ﰡ
دنا للناس وقت حسابهم بقرب مجيء يوم القيامة، وهم غافلون عن هول ذلك اليوم، ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم.. فإن يوم الحساب آتٍ لا محالة.
ثم بين الله ما يدل على غفلتهم وإعراضهم بقوله :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾.
ما يُنزل الله من قرآن يجدّد لهم فيه الذكر، ويُحْدِث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظةَ لعلّهم يتعظون، إلا زادهم ذلك لعباً واستهزاء.
أسرّوا النجوى : أخفوا حديثهم بينهم.
ولقد بالغوا في إخفاء نجواهم وتآمرهم على الرسول الكريم، فهل محمدٌ إلا بشرٌ مثلكم !
﴿ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ : أتصدّقون محمداً وتذهبون إلى مجلس السحر وأنتم تعلمون أنه ساحر ! ؟.
بل : كلمة تُذكر للانتقال من غرض لآخر
ثم بين اللهُ خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدَّمَ من أن النبي ساحر بقوله تعالى :﴿ بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون ﴾.
إنهم لم يثبُتوا على صفة له ولا على رأي يرونه.... كيف يصِفون هذا القرآن، وكيف يتقونه. قالوا في أول الأمر إن محمداً بشَرٌ مثلكم، ثم قالوا إن ما جاء به سِحر، ثم قالوا إنه أحلامٌ مختلطةٌ يراها محمد ويرويها عليكم، ثم عادوا وقالوا إن هذا الذي يجيء به كذبٌ مفترى، بل هو شاعر، فإذا كان رسولاً حقيقياً فليأتِنا بمعجزة مادية تدل على صدقه، كما أُرسِل الأنبياء الأولون مؤيدين بالمعجزات. إنهم حائرون لا يدرون بماذا يصفون هذا الرسول والقرآن، فينتقلون من ادّعاء إلى ادّعاء، ومن تعليلٍ إلى تعليل، ولا يستقرون على رأي.
قال قتادة : قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان ما تقولُه حقاً ويسرّك أن نؤمن فحوِّل لنا الصَّفا ذهبا. فأتاه جبريل فقال : إن شئتَ كانَ الذي سألك قومُك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم يُنظَروا ( يعني أن الله يهلكهم حالا ) وإن شئتَ استأنيتَ بقومك، قال بل أستأني بقومي، فأنزل الله :﴿ مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ.. الآية ﴾.
بيّن الله تعالى لهم جواباً لشُبهتهم أن الرسولَ لا يكون بشراً بقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
وما أرسلْنا قبلك يا محمد، من الرسُل إلا رجالاً من البشَر نوحي إليهم الدِّينَ ليبلّغوه إلى الناس، فاسألوا أيها المنكِرون أهلَ العلم بالكتب المنزلة إن كنتم لا تعلمون.
قراءات :
قرأ عاصم :﴿ نوحي ﴾ بالنون، والباقون :﴿ يوحَى ﴾ بالياء وفتح الحاء.
ثم بيّن الله كون الرسل بشَرا كسائر الناس في أحكام الطبيعة البشرية، فقال :
﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ﴾.
وما جعلنا الرسُلَ الذين قبلك أجساداً تخالفُ أجسادَ البشر، فقد كانوا لا يعيشون دون طعام وما كانوا مخلَّدين، بل إنهم كغيرهم من الناس كلّفهم اللهُ بتبليغ الرسالة.
وبعد أن حقق اللهُ رسالته صلى الله عليه وسلم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام شرع يحقق فضل القرآن الكريم ويبيّن نفعه للناس :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾.
لقد أنزلنا إليكم القرآن ورفعنا فيه ذِكركم أيها العرب، وفيه مجدكم وعِظَتُكم بما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق، وفاضل الآداب وسديد الشرائع والأحكام، أفلا تتفكرون ؟ ومَنْ هم العربُ لولا القرآن ؟ هو الذي جعلهم أمةً ذاتَ حضارة ودين قويم، بعد أن كانوا خاملين يعيشون في ظلام الهمجية والجاهلية.
أنشأنا : أوجدْنا.
والقصمُ أشدُّ حركات القطع، والتعبيرُ به يشير إلى شدة وقع الضربة على تلك القرى.
وكثير من أهل القرى أهلكناهم بسبب كفرهم وتكذيبهم لأنبيائهم، ثم أنشأنا بعد إهلاكهم أُمماً أخرى أحسنَ منهم حالاً ومالاً.
ثم بيّن حالهم حين حلول البأس بهم فقال :﴿ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ﴾.
فلما أيقنوا أن العذابَ واقعٌ بهم لا محالة سارعوا إلى الهروب، فخرجوا منها يركضون.... ولكن إلى أين !
يُقال لهم على سبيل الاستهزاء والتهكم : لا تهربوا أيها المنكرون، فلن يعصِمكم من عذاب الله شيء، ارجعوا إلى ما كنتم فيه من نعيم وترف ومساكن طيبة، لعلّكم تسألون عن ذلك كلّه فيم أنفقتموه.
حين يئسوا من الخلاص قالوا : يا هلاكنا إنّا كنا ظالمين، بهذا كانوا يحاولون التوبة والاعتذار، ولكن فات الأوان.
خامدين : كالنار التي خمدت وانطفأت.
