تفسير سورة الإسراء

حومد
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿سُبْحَانَ﴾ ﴿الأقصى﴾ ﴿بَارَكْنَا﴾ ﴿آيَاتِنَآ﴾
(١) - يُمَجِّدُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةُ، وَيُنَزِهُهَا عَنْ شِرْكِ مَنْ أَشْرَكَ، وَيُعَظِّمُ شَأْنَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَقَدْ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَيْلاً مِنْ مَكَّةَ (المَسْجِدِ الحَرَامِ)، إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ (المَسْجِدِ الأَقْصَى)، وَهُوَ المَسْجِدُ الذِي بَارَكَ اللهُ مَا حَوْلَهُ، مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَنَبَاتٍ.. لِيُرِيَ عَبْدَهُ مُحَمَّداً، مِنْ آيَاتِهِ العِظَامِ، مَا فِيهِ الدَّلِيلُ القَاطِعُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ لأَقْوَالِ العِبَادِ، البَصِيرُ بِأَحْوَالِهِمْ.
(كَانَ الإِسْرَاءُ قَبْلَ خَمْسِ سِنِينَ مِنَ الهِجْرَةِ، فَأَسْرَى اللهُ تَعَالَى بِمُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وِفْقاً لِمَا جَاءَ فِي الأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ).
(وَاخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ مَا إِذَا كَانَ الإِسْرَاءُ قَدْ تَمَّ بِبَدَنِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ. وَأَكْثَرُ الفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ أَسْرَي بِهِ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ، يَقْظَةً لاَ مَنَاماً. وَلَمَّا حَدَّثَ الرَّسُولُ قُرَيْشاً بِإِسْرَائِهِ اسْتَغْرَبُوا ذَلِكَ كَثِيراً، وَأَخَذُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ صِفَاتِ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَأَخَذَ يَصِفُهُ لَهُمْ، فَقَالُوا: أَمَّا النَّعْتَ فَصَحِيحٌ.
وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ بِبَدَنِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿سبحانالذي أسرى بِعَبْدِهِ﴾، فَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الأُمُورِ العِظَامِ، فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ لَمْ يَتَعَدَّ المَنَامَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيءٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظِماً، وَلَمَا ارْتَدَّتْ جَمَاعَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَنِ الإِسْلاَمِ، وَلَمَا بَادَرَتْ قُرَيْشٌ إِلَى تَكْذِيبِهِ، ثُمَّ إِنَّ عِبَارَةَ (عَبْدِهِ) تَدُلُّ عَلَى مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالجَسَدِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى عَنْ هَذَا الإِسْرَاءِ: ﴿مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى﴾ وَالبَصَرُ مِنَ آلاَتِ الذَّاتِ لاَ الرُّوحِ.
وَمَنْ آمَنَ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى التِي لاَ حُدُودَ لَهَا، لاَ يَسْتَعْظِمُ أَنْ يُسْرِيَ اللهُ بِرَسُولِهِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى بِجَسَدِهِ، لأنَّ الإِسْرَاءَ بِالنَّبِيِّ بِجَسَدِهِ هُوَ أَمَامَ قُدْرَةِ اللهِ فِي مِثْلِ السُّهُولَةِ التِي يُسْرَى بِهِ بِرُوحِهِ، وَلِذَلِكَ فَلاَ يَسْتَغْرِبْ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وُقُوعَ هَذا الحَادِثِ).
وَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبُوءَتَانِ لِنَبِيَّيْنِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ تُشِيرَ أُولاَهُمَا إِلَى أَنَّ سَيِّدَ الرُّسُلِ أُوْ رَسُولَ اللهِ سَيَزُورُ بَيْتَ المَقْدِسِ (الهَيْكَلَ) فَجْأَةً. وَتَقُولُ الأٌخْرَى إِنَّهُ سَيُعْرَجُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ لِيَمْثُلَ فِي حَضْرَةْ الرَّبِّ العَظِيمِ لِيَمْنَحَهُ المَجْدَ وَالسُّلْطَانَ لإِبَادَةِ الشِّرْكِ مِنَ الأَرْضِ. وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ هَذا الشَّرَفَ العَظِيمَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ هُوَ المَقْصُودُ بِالنَّبُوءَتَيْنِ.
﴿وَآتَيْنَآ﴾ ﴿الكتاب﴾ ﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾ ﴿إِسْرَائِيلَ﴾
(٢) - وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ عَلَى عَبْدِهِ مُوسَى (الكِتَابَ) وَجَعَلَهُ هَادِياً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ بِأَلاَّ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً، وَلاَ نَصِيراً، وَلاَ مَعْبُوداً (وَكِيلاً)، يَكِلُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ، وَيُعَوَِّلُونَ فِيهَا عَلَيْهِ.
(٣) - وَيُهِيبُ اللهُ تَعَالَى بِذُرِّيَّةِ مَنْ كَانُوا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ - وَيُرَادُ بِهِمْ هُنَا بَنُو إِسْرَائِيلَ - أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِأَبِيهِمْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الذِي كَانَ عَبْداً كَثِيرَ الشُّكْرَانِ لَهُ (شَكُوراً)، وَأَنْ يَقْتَدُوا بِهِ، كَمَا اقْتَدَى بِهِ المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ مِنْ أَسْلاَفِهِمْ.
﴿إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿الكتاب﴾
(٤) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَضَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ بِأَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، وَسَتَكُونُ لَهُمْ قُوَّةٌ وَسَيْطَرَةٌ، وَغَلَبٌ فِي الأَرْضِ، وَفَي كُلِّ مَرَّةٍ يَجْعَلُونَ فِيهَا القُوَّةَ وَالسَّيْطَرَةَ وَسِيلَةً لِلطُّغْيَانِ، وَالفَسَادِ فِي الأَرْضِ، يُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَنْ يَقْهَرُهُمْ، وَيُعَاقِبُهُمْ عِقَاباً شَدِيداً، وَيَسْتَبِيحُ حُرُمَاتِهِمْ، وَيُدَمِّرُهُمْ تَدْمِيراً.
(٥) - فَإِذَا حَانَ وَقْتُ العِقَابِ، عَلَى إِفْسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عِبَاداً مُؤْمِنِينَ مِنْ خَلْقِهِ، ذَوِي بَطْشٍ شَدِيدٍ فِي الحُرُوبِ، فَقَهَرُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَرَدَّدُوا خِلاَلَ بُيُوتِهِمْ وَمَساكِنِهِمْ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً، وَلاَ يَخَافُونَ عَلَيْهِمْ رِدَّةً. وَكَانَ وَعْدُ اللهِ وَمَا قَضَاهُ كَائِناً لاَ بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، كَمَا قَضَى اللهُ وَأَعْلَمَ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ حَوْلَ (العِبِادِ) الذِينَ سَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّهَا تَجْعَلُ هؤُلاَءِ مِنَ الأَقْوَامِ البَائِدَةِ (الآشُورِيِّينَ وَالكِلْدَانِيِّينَ وَالرُّومَانِ...) عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ تِلْكَ الأَقْوَامَ سَبَقَ لَهَا أَنْ أَذَاقَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الوَيْلاَتَ، وَدَمَّرَتْ مُلْكَهُمْ، وَشَرَّدَتْهُمْ فِي الأَرْضِ.
وَلَكِّنَ الأُسْتَاذَ مُحَمَّد مُتْوَلِّي الشِّعْرَاوِيَّ يَرَى أَنَّ العِبَادَ الذِينَ عَنَاهُمُ النَّصُّ هُمُ المُسْلِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ شُعُوبِ الأَرْضِ. وَيَدْعَمُ رَأْيَهُ بِمَا خُلاَصَتُهُ:
أ - اسْتَعْمَلَتِ الآيَةُ تَعْبِيرَ (فَإِذَا جَاءَ) ؛ (وَإِذَا) ظَرَفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، يَعْنِي أَنَّ الفِعْلَ المُحْكِيَّ عَنْهُ سَيَحْدُثُ بَعْدَ القَوْلِ الذِي تَضَمَّنَ لَفْظَةَ (إِذَا جَاءَ). وَهَذا يَعْنِي أَنَّ الأَمْرَ الذِي قَضَاهُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ سَيَقَعُ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ القُرْآنِيَّةِ التِي أَشَارَتْ إِلَى مَا قَضَاهُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقاً بِحَادِثٍ وَقَعَ قَبْلَهَا.
ب - اسْتَعْمَلَتِ الآيَةُ عِبَارَةَ (عِبَاداً لَنَا). وَعِبَادُ اللهِ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ، فِي التَّعْبِيرِ القُرْآنِي تَعْنِي أَنَّ القَوْمَ الذِينَ سَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَبِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كُتُبٍ، وَمَنْ أَرْسَلَ مِنْ رُسُلٍ وَأَنْبِيَاءٍ لِهِدَايَةِ البَشَرِ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ اليَوْمَ مَنْ تَجْتَمِعُ فِيهِمْ هَذِهِ الأَوْصَافُ غَيْرُ المُسْلِمِينَ.
كَمَا أَنَّ الأُمَمَ الخَالِيَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَها مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ الخَالِصِ.
ج - إِنَّ العِبَادَ الذِينَ سَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ فِي المَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ اليَهُودَ سَيَتَغَلَّبُونَ عَلَى هؤُلاَءِ العِبَادِ بَعْدَ المَرَّةِ الأًُولَى، ثُمَّ يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى الكَرَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعْدَ أَنْ يُمْعِنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَسَاداً فِي الأَرْضِ وَطُغْيَاناً. وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الأُمَمِ الخَالِيَّةِ بَقِيَّةٌ يُمْكِنُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَى أَسْلاَفِهَا المُؤْمِنِينَ أَيْضاً لِتَقُومَ عَنْهُمْ بِالانْتِقَامِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ.
وَيَرَى الأُسْتَاذُ مُحَمَّد مُتْوَلِّي الشَّعْرَاوِيّ أَنَّ اليَهُودَ كَانَ لَهُمْ سُلْطَانٌ فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ فَأَكْثَرُوا الفَسَادَ زَمَنَ الرَّسُولِ ﷺ، وَتَآمَرُوا عَلَى الرَّسُولِ وَالمُسْلِمِينَ، فَسَلَّطَ اللهُ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَأَخْرَجُوا البَاقِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ تَعَالَى فِي النَّصِّ قَهْرَ اليَهُودِ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى مِنْ قِبَلِ عِبَادِ اللهِ مُتَلاَزِماً مَعَ دُخُولِ هَؤُلاَءِ العِبَادِ المَسْجِدَ الأَقْصَى، وَلاَ بِحُدُوثِ ذَلِكَ فِي أَرْضِ فِلَسْطِينَ. وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّ المَسْجِدَ الأَقْصَى كَانَ، حِينَمَا قَهَرَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، تَحْتَ حُكْمِ الرُّومَانِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ فِي فِلَسْطِينَ سُلْطَانٌ وَلاَ كَيَانٌ مُتَمَيِّزٌ فِي ذَلِكَ الحِينِ.
2034
ثُمَّ يَبْتَعِدُ المُسْلِمُونَ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَتْرُكُونَ الأَخْذَ بِشَرِيعَتِهِمْ، وَتَتَفَرَّقُ كَلِمَتُهُمْ، فَيُدِيلُ اللهُ لِلْيَهُودِ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ يُمِدَّهُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، وَيَجْعَلَهُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً مِنْهُمْ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى.
ثُمَّ يَسْتَسْلِمُ اليَهُودُ إِلَى الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَسْلَكِهِمْ القَدِيمِ فِي الإِسَاءَةِ إِلَى عِبَادِ اللهِ، وَيَسْتَطِيلُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَعُودُ المُسْلِمُونَ إِلَى دِينِهِمْ، فَتَتَّحِدُ كَلِمَتُهُمْ، وَيَجْمَعُونَ قُوَاهُمْ، وَيُهَاجِمُونَ اليَهُودَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُمْ فَيَقْهَرُونَهُمْ، وَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ المَسْجِدَ الأَقْصَى لاَ يُنَازِعُهُمْ فِي دُخُولِهِمْ إِلَيْهِ مُنَازِعٌ (كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى بَعْدَ أَنِ احْتَلُّوا فِلَسْطِينَ وَطَرَدُوا الرُّومَانَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجُوا اليَهُودَ مِنَ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ)، وَيُدَمِّرُونَ مَا يَمْلِكُهُ اليَهُودُ تَدْمِيراً شَامِلاً.
وَإِذَا أَضَفْنَا إِلَى حُجَجِ الأُسْتَاذِ شَعْرَاوِي المُسْتَوْحَاةِ مِنَ النَّصِّ القُرْآنِيِّ الكَرِيمِ حَدِيثاً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ (رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ) عَنْ مُسْتَقْبَلِ العِلاَقَاتِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَاليَهُودِ، وَمَا سَيَكُونُ مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلِ اليَهُودِ قَتْلاً ذَرِيعاً لاَ يَبْقُونَ فِيهِ وَلاَ يَذَرُونَ، نَجِدُ أَنَّ الرَّأْيَ الذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أُسْتَاذُنا الجَلِيلُ يَقُومُ عَلَى سَنَدٍ مَتِينٍ. وَالحَدِيثُ الذِي رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ هُوَ التَّالِي:
" لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ المُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِيءَ اليَهُودِيُّ وَرَاءَ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذا يَهُوِدٌّي خَلْفِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلاَّ الغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ اليَهُودِ " (صَدَقَ رَسُولُ اللهِ).
2035
﴿وَأَمْدَدْنَاكُم﴾ ﴿بِأَمْوَالٍ﴾ ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ﴾
(٦) - حَتَّى إِذَا ذَاقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَيْلاَتَ القَهْرِ وَالذُّلِّ وَالغَلَبِ، رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ، فَجَمَعُوا شَمْلَهُمْ، وَأَصْلَحُوا أُمُورَهُمْ، وَاسْتَنْجَدُوا بِبَعْضِ عِبَادِ اللهِ الذِينَ لاَ يُدْرِكُونَ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ الحِينِ يَكُونُونَ قَدْ كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَتَزَايَدَ عَدَدُهُمْ، وَيَكُونَ أَعْدَاؤُهُمُ - العِبَادُ المُؤْمِنُونَ - قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنْهَجِ شَرِيعَتِهِمْ، فَيُعَاقِبُهُمُ اللهُ، وَيُدِيلُ لِلْيَهُودِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَنَّ اليَهُودَ عَادُوا إِلَى اللهِ تَائِبِينَ مُخْلِصِينَ، وَالْتَزَمُوا بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِمْ، وَإِنَّمَا لأَنَّ أَعَدَاءَهُمْ هُمُ الَّذِينَ ابْتَعَدُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَتَفَرَّقََتْ كَلِمَتُهُمْ، فَسَلَّطَ اليَهُودَ عَلَيْهِمْ (كَمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الإِصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ تَثْيِنَةِ الاشْتِرَاعِ).
