فسألاه عن قول الله عزّ وجلّ ﴿ ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وعليكم يا معشر اليهود خاصّة لا تعدوا في السّبت " فقبّلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنّك نبيّ. قال : فما يمنعكما أن تسلما ؟ قالا : إنّ داود دعا الله ألاّ يزال في ذرّيّته نبيّ، وإنّا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود " ١.
وفي سورة الأعراف تسع آيات أظهرها الله على يد موسى لفرعون وهي اليد والعصا والسنين أي القحط والنقص في الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم٢. والتي ذكرها الحديث هي ما يسمى بالوصايا العشر تسع منها عامة وواحدة خاصة ببني إسرائيل. والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من اليهوديين أنهما سألاه عن هذه فأجابهما على سؤالاهما والله أعلم.
١ التاج ج ٤ ص ١٤٦ و ١٤٧..
٢ الآيات [١٠٧ و ١٣٠ و ١٣٣] ووصف كل ذلك بالآيات..
مثبورا : هالكا. وقيل : إنها بمعنى مصروفا عن الخير، وأن ثبر بمعنى صرف أيضا، وقيل كذلك : إنها بمعنى مغلوبا أو مخبولا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠١:﴿ ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ١٠١ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إلاّ رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا ١٠٢ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ ومَن مَّعَهُ جَمِيعًا ١٠٣ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ١٠٤ ﴾ [ ١٠١ ١٠٤ ]
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزولها. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن السياق، وأنها جاءت استطرادية على سبيل الإنذار والتذكير للكفار الذين حكت الآيات السابقة مواقفهم وأقوالهم بحيث تؤذنهم بأنهم إذا كانوا وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقفهم الباغي، فقد وقف فرعون من موسى عليه السلام نفس الموقف. وقد انطوى الاستطراد على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتبشيرهم، فالله الذي أهلك فرعون ومكّن لبني إسرائيل أعداؤه في الأرض من بعده قادر على إهلاك أعدائهم والتمكين لهم من بعدهم أيضا، والعرب السامعون كانوا يعرفون قصة رسالة موسى عليه السلام لفرعون ونتائجها على ما مرّ شرحه في مناسبات سابقة وبذلك تكون الحجة محكمة عليهم.
والأمر بسؤال بني إسرائيل الذي احتوته الآية الأولى أريد به توكيد الوقائع والنتائج على ما هو المتبادر، فبنو إسرائيل بين ظهراني العرب ومنهم أفراد في مكة، ومن الممكن أن يستشهدوهم عليها. وقد انطوى الكلام معنى الاطمئنان بالشهادة الإيجابية والتصديقية. وهذا الأسلوب قد تكرر في القرآن كثيرا ؛ لأن العرب كانوا يثقون بالكتابيين واليهود بخاصة ومعارفهم.
ويلحظ في الآيات عود على بدء السورة بذكر بني إسرائيل في آخرها كما ذكروا في أولها مما فيه صور من صور النظم القرآني. ولقد أورد الطبري في سياق الآيات حديثا رواه أيضا الترمذي بسند صحيح عن صفوان بن عسّال جاء فيه " إنّ يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبيّ نسأله فقال : لا تقل نبيّ، فإنّه إن سمعها كانت له أربعة أعين، فأتيا النبيّ فسألاه عن قول الله عزّ وجلّ ﴿ ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وعليكم يا معشر اليهود خاصّة لا تعدوا في السّبت " فقبّلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنّك نبيّ. قال : فما يمنعكما أن تسلما ؟ قالا : إنّ داود دعا الله ألاّ يزال في ذرّيّته نبيّ، وإنّا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود " ١.
وفي سورة الأعراف تسع آيات أظهرها الله على يد موسى لفرعون وهي اليد والعصا والسنين أي القحط والنقص في الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم٢. والتي ذكرها الحديث هي ما يسمى بالوصايا العشر تسع منها عامة وواحدة خاصة ببني إسرائيل. والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من اليهوديين أنهما سألاه عن هذه فأجابهما على سؤالاهما والله أعلم.
١ التاج ج ٤ ص ١٤٦ و ١٤٧..
٢ الآيات [١٠٧ و ١٣٠ و ١٣٣] ووصف كل ذلك بالآيات..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠١:﴿ ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ١٠١ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إلاّ رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا ١٠٢ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ ومَن مَّعَهُ جَمِيعًا ١٠٣ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ١٠٤ ﴾ [ ١٠١ ١٠٤ ]
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزولها. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن السياق، وأنها جاءت استطرادية على سبيل الإنذار والتذكير للكفار الذين حكت الآيات السابقة مواقفهم وأقوالهم بحيث تؤذنهم بأنهم إذا كانوا وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقفهم الباغي، فقد وقف فرعون من موسى عليه السلام نفس الموقف. وقد انطوى الاستطراد على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتبشيرهم، فالله الذي أهلك فرعون ومكّن لبني إسرائيل أعداؤه في الأرض من بعده قادر على إهلاك أعدائهم والتمكين لهم من بعدهم أيضا، والعرب السامعون كانوا يعرفون قصة رسالة موسى عليه السلام لفرعون ونتائجها على ما مرّ شرحه في مناسبات سابقة وبذلك تكون الحجة محكمة عليهم.
والأمر بسؤال بني إسرائيل الذي احتوته الآية الأولى أريد به توكيد الوقائع والنتائج على ما هو المتبادر، فبنو إسرائيل بين ظهراني العرب ومنهم أفراد في مكة، ومن الممكن أن يستشهدوهم عليها. وقد انطوى الكلام معنى الاطمئنان بالشهادة الإيجابية والتصديقية. وهذا الأسلوب قد تكرر في القرآن كثيرا ؛ لأن العرب كانوا يثقون بالكتابيين واليهود بخاصة ومعارفهم.