فما زالوا يردّدون هذه المقالة ويصيحون بها حتى جعلناهم بالعذاب كالزَّرع المحصود، خامدين لا حياة فيهم.
ولا يليق به. وإنما خَلَقَنا اللهُ لحكمة وصوَّرَنا لغايةٍ سامية.
فيدمغُه : فيُبطله ويمحوه. ومن معاني الدمغ : الكسرُ والشجّ.
زاهق : زائل، هالك.
بل أمْرُنا الذي يليق بنا أن لا يكون هناك لهو، وإنما هو جِدٌّ فنقذف الحقَّ في وجه الباطل فيمحوه ويبطله فإذا هو هالك زائل، والويلُ لكم أيها الكافرون من وصفِكم ربكم بصفاتٍ لا تليق به وافترائكم على الله ورسوله.
هذه هي سُنّة الحياة الأصلية : الحقُّ دائما يعلو، وإذا تفشّى الباطل وعلا أمره فإنما يكون ذلك من تقصير منا وتخاذلٍ في أمرنا وبعدٍ عن ديننا، وفي الحديث الشريف :« للباطل صولة ثم يضمحلّ ».
ولا يستحسرون : لا يتعبون.
للهِ وحده كل ما في هذا الكون خَلْقاً ومُلْكا، فمن حقه وحده أن يُعبَدَ. والملائكة عنده يعبدونه حقاً ولا يستكبرون عن عبادته والخضوع له، ولا يكِلّون ولا يتعبون.
فهم دائبون في العبادة ليلَ نهار، لا يتخلَّل تسبيحّهم وتنزيههم لله فتورٌ ولا ملل.
بل عبدوا غيرَ الله، واتخذوا آلهةً من هذه الأرض من الأصنام وغيرها. كيف يعبدون هذه الأصنام وهي لا تستطيع إعادة الحياة !
لو كان في السموات والأرض إله آخر غير الله لوقع الاضطرابُ والفساد في هذا الكون، واختلّ النظام فيه بتعدد الآراء، واختلاف الأوامر.
﴿ فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ : فتنزيهاً لله ربّ العرش المحيط بهذا الكون، عما يقول هؤلاء المشركون.
وذِكر مَن قبلي : الكتب السابقة.
أعاد الاستنكار مرةً أخرى لبشاعة ما يقولون، ولإظهار جهلهم فقال :﴿ أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً.... ﴾.
بعد هذه الأدلّة التي ظهرت تقولون : إن لله شركاءَ فأين الدليل ؟ هاتوا دليلكم على صحة ما تقولون. إن هذا القرآن قد جاءَ مذكّرا لأُمتي بما يجب عليها، هذه كتب الأنبياء التي جاءت لتذكر الأممَ من قبلي، كلّها تشهد على توحيد الله، وليس فيها ذِكر للشركاء الذين تزعمون.
ولما كانوا لا يجِدون لهم شُبهة فضلاً عن حجة، ذمَّهم الله على جهلهم بمواضع الحق فقال
﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ : بل أكثُر هؤلاء لا يميزون بين الحق والباطل، وهذا هو السبب في إعراضهم وتجافيهم عن سماع الحق.
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ : إن الرسلَ جميعاً أُرسلوا بالتوحيد، فهو قاعدة العقيدة منذ أن بعثَ الله الرسلَ للناس، لا تبديل فيه ولا تحويل، فأخلِصوا لله العبادة.
وقال بعض مشركي العرب وهم بعض خُزاعة وجُهينة وبنو سَلَمة : إن الملائكة بناتُ الله فردَّ الله عليهم بقوله : سبحانه، تنزَّه عن أن يكون له ولد، بل الملائكةُ الذين عنده هم عبادٌ مكرَّمون مقرَّبون.
لا يتكلّمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه في ذلك ولا يتعدون حدود ما يأمرهم به.
ثم علّل سبحانه هذه الطاعة بعلمِهِم أن ربَّهم محيطٌ بهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم فقال :﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾.
إن الله يعلم كل أحوالهم وأعمالهم، وما قدّموه وما أخّروه، وهم لا يشفعون إلا لمن رضي الله عنه، وهم من خوف الله والإشفاق من عقابه دائماً حذِرون.
قال بعض المفسرين : عنى بهذا إبليسَ حيث ادَّعى الشرِكَة ودعا إلى عبادة نفسِه وكان من الملائكة، ولم يقلْ أحدٌ من الملائكة إني إله غيره.
ففتقناهما : ففصلناهما.
لقد ذكر الله في هذه الآية والآيات التي تليها ستة أدلة تثبت وجودَ الخالق الواحد القادر، ولو تدبَّرها المنصِفون، وعقَلَها الجاحدون، لم يجدوا مجالاً للإنكار.
الأول :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ :
أولم يعلم الذين كفروا ولم يبصروا الحق، أن السمواتِ والأرضَ كانتا في بدء خَلْقِهما ملتصقتين في صورة كتلة واحدة ففصلناهما حتى صارتا في هذا النظام ! وهو ما يسمونه : النظام الشمسي، ويتكون من الشمس، يدور حولها تسعة كواكب سيارة هي : عطارد، والزُّهرة، والأرض، والمريخ، والمشتري، وزحَل، وأورانوس، ونبتون، وبلوتون، وعدد من الأقمار يدور حول كل من هذه الكواكب.