﴿الآخرة﴾
(٧) - وَيُقَرِّرُ اللهُ تَعَالَى هُنَا القَاعِدَةَ الثَّابِتَةَ التِي لاَ تَتَغَيَّرُ أَبَداً، وَهِيَ أَنَّ عَمَلَ الإِنْسَانِ عَائِدٌ عَلَيْهِ بِنَتَائِجِهِ إِنْ خَيْراً فَخَيْراً، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً. فَإِنْ أَحْسَنَ الإِنْسَانُ كَانَ إِحْسَانُهُ لِنَفْسِهِ. يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيا يَدْفَعُ اللهُ عَنْهُ الأَذَى، وَيَرُدُّ كَيْدَ أَعْدَائِهِ إِلَى نُحُورِهِمْ، وَيَزِيدُهُ قُوَّةً. وَأَمَّا فِي الآخِرَةِ فَإِنَّ اللهَ يُثِيبُهُ عَلَى عَمَلِهِ بِالجَنَّةِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِ بِرِضْوَانِهِ.
فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ العِقَابِ عَلَى إِفْسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ فِي المَرَّةِ الثَّانِيَّةِ، فَإِنَّ الأَعْدَاءَ الذِينَ غَلَبَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْتَجْمِعُونَ قُوَاهُمْ، وَيَنْدَفِعُونَ لِعِقَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ المَرَّةَ المَسْجِدَ الأَقْصَى، وَيُذِيقُونَهُمْ أَنْوَاعاً مِنَ القَهْرِ وَالوَيْلاَتِ وَالإِذْلاَلِ، وَيَقْتُلُونَهُمْ قَتْلاً ذَرِيعاً، وَيُخَرِّبُونَ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَيْدِيهِمْ مِمَّا كَانَ يَمْلِكُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، حَتَّى لَتُرَى آثَارُ المَسَاءَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
﴿لِلْكَافِرِينَ﴾
(٨) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّهُ قَدْ يَرْحَمُهُمْ، وَيَصْرِفُ عَنْهُمْ عَدُوَّهُمْ، بَعْدَ المَرَّةِ الثَّانِيَةِ، إِذَا اسْتَفَادُوا مِنَ الدُّورُسِ وَالعِبَرِ، وَعَادُوا إلى طَرِيقِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَكَفُّوا عَنِ ارْتِكَابِ المَعَاصِي وَالفَسَادِ فِي الأَرْضِ، وَقَتْلِ الأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَيُهَدِّدُهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الإِفْسَادِ، عَادَ اللهُ إِلَى الإِدَالَةِ عَلَيْهِمْ، وَتَسْلِيطِ الأَعْدَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا.
(وَقَدْ سَلَّطَ اللهُ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَفَرَضُوا عَلَيْهِمُ الجِزْيَّةَ، وَأَذَاقُوهُمْ وَيْلاَتِ الحُرُوبِ).
وَيُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنَّ مَصِيرَ الكُفَّارِ وَالمُفْسِدِينَ وَاحِدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ العَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، التِي تَحْصُرُهُمْ جَمِيعاً، وَتُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلاَ يُفْلِتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
حَصِيراً - سِجْناً أَوْ مِهَاداً أَوْ فِرَاشاً.
﴿القرآن﴾ ﴿الصالحات﴾
(٩) - يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ، إِنَّهُ يَتَّصِفُ بِثَلاَثِ صِفَاتٍ:
- يَهْدِي لأَقْوَمِ الطُّرُقِ، وَأَوْضَحِ السُّبُلِ.
- إِنَّهُ يُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وِفْقَ مَا شَرَعَهُ اللهُ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً عِنْدَ رَبِّهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.
- إِنَّهُ يُنْذِرُ الكَافِرِينَ الذِينَ يَكْذِبُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَبِرِسَالَةِ رُسُلِهِ، وَبِالمَعَادِ يَوْمَ القِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَالجَزَاءِ.
هِيَ أَقْوَمُ - أَسَدُّ الطُّرُقِ، وَهِيَ مِلَّةُ الإِسْلاَمِ وَالتَّوْحِيدِ.
(١٠) - وَيُنْذِرُ اللهُ تَعَالَى الَّذِينَ لاَ يُصَدِّقُونَ بِالمَعَادِ فِي الأخِرَةِ، وَلاَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ عَلَى الأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، فَلاَ يَتَحَاشَوْنَ ارْتِكَابَ المَعَاصِي... بِأَنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الآخِرَةِ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَمَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الآثَامِ.
أَعْتَدْنَا - أَعْدَدْنَا.
﴿الإنسان﴾
(١١) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَجَلَةِ الإِنْسَانِ، وَدُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ بِالشَّرِّ حِينَ الغَضَبِ، كَمَا يُسَارِعُ إِلَى الدُّعَاءِ فِي الخَيْرِ، فَلَوِ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ لأَهْلَكَهُ وَأَهْلَكَ أَهْلَهُ. وَالَّذِي يَحْمِلُ الإِنْسَانَ عَلَى ذلِكَ هُوَ قَلَقُهُ، وَعَجَلَتُهُ، وَقِلَّةُ صَبْرِهِ.
(وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى: أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ طَلَباً لِشَيءٍ يُعْتَقَدُ أَنَّ فِيهِ خَيْرَهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبَ بَلاَئِهِ وَشَرِّهِ لِجَهْلِهِ بِحَالِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ عَجُولاً مُغْتَراً بِظَوَاهِرِ الأُمُورِ).
﴿الليل﴾ ﴿آيَتَيْنِ﴾ ﴿الليل﴾ ﴿فَصَّلْنَاهُ﴾
(١٢) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الهِدَايَةَ وَالإِرْشَادَ بِالقُرْآنِ، جَاءَ عَلَى ذِكْرِ الاسْتِدْلاَلِ بِآيَاتِ اللهِ التِي بَثَّهَا فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ، وَلَفْتِ الأَنْظَارِ إِلَيْهَا لِيَتَفَكَّرَ النَّاسُ فِيهَا، وَيَتَّعِظُوا، وَيَتَّقُوا رَبَّهُمْ، وَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَبِأَنَّهُ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ، تَنَزَّهَ عَنِ الشَّرِيكِ وَالوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ. فَقَالَ: إِنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ مِنْ آيَاتِهِ، فَجَعَلَ اللَّيْلَ مُظْلِماً، وَمَحَا الضِّيَاءَ مِنْهُ لتَسْكُنَ الخَلاَئِقُ فِيهِ، وَتَرْتَاحَ الأَبْدَانُ مِنْ عَنَاءِ العَمَلِ فِي النَّهَارِ. وَجَعَلَ النَّهَارَ مُبْصِراً مُضِيئاً، لِيَسْعَى النَّاسُ فِيهِ طَلَباً لِمَعَاشِهِمْ، وَتَصْرِيفِ أُمُورِهِمْ.
وَقَدْ خَالَفَ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، طُولاً وَقَصْراً، لِيَعْلَمَ النَّاسُ عَدَدَ السِّنِينَ، وِالحِسَابَ، لأَنَّهُ لَوِ اسْتَمَرَّ الضِّيَاءُ لَمَا عَرَفَ النَّاسُ مِقْدَارَ الوَقْتِ الذِي يَمُرُّ. وَكَذَلِكَ لَوْ جُعَلَ اللَّيْلَ مُسْتَمِرّاً، لَمَا عَرَفَ النَّاسُ مِنْهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ شَيءٍ، عَلَى نَحْوٍ مُفَصَّلٍ، لِيَعْلَمَ العِبَادُ مَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، فَتَقُومَ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً لِلْمُصَادَفَةِ.
فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ - خَلَقْنَا القَمَرَ مَطْمُوسَ النُّورِ مُظْلِماً.
آيَةَ النهار مُبْصِرَةً - الشَّمْسَ مُضِيئَةً مُنِيرَةً لِلإِبْصَارِ.
﴿إِنْسَانٍ﴾ ﴿أَلْزَمْنَاهُ﴾ ﴿طَآئِرَهُ﴾ ﴿القيامة﴾ ﴿كِتَاباً﴾ ﴿يَلْقَاهُ﴾
(١٣) - وَالإِنْسَانُ مُلْتَزِمٌا بِعَمَلِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْهُ. وَهَذا العَمَلُ مُلْتَصِقٌ بِالإِنْسَانِ، وَمُلاَزِمٌ لَهُ مُلاَزَمَةَ القِلاَدَةِ لِلعُنُقِ، لاَ يَنْفَكُ عَنْهُ بِحَالٍ، وَسَيُؤَاخِذُهُ اللهُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُخْرِجُ لَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ صَحِيفَةَ أَعْمَالِهِ كُلِّهَا، لاَ يَغِيبُ عَنْهَا عَمَلٌ صَغِيرٌ وَلاَ كَبِيرٌ، لِيُحَاسَبَ عَلَى هذِهِ الأَعْمَالِ جَمِيعِهَا.
(وَطَائِرُ الإِنْسَانِ هُنَا عَمَلُهُ الذِي سَبَّبَ الخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَكَانَتِ العَرَبُ تَزْجُرُ الطَّيْرَ، فَإِذَا طَارَ الطَّائِرُ يَمِيناً تَيَمَّنُوا وَتَفَاءَلُوا بِالخَيْرِ، وَإِنْ طَارَ شِمالاً تَشَاءَمُوا وَتَوَجَّسُوا خِيْفَةً مِنَ الشَّرِّ. وَالعَرَبِ تَضْرِبُ مَثَلاً لِلشَّيءِ الذِي يُلاَزِمُ الإِنْسَانَ وَلاَ يُفَارِقُهُ أَبَداً، فَتَقُولُ: أَلْزَمْتُهُ إِيَّاهُ فِي عُنُقِهِ).
﴿كِتَابَكَْ﴾
(١٤) - وَيُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ: إِقْرَأْ كِتَابَكَ الذِي يَحْوِي أَعْمَالَكَ كُلَّهَا، صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا، يَكْفِيكَ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ المُحَاسِبَ عَلَى نَفْسِكَ، وَقَدْ عَدَلَ مَعَكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيباً عَلَى نَفْسِكَ.
حَسِيباً - حَاسِباً وَعَادّاً أَوْ مُحَاسِباً.
(١٥) - مَنِ اسْتَقَامَ عَلَى طَرِيقِ الحَقِّ وَاتَّبَعَهُ، وَاتَّبَعَ النُّورَ الذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدُ ﷺ فِإِنَّهُ يَكُونُ قَدِ اهْتَدَى، وَتَكُونُ عَاقِبَةُ هُدَاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ عَنِ الحَقِّ، وَزَاغَ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ، فَإِنَّمَا يَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَيَعُودُ وَبَالُ سَعْيهِ عَلَيْهِ هُوَ، وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ، وَلاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِ، يَدْعُونَهُ إِلَى الحَقِّ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ حِينَ قَالَ: اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَعَلَيَّ وِزْرُكُمْ).
لا تَزِرُ وَازِرَةٌ - لاَ تَحْمِلُ نَفْسٌ آثِمَةٌ.
﴿فَدَمَّرْنَاهَا﴾
(١٦) - فِي قِرَاءَةٍ (أَمَرْنَا) وَجْهَانِ:
(أَمَرْنَا بِالتَّخْفِيفِ - وَهُوَ المَشْهُورُ فِي قِرَاءَتِهَا: فَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّ المَعْنَى هُوَ أَنَّهُ إِذَا دَنَا تَعَلُّقِ إِرَادَتِنَا بِإِهْلاَكِ قَرْيَةٍ بِعَذَابِ الاسْتِئْصَالِ لِمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ المَعَاصِي، وَلَمَّا دَنَّسَتْ بِهِ نَفْسَهَا مِنَ الآثَامِ، لَمْ يُعَاجِلْهَا اللهُ تَعَالَى بِالعُقُوبَةِ، بَلْ يَأْمُرُ مُتْرَفِيهَا بِالطَّاعَةِ فَإِذَا فَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَتَمَرَّدُوا، حَقَّ عَلَيْهِمُ العَذَابُ لارْتِكَابِهِمُ الكَبَائِرَ وَالفَوَاحِشَ، فَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى بِتَدْمِيرِ تِلْكَ القَرْيَةِ. (وَخَصَّ اللهُ تَعَالَى المُتْرَفِينَ بِالذِّكْرِ لِمَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ مِنْ أَنَّ العَامَّةَ تُقَلِّدُهُمْ وَتَكُونُ تَبَعاً لَهُمْ، فِيمَا يَفْعَلُونَ).
- وَمِنْ قَائِلٍ بَلْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: أَنَّ اللَه يُسَخِّرُهُمْ لِفِعْلِ الفَوَاحِشِ فَيَسْتَحِقُّونَ العُقُوبَةَ.
- وَأَمَّرْنا - بِتَشْدِيدِ المِيمِ - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ مَعْنَاهَا سَلَّطْنَا شِرارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ. وَهذا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا﴾.
- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضاً: إِنَّ مَعْنَى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا)، أَكْثَرْنَا عَدَدَهُمْ فَيُؤَدّي ذلِكَ إِلى انْتِشَارِ الفِسْقِ وَالفَسَادِ وَالكُفْرِ، فَيُهْلِكُكُم اللهُ بِالعَذَابِ.
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا - أَمَرْنَا مُنَعَّمِيهَا بِطَاعَةِ اللهِ.
فَفَسَقُواْ فِيهَا - فَتَمَرَّدُوا وَعَصَوْا وَخَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ.
فَدَمَّرْنَاهَا - اسْتَأْصَلْنَاهَا وَمَحَوْنا آثَارَهَا.
(١٧) يُنْذِرُ اللهُ الكُفَّارَ مِنْ قُرَيشٍ، الذِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُ مُحَمَّداً ﷺ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ عَذَابُهُ، عَلَى مَا يَفْعَلُونَ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ أَهْلَكَ أُمَماً مِنَ المُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، وَإِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَيْسُوا أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِمَّنْ أَهْلَكَهُمْ، فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ العُقُوبَةَ بِالأَحْرَى وَالأَوْلَى، لأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَاللهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ.
القُرُونِ - الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ السَّالِفَةِ.
﴿يَصْلاهَا﴾
(١٨) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ يَصِلُ إِلَى الدُّنْيا وَمَا فِيهَا كُلُّ مَنْ أَرَادَهَا، وَإِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهَا مَنْ أَرَادَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ، وَبِالقَدْرِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ لَهُ، وَفِي الدَّارِ الآخِرَةِ يَكُونُ مَصِيرُهُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَيَدْخُلُهَا حَتَّى تَغْمُرَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ (يَصْلاهَا)، وَهُوَ مَذْمُومٌ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِ وَتَصَرُّفِهِ، إِذْ اخْتَارَ الدُّنْيا الفَانِيَةَ عَلَى الآخِرَةِ البَاقِيَةِ، وَهُوَ مُبْعَدٌ حَقِيرٌ مُهَانٌ (مَدْحُوراً). وَفِي الحَدِيثِ " الدُّنْيا دَارُ مَنْ لاَ دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لاَ مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ " (أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعاً).
يَصْلاهَا - يَدْخُلُهَا أَوْ يُقَاسِي حَرَّهَا.
مَّدْحُوراً - مَطْرُوداً مُبْعَداً مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.