ويلحظ في الآيات عود على بدء السورة بذكر بني إسرائيل في آخرها كما ذكروا في أولها مما فيه صور من صور النظم القرآني. ولقد أورد الطبري في سياق الآيات حديثا رواه أيضا الترمذي بسند صحيح عن صفوان بن عسّال جاء فيه " إنّ يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبيّ نسأله فقال : لا تقل نبيّ، فإنّه إن سمعها كانت له أربعة أعين، فأتيا النبيّ فسألاه عن قول الله عزّ وجلّ ﴿ ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وعليكم يا معشر اليهود خاصّة لا تعدوا في السّبت " فقبّلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنّك نبيّ. قال : فما يمنعكما أن تسلما ؟ قالا : إنّ داود دعا الله ألاّ يزال في ذرّيّته نبيّ، وإنّا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود " ١.
وفي سورة الأعراف تسع آيات أظهرها الله على يد موسى لفرعون وهي اليد والعصا والسنين أي القحط والنقص في الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم٢. والتي ذكرها الحديث هي ما يسمى بالوصايا العشر تسع منها عامة وواحدة خاصة ببني إسرائيل. والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من اليهوديين أنهما سألاه عن هذه فأجابهما على سؤالاهما والله أعلم.
١ التاج ج ٤ ص ١٤٦ و ١٤٧..
٢ الآيات [١٠٧ و ١٣٠ و ١٣٣] ووصف كل ذلك بالآيات..

لفيفا : جماعات الناس على اختلافهم، وقيل بمعنى : جميعا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠١:﴿ ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ١٠١ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إلاّ رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا ١٠٢ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ ومَن مَّعَهُ جَمِيعًا ١٠٣ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ١٠٤ ﴾ [ ١٠١ ١٠٤ ]
عبارة الآيات واضحة. ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد نزولها. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن السياق، وأنها جاءت استطرادية على سبيل الإنذار والتذكير للكفار الذين حكت الآيات السابقة مواقفهم وأقوالهم بحيث تؤذنهم بأنهم إذا كانوا وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقفهم الباغي، فقد وقف فرعون من موسى عليه السلام نفس الموقف. وقد انطوى الاستطراد على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتبشيرهم، فالله الذي أهلك فرعون ومكّن لبني إسرائيل أعداؤه في الأرض من بعده قادر على إهلاك أعدائهم والتمكين لهم من بعدهم أيضا، والعرب السامعون كانوا يعرفون قصة رسالة موسى عليه السلام لفرعون ونتائجها على ما مرّ شرحه في مناسبات سابقة وبذلك تكون الحجة محكمة عليهم.
والأمر بسؤال بني إسرائيل الذي احتوته الآية الأولى أريد به توكيد الوقائع والنتائج على ما هو المتبادر، فبنو إسرائيل بين ظهراني العرب ومنهم أفراد في مكة، ومن الممكن أن يستشهدوهم عليها. وقد انطوى الكلام معنى الاطمئنان بالشهادة الإيجابية والتصديقية. وهذا الأسلوب قد تكرر في القرآن كثيرا ؛ لأن العرب كانوا يثقون بالكتابيين واليهود بخاصة ومعارفهم.
ويلحظ في الآيات عود على بدء السورة بذكر بني إسرائيل في آخرها كما ذكروا في أولها مما فيه صور من صور النظم القرآني. ولقد أورد الطبري في سياق الآيات حديثا رواه أيضا الترمذي بسند صحيح عن صفوان بن عسّال جاء فيه " إنّ يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبيّ نسأله فقال : لا تقل نبيّ، فإنّه إن سمعها كانت له أربعة أعين، فأتيا النبيّ فسألاه عن قول الله عزّ وجلّ ﴿ ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وعليكم يا معشر اليهود خاصّة لا تعدوا في السّبت " فقبّلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنّك نبيّ. قال : فما يمنعكما أن تسلما ؟ قالا : إنّ داود دعا الله ألاّ يزال في ذرّيّته نبيّ، وإنّا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود " ١.
وفي سورة الأعراف تسع آيات أظهرها الله على يد موسى لفرعون وهي اليد والعصا والسنين أي القحط والنقص في الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم٢. والتي ذكرها الحديث هي ما يسمى بالوصايا العشر تسع منها عامة وواحدة خاصة ببني إسرائيل. والمتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من اليهوديين أنهما سألاه عن هذه فأجابهما على سؤالاهما والله أعلم.
١ التاج ج ٤ ص ١٤٦ و ١٤٧..
٢ الآيات [١٠٧ و ١٣٠ و ١٣٣] ووصف كل ذلك بالآيات..

﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ مُبَشِّرًا ونَذِيرًا ١٠٥ وقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ١٠٦ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ١٠٧ ويَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ١٠٨ ويَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ١٠٩ ﴾ [ ١٠٥ ١٠٩ ].