ويدخل ضمن هذه الأسرة عدد من الأجسام الصغيرة تقع بين مداري المريخ والمشتري، وتدور حول الشمس كسربٍ من الطير، ومن بينهما المذنّبات، والشُهُب التي نرى الكثير منها يتهاوى في الليل نحو الأرض، ويتمزّق عند احتكاكه بالغلاف الجوي المحيط بها.
أما بقية الأجرام التي نراها في السماء ليلاً تزين سطح القبة السماوية فهي النجوم، وهي شموس لا حصر لها، والكثيرُ منها يَكْبُرُ شمسَنا. وهي بعيدة جدا لا نستطيع الوصول إليها بكل ما لدينا من وسائل حديثة، والبحث فيها يطول.
ولعلماء الفلك نظريات عديدة في كيفية انفصال هذه الأجرام عن بعضها البعض، لكن هذا الموضع ليس موضع بحثه. والقرآن الكريم كتاب يهدي الإنسان إلى سعادته في دنياه وآخرته وليس كتاب نظريات في الفلسفة والعلم والفلك وغيره، وان كان ما يرِدُ فيه
لا يخالف أحدث نظريات العلم والفلك، واكبر دليل على ذلك هذه الآية العظيمة.
الثاني :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ : وخلقنا من الماء كلَّ ما في هذا العالَم من حياة، فالماء مصدر الحياة لكل نامٍ، إنساناً كان أو حيواناً أو نباتا، فهل بعد كل هذا يعرضون، فلا يؤمنون بأنه لا اله إلا الله !
وتقرر هذه الآية حقيقةً علمية ثابتة، وهي أن الماء هو المكوِّن الهام في تركيب مادة الخلية، وهي وَحْدة البناء في كل كائن حيّ. ولقد أثبت علم الكيمياء الحيوية أن الماء لازم لحدوث التفاعلات والتحولات التي تتم داخل أجسام الأحياء.
وأثبت علم وظائف الأعضاء أن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه التي بدونها
لا تتوافر له مظاهر الحياة ومقوماتها.
تميد : تضطرب وتتحرك.
فجاجا سبلا : الفجاج واحدها فج : المكان المنفرج، والسبُل واحدها سبيل وهو الطريق الواسع.
الدليل الثالث الذي يثبت وجود الخالق : وجعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تضطرب بمن عليها من الخلق، وجعلنا فيها طرقاً فسيحة، ومسالكَ واسعة، لكي يهتدوا بها في سيرهم إلى أغراضهم.
وقد ثبت أن توزيع اليابس والماء على الأرض، ووجودَ سلاسل الجبال عليها، يحقق الوضع الذي عليه الأرض من التوازن، فالجبالُ ذات الجذور الممتدة في داخل القشرة الأرضية إلى أعماق كبيرة تتناسب مع ارتفاعها، فهي كأنّها أوتاد. وبهذا الترتيب تتوزع الأوزان على مختلف جوانب الكرة الأرضية.
وهذه المعلومات معجزة في الآية ترشِد إلى أن القرآن وحيٌ يوحى، لأن أحدا لم يكن يعلم عن هذه المعلومات شيئا في العصر الذي نزلت فيه.
ولما ارتفعت الجبال حدثت السهول والأودية والممرات بين الجبال وشواطئ البحار والمحيطات والهضاب، وكانت سُبلاً وطرقا. وهذا هو الدليل الرابع حيث يقول الله تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ : وجعلنا في الأرض طرقاً بين جبالها يسلكها الناس من قُطر إلى قطر ومن إقليم إلى آخر، ليهدوا بذلك إلى مصالحهم وأمورهم في هذه الحياة الدنيا.
فالآية تقرر أن السمواتِ وما فيها من أجرام محفوظةُ بكيانها متماسكةٌ لا خلل فيها، وفق نظام بديع لا يتخلف ولا يتبدل. وقد جعل الله لهذه الأرض غلافاً جوياً يحفظها وتتبع الإشعاعات الضارة من أن تصل إليها، وجعل فوق الغلاف الجوي أجرام السماء على أبعاد مختلفة تحتفظ بنظام دورانها وكيانها منذ القدم وإلى ما شاء الله.
والله خلق لكم الليلَ والنهار نعمةً منه عليكم فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم، وخلَقَ الأرض والشمس والقمر تجري في أفلاكها، لكل جرم سماوي مدارُه الخاص يسبح فيه. وأجرام السماء كلها لا تعرض السكون، وتتحرك في مدارات خاصة.
وما جعلنا لأحدٍ من البشر قبلك أيها النبي الخلود في هذه الدنيا، فكل من على هذه الأرض ميت، كما قال تعالى ايضا :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ أفإن متَّ فهم يخلُدون في هذه الحياة ! !.
نزلت هذه الآية لما تضايق كبراء قريش من الرسول الكريم فقالوا : نتربّص به الموتَ فنستريح منه.
ثم أكد الله الأمرَ وبيّن أنه لا يَبقى أحد في هذه الدنيا فقال :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾.