﴿الآخرة﴾ ﴿فَأُولَئِكَ﴾
(١٩) - وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ وَسُرُورٍ، وَرِضْوَانٍ مِنَ اللهِ، وَطَلَبَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهُوَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَكَانَ قَلْبُهُ مُؤْمِناً مُصَدِّقاً بِالثَّوَابِ وَالجَزَاءِ وَاليَوْمَ الآخِرِ، فَأُولئِكَ يَشْكُرُ اللهُ سَعْيَهُمْ وَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ دُخُولُ الجَنَّةِ.
(٢٠) - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ: الذِينَ أَرَادُوا الدُّنْيا وَزِينَتَها، وَالذِين أَرَادُوا الآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا، وَسَعَوْا لَهَا سَعْيَها، يَمُدُّهُمُ اللهُ فِيمَا هُمْ فِيهِ (مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ)، فَهُوَ المُتَصَرِّفُ الحَاكِمُ الذِي لاَ يَجُوزُ، فَيُعْيِطي كُلاًّ مِنْهُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا المِقْدَارَ الذِي يَقْتَضِيهِ صَلاحُهُ، ثُمَّ تَخْتَلِفُ الأَحْوَالُ: فَفَرِيقُ العَاجِلَةِ يُصْرَفُ إِلَى جَهَنَّمَ، وَفَرِيقُ الآجِلَةِ يَصِيرُ إِلَى الجَنَّةِ. وَعَطَاءُ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَهُ أَوْ يَرُدَّهُ أَوْ يُنْقِصَ مِنْهُ.
كُلاًّ نُمِدُّ - نَزِيدُ مِنَ العَطَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
مَحْظُوراً - مَمْنُوعاً عَمَّنْ يُرِيدُهُ اللهُ.
﴿وَلَلآخِرَةُ﴾ ﴿دَرَجَاتٍ﴾
(٢١) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ فَضَّلَ النَّاسَ، بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فِي الدُّنْيا: فِي المَالِ وَالجَمَالِ وَالحَيَاةِ وَالعَمَلِ وَالأَعْمَارِ، لِحِكْمَةٍ وَأَسْبَابٍ اقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ، وَإِنَّ تَفَاوُتَهُمْ فِي الآخِرَةِ سَيَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ تَفَاوُتِهِمْ فِي الدُّنْيا، وَسَيَكُونُ تَفَاضُلُهُمْ فِي الآخِرَةِ أَكْبَرَ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي الدُّنْيا.
﴿آخَرَ﴾
(٢٢) - وَيُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى المُكَلَّفِينَ مِنَ الأُمَّةِ فَيَقُولُ لَهُمْ: لاَ تَجْعَلْ أَيُّهَا الإِنْسَانُ للهِ شَرِيكاً وَأَنْتَ تَعْبُدُهُ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ قَعَدْتَ مَذْمُوماً عَلَى إِشْرَاكِكَ بِرَبِّكَ، مَخْذُولاً لاَ يَنْصُرُكَ اللهُ، وَيَكِلُكَ إِلَى مَنْ عَبَدْتَهُ، وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً، وَلاَ يَمْلِكُ لَكَ أَنْتَ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً.
﴿وبالوالدين﴾ ﴿إِحْسَاناً﴾
(٢٣) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ (وَقَضَى رَبُّكَ - يَعْنِي أَمَرَ رَبُّكَ وَوَصَّى)، وَوَصَّى اللهُ المُؤْمِنِينَ بِالإِحْسَانِ إِلَى الوَالِدَيْنِ، فَإِذَا بَلَغَا الكِبَرَ، أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، عِنْدَ أَبْنَائِهِمَا، فَعَلَى الأَبْنَاءِ أَلاَّ يُسْمِعُوهُمَا قَوْلاً سَيِّئاً حَتَّى وَلاَ تَأَفُّفاً (وَأُفٍّ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الضَّجَرِ وَالضِّيقِ)، وَيَجِبُ أَنْ لاَ يَنْتَهِرُوهُمَا، وَأَنْ لاَ يَصْدُرَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمَا فِعْلٌ قَبِيحٌ يَدُلُّ عَلَى سُوءِ الأَدَبِ. وَأَمَرَ اللهُ الأَبْنَاءَ بِالإِحْسَانِ فِي القَوْلِ إِلى الأَبَوَيْنِ وَتَوْقِيرِهِمَا، وَبِاسْتِعْمَالِ الكَلاَمِ الطَّيِّبِ الكَرِيمِ فِي مُخَاطَبَتِهِمَا (فَلاَ نِعْمَةَ تَصِلُ إِلَى الإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الخَالِقِ ثُمَّ نِعْمَةِ الأَبَوَيْنِ).
قَضَى رَبُّكَ - أَمَرَ وَأَلْزَمَ وَحَكَمَ.
أُفٍّ - كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ وَتَبَرُّمٍ.
لا تَنْهَرْهُمَا - لاَ تَزْجُرْهُمَا عَمَّا لا يُعْجِبُكَ.
قَوْلاً كَرِيماً - حَسَناً لَيِّناً جَمِيلاً.
(٢٤) - وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى الأَبْنَاءَ بِالتَّوَاضُعِ للأَبَوَيْنِ فِي تَصَرُّفِهِمْ مَعَهَمُا، حَتَّى يَبْدُو الأَبْنَاءَ وَكَأَنَّهُمْ أَذِلاَّءُ مِنْ شِدَّةِ الرَّحْمَةِ، لاَ يَرُدُّونَ لَهُمَا طَلَباً، وَلاَ يَرْفُضُونَ لَهُمَا أَمْراً. ثُمَّ أَمْرَ الأَبْنَاءَ بِالدُّعَاءِ لِلأَبَوَيْنِ، وَالتَّرَحُّمْ عَلَيْهِمَا، جَزَاءَ مَا احْتَمَلاَه فِي تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ مِنْ عَنَاءٍ وَمَشَقَّةٍ وَعَنَتٍ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأَبْعَدَهُ اللهَ وَأَسْحَقَهُ "). (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ).
﴿صَالِحِينَ﴾ ﴿لِلأَوَّابِينَ﴾
(٢٥) - رَبُّكُمْ أَيُّها النَّاسُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ مِنْ تَعْظِيمِكُمْ أَمْرَ آبَائِكُمْ وَأُمَهَاتِكُمْ، وَالبِرِّ بِهِمْ، وَمِنَ الاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِهِمْ، وَالعُقُوقِ لَهُمْ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَنِ ذلِكَ وَسَيِّئِهِ، فَاحْذَرُوا أَنْ تُضْمِروا لَهُمْ سُوءاً، أَوْ تَجْعَلُوا لَهُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عُقُوقاً، فَأَنْتُمْ إِنْ أَصْلَحْتُمْ نِيَّاتِكُمْ فِيهِمْ، وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ البِرِّ بِهِمْ، بَعْدَ هَفْوَةٍ كَانَتْ مِنْكُمْ، أَوْ زَلَّةٍ فِي وَاجِبٍ لَهُمْ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَكُمْ مَا فَرَطَ مِنْكُمْ، فَهُوَ غَفَّارٌ لِمَنْ يَتُوبُ مِنْ ذَنْبِهِ، وَيَرْجِعُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَى طَاعَتِهِ.
لِلأَوَّابِينَ - لِلتَّوَابِينَ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ.
﴿وَآتِ﴾
(٢٦) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بِرَّ الوَالِدَيْنِ، عَطَفَ عَلَى ذِكْرِ الإِحْسَانِ إِلَى الأَقَارِبِ، وَإلى صِلَةِ الأَرْحَامِ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَالمَسَاكِينِ، وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ العَابِرِينَ، الَّذِينَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " أُمُّكَ وَأَبُوكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ ").
(وَفِي الحَدِيثِ أَيْضاً: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ").
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالإِنْفَاقِ نَهَى عَنِ الإِسْرَافِ فِيهِ، وَحَثَّ عَلَى الاعْتِدَالِ (وَلاَ تُبْذِّرْ تَبْذِيراً).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التَّبْذِيرُ هُوَ الإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ أَنْفَقَ الإِنْسَانُ مَالَهُ كُلَّهُ فِي أَوْجِهِ الحَقِّ لَمْ يَكُنْ مُبَذِراً، وَإِذَا أَنْفَقَ مُدّاً فِي غَيْرِ حَقٍّ كَانَ مُبَذِراً.
﴿إِخْوَانَ﴾ ﴿الشياطين﴾ ﴿الشيطان﴾
(٢٧) - وَالمُبَذِّرُونَ هُمْ قُرَنَاءَ الشَّيَاطِينَ فِي السَّفْهِ وَالتَّبْذِيرِ وَتَرْكِ طَاعَةِ اللهِ، وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ كَفُوراً بِنِعْمَةِ رَبِّهِ، جَحُوداً بِهَا، لأَنَّهُ أَنْكَرَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَتِهِ.
(وَتَقُولُ العَرَبُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ لاَزَمَ سُنَّةَ قَوْمٍ، وَاتَّبَعَ أَثَرَهُمْ هُوَ أَخُوهُمْ).
(٢٨) - فَإِذَا سَأَلَكَ أَقَارِبُكَ، وَمَنْ أَمَرَكَ اللهُ بِإِعْطَائِهِمْ، وَلَيْسَ لَدَيْكَ شَيءٌ تُعْطِيهِم إِيَّاهُ، وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ لِضِيقِ اليَدِ، وَفُقْدَانِ مَا تُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، فَعِدْهُمْ وَعْداً لَيِّناً جَمِيلاً، تَطِيبُ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ إِذَا جَاءَكَ رِزْقٌ فَسَتَصِلُهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ.
(٢٩) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَىعِبَادَهُ بِالاقْتِصَادِ فِي العَيْشِ، وَيَنْهَى عَنِ السَّرَفِ، فَيَقُولُ: لاَ تَكُنْ أَيًّهَا الإِنْسَانُ بَخِيلاً مَنُوعاً لاَ تُعْطِي أَحَداً شَيْئاً، وَلاَ تُسْرِفْ فِي الإِنْفَاقِ فَتُعْطِي فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَإِذَا بَخِلْتَ قَعْدَتَ مَلُوماً يَلُومُكَ النَّاسُ عَلَى البُخْلِ وَيَذمُّونَكَ، وَإِذَا بَسَطْتَ يَدَكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ افْتَقَرْتَ وَقَعَدْتَ بِلاَ شَيءٍ تُنْفِقُهُ، فَتَكُونُ كَالحَسِيرِ الكَلِيلِ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالفُجُورِ فَفَجَرُوا "). (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالحَاكِمُ).
يَدَكَ مَغْلُولَةً - كِنَايَةٌ عَنِ الشُّحِّ.
تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ - كِنَايَةٌ عَنِ التَّبْذِيرِ وَالإِسْرَافِ.
مَحْسُوراً - نَادِماً، أَوْ مُنْقَطِعاً بِكَ نَدَماً. وَالدَّابَّةُ الحَسِيرُ - التِي تَتَوَقَّفُ عَنِ السَّيْرِ كَلالاَ وَإِعْيَاءً.
(٣٠) - إِنَّ رَبَّكَ أَيُّها الرَّسُولُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ، وَيُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ، لِمَا لَهُ مِنَ الحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ خَبِيرٌ بِعِبَادِهِ، فَيَعْرِفُ مَنْ يُصْلِحُهُ الغِنَى فَيُغْنِيهِ، وَمَنْ يُصْلِحُهُ الفَقْرُ.. وَهُوَ بَصِيرٌ بِتَدْبِيرِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ الفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لأَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإٍِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ الغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ ").
يَقْدِرُ - يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ لِحِكْمَةٍ.
﴿أَوْلادَكُمْ﴾ ﴿إِمْلاقٍ﴾
(٣١) - وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَوْفَ أَنْ تَفْتَقِرُوا إِذَا أَنْفَقْتُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ بَعْضُ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ، إِذْ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ وَهُنَّ أَحْيَاءٌ. فَاللهُ تَعَالَى مُتَكَفِّلٌ بِرِزْقِهِمْ وَرِزْقِكُمْ مَعاً، وَقَتْلُهُمْ فِيهِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَخَطِيئَةٌ كَبِيرَةٌ.
خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ - خَوْفَ فَقْرٍ وَفَاقَةٍ.
خِطْئاً كَبِيراً - إِثْماً عَظِيماً.
﴿فَاحِشَةً﴾
(٣٢) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنْ مُقَارَفَةِ الزِّنَى، وَمُبَاشَرَةِ أَسْبَابِهِ وَدَوَاعِيهِ، فَهُوَ فِعْلَةٌ ظَاهِرَةُ القُبْحِ (فَاحِشَةً)، وَبِئْسَ طَرِيقاً وَمَسْلَكاً (سَاءَ سَبِيلاً)، لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلاَطِ الأَنْسَابِ، وَفَسَادِ العَلاَقَةِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، لِضَيَاعِ الثِّقَةِ الوَاجِبِ تَوَفُّرُهَا لاطْمِئْنَانِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " مَا مِنْ ذَنْبٍ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ نُطْفَةٍ يَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحْمٍ لاَ يَحِلُّ لَهُ "). (أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيا عَنِ الهَيْثَمْ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ مَرْفُوعاً).
﴿سُلْطَاناً﴾
(٣٣) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرِعِيٍّ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " لَزَوَالُ الدُّنْيا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ "). (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، وَفِي الحَدِيثِ أَيْضاً " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٌ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالزَّانِي المُحْصنِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ، المُفَارِقِ لِلجَمَاعَةِ " (وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ).
ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ يُوجِبُ قَتْلَهُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً وَسَلَّطَهُ عَلَى القَاتِلِ، إِنْ شَاءَ قَتْلَهُ قوَداً، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَأَخَذَ الدِّيةَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ بِغَيْرِ دِيَةٍ.
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى وَلِيَّ المَقْتُولِ بِأَلاَّ يَتَجَاوَزَ الحَدَّ المَشْرُوعَ بِأَنْ يَقْتُلَ اثْنَيْنِ مُقَابِلَ وَاحِدٍ، أَوْ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ غَيْرِ القَاتِلِ، كَإِخْوَتِهِ وَأَقْرِبَائِهِ. وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ وَلِيَّ المَقْتُولِ مَنْصُورٌ عَلَى القَاتِلِ، بِأَنْ أَوْجَبَ لَهُ القِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ وَأَمَرَ الحُكَّامَ بِأَنْ يُعِينُوهُ فِي اسْتِيفَائِهِ حَقَّهُ.
سُلْطَاناً - تَسَلُّطاً عَلَى القَاتِلِ بِالقَصَاصِ أَوِ الدِّيَةَ.