لم يرو المفسرون رواية ما فيها اطلعنا عليه في صدد نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها جاءت بعد تلك الآيات الاستطرادية إلى التذكير بموسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون وإغراق هذا وتمكين بني إسرائيل في الأرض بعده ؛ لتكون رابطة بين حلقات السياق وخاتمة لما حكاه من مواقف الحجاج والجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ؛ حيث يبدو من هذا اتصالها بالسياق، وقد احتوت من جهة توكيدا بأسلوب قوي حاسم صحة الوحي القرآني الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لتوطيد الحق وإعلانه، ومن جهة أخرى تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إنما أرسل للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه القرآن فصولا ؛ ليتلوها على الناس على مهل حتى يستوعبوها، ويتدبروا ما فيها من مبادئ صدق وحق وحجج بليغة، وأمرا له من جهة ثالثة بعدم الاهتمام لمواقف الكفار وجحودهم، وبإعلان ذلك لهم وبتحديهم بذكر موقف الذين أوتوا العلم من قبل، حيث يسارعون إلى تصديقه والإيمان به حينما يتلى عليهم ويعلنون يقينهم بوعد الله وصدقه، ويخرون للأذقان سجدا وبكيا مما استولى عليهم من الخشوع وقوة اليقين.
تعليق على الآية
﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
وأسلوب الآيات كما هو ظاهر قوي أخاذ في كل المقاصد التي أريد تقريرها فيها وقد احتوت تنويها جديدا بخطورة القرآن، وبيانا جديدا لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها الدعوة والتبليغ دون إبرام ولا إكراه ولا مسؤولية عن مواقف الناس. وأسلوب تحدي الكفار فيها بخاصة قوي نافذ ؛ حيث تأمر النبي بأن لا يهتم لهم، وأن يقول لهم : إنكم لن يكون لعدم إيمانكم أي نتيجة وحجة ما دام أهل العلم يؤمنون ويخشون ويتأثرون هذا التأثر القوي الذي تشاهدونه. ولقد كان لأهل الكتاب اعتبار وثقة في نفوس أهل مكة وزعمائهم الذين يوجه إليهم التحدي حيث يكون هذا التحدي محكما مستحكما.
وفي الآيات دليل جديد على كون ( القرآن ) المقصود هو أسس الدعوة ومبادئها ؛ لأن أهل العلم إنما يكونون قد تأثروا وسجدوا لذلك.
والآيات [ ١٠٧ ١٠٩ ] وإن جاءت بأسلوب الاستشهاد بموقف أهل الكتاب وتحدي الكفار به. ثم وإن كانت متصلة بالموقف الحجاجي بصورة عامة فإنها احتوت في حد ذاتها مشهدا واقعيا رائعا من مشاهد الكتابيين في مكة وهم المقصودون بالذين أوتوا العلم وموقفهم من القرآن والدعوة المحمدية. وهو مشهد تأييدي وموقف إيمان ويقين بصدق الدعوة والقرآن وصلتهما بالله، وإنه كان مشهدا مشهودا كان له أثر بليغ في أوساط مكة مسلميها ومشركيها على ما تلهمه فحوى الآيات وروحها وقوة التحدي فيها.
ووصف ﴿ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ وإن كان يعني فريقا من أهل الكتاب فالمتبادر أنه يلهم أن هذا الفريق كان من علمائهم ورجال الدين فيهم. وهذا هو المتسق مع ما تلهمه الآيات من خطورة الحادث وعظم أثره في تلك الأوساط، ومن المحتمل أن يكون هذا المشهد لكتابيين مقيمين في مكة أو لكتابيين وفدوا عليها لاستطلاع خبر النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن نرجح أن هذا المشهد والفريق الذي سجل له هما في المشهد والفريق الذي سجل له في آيات سورة القصص [ ٥٢ ٥٥ ] التي مرّ تفسيرها والتعليق عليها، وهكذا تتلاحق المشاهد العيانية العظيمة المدى في العهد المكي من أهل الكتاب وعلمائهم الذين حين كانوا يستطيعون التجرد عن هواهم ومآربهم وتعصبهم يسارعون إلى الإيمان بالرسالة المحمدية.
وجملة ﴿ إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ المحكية عن أصحاب المشهد مهمة وذات مغزى خطير. ولقد جاء في آية الأعراف [ ١٥٧ ] أن أهل الكتاب يجدون صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل، ويكون معنى الجملة أنهم لما رأوا أعلام النبوة المحمدية قالوا : إن الله قد صدق وعده في إرساله. وكان ذلك مما زاد يقينهم وخشوعهم و بكاءهم.
فرقناه : قد قرئت بالتخفيف بمعنى فصلناه وبيناه ونوّهنا محتوياته وبالتشديد بمعنى جزّأناه فصولا بعد فصول.
على مكث : قيل إنها بمعنى على تؤدة وتثبت. وقيل : إنها بمعنى على مرّ الأيام.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٥:﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ مُبَشِّرًا ونَذِيرًا ١٠٥ وقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ١٠٦ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ١٠٧ ويَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ١٠٨ ويَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ١٠٩ ﴾ [ ١٠٥ ١٠٩ ].
لم يرو المفسرون رواية ما فيها اطلعنا عليه في صدد نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها جاءت بعد تلك الآيات الاستطرادية إلى التذكير بموسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون وإغراق هذا وتمكين بني إسرائيل في الأرض بعده ؛ لتكون رابطة بين حلقات السياق وخاتمة لما حكاه من مواقف الحجاج والجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ؛ حيث يبدو من هذا اتصالها بالسياق، وقد احتوت من جهة توكيدا بأسلوب قوي حاسم صحة الوحي القرآني الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لتوطيد الحق وإعلانه، ومن جهة أخرى تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إنما أرسل للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه القرآن فصولا ؛ ليتلوها على الناس على مهل حتى يستوعبوها، ويتدبروا ما فيها من مبادئ صدق وحق وحجج بليغة، وأمرا له من جهة ثالثة بعدم الاهتمام لمواقف الكفار وجحودهم، وبإعلان ذلك لهم وبتحديهم بذكر موقف الذين أوتوا العلم من قبل، حيث يسارعون إلى تصديقه والإيمان به حينما يتلى عليهم ويعلنون يقينهم بوعد الله وصدقه، ويخرون للأذقان سجدا وبكيا مما استولى عليهم من الخشوع وقوة اليقين.