كل نفس لا بد أن تذوق الموت، إنما نعاملكم في هذه الحياة معاملة المختبِر بما يصيبكم من شر أو خير، ونعلم الشاكر للخير والصابر على البلاء، إلينا مرجعُكم فنحاسبكم على أعمالكم. والكثير من الناس يصبرون على الابتلاء بالشرّ من مرضٍ أو فقر أو غير ذلك، لكن القليل القليل منهم يصمد أمام الابتلاء بالخير، ولا تبطره النعمة، ويقوم بحقها خير قيام، ويصبر على الإغراء بالمناصب والمتاع والثراء.
روى مسلم في صحيحه أن الرسول الكريم قال :«عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمنين، إن أصابته سرّاء شَكَرَ فكان خيراً له، وان أصابته ضرّاء صَبَرَ فكان خيرا له »
خلق الله الإنسانَ وفي طبيعته العجلة، فهو دائماً يستعجل الأمور لأنه طُبع على العجلة، فيريد أن يجد كل ما يجول في خاطره حاضراً. والعَجَلة مذمومة، وفي المثل : إن في العجلة الندامة، والعجلة من الشيطان. فتمهلوا أيها المشركون، ولا تستعجِلوا طلب العذاب، سأُريكم آياتي الدالّةَ على صحة رسالة النبي محمد وما ينذركم به من عذاب في الدنيا والآخرة.
فهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين : متى يجيئنا هذا الوعدُ بعذاب الدنيا والآخرة الذي تَعِدوننا به إن كنتم صادقين فيما تقولون ؟
لذا بيّن الله شدةَ جهلهم بما يستعجلوا، وعظيمَ حماقتهم لهذا الطلب فقال :
﴿ لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾.
لو يعلم هؤلاء الكفار ما سيكون حالُهم في النار، يوم لا يستطيعون دَفْعَ النار عن أن تلفح وجوههم وتشوي ظهورهم، ولا يجدون من ينصرهم وينقذهم، لو يعلمون كل هذا
ما قالوا ذلك، ولا استعجلوا العذاب، وهذا هو الجواب وهو محذوف..
فتبهتهم : تحيرهم، تدهشهم.
وهم لا ينظرون : لا يُمهلون، لا يؤخَّرون.
ثم بيّن أن هذا الذي يستعجلونه غيرُ معلوم ولا يأتي إلا فجأة فقال :﴿ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾.
إن الساعة لا تأتي إلا بغتةً، تفاجئهم فتحيّرهم وتدهشهم، ولا يستطيعون ردَّها،
أو تأخيرها، ولا هم يُمهَلون حتى يتوبوا ويعتذروا فقد فات الأوان.
إن ما حَدَثَ لك من استهزاء قد حدث قبلك : فحلّ بالّذين سخِروا من رسلهم العذابُ والبلاء، فعلموا أن مصير المستهزئين بالرسل معروف، وعاقبتَهم وخيمةٌ، وسيكون لك النصر المبين، وفي سورة الأنعام :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [ الآية : ٣٥ ]. وقد نصره الله وصدق وعده.
وانظر أيها القارىء كيف يصف الله نفسه بالرحمة دائما.
صحبك الله : حفظك وأجارك، وأصحبَ الرجَلَ : حفظه، وأجاره.
ثم يعيد السؤال في صورة أخرى وهو سؤال للإنكار والتوبيخ :﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا ﴾ كلاَّ فهؤلاء الآلهة لا يستطيعون أن يُعِينوا أنفسهم حتى يعينوا غيرهم.
﴿ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ ﴾ : ولا هم يُجارون ويُحفظون منا.
إننا لم نعجَّل لهم العذابَ بل استدرجناهم ومتعناهم حتى طالت أعمالهم وهم في الغفلة فنسوا عهدَنا، وجهِلوا مواقع نعمتنا، فاغترّوا بذلك. أفلا يرى هؤلاء المشركون أنّا نقصد الأرض فتنقصها من أطرافها بالفَتْح ونصرِ المؤمنين، ونقتَطعُها من أذى المشركين أفهم الغالبون، أم المؤمنون الذين وعدهم الله بالنصر والتأييد ؟
بعد أن بين الله هول ما يستعجلون، وحالَهم السيئة حين نزوله بهم، ثم نعى عليهم جهلهم وإعراضهم عن ذِكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار، أمَرَ رسولَه الكريم أن يقول لهم : إن ما أخبركم به قد جاءَ من عند الله فقال :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي ﴾ : قل أيها النبي لهؤلاء الجاحدين السادرين في غَيِّهم : إنما أحذّركم بالوحي الصادق الصادر عن الله، فإن كنتم تسخرون من أمرِ الساعة وأهوالها، فإنها من وحي الله وأمره، لا من وحي الخيال.
ثم أردَفَ بأن الإنذار مع مثل هؤلاء لا يجدي فتيلا، فهم كالصمّ الذي لا يسمعون داعي الله، فقال :﴿ وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ ﴾.
وكيف يُجدي الإنذارُ من كان أصم لا يسمع ! وكيف يسمع الطرش النداءَ حين يوجّه إليهم ! وكل من لا يستجيب لداعي الله فهو أصم ولو كان يسمع ويرى.
قراءات :
قرأ ابن عامر :﴿ ولا تُسمع الصم الدعاء ﴾ بضم التاء وكسر الميم، والباقون :﴿ ولا يَسْمعُ الصمُّ ﴾ بفتح الياء والميم، وضم الصم.
