تفسير سورة ص

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة ص من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ (ص)
بسم اللَّه الزحمن ابرّحيم
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)
قرئت بالفتح وبالكسر، وبتسكين الدال، وهي أكثر القراءة.
فمن أسكن " صاد " من حروف الهجاء، وتقدير الدال الوقف عليها.
وقد فسرنا هذا في قوله (الم) أعني باب حروف الهجاء.
ومعناه الصادق اللَّه، وقيل إنها قسم.
* * *
وقوله: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).
عطف عليها، المعنى أقسم بصاد وبالقرانِ ذي الذكر، ومن فتحها فعلى
ضَرْبيْن، يكون فتحاً لالتقاء السَّاكنيْن، ويكون على معنى اتل صادَ، ويكون
صاد اسماً للسورة لا ينصرف.
ومن كسر فعلى ضربين - لالتقاء السَّاكنين.
- وبكسرها على معنى صاد القرآن بعَمَلِك، من قولك صادَى يُصَادِي إذَا قَابَل وَعَادَل، يُقال صاديته إذا قابلته.
وجواب قوله: صَادِ والقرآن (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤).
وقال قوم: الجوابُ: (كم أهلكنا قبلَهم مِنْ قَرْنٍ)
ومعناه لَكَمْ أهلكنا قبلهم مِنْ قَرْنٍ فلما طال الكلام بَيْنهُمَا حذفت اللام.
ومعنى (والقرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).
أي ذي الذكر والشرف، وقيل ذي الذكر: قد ذكرت فيه أَقَاصيصُ
الأوليت والآخرين وما يُحتاج إليه في الحلال والحرام (١).
* * *
(كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣)
(١) قال السَّمين:
قرأ العامَّةُ بسكونِ الدالِ مِنْ «صادْ» كسائرِ حروف التهجِّي في أوائلِ السُور. وقد مرَّ ما فيه. وقرأ أُبَيٌّ والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وابنُ أبي عبلة وأبو السَّمَّال بكسرِ الدال مِنْ غير تنوينٍ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه كَسْرٌ لالتقاءِ الساكنين، وهذا أقربُ. والثاني: أنه أمرٌ من المصاداة وهي المعارَضَةُ ومنه صَوْتُ الصَّدى لمعارضتِه لصوتِك وذلك في الأماكن الصلبةِ الخاليةِ والمعنى: عارِضِ القرآنَ بعملك، فاعمَلْ بأوامرِه وانتهِ عن نواهيه. قاله الحسن. وعنه أيضاً: أنه مِنْ صادَيْتُ أي: حادَثْتُ. والمعنى: حادِثِ الناسَ بالقرآن.
وقرأ ابن أبي إسحاق كذلك، إلاَّ أنه نَوَّنَه وذلك على أنَّه مجرورٌ بحرفِ قَسَمٍ مقدرٍ، حُذِفَ وبقي عَمَلُه كقولِهم: «اللَّهِ لأفعلَنَّ» بالجرِّ. إلاَّ أنَّ الجرَّ يَقِلُّ في غيرِ الجلالة، وإنما صَرَفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب والتنزيل. وعن الحسنِ أيضاً وابن السَّمَيْفَعِ وهارون الأعور صادُ بالضمِّ من غيرِ تنوينٍ، على أنه اسمٌ للسورةِ، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذه صاد. ومُنِعَ من الصرف للعَلميَّة والتأنيث، وكذلك قرأ ابن السَّمَيْفَع وهارون: قاف ونون بالضمِّ على ما تقَّدمَ.
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةِ محبوب «صادَ» بالفتح مِنْ غير تنوينٍ. وهي تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ. البناءَ على الفتح تخفيفاً ك أين وكيف، والجرَّ بحرفِ القسمِ المقدرِ، وإنما مُنع من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ كما تقدَّم، والنصبَ بإضمارِ فِعْل أو على حذفِ حَرْفِ القَسم نحوَ قولِه:
٣٨٢٩............................. فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثريدُ
وامتنعَتْ من الصرف لِما تقدَّم، وكذلك قرآ: «قاف» و «نون» بالفتح فيهما، وهما كما تقدَّم، ولم أحفَظْ التنوينَ مع الفتح والضم.
قوله: «والقرآنِ» قد تقدَّم مثلُه في ﴿يس والقرآن﴾ [يس: ١ - ٢]، وجوابُ القسم فيه أقوالٌ كثيرةٌ، أحدها: أنه قولُه: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ﴾ [ص: ٦٤]، قاله الزجاج والكوفيون غيرَ الفراءِ. قال الفراء: «لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قولِه:» والقرآن «. الثاني: أنه قولُه:» كم أهلَكْنا «والأصلُ: لكم أهلَكْنا، فحذف اللامَ كما حَذَفها في قولِه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: ٩] بعد قولِه: ﴿والشمس﴾ لَمَّا طال الكلام. قاله ثعلبٌ والفراء. الثالث: أنه قولُه: ﴿إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل﴾ [ص: ١٤] قاله الأخفش. الرابع: أنه قولُه:» صاد «؛ لأنَّ المعنى: والقرآنِ لقد صدق محمد. قاله الفراء وثعلب أيضاً. وهذا بناءً منهما على جوازِ تقديمِ جوابِ القسم، وأنَّ هذا الحرفَ مُقْتَطَعٌ مِنْ جملةٍ هو دالٌّ عليها. وكلاهما ضعيفٌ. الخامس: أنه محذوفٌ. واختلفوا في تقديره، فقال الحوفي: / تقديرُه: لقد جاءَكم الحقُّ، ونحوُه. وقَدَّره ابن عطية: ما الأمرُ كما يَزْعمون. والزمخشري: إنه لَمُعْجِزٌ.
والشيخ: إنَّك لمن المُرْسَلين. قال: «لأنه نظيرُ ﴿يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ [يس: ١ - ٣] وللزمخشري هنا عبارةٌ بشعةٌ جداً. وهي:»
فإنْ قلتَ: قولُه: ص والقرآنِ ذي الذكر بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ كلامٌ ظاهرُه متنافٍ غيرُ منتظِمٍ. فما وجهُ انتظامِه؟ قلت: فيه وجهان، أَنْ يكونَ قد ذكر اسمَ هذا الحرفِ من حروفِ المعجمِ على سبيلِ التحدِّي والتنبيه على الإِعجازِ كما مَرَّ في أَول الكتاب، ثم أتبعه القسمَ محذوفَ الجواب لدلالةِ التحدِّي عليه، كأنه قال: والقرآنِ ذي الذِّكْرِ إنه لَكلامٌ مُعْجِزٌ. والثاني: أَنْ يكونَ «صاد» خبرَ مبتدأ محذوفٍ على أنها اسمٌ للسورةِ كأنه قال: هذه صاد. يعني هذه السورةَ التي أعْجَزَتِ العربَ والقرآنِ ذي الذِّكْر، كما تقول: «هذا حاتِمٌ واللَّهِ» تريد: هو المشهورُ بالسَّخاءِ واللَّهِ، وكذلك إذا أقسمَ بها كأنَّه قال: أَقْسَمْتُ بصاد والقرآنِ ذي الذِّكْر إنه لَمُعْجِزٌ. ثم قال: بل الذين كفروا في عِزَّةٍ واستكبارٍ عن الإِذعانِ لذلك والاعترافِ، وشِقاقٍ لله ورسوله، وإذا جَعَلْتَها مُقْسَمَاً بها، وعَطَفْتَ عليها ﴿والقرآن ذِي الذكر﴾ جازَ لك أَنْ تريدَ بالقرآنِ التنزيلَ كلَّه، وأَنْ تريدَ السورةَ بعينِها. ومعناه: أُقْسِمُ بالسورةِ الشريفة: والقرآنِ ذي الذِّكْر كما تقولُ: مَرَرْتُ بالرجلِ الكريم والنَّسْمَةِ المباركة، ولا تريد بالنَّسْمَةِ غيرَ الرجلِ «.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
319
جاء في التفسير ولات حين نداء، وقال أهلُ اللغَةِ وَلَاتَ حينَ مَنْجًى ولا
فَوْتَ، يقال نَاصَه ينوصُه إذَا فاته.
وفي التفسير لات حين نداء معناه لات حِينَ نِداءٍ يُنْجي.
ويجوز لات حِينُ مَنَاص.
والرفع جيِّدٌ، والوقف عليها " لاَتْ " بالتاء، والكسائىُّ يقف بالهاء
(لَاهْ) لأنه يجعلها هاء التأنيث.
وحقيقة الوقف عليها بالتاء، وهذه التاء نظيرةُ التاء في الفعل
في قولكَ ذَهَبَتْ وجَلَسَتْ، وفي قولك: رأيتُ زيداً ثمت عَمراً، فَتَاءُ الحروف بمنزلة تاء الأفعال، لأن التاء في الموضعين دخلت على ما لا يعرب، ولا هو في طريق الأسماء
فإن قال قائِل: نجعلها بمنزلة قولهم: كان من الأمر ذيهْ وذيهْ، فهذه هاء في الوقف وهذه هاء دخلت على اسم لا يعرب، وقد أجازوا الخَفْضَ فقالوا: لاَتَ أَوَانٍ.
وأنشدوا لأبي زُبَيْدٍ:
طَلَبُوا صُلْحَنا ولات أَوانٍ... فأَجَبْنا أَنْ لَيسَ حِينَ بَقاءِ
والذي أنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد ورواه:
طَلَبُوا صُلْحَنا ولات أَوانٌ
وذكر أنه قد روي الكسرُ.
فأمَّا النصب فعلى أنها عَمِلَتْ عمل ليس، المعنى وليس الوقت حين
مناص ومن رفع بها جعل حين اسم ليس وأضمر الخبر على معنى لَيْس حينُ
مَنْجًى لَنَا ومن خفض جعلها مبينة مكسورَةً لالتقاء السَّاكِنَين، كما قالوا:
قَدلَكَ فبنوه على الكسر.
320
والمعنى ليس حين مناصنا وحين منجانا، فلما قال: ولات أَوَان جعله
على معنى ليس حينَ أَوَانِنَا، فلما حُذِفَ المضَافُ بُنِيَ على الوقف ثم كسِرَ
لالتقَاءِ السَّاكِنين، والكسر شَاذ شبيه بالخطأ عند البصريين، ولم يَرْوِ سيبويه
والخليل الكسر، والذي عليه العمل النصب والرفع.
وقال الأخفَشُ: إن (لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) نصبها بـ (لا) كما تَقُولُ لَا رَجُلَ في الدار، ودخلت التاء للتأنيث (١).
