تفسير سورة المزّمّل

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة المزمل
أهداف سورة المزمل
( سورة المزمل مكية، وآياتها ٢٠ آية، نزلت بعد سورة القلم )
وهي سورة تحمل النداء الإلهي للنبي الكريم بقيام الليل، وقد جعله الله فريضة في حقه، نافلة في حق أمته.
قال تعالى : ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. ( الإسراء : ٧٩ ).
وفي كتب السنة ما يفيد أن هذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش بين قومه في الجاهلية، ثم حبب الله إليه الخلوة ليتأمل في ملكوت السماوات والأرض، وليعده الله لتحمل أعباء الرسالة، ثم فجأة الوحي وهو في غار حراء، حيث قال له جبريل : اقرأ، قال النبي :( ما أنا بقارئ ) ثلاث مرات، فقال جبريل : اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علّم بالقلم* علّم الإنسان ما لم يعلم. ( العلق : ١-٥ ).
وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة وأخبرها الخبر، فقالت له : أبشر يا ابن عمّ واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
ثم فتر الوحي مدة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كان بالجبل مرة أخرى، فنظر فإذا جبريل، فأدركته منه رجفة، حتى جثا وهوى إلى الأرض، وانطلق إلى أهله يرجف يقول :( زملوني، دثروني )، ففعلوا، وظل يرتجف مما به من الروع، وإذا جبريل يناديه : يا أيها المزمل، يا أيها المدثر.
وسورة المزمل تعرض صفحة من تاريخ الدعوة الإسلامية، إنها تنادي النبي الكريم، وتأمره بقيام الليل، والصلاة وترتيل القرآن، والذكر الخاشع المتبتل، والاتكال على الله وحده، والصبر على الأذى، والهجر الجميل للمكذبين، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار.
وتنتهي السورة بلمسة الرفق والرحمة، والتخفيف والتيسير، والتوجيه للطاعات والقربات، والتلويح برحمة الله مغفرته. إن الله غفور رحيم. ( المزمل : ٢٠ ).
والسورة تمثل صفحة من جهاد النبي الكريم، وصحبه الأبرار في سبيل الدعوة إلى الله، وحشد جميع الطاقات من أجل هذه الدعوة، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة داعيا إلى الله، صابرا محتسبا، مهاجرا ومجاهدا ومربيا، وناشرا لدعوة الله بكل ما يملك، منذ قال له القرآن : قم الليل إلا قليلا. ( المزمل : ٢ ).
وكان قيام الليل هو الزاد الروحي، والتعبئة الإلهية لهذا القلب الكريم، حتى يصدع بالدعوة، ويتحمل في سبيلها كل بلاء، وليصبر ويصابر، وليحتسب كل جهد في سبيل الله : واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا. ( المزمل : ١٠ ).
مع آيات السورة
١-٤- أمر الله رسوله أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه، فهو مخير في ذلك، وأن يقرأ القرآن الكريم على مهل وتؤدة، مع حضور القلب لتدبر معانيه وفهم مقاصده.
٥- والقرآن يسره الله للقراءة، ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل في أثره في القلوب، ثقيل في قيمته الراجحة، ومعانيه الراقية، وما فيه من تكاليف وأعباء.
٦- إن قيام الليل هو أكبر موافقة بين القلب واللسان، وأعدل قولا.
٧- وفي النهار متسع لشئون المعاش، ولك فيه تصرف في مهام أمورك، واشتغال بمشاغلك.
٨-٩- واتجه إلى الله بالعبادة وحضور القلب، واذكره وتضرع إليه، في إنابة وطاعة وإخلاص، فهو رب الكون كله، والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود.
١٠- واصبر على ما يقولون في حقك ربك، واهجرهم هجرا جميلا، بأن تجانبهم وتغضى عن زلاتهم ولا تعاتبهم.
١١- ثم توعد المشركين وتهددهم، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : اترك عقابهم لي وحدي، فأنا كفيل بهم، هؤلاء الذين تنعموا في نعمائي، أمهلهم وقتا قليلا من الزمن، وسترى ما يحل بهم.