تعليق على الآية
﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
وأسلوب الآيات كما هو ظاهر قوي أخاذ في كل المقاصد التي أريد تقريرها فيها وقد احتوت تنويها جديدا بخطورة القرآن، وبيانا جديدا لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها الدعوة والتبليغ دون إبرام ولا إكراه ولا مسؤولية عن مواقف الناس. وأسلوب تحدي الكفار فيها بخاصة قوي نافذ ؛ حيث تأمر النبي بأن لا يهتم لهم، وأن يقول لهم : إنكم لن يكون لعدم إيمانكم أي نتيجة وحجة ما دام أهل العلم يؤمنون ويخشون ويتأثرون هذا التأثر القوي الذي تشاهدونه. ولقد كان لأهل الكتاب اعتبار وثقة في نفوس أهل مكة وزعمائهم الذين يوجه إليهم التحدي حيث يكون هذا التحدي محكما مستحكما.
وفي الآيات دليل جديد على كون ( القرآن ) المقصود هو أسس الدعوة ومبادئها ؛ لأن أهل العلم إنما يكونون قد تأثروا وسجدوا لذلك.
والآيات [ ١٠٧ ١٠٩ ] وإن جاءت بأسلوب الاستشهاد بموقف أهل الكتاب وتحدي الكفار به. ثم وإن كانت متصلة بالموقف الحجاجي بصورة عامة فإنها احتوت في حد ذاتها مشهدا واقعيا رائعا من مشاهد الكتابيين في مكة وهم المقصودون بالذين أوتوا العلم وموقفهم من القرآن والدعوة المحمدية. وهو مشهد تأييدي وموقف إيمان ويقين بصدق الدعوة والقرآن وصلتهما بالله، وإنه كان مشهدا مشهودا كان له أثر بليغ في أوساط مكة مسلميها ومشركيها على ما تلهمه فحوى الآيات وروحها وقوة التحدي فيها.
ووصف ﴿ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ وإن كان يعني فريقا من أهل الكتاب فالمتبادر أنه يلهم أن هذا الفريق كان من علمائهم ورجال الدين فيهم. وهذا هو المتسق مع ما تلهمه الآيات من خطورة الحادث وعظم أثره في تلك الأوساط، ومن المحتمل أن يكون هذا المشهد لكتابيين مقيمين في مكة أو لكتابيين وفدوا عليها لاستطلاع خبر النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن نرجح أن هذا المشهد والفريق الذي سجل له هما في المشهد والفريق الذي سجل له في آيات سورة القصص [ ٥٢ ٥٥ ] التي مرّ تفسيرها والتعليق عليها، وهكذا تتلاحق المشاهد العيانية العظيمة المدى في العهد المكي من أهل الكتاب وعلمائهم الذين حين كانوا يستطيعون التجرد عن هواهم ومآربهم وتعصبهم يسارعون إلى الإيمان بالرسالة المحمدية.
وجملة ﴿ إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ المحكية عن أصحاب المشهد مهمة وذات مغزى خطير. ولقد جاء في آية الأعراف [ ١٥٧ ] أن أهل الكتاب يجدون صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل، ويكون معنى الجملة أنهم لما رأوا أعلام النبوة المحمدية قالوا : إن الله قد صدق وعده في إرساله. وكان ذلك مما زاد يقينهم وخشوعهم و بكاءهم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٥:﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ مُبَشِّرًا ونَذِيرًا ١٠٥ وقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ١٠٦ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ١٠٧ ويَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ١٠٨ ويَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ١٠٩ ﴾ [ ١٠٥ ١٠٩ ].
لم يرو المفسرون رواية ما فيها اطلعنا عليه في صدد نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها جاءت بعد تلك الآيات الاستطرادية إلى التذكير بموسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون وإغراق هذا وتمكين بني إسرائيل في الأرض بعده ؛ لتكون رابطة بين حلقات السياق وخاتمة لما حكاه من مواقف الحجاج والجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ؛ حيث يبدو من هذا اتصالها بالسياق، وقد احتوت من جهة توكيدا بأسلوب قوي حاسم صحة الوحي القرآني الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لتوطيد الحق وإعلانه، ومن جهة أخرى تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إنما أرسل للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه القرآن فصولا ؛ ليتلوها على الناس على مهل حتى يستوعبوها، ويتدبروا ما فيها من مبادئ صدق وحق وحجج بليغة، وأمرا له من جهة ثالثة بعدم الاهتمام لمواقف الكفار وجحودهم، وبإعلان ذلك لهم وبتحديهم بذكر موقف الذين أوتوا العلم من قبل، حيث يسارعون إلى تصديقه والإيمان به حينما يتلى عليهم ويعلنون يقينهم بوعد الله وصدقه، ويخرون للأذقان سجدا وبكيا مما استولى عليهم من الخشوع وقوة اليقين.