* * *
وقوله جل وَعز: (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥)
(عُجَابٌ) في معنى عجيب، ويجوز (عُجَابٌ) في معنى عجيب
يقال: رجل كريم وكُرَّام وكُرَام.
وهذه حكاية عن ملأ من قُرَيْش لما مَرِضَ أبو طالب المرضة التي مات
فيها أتاه أبو جهل بن هشام وجماعة من قريش يعودونه فشَكَوْا إليه النبي - ﷺ - وقالوا يشتم آلهتنا ويفعل، فعاتبه أبو طالب، فقال النبي - ﷺ - إني أدعُوكم إلى كلمة يدين لكم العرب بها، وتؤدي بها إليكم العجم الجزيَةَ، فقال أبو جهل:
نَعَمْ وَعَشْراً على طريق الاستهزاء أي نقُولها وعشراً معها، فقال:
لَا إلهَ إلا اللَّهُ، فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا.
ثم نَهَضُوا وانطلقوا من مجلسهم يقول بعضهم لبعْض امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ.
* * *
وقوله: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦)
معناهْ أي امشوا، وتأويله يقولونَ امْشُوا.
ويجوز: وانطلق الملأ منهم بأنِ امشوا أي بهذا القول.
* * *
وقوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾: «كم» مفعولُ «أهلَكْنا»، و «مِنْ قَرْنٍ» تمييزٌ، و «مِنْ قبلِهم» لابتداء الغاية.
قوله: «ولات حين» هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «نادَوْا» أي: استغاثوا، والحالُ أنه لا مَهْرَبَ ولا مَنْجى.
وقرأ العامَّةُ «لاتَ» بفتح التاء و «حينَ» بالنصبِ، وفيها أوجهٌ، أحدها: - وهو مذهبُ سيبويه - أنَّ «لا» نافيةٌ بمعنى ليس، والتاءُ مزيدةٌ فيها كزيادتِها في رُبَّ وثَمَّ، ولا تعملُ إلاَّ في الأزمان خاصةً نحو: لاتَ حينَ، ولات أوان، كقوله:
٣٨٣٠ طلبُوا صُلْحَنا ولاتَ أَوانٍ... فَأَجَبْنا أنْ ليسَ حينَ بقاءِ
وقول الآخر:
٣٨٣١ نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ... والبَغيُ مَرْتَعٌ مُبْتَغِيْه وخيمُ
والأكثرُ حينئذٍ حَذْفُ مرفوعِها تقديرُه: ولات الحينُ حينَ مناصٍ. وقد يُحْذَفُ المنصوبُ ويبقى المرفوعُ. وقد قرأ هنا بذلك بعضُهم كقوله:
٣٨٣٢ مَنْ صَدَّ عَنْ نيرانِها... فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَراحُ
أي: لا براحٌ لي. ولا تعملُ في غيرِ الأحيان على المشهور، وقد تُمُسِّك بإعمالها في غير الأحيان بقولِه:
٣٨٣٣ حَنَّتْ نَوارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ... وبدا الذي كانَتْ نَوارُ أجَنَّتِ
فإنَّ «هَنَّا» مِنْ ظروفِ الأمكنةِ. وفيه شذوذٌ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ، أحدها: عَمَلُها في اسمِ الإِشارةِ وهو معرفةٌ ولا تعملُ إلاَّ في النكراتِ. الثاني: كونُه لا يَتَصَرَّفُ. الثالث: كونُه غيرَ زمانٍ. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنَّ «هَنَّا» قد خرجَتْ عن المكانية واسْتُعْمِلت في الزمان، كقولِه تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون﴾ [الأحزاب: ١١] وقولِ الشاعر:
٣٨٣٤............................... فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
كما تقدم في سورة الأحزاب؛ إلاَّ أنَّ الشذوذَيْن الآخرَيْن باقيان. وتأوَّل بعضُهم البيتَ أيضاً بتأويلٍ آخرَ: وهو أَنَّ «لاتَ» هنا مهملةٌ لا عملَ لها و «هَنَّا» ظرفٌ خبرٌ مقدمٌ/ و «حَنَّتِ» مبتدأ بتأويلِ حَذْفِ «أنْ» المصدرية تقديرُه: أنْ حَنَّتْ نحو «تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَراه». وفي هذا تكلُّفٌ وبُعْدٌ. إلاَّ أنَّ فيه الاستراحةَ من الشذوذاتِ المذكورات أو الشذوذَيْن.
وفي الوقفِ عليها مذهبان: المشهورُ عند العربِ وجماهيرِ القراءِ السبعةِ بالتاءِ المجبورةِ إتْباعاً لمرسومِ الخطِّ الشريفِ. والكسائيُّ وحدَه من السبعةِ بالهاء. والأولُ مذهبُ الخليلِ وسيبويه والزجاج والفراء وابن كَيْسان، والثاني مذهبُ المبرد. وأغرب أبو عبيد فقال: الوقفُ على «لا» والتاءُ متصلةٌ ب «حين» فيقولون: قُمْتُ تحينَ قمتَ، وتحينَ كان كذا فعلتُ كذا. وقال: «رأيتها في الإِمام كذا:» ولا تحين «متصلة. وأنْشَدَ على ذلك أيضاً قولَ الشاعر:
٣٨٣٥ العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ... والمُطْعِمون زمانَ لا من مُطْعِمِ
والمصاحفُ إنما هي «ولاتَ حين»
. وحَمَلَ العامَّةُ ما رآه على أنه ممَّا شَذَّ عن قياسِ الخَطِّ كنظائرَ له مَرَّتْ لك.
وأمَّا البيتُ فقيل: إنَّه شاذٌّ لا يُلْتَفَتُ إليه. وقيل: إنه إذا حُذِفَ الحينُ المضافُ إلى الجملة التي فيها «لات» جاز أَنْ تُحْذَفَ «لا» وحدها ويُسْتَغْنى عنها بالتاء. والأصل: العاطفونَ حين لات حينَ لا مِنْ عاطفٍ، فحذف «حين» الأول و «لا» وحدَها، كما أنه قد صَرَّح بإضافة «حين» إليها في قول الآخر:
٣٨٣٦ وذلك حينَ لاتَ أوانَ حِلْمٍ....................................
ذكر هذا الوجهَ ابنُ مالك، وهو متعسِّفٌ جداً. وقد تُقَدَّرُ إضافةُ «حين» إليها مِنْ غيرِ حَذْفٍ لها كقولِه:
٣٨٣٧ تَذَكَّرَ حُبَّ ليلى لاتَ حينَا.................................
أي: حين لاتَ حين. وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدٍ بقوله:
٣٨٣٨................................................. ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ
[وقوله]:
٣٨٣٩.............. لات أوانَ.........................................
فإنه قد وُجِدت التاءُ مع «لا» دون «حين»؟
الوجه الثاني من الأوجه السابقة: أنها عاملةٌ عملَ «إنَّ» يعني أنها نافيةٌ للجنسِ فيكون «حينَ مناص» اسمَها، وخبرُها مقدر تقديرُه: ولات حينَ مناصٍ لهم، كقولك: لا غلامَ سفرٍ لك، واسمها معربٌ لكونِه مضافاً.
الثالث: أنَّ بعدها فعلاً مقدراً ناصباً ل «حين مَناص» بعدها أي: لات أَرى حينَ مَناصٍ لهم بمعنى: لستُ أرى ذلك ومثلُه: ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾ ولا أهلاً ولا سهلاً أي: لا أَتَوْا مَرْحباً، ولا لَقُوا أهلاً، ولا وَطِئوا سهلاً. وهذان الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان. وليس إضمارُ الفعلِ هنا نظيرَ إضماره في قوله:
٣٨٤٠ ألا رَجُلاً جَزاه اللَّهُ خيراً................................
لضرورةِ أنَّ اسمَها المفردَ النكرةَ مبنيٌّ على الفتح، فلمَّا رأينا هذا معرباً قدَّرْنا له فعلاً خلافاً للزجاج، فإنه يُجَوِّزُ تنوينَه في الضرورة، ويدَّعي أن فتحتَه للإِعراب، وإنما حُذِف التنوينُ للتخفيفِ ويَسْتَدِلُّ بالبيتِ المذكور وتقدَّم تحقيقُ هذا.
الرابع: أن «لات» هذه ليسَتْ هي «لا» مُزاداً فيها تاءُ التأنيث، وإنما هي: «ليس» فأُبْدلت السينُ تاءً، وقد أُبْدِلت منها في مواضعَ قالوا: النات يريدون: الناس. ومنه «سِتٌّ» وأصله سِدْس. قال:
٣٨٤١ يا قاتلَ اللَّهُ بني السَّعْلاتِ... عمرَو بنَ يَرْبُوعٍ شرارَ الناتِ
لَيْسوا بأخيارٍ ولا أَكْياتِ... وقُرِئ شاذاً «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النات» إلى آخره. يريد: شرارَ الناسِ ولا أكياسِ، فأبْدل. ولَمَّا أبدل السينَ تاءً خاف من التباسها بحرفِ التمني فقلب الياءَ ألفاً فبقيَتْ «لات» وهو من الاكتفاء بحرف العلةِ؛ لأنَّ حرف العلة لا يُبْدل ألفاً إلاَّ بشروطٍ منها: أن يتحرَّكَ، وأَنْ ينفتحَ ما قبله، فيكون «حينَ مناص» خبرَها، والاسمُ محذوفٌ على ما تقدَّم، والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيةِ.
وقرأ عيسى بن عمر ﴿وَّلاَتِ حِينِ مَنَاصٍ﴾ بكسر التاء وجرِّ «حين» وهي قراءةٌ/ مُشْكلةٌ جداً. زعم الفراء أنَّ «لات» يُجَرُّ بها، وأنشد:
٣٨٤٢.............................. ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةِ مَنْدَمِ
وأنشد غيرُه:
٣٨٤٣ طلبوا صلحَنا ولاتَ أوانٍ.....................................
البيت. وقال الزمخشري: «ومثلُه قول أبي زبيد الطائي: طلبوا صلحنا. البيت. قال: فإنْ قلتَ ما وجهُ الجرِّ في» أوان «؟ قلت: شُبِّه ب» إذ «في قوله:
٣٨٤٤............................................ وأنتَ إذٍ صحيحُ
في أنه زمانٌ قُطِع منه المضافُ إليه وعُوِّض منه التنوينُ لأن الأصلَ: ولات أوان صلح. فإن قلتَ: فما تقولُ في»
حينَ مناصٍ «والمضافُ إليه قائمٌ؟ قلت: نَزَّلَ قَطْعَ المضافِ إليه مِنْ» مناص «- لأنَّ أصلَه: حين مناصِهم - منزلةَ قَطْعِه مِنْ» حين «لاتحاد المضاف والمضاف إليه، وجَعَل تنوينَه عوضاً من المضافِ المحذوفِ، ثم بَنى الحين لكونِه مضافاً إلى غير متمكن». انتهى.