(٣٤) - وَبَعْدَ أَنْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ إِتْلاَفِ الأَنْفُسِ، نَهَى عَنْ إِتْلاَفِ الأَمْوَالِ، وَأَحَقُّ الأَمْوَالِ بِالرِّعَايَةِ مَالُ اليَتِيمِ، فَبَدَأَ اللهُ تَعَالَى بِدَعْوَةِ المُؤْمِنِينَ إِلَى المُحَافَظَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَلاَ تَتَصَرَّفُوا بِمَالِ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالطَّرِيقَةِ التِي هِيَ أَحْسَنُ الطُّرُقِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ حِفْظِهِ وَتَثْمِيرِهِ لأَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ تَدْبِيرِ مَالِهِ، عَاجِزٌ عَنِ الذَّوْدِ عَنْهُ، وَالجَمَاعَةُ المُسْلِمَةُ مُكَلَّفَةٌ بِرِعَايَةِ اليَتِيمِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَالقُدْرَةُ عَلَى العِنَايَةِ بِمَالِهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَبِمَا أَنَّ رِعَايَةَ مَالِ اليَتِيمِ وَشَخْصِهِ عَهْدٌ عَلَى الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ، لِذَلِكَ أَلْحَقَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الوَفَاءَ بِالعَهْدِ إِطْلاَقاً، وَحَثَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ يَسْأَلُ عَنِ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ وَيُحَاسِبُ عَلَيْهِ مَنْ يَنْكُثُ بِهِ وَيَنْقُضُهُ.
يَبْلُغَ أَشُدَّهُ - قُدْرَتَهُ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ وَرُشْدِهِ فِيهِ.
(٣٥) - وَالوَفَاءُ بِالْكَيْلِ وَالاسْتِقَامَةِ فِي الوَزْنِ هُمَا مِنْ أَمَانَاتِ التَّعَامُلِ، يَسْتَقِيمُ بِهِمَا التَّعَامُلُ فِي الجَمَاعَةِ، وَتَتَوَافَرُ بِهِمَا الثِّقَةُ فِي النُّفُوسِ، وَلِذلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ المُؤْمِنِينَ بِإِيفَاءِ الكَيْلِ وَالمِيزَانِ وَإِتْمَامِهِمَا مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلاَ تَطْفِيفٍ، وَبِأَنْ يَزِنُوا بِمِيزَانٍ عَادِلٍ سَلِيمٍ مَضْبُوطٍ (المُسْتَقِيمِ).
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى إِنَّ الوَفَاءَ بِالعَهْدِ وَإِيفَاءِ الكَيْلِ وَالوَزْنِ خَيْرٌ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكْثِ بِالعَهْدِ، وَبَخْسِ النَّاسِ حَقَهُمْ فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمُنْقَلَباً فِي الآخِرَةِ.
بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ - بِالمِيزَانِ العَدْلِ المَضْبُوطِ الصَّحِيحِ.
أَحْسَنُ تَأْوِيلاً - أَحْسَنُ مَالاً وَعَاقِبَةً.
﴿أولئك﴾ ﴿مَسْؤُولاً﴾
(٣٦) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى العِبَادَ عَنِ القَوْلِ بِلاَ عِلْمٍ، وَبُدُونِ تَثَبُّتٍ، فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الحَدِيثِ فِي أَمْرٍ عَلَى الظَّنِّ وَالشُّبْهَةِ وَالتَّوَهُّمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ بِمَا رَأَتْ عَيْنَاكَ، وَسَمِعَتُهُ أُذُنَاكَ، وَوَعَاهُ قَلْبُكَ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ "). وَيَقُولُ تَعَالَى لِلعِبَادِ إِنَّهُ سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعَمَّا اجْتَرَحَتْهُ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْ هَذِهِ الجَوَارِحِ.
لاَ تَقْفُ - لاَ تَتْبَعْ.
(٣٧) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنِ التَّجّبُّرِ، وَالتَّبَخْتُرِ فِي المَشْيَةِ، كَمَا يَفْعَلُ الجَبَّارُونَ، فَيَقُولُ تَعَالَى: وَلاَ تَمْشِ أَيُّها الإِنْسَانُ فِي الأَرْضِ مُتَكَبِّراً مُتَخَايِّلاً مَزْهُوّاً بِقُوَّتِكَ فَأَنْتَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ التِي تَمْشِي عَلَيْهَا، بِشِدَّةِ وَطْئِكَ عَلَيْهَا بِقَدَمَيْكَ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطَاوِلَ الجِبَالَ، وَلاَ أَنْ تَبْلُغَ طُولَ قِمَمِهَا.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقِيرٌ، وَعِنْدَ النَّاسِ كَبِيرٌ ").
مَرَحاً - فَرَحاً وَبَطَراً وَاخْتِيَالاً وَافْتِخَاراً.
(٣٨) - لَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ عَنْ أُمُورٍ، كَمَا أَمَرَ بِأُمُورٍ، وَجَمِيعِ مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ (وَهُوَ سَيِّئُهُ) : مِنَ الإِشْرَاكِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالتَّبْذِيرِ وَالتَّأَفُفِ مِنَ الوَالِدَيْنِ، وَغَلِّ اليَدِ بُخْلاً، وَقَتْلِ الأَبْنَاءِ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ، وَالمَشْيِ مَرَحاً... هُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللهِ مَمْقُوتٌ.
﴿آخَرَ﴾
(٣٩) - وَهَذا الذِي أَمْرَناَكِ بِهِ مِنَ الأَخْلاَقِ الحَسَنَةِ، وَنَهَيْنَاكَ عَنْهُ مِنَ الصِّفَاتِ الذَمِيمَةِ، هُوَ مِمَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ياَ مُحَمَّدُ مِنْ فِقْهِ الدِّينِ، وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِ، وَمِنَ الحِكَمِ فِي تَشْرِيعِهِ لِتَأْمُرَ النَّاسَ بِهِ. وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ عَاقِبَتُكَ نَارَ جَهَنَّمَ، فَتَلُومَ نَفْسِكَ وَيَلُومَكَ اللهُ وَالخَلْقُ (مَلُوماً) وَتَكُونَ مُبْعَداً وَمَطْرُوداً مِنْ كُلِّ خَيْرٍ (مَدْحُوراً).
(وَالمَقْصُودُ بِهَذا الخِطَابِ الأُمَّةِ الإِسْلاَمِيَّةُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ، فَهُوَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ مَعْصُومٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ ").
مَّدْحُوراً - مُبْعَداً مِنْ رَحَمَةِ اللهِ.
﴿أَفَأَصْفَاكُمْ﴾ ﴿الملائكة﴾ ﴿إِنَاثاً﴾
(٤٠) - يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُشْرِكِينَ الذِينَ زَعَمُوا أَنَّ المَلاَئِكَةَ هُمْ إِنَاثٌ، وَأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللهِ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ. فَقَالَ تَعَالَى مُنْكِراً عَلَيْهِمْ زَعْمَهُمْ هَذا: أَخَصَّكُمُ اللهُ بِالذُّكُورِ، وَاخْتَارَ لِنَفْسِهِ البَنَاتَ حَسْبَمَا زَعَمْتُمْ، وَأَنْتُمْ لاَ تَرْضَوْنَ الإِنَاثَ لأَنْفُسِكُمْ، فَتَجَعَلُونَ لَهُ مَا لاَ تَرْضَوْنَ لأَنْفُسِكُمْ؟ إِنَّكُمْ أَيُّهَا المُشْرِكُونَ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً فِي بَشَاعَتِهِ فِي نِسْبَةِ الوَلَدِ للهِ، ثُمَّ فِي خَصِّ اللهِ بِالإِنَاثِ.
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ - أَفْضَّلَكُمْ رَبُّكُمْ فَخَصَّكُمْ؟
﴿القرآن﴾
(٤١) - وَلَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذا القُرْآنِ الآيَاتِ وَالحُجَجِ، وَضَرَبْنَا لِلنَّاسِ الأَمْثَالَ، وَحَذَّرْنَاهُمْ وَأَنْذَّرْنَاهُمْ، لِيَذَّكَّرُوا، وَيَتَّعِظُوا، فَيَقِفُوا عَلَى بُطْلاَنِ مَا يَقُولُونَ، وَلَكِنَّهُمْ مَعْ ذَلِكَ كُلِّهِ لاَ يَتَّعِظُونَ، وَلاَ يَتَذَكَّرُونَ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الآيَاتِ وَالنَّذُرِ، بَلْ لاَ يَزِيدُهُمُ التَّذْكِيرُ إِلاَّ نُفُوراً وَبُعْداً عَنِ الحَقِّ.
صَرَّفْنَا - كَرَّرْنَا القَوْلَ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ.
نُفُوراً - تَبَاعُداً وَإِعْرَاضاً عَنِ الحَقِّ.
﴿آلِهَةٌ﴾
(٤٢) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الشُّفَعَاءَ وَالأَنْدَادَ، فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ للهِ شُرَكَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، العَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى: لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ، وَأَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى تُعْبَدُ لِتُقَرِّبَ إِلَيْهِ، وَيَبْتَغُونَ إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَالقُرْبَةَ، فَاعْبُدُوهُ أَنْتُمْ وَحْدَهُ، كَمَا يَعْبُدُهُ مِنْ دُوْنِهِ، وَلاَ حَاجَةَ لَكُمْ إِلَى مَعْبُودٍ يَكُونُ وَسِيطاً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَاللهُ لاَ يُحِبُّ ذَلِكَ.
(وَقِيلَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: لَطَلَبَ هَؤُلاَءِ الآلِهَةُ طَرِيقاً يَصِلُونَ مَعَهُ إِلَى صَاحِبِ المُلْكِ المُطْلَقِ لِيُنَازِعُوهُ عَلَيْهِ).
لاَّبْتَغَوْاْ - لَطَلَبُوا.
سَبِيلاً - بِالمُطَالَبَةِ وَالمُمَانَعَةِ أَوْ بِالتَّقَرُّبِ.
﴿سُبْحَانَهُ﴾ ﴿وتعالى﴾
(٤٣) - ثُمَّ نَزَّهَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ، وَقَدَّسَهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، فَقَالَ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مَعَهُ آلِهَةٌ أُخْرَى، بَلْ هُوَ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَدٌ.
﴿السماوات﴾
(٤٤) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ تُقَدِّسُهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، وَتُنَزِهُهُ وَتُعَظِّمُهُ وَتُجِلُّهُ عَمَّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ، وَتَشْهَدُ لَهُ بَالرُّبُوبِيَّةِ وَالوَحْدَانِيَّةِ، وَمَا مِنْ شَيءٍ فِي الوُجُودِ إِلاَّ يُسَبِحُ بِحَمْدِهِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لاَ يَفْهَمُونَ تَسْبِيحَهُمْ، لأَنَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ لُغَةً، وَوَسِيلَةً لِلتَّعْبِيرِ عَنْ تَسْبِيحِهِ رَبَّهُ. وَكَانَ اللهُ حَلِيماً لاَ يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالعُقُوبَةِ، بَلْ يُؤَجِّلَهُ وَيُنْظِرَهُ، فَإِنْ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ مُسْتَغْفِراً غَفَرَ لَهُ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَغَيِّهِ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
﴿القرآن﴾ ﴿بالآخرة﴾
(٤٥) - وَإِذَا قَرَأْتَ، يَا مُحَمَّدَ، القُرْآنَ عَلَى هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ، جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَاباً مَسْتُوراً عَنِ الأَبْصَارِ، يَمْنَعُ وُصُولَ الهُدَى إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَاقْتِرَافِهِمِ المُنْكَرِ وَالمَعَاصِي، التِي تَجْعَلُ القُلُوبَ مُظْلِمَةً، وَتَضَعُ عَلَيْهَا أَغْشِيَّةً تَحْجِبُ عَنْهَا الهُدَى.
حِجَاباً مَسْتُوراً - حِجَاباً سَاتِراً، أَوْ مَسْتُوراً عَنِ الحِسِّ.
﴿آذَانِهِمْ﴾ ﴿القرآن﴾ ﴿أَدْبَارِهِمْ﴾
(٤٦) - وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَّةً (أَكِنَّةً) تَغْشَى عَلَيْهَا فَلاُ يَفْقَهُونَ مِنَ القُرْآنِ الذِي تَقْرَؤُهُ شَيْئاً، وَجَعْلَنَا فِي آذَانِهِمْ صَمَماً ثَقِيلاً يَمْنَعُهُمْ مِنَ السَّمْعِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَإِذَا تَلَوْتَ مِنَ القُرْآنِ مَا يَتَّحَدَّثُ عَنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى أَدْبَرُوا رَاجِعِينَ نَافِرِينَ مِنْهُ، لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ سَمَاعَ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ: اللاَّتِ وَالعُزَّى...
أَكِنَّةً - أَغْطِيَّةً كَثِيرَةً مَانِعَةً.
وَقْراً - صَمَماً وَثِقَلاً فِي السَّمْعِ عَظِيماً.
﴿الظالمون﴾
(٤٧) - وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالوَجْهِ الذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِلَى القُرْآنِ، وَهُوَ الهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالتَّكْذِيبِ بِهِ حِينَ اسْتِمَاعِهِمْ إِلَيْكَ، وَأَعْلَمُ بِمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ وَيَتَسَارُّونَ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: مَجْنُونٌ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ، كَاهِنٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: رَجُلٌ مَسْحُورٌ.
هُمْ نَجْوَى - يَتَنَاجَوْنَ فِي أَمْرِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
مَسْحُوراً - مُغْلُوباً عَلَى عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ، أَوْ سَاحِراً.
(٤٨) - وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ الكَرِيمِ: انْظُرْ كَيْفَ يَضْرِبُ هَؤُلاَءِ لَكَ الأَمْثَالَ، وَقَدْ ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى طَرِيقِ الحَقِّ، لِضَلاَلِهِمْ عَنْهُ، وَبُعْدِهِمْ مِنْهُ.
﴿أَإِذَا﴾ ﴿عِظَاماً﴾ ﴿وَرُفَاتاً﴾ ﴿أَإِنَّا﴾
(٤٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا قَالَهُ الكُفَّارُ، وَهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ الحَشْرِ وَالمِعَادِ، فَيَسْتَفْهِمُونَ اسْتِفْهَامَ مُنْكِرٍ: هَلْ إِذَا صِرْنَا عِظَاماً وَتُرَاباً هَلْ سَنُخْلَقُ مِنْ جَدِيدٍ خَلْقاً آخَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ إِنَّ هَذا لَشَيْءٌ لاَ يُصَدِّقُهُ العَقْلُ السَّلِيمُ.
رُفَاتاً - أَجْزَاءً مُفَتَّتَةً أَوْ تُرَاباً أَوْ غُبَاراً.
(٥٠) - وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَى هَؤُلاَءِ المُسْتَبْعِدِينَ إِمْكَانَ وُقُوعِ الحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالخَلْقِ الجَدِيدِ بَعْدَ المَوْتِ وَالبَلَى، بِقَوْلِهِ: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً، وَهُمْ أَشَدُّ امْتِنَاعاً مِنَ العِظَامِ وَالرُّفَاتِ لِقُبُولِ الحَيَاةِ.