١٢، ١٣- إن لدينا أنكالا. أي : قيودا ثقيلة توضع في أرجلهم، كلما أرادوا أن يرتفعوا جذبتهم إلى أسفل، ثم هناك الجحيم، والطعام ذو الغصة، الذي يمزق الحلوق، والعذاب الأليم، وكلها جزاء مناسب لمن كفر بنعمة الله.
١٤- ويمتد الهول في يوم القيامة إلى الأرض فتضطرب وتهتز، وإلى الجبال فتتمزق أجزاؤها، وتصير كالصوف المنفوش أو كومة الرمل المهيلة، بعد أن كانت حجارة صماء متماسكة.
١٥، ١٦- ويلتفت القرآن إلى أهل مكة فيخاطبهم، ويهز قلوبهم هزّا، ويخلعها خلعا، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترتجف وتنهار، فيحذرهم مما أصاب فرعون الجبار، وقد أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، ومضمون القول : لقد أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه، فأخذناه أخذا وبيلا، وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم، فاحذروا أن تعصوه فيصيبكم مثل ما أصابه.
١٧، ١٨- وهبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا كما أخذ فرعون، فكيف تتقون عذاب يوم القيامة، وهو هول يشيب الولدان، وتنشق السماء من شدته، وكان وعد الله ثابتا مؤكدا لا خلف فيه، وهو سبحانه فعال لما يريد.
١٩- وأمام هول الآخرة لهم : إن هذه الآيات تذكرة وعبرة، فمن شاء اعتبر بها، واتخذ طريقا إلى الله وهو آمن سالم، قبل مجيء هذا الهول العصيب.
٢٠- وفي الآية الأخيرة من السورة نجد لمسة التخفيف الندية، ودعوة التيسير الإلهي، فقد لبى النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى قيام الليل، ولبى المسلمون الدعوة، وتجافت جنوبهم عن المضاجع، وقاموا الليل حتى تورمت أقدامهم من طول القيام، فقال القرآن : إن ربك يعلم أنك تقوم الليل، ويرى تقلبك في الساجدين، والله يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تاما، فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض، وإن نقصتم شق هذا عليكم، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر، وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسر من الليل على قدر طاقتكم.
وإن لهذا التخفيف حكمة أخرى، وهي أنه علم أن سيكون منكم مرضى، وآخرون يسيحون في الأرض يطلبون من فضل الله بالتجارة أو العلم، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، فقد علم الله أن سيأذن لكم في الانتصار ممن ظلمكم بالقتال، فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل بدون تقيد بقدر محدد، وأقيموا الصلاة المفروضة، وآتوا الزكاة الواجبة، وتصدقوا بعد ذلك قرضا لله، يبق لكم خيره، ويرده الله إليكم أضعافا مضاعفة، وما تقدموا لأنفسكم من صدقة أو عمل صالح في الدنيا، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة، خيرا مما أوتيتم في دار الدنيا، وأعظم منه أجرا، واتجهوا إلى الله مستغفرين، إن الله غفور رحيم.
إنها لمسة الرحمة والتخفيف بعد عام من الدعوة إلى القيام، وقد خفف الله عن المسلمين فجعل قيام الليل لهم تطوعا لا فريضة.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى نهجه مع ربه، لا يقل قيامه عن ثلث الليل، يناجي ربه ويستمد منه العون والتوفيق في أداء رسالته. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ( هود : ٨٨ ).
خلاصة أحكام السورة
أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بما يأتي :
١- قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه.
٢- قراءة القرآن بتؤدة وتمهل.
٣- ذكر ربه ليلا ونهارا بالتحميد والتسبيح والصلاة.
٤- التوكل على الله والاعتماد عليه.
٥- الصبر على ما يقول الكفار عنه من أنه ساحر أو شاعر، وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم، وأن يكل أمرهم إلى ربهم فهو الذي يجازيهم، وسيرى عاقبة أمرهم.