وخرَّجه الشيخُ على إضمار «مِنْ» والأصل: ولات مِنْ حين مناص، فحُذِفت «مِنْ» وبقي عملُها نحو قولِهم: على كم جِذْعٍ بَنَيْتَ بيتك؟ أي: مِنْ جذع في أصحِّ القولَيْن. وفيه قولٌ آخر: أنَّ الجرَّ بالإِضافة، ومثله قوله:
٣٨٤٥ ألا رَجُلٍ جزاه اللَّهُ خَيْراً................................
أنشدوه بجرِّ «رَجُل» أي: ألا مِنْ رجل.
قلت: وقد يتأيَّد بظهورِها في قوله:
٣٨٤٦.............................. وقالَ: ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ
قال: «ويكونُ موضعُ» مِنْ حين مناصٍ «رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقولُ: ليس من رجلٍ قائماً، والخبرُ محذوفٌ، وعلى هذا قولُ سيبويه. وعلى أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ على قولِ الأخفشِ. وخَرَّج الأخفشُ» ولاتَ أَوانٍ «على حَذْفِ مضافٍ، يعني: أنه حُذِفَ المضافُ وبقي المضافُ إليه مجروراً على ما كان. والأصلُ: ولات حينُ أوانٍ.
وقد رَدَّ هذا الوجهَ مكيٌّ: بأنه كان ينبغي أَنْ يقومَ المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب فيُرفعَ. قلت: قد جاء بقاءُ المضافِ إليه على جَرِّه. وهو قسمان: قليلٌ وكثيرٌ. فالكثيرُ أَنْ يكونَ في اللفظ مِثْلُ المضاف نحو:
٣٨٤٧ أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
أي: وكلَّ نارٍ. والقليلُ أَنْ لا يكونَ كقراءة مَنْ قرأ ﴿والله يُرِيدُ الآخرة﴾ بجر»
الآخرةِ «فليكنْ هذا منه. على أنَّ المبردَ رواه بالرفعِ على إقامتِه مُقامَ المضافِ.
وقال الزجَّاج:»
الأصل: ولات أواننا، فحُذِفَ المضافُ إليه فوجَبَ أَنْ لا يُعْرَبَ، وكسرُه لالتقاءِ الساكنين «. قال الشيخ:» هذا هو الوجهُ الذي قرَّره الزمخشريُّ، أَخَذَه من أبي إسحاقَ «قلت: يعني الوجهَ الأولَ، وهو قولُه: ولاتَ أوان صلحٍ.
هذا ما يتعلَّقُ بجرِّ «حين».
وأمَّا كسرُ تاءِ «لات» فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ك جَيْرِ، إلاَّ أنه لا تُعْرف تاءُ تأنيثٍ إلاَّ مفتوحةً.
وقرأ عيسى أيضاً بكسرِ التاءِ فقط، ونصبِ «حين» كالعامَّةِ. وقرأ أيضاً «ولات حينُ» بالرفعِ، «مناصَ» بالفتح. وهذه قراءةٌ مشكلةٌ جداً لا تَبْعُدُ عن الغلطِ مِنْ راويها عن عيسى فإنه بمكانةٍ مِنْ العلمِ المانعِ له من مثلِ هذه القراءةِ. وقد خَرَّجها أبو الفضلِ الرازيُّ في «لوامحه» على التقديمِ والتأخيرِ، وأنَّ «حين» أُجْرِي مُجْرى قبل وبعد في بنائِه على الضمِّ عند قَطْعِه عن الإِضافة بجامع ما بينه وبينهما مِن الظرفيةِ الز
حكاية عنهم أيضاً، أي ما سمعنا بهذا في النصْرانِية وَلَا اليهوديةِ ولا فيما
أدركنا عليه آباءنا.
(إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ).
أي إلا تقوُّل.
* * *
(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (٨)
أي كيف أنزل الذكر عليه من بيننا، أي كيف أُنْزِلَ على محمد القرآن
من بيننا.
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي).
أي ليس يقولون ما يعتقدونه إلا شَاكِّين.
* * *
وقوله: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
إن قال قائل: ما وجه اتصال (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ) بقوله: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي)، أو بقوله (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا).
فهذا دليل على حَسَدِهم النبيَّ - ﷺ - بما آتاه اللَّه من فَضْل النبوةِ.
فأعلمَ اللَّهُ أن الملكَ لَهُ والرسالَة إلَيْهِ.
يصطفي من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء
وينزل الغيث والرحمة على من يشاء فقال:
(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ).
أي ليس عندهم ذلك.
* * *
(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (١٠)
أي ليس من ذلك شيء.
(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ).
أي إن ادَّعَوا شيئاً من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى
السماء، وجائز أن يكون فليرتقوا في هذه الأسباب التي ذكرت وهي التي
لا يملكها إلا الله.
ثم وعد اللَّه نبيَّه عليه السلام النَصْرَ علَيْهم فقال:
(جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (١١)
(ما) لغوٌ، المعنى جند هُنَالِكَ مهزوم من الأحزاب.
* * *
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (١٢)
جاءْ في التفسير أن فرعون كانت له حبال وأوتادٌ يُلْعَبُ له عَلَيْها (١).
* * *
(وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (١٥)
(مِنْ فَوَاقٍ)
وفُواق بضم الفاء وفتحها، أي ما لها من رجُوع، والفُواق ما بين حَلْبَتَي
الناقَةِ، وهو مشتق من الرجوع أيضاً لأنه يَعُودُ اللبَنُ إلى الضرْعِ بين الحلبتين، وأفاق من مرضه من هذا، أي رجع إلى الصحة.
فالفواق هو من هذا أيضاً (٢).
* * *
(وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (١٦)
(القِط) النصيب، وأصله الصحيفة يكتب للإنسان فيها شيء يصل إليه
قال الأعشى.
ولا المَلِكُ النُّعْمانُ يوم لَقِيتُه... بغِبْطَته يُعْطِي القُطوطَ ويأْفِقُ
يأْفِقُ يُفْضِلُ.
وهذا تفسير قولهم: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) وهوكقولهم
(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا) - الآية
وقيل إنهم لما سمعوا أن المؤمن يؤتى كتابه بيمينه والكاقر يؤتى كتابه بشماله، فيسعد المؤمن ويهلك الكافر، قالوا ربَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا.
واشتقاق القِط من قططت أي قطعتُ.
وكذلك النصيب إنَّمَا هو القطعة من الشيء.
* * *
(اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ)
ْذا القوة، وكانت قوته على العبادة أتم قوة، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
وذلك أَشَدُّ الصوْمِ، وكان يُصَلِّي نصفَ الليل.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿ذُو الأوتاد﴾: هذه استعارةٌ بليغةٌ: حيث شبَّه المُلْكَ ببيت الشَّعْر، وبيتُ الشَّعْرِ لا يَثبتُ إلاَّ بالأوتادِ والأطناب، كما قال الأفوه:
٣٨٥١ والبيتُ لا يُبْتَنى إلاَّ على عمدٍ... ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ
فاسْتعير لثباتِ العزِّ والمُلْكِ واستقرار الأمر، كقول الأسود:
٣٨٥٢............................... في ظلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأَوْتاد
والأَوْتادُ: جمعُ وَتِد. وفيه لغاتٌ: وَتِدٌ بفتح الواو وكسرِ التاءِ وهي الفصحى، ووَتَد بفتحتين، ووَدّ بإدغام التاء في الدال قال:
٣٨٥٣ تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ... وتُوارِيْه إذا ما تَشْتَكِرْ
و «وَتَّ» بإبدالِ الدالِ تاءً ثم إدغام التاء فيها. وهذا شاذٌّ لأنَّ الأصلَ إبدالُ الأولِ للثاني لا العكسُ. وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قولِه تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار﴾ [آل عمران: ١٨٥]. ويُقال: وَتِدٌ واتِدٌ أي: قويٌّ ثابت، وهو مِثْلُ مجازِ قولهم: شُغْل شاغِلٌ. وأنشد الأصمعي:
٣٨٥٤ألاقَتْ على الماءِ جُذَيْلاً واتِداً... ولم يَكُنْ يُخْلِفُها المَواعدا
وقيل: الأوتادُ هنا حقيقةٌ لا استعارةٌ. ففي التفسير: أنه كان له أوتادٌ يَرْبط عليها الناسَ يُعَذِّبُهم بذلك. وتقدم الخلافُ في الأَيْكة في سورة الشعراء. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾: يجوزُ أَنْ يكونَ «لها» رافعاً ل «مِنْ فَواق» بالفاعليةِ لاعتمادِه على النفي، وأَنْ يكونَ جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وعلى التقديرَيْن فالجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «صَيْحةً» و «مِنْ» مزيدةٌ. وقرأ الأخَوان «فُواق» بضمِّ الفاءِ، والباقون بفتحها. فقيل: [هما] لغتان بمعنًى واحدٍ، وهما الزمانُ الذي بين حَلْبَتَيْ الحالبِ ورَضْعَتَيْ الراضِع، والمعنى: ما لها مِنْ تَوَقُّفٍ قَدْرَ فُواقِ ناقةٍ. وفي الحديث: «العِيادَةُ قَدْرَ فُواقِ ناقة» وهذا في المعنى كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً﴾ [الأعراف: ٣٤]. وقال ابن عباس: ما لها مِنْ رجوعٍ. مِنْ أفاق المريضُ: إذا رَجَعَ إلى صحته. وإفاقةُ الناقةِ ساعةَ يَرْجِعُ اللبنُ إلى ضَرْعِها. يقال: أفاقَتِ الناقةُ تُفِيْقُ إفاقَةً رَجَعَتْ واجتمعَتْ الفِيْقَةُ في ضَرْعِها. والفِيْقَةُ: اللبنُ الذي يَجْتمع بين الحَلَبَتين ويُجْمع على أفْواق. وأمّا أفاوِيْقُ فجمعُ الجمع. ويُقال: ناقة مُفِيْقٌ ومُفِيْقَةٌ. وقيل: فَواق بالفتح: الإِفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب. قاله مُؤرِّج السدوسيُّ والفراء. ومن المفسِّرين ابن زيد والسدِّي. وأمَّا المضمومُ فاسمٌ لا مصدرٌ. والمشهورُ أنهما بمعنىً واحدٍ كقَصاصِ [الشَّعْر] وقُصاصِه وحَمام المكُّوك وحُمامِه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(إِنَّهُ أَوَّابٌ).