﴿رُؤُوسَهُمْ﴾
(٥١) - وَقُلْ لَهُمْ: أَوْ كُونُوا أَيُّ شَيْءٍ، مِمَّا تَعْتَقِدُونَهُ عَظِيماً فِي أَنْفُسِكُمْ كَالجِبَالِ وَالأَرْضِ، فَإِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَكُمْ أَحْيَاءً. وَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا إِذَا كُنَّا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً آخَرَ مِمَّا يُسْتَبْعَدُ قُبُولُهُ لِلحَيَاةِ؟ فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: يُعِيدُكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أَوًَّلَ مَرَّةٍ (فَطَرَكُمْ) وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئاً مَذْكُوراً، ثُمَّ صِرْتُمْ بَشَراً تَنْتَشِرُونَ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ، وَلَوْ صِرْتُمْ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَلَنْ يُعْجِزَهُ إِحْيَاؤُكُمْ. وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الكَافِرِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ هَذا الجَوَابَ مِنْ رَسُولِ اللهِ سَيُحَرِّكُونَ رُؤُوسَهُمْ حَرَكَةَ اسْتِهْزَاءٍ، وَيَقُولُونَ: مَتَى يَكُونُ هَذا الحَشْرُ وَالمَعَادُ؟ اسْتِبْعَاداً مِنْهُمْ لِوُقُوعِهِ. وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَرِيباً فَلْيَحْذَرُوا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَرِيبٌ إِلَيْهِمْ وَسَيَأْتِيهِمْ لاَ مَحَالَةَ.
يَكْبُرُ - يَعْظُمُ عَنْ قُبُولِ الحَيَاةِ كَالسَّمَاوَاتِ.
فَطَرَكُمْ - أَبْدَعَكُمْ وَأَحْدَثَكُمْ.
فَسَيُنْغِضُونَ - يُحَرِّكُونَ رُؤُوسَهُمْ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلٍ وَمِنْ أَسْفَلٍ إِلَى أَعْلَى حَرَكَةَ اسْتِهْزَاءٍ.
(٥٢) - وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَدْعُو اللهُ عِبَادَهُ فَيَقُومُونَ كُلُّهُمْ اسْتِجَابَةً لأَمْرِهِ، وَطَاعَةً لإِرَادَتِهِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيا إِلاَّ قَلِيلاً مِنَ الوَقْتِ، وَهَذا يُقَلِّلُ مِنْ قِيمَةِ الدُّنْيا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا همُ ْمُقْدِمُونَ عَلَيْهِ.
بِحَمْدِهِ - مُنْقَادُونَ انْقِيَادَ الحَامِدِينَ لَهُ.
﴿الشيطان﴾ ﴿لِلإِنْسَانِ﴾
(٥٣) - وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَنْصَحَ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَمُحَاوَرَتِهِم الكَلاَمِيَّةِ، العِبَارَاتِ الأَحْسَنِ، وَالكَلِمَاتِ الأَطْيَبِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نَزَعَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ، وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمُ الشَّرَّ وَالمُخَاصَمَةَ، وَالعَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، فَهُوَ عَدٌّو لِذُرِّيَّةِ آدَمَ، ظَاهِرُ العَدَاوَةِ سَافِرُهَا.
يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ - يُفْسِدُ وَيُهَيِّجُ الشَّرَّ بَيْنَهُمْ.
﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾
(٥٤) - رَبَّكُمْ هُوَ العَلِيمُ بِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ وَبِمَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهَا، فَإِنْ شَاءَ رَحِمَكُمْ بِتَوفِيقِكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ بِصَرْفِكُمْ عَنِ الإِيمَانِ وَالهُدَى، فَتَمُوتُونَ عَلَى شِرْكِكُمْ، وَتَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ وَعَذَابِهَا. فَعَاقِبَةُ النَّاسِ مَجْهُولَةٌ، وَلاَ يَعْلَمُ الغَيْبَ إِلاَّ اللهُ، وَلَمْ نُرْسِلْكَ يَا مُحَمَّدُ وَكِيلاً عَلَيْهِمْ لِتُجْبِرَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ، وَإِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ مُبَشِراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللهِ، وَحِسَابُ النَّاسِ عَلَى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَكِيلاً - مَوْكُولاَ إِلَيْكَ أَمْرُهُمْ.
﴿السماوات﴾ ﴿النبيين﴾ ﴿وَآتَيْنَا﴾
(٥٥) - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَرَاتِبِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فِي الطَّاعَةِ وَالمَعْصِيَّةِ، وَقَدْ فَضَّلَ بَعْضُ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ... وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ﴾، وَهُوَ تَفْضِيلُ اللهِ أَعْلَمُ بِأَسْبَابِهِ. وَهَذا القَوْلُ لاَ يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ " لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ "، فَالمَقْصُودُ هُنَا التَّفْضِيلُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِي وَالعَصَبِيَّةِ، لاَ بِمُقْتَضَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَكِنْ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى شِيءٍ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنْ بَاقِي الأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ أَولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أَفْضَلُهُمْ.
وَأُوْلُو العَزْمِ هُمْ خَمْسَةٌ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدُ. وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ أَتَى دَاوُدَ زَبُوراً، وَفَضَّلَهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يُفَضِّلَهُ بِالمُلْكِ.
الزَّبُورُ - كِتَابٌ فِيهِ تَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ لِلْخَالِقِ وَمَوَاعِظُ.
(٥٦) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ الذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ: ادْعُوا الأَصْنَامَ وَالأَنْدَادَ - الذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَرْبَابٌ وَآلِهَةٌ مِنْ دُونِ اللهِ - حِينَ يَنْزِلُ بِكُم الضُّرُّ إِلَى عَوْنِكُمْ، وَلِرَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ، وَلاَ يَمْلِكُونَ تَحْوِيلَهُ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَالذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ.
تَحْوِيلاً - نَقْلَهُ إِلَى غَيْرِكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَعْبُدْهُمْ.
﴿أولئك﴾
(٥٧) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الإِنْسِ كَانُوا يَعْبُدُونَ جَمَاعَةً مِنَ الجِنِّ، فَأَسْلَمَ الجِنِّيُّونَ، وَالإِنْسَ لاَ يَدْرُونَ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَبَقُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. يَقُولُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ جَمِيعاً: إِنَّ هَؤُلاَءِ الذِينَ تَدْعُونَهُمْ آلِهَةٌ، وَتَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، هُمْ عِبَادٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَيَعْمَلُونَ جَاهِدِينَ عَلَى الفَوْزِ بِالقُرْبِ مِنْهُ تَعَالَى، بِالطَّاعَةِ وَالقُرْبَةِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلاَءِ المَعْبُودِينَ قُرْباً مِنَ اللهِ يَدْعُو اللهَ، وَيَبْتَغِي إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَالقُرْبَةَ مِنْهُ، وَيَخْشَى عَذَابَهُ وَعِقَابَهُ. فَإِذَا كَانَ هَذا هُوَ حَالُ هَؤُلاَءِ الأَرْبَابِ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهُمْ؟ وَمَا أَجْدَرَكُمْ أَنْ تَتَوَجَّهُوا إِلَى اللهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ الخَالِقِ القَاهِرِ بِالعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ وَالخَشْيَةِ، كَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِهَا الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ أَنْتُمْ وَتَدْعُونَهُمْ أَرْبَاباً. وَعَذَابُ اللهِ خَلِيقٌ بِأَنْ يُحْذَرَ، وَيُخَافَ مِنْهُ.
الوَسِيلَةَ - القُرْبَةَ بِالطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ.
﴿القيامة﴾ ﴿الكتاب﴾
(٥٨) - وَمَا مِنْ قَرْيَةٍ مِنَ القُرَى التِي ظَلَمَ أَهْلُهَا أَنْفُسَهُمْ بِالكُفْرِ وَالمَعَاصِي، إِلاَّ وَيُهْلِكُهَا اللهُ، وَيُهْلِكُ أَهْلَها، وَيُبِيدَهُمْ بِالاسْتِئْصَالِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ، أَوْ يُعَذِّبُهُمْ بِابْتِلاَئِهِمْ بِأَصْنَافٍ مِنَ العَذَابِ، بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، وَخَطَايَاهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مُثْبَتاً فِي عِلْمِ اللهِ، أَوْ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " إِنَّ أَوْلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ المُقَدَّرَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ").
(أَخْرََجَهُ التِّرْمِذِيُّ).
﴿بالآيات﴾ ﴿وَآتَيْنَا﴾
(٥٩) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً، وَأَنْ يُنَحَِّي عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ فَيَزْرَعُوا، عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ إِنْ حَقَّقَ لَهُمْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ: أَوَتَفْعَلُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ رَبَّهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً، فَمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُ عَذَاباً لاَ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ. وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ أَبْوَابَ التَّوْبَةَ وَالرَّحْمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ.
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ الكَرِيمِ: إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ كَمَا سَأَلُوهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، وَلَكِنَّ الذِي مَنَعَهُ مِنْ إِرْسَالِ الآيَاتِ التِي سَأَلُوهَا هُوَ تَكْذِيبُ الأَوَّلِينَ بِمِثْلِهَا، بَعْدَ أَنْ سَأَلُوهَا وَجَائَتْهُمْ. فَإِذَا أَرْسَلَهَا اللهُ إِلَى قُرَيشٍ، وَكَذَّبُوا بِهَا عُوجِلُوا بِالعَذَابِ، وَلَمْ يُمْهَلُوا.
وَقَدْ سَأَلَتْ ثَمُودُ نَبِيَّهَا صَالِحاً أَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةَ عُشَرَاءَ، فَدَعَا اللهُ، فَأَخَرَجَهَا لَهُمْ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ هَذِهِ النَّاقَةَ حُجَّةً وَاضِحَةً، وَدَلاَلَةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ، وَعَلاَمَةٍ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ رَسُولِهِ صَالِحٍ، فَكَفَرَتْ ثَمُودُ بِالنَّاقَةِ، وَمَنَعُوهَا شُرْبَهَا، وَقَتَلُوهَا، فَأَبَادَهُمْ اللهُ عَنْ أَخِرِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ يُخَوِّفُ النَّاسَ بِمَا شَاءَ مِنَ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى اللهِ.
مُبْصِرَةً - آيَةً بَيِّنَةً وَاضِحَةً أَوْ ذَاتَ بَصِيرَةٍ لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا.
فَظَلَمُوا بِهَا - فَكَفَرُوا بِهَا ظَالِمِينَ فَأُهْلِكُوا.
﴿الرؤيا﴾ ﴿أَرَيْنَاكَ﴾ ﴿القرآن﴾ ﴿طُغْيَاناً﴾
(٦٠) - يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ عَلَى القِيَامِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ إِبْلاَغِ الرِّسَالَةِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَادِرُ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ، فَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى أَمْرٍ إِلاَّ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَقَدْ عَصَمَكَ اللهُ مِنْ أَعْدَائِكَ، فَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى إِيصَالِ الأَذَى إِلَيْكَ وَمَا جَعَلَ اللهُ الرُّؤْيَا، التِي أَرَاهَا رَسُولَهُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ، إلاَّ امْتِحَاناً وَاخْتِبَاراً لِلنَّاسِ، فَأَنْكَرَهَا قَوْمٌ، وَكَذَّبُوا بِهَا، وَكَفَرَ بَعْضٌ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ وَآمَنَ بِرِسَالَةِ الرَّسُولِ، وَازْدَادَ المُخْلِصُونَ إِيمَاناً.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسَ: إِنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللهِ، لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ).
وَمَا جَعَلَ اللهُ الشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ التِي جَاءَ ذِكْرُهَا فِي القُرْآنِ (وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّقُومِ-: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ-، فَعَجِبَ المُشْرِكُونَ وَاسْتَهْزَؤُوا.. مِنْ وُجُودِ شَجَرَةٍ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ...) إِلاَّ فِتْنَةًُ لِلنَّاسِ، فَالمُؤْمِنُونَ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً، وَعَلِمُوا أَنَّ الِّذِي جَاءَ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا المُجْرِمُونَ المُكَّذِبُونَ فَازْدَادُوا تَشَكُّكاً وَطُغْيَاناً، وَكُفْراً. وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ يُخَوِّفُ الكُفَّارَ بِالوَعِيدِ، وَالعَذَابِ، وَالنَّكَالِ، فَلاَ يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ طُغْيَاناً، وَتَمَادِياً فِي الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ.
﴿للملائكة﴾ ﴿لأَدَمََ﴾ ﴿أَأَسْجُدُ﴾
(٦١) - يُذَكِّرُ اللهُ العِبَادَ بِعَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ فَيَقُولُ: إِنَّهُ أَمَرَ المَلاَئِكَةَ بِالسُّجُودِ لآدَمَ. فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ إِلاَّ إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ اسْتَكْبَرَ وَأَبَى السُّجُودَ لآدَمَ اسْتِعْلاَءً عَلَيْهِ، وَاحْتِقَاراً لَهُ، وَقَالَ للهِ العَظِيمِ: كَيْفَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ؟
﴿أَرَأَيْتَكَ﴾ ﴿لَئِنْ﴾ ﴿القيامة﴾
(٦٢) - وَقَالَ إِبْلِيسُ لِلرَّبِّ الكَرِيمِ مُتَوَاقِحاً: أَلاَ تَرَى إلَى هَذا الَّذِي شَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ عَلَيَّ فَإِنْ أَخَرْتَنِي وَأَنْظَرْتَنِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لأُضِلَّنَّ ذُرِّيَّتَهُ، وَلأُسَيْطِرَنَّ عَلَيْهِمْ، وَلأَحْتَوِيَنَّهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ.
لأَحْتَنِكَنَّ - الاحْتِنَاكُ، لُغَةً، وَضْعُ شَيءٍ فِي حَنَكِ الدَّابَّةِ الأَسْفَلِ لِتُقَادَ بِهِ، أَيْ إِنَّهُ سَيَمْلِكُ نَاصِيَتَهُمْ، وَيُسَيْطِرُ عَلَيْهِمْ. أَوْ لأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ بِالإِغْوَاءِ.
(٦٣) - لَمَّا سَأَلَ إِبْلِيسُ النَّظِرَةَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ لِشَأْنِكَ الذِي اخْتَرْتَهُ، فَقَدْ أَنْظَرْتُكَ. ثُمَّ أَوْعَدَهُ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، نَارَ جَهَنَّمَ، وَأَنَّهَا سَتَكُونُ جَزَاءً لَهُمْ، جَزَاءً وَافِياً كَافِياً لاَ يَنْقُصُ لَهُمْ مِنْهُ شَيءٌ. (جَزَاءً مَوْفُوراً).
﴿الأموال﴾ ﴿والأولاد﴾ ﴿الشيطان﴾
(٦٤) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لإِبْلِيسَ: وَادْعُ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَطَعْتَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ، وَاسْتَخِفَّهُ وَأَزْعِجْهُ (اسْتَفْزِزْ) وَاحْمِلْ عَلَيْهِمْ بِجُنُودِكَ: خَيَّالَتِهِمْ وَرَجَّالَتِهِمْ (بِخَيْلِكِ وَرَجِلِكِ)، وَحَاوِلْ إِغْوَاءَهُمْ بِكُلِّ مَا اسْتَطَعْتَ، وَادْعُهْمِ إِلَى كَسْبِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ المَشْرُوعِ، وَإِنْفَاقِهَا فِي غَيْرِ الطُّرُقِ التِي أَبَاحَهَا اللهُ، وَاحْمِلُهُمْ عَلَى عِصْيَانِ اللهِ فِي أَوْلاَدِهِمْ بِتَسْمِيَّتِهِمْ بِمَا يَكْرَهُ اللهُ (كَعَبْدِ اللاَّتِ وَعَبْدِ العِزَّى)، وَبِالزِّنَى بِأُمْهَاتِهِمْ، أَوْ بِإِدْخَالِهِمْ فِي غَيْرِ دِينِ اللهِ، (وَهذَا كُلُّهُ مُشَارَكَةٌ مِنْ إِبْلِيسَ فِي الأَوْلاَدِ)، وَعِدْهُمْ بِاطِلاً بِالنُّصْرَةِ وَالعَوْنِ... فَإِنَّكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ لَنْ تُضِلَّ غَيْرَ الضَّالِّينَ، وَهؤُلاَءِ الضَّالُّونَ هُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ تَسْتَطِيعُ إِغْوَاءَهُمْ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ إِلاَّ كَذِباً وَبَاطِلاً وَغُرُوراً، لأَنَّهُ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئاً مِنْ عِقَابِ اللهِ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ.