٦- التخفيف من صلاة الليل، بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة، والاكتفاء بما تيسر من صلاة الليل، ففي الصلاة المفروضة غنية للأمة، مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار.

نداء إلهي
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يا أيها المزّمل ١ قم الليل إلا قليلا ٢ نصفه أو انقص منه قليلا ٣ أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا ٤ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ٥ إن ناشئة الليل هي أشدّ وطئا وأقوم قيلا ٦ إن لك في النهار سبحا طويلا ٧ واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا ٨ رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ٩ ﴾
المفردات :
المزمل : المتلفّف بثيابه ( النبي صلى الله عليه وسلم ).
الليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
نصفه وانقص منه قليلا : انقص من النصف قليلا إلى الثلث.
أو زد عليه : إلى الثلثين، والمراد به التخيير بين قيام النصف، والناقص منه، والزائد عليه، فهو صلى الله عليه وسلم مخيّر بين قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه.
رتّل القرآن : اقرأه بتمهّل وتبيين حروف.
التفسير :
١، ٢، ٣، ٤- يا أيها المزّمل* قل الليل إلا قليلا* نصفه أو انقص منه قليلا* أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا.
أول ما بدئ به صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء، يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، ثم يعود إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء، حيث ضمّه الملك ضمّا شديدا حتى بلغ منه صلى الله عليه وسلم الجهد، وأرسله فقال : اقرأ. قال صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ، أي لا يعرف القراءة، وتكرر ذلك ثلاث مرات.
ثم قال له : اقرأ باسم ربك الذي خلق. ( العلق : ١ ).
وعاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة فدخل على خديجة، وأخبرها الخبر، ثم قال :( زمّلوني، دثّروني ). أي : غطوني ولفّوني في ثياب، ليهدأ روعه صلى الله عليه وسلمi.
وسورة المزمّل هي السورة الرابعة في النزول، سبقتها سورة العلق، ثم ن، ثم المدّثر، ثم نزلت المزمّل.
يا أيها المزمل.
يا أيها المتلفف بثيابه.
وقيل : كان ذلك تذكيرا له باللحظة التي كان فيها بعد نزول الوحي أوّل مرة، وناداه الله بذلك تأنيسا لقلبه، وملاطفة له.
وقيل : يا أيها المزمّل بالنبوة، والملتزم بالرسالة.
قم الليل إلا قليلا.
شمّر عن ساعد الجدّ، واهجر المنام، واستعدّ للقيام بين يدي الملك العلام، إنها فترة الإعداد لتلقي الوحي، والجهاد في سبيل تبليغ الرسالة، وهذه المهمة تحتاج إلى تعبئة روحية، وشدة اتصال بين المخلوق والخالق، أي : استعدّ لقيام الليل، إلا القليل منه تقضيه في النوم والراحة، للاستعانة بذلك على تبليغ الرسالة.
نصفه أو انقص منه قليلا
أي : قم نصف الليل، أو أقل من النصف قليلا، وهو الثلث.
أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا.
أو زد على النصف إلى الثلثين، فخيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قيام نصف الليل، أو أقل منه قليلا وهو الثلث، أو أزيد من النصف وهو الثلثان.
وقيل : خيّر بين قيام نصف الليل، أو ربعه، أو ثلاثة أرباعه، والرأي الأوّل أولى.
ورتّل القرآن ترتيلا.
اقرأ القرآن في عناية وترتيل وتبيين، وتجميل للصوت، وأداء حسن، فإن ذلك أعون على تبيّن المعاني، وانشغال القلب مع اللسان.
روى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( زينوا القرآن بأصواتكم ).
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم :( ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن )ii.
أي : يحسّن صوته ويجمّله، ويهذّبه ويجوّده، ليعظّم تأثير القرآن في قلوب سامعيه.
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري :( لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود ). iii. فقال أبو موسى الأشعري : يا رسول الله، لو كنت أعلم أنك تسمع لحبّرته لك تحبيرا.
