تفسير سورة الذاريات

زاد المسير
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الذاريات مكية كلها بإجماعهم.

سورة الذّاريات
مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ٢٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً يعني الرِّياح، يقال: ذَرَت الرِّيحُ الترابَ تَذْرُوه ذَرْواً: إذا فرَّقَتْه. قال الزجاج: يقال: ذَرَت فهي ذارية، وأذْرَت فهي مُذْرية، بمعنى واحد. وَالذَّارِياتِ، مجرورة على القَسَم، المعنى: أحْلفِ بالذّارياتِ وهذه الأشياء، والجواب إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، قال قوم: المعنى:
وربِّ الذاريات، وربِّ الجاريات. قوله تعالى: فَالْحامِلاتِ وِقْراً يعني السحاب التي تحمل وِقْرها من الماء. فَالْجارِياتِ يُسْراً يعني السُّفن تجري ميسَّرة في الماء جَرياً سهلاً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمَر اللهُ به. قال ابن السائب: والمقسِّمات أربعة، جبريل، وهو صاحب الوحي والغِلظة، وميكائيل، وهو صاحب الرِّزق والرَّحمة، وإسرافيل، وهو صاحب الصُّور واللَّوح، وعزرائيل، وهو قابض الأرواح. وإنما أقسَم بهذه الأشياء لِما فيها من الدلالة على صُنعه وقُدرته. ثم ذكر المُقسَم عليه فقال: إِنَّما تُوعَدُونَ أي: من الثواب والعقاب يومَ القيامة لَصادِقٌ أي: لَحَقّ. وَإِنَّ الدِّينَ فيه قولان: أحدهما: الحساب. والثاني: الجزاء لَواقِعٌ أي: لَكائن.
ثم ذكر قَسَماً آخر فقال: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين: «الحِبِكِ» بكسر الحاء والباء جميعاً. وقرأ عثمان بن عفان، والشعبي، وأبو العالية، وأبو حيوة: «الحِبْكِ» بكسر الحاء وإسكان الباء. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو رجاء، وابن أبي عبلة: «الحُبْكِ» برفع الحاء وإسكان الباء. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة: «الحَبَكِ» بفتح الحاء والباء جميعاً. وقرأ أبو الدرداء، وأبو الجوزاء، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «الحَبِكِ» بفتح الحاء وكسر الباء.
167
ثم في معنى «الحبك» أربعة أقوال: أحدها: ذات الخَلْق الحَسَن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: البُنيان المُتْقَن، قاله مجاهد. والثالث: ذات الزِّينة، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن: حُبُكها: نُجومها. والرابع: ذات الطرائق، قاله الضحاك واللغويون. وقال الفراء: الحُبُك:
تَكَسُّر كلِّ شيء كالرَّمْل إذا مَرَّت به الرِّيح السّاكنة، والماء القائم إذا مَرّت به الرِّيح، والشَّعرةُ الجَعْدَة تكسُّرُها حُبُك، وواحد الحُبُك: حِباك وحَبِيكة. وقال الزجاج: أهل اللغة يقولون: الحُبُك: الطرَّائق الحَسَنة، والمَحْبُوك في اللغة: ما أُجيد عملُه، وكل ما تراه من الطَّرائق في الماء وفي الرَّمْل إذا أصابته الرِّيح فهو حُبُك. وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: هذه هي السماء السابعة.
ثم ذكر جواب القَسَم الثاني، قال: إِنَّكُمْ يعني أهل مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم، بعضُكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون. وفي القرآن، بعضكم يقول: سِحْر، وبعضكم يقول:
كَهانة ورَجَز، إلى غير ذلك. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: يُصْرَف عن الإيمان به مَن صُرِف فحُرِمَه. والهاء في «عنه» عائدة إلى القرآن، وقيل: يُصْرَف عن هذا القول، أي: من أجْله وسببه، عن الإيمان من صُرِف. وقرأ قتادة: «مَنْ أَفَكَ» بفتح الألف والفاء. وقرأ عمرو بن دينار: «مَنْ أَفِكَ» بفتح الألف وكسر الفاء. قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ قال الفراء: يعني: لُعن الكذّابون الذين قالوا: إن النبي صلّى الله عليه وسلم ساحر وكذَّاب وشاعر، خَرَصوا ما لا علم لهم به. وفي رواية العوفي عن ابن عباس: أنهم الكهنة. وقال ابن الأنباري:
والقتل إذا أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك.
قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي في عمىً وجهالة بأمر الآخرة ساهُونَ أي غافلون.
والسَّهو: الغَفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء؟! تكذيبا منهم واستهزاء. ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ قال الزجاج: «اليومَ» منصوب على معنى: يقع الجزاء يومَ هُم على النّار يُفْتَنُونَ أي يُحرَقون ويعذَّبون، ومن ذلك يقال للحجارة السُّود التي كأنها قد أُحرقت بالنار: الفَتِين. قوله تعالى: ذُوقُوا المعنى: يقال لهم: ذوقوا فِتْنَتَكُمْ وفيها قولان: أحدهما: تكذيبكم، قاله ابن عباس. والثاني: حريقكم، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة: هاهنا تم الكلام، ثم ائتنف، فقال: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ قال المفسرون: يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاء.
ثم ذكر ما وعَد اللهُ لأهل الجنة فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وقد سبق شرح هذا «١».
قوله تعالى: آخِذِينَ قال الزجاج: هو منصوب على الحال، فالمعنى: في جنّات وعيون في حال أخذ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال المفسرون: أي ما أعطاهم اللهُ من الكرامة إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ في أعمالهم.
وفي الآية وجه آخر: «آخذين ما آتاهم ربُّهم» أي: عاملين بما أمرهم به من الفرائض «إنهم كانوا قبلَ» أن تفرض الفرائض عليهم، «محسِنين» أي: مطيعين، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين.
ثم ذكر إحسانهم فقال: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ والهُجوع: النَّوم بالليل دون النهار. وفي «ما» قولان: أحدهما: النفي. ثم في المعنى قولان: أحدهما: كانوا يسهرون قليلاً من الليل. قال أنس بن مالك، وأبو العالية: هو ما بين المغرب والعشاء. والثاني: كانوا ما ينامون قليلا من اللّيل.
(١) البقرة: ٢٥، الحجر: ٤٥. [.....]
168
واختار قوم الوقف على قوله: «قليلاً» على معنى: كانوا من الناس قليلاً، ثم ابتدأ فقال: «من الليل ما يهجعون» على معنى نفي النوم عنهم البتَّة، وهذا مذهب الضحاك، ومقاتل. والقول الثاني: أن «ما» بمعنى الذي، فالمعنى: كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعونه، وهذا مذهب الحسن، والأحنف بن قيس، والزهري. وعلى هذا يحتمل أن تكون «ما» زائدة.
قوله تعالى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وقد شرحناه في آل عمران «١».
قوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي: نصيب، وفيه قولان: أحدهما: أنه ما يَصِلون به رَحِمًا، أو يَقْرون به ضيفاً، أو يحملون به كلاًّ، أو يُعينون به محروماً، وليس بالزَّكاة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الزكاة، قاله قتادة، وابن سيرين. قوله تعالى: لِلسَّائِلِ وهو الطالب. وفي «المحروم» ثمانية أقوال:
أحدها: أنه الذي ليس له سهم في فيء المسلمين، وهو المُحارَف «٢»، قاله ابن عباس. وقال إبراهيم:
هو الذي لا سهم له في الغنيمة. والثاني: أنه الذي لا ينمى له شيء، قاله مجاهد، وكذلك قال عطاء:
هو المحروم في الرِّزق والتجارة. والثالث: أنه المسلم الفقير، قاله محمد بن علي. والرابع: أنه المتعفِّف الذي لا يَسأل شيئاً، قاله قتادة، والزهري. والخامس: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة، وليس له فيها سهم، قاله الحسن بن محمّد ابن الحنفية. والسادس: أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته، قاله ابن زيد. والسابع: أنه المملوك، حكاه الماوردي. والثامن: أنه الكَلْب، روي عن عمر بن عبد العزيز، وكان الشعبي يقول: أعياني أن أعلَم ما المحروم. وأظهر الأقوال قول قتادة والزهري، لأنه قرنه بالسائل، والمتعفِّف لا يَسأل- ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل- ثم يتحفظ بالتعفُّف من ظُهور أثر الفاقة عليه، فيكون محروما من قِبَل نفسه حين لم يَسأل، ومن قِبَل الناس حين لا يُعطونه، وإنما يفطن له متيقِّظ. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، ولا يصح.
قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك لِلْمُوقِنِينَ بالله عزّ وجلّ الذين يعرفونه بصنعه. وَفِي أَنْفُسِكُمْ آياتٌ إذ كنتم نُطَفاً ثم عظاماً، ثم عَلَقاً، ثم مُضَغاً إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف ثم اختلاف الصُّوَر والألوان والطبائع، وتقويم الأدوات، والسمع والبصر والعقل، وتسهيل سبيل الحدث، إلى غير ذلك من العجائب المودَعة في ابن آدم. وتمَّ الكلام عند قوله:
وَفِي أَنْفُسِكُمْ، ثم قال: أَفَلا تُبْصِرُونَ قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خَلَقكم فتعرِفوا قُدرته على البعث.
قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وحميد، وأبو حصين الأسدي: «أرْزاقُكم» براءٍ ساكنة، وبألف بين الزاي والقاف. وقرأ ابن مسعود، والضحاك، وأبو نهيك: «رازِقُكم» بفتح الراء وكسر الزّاي وبألف بينهما. وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين. وفيه قولان: أحدهما: أنه المطر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وليث عن مجاهد، وهو قول الجمهور. والثاني: الجنّة، رواه ابن نجيح عن مجاهد. وفي قوله: وَما تُوعَدُونَ قولان: أحدهما: أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني: الجنة، رواه ليث عن مجاهد. قال أبو
(١) آل عمران: ١٧.
(٢) في «القاموس» المحارف: المحدود والمحروم.
169
عبيدة: في هذه الآية مضمر مجازه: عند مَنْ في السماء رزقُكم، وعنده ما توعدون، والعرب تُضْمِر، قال نابغة ذبيان:
كأنكَ مِنْ جِمالِ بَني أُقَيش يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ «١»
أراد: كأنك جملٌ من جِمال بني أُقَيش.
قوله تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ قال الزجاج: يعني ما ذكره من أمر الآيات والرِّزق وما توعدون وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «مِثْلُ» برفع اللام. وقرأ الباقون بنصب اللام. قال الزجاج: فمن رفع «مِثْلُ» فهي من صفة الحق، والمعنى: إنه لَحَقٌ مِثْلُ نُطْقكم ومن نصب فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون في موضع رفع، إلا أنه لمّا أُضيف إلى «أنَّ» فُتح. والثاني: أن يكون منصوبا على التأكيد، على معنى: إنه لَحَقٌ حَقّاً مِثْلَ نُطقكم، وهذا الكلام كما تقول: إنه لَحَقٌ كما أنَّك تتكلّم.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٤ الى ٣٧]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧)
قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ «هل» بمعنى «قد» في قول ابن عباس، ومقاتل، فيكون المعنى: قد أتاك فاستمع نقصصه عليك، وضيفه: هم الّذين جاءوا بالبشرى. وقد ذكرنا عددهم في هود «٢»، وذكرنا هناك معنى الضَّيف. وفي معنى «المُكْرَمِينَ» أربعة أقوال: أحدهما:
لأنه أكرمهم بالعِجْل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: بأن خدمهم هو وامرأته بأنفُسهما، قاله السدي. والثالث: أنهم مُكْرَمون عند الله، قاله عبد العزيز بن يحيى. والرابع: لأنهم أضياف، والأضياف مُكْرَمون، قاله أبو بكر الورَّاق.
قوله تعالى: فَقالُوا سَلاماً قد ذكرناه في هود «٣».
قوله تعالى: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قال الزجاج: ارتفع على معنى: أنتم قومٌ مُنْكَرونَ. وللمفسرين في سبب إنكارهم أربعة أقوال: أحدها: لأنه لم يعرفهم، قاله ابن عباس. والثاني: لأنهم سلَّموا عليه، فأنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض، قاله أبو العالية. والثالث: لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. والرابع: لأنه رأى فيهم صورة البشر وصورة الملائكة.
(١) في «القاموس» الشنّ: وبهاء القربة الخلق.
(٢) هود: ٧٠.
(٣) هود: ٧٠.
