تفسير سورة سورة الملك من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
ﰡ
﴿ تبارك ﴾ تعالى وتعاظم جل وعلا. أو كثر خيره ودام [ آية ٥٤ الأعراف ص ٢٦٤ ]﴿ الملك ﴾ بالضم : السلطان والقدرة، ونفاذ الأمر.
﴿ الذي خلق الموت والحياة ﴾ أي خلق بقدرته موت من شاء وما شاء موته، وحياة من شاء وما شاء حياته من الممكنات المقهورة بسلطانه. والحياة صفة وجودية تقتضي الحس والحركة. والموت : صفة وجودية تضاد الحياة، أو هو عدم الحياة عما هي من شأنه. وخلقه على المعنى الأول : إيجاده. وعلى الثاني : تقديره أزلا. ﴿ ليبلوكم ﴾ ليختبركم، أي يعاملكم معاملة من يختبركم، وإلا فهو سبحانه أعلم بكم﴿ أيكم أحسن عملا ﴾ أسرع في طاعة الله، وأورع عن محارم الله، وأتم فهما لما يصدر عن الله، وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه. والجملة مفعول ثان " ليبلوكم " لتضمنه معنى العلم ؛ فإن الاختبار طريق إليه.
﴿ سبع سموات طباقا ﴾ أي بعضها فوق بعض. مصدر طابق مطابقة وطباقا ؛ من طابق النعل : أي جعله طبقة فوق أخرى. وصف به للمبالغة، أو بتقدير مضاف، أي ذات طباق. قال البقاعي : حيث يكون كل جزء منها مطابقا للجزء من الأخرى، ولا يكون جزء منها خارجا عن ذلك. وهي لا تكون كذلك إلا أن تكون الأرض كرية، والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب، والسماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا، وهكذا إلى أن يكون العرش محيطا بالكل، والكرسي الذي هو أقربها بالنسبة إليه كحلقة في فلاة ؛ فما ظنك بما تحته ! وكل سماء من التي فوقها بهذه النسبة. وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك، وليس في الشرع ما يخالفه، بل ظاهره يوافقه. اه.
﴿ ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت ﴾ ما ترى في خلق السموات السبع، شيئا من الاختلاف وعدم التناسب، فلا عيب ولا نقص، ولا اعوجاج ولا اضطراب في شيء منها. بل كلها محكمة جارية على مقتضى الحكمة. يقال : تفاوت الشيئان تفاوتا، تباعد ما بينهما ؛ من الفوت، وأصله الفرجة بين أصبعين. والجملة صفة لسبع سموات. ﴿ فارجع البصر ﴾ أي إن كنت في شك من ذلك، فكرر النظر فيما خلقنا حتى يتضح لك الأمر، ولا يبقى عندك شبهة فيه. ﴿ هل ترى من فطور ﴾ أي خلل ووهن. وأصل معنى الفطور : الشقوق والصدوع ؛ جمع فطر. يقال : فطره فانفطر. وتفطر الشيء تشقق ؛ وبابه نصر أريد منه ما ذكرنا لعلاقة اللزوم.
﴿ ثم ارجع البصر كرتين ﴾ أي رجعتين أخريين. والمراد : كرره مرة بعد أخرى ؛ فانظر هل ترى فيها خللا أو وهنا أو عيبا. والكره : المرة من الكر، وهو العطف على الشيء بالذات أو الفعل، والرجوع إليه. ﴿ ينقلب إليك البصر خاسئا ﴾ يعد إليك البصر صاغرا مبعدا من إصابة ما التمسه من العيب والخلل [ آية ٢٥ البقرة ص ٣٢ ]. يقال : خسأت الكلب، أبعدته وطردته. وخسأ الكلب بنفسه – من باب قطع – فانخسأ. ﴿ وهو حسير ﴾ كليل منقطع من كثرة المراجعة والمعاودة، لم يدرك ما طلب ؛ من حسر بصره يحسر حسورا : إذا كل وانقطع من طول المدى.
﴿ زينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾ بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح، ليست كمصابيحكم التي تعرفونها. ﴿ وجعلناها رجوما للشياطين ﴾ أي جعلنا منها مراجم للشياطين بانقضاض الشهب المنبعثة عنها على مسترق السمع منهم، جمع رجم، وهو في الأصل مصدر رجمه رجما – من باب نصر - : إذا رماه بالرجام أي الحجارة ؛ سمي به ما يرجم به. ﴿ وأعتدنا لهم عذاب السعير ﴾ عذاب النار المشتعلة في الآخرة، بعد الرجم في الدنيا بالشهب. يقال : سعر النار – كمنع – ألهبها ؛ كسعرها وأسعرها، فهي مسعورة وسعير.
﴿ سمعوا لها شهيقا ﴾ صوتا منكرا عند إلقاء الكفار فيها ؛ كصوت الحمير وهو أنكر الأصوات. ﴿ وهي تفور ﴾ تغلي بهم غليان المرجل بما فيه. والفور : شدة الغليان ؛ ويقال ذلك في النار إذا هاجت، وفي القدر إذا غلت.
﴿ تكاد تميز من الغيظ ﴾ تتميز، أي تتقطع وينفصل بعضها من بعض من شدة الغضب عليهم. والغيظ : أشد الغضب. ﴿ فوج ﴾ جماعة من الكفار.