المفردات :
قولا ثقيلا : شاقا على المكلّفين، أو له وزن واعتبار حيث يكون سببا في هداية أمّة.
التفسير :
١- إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا.
أي : تهيأ روحيا بقيام الليل، واستعد للمناجاة والصلاة والتهجد، وشفافية الروح والعبادة والمناداة، لأن وحيا ثقيلا من عالم الغيب، سيصل إليك مع جبريل الروح الأمين.
أو لأن هذا القرآن كلام الله، مشتمل على الأمر والنهي والحلال والحرام، والتشريع والقصص، وهو كلام له وزن وقيمة وثقل، وليس كلاما سفسافا لا ثقل له.
أو هو ثقيل في ميزان العبد يوم القيامة.
أو هو يحرّك القلب والنفس والفؤاد إلى معرفة الخالق، والتجاوب مع هذا الكون الخاضع لأمر الله تعالى.
قال تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون. ( الحشر : ٢١ ).
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقا. iv.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير :
والمراد من كونه ثقيلا هو عظم قدره وجلاله خطره، وكل شيء عظم خطره فهو ثقيل، وهذا معنى قول ابن عباس : قولا ثقيلا. يعني كلاما عظيما.
المفردات :
ناشئة الليل : العبادة التي تنشأ به وتحدث، أو إحياء ما بين المغرب والعشاء، أو إحياء الساعات التالية لصلاة العشاء.
أشد وطئا : ثباتا للقدم، ورسوخا في العبادة، وقيل : أكثر مواطأة وتوافقا بين القلب واللسان.
أقوم قيلا : أثبت قراءة لحضور القلب فيها.
التفسير :
٢- إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا.
ناشئة الليل. ساعات الليل، وقيل : الصلاة بين المغرب والعشاء، وقيل : ناشئة الليل هي الساعات التي تلي صلاة العشاء، وقيل : هي الثلث الأخير من الليل.
وفي الصحيح :( ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول : يا عبادي، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من طالب حاجة فأقضيها له، حتى يطلع الفجر ). v.
وقيل : ناشئة الليل هي جميع ساعات الليل وأوقاته، حيث جعل الله ليلا سباتا، ونوما وراحة، فقيام المؤمن يصلّي في ظلام الليل، وقد غارت النجوم، ونامت العيون، وبقي الله الحي القيوم، يجعل لهذه الصلاة مذاقا خاصّا، حيث يترك المؤمن فراشه ويتجافى عنه، ويدعو ربه.
كما قال تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون* فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون. ( السجدة : ١٦، ١٧ ).
وقال تعالى : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون. ( الذاريات : ١٧، ١٩ ).
وفي الحديث الشريف :( عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومطردة للدّاء عن الجسد ). vi.
وقيام الليل يكون سببا في نور القبور على أصحابها، وفي قيام الليل صفاء وهدوء وراحة وسعادة، وموافقة القلب للسان، وتغلّب على الخلود إلى النوم.
ومعنى الآية :
إن ناشئة الليل. ما ينشأ في ساعات الليل بعد العشاء.
هي أشدّ وطئا. أجهد للبدن، أو أشد مواطأة وموافقة بين القلب واللسان.
وأقوم قيلا. أثبت وأبين قولا لهدوء الأصوات، وانقطاع الحركات، وذلك أعون للنفس على التدبّر والتأمل في أسرار القرآن ومقاصده.
المفردات :
سبحا : تصرفا وتقلبا في شواغلك.
التفسير :
٣- إن لك في النهار سبحا طويلا.
السبح هنا هو التصرف في الأعمال والأشغال.
لقد الله النهار معاشا، وفيه تصرف وتقلّب واشتغال طويل بشئون الإنسان، فليكن الليل وهدوءه مبعث العبادة والمناجاة وذكر الله، أي : يكفيك النهار للتصرف في أشغالك، وتفرغ بالليل لعبادة ربك.