رجاع إلى اللَّه كثيراً، الآيب الراجع، والأوَّابُ الكثيرُ الرُّجوعِ.
* * *
(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨)
الإشراق: طلوع الشمس وإضاءتُهَا، يُقَالُ شَرِقَت الشَمْسُ إذا طلعت.
وأشرقت إذا أضاءت، وقد قيل شرقت وأشرقت إذا طلعت في معنى واحد.
والأول أكثر.
* * *
(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)
كانت الجبال تُرَجَع التسبيح، وكانت الطير كذلك، فيجُوز أن تكون
الهَاءُ للَّهِ - جلَّ وعزَّ - أي كل للَّهِ مسبح، الطير والجبال وَدَاودُ يسبحون للَّهِ عز وجل، ويرجعون التسبيح.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) كل يُرَجعْنَ التسبيح مع داود، يُجِبْنَهُ، كلما سبح سبحت الجبال والطير معه.
* * *
(وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٢٠)
ويجوز وشدَّدنا، ولا أعلم أَحدأ قَرَأَ بهَا.
معناه قوينا ملكه فكان من تقوية ماكه أنه كان يَحْرُسُ محرابه في كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفاً مِنَ الرجَال.
وقيل أيضاً إنَّ رَجُلًا استعدى إليه على رجل، فادعى عليه أنه أخذ منه بَقَراً، فأنكر المدعى عليه فسأل داود المدعي البينة فلم يقمها، فرأى داود في منامه أن اللَّه يأمره أن يقتل المدعى عليه، فتثبت داود، وقال هو منام، فأتاهُ الوحي بعد ذلك أَنْ يَقْتُلَه فأحضره ثم أعلمه أن الله أَمَرهُ بقَتْلِه، فقال المُدَّعَى عليه: إن اللَّه - جلَّ وعزَّ - ما أخذني بهذا الذنب، وإني قتلت أبا هذا غِيلةً فقتله داود، فذلك مما كان عظم الله، وشدَّدَ ملكه به.
(وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ).
قيل في ذلك أن يحكم بالبينة واليمين، وقيل في فصل الخطاب، أن
يفصل بين الحق والباطل.
وقيل (أَما بعد)، وهو أول من قال أَمَّا بَعْدُ.
* * *
(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١)
والمحرابُ أرفع بيت في الدار، وكذلك هو أرفع مكان في
المسجد، والمحراب ههنا كالغرفة.
قال الشاعر:
رَبَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها... لم أَلْقَها أَو أَرْتَقي سُلَّما
و (تَسَوَّرُوا) يدُلُّ على عُلُوٍّ.
وقال (الخَصْم) ولفظه لفظ الواحد، و (تَسَوَّرُوا)
لفظ الجماعة لأن قولك خصم يصلح للواحد والاثنين والجماعةِ والذكر
والأنثى، يقال: هذا خَصم وهي خصم وهما خصم وهم خُصْم.
وإنما صلح لجميع ذلك لأنه مصدر، تقول خصمته أَخْصِمُه خَصْماً.
المعنى هما ذوا خصم وهم ذوو خصم، وإن قلت خصوم جاز كما تقول هما عدل وهما ذوا عدل، وقال اللَّه تعالى، (وَأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ).
فمعنى هما عدل هما ذوا عدل.
فما كان من المصادر قد وصفت به الأسماء فتوحيده جائز، وإن
وصفت به الجماعة، وتذكيره جائز وإن وصفت به الأنثى، تقول هو رضًى وهما رِضًى، وكذلك هذه رضًى.
* * *
وقوله تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (٢٢)
لأنهم أتَوْه مِن غَير مَأتَى الخُصوم، وفي غير وقتهم، وفي وقت لم يكن
داود يأذن فيه أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْه أحَد، فأنكر ذلك وَفزِع.
وإنَّمَا بُعِثَ إليه مَلَكَان فتصَورا في صورة رَجُلَيْن متخاصِميْن.
(قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ).
القراءة - الرفع، والرافع لِخَصْمانِ نحن، والمعنى نحن خَصْمَانِ ولو كان
في الكلام لاَ تَخَفْ خَصْمَيْنِ بَغَى بَعْضُنَا على بَعْض لجاز، على معنى
أَتَينَاكَ خَصْمَيْنِ لأنه أنكر إتيانهم، وإتْيَانُ الخُصُومِ قَدْ كَان يعتاده كثيراً.
(فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ).
أي لا تَجُرْ، يقال أَشَط يُشِط إذا جَار، ويقرأ لَا تَشطُطْ بمعنى لا تَبْعُد
عن الحق، وكذلك لَا تَشْطِطْ - بكَسْرِ الطاء وفتح التاء - معناه كمعنى الأول
قال الشاعر:
تَشُِطُّ غَداً دارُ جِيرانِنا... ولَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ
(واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ).
إلى قصد الطريق - أي طريق الحق.
* * *
(إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (٢٣)
كَنَى بالنعجة عن المرأة.
قال الأعشى:
فَرمَيْتُ غُفْلَةَ عَيْنِه عن شاتِه... فأَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبها وطِحالَها
عنى بالشاة ههنا المرأة (١).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿تِسْعٌ وَتِسْعُونَ﴾: العامَّةُ على كسر التاءِ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. وزيد بن علي والحسن بفتحها فيهما، وهي لُغَيَّةٌ. وقرأ العامَّةُ «نَعْجة» بفتح النون، والحسن وابن هرمز بكسرها. قيل: وهي لغةٌ لبعضِ بني تميمٍ. وكَثُرَ في كلامِهم الكنايةُ بها عن المرأةِ قال ابنُ عَوْنٍ:
٣٨٥٨ أنا أبُوْهُنَّ ثلاثٌ هُنَّهْ... رابِعَةٌ في البيتِ صُغْراهُنَّهْ... ونَعْجتي خَمْساً تُوَفِّيْهِنَّهْ... وقال آخر:
٣٨٥٩ هما نَعْجَتان مِنْ نِعاج تَبالَةٍ... لَدى جُؤْذُرَيْنِ أو كبعضٍ دُمَى هَكِرْ
وقوله: «وعَزَّني» أي: غَلَبني. قال الشاعر:
٣٨٦٠ قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ... تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ
يقال: عَزَّهُ يَعُزُّه بضمِّ العينِ وتقدَّم تحقيقُه في سورة يس. وقرأ طلحة وأبو حيوة «وَعَزَني» بالتخفيف. قال ابن جني: «حَذْف الزاي الواحدةِ تخفيفاً. كما قال:
٣٨٦١.............................. أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
يريد: أَحْسَسْنَ»
، فحذف. وتُرْوَى هذه قراءةً عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك «وعازَّني» بألفٍ مع تشديد الزاي، أي: غالبني.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(فَقَالَ أكْفِلْنِيهَا).
أي اجعلني أنا أَكْفُلُهَا، وانزل أنت عنها.
(وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ).
غلبني في الخُصومَةِ، أي كان أقوى على الاحتجاج مِنِّي.
* * *
(قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (٢٤)
المعنى بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه.
(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ).
من الشركاء، تقول فلان خليطي وشريكي في معنى وَاحِدٍ.
(إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ).
أي قليل هم.
وقوله: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) الآية.
ويقرأ بالتخفيف - فَتَنَاهُ - يعنى به الملكانِ.
ومعنى ظن أيقن، ألا أنه ليس بيقينِ عيانٍ، أَما العِيَانُ فلا يقال فيه إلا علم.
(فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ).
مكث أرْبَعِينَ يَوْماً سَاجِداً لَا يَرْفَعُ رَأسَهُ يستغفر اللَّه من ذَنْبِهِ، إلا لصلاة
مكتوبة ومَا لاَ بُدَّ له منه، وَلاَ ترقأ دَمْعَتُه (١).
(١) من الإسرائيليات المنكرة.
ويروى في التفسير - أن قصةَ داودَ والملكين سَبَبُها أن إبليس - غَضِبَ اللَّهُ
عَليه - تمثل له في صورة طَيْرٍ مِنْ ذهَبٍ فسقط بقربه، فأوى إليْه ليأخذه فتنحَّى وطلبه حتى إذَا قَارَبَ أنْ يتناوله تنحى فَبَصُرَ دَاودُ في اتباعِ الطير بِامرأةٍ تغْتَسِلُ، وَبَصُرَتْ به فتجلَّلَت بشعرها حتى سترها
ويقال إنها امرأة أُورِيَّا بن حَنَّا.
وُيرْوَى أنه كتب إلى صاحب جنده أن يُقْدِمَ أُورِيَّا في حَرْبٍ كانت.
فقدَّمَهُ فَقُتِلَ فتزوجَها دَاودُ، وُيرْوَى أن علِيًّا عليه السلام قال:
من قال: أن داود عليه السلام قَارَفَ مِن هذه المرأة ريبةً جَلَدْتُه مائة وستين جلدة، لأن من قذف غير النبى جُلِدَ ثمانين جلدة، ومن قذف نبياً جلد مائةً وستين جَلدة.
وكان في التفسير أن داود أحب أن يُتْلِفَ أُورِيَّا حتى يتزوج داود بامرأته.
وهذا - واللَّه أعلم - إنما كان من داود على جهة محبَّة أن يتفق له ذلك من غير أن يتعمد أو يسعى فى دم الرجل، فجعله اللَّه له ذنباً لما أحبه.
ويجوز أن يكون كتب في أن يُقَدَّمَ أمام التابوت هذا الرجُلُ لبأسه ونَجْدَتِه في الحرب ورَجَا كفايته فاتفق مع ذلك أن أصيب وبه حلت له امرأته فعوتب على محبة امرأة رجل ليس له غيرها، ولداود تسع وتسعون امرأة، فكان ذلك من ذنوب الأنبياء، فلما بالغ في التوبة وجهد نفسه في الرغبة إلى اللَّه في العفو حتى كاد أن يتلف نفسه تائباً ومُتَنَصِّلاً إلى اللَّه من ذنبه، واللَّه عزْ وجل قد وصف ذلك فقال: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
وَقَوْل عَلِيٍّ عليه السلام - صلى اللَّه على داود ورحمه - يدل على صحة
هذا التأويل، واللَّه أعلم.
* * *
(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦)
(١) من أساطير وأكاذيب بني إسرائيل، لا يصح ولا يثبت ولا يليق بآحاد المتقين فكيف بصفوة الله - عز وجل - من الأنبياء؟؟!!!
بهذا جاز أن يقال للخلفاء خلفاء الله في الأرض.