قوله تعالى: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ قال ابن قتيبة: أي: عَدَل إليهم في خُفْية، ولا يكون الرَّواغُ إلاَّ أن تُخْفِيَ ذهابَك ومَجيئك. قوله تعالى: فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ وكان مشويّاً فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قال الزجاج:
والمعنى: فقرَّبه إليهم ليأكلوا منه، فلم يأكلوا، فقال: أَلا تَأْكُلُونَ؟! على النَّكير، أي: أمرُكم في ترك الأكل ممّا أُنْكِرُه. قوله تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قد شرحناه في هود «١». وذكرنا معنى: «غلامٍ عليمٍ» في (الحجر) «٢». فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ وهي: سارة. قال الفراء وابن قتيبة: لم تُقْبِل مِن مَوضع إلى مَوضع، وإنما هو كقولك: أقبلَ يَشتُمني، وأقبل يَصيح ويتكلَّم أي: أخذ في ذلك، والصَّرَّة: الصَّيحة. وقال أبو عبيدة: الصَّرَّة: شِدة الصَّوت. وفيما قالت في صَيحتها قولان: أحدهما: أنها تأوّهت، قاله قتادة.
والثاني: أنها قالت: يا ويلتا، ذكره الفراء. قوله تعالى: فَصَكَّتْ وَجْهَها فيه قولان: أحدهما: لطمتْ وجهها، قاله ابن عباس. والثاني: ضربتْ جبينها تعجُّباً، قاله مجاهد، ومعنى الصَّكِّ، ضَرْبُ الشيء بالشيء العريض. وَقالَتْ عَجُوزٌ قال الفراء: هذا مرفوع بإضمار «أتَلِدُ عجوزٌ». وقال الزجاج: المعنى:
أنا عجوز عقيمٌ، فكيف ألِدُ؟! وقد ذكرنا معنى «العقيم» في هود «٣». قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أنك ستَلِدين غُلاماً والمعنى: إنّما نخبرك عن الله عزّ وجلّ، وهو حكيم عليم يَقْدِر أن يَجعل العقيم وَلُوداً، فعَلِم حينئذ إبراهيمُ أنهم ملائكة. قالَ فَما خَطْبُكُمْ مفسر في الحجر «٤».
قوله تعالى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ قال ابن عباس: هو الآجُرُّ. قوله تعالى: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ قد شرحناه في هود «٥». قوله تعالى: لِلْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس: للمشركين. قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها، أي: من قُرى لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وذلك قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الآية «٦». فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وهو لوط وابنتاه، وصفهم الله عزّ وجلّ بالإيمان والإسلام، لأنه ما من مؤمِن إلا وهو مُسْلِم. وَتَرَكْنا فِيها آيَةً أي: علامة للخائفين من عذاب الله تَدُلُّهم على أن الله أهلكهم. وقد شرحنا هذا في العنكبوت «٧» وبيّنّا المكني عنها.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٨ الى ٥١]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧)
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
قوله تعالى: وَفِي مُوسى اي وفيه ايضاً آية إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجّة ظاهرة
(١) هود: ٧٠.
(٢) الحجر: ٥٤.
(٣) هود: ٧٢.
(٤) الحجر: ٥٧.
(٥) هود: ٨٣.
(٦) هود: ٨١.
(٧) العنكبوت: ٣٥.
171
فَتَوَلَّى اي أعرَضَ بِرُكْنِهِ قال مجاهد: بأصحابه. وقال ابو عبيدة: «بِرُكْنه» و «بجانبه» سواء، إنما هي ناحيته وَقالَ ساحِرٌ اي وقال لموسى: هذا ساحر أَوْ مَجْنُونٌ وكان أبو عبيدة يقول: «أو» بمعنى الواو. فأمّا «الَيمُّ» فقد ذكرناه في الأعراف «١» و «مُليم» في الصافات «٢».