المفردات :
تبتل إليه تبتيلا : انقطع إلى عبادته تعالى، واستغرق في مراقبته.
التفسير :
٤- واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا.
اذكر ربك بالتسبيح والتهليل، والتحميد والاستغفار، وتلاوة القرآن والتهجّد.
وتبتّل إليه تبتيلا.
انقطع إليه انقطاعا، أي : حين تذكر الله اجمع مع ذكر اللسان موافقة القلب، والتفرغ لعبادته ومناجاته، والصفاء والنقاء في ذكره.
والتبتل. هو الاشتغال الدائم بعبادته، والانقطاع لطاعة الله تعالى.
ومنه قولهم : امرأة بتول، أي : منقطعة عن الزواج، ومتفرغة للعبادة الله.
وهذا الانقطاع والتفرّغ مقصود به : انشغال الجوارح والذهن والفكر في وقت الذكر بالله.
وقي الحديث الشريف :( أوصاني ربي بتسع : الإخلاص لله في السر والعلن، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب، وأن أعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأعطى من حرمني، وأن يكون صمتي فكرا، ونطقى ذكرا، ونظري عبرا ).
وقد أمرنا الله تعالى بذكره وشكره وحسن عبادته، ومن الدعاء :( اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).
وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا* وسبّحوه بكرة وأصيلا* هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما. ( الأحزاب : ٤١-٤٣ ).
ولعلّ ذلك أعون على تلقي الوحي والنهوض بشئون الرسالة.
٥- رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا.
هو سبحانه وتعالى رب المشرق الذي تشرق منه الشمس، والمغرب الذي تغرب منه الشمس، والمراد أن الجهات كلها لله وتحت تصرفه.
لذلك ورد في القرآن الكريم :
رب المشرقين ورب المغربين. ( الرحمان : ١٧ ).
أي : مشرقي الشمس والقمر ومغربيها، أو مشرقي الصيف والشتاء ومغربيها.
وورد في القرآن الكريم أيضا قوله تعالى : فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون. ( المعارج : ٤٠ ).
أي : مشارق الشمس التي هي ٣٦٠ مشرقا، بعدد أيام السنة، ومغاربها التي هي ٣٦٠ مغربا، بعدد أيام السنة. وكذلك مشارق القمر والكواكب ومغاربها.
لا إله إلا هو... لا إله غيره، ولا ربّ سواه.
فاتخذه وكيلا. فاعتمد عليه، وفوّض أمرك إليه، وتوكّل عليه حق التوكل.
قال تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا. ( الطلاق : ٣ ).
ونحو الآية قوله تعالى : فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميّا. ( مريم : ٦٥ ).
وقوله سبحانه وتعالى : إياك نعبد وإياك نستعين. ( الفاتحة : ٥ ).
تهديد الكفار وتوعدهم
﴿ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ١٠ وذرني والمكذبين أولي النّعمة ومهّلهم قليلا ١١ إنّ لدينا أنكالا وجحيما ١٢ وطعاما ذا غصّة وعذابا أليما ١٣ يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ١٤ إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ١٥ فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ١٦ فكيف تتّقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ١٧ السماء منفطر به كان وعده مفعولا ١٨ إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ١٩* ﴾
المفردات :
هجرا جميلا : اعتزالا حسنا لا جزع فيه.
تمهيد :
ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والهجر الجميل، ثم ذكر سبحانه وتعالى أهوال يوم القيامة وشدائده التي يشيب الولدان من هولها، وتتشقّق السماء منها.
التفسير :
٦- واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا.
اصبر يا محمد على ما يقولون في حقك وحق ربك، فقد قالوا : شاعر وكاهن ومجنون، ويختلق أساطير الأولين، كما قالوا عن الله : إن له صاحبة، وإن له ولدا. أي تذرع بالصبر، فالداعية محتاج إليه ليبلّغ دعوته، ومحتاج إلى الصبر في تحمّل الأذى.
قال تعالى : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل... ( الأحقاف : ٣٥ ).
واهجرهم هجرا جميلا.