وحين يمسهم أقل العذاب يوم القيامة يدعون على أنفسِهم بالويلِ والثبور ويقولون : إنا كنا ظالمين لأنفسنا بكفرنا، ويندمون على ما فَرَطَ منهم، لكنه لن ينفعهم الندم ولا الاعتراف بعد فوات الأوان.
الخردل : نباتُ عشبي ينبت في الحقول، تُستعمل بذوره في الطب، والطعام، ويُضرب به المثل في الصغر.
حاسبين : محصين عادين.
ثم يبين في خاتمة هذا الحوار ما سيقع من أحداث يوم القيامة وحين يأتي ما أُنذروا به فيقول :﴿ وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾.
في ذلك اليوم العظيم نضع الموازينَ العادلة الدقيقة التي تُحصي كل شيء، ويأخذُ كل إنسان حقه كاملاً، ولا تُظلم نفسٌ شيئا، ولو كان العمل بوزن حبةِ الخردل، وحبة الخردل جزء من ألف جزء من الغرام، فإن الكيلو غرام يحتوي على ٩١٣ ألف حبة، وهذا أصغُر وزنٍ لحبة نبات عُرف حتى الآن. فإن كان الإنسان اخترع الكمبيوتر، الذي يحصي أدقّ المعلومات فإن الله عنده ما هو أدق منه وأعدل. ولا يخفى ما في هذه الآية من التحذير الشديد والوعيد.
قراءات :
قرأ نافع :﴿ وإن كان مثقالُ حبة ﴾ برفع مثقال، والباقون :﴿ مثقالَ ﴾ بالنصب.
يبين الله تعالى هنا أن الرسل كلّهم من البشر وهي السُنّة المطّردة، وأن نزول الكتاب على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعةً مستغربة، فقد أنزلْنا على موسى وهارونَ الفرقانَ، وهو التوراة.
والفرقانُ من صفات القرآن أيضا، فالكتب المنزلة من عند الله كلّها فرقان بين الحق والباطل، وضياء تكشف ظلماتِ القلب، وتذكير ينتفع به المتقون.
ثم يذكر صفاتِ المتقين :﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ ﴾.
والمتقون هم الذي يخافون ربَّهم في السرّ والغيب والعلانية، وهم مع ذلك خائفون وَجِلون من عذاب يوم القيامة، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالضياء ويسيرون على هداه.
لقد أعطينا إبراهيمَ النبوة والهداية إلى التوحيد الخالص، من قبلِ موسى وهارون، وكنّا عالمين بفضائله التي تؤهله لحمل الرسالة.
كان إبراهيم من أهل ( فدان آرام ) بالعراق، وكان قومه أهلَ أوثان، وكان أبوه نجارا ينحت التماثيل ويبيعها لمن يعبدها من قومه، وقد أنار الله قلب إبراهيم وهداه إلى الرشد فعلم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع.
لها عاكفون : مواظبون على عبادتها.
اذكر أيها النبي، حين استنكر إبراهيمُ عبادة الأصنام وقال لأبيه وقومه : ما هذه الأصنام التي تعبدونها وتظلون ملازمين لها ؟
لم يقنع إبراهيم بجوابهم هذا، وقال لهم إنكم أنتم وآباؤكم في ضلال واضح بعبادتكم لهذه التماثيل التي لا تنفع ولا تضر.
لمّا سمعوا ما في كلام إبراهيم مما يدل على تحقير آلهتهم، استبعدوا أن يكون جادّاً فيما يقول، فقالوا : هل ما تقوله هو الحق، أم أنت هازل من اللاعبين ! ؟.
عند ذاك ردّ عليهم ببيان الحق وذكر الإله الذي يستحق العبادة :﴿ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ على ذلكم منَ الشاهدين ﴾.
قال : جئتكم بالحق لا باللعب. ثم بيّن لهم أن الإله المستحق للعبادة هو ربُّ السماوات والأرض الذي خلق كل شيء، فمن حق هذا الإله وحده أن يُعبد، وأنا على ما أقول لكم من الشاهدين.
وبعد أن أقام البرهان على إثبات الحق نوى الشر في نفسه لهذه الآلهة التي جمدوا على عبادتها، ولم تُفدْهم موعظةٌ ولا برهان عن الغواية بها، فأقسَمَ في نفسه أن يُلحق الأذى بها، فقال :﴿ وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ ﴾ : أقسَم إبراهيم بالله أنه سيكيد الأصنامَ بأن يكسرها بعد ذهابهم من معبدهم.
وأقبل عليها فكسرها جميعا إلا الكبير فتركه. وقد أراد بهذه الطريقة أن يُفْهم القومَ مركز آلهتهم، ويقيم الحجة عليهم في أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر. فها هي لم تستطع أن تردّ الأذى عن نفسها.
أما تركُ إبراهيم كبيرها قائماً فذلك لكي يسألوه إذا كان يجيب أو يتكلم.
قراءات :
قرأ الكسائي :﴿ جذاذاً ﴾ بكسر الجيم. والباقون :﴿ جذاذا ﴾ بضم الجيم.
واتفقوا أن يحاكموه علناً على رؤوس الأشهاد فقالوا : أحضِروه أمام جميع الناس ليشهدوا عليه وتكون شهادتهم عليه حجةً لنا.
فكأنهم أفاقوا من غفلتهم لحظات، فراحوا يلومون أنفسَهم ويقولون : حقيقةً إنكم أنتم الظالمون، كيف نعبدُ آلهة لا تدفع الأذى عن نفسها !