قوله تعالى: وَفِي عادٍ اي في إهلاكهم آية ايضاً إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وهي التي لا خَير فيها ولا بَرَكة، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً، وإنما هي للإهلاك. وقال سعيد بن المسيّب: هي الجَنُوب. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي من أنفُسهم وأموالهم إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ اي كالشيء الهالك البالي، قال الفراء: الرَّميم: نبات الأرض إذا يَبِس وَدِيس. وقال الزجاج: الرَّميم: الورَق الجافّ المتحطِّم مثل الهشيم. وَفِي ثَمُودَ آيةٌ ايضاً إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فيه قولان: أحدهما: أنه قيل لهم: تَمتَّعوا في الدُّنيا إلى وقت انقضاء آجالكم تهدُّداً لهم. والثاني: أن صالحاً قال لهم بعد عَقْر النّاقة:
تَمتَّعوا ثلاثة أيام: فكان الحِين وقتَ فناء آجالهم، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ قال مقاتل: عصوا أَمْره فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني العذاب، وهو الموت من صيحة جبريل. وقرأ الكسائي وحده: «الصَّعْقةُ» بسكون العين من غير الف وهي الصَّوت الذي يكون عن الصاعقة. قوله تعالى: وَهُمْ يَنْظُرُونَ فيه قولان: أحدهما: يَرَوْن ذلك عِياناً، والثاني: وهم ينتظرون العذاب فأتاهم صبيحة يومَ السبت. قوله تعالى: فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ فيه قولان: أحدهما: ما استطاعوا نُهوضاً من تلك الصَّرعة. والثاني: ما أطاقوا ثُبوتاً لعذاب الله وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين من العذاب.
قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ قرأ أبو عمرو إلاّ عبد الوارث، وحمزة، والكسائي: بخفض الميم، وروى عبد الوارث رفع الميم. والباقون بنصبها. وقال الزجاج: من خفض (القوم) فالمعنى:
وفي قومِ نوحٍ آيةٌ، ومن نصب فهو عطف على معنى قوله: «فأخذتْهم الصّاعقةُ» فإن معناه: أهلكْناهم، فيكون المعنى: وأهلَكْنا قومَ نوح، والأحسن- والله أعلم- أن يكون محمولاً على قوله: «فأخذْناه وجنوده فنبذنْاهم في اليمِّ» لأن المعنى: أغرقناه، وأغرقْنا قومَ نوح.
وَالسَّماءَ بَنَيْناها المعنى: وبنينا السماء بنيناها بِأَيْدٍ أي بقْوَّة، وكذلك قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وسائر المفسرين واللغويين: «بأيد» اي: بقُوَّة. وفي قوله: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ خمسة أقوال: أحدها: لموسِعون الرِّزق بالمطر، قاله الحسن. والثاني: لموسِعون السماء، قاله ابن زيد.
والثالث: لقادرون، قاله ابن قتيبة. والرابع: لموسِعون ما بين السماء والأرض، قاله الزجاج.
والخامس: لذو سعة لا يضيق عمّا يريد، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ قال الزجاج: هذا عطفٌ على ما قبله منصوبٌ بفعل مُضْمر محذوف يدلُّ عليه قوله: «فرشْناها» فالمعنى فرشْنا الأرض فرشْناها «فنِعْم الماهدون» أي: فنِعْم الماهدون نحن. قال مقاتل: «فرشْناها» أي: بسطْناها مسيرة خمسمائة عام، وهذا بعيد، وقد قال قتادة:
الأرضُ عشرون ألف فرسخ، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ اي: صِنفين ونَوعَين كالذكر والأنثى، والبرّ والبحر،
(١) الأعراف: ١٣٦.
(٢) الصافات: ١٤٢. [.....]
172
والليِّل والنَّهار، والحُلو والمُرِّ، والنُّور والظُّلمة، وأشباه ذلك لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلْموا أن خالق الأزواج واحد. فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بالتَّوبة من ذنوبكم والمعنى: اهْرُبوا ممّا يوجِب العِقاب من الكُفر والعِصيان إلى ما يوجِب الثَّواب من الطَّاعة والإيمان.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٢ الى ٦٠]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: كما كذَّبك قومُك وقالوا: ساحر أو مجنون كانوا من قبلك يقولون للأنبياء. قوله تعالى: أَتَواصَوْا بِهِ أي: أوْصى أوَّلُهم آخرَهم بالتكذيب؟، وهذا استفهام توبيخ. وقال أبو عبيدة: أتواطئوا عليه فأخذه بعضُهم من بعض؟!. قوله تعالى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ اي: يحملُهم الطُّغيان فيا أُعطوا من الدُّنيا على التكذيب والمشار إِليهم اهل مكة. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فقد بلَّغْتَهم فَما أَنْتَ عليهم بِمَلُومٍ لأنَّك قد أدَّيت الرِّسالة. ومذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة ولهم في ناسخها قولان: أحدهما: أنه قوله: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. والثاني: آية السيف. وفي قوله:
«وذكِّر» قولان: أحدهما: عِظْ، قاله مقاتل. والثاني: ذكِّرهم بأيّام الله وعذابه ورحمته، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أثبت الياء في «يعْبُدون» و «يُطْعِمون» و «لا يستعجِلون» في الحالين يعقوب. واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال: أحدها: إلاّ لآمُرهم أن يعبدوني، قاله عليُّ بن أبي طالب، واختاره الزجاج. والثاني: إلا لِيُقِرُّوا بالعُبودية طوْعاً وكرْهاً، قاله ابن عباس وبيان هذا قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «١». والثالث: أنه خاصّ في حقِّ المؤمنين.