أي : بلّغ دعوتك إليهم، وليس عليك هداهم، إن عليك إلا البلاغ، ثم تنحّ
عنهم، ولا ترد على أذاهم، ولا تقابل الإساءة بمثلها، والهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه.
قال الإمام الرازي :
والمعنى : إنّك لمّا اتخذتني وكيلا، فاصبر على ما يقولون، وفوّض أمرهم إليّ، واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين : في كيفية معاملتهم مع الله، وقد ذكر سبحانه ذلك في الآيات السابقة، وفي كيفية معاملتهم مع الخلق، وقد جمع سبحانه وتعالى كل ما يحتاج إليه في هذا الباب في هاتين الكلمتين.
وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطا للناس، أو مجانبا لهم، فإن كان مخالطا لهم فعليه أن يصبر على إيذائهم... وإن كان مجانبا لهم فعليه أن يهرجهم هجرا جميلا... بأن يجانبهم بقلبه وهواه، ويخالفهم في أفعالهم، مع المداراة والإغضاء. اه.
وقال أبو الدرداء : إنا لنبشّ في وجوه أقوام ونضحك إليهم، إن قلوبنا لتبغضهم أو لتلعنهم.
والمؤمن محتاج إلى الحكمة وإلى حسن التصرّف، وفعل الأمر المناسب في الوقت المناسب.
قال تعالى : يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذّكر إلا أولوا الألباب. ( البقرة : ٢٦٩ ).
تمهيد :
ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والهجر الجميل، ثم ذكر سبحانه وتعالى أهوال يوم القيامة وشدائده التي يشيب الولدان من هولها، وتتشقّق السماء منها.
المفردات :
ذرني والمكذبين : دعني وإياهم فسأكفيكهم.
أولي النّعمة : أصحاب التنعم والترفّه، وبكسر النون الإنعام.
مهلهم قليلا : أمهلهم زمانا قليلا، بعده النكال.
التفسير :
٧- وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهّلهم قليلا.
روى أن هذه الآية نزلت في صناديد قريش، ورؤساء مكة من المستهزئين.
والمعنى :
استرح أنت يا محمد، واترك هؤلاء المكذبين المترفين بالنعمة، المغرمين باللذائذ والشهوات، وأمهلهم بعض الوقت، فإنه يوشك أن ينزل بهم عذابي وانتقامي، والآية واردة مورد الوعيد والتهديد، فقد كانوا على جانب من الغنى والجاه والنّعمة، لكنهم لم يشكروا الله على نعمته، ولم يصدّقوا رسوله، فاستحقّوا العقاب والهزيمة يوم بدر، ولهم عقاب آخر في الآخرة.
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : نمتّعهم قليلا لم نضطرّهم إلى عذاب غليظ. ( لقمان : ٢٤ ).
قالت عائشة رضي الله عنها : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر.
تمهيد :
ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والهجر الجميل، ثم ذكر سبحانه وتعالى أهوال يوم القيامة وشدائده التي يشيب الولدان من هولها، وتتشقّق السماء منها.
المفردات :
أنكالا : جمع نكل، وهو القيد الثقيل أو الشديد.
ذا غصة : يغصّ به فلا يستساغ في الحلق، كالضريع والزقّوم، والغسلين والشوك من نار، فلا يخرج ولا ينزل.
التفسير :
١٢، ١٣- إن لدينا أنكالا وجحيما* وطعاما ذا غصّة وعذابا أليما.
إن عندنا لهؤلاء الكفار المكذبين بهدى السماء، قيودا وأغلالا، ونارا متقدة مؤججة مضطربة. جحيما. وطعاما ذا شوك يأخذ بالحلق، فلا يدخل ولا يخرج، كالضريع والزقوم والغسلين. وألوانا أخرى من العذاب المؤلم، من بينها الهوان والمذلّة والقتام، وتوقّع ألوان العذاب.