(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ).
أي بحكم اللَّه (ذكنت خليفته.
وقوله: (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ).
أي بتركهم العَمَل لهذا اليوْمِ صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا يُنْذَرُونَ
ويُذَكَّرُونَ.
* * *
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)
أعلمهم اللَّه أنه يعذبهم علي الظن.
وكذْلك: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ)
وإنَّمَا قيلَ لهم هذَا لأنهم جَحدوا البَعْثَ.
ودليلُ هذا قوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥).
إذا لم يكن رجعة لم يكن فصل بين الفاجر والبَرِّ.
وبعد هذا: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
ثم قال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
(٢٩)
المعنى هذا كتاب لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ. ليُفكِروا في آياته، وفي أَدْبَارٍ أُمُورِهم.
أي عواقبها.
(وَليَتَذَكرَ أُولُو الألْبَابِ) أي ذَوُو العقولِ.
* * *
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠)
المعنى نعم العبدُ سُلَيْمَانُ إنَّه أوَّابٌ كَثِير الرجوعِ.
* * *
(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (٣١)
الصافنات الخيل القائمة، وقال أهلُ اللُّغَة وأهل التفسير، الضافنُ القائم
الذي يثني إحدى يديه أو إحدى رجليه حتى يقف بها على سَنْبُكِه.
وهو طرف الحافِرِ، فثلاث من قوائمه متصلة بالأرض، وقائمة منها تَتصِلُ بالأرْضِ طرف حافِرهَا فقط
قال الشاعر
أَلِفَ الصُّفُونَ فلا يَزالُ كأَنه... مما يَقُومُ على الثلاثِ كسيرا
وقال بعضهم الصافِن القائِمُ ثَنَى إحْدَى قَوائمِه ولم يثنها، والخيل أكثر ما
تقف - إذا وقفت - صافنةً، لأنها كأَنَّهَا تُراوح بين قوائمها.
* * *
(فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ
(٣٢)
" الخير " ههنا الخيلُ، والنبي - ﷺ - سمَى زيد الخيل - زيد الخير، وإنما سميت الخيل الخير لأن الخير معقود بنواصي الخيل - كذا جاء في الحديث.
وكانت هذه الخيل وردت على سليمان من غنيمة جيش كان له، فتشاغل
باعتراضها إلى أن غابت الشمس وفاتته صلاة العصر.
قال أهل اللغة: (حَتَّى تَوارَتْ بِالحِجَابِ).
يعنى الشمس، ولم يَجْر للشمس ذكر..
وهذا لا أحسبهم أعْطَوُا الفكرَ حقَّه فيه، لأن في الآية دليلاً يدل على الشمس، وهو قوله: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ) والعِشي في معنى بَعدَ زَوال الشمس.
حتى تَوارَتِ الشمسُ بالحجاب، وليس يجوز الإضمارُ إلا أن يجرِيَ ذكْر أو دَليلُ ذِكْرٍ بمنزلة الذِكْرِ.
وكان سليمان لِهَيْبَتِه لا يَجْسُر عليه أَحَدٌ حَتَّى يُنَبَّه لوقت صلاة، ولست أدري هل كانت صلاةُ العَصْرِ مَفْروضَةً في ذلك الوقت أم لا، إلا أن اعتراضه الخيل قد شغله حتى جاز وَقْت يذكر اللَّه - جلَّ وعزَّ - فيه.
ومعنى (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) آثرت حب الخير على ذكر اللَّه (١).
* * *
(رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (٣٣)
المسح ههنا على ما جاء في التفسير القطع، وَروي أنه ضَرَبَ سُوقها
وأعناقَها (٢)، وسُوق جمعُ سَاقٍ، مثل دَار ودُور. ولم يكن سليمان ليضرب أعناقها إلا وقد أباح اللَّه ذلك، لأنه لا يجعل التوبة من الذنب بذَنْبٍ عظيم. وقال قوم إنه مسح أعناقها وسوقها بالماء وبيده، وهذا ليس يوجب شغلها إياه، أعني أن يمسحها بالماء، وإنَّمَا قال ذلك قوم لأن قتلها كان عندهم منكراً.
وليس ما يبيحه اللَّه بمنكر، وجائز أن يباح ذلك لسليمان في وقته ويحظر في هذا الوقت، ومالك يذهب إلى أنه لا ينبغي أن يؤكل لحم الخيل والبغال
والحمير، لقول اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)
وقال في الإبل: (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)
(١) بل الصحيح - والله أعلم - أنه - عليه السلام - ما أحب الخيل لذاتها، وإنما كان الباعث له هو ذكر الله - عز وجل - لأنها كانت للجهاد في سبيل الله. والله أعلم.
(٢) لا يصح ولا يثبت.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤)
(فَتَنَّا) امتحنا.
(وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا).
جاء في التفسير أنه كان لسليمان ابن فخاف عليه الشياطينَ، لأن
الشياطين كانت تَقْدِر الراحة مما كانت فيه بموت سليمان، فقالت إن بقي له
وَلَدٌ لَمْ نَنْفكَّ مما نحن فيه، فغذاه في السحاب إشفاقاً عليه فمات. فألقى
على كرسيه جَسَدٌ، فجائز أن يكون هذا مُجازاتَهُ على ذَنْبِه، وجائز أن يكون فأثكله اللَّه وَلَدَهُ.
وأكثر ما جاء في التفسير أن " جسداً " ههنا شيطان، وأن سليمان أُمِرَ ألا
يتزوج امرأةً إلا من بني إسرائيل، فتزوج من غيرهم امرأةً كانت تعبد غير اللَّه، فعاقبه اللَّه بأن سَلَبَه مُلكَهُ وكان ملكه في خاتمه فدفعه عند دخوله الحمام إلى شيطانٍ، وجاء في التفسير أنه يقال له صَخْر، فطرحه في البحر فمَكث أربعين يوماً يتيه في الأرض حتى وَجَدَ الخاتم في بطن سَمكةٍ.
وكان شيطان تصور في صورته وجلس مجلسه، وكان أمره ينفذ في جميع مَا كَان يَنْفُذُ فيه أَمْرُ سُلَيمانَ، خَلَا نساءِ سُليمانَ، إلى أن رَدَّ اللَّه عليه ملكه (١).
قال: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ).
أي ذلك الذنب.
(وَإِن لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) حسن مَرْجِع.
* * *
(قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)
(١) هذه الأساطير والافتراءات يقال فيها وأشباهها (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)
أي هب لي ملكاً يكون فيه آية تدل على نبوتي، لا ينبغي لأحد من
بعدي من الآدميين الذين ليسوا بأنْبياء، يكون له آية تدل على أنك غفرت لي
وَرَددت إليَّ نبوتي. والدليل على هذا قوله
(فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦)
(رُخَاءً) لينةً، وقيل (تجري بأمره) ليست بشديدة كما يحب.
(حَيْثُ أصَابَ)
إجماع المفسرين وأهل اللُّغَةِ أنه حيث أراد، وحَقِيقَتُهُ
قَصَدَ، وكذلك قولك للمجيب في المسألة: أَصَبْتَ، أي قَصدْتَ، فلم
تخطئ الجواب.
* * *
(وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)
(الشَّيَاطِين) نسق على الريح.
وقوله (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) يدل على أنه من الشياطين.
المعنى وسخرنا له كل بناء من الشياطين وكل غواص.
وكان من يبني: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ).
وكان من يغوص يخرجون له الحلية من البحر.
(وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨)
مَرَدَةُ الجن الشياطين، سُخروا له حتى قَرَنَهم في الأصْفَادِ.
والأصفاد السلاسل من الحديد، - وكل ما شددته شدًّا وثيقاً بالحديد وغيره، فَقَد صَفَدْتَه
وكل من أعطيته عطاء جزيلًا. فقد أصفدتَه كأنك أعطيته ما ترتبط به، كما تقول للمُتَخِذِ مَالاً أَصْلاً يبقى عليه: قد اتخذت عقدة جَيدَةً.
* * *
(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩)
(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ)
أي أطلق من شئت مِنهم.
(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
(أَوْ أَمْسِكْ) أو احبس مَن شئت ولا حِسَابَ عليك في حَبْسِه.
وجائز أن يكون عطاؤنا ما أعطيناكَ من المال والكثرة والملك.
فامنن، أي فاعْطِ منه.
(أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
بغير مِنةٍ عَلَيْكَ، وإن شئت بغير حساب بغير جَزاء.
* * *
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
(٤١)
(عَبْدَنَا) منصوب بوقوع الفعل عليه، و (أَيُّوبَ) بدل من (عَبْدَنَا)، لأن أيوب
هو الاسم الخاص، والاسم الخاص لا يكون نعتاً إنما يكون بدلًا مُبيّناً
بِـ (نُصْبٍ) وَنَصَبٍ - بفتح النون والصاد، ونُصْبٍ بضم النون بمعنًى وَاحدٍ - وقَدْ قُرئتْ بِنُصْب بضم النون - وإسكان الصاد، وقرئت بفتح النون وإسكان الصاد.
وَنَصَبٍ بفتح النون والصادِ بِمَنْزِلَةِ نُصْبٍ بضم النونِ، والنُّصْب والنَّصَب بمنزلة الرُّشْد والرَّشَدِ، والبُّخل والبَّخل والعُرْب والعَرَب. والنَّصْبُ - بفتح النون وإسْكانِ الصادِ على أصل المصدر، والنُّصْب والنصَبُ على معنى نَصَبْتُ نَصْباً وَنُصْباً. وَنَصْباً على أصل المصدر.
ومعنى (بِنُصْب وَعَذَابٍ) بضُرٍّ في بَدِنِي، وَعَذَابٍ في مَالِي وَأَهْلِي
ويجوز أن يكون بضُرٍّ في بَدَني وعذاب فيه.
وروي أنه مكث أيوب عليه السلام سَبْعَ سِنِينَ مُبتَلًى يسعى الدُّودُ من
بَدَنِه، فنادى رَبِّه: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١).
* * *
(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢)
المعنىٍ قلنا له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ: معناه دُسِ الأرض برجلك فداس
الأرْض دَوْسَة خفيفةً، فنبعت له عَيْن فاغتسل منها فَذَهَبِ الداء من ظاهر بدنه، ثم داس دَوْسة ثانية فنبع ماء فشرب منه فغسِلَت الداء من باطن بَدَنِه.
(١) من الإسرائيليات المنكرة.
(وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣)
قيل: وَوَهَبْنَا له أهله أعطيناه في الآخِرة ثوابَ فقدهم، ووهبنا له في
الدنيا مثلهم، وقيل أُحْيِي له أَهْلُه، وَوُهِبَ لَهُ مِثْلُهم.