ثم عادوا إلى جهالتهم كأنهم وقفوا على رؤوسهم، وانقلبوا من الرشاد إلى الضلال، وقالوا لإبراهيم : أنت تعلم أن هؤلاء لا يتكلمون فكيف تطلبُ منا أن نسألهم ؟
فقال إبراهيم متهكماً عليهم : لقد أقررتُم أن هذه الأصنام لا تنطق ولا تردّ أذى ولا تنفع، ومع ذلك تعبدونها من دون الله.
هنا لجأوا إلى منطق العُتاة وفعل الطغاة، فقالوا : أحرِقوا إبراهيم هذا بالنار، وانصروا آلهتكم عليه بهذا العقاب، إن كنتم تريدون نصرها.
أوقَدوا ناراً عظيمة ليحرقوه ثم ألقوه فيها، فقلنا للنار : كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فلم تضرّه بإذن الله، ونجا منها، وكانت معجزةً كبرى لإبراهيم.
ونقل كثير من المفسرين كلاماً كثيراً في سيرة إبراهيم من الأساطير القديمة نضرب عنه صفحا لعدم الفائدة منه.
الأرض التي باركنا فيها : الديار المقدسة وهي ديار الشام كاملة.
ونجّينا إبراهيم ولوطاً الذي آمن معه وهاجرا إلى الأرض المباركة، وهي أرض الشام، فنزل إبراهيم جنوبي القدس في الخليل من أرض فلسطين، ونزل لوط في سدوم وعاموراء وهي منطقة البحر الميت.
ووهبنا لإبراهيم إسحاق، ثم زدناه نافلةً يعقوبَ بن إسحاق، وكلاهما من الصالحين.
لقد ترك إبراهيم عليه السلام وطناً وأهلا وقوما، فعوضه الله وطناً خيرا من وطنه، وجعل ابنه إسحاق، وحفيده يعقوب أهلا خيرا من أهله السابقين.
القرية : سدوم من أراضي البحر الميت.
الخبائث : الأعمال القذرة.
الكرب : الغم.
أما لوط فقد منحه الله حكمةً ونبوة وعلما ً ﴿ ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ﴾ وهي اللواطة، إن أهلها كانوا قوم سوء خارجين عن الدين، وقد سبقت قصة لوط مفصَّلة في سورة الأعراف، وسورة هود.
نفشت فيه غنم القوم : رعته الغنم في الليل بلا راع.
اذكر أيها الرسول، نبأ داود وسليمان حين حكما في الزرع الذي رعته غنمٌ لقومٍ آخرين غير صاحب الزرع فأفسدتْه، وكان ربك شاهداً عليماً بما حكم به داود وسليمان.
وقصة الحكم : أن غنماً رعت في زرع بالليل فأفسدته، فقضى داود بأن صاحب الزرع يأخذ الغنم مقابل زرعه. فلما علم سليمان بالحكم، قال : الحكم أن تبقى الغنم مع صاحب الزرع ينتفع بلبنها وصوفها، ويكلَّف صاحبُ الغنم بأن يحرث الأرض ويزرعها حتى إذا استوى الزرع سلّمه إلى صاحبه واسترد غنمه. وكان هذا الحكم هو الصواب. ولما علم داود بالحكم استحسنه وأمضاه.
وسخّرنا الجبال والطير لداود يسبِّحن معه بتسبيحٍ لا يسمعه البشرَ، وكنا فاعلين ذلك بقدرتنا. وهذا التسبيح لا نفهمه نحن. وفي سورة الإسراء الآية ٤٥ :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ فعلماؤنا الأقدمون كانوا يقولون إن هذا التسبيح مَجازي، وذلك لعدم معرفتهم. وكيف يكون مجازياً، واللهُ تعالى في عدد من الآيات يحدّثنا عن تسبيح الكون والذرّات وكل شيء للخالق العظيم ! !
يقول الدكتور عماد الدين خليل في مجلة العربي العدد ٢٥٩ رجب ١٤٠٠ حزيران ١٩٨٠.
« وإننا لنقف هنا خاشعين أمام واحد من جوانب الإعجاز القرآني، تلك المجموعة من الآيات الكريمة التي تحدثنا عن تسبيح الكون والذرات للخالق العظيم، من سورة الحشر والصف والإسراء.... إن التسبيح ها هنا لا يقتصر على كون الذرات والأجسام الفضائية تخضع للنواميس التي وضعها الله فيها، فهي تسبّح بحمد الله سبحانه، فهنالك
ما هو أبعد من هذا وأقرب إلى مفهوم التسبيح الحي أو التقديس الواعي. إن هذه الأشياء المادية تملك أرواحا، وهي تمارس تسبيحها وتقديسها بالروح وربما بالوعي الذي
لا نستطيع استيعاب ماهيته. وإن هذا ليقودنا إلى مقولة ( اوينقتون ) : ان مادّة العالم هذه مادة عقلية، كما يقودنا إلى الآية الكريمة ﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.... ﴾.
لتحصِنكم : لتحفظكم.
من بأسكم : من حربكم، والبأس هي الحرب.
وعلّمنا داودَ صنعة الدروع لتكون لباساً يمنعكم في الحرب ويَقيكم من شدّة بعضكم لبعض فاشكروا الله على هذه النِعم التي أنعم بها عليكم.