تعليق على الآية
﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
وأسلوب الآيات كما هو ظاهر قوي أخاذ في كل المقاصد التي أريد تقريرها فيها وقد احتوت تنويها جديدا بخطورة القرآن، وبيانا جديدا لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها الدعوة والتبليغ دون إبرام ولا إكراه ولا مسؤولية عن مواقف الناس. وأسلوب تحدي الكفار فيها بخاصة قوي نافذ ؛ حيث تأمر النبي بأن لا يهتم لهم، وأن يقول لهم : إنكم لن يكون لعدم إيمانكم أي نتيجة وحجة ما دام أهل العلم يؤمنون ويخشون ويتأثرون هذا التأثر القوي الذي تشاهدونه. ولقد كان لأهل الكتاب اعتبار وثقة في نفوس أهل مكة وزعمائهم الذين يوجه إليهم التحدي حيث يكون هذا التحدي محكما مستحكما.
وفي الآيات دليل جديد على كون ( القرآن ) المقصود هو أسس الدعوة ومبادئها ؛ لأن أهل العلم إنما يكونون قد تأثروا وسجدوا لذلك.
والآيات [ ١٠٧ ١٠٩ ] وإن جاءت بأسلوب الاستشهاد بموقف أهل الكتاب وتحدي الكفار به. ثم وإن كانت متصلة بالموقف الحجاجي بصورة عامة فإنها احتوت في حد ذاتها مشهدا واقعيا رائعا من مشاهد الكتابيين في مكة وهم المقصودون بالذين أوتوا العلم وموقفهم من القرآن والدعوة المحمدية. وهو مشهد تأييدي وموقف إيمان ويقين بصدق الدعوة والقرآن وصلتهما بالله، وإنه كان مشهدا مشهودا كان له أثر بليغ في أوساط مكة مسلميها ومشركيها على ما تلهمه فحوى الآيات وروحها وقوة التحدي فيها.
ووصف ﴿ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ وإن كان يعني فريقا من أهل الكتاب فالمتبادر أنه يلهم أن هذا الفريق كان من علمائهم ورجال الدين فيهم. وهذا هو المتسق مع ما تلهمه الآيات من خطورة الحادث وعظم أثره في تلك الأوساط، ومن المحتمل أن يكون هذا المشهد لكتابيين مقيمين في مكة أو لكتابيين وفدوا عليها لاستطلاع خبر النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن نرجح أن هذا المشهد والفريق الذي سجل له هما في المشهد والفريق الذي سجل له في آيات سورة القصص [ ٥٢ ٥٥ ] التي مرّ تفسيرها والتعليق عليها، وهكذا تتلاحق المشاهد العيانية العظيمة المدى في العهد المكي من أهل الكتاب وعلمائهم الذين حين كانوا يستطيعون التجرد عن هواهم ومآربهم وتعصبهم يسارعون إلى الإيمان بالرسالة المحمدية.
وجملة ﴿ إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ المحكية عن أصحاب المشهد مهمة وذات مغزى خطير. ولقد جاء في آية الأعراف [ ١٥٧ ] أن أهل الكتاب يجدون صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل، ويكون معنى الجملة أنهم لما رأوا أعلام النبوة المحمدية قالوا : إن الله قد صدق وعده في إرساله. وكان ذلك مما زاد يقينهم وخشوعهم و بكاءهم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٥:﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ مُبَشِّرًا ونَذِيرًا ١٠٥ وقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ١٠٦ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ١٠٧ ويَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ١٠٨ ويَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ١٠٩ ﴾ [ ١٠٥ ١٠٩ ].
لم يرو المفسرون رواية ما فيها اطلعنا عليه في صدد نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها جاءت بعد تلك الآيات الاستطرادية إلى التذكير بموسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون وإغراق هذا وتمكين بني إسرائيل في الأرض بعده ؛ لتكون رابطة بين حلقات السياق وخاتمة لما حكاه من مواقف الحجاج والجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ؛ حيث يبدو من هذا اتصالها بالسياق، وقد احتوت من جهة توكيدا بأسلوب قوي حاسم صحة الوحي القرآني الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لتوطيد الحق وإعلانه، ومن جهة أخرى تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إنما أرسل للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه القرآن فصولا ؛ ليتلوها على الناس على مهل حتى يستوعبوها، ويتدبروا ما فيها من مبادئ صدق وحق وحجج بليغة، وأمرا له من جهة ثالثة بعدم الاهتمام لمواقف الكفار وجحودهم، وبإعلان ذلك لهم وبتحديهم بذكر موقف الذين أوتوا العلم من قبل، حيث يسارعون إلى تصديقه والإيمان به حينما يتلى عليهم ويعلنون يقينهم بوعد الله وصدقه، ويخرون للأذقان سجدا وبكيا مما استولى عليهم من الخشوع وقوة اليقين.
تعليق على الآية
﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
وأسلوب الآيات كما هو ظاهر قوي أخاذ في كل المقاصد التي أريد تقريرها فيها وقد احتوت تنويها جديدا بخطورة القرآن، وبيانا جديدا لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها الدعوة والتبليغ دون إبرام ولا إكراه ولا مسؤولية عن مواقف الناس. وأسلوب تحدي الكفار فيها بخاصة قوي نافذ ؛ حيث تأمر النبي بأن لا يهتم لهم، وأن يقول لهم : إنكم لن يكون لعدم إيمانكم أي نتيجة وحجة ما دام أهل العلم يؤمنون ويخشون ويتأثرون هذا التأثر القوي الذي تشاهدونه. ولقد كان لأهل الكتاب اعتبار وثقة في نفوس أهل مكة وزعمائهم الذين يوجه إليهم التحدي حيث يكون هذا التحدي محكما مستحكما.