اسْتَفْزِزِ - اسْتَخِفَّ وَاسْتَعْجِلْ أَوْ أَزْعِجْ.
أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ - صِحْ عَلَيْهِمْ وَسُقْهُمْ.
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ - بِكُلِّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي مَعَاصِي اللهِ.
غُرُورواً - بَاطِلاً وَخِدَاعاً.
﴿سُلْطَانٌ﴾
(٦٥) - وَيَقُولُ تَعَالَى لإِبْلِيسَ: أَمَّا عِبَادِي الَّذِينَ أَطَاعُونِي فَاتَّبَعُوا أَمْرِي وَعَصَوْكَ، فَلَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ إِضْلاَلَهُمْ وِلاَ إِغْوَاءَهُمْ، فَهُمْ فِي حِفْظِي، وَحِرَاسَتِي، وَرِعَايَتِي، وَكَفَى بِاللهِ حَافِظاً وَمُؤَيِّداً وَنَصِيراً.
سُلْطَانٌ - تَسَلُّطٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى إِغْوَائِهِمْ.
(٦٦) - وَاللهُ تَعَالَى رَبُّكُمْ هُوَ الذِي سَخَّرَ لَكُمُ السُّفُنَ وَالمَرَاكِبَ، لِتَسِيرَ فِي البَحْرِ، وَتَنْقُلَكُمْ وَأَثْقَالَكُمْ وَأَمْتِعَتَكُمْ وَتِجَارَتَكُمْ، مِنْ مَكَانٍ إِلَىمَكَانٍ، لِتَبْتَغُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَفَضْلِهِ، بِالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَالكَسْبِ، وَتَبَادُلِ الحَاجَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ.
يُزْجِي - يُجْرِي وَيُسَيِّرُ وَيَسُوقُ بِرِفْقٍ.
﴿نَجَّاكُمْ﴾ ﴿الإنسان﴾
(٦٧) - وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ الضُّرُّ فِي البَحْرِ، لَمْ يَجِدُوا غَيْرَ اللهِ تَعَالَى مَنْ يَدْعُونَهُ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لِيُنْقِذَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، مِنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ، وَيَغِيبُ فِي سَاعَةِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ عَنْ خَوَاطِرِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَأَذْهَانِهِمْ كُلُّ مَعْبُودٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ غَيْرِ اللهِ، لأَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى إِنْجَائِهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ.
وَلَكِنَّهُمْ حِينَ يُنْجِيهِمُ اللهُ، وَيُعِيدَهُمْ إِلَى البَرِّ سَالِمِينَ، يَنْسَونَ اللهَ الذِي عَبَدُوهُ، وَدَعُوهُ فِي البَحْرِ، وَيَعْرُضُونَ عَنْ دُعَائِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَمِنْ سَجِيَّةِ الإِنْسَانِ الكُفْرُ، يَنْسَى النِّعَمَ وَيَجْحَدُهَا (وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً).
(٦٨) - أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّكُمْ بِخُرُوجِكُمْ سَالِمِينَ مِنَ البَحْرِ إِلَى البَرِّ، قَدْ آمِنْتُمْ انْتِقَامَ اللهِ وَعَذَابَهُ؟ فَقَدْ يَخْسِفُ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ بِزِلْزَالٍ أَوْ بُرْكَانٍ. وَقَدْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ رِيحاً شَدِيدَةً تَرْمِيكُمْ بِالحَصْبَاءَ، أَوْ يُهْلِكَكُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَسْبَابِ المُسَخَّرَةِ لِقُدْرَةِ اللهِ، دُونَ أَنْ تَجِدُوا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَكِيلاً يَحْمِيكُمْ وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ.
الحَاصِبُ - مَطَرٌ تَسْقُطُ مَعَهُ حَصْبَاءُ، أَوْ رِيحٌ تَحْمِلُ حَصْبَاءَ. وَالحَصْبَاءَ حِجَارَةٌ صَغِيرَةٌ.
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ - أَنْ يُغَوِّرَ وَيُغَيِّبَ بِكُمْ تَحْتَ الثَّرَى.
(٦٩) - أَمْ أَمِنْتُمْ أَيُّها المُعْرِضُونَ عَنْ رَبِّكُمْ فِي البَرِّ، بَعْدَ مَا اعْتَرَفْتُمْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَأَنْتُمْ فِي البَحْرِ، أَنْ يُعِيدَكُمْ فِي البَحْرِ مَرَّةً أُخْرَى، فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ رِيحاً تَقْصِفُ الصَّوَارِيَ، وَتُغْرِقُ المَركَبَ، بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، وَإِعْراضِكُمْ عَنِ اللهِ، وَحِينَئِذٍ لاَ تَجِدُونَ لَكُمْ مَنْ يَنْصُرُكُمْ أَوْ يَأْخُذُ بِثَأْرِكُمْ بَعْدَكُمْ.
قَاصِفاً - عَاصِفاً شَدِيداً مُهْلِكاً - أَوْ هُوَ رِيحُ البِحَارِ.
تَبِيعاً - نَصِيراً أَوْ مُطَالِباً بِالثَّأْرِ.
﴿ءَادَمَ﴾ ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ﴾ ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ﴾ ﴿الطيبات﴾ ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ﴾
(٧٠) يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ تَشْرِيفِهِ لِبَنِي آدَمَ، وَتَكْرِيمِهِ إِيَّاهُمْ بِأَنْ خَلَقَهُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَكْمَلِ هَيْئَةٍ، وَبِأَنْ مَيَّزَهُمْ بِالعَقْلِ، وَبِأَنْ حَمَلَهُمْ فِي البَرِّ عَلَى الدَّوَابِ وَغَيْرِهَا، وَفِي البَحْرِ فِي السُّفُنِ وَالمَرَاكِبِ، وَبِأَنْ رَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ، وَلُحُومٍ وَلِبَاسٍ وَسَكَنٍ، وَمِنْ مَنَاظِرٍ مُبْهِجَةٍ. كَمَا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَفْضِيلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، بِالعَقْلِ، وَالتَّفْكِيرِ، وَقَدْ فَضَّلَهُمْ بِاسْتِخْلافِهِمْ فِي الأَرْضِ.
﴿نَدْعُواْ﴾ ﴿بِإِمَامِهِمْ﴾ ﴿كِتَابَهُ﴾ ﴿كِتَابَهُمْ﴾ ﴿فأولئك﴾ ﴿يَقْرَؤونَ﴾
(٧١) - وَيَوْمَ القِيَامَةِ تُدْعَى كُلُّ أُمَّةٍ بِالشِّعَارِ الذِي تُعْرَفُ بِهِ، فَيُقَالُ: يَا أُمَّةَ عِيسَى، وَيَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ.... لِيَتَسَلَّمُوا كُتُبَ أَعْمَالِهِمْ، فَالذِينَ يُعْطُونَ كُتُبَ أَعْمَالِهِمْ بِأَيمَانِهِمْ، وَهُمُ السُّعَداءُ، فَهُؤلاَءِ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ مُبْتَهِجِينَ، وَلاَ يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئاً.
إِمَامُهُمْ - شِعَارُهُمْ أَوْ نَبِيُّهُمْ أَوْ كِتَابُ أَعْمَالِهِمْ.
فَتِيلاً - خَيْطٌ رَفِيعٌ فِي نَوَاةِ التَّمْرَةِ.
﴿الآخرة﴾
(٧٢) - وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ أَعْمَى القَلْبِ، لاَ يُبْصِرُ سَبِيلَ الهُدَى وَالرَّشَادِ، وَلاَ يَتَأَمَّلُ حُجَجَ اللهِ وَآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ، فَهُوَ كَذَلِكَ أَعْمَى فِي الآخِرَةِ لاَ يَرَى طَرِيقَ الخَيْرِ وَالنَّجَاةِ، وَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ أَشَدَّ ضَلاَلاً مِنْهُ فِي الدُّنْيَا.
(٧٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ تَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ، وَعَنْ تَثْبِيتِهِ إِيَّاهُ، وَعِصْمَتِهِ لَهُ مِنْ شَرِّ الأَشْرَارِ، وَكَيْدِ الفُجَّارِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ المُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَنَصْرَهُ، فَقَدْ حَاوَلَ المُشْرِكُونَ فِتْنَتَهُ عَمَّا أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ، لِيَفْتَرِيَ عَلَى اللهِ غَيْرَهُ، وَهُوَ الصَّادِقُ الأَمِينُ، فَقَدْ سَاوَمُوهُ عَلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ رَبَّهُ، مُقَابِلَ أَنْ يَتْرُكَ التَّنْدِيدَ بِآلِهَتِهِمْ، وَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ. وَسَاوَمُوهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لِبَعْضِ كُبَرَائِهِمْ مَجْلِساً غَيْرَ مَجْلِسِ الفُقَرَاءِ، وَلَوْ أَنَّهُ رَضِيَ مُسَايَرَتِهِمْ فِيمَا أَرَادُوا لاتَّخَذُوهُ خَلِيلاً، وَلَكَفُّوا عَنْ إِيذَائِهِ وَتَكْذِيبِهِ.
لِيَفْتِنُونَكَ - لِيُوقِعُونَكَ فِي الفِتْنَةِ، وَلِيَصْرِفُونَكَ.
لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ - لِتَخْتَلِقَ وَتَتَقَّولَ عَلَيْنَا.
﴿ثَبَّتْنَاكَ﴾
(٧٤) - وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى ثَبَّتَ رَسُولَهُ ﷺ، وَعَصَمَهُ عَنِ الانْحِرَافِ عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ. وَلَوْلاَ عِصْمَةُ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ لَرَكَنَ إلَى الكُفَّارِ بَعْضَ الشَّيءِ. وَالانْحِرَافُ الطَّفِيفُ فِي أَوَّلِ الطَّرِيقِ يَنْتَهِي إِلَى الانْحِرَافِ الكَامِلِ فِي نِهَايَتِهِ.
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ - تَمِيلُ إِلَيهِمْ.
﴿لأذَقْنَاكَ﴾ ﴿الحياة﴾
(٧٥) - وَلَوْ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ رَكَنَ إِلى الكُفَّارِ، وَلَوْ قَلِيلاً، لَعَاقَبَهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ الرُّكُونِ بِإِذَاقَتِهِ عَذَابَ الدُّنْيا، وَعَذَابَ الآخِرَةِ مُضَاعَفَيْنِ، وَبِإِفْقَادِهِ المُعِينَ وَالنَّصِيرَ. وَلأَنَّ الرَّسُولَ العَظِيمَ قُدْوَةٌ لِلمُؤْمِنِينَ يَقْتَدُونَ بِهِ، فَأَيُّ تَصَرُّفٍ مِنْهَ يُتَابِعُهُ المُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ، وَيَتَّخِذُونَهُ سُنَّةً.
ضِعْفَ الْحَيَاةِ - عَذَاباً مُضَاعَفاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ.
﴿خِلافَكَ﴾
(٧٦) - وَلَمَّا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ إِمْكَانِ اسْتِدْرَاجِ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى الانْحِرَافِ بِالدَّعْوَةِ عَمَّا أَوْحَى اللهُ بِهِ إِلَيْهِ، أَرَادُوا أَنْ يُزْعِجُوهُ، وَيَسْتَخِفُّوهُ (يَسْتَفِزُّونَكَ)، لِيُخْرِجُوهُ مِنْ مَكَّةَ (مِنَ الأَرْضِ)، فَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى بَنِي هَاشِمَ، وَأَلْجَؤُهُمْ إِلَى الشُّعَبِ ثَلاَثَ سِنِينَ. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مُهَاجِراً، لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَنْ يُهْلِكَ قُرَيْشاً بِالإِبَادَةِ. وَلَوْ أَنَّ قُرَيْشاً أَخْرَجَتْ رَسُولَ اللهِ عَنْوَةً وَقَسْراً، لَحَلَّ بِهِمُ الهَلاَكُ (وَإِذَا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَ قَلِيلاً).
لِيَسْتَفِزُّونَكَ - لِيَسْتَخِفُّونَكَ وَيُزْعِجُونَكَ.
(٧٧) - فَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَدْمِيرِ الأُمَمِ التِي تُكَذِّبُ رُسُلَها، وَتُخْرِجُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ سُنَّةً جَارِيَةً، لاَ تَتَحَوَّلُ وَلاَ تَتَبَدَّلُ. وَلَمَّا لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَأْخُذَ قُرَيْشاً بِعَذَابِ الإِبَادَةِ، لَمْ يُقَدِّرْ أَنْ يُخْرِجُوهُ عَنْوَةً، بَلْ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِالهِجْرَةِ، وَهَكَذا مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي طَرِيقِهَا، لاَ تَحْوِيلَ لَهَا وَلاَ تَبْدِيلَ.
تَحْوِيلاً - تَغْيِيراً وَتَبْدِيلاً.
﴿الصلاة﴾ ﴿الليل﴾ ﴿قُرْآنَ﴾
(٧٨) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ المَفْرُوضَةِ، وَأَدَائِهَا عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ الأَكْمَلِ، مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ (عِنْدَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ - دُلُوكَهَا)، إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ، وَحُلُولِ الظَّلاَمِ، وَبِذَلِكَ تَدْخُلُ الصَّلَواتُ المَفْرُوضَةُ: الظُّهْرُ وَالعَصْرُ وَالمَغْرِبُ وَالعِشَاءُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صَلاَةَ الفَجْرِ، وَأَثْنَى عَلَيْهَا لِمَا لَهَا مِنَ الفَضْلِ، وَشُهُودِ المَلاَئِكَةَ لَهَا.
(وَمَوَاقِيتُ الصَّلاَةِ حُدِّدَتْ بِفِعْلِ الرَّسُولِ ﷺ).
دُلُوكُ الشَّمْسِ - زَوَالُها عَنْ دَائِرَةِ نِصْفِ النَّهَارِ.
الغَسَقُ - اشْتِدَادُ الظُّلْمَةِ.
قُرْآنَ الفَجْرِ - صَلاَةَ الصُّبْحِ.
﴿الليل﴾
(٧٩) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ بِقِيَامِ اللَّيْلِ مُصَلِّياً، زِيَادَةً عَنِ الصَّلاَةِ المَفْرُوضَةِ (نَافِلَةً). وَقَدْ خُصَّ الرَّسُولُ بِهذا الأَمْرِ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَتْلُوَ القُرآنَ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ لِلصَّلاَةِ.