قال سعيد بن المسيّب: ما خلقتُ منْ يعبُدني إلا ليعبُدَني. وقال الضحاك والفراء وابن قتيبة: هذا خاصّ لأهل طاعته، وهذا اختيار القاضي ابي يعلى فإنه قال: معنى هذا الخصوصُ لا العمومُ، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخُلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس فكذلك الكُفَّار يخرُجون من هذا بدليل قوله: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «٢»، فمن خُلق للشَّقاء ولجهنَّم لم يخلق للعبادة. والرابع: إلا ليخضعوا إليَّ ويتذللَّوا، ومعنى العبادة في اللغة: الذُّلُّ والانقياد. وكُلُّ الخلْق خاضعٌ ذليل لقضاء الله عزّ وجلّ، لا يملك خروجا عمّا قضاه الله عزّ وجلّ، هذا مذهب جماعة من أهل المعاني.
قوله تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي: ما أُريدُ أن يرزُقوا أنفسهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يُطْعِموا أحداً من خَلْقي، لأنِّي أنا الرَّزّاق. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيالُ الله، ومن أطعمَ عِيالَ أحد فقد أطعمه.
(١) الزخرف: ٨٧.
(٢) الأعراف: ١٧٩.
173
(١٣٤٥) وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عزّ وجلّ يوم القيامة. يا ابن آدم: استطعمتُكَ فلم تُطْعِمْني»، اي: لم تُطْعِم عبدي.
فأما الرَّزَّاقُ فقرأ الضحاك، وابن محيصن: «الرّازق» بوزن «العالِم». قال الخطابي: هو المتكفِّل بالرِّزق القائمُ على كل نَفْس بما يُقيمها من قُوتها. والْمَتِينُ الشديد القُوَّة الذي لا تنقطع قُوَّته ولا يَلحقه في أفعاله مَشقَّة. وقد روى قتيبة عن الكسائي أنه قرأ: «المتينِ» بكسر النون. وكذا قرأ أبو رزين، وقتادة، وأبو العالية، والأعمش. قال الزجاج: ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ أي: ذو الاقتدار الشديد، ومن رفع «المتين» فهو صفة الله عزّ وجل، ومن خفضه جعله صفة للقُوة، لأن تأنيث القُوَّة كتأنيث المُوعظة، فهو كقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «١».
قوله تعالى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني مشركي مكة ذَنُوباً أي: نصيباً من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ الذين أُهلكوا، كقوم نوح وعاد وثمود. قال الفراء: الذَّنوب في كلام العرب: الدَّلْوُ العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى النَّصيب والحظِّ، قال الشاعر:
لَنا ذَنُوبٌ وَلكُمْ ذَنُوبُ فإِنْ أَبَيْتُم فَلَنا الْقَلِيبُ «٢»
والذَّنوب، يُذَكَّر ويؤنَّث. وقال ابن قتيبة، أصل الذَّنوب: الدَّلو العظيمة، وكانوا يَستقون، فيكون لكل واحدٍ ذَنوبٌ، فجُعل «الذَّنوب» مكان «الحظّ والنصيب».
قوله تعالى: فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي: بالعذاب إن أُخِّروا إلى يوم القيامة، وهو يومهم الذي يوعدون، ويقال: هو يوم بدر.
صحيح. وهذا اللفظ جزء من حديث طويل أخرجه مسلم ٢٥٦٩.
__________
(١) البقرة: ٢٧٥.
(٢) في «القاموس» القليب: البئر.
174
Icon