﴿ فسحقا لأصحاب السعير ﴾ فبعدا لهم من رحمة الله ؛ وهو دعاء عليهم. والسحق : البعد. يقال : سحق – ككرم وعلم – سحقا ؛ أي بعدا بعدا، فهو السحيق. وأسحقه الله : أبعده، وهو مصدر ناب عن فعله في الدعاء ؛ أي أسحقهم الله سحقا. واللام في " لأصحاب " للتبيين ؛ كما في : سقيا لك، وجدعا له وعقرا.
﴿ وأسروا قولكم... ﴾ أي إسراركم بالنيل من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وجهركم به سيان، فلا يخفى علينا منه شيء، فهو من تتمة الوعيد. نزلت في المشركين الذين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلما أطلعه الله على أمرهم قال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كيلا يسمعه رب محمد.
﴿ ذلولا ﴾ سهلة مذللة مسخرة لما تريدون منها ؛ من مشي عليها، وغرس فيها، وبناء فوقها ؛ من الذل وهو سهولة الانقياد واللين﴿ فامشوا في مناكبها ﴾ جوانبها، أو طرقها وفجاجها أو أطرافها، وهو مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية، وليس أمرا بالمشي حقيقة. ﴿ وإليه النشور ﴾ إحياء الموتى يوم القيامة ؛ فيسألكم هل شكرتم له نعمه أم كفرتم ! ؟
﴿ أأمنتم من في السماء... ﴾ أي أأمنتم من في السماء وهو الله تعالى أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم. والآية من متشابه القرآن. وقد أجمعت القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه بليس كمثله شيء ؛ وقد أوضح الآلوسي هذا غاية الإيضاح في تفسير هذه الآية. ﴿ فإذا هي تمور ﴾ تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها إلى أسفل سافلين، من المور، وأصله التردد في الذهاب والمجئ. يقال : مار يمور، تحرك وجاء وذهب.
﴿ أم أمنتم من في السماء... ﴾ أي بل أأمنتم ! ؟. وهو إضراب عن وعيد شديد بعذاب أرضي وقع مثله لقارون، إلى وعيد سماوي وقع مثله لقوم لوط وأصحاب الفيل. والحاصب : الريح فيها حجارة، أو هي الحجارة المرسلة من السماء. ﴿ فستعلمون كيف نذير ﴾ أي كيف إنذاري عند مشاهدتكم للمنذر به ؟ ولكن لا ينفعكم العلم.
﴿ ولقد كذب الذين من قبلهم... ﴾ تحذير لهم مما وقع للأمم الماضية من العذاب حين أصروا على الكفر ليعتبروا به.
﴿ أو لم يروا إلى الطير فوقهم ﴾ تصوير لقدرته تعالى، وأن من قدر على إمساك الطير في السماء عند الصف والقبض، قادر على أن يخسف بهم الأرض، ويرسل عليهم الحاصب. ﴿ صافات ﴾ باسطات أجنحتهن في الهواء عند الطيران. ﴿ ويقبضن ﴾ يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن حينا فحينا للاستظهار بها على التحرك. ﴿ ما يمسكهن ﴾ في الجو في الحالين﴿ إلا الرحمان ﴾ الذي وسعت رحمته كل شيء، ووهب كل شيء خاصته.
﴿ أم من هذا الذي هوجند... ﴾ تبكيت لهم بنفي أن يكون لهم ناصر غير الله، إذا أراد أن يخسف بهم الأرض.
﴿ أمن هذا الذي يرزقكم... ﴾ تبكيت آخر بنفي الرزاق لهم إن أمسك رزقه عنهم ؛ فلم يرسل لهم المطر، وأرسل بدله حاصبا من السماء. ﴿ بل لجوا ﴾ تمادوا في اللجاج، وهو تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه. ﴿ في عتو ﴾ استكبار وطغيان﴿ ونفور ﴾ شرود وتباعد عن الحق.
﴿ أفمن يمشي مكبا على وجهه.... ﴾ المكب : الساقط على وجهه. يقال : كبه وأكبه، قلبه وصرعه. وهو مثل ضربه الله للكافر والمؤمن ؛ أي أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة ؛ لتوعر طريقه واختلافه بانخفاض وارتفاع، أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه، أم من يمشي قائما سالما من الخليط والعثار على طريق مستو، لا اعوجاج فيه ولا انحراف !
﴿ ذرأكم في الأرض ﴾ خلقكم وبثكم وكثركم فيها.
﴿ متى هذا الوعد ﴾ أي الموعود وهو الحشر.
﴿ فلما رأوه زلفة ﴾ فلما رأوا العذاب يوم القيامة قريبا منهم﴿ سيئت وجوه الذين كفروا ﴾ ساءت رؤيته وجوههم، بأن غشيتها كآبة وذلة. و " زلفة " حال من مفعول " رأوه " وهو اسم مصدر لأزلف إزلافا. ﴿ تدعون ﴾ تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكارا واستهزاء ؛ من الدعاء بمعنى الطلب. ويؤيده قراءة " تدعون " بسكون الدال.
﴿ أرأيتم ﴾ أخبروني﴿ إن أهلكني الله ﴾ أي أماتني كما تتمنون !
﴿ غورا ﴾ غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء. وكان ماؤهم من بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي. يقال : غار يغور غورا، إذا نضب. مصدر وصف به للمبالغة، أو مؤول باسم الفاعل. ﴿ فمن يأتيكم بماء معين ﴾ جار، أو ظاهر تراه العيون، وتناله الأيدي والدلاء كمائكم.
والله أعلم.