التَّهَجُّدُ - الصَّلاةُ بَعْدَ الاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ.
نَافِلَةً لَّكَ - فَرِيضَةً زَائِدَةً خَاصَّةً بِكَ.
مَقَاماً مَّحْمُوداً - مَقَامَ الشَّفَاعَةِ العُظْمَى.
﴿سُلْطَاناً﴾
(٨٠) - يُعَلِّمُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ دُعَاءً يَدْعُوهُ بِهِ هُوَ وَأُمَّتُهُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ أَدْخِلْنِي فِي كُلِّ مَقَامٍ تُرِيدُ إِدْخَالِي فِيهِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ مُدْخَلاً صَادِقاً، أَيْ يَسْتَحِقُّ الدَّاخِلُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَنْتَ صَادِقٌ فِي قَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، وَأَخْرِجِنِي مِنْ كُلِّ مَا تُخْرِجُنِي مِنْهُ مُخْرَجَ صِدْقٍ، أَيْ يَسْتَحِقُّ الخَارِجُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَنْتَ صَادِقٌ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ سُلْطَاناً وَهَيْبَةً وَقُوَّةَ حُجَّةٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، يَسْتَعْلِي بِهَا عَلَى سُلْطَانِ أَهْلِ الأَرْضِ، وَقُوَّةِ المُشْرِكِينَ، وَيَنْصُرُ بِهَا كَلِمَةُ اللهِ، وَكُتبَهُ وَحُدُودَهُ، وَفَرَائِضَهُ.
فَحِينَمَا ائْتَمَرَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِالرَّسُولِ ﷺ فِي مَكَّةَ، أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِالخُرُوجِ إِلَى المَدِينَةِ، وَعَلَّمَ نَبِيَّهُ هذَا الدُّعَاءَ، لِيَدْعُوهُ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَحِينَ دُخُولِهِ إِلَى المَدِينَةِ.
مُدْخَلَ صِدْقٍ - إِدْخَالاَ مُرْضِياً جَيِّداً فِي أُمُورِي.
سُلْطَاناً نَّصِيراً - قَهْراً وَعِزّاً تَنْصُرُ بِهِ الإِسْلاَمَ.
﴿الباطل﴾ ﴿الباطل﴾
(٨١) - وَقُلْ لِلْمُشْرِكِينَ مُهَدِّداً: لَقَدْ جَاءَهُمُ الحَقُّ الذِي لاَ مِرْيَةَ فِيهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ. وَمَتَى جَاءَ الحَقُّ زَهَقَ البَاطِلَ وَاضْمَحَلَ، لأَنَّ مِنْ صِفَةِ البَاطِلِ عَدَمَ الثَّبَاتِ مَعَ الحَقِّ. وَحِينَمَا دَخَلَ الرَّسُولُ ﷺ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ، كَانَ حَوْلَ الكَعْبَةِ (٣٦٠) ثَلاثُمِئةٍ وَسِتُّونَ نَصْباً، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يَطْعَنُها بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَتْلُو: ﴿جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً﴾.
زَهَقَ البَاطِلَ - زَالَ وَاضْمَحَلَّ.
﴿القرآن﴾ ﴿الظالمين﴾
(٨٢) - وَنُنَزِّلُ عَلَيْكَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنَ القُرْآنِ مَا يُسْتَشَفَي بِهِ مِنَ الجَهْلِ وَالضَّلاَلِ، وَمَا يُذْهِبُ مَا فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَْمْرَاضِ الشَّكِّ وَالنِّفَاقِ، وَالشِّرْكِ وَالزَّيْغِ، وَيَشْفِي مِنْهَا، وَهُوَ رَحْمَةُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَعَمِلَ بَأَوَامِرِهِ، وَاجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ. أَمَّا الكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يَزِيدُهُمْ سَمَاعُ القُرْآنِ إِلاَّ بُعْداً عَنِ الإِيمَانِ وَكُفْراً، وَعُتُوّاً وَخَسَاراً، لأَنَّهُمْ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ.
خَسَاراً - هَلاَكاً بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِهِ.
﴿الإنسان﴾ ﴿نَأَى﴾ ﴿يَئُوساً﴾
(٨٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ نَقْصِ الإِنْسَانِ، إِلاَّ مَنْ عَصَمَةُ اللهُ، فَإِذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِمَالٍ وَعَافِيَةٍ وَرِزْقٍ وَنَصْرٍ... وَأَنَالَهُ مَا يُرِيدُ، أَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَنَأَى بِجَانِبِهِ عَنِ اللهِ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ وَالضُّرُّ وَالسُّوءُ، وَنَزَلَتْ بِهِ المَصَائِبُ وَالنَّوائِبُ... قَنَطَ وَيَئِسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَظَنَّ أَنَّ اللهَ لَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ مَا هُوَ فِيهِ.
نَأَى بِجَانِبِهِ - شَدِيدَ اليَأْسِ وَالقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.
(٨٤) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ: كُلٌّ مِنّا أَنَا وَأَنْتُمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَالكَافِرِينَ يَعْمَلُ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَحَالِهِ فِي الهُدَى وَالضَّلاَلِ (شَاكِلَتِهِ)، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَكْثَرُ هِدَايَةً، وَأَوْضَحُ سَبِيلاً، وَاتِّبَاعاً لِلْحَقِّ، فَيُؤْتِيهِ أَجْرَهُ مَوْفُوراً، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَضَلُّ سَبِيلاً، فَيُعَاقِبُهُ.
شَاكِلَتِهِ - مَذْهَبِهِ الذِي يُشَاكِلُ حَالَهُ.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾
(٨٥) - اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ المُرَادِ بِالرُّوْحِ هُنَا.
- فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اليَهُودَ سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ رُوحِ البَشَرِ، وَكَيْفَ تُعَذَّبُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ. فَالمَقْصُودُ بِالرُّوحِ هُنَا، رُوحُ الإِنْسَانِ، وَهُوَ القَوْلُ الأَرْجَحُ.
- وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ إِنَّ المُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
- وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ إِنَّ المَقْصُودَ بِالرُّوحِ هُنَا مَلَكٌ عَظِيمٌ.
وَمَعْنَى الآيَةِ إِنَّ الرُوحَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى، وَمِمَّا اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَمْ يُطْلِعِ الخَلْقَ إِلاَّ عَلَى القَلِيلِ مِنْ عِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحِيطُ أَحَدٌ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ.
﴿وَلَئِن﴾
(٨٦) - لَمّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْتِ النَّاسَ إِلاَّ قَلِيلاً مِنَ العِلْمِ، بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ بِهَذا القَلِيلِ مِنَ العِلْمِ، وَيَأْخُذَهُ مِنْهُمْ لَفَعَلَ، لَوْ شَاءَ أَنْ يَمْحُوَ القُرْآنَ مِنَ الصُّدُورِ وَالمَصَاحِفِ، وَأَنْ لاَ يَتْرُكَ لَهُ أَثَراً لَفَعَلَ، حَتَّى يَعُودَ النَّبِيُّ لاَ يَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإيمَانُ.
وَإِذَا فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ لَنْ يَجِدَ لَهُ نَاصِراً يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ، فَيَحُولُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ فِعْلِ مَا يُرِيدُ.
وَكِيلاً - مَنْ يَتَعَهَّدُ بِإِعَادَتِهِ إِلَيْكَ.
(٨٧) - وَلَكِنْ رَحِمَهُ اللهُ فَتَرَكَهُ وَلَمْ يَذْهَبْ بِهِ. ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: وَقَدْ كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً يَا مُحَمَّدَ إِذْ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ، وَأَبْقَاهُ فِي حِفْظِكَ، وَفِي حِفْظِ المُؤْمِنِينَ وَمَصَاحِفِهِمْ.
﴿لَّئِنِ﴾ ﴿القرآن﴾
(٨٨) - وَقُلْ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ مُتَحَدِّياً لَهُمْ: القُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ، وَلاَ يَمْلِكُ البَشَرُ مُحَاكَاتَهُ، وَلاَ يَمْلِكُ الإنْسَ وَالجِنُّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا فِي ذَلِكَ. فَالقُرْآنُ لَيْسَ أَلْفَاظاً وَعِبَارَاتٍ يَسْتَطِيعُ المَخْلُوقُونَ مُحَاكَاتَهَا، وَإِنَّمَا هُوَ كَسَائِرِ مَا يُبْدِعُهُ اللهُ، يَعْجَزُ المَخْلُوقُونَ عَنْ صُنْعِهِ، وَمُحَاكَاتِهِ.
ظَهِيراً - مُعِيناً.
﴿القرآن﴾
(٨٩) - وَلَقَدْ رَدَّدْنَا القَوْلَ فِيهِ بِوُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَرَّرْنَا الآيَاتِ وَالعِبَرَ، وَالتَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ وَالأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ، وَأَقَاصِيصَ الأَوَّلِينَ لِيَتَدَبَّرُوا آيَاتِهِ، وَلَيَتَّعِضُوا بِهَا، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفْراً وَجُحُوداً وَإِنْكَاراً لِلْحَقِّ، وَإِعْرَاضاً عَنْهُ.
صَرَّفْنَا - رَدَّدْنَا القَوْلَ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ.
مِن كُلِّ مَثَلٍ - مِنْ كُلِّ مَعْنًى غَرِيبٍ حَسَنٍ بَدِيعٍ.
فَأَبَى - فَلَمْ يَرْضَ.
كُفُوراً - جُحُوداً لِلْحَقِّ.
(٩٠) - اجْتَمَعَ قَادَةُ قُرَيْشٍ عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الرَّسُولِ ﷺ لِيَأْتِيَهُمْ لِيُكَلِّمُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ جِئْتَنَا بِشَيءٍ فَرَّقْتَ بِهِ الجَمَاعَةَ، فَإِنْ كُنْتَ جِئْتَ تُرِيدُ الشَّرَفَ فِينَا، سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِيكَ رِئْياً (أَيْ تَابِعاً) مِنَ الجِنِّ، جَعَلْنَا مِنَ المَالِ، وَطَلَبْنَا لَكَ الأَطِبَّاءَ حَتَّى تَشْفَى أَوْ نُعْذَرَ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَا بِهَذَا جِئْتُكُمْ، إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولاً فَإِنْ تَسْمَعُوا مِنِّي، وَتَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَردُّوهُ أَصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَينَكُمْ. ثُمَّ أَخَذُوا فِي الاقْتِرَاحِ عَلَيهِ تَعْجِيزاً وَتَعَنُّتاً:
- فَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ لِيُسَيِّرَ عَنْهُم الجِبَالَ التِي ضَيَّقَتْ عَلَيْهِمْ، وَلِيَبْسِطَ لَهُمْ بِلاَدَهُمْ، وَلِيُفَجِّرَ فِيهَا أَنْهَاراً.
- ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُو رَبَّهُ لِيَبْعَثَ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ لِيَشْهَدُوا عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ.
- ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَبْعَثَ مَلَكاً يُصَدِّقُهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ رَبُّهُ جَنَاتٍ وَبَسَاتِينَ وَكُنُوزاً وَقُصُوراً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ.
- ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ كِسَفاً (أَيْ قِطَعاً) كَمَا زَعَمَ لَهُمْ أَنَّ رَبَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا لَهُ إِلاَّ بِفِعْلِ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: إِنَّ ذلِكَ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ فَعَلَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ عَمَّتِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِي: وَاللهِ، لاَ أُؤْمِنُ بِكَ حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّماً ثُمَّ تَرَقَى فِيهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَها، وَتَأْتِي مَعَكَ بِصَحِيفَةٍ مَنْشُورَةٍ وَمَعَكَ أَرْبَعَةٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ يَشْهَدُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ كَمَا تَقُولُ، وَأَيْمُ اللهِ لَوْ فَعَلْتَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لاَ أُصَدِّقُكَ. فَهُمْ أُنَاسٌ مُتَعَنِّتُونَ لاَ يَسْأَلُونَ اسْتِرْشَاداً، وَلَوْ كَانَ سُؤَالُهُمُ اسْتِرْشَاداً لأُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَسَأْلُونَ كُفْراً وَعِنَاداً، وَهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ حُدُوثَ مَا يَطْلُبُونَ.
فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ: إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا عَذَّبْتُهُمْ عَذاباً لاَ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَلْ تَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ.
تَفْجُرَ مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً - تَجْعَلَ عَيْنَ مَاءٍ تَجْرِي فِي الأَرْضِ لاَ يَنْضُبُ مَاؤُها.
﴿الأنهار﴾ ﴿خِلالَهَا﴾
(٩١) - أَوْ يَكُونُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ بُسْتَانٌ (جَنَّةٌ)، فِيهِ أَشْجَارُ النَّخِيلِ وَالعِنَبِ، وَتَتَدَّفَقُ الأَنْهَارُ فِي أَرْضِهِ بِالمِيَاهِ.
﴿الملائكة﴾
(٩٢) - أَوْ أَنْ يُسْقِطَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ قِطَعاً قِطَعاً (كِسَفاً) كَمَا زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَأْتِي بِاللهِ وَالمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً يُنَاصِرُونَهُ، وَيَدْفَعُونَ عَنْهُ، كَمَا يَفْعَلُونَ فِي قَبَائِلِهِمْ (وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: أَنْ يَأْتِي بِاللهِ وَالمَلاَئِكَةِ لِيُقَابِلُوهُمْ مُعَايَنَةً وَمُوَاجَهَةً).
قَبِيلاً - جَمَاعَاتٍ يُنَاصِرُونَ الرَّسُولَ - أَوْ يُقَابِلُونَهُمْ مُقَابَلَةً وَعِيَاناً.
كِسَفاً - قِطَعاً.
﴿كِتَاباً﴾
(٩٣) - أَوْ أَنْ يَكُون لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ (زُخْرُفٍ)، أَوْ أَنْ تَصْعَدَ فِي السَّمَاءِ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَلَنْ نُؤْمِن أَنَّكَ صَعدْتَ إِلَى السَّماءِ حَتَّى تَأْتِيَ مَعَكَ بِصُحُفٍ مَكْتُوبَةٍ مُوَجَّهَةٍ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ المُتَحَدِّثِينَ مَعَ الرَّسُولِ.
فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: سُبْحَانَ رَبِّي إِنْ أَنَا إِلاَّ بَشَرٌ رَسُولٌ مِنَ اللهِ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِهِ، وَلاَ أَمْلِكُ شَيْئاً مِمَّا طَلَبْتُمْ، وَالأَمْرُ كُلُّهُ للهِ، إِنْ شَاءَ أَجَابَكُمْ إِلَيْهِ.
زُخْرُفٍ - ذَهَبٍ.
تَرْقَى - تَصْعَدُ.
(٩٤) - وَمَا مَنَعَ أَكْثَرَ النَّاسِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ، وَالرِّسَالَةِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا رَسُولُهُمْ، إِلاَّ تَعَجُّبُهُمْ مِنْ إِرْسَالِ اللهِ رُسُلاً مِنَ البَشَرِ: وَقَولِهِمْ: ﴿مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ وَقَوْلِهِمْ: ﴿فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ وَقَوْلِهِمْ: ﴿أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً﴾.