وهذه حقيقة واقعة، وذلك أن الحديد استُعمل في عصر داود في صناعة الدروع.
قراءات :
قرأ ابن عامر وحفص :﴿ لتحصنكم ﴾ بالتاء، وقرأ أبو بكر :﴿ لنحصنكم ﴾ بالنون، والباقون :﴿ ليحصنكم ﴾ بالياء.
وسخّرنا لسليمانَ الريحَ عاصفة شديدة الهبوب تارة وليّنةً رُخاءً تارة أخرى، تجري بحسب رغبته إلى أي بقعة في أرض الشام المباركة، وكنّا بكل شيء عالمين، لا تغيب عنا صغيرة ولا كبيرة.
عملاً دون ذلك : غير ذلك من بناء المدن والقصور والصناعات.
وسخّرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في الماء إلى أعماق البحار، ليستخرجوا له اللؤلؤ والمرجان، ويعملون له ما يريد من بناء الحصون والقصور والمحاريب والتماثيل، كما جاء في سورة سبأ ١٢ :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ﴾.
﴿ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ : من التمرّد على أمر سليمان، فهم لا ينالون أحداً بسوء.
اذكر أيها النبي، قصة أيوب حين دعا ربه وقد أضناه المرض، ومسّه البلاء، فقال :
يا رب، قد أصابني الضر وأنت الكريم الجواد، وأنت أرحم الراحمين.
وقصة أيوب من القصص الرائعة، والنصوصُ القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل. وقد ذُكر صاحبها في القرآن أربع مرات : في سورة النساء، والأنعام، والأنبياء، وص وله سِفر خاص به في العهد القديم يحتوى على ٤٢ إصحاحا في خمسة فصول كبيرة :
الأول : يتضمن تقوى أيوب وأملاكه وأقاربه وصفاته، الثاني : يتضمن ما جرى بينه وبين أصحابه من الجدال، الثالث : يذكر أقوال الحكمة التي نطق بها ( الياهو ) اصغر أصحاب أيوب، الرابع : يذكر مخاطبة الله إياه من العاصفة، الخامس : يتضمن خضوعه وشفاءه وتعويض ما فقده من المال والأهل.
وأيوب من أنبياء العرب كان يسكن أرض ( عُوص ) في شرق فلسطين أو في حوران. وهو من بني إبراهيم، كما جاء في سورة الأنعام الآية ٨٤ :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ ﴾، وسِفر أيوب عربي الأصل بما فيه من أسماء للأشخاص والأماكن، ومن وصف لبادية الشام وحيواناتها ونباتاتها.... يقول الأب لويس شيخو في كتابه :( النصرانية وآدابها ) وهو يذكر علم النجوم : ولنا شاهدٌ في سِفر أيوب على معرفة العرب لأسماء النجوم وحركاتها في الفلك، إذ كان أيوب النبي عربي الأصل عاش غربي الجزيرة حيث امتحن الله صبره.
ويقول الدكتور جواد علي في كتابه :( تاريخ العرب قبل الإسلام ) : من القائلين بأن سفر أيوب عربي الأصل والمتحمسين في الدفاع عن هذا الرأي المستشرقُ :( مرجليوث ). وقد عالج هذا الموضع بطريقة المقابلات اللغوية ودراسة الأسماء الواردة في سفر أيوب. وقد أكد هذا الرأي كثير من المؤرخين.
وخلاصة قصته أنه كان صاحب أموال كثيرة، وابتلاه الله بان أذهبَ أمواله حتى صار فقيرا، وابتلاه بجسده حتى نفر عنه أقاربه، وبقي طريحاً مدة من الزمن، وهو صابر مستمرٌّ على عبادته وشكره لربه.
ثم إن الله تعالى عافاه ورزقه وردّ له أحسن مما ذهب عنه من المال والولد.
مغاضِبا : غضبان من قومه.
الظلمات : جمع ظلمة، المكان المظلم.
واذكر أيها الرسول، يونسَ، صاحبَ الحوت، حين بعثه الله إلى أهل ( نينوى ) في العراق، فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته فأبَوا عليه وتمادوا في كفرهم، فغضب منهم وتركهم. وركب مع قوم في سفينة، فهاج البحر وكان لا بد من إلقاء أحدٍ ممن في السفينة، فوقعت القرعة على يونس، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين ﴾ [ الصافات : ١٤١ ]، فألقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت. فدعا ربه وهو في الظلمات، واعترف بأنه من الظالمين.
قراءات :
قرأ يعقوب :﴿ فظن أن لن يُقدَر عليه ﴾ بضم الياء وفتح الدال، والباقون :﴿ نقدر ﴾ بفتح النون وكسر الدال.
فرزقه يحيى من خيرة الأنبياء. وأصلحنا له زوجته بأن جعلناها تلد، فهم أهل بيت صالحون، يعملون الخير ويعبدوننا رغبة منهم في رحمتنا، وخوفا من عذابنا. وقد مر ذكر زكريا في سورة آل عمران، وسورة مريم.
بعد عرض سُنن الله الكونية، الشاهدة بوحدة الخالق وسنن الله في إرسال الرسل بالدعوات الشاهدة بوحدة العقيدة، يؤكد القرآن الكريم هنا وحدة الأمة والإله، وأن الله لا يضيع عمل عاملٍ مخلص، ثم يعرض مشهداً من القيامة ومصير المشركين والشركاء في ذلك اليوم.