(رَحْمَةً مِنَّاا).
(رَحْمَةً) منصوبة مفعول لها.
(وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
لذوي العقول، ومعنى (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) إذا ابتُليَ اللبيبُ ذَكر بَلاءَ
أَيوبَ فصَبَرَ.
* * *
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
المعنى وقلنا خذ بيدك. والضغث الحِزْمَةُ منَ الحَشِيش أو الريحان أو ما
أشبه ذلك.
وجاء في التفسير أن امرأة أيوبَ قالت له: لو تقربت إلى الشيطان
فذبحت له عَنَاقاً: قال ولا كفًّا من تُرَاب، وَحَلَفَ أن يَجْلِدَها إذا عُوفيَ مائةَ
جَلْدةٍ، وشكر الله لها خِدْمَتَها إيَّاهُ فجعل تحلة يَمِينهِ أن يأخذ حزْمَة فيها مائة
قضيبٍ فيضربها ضربة واحدة.
فاختلف النَّاسُ فَقَالَ قومٌ هذا لِأيوبَ - عليه السلام - خاصَّةً.
وقال قوم: هذا لسائر الناس.
(أَوَّابٌ) كثير الرجوع إلى اللَّه.
* * *
(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥)
(وَاذْكر عَبْدَنَا - (وعبادنا) (١)
من قال (عبادَنا) جعل إبراهيمَ وإسحاق ويعقوبَ بدَلاً مِنْ عِبَادِنَا.
ومن قرأ
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿عِبَادَنَآ﴾: قرأ ابنُ كثير «عَبْدَنا» بالتوحيد. والباقون «عبادَنا» بالجمعِ والرسمُ يحتملهما. فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير ف «إبراهيمَ» بدلٌ أو بيانٌ، أو بإضمار أَعْني، وما بعدَه عطفٌ على نفس «عبدَنا» لا على إبراهيم؛ إذْ يَلْزَمُ إبدالُ جمع مِنْ مفردٍ. ولقائلٍ أنْ يقولَ: لمَّا كان المرادُ بعبدنا الجنسَ جاز إبدالُ الجمعِ منه. وهذا كقراءةِ ابنِ عباس ﴿وإله أبيك إِبْرَاهِيمَ﴾ في البقرة في أحدِ القولين وقد تقدَّم. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ لأنَّها موافقةٌ للأولِ في الجمع.
قوله: «الأَيْدي» العامَّة على ثبوتِ الياءِ، وهو جَمْعُ يدٍ: إمَّا الجارِحَةِ، وكنَى بذلك/ عن الأعمالِ؛ لأنَّ أكثرَ الأعمالِ إنما تُزاوَلُ باليدِ. وقيل: المرادُ بالأيدي جمعُ «يَدٍ» المراد بها النعمةُ. وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش «الأَيْد» بغيرِ ياء فقيل: هي الأُوْلى وإنَّما حُذِفَتِ الياءُ اجتزاءً عنها بالكسرة ولأنَّ أل تعاقِبُ التنوينَ، والياءُ تُحْذَفُ مع التنوين، فأُجْرِيَتْ مع أل إجراءَها معه. وهذا ضعيفٌ جداً. وقيل: الأَيْد: القوةُ. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: «وتَفْسيرُه بالأَيْد من التأييد قِلِقٌ غيرُ متمكن» انتهى. وكأنَّه إنما قَلِقَ عنده لعطفِ الأبصارِ عليه، فهو مناسبٌ للأيدي لا للأَيْد من التأييد. وقد يقال: إنه لا يُراد حقيقةُ الجوارح؛ إذ كلُّ أحدٍ كذلك، إنما المراد الكناية عن العمل الصالحِ والتفكُّرِ ببصيرتِه فلم يَقْلَقْ حينئذٍ؛ إذ لم يُرِدْ حقيقةَ الإِبصارِ. وكأنه قيل: أُولي القوةِ والتفكُّر بالبصيرةِ. وقد نحا الزمخشري إلى شيءٍ مِنْ هذا قبلَ ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
عبَدنَا جعل إبراهيم وحدَهُ البَدَلَ، وجعل إسحاق ويعقوب عَطْفاً على قوله
عَبْدنا.
وقوله: (أُولي الأيْدِي).
وقرئت الأيْد بغير ياء ومعنى أولي الأيدي أولي القوة في العبادة.
(والأبْصَارِ) أي هم ذوو بَصِيرةٍ فيما يقرب إلى اللَّه.
وقد يقول للقوم: لهم أيَدي بهؤلاء أي هم قادرون عليهم
قال الشاعر:
اعْمِدْ لِما تَعْلُو فما لكَ بالذِي... لا تَسْتَطِيع مِنَ الأُمورِ يَدانِ
أي اعمد لما تَقْهرُ ولا تعمد لما تُقْهَرُ فِيه، أي فما لك قَوة.
من قرأ أُولي الأيْدِ بِغَير يَاء فمعناه من التأييد والتقوية على الشيء.
* * *
وقوله: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦)
ويقرأ بخالصةِ ذكرى الدار على إضافة خالصة إلى ذكرى
ومن قرأ بالتنوين جعل ذكرى الدار بدلًا مِنْ خَالِصَةٍ.
ويكون المعنى إنا أَخْلَصناهم بذكرى الدَّارِ.
ومعنى الدار ههنا الدار الآخرة.
وتأويله يحتمل وجهين:
أحدهما: إنا أَخْلَصْنَاهم جعلناهم لنا خالصين، بأن جعلناهم يُذَكِرُون بالدار
الآخرة، وُيزَهِّدُونَ في الدنيا، وكذلك شأن الأنبياء صلوات اللَّه عَلَيْهِم. وَيَجُوزُ أنْ يكون بأنهم يكثرون ذكر الآخرة والرجوع إلى الله جلَّ وعَزَّ.
* * *
(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧)
أي الذين اتخذهم اللَّهُ صَفْوةً، صَفاهم من الأدناس كلِّهَا وَأَخْلَصَهُم
منها.
وقوله: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨)
ويقرأ واللَّيْسَعَ وَذَا الكِفْلِ.
وكان تكفلَ بعمل رَجُل صالح. يقال إنه كان يصلي ذلك الرجل في كل يوم مائة صلاة فتُوُفِّيَ الرجل الصالح فتكفل ذو الكفل بعمله، فكان يعمل عمله، ويقال إن ذا الكفل تكفَّل بأمْرِ أَنْبِيَاءَ فخلَّصهم من القتل فسُمِّيَ ذا الكِفْلِ.
(وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ).
المعنى وكل هؤلاء المذكورين من الأخيار.
والأخيار جمع خيِّر وأَخْيارٌ مثل ميِّت وأموات.
* * *
(هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)
معناه - واللَّه - أعلم - هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أَبداً، وإن لهم
مع ذلك لَحُسْنَ مآبٍ أي لحسن مَرْجع.
يذكرون في الدنيا بالجميل ويرجعون في الآخرة إلى مغفرة اللَّه.
ثم بين كيف حسن ذلك المرجعْ فقال:
* * *
(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (٥٠)
(جَنَّاتِ) بدل من (لَحُسْنَ مَآبٍ)
ومعنى مفتحة لهم الأبواب أي منها.
وقال بعضهم: مُفَتحَةً لهم أبْوَابُها والمعنى وَاحِد، إلا أن على تقدير العَرَبيةِ
" الأبْوابُ مِنْهَا " أجودُ من أَنْ تجعل الألف واللام وبدلًا من الهاء والألف. لأن معنى الألف واللام ليس معنى الهاء والألف في شيء.
لأن الهاء والألف اسم، والألف واللام دخلتا للتعريف، ولا يبدل حرف جاء لمعنى من اسم ولا ينوب عنه. هذا محال (١).
* * *
(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: العامةُ على نصب «جنات» بدلاً من «حُسْنَ مَآب» سواءً كانَتْ جنات عدنٍ معرفةً أم نكرةً؛ لأنَّ المعرفةَ تُبْدَلُ من النكرة وبالعَكْس. ويجوزُ أن تكونَ عطفَ بيان إنْ كانَتْ نكرةً ولا يجوزُ ذلك فيها إنْ كانَتْ معرفةً. وقد جَوَّز الزمخشريُّ ذلك بعد حُكْمِه واستدلاله على أنها معرفةٌ، وهذا كما تقدَّم له في مواضِعَ يُجِيْزُ عطفَ البيان، وإنْ تَخالَفا تعريفاً وتنكيراً وقد تقدَّم هذا عند قولِه تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] ويجوزُ أَنْ تَنْتَصِبَ «جناتِ عَدْنٍ» بإضمارِ فِعْلٍ. و «مُفَتَّحةً» حالٌ مِنْ «جنات عدن» أو نعتٌ لها إن كانَتْ نكرةً. وقال الزمخشري: «حالٌ. والعاملُ فيها ما في» للمتقين «مِنْ معنى الفعلِ» انتهى. وقد عَلَّلَ أبو البقاءِ بعلةٍ في قوله/: «مُتَّكئين» تقتضي مَنْعَ «مُفَتَّحة» أَنْ تكونَ حالاً، وإنْ كانَتْ العلةُ غيرَ صحيحةٍ. وقال: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ» متكئين «حالاً مِنْ» للمتقين «لأنه قد أخبر عنهم قبلَ الحال» وهذه العلةُ موجودةٌ في جَعْل «مُفَتَّحةً» حالاً من «للمتقين» كما ذكره الزمخشري. إلاَّ أنَّ هذه العلةَ ليسَتْ صحيحةً وهو نظيرُ قولِك: «إن لهندٍ مالاً قائمةً». وأيضاً في عبارتِه تجَوُّزٌ: فإنَّ «للمتقين» لم يُخْبِرْ عنهم صناعةً إنما أخبر عنهم معنًى، وإلاَّ فقد أخبر عن «حُسْن مآب» بأنَّه لهم. وجعل الحوفيُّ العاملَ مقدراً أي: يَدْخلونها مفتحةً.