﴿ملائكة﴾ ﴿مُطْمَئِنِّينَ﴾
(٩٥) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ كَمَا يَمْشِي البَشَرُ، وَيُقِيمُونَ فِيهَا، كَمَا يُقِيمُ البَشَرُ، وَيَسْهُلُ الاجْتِمَاعُ بِهِمْ، وَالحَدِيثُ مَعَهُمْ.... لأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنَ السَّمَاءِ مِنَ المَلاَئِكَةِ لِهِدَايَتِهِمْ، وَإِرْشَادَهِمْ. وَلَكِنَّ طَبِيعَةَ المَلاَئِكَةِ لاَ تَصْلُحُ لِلاجْتِمَاعِ بِالبَشَرِ، وَلاَ يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ التَّخَاطُبُ مَعَهُمْ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُرْسِلْ رُسُلاً إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ مِنَ المَلاَئِكَةِ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُمْ مِنَ البَشَرِ، وَقَدِ اخْتَارَهُمْ مِنْ بَيْنِ البَشَرِ.
(٩٦) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ: إِنَّ اللهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ القُرْآنَ، وَفِيهِ أَخْبَارُ القُرُونِ الأُولَى كَمَا وَقَعَتْ، وَهِيَ مِمَّا لاَ يَعْرِفُهُ العَرَبُ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنَ اللهِ عَلَى صِدْقِ قَوْلِي، إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَمَنْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِصِدْقِهِ، فَهُوَ صَادِقٌ، فَادِّعَاؤُكُمْ أَنَّ الرَّسُولَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المَلاَئِكَةِ، هُوَ تَعَنُّتٌ مِنْكُمْ.
ثُمَّ نَبَّهَ اللهُ رَسُولَهُ ﷺ إِلَى إِنْهَاءِ الجَدَلِ مَعَ هَؤُلاَءِ المُتَعَنِّتِينَ، وَإِلَى أَنْ يَكِلَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللهِ، فَهُوَ الخَبِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ، وَهُوَ البَصِيرُ بِأَعْمَالِ العِبَادِ، المُحِيطُ بِهَا، فَلاَ يَشذُّ شَيءُ عَنْ عِلْمِهِ.
﴿القيامة﴾ ﴿مَّأْوَاهُمْ﴾ ﴿زِدْنَاهُمْ﴾
(٩٧) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ فِي خَلْقِهِ، وَنُفُوذِ حُكْمِهِ فِيهِمْ، لاَ مُعَقِّبَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَمَنْ هَداهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ. وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ يَحْشُرُ الكَافِرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُمْ يَسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، عُمْياً لاَ يُبْصِرُونَ، وَبُكْماً لاَ يَنْطِقُونَ، وَصُمّاً لاَ يَسْمَعُونَ. وَذَلِكَ جَزَاءٌ لَهُمْ لِمَا كَانُوا عَلَيهِ فِي الدُّنْيا مِنَ العَمَى وَالصَمَّمِ وَالبَكَمِ، لاَ يُبْصِرُونَ الحَقَّ، وَلاَ يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ. وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ التِي يُعَذَّبُونَ فِيهَا كُلَّمَا سَكَنَتْ وَخَفَّ لَهِيبُهَا (خَبَتْ)، زَادَ اللهُ فِي تَأَجُّجِهَا وَسَعِيرَهَا عَلَيْهِمْ، لِيَزْدَادَ أَلَمُهُمْ وَعَذَابُهُمْ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الكُفَّارَ وَقُودُ جَهَنَّمَ، فَإِذَا أَحْرَقْتُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ شَيءٌ مِنْهُمْ صَارَتْ جَمْراً تَتَوهَّجُ، فَذلِكَ خُبُوُّها، فَإِذَا بُدِّلُوا خَلْقاً جَدِيداً عَاوَدْتُهُمْ).
خَبَتْ - سَكَنَ لَهِيبُهَا.
سَعِيراً - لَهَباً وَتَوَقُّداً.
﴿بِآيَاتِنَا﴾ ﴿أَإِذَا﴾ ﴿عِظَاماً﴾ ﴿وَرُفَاتاً﴾ ﴿أَإِنَّا﴾
(٩٨) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى: أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَى الكَافِرِينَ المُكَذِّبِينَ بِبَعْثِهِمْ عُمْياً بُكْماً صُمّاً، لأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ، وَاسْتَبْعَدُوا وُقُوعَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَقَالُوا سَاخِرِينَ: أَبَعْدَ أَنْ صِرْنَا إِلَى مَا صِرْنَا إِلَيْهِ مِنَ البِلَى وَالهَلاَكِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الأَرْضِ.. نُعَادُ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَنُخْلَقُ خَلْقاً جَدِيداً؟
رُفَاتاً - أَجْزَاءً مُفَتَّتَةً، أَوْ تُرَاباً أَوْ غُبَاراً.
﴿السماوات﴾ ﴿الظالمون﴾
(٩٩) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى هؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَهَذا أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى، وَيُنْشِئَهُمْ نَشْأَةً أُخْرَى كَمَا بَدَأَهُمْ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لإِعَادَةِ بَعْثِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَجَلاً (مَوْعِداً) مَضْرُوباً، وَمُدَّةً مُوَقَّتَةً مُقَدَّرَةً لاَ بُدَّ مِنْ انْقِضَائِهَا، لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ تَمَادِياً فِي ضَلاَلِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ، مَعَ وُضُوحِ الحُجَّةِ.
﴿خَزَآئِنَ﴾ ﴿الإنسان﴾
(١٠٠) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ اللهِ كُلِّهَا، لأَمْسَكْتُمْ عَنِ الإِنْفَاقِ خَشْيَةَ الفَقْرِ، وَخَشْيَةَ أَنْ يَنْفَدَ مَا فِيهَا، مَعَ أَنَّ خَزَائِنَ اللهِ لاَ تَفْرَغُ وَلاَ تَنْفَدُ أَبَداً، وَلَكِنَّ مِنْ طِبَاعِ الإِنْسَانِ وَسَجَايَاهُ التَّقْتِيرُ وَالبُخْلُ وَالمَنْعُ. وَلَوْ آتَيْنَا هؤُلاَءِ مَا اقْتَرَحُوهُ لَمَا آمَنوا، وَلَصَرَفُوهُ عَنْ وَجْهِهِ الصَّحِيحِ.
قَتُوراً - مُبَالِغاً فِي البُخْلِ.
﴿آتَيْنَا﴾ ﴿آيَاتٍ﴾ ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ ﴿فَسْئَلْ﴾ ﴿إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿ياموسى﴾
(١٠١) - لَقَدْ أَعْطَيْنَا مُوسَى تَسْعَ آيَاتٍ وَاضِحَاتِ الدَّلاَلَةِ عَلَى صِحَةِ نُبُوَّتِهِ، وَصِدْقِهِ حِينَ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا. وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى: إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَخْبُولَ العَقْلِ، إِذِ ادَّعَيْتَ أَنَّكَ رُسُولٌ مِنَ اللهِ. فَاسْأَلْ يَا مُحَمَّدُ اليَهُودَ الذِينَ هُمْ فِي زَمَانِكَ، سُؤَالَ اسْتِشَهَادٍ، لِتَزِيدَ طُمَأْنِينَتَكَ وَيَقِينَكَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَقَّقٌ ثَابِتٌ فِي كِتَابِهِمْ.
مَسْحُوراً - مَغْلُوباً عَلَى عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ - أَوْ سَاحِراً.
﴿السماوات﴾ ﴿بَصَآئِرَ﴾ ﴿يافرعون﴾
(١٠٢) - فَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: لَقَدْ عَلِمْتَ يَا فِرْعَوْنُ أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَاتِ هُوَ اللهُ تَأْيِيداً لِي، وَحُجَّةً عَلَى صِحَّةِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَدَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَذِهِ الآيَاتُ أَنْزَلَهَا اللهُ لِتَكُونَ بَصَائِرَ لِمَنْ اسْتَبْصَرَ، وَهُدَى لِمَنِ اهْتَدَى بِهَا، يَعْرِفُ مَنْ رَآهَا أَنَّ مَنْ جَاءَ صَادِقٌ مُحِقٌّ. ثُمَّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ يُخَاطِبُ فِرْعَوْنَ: وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَصْروفاً عَنِ الخَيْرِ، مَطْبُوعاً عَلَى الشَّرِّ (مَثْبُوراً - وَقِيلَ إِنَّ مَثْبُوراً تَعْنِي هَالِكاً أَوْ مَلْعُوناً).
بَصَائِرُ - بَيِّنَاتٍ تُبَصِّرُ مَنْ يَشْهَدُهَا بِصِدْقِي.
﴿فَأَغْرَقْنَاهُ﴾
(١٠٣) - فَأَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُخْرِجَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَأَنْ لاَ يُبْقِى أَحَداً مِنْهُمْ فِيهَا، فَرَدَّ اللهُ كَيْدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، وَأَغْرَقَهُ هُوَ وَجُنُودَهُ جَمِيعاً فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ.
يَسْتَفِزَّهُمْ - يَسْتَخِفَّهُمْ وَيُزْعِجَهُمْ لِلْخُرُوجِ.
﴿إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿الآخرة﴾
(١٠٤) - وَنَجَّيْنَا مُوسَى وَقَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقُلْنَا لَهُمْ بَعْدَ هَلاَكِ فِرْعَوْنَ: لَقَدْ أَوْرَثْنَاكُمُ الأَرْضَ فَاسْكُنُوهَا وَاسْتَعْمِرُوهَا، فَإِذَا حَانَتِ السَّاعَةُ، وَحُشِرَ النَّاسُ، جِئْنَا بِكُمْ جَمِيعاً (لَفِيفاً)، أَنْتُمْ وَهُمْ لِيَلْقَى كُلَّ وَاحِدٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ.
لَفِيفاً - جَمِيعاً مُخْتَلِطِينَ.
﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾
(١٠٥) - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ قَائِماً عَلَى الحَقِّ، وَمُتَضَمِّناً لَهُ، فَفِيهِ أَمْرٌ بِالعَدْلِ، وَالإِنْصَافِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَفِيهِ نَهِيٌّ عَنِ الظُّلْمِ، وَعَنْ ذَمِيمِ الأَخْلاَقِ وَالأَفْعَالِ (وَبِالحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ)، وَأَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَحْفُوظاً مَحْرُوساً لَمْ يُزَدْ فِيهِ وَلَمْ يُنْقَصْ مِنْهُ، وَقَدْ أَنْزَلْنَاهُ لِيُقِرَّ الحَقَّ فِي الأَرْضِ (وَبِالحَقِّ نَزَلَ)، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلاَّ مُبَشِراً لِمَنْ أَطَاعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِالخَيْرِ وَالجَنَّةِ وَحُسْنِ العَاقِبَةِ. وَمُنْذِراً لِمَنْ عَصَاكَ، وَكَذَبَّكَ، مِنَ الكَافِرِينَ، بِالعُقُوبَةِ وَالعَذَابِ الأَلِيمِ.
﴿وَقُرْآناً﴾ ﴿فَرَقْنَاهُ﴾ ﴿نَزَّلْنَاهُ﴾
(١٠٦) - وَآتَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ قُرْآناً نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ مُفَرَّقاً وَمُنَجَّماً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ، وَتُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهْلٍ (عَلَى مُكْثٍ)، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ حِفْظِهِ، وَفَهْمِ أَحْكَامِهِ، وَالتَّمَعُّنِ فِيهَا لِتَرْسَخَ فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ. وَقَدْ نَزَّلْنَاهُ شَيْئاً فَشَيْئاً بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالحَوَادِثِ وَالوَقَائِعِ (نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً).
وَفَرَّقْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ - كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَعْنَاهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ آيَةً فَآيَةً مُفَسَّراً وَمُبَيَّناً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مَهَلٍ، وَتُبْلِغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهَلٍ.
فَرَقْنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ - أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقاً، أَوْ بَيَّنَّاهُ وَفَصَّلْنَاهُ.
عَلَى مُكْثٍ - عَلَى تُؤدَةٍ وَتَأَنٍّ.
﴿آمِنُواْ﴾
(١٠٧) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ، الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ: سَوَاءٌ آمَنْتُمْ بِهِ أَمْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، فَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، أَنْزَلَهُ اللهُ، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِ فِي الكُتُبِ السَّابِقَةِ لَهُ، الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى رُسُلِهِ السَّابِقِينَ. وَالصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ، وَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِهِمْ، وَلَمْ يُبَدِّلُوهُ، وَلَمْ يُحَرِّفُوهُ، إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمُ القُرْآنُ يَخِرُّونَ سَاجِدِينَ للهِ شُكْراً لَهُ عَلَى إِنْجَازِهِ وَعْدَهُ بِإِرْسَالِكَ إِلَى النَّاسِ.
﴿سُبْحَانَ﴾
(١٠٨) - وَيَقُولُونَ فِي سُجُودِهِمْ: تَنََّزَهَ رَبُّنَا عَنْ خَلْفِ الوَعْدِ، إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ آتِياً لاَ مَحَالَةَ.
(١٠٩) - وَيَخِرُّونَ سَاجِدِينَ عَلَى ذُقُونِهِمْ (لِلأَذْقَانِ) وَيَبْكُونَ خُشُوعاً وَخُضُوعاً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِيمَاناً وَتَصْدِيقاً بِكِتَابِهِ، وَبِرَسُولِهِ، وَيَزِيدُهُمْ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (خُشُوعاً).
(١١٠) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُنْكِرِينَ صِفَةَ الرَّحْمَن ِللهِ عَزَّ وَجَلَّ، المُعَارِضِينَ تَسْمِيَتَهُ بِالرَّحْمَنِ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ دُعَائِكُمْ لَهُ بِاسْمِ اللهِ، أَوْ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذُو الأَسْمَاءِ الحُسْنَى.
وَلاَ تَجْهَرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِصَلاَتِكَ، وَلاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ بِالقُرْآنِ فَيَسْمَعُكَ المُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا القُرْآنَ. وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلاَ تُسْمِعَهُمُ القُرآنَ، لِيَأْخُذُوا عَنْكَ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً وَسَطاً.
(وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ وَالرَّسُولُ ﷺ مُتَوارٍ فِي مَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ، فَلَمَّا سَمِعَ المُشْرِكُونَ ذَلِكَ سَبُّوا القُرْآنَ، وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ).
لاَ تُخَافِتْ بِهَا - لاَ تُسِرَّ بِهَا حَتَّى لاَ يَسْمَعَكَ مَنْ خَلْفَكَ.
(١١١) - لَمَّا أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ الأَسْمَاءَ الحُسْنَى، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ النَّقَائِصِ، فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ، فَهُوَ تَعَالَى لَيْسَ ذَلِيلاً فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَداً، أَوْ وَلِيٌّ أَوْ حَلِيفٌ، أَوْ وَزِيرٌ، أَوْ مُشِيرٌ، بَلْ هُوَ اللهُ تَعَالَى، خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَمُدَبِّرُهُ وَمُقَدِّرُهُ، وَلاَ شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ: احْمَدِ اللهِ، وَعَظِّمْهُ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً.
Icon