وفي الآيات دليل جديد على كون ( القرآن ) المقصود هو أسس الدعوة ومبادئها ؛ لأن أهل العلم إنما يكونون قد تأثروا وسجدوا لذلك.
والآيات [ ١٠٧ ١٠٩ ] وإن جاءت بأسلوب الاستشهاد بموقف أهل الكتاب وتحدي الكفار به. ثم وإن كانت متصلة بالموقف الحجاجي بصورة عامة فإنها احتوت في حد ذاتها مشهدا واقعيا رائعا من مشاهد الكتابيين في مكة وهم المقصودون بالذين أوتوا العلم وموقفهم من القرآن والدعوة المحمدية. وهو مشهد تأييدي وموقف إيمان ويقين بصدق الدعوة والقرآن وصلتهما بالله، وإنه كان مشهدا مشهودا كان له أثر بليغ في أوساط مكة مسلميها ومشركيها على ما تلهمه فحوى الآيات وروحها وقوة التحدي فيها.
ووصف ﴿ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ وإن كان يعني فريقا من أهل الكتاب فالمتبادر أنه يلهم أن هذا الفريق كان من علمائهم ورجال الدين فيهم. وهذا هو المتسق مع ما تلهمه الآيات من خطورة الحادث وعظم أثره في تلك الأوساط، ومن المحتمل أن يكون هذا المشهد لكتابيين مقيمين في مكة أو لكتابيين وفدوا عليها لاستطلاع خبر النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن نرجح أن هذا المشهد والفريق الذي سجل له هما في المشهد والفريق الذي سجل له في آيات سورة القصص [ ٥٢ ٥٥ ] التي مرّ تفسيرها والتعليق عليها، وهكذا تتلاحق المشاهد العيانية العظيمة المدى في العهد المكي من أهل الكتاب وعلمائهم الذين حين كانوا يستطيعون التجرد عن هواهم ومآربهم وتعصبهم يسارعون إلى الإيمان بالرسالة المحمدية.
وجملة ﴿ إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ المحكية عن أصحاب المشهد مهمة وذات مغزى خطير. ولقد جاء في آية الأعراف [ ١٥٧ ] أن أهل الكتاب يجدون صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل، ويكون معنى الجملة أنهم لما رأوا أعلام النبوة المحمدية قالوا : إن الله قد صدق وعده في إرساله. وكان ذلك مما زاد يقينهم وخشوعهم و بكاءهم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٥:﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ مُبَشِّرًا ونَذِيرًا ١٠٥ وقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ١٠٦ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ١٠٧ ويَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ١٠٨ ويَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ١٠٩ ﴾ [ ١٠٥ ١٠٩ ].
لم يرو المفسرون رواية ما فيها اطلعنا عليه في صدد نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها جاءت بعد تلك الآيات الاستطرادية إلى التذكير بموسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون وإغراق هذا وتمكين بني إسرائيل في الأرض بعده ؛ لتكون رابطة بين حلقات السياق وخاتمة لما حكاه من مواقف الحجاج والجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ؛ حيث يبدو من هذا اتصالها بالسياق، وقد احتوت من جهة توكيدا بأسلوب قوي حاسم صحة الوحي القرآني الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لتوطيد الحق وإعلانه، ومن جهة أخرى تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إنما أرسل للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه القرآن فصولا ؛ ليتلوها على الناس على مهل حتى يستوعبوها، ويتدبروا ما فيها من مبادئ صدق وحق وحجج بليغة، وأمرا له من جهة ثالثة بعدم الاهتمام لمواقف الكفار وجحودهم، وبإعلان ذلك لهم وبتحديهم بذكر موقف الذين أوتوا العلم من قبل، حيث يسارعون إلى تصديقه والإيمان به حينما يتلى عليهم ويعلنون يقينهم بوعد الله وصدقه، ويخرون للأذقان سجدا وبكيا مما استولى عليهم من الخشوع وقوة اليقين.
تعليق على الآية
﴿ وبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
وأسلوب الآيات كما هو ظاهر قوي أخاذ في كل المقاصد التي أريد تقريرها فيها وقد احتوت تنويها جديدا بخطورة القرآن، وبيانا جديدا لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها الدعوة والتبليغ دون إبرام ولا إكراه ولا مسؤولية عن مواقف الناس. وأسلوب تحدي الكفار فيها بخاصة قوي نافذ ؛ حيث تأمر النبي بأن لا يهتم لهم، وأن يقول لهم : إنكم لن يكون لعدم إيمانكم أي نتيجة وحجة ما دام أهل العلم يؤمنون ويخشون ويتأثرون هذا التأثر القوي الذي تشاهدونه. ولقد كان لأهل الكتاب اعتبار وثقة في نفوس أهل مكة وزعمائهم الذين يوجه إليهم التحدي حيث يكون هذا التحدي محكما مستحكما.
وفي الآيات دليل جديد على كون ( القرآن ) المقصود هو أسس الدعوة ومبادئها ؛ لأن أهل العلم إنما يكونون قد تأثروا وسجدوا لذلك.
والآيات [ ١٠٧ ١٠٩ ] وإن جاءت بأسلوب الاستشهاد بموقف أهل الكتاب وتحدي الكفار به. ثم وإن كانت متصلة بالموقف الحجاجي بصورة عامة فإنها احتوت في حد ذاتها مشهدا واقعيا رائعا من مشاهد الكتابيين في مكة وهم المقصودون بالذين أوتوا العلم وموقفهم من القرآن والدعوة المحمدية. وهو مشهد تأييدي وموقف إيمان ويقين بصدق الدعوة والقرآن وصلتهما بالله، وإنه كان مشهدا مشهودا كان له أثر بليغ في أوساط مكة مسلميها ومشركيها على ما تلهمه فحوى الآيات وروحها وقوة التحدي فيها.