قوله: «الأبواب» في ارتفاعِها وجهان، أحدهما: - وهو المشهورُ عند الناسِ - أنَّها مُرْتفعةٌ باسمِ المفعول كقوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣]. واعْتُرِضَ على هذا بأن «مُفتَحةً»: إمَّا حالٌ، وإمَّا نعتٌ ل «جنات»، وعلى التقديرَيْن فلا رابطَ وأُجيب بوجهين، أحدهما: قولُ البصريين: وهو أنَّ ثَمَّ ضميراً مقدراً تقديرُه: الأبوابُ منها. والثاني: أنَّ أل قامَتْ مقامَ الضمير؛ إذِ الأصلُ: أبوابُها. وهو قول الكوفيين وتقدَّم تحقيقُ هذا. والوجهان جاريان في قولِه: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١]. الثاني: أنها مرتفعةٌ على البدلِ من الضميرِ في «مُفَتَّحَةً» العائدِ على «جنات» وهو قولُ الفارسيِّ، لمَّا رأى خُلُوَّها من الرابطِ لفظاً ادَّعَى ذلك. واعْتُرض على هذا: بأنَّ مِنْ بدلِ البعض أو الاشتمالِ، وكلاهما لا بُدَّ فيهما مِنْ ضميرٍ فيُضْطَرُّ إلى تقديره كما تقدَّم. ورَجَّح بعضُهم الأولَ: بأنَّ فيه إضماراً واحداً، وفي هذا إضماران وتَبعه الزمخشريُّ فقال: «والأبواب بدلٌ مِن الضمير في» مُفَتَّحَةً «أي: مفتحةً هي الأبواب كقولك: ضربَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ، وهو مِنْ بَدَلِ الاشتمال» فقوله: «بدلُ الاشتمال» إنما يعني به الأبواب، لأنَّ الأبواب قد يُقال: إنها ليسَتْ بعضَ الجنات، و «أمَّا ضَرَبَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ» فهو بعضٌ مِنْ كل ليسَ إلاَّ.
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوةَ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةٌ﴾ برفعهما: إمَّا على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وإمَّا على أنَّ كلَّ واحدةٍ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي جناتٌ، هي مفتحةٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
يعني حُوراً قد قَصَرْن طَرْفَهُن على أزواجهن فلا يَنْظُرْنَ إلى غيرهم.
(أَتْرَابٌ).
أقران، (وَكَواعِبَ أَتْرَاباً) أي أسنانهن وَاحِدة، وهن في غاية الشباب
والحُسْنِ.
* * *
(هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (٥٣)
أي ليوم تجزى كل نفس بِمَا عَملَتْ، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن نعيم
أهل الجنة غير منقطع فقال:
* * *
(إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (٥٤)
أي ماله من انقطاع.
* * *
(هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥)
المعنى: الأمر هذا. فهذا رفع خبرَ الابتداء المحذوف، وإن شئت كان
هذا رفعاً بالابتداء والخبر محذوف، وجهنم بدل مِنْ (شَرَّ مَآب)، أي شر مَرْجِع.
* * *
(هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧)
بتشديد السين وتخفيفها، وحميم رفع من جهتين:
إحداهما على معنى هذا حميم وغسَّاق فليذوقوه.
ويجوز أن يكون (هذا) على معنى تفسير هذا (فليذوقوه) ثم قال بعد
(حميم وغسَّاق).
ويجوز أن يكون (هذا) في موضع نصب على هذا التفسير.
ويجوز أن يكون في موضع رفع.
فإذا كان في موضع نصب فعلى " فَلْيَذُقُوا هَذا " فليذقوه.
كما قال: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ). ومثْلُ ذَلِكَ زَيداً فاضربه.
ومن رفع فبالابتداء ويجعل الأمر في موضع خبر الابتداء، مثل
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا).
وقيل إن معنى (غساق) الشديدُ البرْدِ الذي يُحْرِقُ من بَرْدِه، وقيل إن
الغساقَ ما يغسق من جلود أهل النار.
ولو قطرت منه قطرة في المشرقِ لِأنْتَنَتْ أهل المغرب.
وكذلك لو سقطت في المغرب (١).
* * *
(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨)
وَيُقْرأ (وأُخَرُ) (وَآخَرُ) عطف على قوله (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ).
أي وعَذَابٌ آخَرُ مِنْ شَكْلِه - يقول مثل ذلك الأول.
ومن قرأ وأُخرُ، فالمعنى وأنواع أُخَر من شكله.
لأن قوله: (أزواج) معناه أنواع.
* * *
(هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (٥٩)
الفوج هم تُبَّاعُ الرؤسَاءِ وَأَصْحابهم في الضلالة
وقيل لهم: (لَا مَرْحَبًا) مَنْصُوبٌ كقولك رَحُبَتْ بِلَادُكَ مرحبا، وصَادفْتَ مَرْحَباً، فأدْخَلْتَ (لا) على ذَلِكَ المعنى (٢).
* * *
(قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠)
هذا قول الأتْباعِ للرؤساء.
* * *
(قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١)
أي زِدْه على عذابه عذاباً آخر.
ودليل هذا قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ)
وَمعنى صعْفين مَعْنَى فِزده عذاباً ضِعْفاً.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ﴾: في «هذا» أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدأً، وخبرُه «حميمٌ وغَسَّاقٌ». وقد تقدَّم أنَّ اسم الإِشارة يُكْتَفَى بواحدِه في المثنى كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]، أو يكون المعنى: هذا جامِعٌ بين الوصفَيْن، ويكون قولُه: «فَلْيَذُوْقوه» جملةً اعتراضيةً. الثاني: أَنْ يكونَ «هذا» منصوباً بمقدَّرٍ على الاشتغال أي: لِيَذُوقوا هذا.
وشبَّهه الزمخشريُّ بقولِه تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠]، يعني على الاشتغال. والكلامُ على مثلِ هذه الفائدةِ قد تقدَّم. و «حميمٌ» على هذا خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو مبتدأٌ وخبره مضمرٌ أي: منه حميمٌ ومنه غَسَّاقٌ كقوله:
٣٨٧٤ حتى إذا ما أضاءَ البرقُ في غَلَسٍ... وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُوْدُ
أي: منه مَلْوِيٌّ ومنه مَحْصود. الثالث: أَنْ يكونَ «هذا» مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي: هذا كما ذُكِر، أو هذا للطاغين. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ هذا، ثم استأنف أمراً فقال: فَلْيذوقوه. الخامس: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه «فَلْيذوقوه» وهو رأيُ الأخفشِ. ومنه:
٣٨٧٥ وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ...........................
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند ﴿والسارق والسارقة﴾ [المائدة: ٣٨] / وقرأ الأخَوان وحفصٌ «غَسَّاقٌ» بتشديد السينِ هنا وفي عمَّ يتساءَلْون، وخَفَّفه الباقون فيهما. فأمَّا المثقلُ فهو صفةٌ كالجَبَّار والضَّرّاب مثالَ مبالغةٍ، وذلك أنَّ فَعَّالاً في الصفاتِ أغلبُ منه في الأسماء. ومِنْ ورودِه في الأسماء: الكَلاَّء والجَبَّان والفَيَّاد لذَكَرِ البُوْم، والعَقَّارُ والخَطَّارُ وأمَّا المخففُ فهو اسمٌ لا صفةٌ؛ لأنَّ فَعَالاً بالتخفيفِ في الأسماءِ كالعَذاب والنَّكال أغلبُ منه في الصفاتِ، على أن منهم مَنْ جَعَله صفةً بمعنى ذي كذا أي: ذي غَسَقٍ. وقال أبو البقاء: «أو يكون فعَّال بمعنى فاعِل». قلت: وهذا غيرُ مَعْروفٍ. والغَسَقُ: السَّيَلانُ. يقال: غَسَقَتْ عينُه أي: سالَتْ. وفي التفسير: أنه ماءٌ يَسيل مِنْ صَدِيدِهم. وقيل: غَسَق أي امتلأ. ومنه: غَسَقَتْ عينُه أي: امتلأت بالدمع ومنه الغاسقُ للقمرِ لامتلائِه وكمالِه. وقيل: الغَسَّاق ما قَتَل ببردِه. ومنه قيل لليلِ: غاسِق؛ لأنه أبردُ من النهار. وقيل: الغَسَق شدَّةُ الظُّلْمة، ومنه قيل لليل: «غاسِق». ويقال للقمر: غاسِقٌ إذا كُسِفَ لاسْوِداده، ونُقِل القولان في تفسير قوله تعالى:
﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ﴾ [الفلق: ٣]. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿مُّقْتَحِمٌ﴾: مفعولُه محذوفٌ أي: مقتحِمٌ النارَ. والاقتحام: الدخولُ في الشيء بشدَّة، والقُحْمَةُ: الشدةُ. وقال الراغب: الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ. ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي: توغَّل به ما يُخافُ منه/. والمقاحيم: الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب «.
قوله:»
معكم «يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ل فَوْج، وأَنْ يكونَ حالاً منه لأنه قد وُصِفَ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستتر في» مُقْتَحِم «. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لفسادِ المعنى «، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية؟
وقوله:»
هذا فَوْجٌ «إلى قوله:» النار «يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ، ويجوز أَنْ يكونَ» هذا فَوْجٌ «مِنْ كلامِ الملائكة، والباقي من كلام الرؤساء، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال: بل هم لا مَرْحباً بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّياً منهم.
قوله: ﴿لاَ مَرْحَباً﴾ في»
مَرْحباً «وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي: لا أتَيْتُمْ مَرْحباً أو لا سَمِعتم مرحباً. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ. قاله أبو البقاء أي: لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحباً بَلْ ضَيِّقاً. ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم، وقوله:» بهم «بيانٌ للمدعُوِّ عليه. والثاني: أنها حاليةٌ. وقد يُعْتَرَضُ عليه: بأنه دعاءٌ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالاً. والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي: مَقُولاً لهم لا مَرْحباً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله تعالى: (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (٦٣)
(أَتَّخَذْنَاهُمْ)
يقرأ بقطع الألفِ وفتحها على مَعْنَى الاستفهام (١)
ومن وصلها كان على
معنى. إنا اتخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا، ويقرأ (سِخْرِيًّا) و (سُخْرِيًّا) - بالكَسْر والضمِ.
والمعنى واحد،.
وقَدْ قَال قَوْمٌ: إن ما كان من التسخير فهو مضموم الأول.
وما كان من الهزؤ فهو مكسور الأول.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
أي إن وَصْفَنَا الذي وصفناه عَنْهُم لَحَق (٢)
ثم بين ما هو فقال: هو
تخاصم أهل النار، وهذا كله على معنى إذا كان يومُ القيامة
قال أهل النار كذا وكذلك كلُّ شيء في القرآن
مما يحكي عن أهل الجنة والنار.
* * *
ْ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)
أي قل إنك تنذر، وإنك تدعو إلى توحيد اللَّه.
وَلَوْ قُرِئَتْ: (إِلَّا اللَّهَ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ) - بالنصب - لجَازَتْ ولكنهُ لَم يقْرأ بها، فَلَا تقرأن بها.