﴿ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون ﴾ : الخطاب هنا لجميع الناس، أن هذه ملّتكم ملة واحدة، وأنا ربكم أيها الناس، فعليكم أن تدينوا جميعاً بدِين التوحيد الذي جاء به جميع الأنبياء. فاعبدوني دون جميع هذه الآلهة والأوثان. وأمةً بالنصب حال.
مع كل هذا الإرشاد تفرَّق أكثر الناس بحسب شهواتهم، وصاروا شِيعاً مختلفة، منهم الجاحدون ومنهم المشركون، وكلّهم راجعون إلينا.
إن كل أهل قريةٍ أهلكناهم في الدنيا لا بد أن يرجعوا إلينا ليلاقوا جزاءهم يوم القيامة فالجزاء على الأعمال إنما يتم في الآخرة ولو قدِّم منه شيء في الدنيا. وهذه الآية أشكلت على المفسرين، وقال بعضهم إنها مشكلة، وتعذر معناها : وحرام على أهل قرية حكمنا بإهلاكها أن يُقبل لهم من عمل لأنهم لا يتوبون، وقال بعضهم : وحرم الله على أية قرية أهلكها الله أن يعيدها إلى الدنيا...
قراءات :
قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي :﴿ وحرم ﴾ بكسر الحاء وإسكان الراء، والباقون :﴿ وحرام ﴾ بفتح الحاء والراء وألف بعدها والمعنى واحد.
ينسلِون : يسرعون.
لا يزال الأمر يجري على ما قدّمنا، نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين ونشكر سعيهم، ونهلك القرى الظالمة، ونحرم رجوعهم بعد الهلاك إلى أن يُفتح سدُّ يأجوج ومأجوج، وتراهم يسرعون من كل مرتفع من الأرض. وهذا الأمر من علامات اقتراب الساعة، كما جاء في سورة الكهف ٩٨ :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ﴾.
قراءات :
قرأ ابن عامر :﴿ فُتحتْ ﴾ بالتشديد، والباقون :﴿ فُتِحت ﴾ بالتخفيف.
ويقال لهؤلاء الكفار : إنكم جميعا مع من عبدتم من دون الله وقودُ نارِ جهنم واردون لها، وداخلون فيها.
بعد أن ذكر اللهُ حالَ أهلِ النار وعذابهم بسبب شِركهم بالله، بيّن أحوال السعداء من المؤمنين بالله، والذين قدَموا صالح الأعمال فقال :﴿ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ : إن الذين وفّقناهم لأتّباع الحق وعمل الخير، وسبقت لهم منّا البِشارة بالجنة، أولئك لا يدخلون النار ولا يقربونها، ولو أن بعضهم عُبد مِن دونِ الله كالمسيح بن مريم، فإنه لا دخْل له بعصيان من عَبده.
إنهم لا يسمعون صوت النار، وهم في سرور دائم وفيما تشتهيه أنفسهم خالدون.
يوم نطوي السماءَ كما تطوى الورقة في الكتاب، ونعيد الخلق إلى الحساب والجزاء، وهو علينا هيّن، فكما بدأناهم نعيدُهم، قد وعدْنا بذلك وعداً حقا، لا بد من تحققه وإنا لذلك لفاعلون.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :﴿ للكتب ﴾ بالجمع، والباقون :﴿ للكتاب ﴾ بالمفرد.
لقد كتب الله عنده وأثبتَ في قديم عِلمه، ثم أثبتَ في الكتب السماوية من بعدِ ذلك أن الأرض لا يعمرها من عباده إلا من يصلح لعمارتها، وهذه سُنة من سنن الله لا تتخلَّف ولا تتبدَّل. كما قال تعالى أيضا :﴿ إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ]، ﴿ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض ﴾ [ النور : ٥٥ ].
على ما تصِفون : على ما تفترون وتكذبون.
قل يا محمد لمشركي قومك وللناس أجمعين : إن الله أوحى إلي أنه لا إله إلا هو اله واحد، فأسلموا إليه واخضعوا جميعا.
آذنتكم على سواء : أعلمتكم جميعاً بلا استثناء.
فإن أعرضوا عن اتباع دعوتك، فقل لهم : لقد أعلمتكم جميعاً برسالتي وما أمرني به ربي ولا أدري ما توعدون به من البعث والحساب أهو قريب أم بعيد... إن علمه عند الله.
ومتاع : كل ما يتمتع به.
وما أدري سببَ تأخير جزائكم، لعلّه اختبار لكم يمتحنكم به الله، ويؤخركم ليمتعكم بلذائذ الحياة إلى حينٍ قدره الله بحسب حكمته.
المستعان : الذي نستعين به.
وهنا في ختام هذه السورة يتوجه الرسول إلى ربه وقد أدى الأمانة وبلّغ الرسالة فيطلب من ربه حكمه الحق بينه وبين قومه، ويستعينه على كيدهم وتكذيبهم.
يا رب، احكُم بيني وبين من بلّغتهم الوحيَ بالعدل، والله الرحمن هو المستعان به على ما تصفون من الشرك والضلال وما تزخرفون من أباطيل.