ووصف ﴿ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ وإن كان يعني فريقا من أهل الكتاب فالمتبادر أنه يلهم أن هذا الفريق كان من علمائهم ورجال الدين فيهم. وهذا هو المتسق مع ما تلهمه الآيات من خطورة الحادث وعظم أثره في تلك الأوساط، ومن المحتمل أن يكون هذا المشهد لكتابيين مقيمين في مكة أو لكتابيين وفدوا عليها لاستطلاع خبر النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن نرجح أن هذا المشهد والفريق الذي سجل له هما في المشهد والفريق الذي سجل له في آيات سورة القصص [ ٥٢ ٥٥ ] التي مرّ تفسيرها والتعليق عليها، وهكذا تتلاحق المشاهد العيانية العظيمة المدى في العهد المكي من أهل الكتاب وعلمائهم الذين حين كانوا يستطيعون التجرد عن هواهم ومآربهم وتعصبهم يسارعون إلى الإيمان بالرسالة المحمدية.
وجملة ﴿ إِن كَانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ المحكية عن أصحاب المشهد مهمة وذات مغزى خطير. ولقد جاء في آية الأعراف [ ١٥٧ ] أن أهل الكتاب يجدون صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل، ويكون معنى الجملة أنهم لما رأوا أعلام النبوة المحمدية قالوا : إن الله قد صدق وعده في إرساله. وكان ذلك مما زاد يقينهم وخشوعهم و بكاءهم.

لا تخافت بها : خفت صوته بمعنى ضعف حتى لا يسمع وما تسمعه الأذن ليس مخافتة. ومعنى جملة : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها أي : لا ترفع صوتك جهوريا، ولا تخفته حتى لا يسمع وليكن بين بين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرحمان أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ولاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ولاَ تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ١١٠ وقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ولَمْ يَكُن لَّهُ ولِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ١١١ ﴾ [ ١١٠ ـ ١١١ ]
الآيات تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فجميع الأسماء الحسنى له وحده، وبأن تكون صلاته إليه صلاة خشوع ووقار وبين الجهر والإسرار، وبأن يعلن حمده وتكبيره له، فهو صاحب الملك الشامل الذي تنزه عن الولد والشريك المستغني عن الأولياء الذين يتخذهم الناس إذا ما خشوا البغي والذل. وقد جاءت الآيات في الوقت ذاته خاتمة قوية للسورة.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة كسبب لنزول الآيات، أو الآية الأولى بخاصة. فرووا أن الفقرة الأولى منها نزلت بسبب قول اليهود للنبي : إنك تقلل من ذكر الرحمان في القرآن، مع أن هذا الاسم كثير الورود في التوراة. ورووا مع ذلك أنها نزلت بسبب قول الكفار أو بعض زعمائهم : بأن محمدا يزعم أنه يدعو إلى إله واحد وهو يذكر الله والرحمن. ولا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة. ورووا أن فقرتها الثانية نزلت ؛ لأن الكفار كانوا حينما يسمعون القرآن من النبي يسبون القرآن ومن أنزله فأمر النبي فيها بالتوسط بين الجهر حتى لا يسمعه الكفار ولا يخافت ليسمعه المسلمون. وفي هذا حديث رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس١. ومع هذا فرووا عن ابن عباس أيضا أن النهي عن الجهر حتى لا يكون فيه مراءات للناس، وعن الإسرار والخفت حتى لا يكون فيه خوف من الناس. ورووا عن عائشة ومجاهد أن الصلاة في الفقرة بمعنى الدعاء، وأن بعض الأعراب كانوا إذا دعوا الله رفعوا أصواتهم فنهوا عن ذلك. ورووا أن أبا بكر كان يخفض صوته وعمر يرفعه في القراءة فقيل لهما في ذلك فقال الأول : أناجي ربي. وقال الثاني : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فنزلت الآية الأولى.
والروايات تقتضي أن تكون كل فقرة من فقرتي الآية الأولى نزلت لحدتها، وأن تكون نزلت منفصلة عن ما سبقها وما لحقها. والرواية المروية عن اليهود تقتضي أن تكون الآية مدنية. ورواية منع الجهر بالقرآن تفاديا عليهم في كل موقف من مواقف دعوته، وهذا من أسس مهمته. ومأمور به في آيات عديدة منها آيات في سورة النمل التي مرّ تفسيرها وهي [ ٩١ ـ ٩٢ ] ولم يمتنع من ذلك قط، وكان يقابل بقولهم إن هذا إلاّ أساطير الأولين. كما حكته آيات عديدة مرّ بعضها في السور التي فسرناها سابقا. وفي سورة الحج آية مهمة فيها حكاية موقف تهديدي للنبي ورد عليه بتهديد رهيب وهي هذه ﴿ وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وبِئْسَ الْمَصِيرُ ٧٢ ﴾ ثم استمر في تلاوة آيات القرآن بدون مبالاة تنفيذا لأمر ربه ومهمته منذرا حينا، منددا حينا، مقرعا حينا، مفصلا داعيا مبشرا حينا بدون انقطاع كما هو المستفاد من السور المكية جميعها بحيث يكون في كل ذلك دلالة حاسمة.
ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الأولى من الآية الأولى أنه كان في نفوس بعض المسلمين بعض التردد في صيغة دعاء الله تعالى وفيما إذا كان يجوز أن يذكر اسم الرحمن في مقام كلمة ( الله ) فأريد بها بيان ما هو جوهري في الأمر وهو الإخلاص لله والاتجاه له وحده. فله أحسن الأسماء، وبأيّها دعاه المخلص أجزأه. ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم صار يخفت في قراءته اتباعا لنهي آية سورة الأعراف هذه ﴿ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ﴾ فشكى المسلمون من عدم سماعهم القرآن منه فأمر في هذه الفقرة بالتوسط بين الجهر وخفت الصوت. هذا مع التنبيه إلى أننا نرجح أن الآية الأولى نزلت مع الآية الثانية، وأن الآيتين استمرار للسياق السابق، وكل ما في الأمر أن أولاهما تضمنت جوابا على ما كان يسأله أو يحتار فيه المسلمون، والله أعلم.

( ٢ ) لم يكن له ولي من الذلّ : ليس محتاجا إلى نصير قد يحتاج إليه الإنسان إذ خشي الذل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرحمان أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ولاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ولاَ تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ١١٠ وقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ولَمْ يَكُن لَّهُ ولِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ١١١ ﴾ [ ١١٠ ـ ١١١ ]
الآيات تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فجميع الأسماء الحسنى له وحده، وبأن تكون صلاته إليه صلاة خشوع ووقار وبين الجهر والإسرار، وبأن يعلن حمده وتكبيره له، فهو صاحب الملك الشامل الذي تنزه عن الولد والشريك المستغني عن الأولياء الذين يتخذهم الناس إذا ما خشوا البغي والذل. وقد جاءت الآيات في الوقت ذاته خاتمة قوية للسورة.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة كسبب لنزول الآيات، أو الآية الأولى بخاصة. فرووا أن الفقرة الأولى منها نزلت بسبب قول اليهود للنبي : إنك تقلل من ذكر الرحمان في القرآن، مع أن هذا الاسم كثير الورود في التوراة. ورووا مع ذلك أنها نزلت بسبب قول الكفار أو بعض زعمائهم : بأن محمدا يزعم أنه يدعو إلى إله واحد وهو يذكر الله والرحمن. ولا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة. ورووا أن فقرتها الثانية نزلت ؛ لأن الكفار كانوا حينما يسمعون القرآن من النبي يسبون القرآن ومن أنزله فأمر النبي فيها بالتوسط بين الجهر حتى لا يسمعه الكفار ولا يخافت ليسمعه المسلمون. وفي هذا حديث رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس١. ومع هذا فرووا عن ابن عباس أيضا أن النهي عن الجهر حتى لا يكون فيه مراءات للناس، وعن الإسرار والخفت حتى لا يكون فيه خوف من الناس. ورووا عن عائشة ومجاهد أن الصلاة في الفقرة بمعنى الدعاء، وأن بعض الأعراب كانوا إذا دعوا الله رفعوا أصواتهم فنهوا عن ذلك. ورووا أن أبا بكر كان يخفض صوته وعمر يرفعه في القراءة فقيل لهما في ذلك فقال الأول : أناجي ربي. وقال الثاني : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فنزلت الآية الأولى.
والروايات تقتضي أن تكون كل فقرة من فقرتي الآية الأولى نزلت لحدتها، وأن تكون نزلت منفصلة عن ما سبقها وما لحقها. والرواية المروية عن اليهود تقتضي أن تكون الآية مدنية. ورواية منع الجهر بالقرآن تفاديا عليهم في كل موقف من مواقف دعوته، وهذا من أسس مهمته. ومأمور به في آيات عديدة منها آيات في سورة النمل التي مرّ تفسيرها وهي [ ٩١ ـ ٩٢ ] ولم يمتنع من ذلك قط، وكان يقابل بقولهم إن هذا إلاّ أساطير الأولين. كما حكته آيات عديدة مرّ بعضها في السور التي فسرناها سابقا. وفي سورة الحج آية مهمة فيها حكاية موقف تهديدي للنبي ورد عليه بتهديد رهيب وهي هذه ﴿ وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وبِئْسَ الْمَصِيرُ ٧٢ ﴾ ثم استمر في تلاوة آيات القرآن بدون مبالاة تنفيذا لأمر ربه ومهمته منذرا حينا، منددا حينا، مقرعا حينا، مفصلا داعيا مبشرا حينا بدون انقطاع كما هو المستفاد من السور المكية جميعها بحيث يكون في كل ذلك دلالة حاسمة.
ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الأولى من الآية الأولى أنه كان في نفوس بعض المسلمين بعض التردد في صيغة دعاء الله تعالى وفيما إذا كان يجوز أن يذكر اسم الرحمن في مقام كلمة ( الله ) فأريد بها بيان ما هو جوهري في الأمر وهو الإخلاص لله والاتجاه له وحده. فله أحسن الأسماء، وبأيّها دعاه المخلص أجزأه. ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم صار يخفت في قراءته اتباعا لنهي آية سورة الأعراف هذه ﴿ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ﴾ فشكى المسلمون من عدم سماعهم القرآن منه فأمر في هذه الفقرة بالتوسط بين الجهر وخفت الصوت. هذا مع التنبيه إلى أننا نرجح أن الآية الأولى نزلت مع الآية الثانية، وأن الآيتين استمرار للسياق السابق، وكل ما في الأمر أن أولاهما تضمنت جوابا على ما كان يسأله أو يحتار فيه المسلمون، والله أعلم.

Icon