ومن نصب فعلى الاستثناء، ومن رفع فعلى معنى ما إله إلا اللَّهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨)
أي قل النبأ الَّذِي أنبأتكم به عن اللَّه - عزَّ وجلَّ - نبأ عَظِيم، والذي
أنبأتكمْ به دليل على نُبُوتي.
يعني ما أنبأكم به النبي - ﷺ - من قصة آدم
وإبليس، فإن ذلك لا يعلم إلا بقراءة الكُتُبِ أو بِوَحْي من اللَّه، وقد علم
الذين خاطبهم النبي - ﷺ - أنه لم يقرأ كتاباً ولا خطه بيمينهِ ولا كان رَيْبٌ فيما يخبر به أنه وحيٌ ثم بيَّنَ ذلك فقال:
* * *
(مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ﴾: قرأ الأخَوان وأبو عمروٍ بوَصْلِ الهمزةِ، وهي تحتملُ وجهين، أحدهما، أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً ل «رِجالاً» كما وقع «كنا نَعُدُّهم» صفةً، وأَنْ يكونَ المرادُ الاستفهامَ وحُذِفَتْ أداتُه لدلالةِ أم عليه كقوله:
٣٨٧٦ تَرُوْحُ من الحيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ... وماذا عليك بأَنْ تَنْتَظِرْ
ف أم متصلةٌ على هذا، وعلى الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة لأنها لم تتقدَّمْها همزةُ استفهامٍ ولا تسويةٍ. والباقون بهمزةِ استفهامٍ سَقَطَتْ لأجلِها همزةُ الوصلِ. والظاهر أنه لا محلَّ للجملةِ حينئذٍ لأنها طلبيةٌ. وجَوَّزَ بعضُهم فيها أَنْ تكونَ صفةً لكنْ على إضمارِ القولِ أي: رجالاً مَقُولاً فيهم: أتخذناهم كقوله:
٣٨٧٧ جاؤُوْا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطْ... إلاَّ أنَّ الصفةَ في الحقيقةِ ذلك القولُ المضمرُ. وقد تقدَّم الخلافُ في «سِخْرِيَّاً» في ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾. والمشهورُ أن المكسورَ في الهُزْء كقولِ الشاعر:
٣٧٧٨ إني أتاني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها... مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيها ولا سَخْرُ
وتقدَّم معنى لَحاقِ الياءِ المشددَّةِ في ذلك. وأم مع الخبرِ منقطعةٌ فقط كما تقدَّم، ومع الاستفهام يجوزُ أَنْ تكونَ متصلةً، وأن تكونَ منقطعةً كقولِك: «أزيدٌ عندك أم عندك عمروٌ»، ويجوزُ أنْ يكونَ «أم زاغَتْ» متصلاً بقوله: «ما لنا» لأنه استفهامٌ، إلاَّ أنه يَتَعَيَّنُ انقطاعُها لعَدَمِ الهمزةِ، ويكون ما بينهما معترضاً على قراءةِ «أتَّخَذْناهم» بالاستفهام إنْ لم نجعَلْه صفةً على إضمارِ القولِ كما تقدَّمَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿تَخَاصُمُ﴾: العامَّةُ على رَفْعِ «تَخاصُمُ» مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنَّه بدلٌ مِنْ «لَحَقٌّ». الثاني: أنه عطفُ بيانٍ. الثالث: أنه بدلٌ مِنْ «ذلك» على الموضعِ، حكاه مكي، وهذا يُوافِقُ قولَ بعض الكوفيين. الرابع: أنه خبرُ ثانٍ ل «إنَّ». الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو تخاصُمُ. السادس: أنه مرفوعٌ بقولِه «لَحَقٌّ». إلاَّ أنَّ أبا البقاء قال: «ولو قيل: هو مرفوعٌ ب» حَقٌّ «لكان بعيداً لأنه يَصيرُ جملةً/ ولا ضميرَ فيها يعود على اسم» إن «. وهذا ردٌّ صحيحٌ. وقد يُجابُ عنه: بأنَّ الضميرَ مقدرٌ أي: لحقٌّ تخاصُمُ أهلِ النار فيه كقوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣] أي: منه. وقرأ ابن محيصن بتنوين» تخاصم «ورفع» أهلُ «فَرَفْعُ» تخاصُمٌ «على ما تقدَّم. وأمَّا رَفْعُ» أهلُ «فعلى الفاعلية بالمصدرِ المنونِ كقولك:» يُعْجبني تخاصمٌ الزيدون «أي: أنْ تخاصَموا. وهذا قولُ البصريين وبعضِ الكوفيين خلا الفراءَ.
وقرأ ابنُ أبي عبلة»
تخاصُمَ «بالنصب مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنه صفةٌ ل» ذلك «على اللفظِ. قال الزمخشري:» لأنَّ أسماءَ الإِشارة تُوْصَفُ بأسماءِ الأجناس «. وهذا فيه نظرٌ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ أسماء الإِشارة لا تُوْصَفُ إلاَّ بما فيه أل نحو:» يا هذا الرجلُ «، ولا يجوز» يا هذا غلامَ الرجل «فهذا أبعدُ، ولأن الصحيحَ أنَّ الواقع بعد اسمِ الإِشارة المقارنِ ل أل إنْ كان مشتقاً كان صفةً، وإلاَّ كان بدَلاً و» تخاصُم «ليس مشتقاً. الثاني: أنه بدلٌ من ذلك. الثالث: أنه عطفُ بيانٍ. الرابع: على إضمارِ» أعني «. وقال أبو الفضل:» ولو نُصِبَ «تخاصم» على أنَّه بدلٌ من «ذلك» لجاز «انتهى. وكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً. وقرأ ابن السَّمَيْفع» تخاصَمَ «فعلاً ماضياً» أهل «فاعلٌ به. وهي جملةٌ استئنافيةٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي ما علمت هذه الأقاصيص إِلا بِوَحْيٍ منَ اللَّهِ.
* * *
(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١)
هم الملأ من الملائكة، وملأ كل قرية وجوههم وأفَاضِلهَمَ.
* * *
(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥)
((قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ)
تقرأ على ثلاثة أوجه:
(بِيَدَيَّ) على التَّثْنِية، و (بِيَدَيَ اسْتَكْبَرْتَ) بفتح الياء
وتخفيفها وتوحيد اليد، وبتسكين اليد والتوحيد، (بِيَدَي استكبرت) (١).
* * *
(قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧)
أي فإنَّكَ لَعين، معناه فإنك مرجوم باللعنة.
* * *
(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)
يوم تدان كل نفس بما كسبت، ومعنى يوم الدين يوم الجزاء.
* * *
(إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١)
الَّذِي لَا يَعْلَمُه إِلا اللَّهُ، ويوْم الوَقْتِ يَومُ القيامة.
* * *
وقوله: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
بفتح اللام، أخْلَصَهُم اللَّه لِعِبَادَتِه، ومن كسر اللام، فإنَّمَا أراد الَّذِين
أخْلَصُوا دينَهُمْ اللَّه.
* * *
(قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَن تَسْجُدَ﴾: قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يَرَى أنَّ «لا» في ﴿أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] في السورةِ الأخرى زائدةٌ؛ حيث سقطَتْ هنا والقصةُ واحدةٌ. وقوله: «لما خَلَقْتُ» قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يرى جوازَ وقوع «ما» على العاقل؛ لأنَّ المرادَ به آدمُ. وقيل: لا دليلَ فيه؛ لأنه كان فَخَّاراً غيرَ جسمٍ حَسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحال. وقيل: «ما» مصدريةٌ والمصدرُ غيرُ مُرادٍ، فيكون واقعاً موقعَ المفعولِ به أي: لمخلوقي.
وقرأ الجحدري «لَمَّا» بتشديدِ الميمِ وفتحِ اللامِ، وهي «لَمَّا» الظرفيةُ عند الفارِسيِّ، وحرفُ وجوبٍ لوجوبٍ عند سيبويه. والمسجود له على هذا غيرُ مذكورٍ أي: ما مَنَعَك من السجود لَمَّا خلقْتُ أي: حين خَلَقْتُ لِمَنْ أَمَرْتُك بالسجود له. وقُرِئ «بيَدَيِّ» بكسرِ الياءِ كقراءةِ حمزةَ «بِمُصْرِخِيِّ» وقد تقدَّم ما فيها. وقُرِئ «بيدي» بالإِفرادِ.
قوله: «أسْتَكْبَرْت» قرأ العامَّةُ بهمزةِ الاستفهام وهو استفهامُ توبيخٍ وإنكارٍ. و «أم» متصلةٌ هنا. هذا قولُ جمهورِ النحويين. ونقل ابنُ عطيةَ عن بعضِ النحويين أنها لا تكونُ معادِلَةً للألفِ مع اختلافِ الفعلَيْن، وإنما تكونُ معادِلةً إذا دَخَلَتا على فِعْلٍ واحد كقولِك: أقامَ زيدٌ أم عمروٌ، وأزيدٌ قام أم عمروٌ؟ وإذا اختلف الفعلان كهذه الآيةِ فليسَتْ معادِلةً. وهذا الذي حكاه عن بعض النحويين مَذْهَبٌ فاسِدٌ، بل جمهورُ النحاةِ على خلافِه قال سيبويه: «وتقول:» أضرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَه؟ «فالبَدْءُ هنا بالفعل أحسنُ؛ لأنك إنما تَسْأل عن أحدِهما لا تدري أيهما كان؟ ولا تَسْأَلُ عن موضعِ أحدِهما كأنك قلت: أيُّ ذلك كان» انتهى. فعادل بها الألفَ مع اختلافِ الفعلين.
وقرأ جماعةٌ - منهم ابنُ كثير، وليسَتْ مشهورةً عنه - «استكبَرْتَ» بألف الوصلِ، فاحتملَتْ وجهين، أحدهما: أنْ يكونَ الاستفهامُ مُراداً يَدُلُّ عليه «أم» كقولِه:
٣٨٧٩.............................. بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ
وقول الآخر:
٣٨٨٠ ترُوْحُ من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ................................
فتتفق القراءتان في المعنى، واحتمل أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً، وعلى هذا فأم منقطعةٌ لعدمِ شَرْطِها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقرئت: (قَالَ فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) بنصبهما جميعاً.
فَمن رَفَع فعلى ضربين:
على معنى فَأنا الحقُّ، والحقُّ أقُولُ.
ويجوز رفْعُه علي معْنَى فَالحَقُّ مِنِّي.
ومن نصب فعلى معنى فالحقَّ أَقُولُ والحقَّ لأملأن جهنم حَقًّا.
* * *
(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
أي بعد الموت.
Icon