قال تعالى : ووجوه يومئذ باسرة* تظن أن يفعل بها فاقرة. ( القيامة : ٢٤، ٢٥ ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:تمهيد :
ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والهجر الجميل، ثم ذكر سبحانه وتعالى أهوال يوم القيامة وشدائده التي يشيب الولدان من هولها، وتتشقّق السماء منها.

المفردات :

أنكالا : جمع نكل، وهو القيد الثقيل أو الشديد.
ذا غصة : يغصّ به فلا يستساغ في الحلق، كالضريع والزقّوم، والغسلين والشوك من نار، فلا يخرج ولا ينزل.

التفسير :

١٢، ١٣- إن لدينا أنكالا وجحيما* وطعاما ذا غصّة وعذابا أليما.
إن عندنا لهؤلاء الكفار المكذبين بهدى السماء، قيودا وأغلالا، ونارا متقدة مؤججة مضطربة. جحيما. وطعاما ذا شوك يأخذ بالحلق، فلا يدخل ولا يخرج، كالضريع والزقوم والغسلين. وألوانا أخرى من العذاب المؤلم، من بينها الهوان والمذلّة والقتام، وتوقّع ألوان العذاب.
قال تعالى : ووجوه يومئذ باسرة* تظن أن يفعل بها فاقرة. ( القيامة : ٢٤، ٢٥ ).

تمهيد :
ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والهجر الجميل، ثم ذكر سبحانه وتعالى أهوال يوم القيامة وشدائده التي يشيب الولدان من هولها، وتتشقّق السماء منها.
المفردات :
يوم ترجف الأرض : تضطرب وتتزلزل ( يوم القيامة ).
كثيبا مهيلا : رملا مجتمعا، سائلا منهالا.
التفسير :
١٣- يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا.
إن ألوان العذاب والجحيم، وأهوال القيامة وآلامها التي تحيق بالكافرين تكون يوم يمتد الهول إلى الكون كلّه، فترتجف الأرض وتهتزّ، وتميد بأهلها، وتتزلزل زلزالا شديدا.
ويحدث مثل ذلك للجبال، فتتحول إلى رمال مجتمعة، رخوة لينة متحركة، لا تثبت عليها الأقدام.
قال تعالى : إذا زلزلت الأرض زلزالها* وأخرجت الأرض أثقالها. ( الزلزلة : ١، ٢ ).
وقال سبحانه : وسيّرت الجبال فكانت سرابا. ( النبأ : ٢٠ ).
وقال تعالى : وإذا الجبال نسفت. ( المرسلات : ١٠ ).
والمراد : ما أعظم هول هذا اليوم، وما أشد زلازله.
يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار* وترى المجرمين يومئذ مقرّنين في الأصفاد* سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار* ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب. ( إبراهيم : ٤٨ -٥١ ).
م/١٠
المفردات :
أخذا وبيلا : شديدا ثقيلا، وخيم العقبى.
التفسير :
١٥، ١٦- إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا* فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا.
من شأن القرآن أن يلوّن القول ويصرّفه، وقد كانت آيات سابقة تتحدث عن ألوان العذاب في الآخرة، وعن أهوال القيامة، وهنا جابه القرآن أهل مكة وكل من كذّب الرسل.
والمعنى : لقد أرسلنا إليكم رسولا كريما، هو خاتم المرسلين، وإمام المتقين، وصاحب الخلق العظيم، وسيشهد عليكم يوم القيامة بأنه بلغكم الرسالة، وأدى الأمانة، وقدّم النصيحة، وقد قابلتموه بالتكذيب والإيذاء، مع أنه ولد بينكم، وعرفتم صدقه وأمانته، ثم استكثرتم عليه الرسالة والنبوة، لأنه يتيم فقير.
وقد أرسلنا رسولا سابقا إلى فرعون ملك مصر، فعصى فرعون الرسول، وكذّب موسى واستكبر، فأغرقه الله في الماء، وانتقم منه انتقاما مريعا، وعذبه عذابا ثقيلا غليظا وبيلا.
وستكون عاقبتكم أشد وأنكى من فرعون، ورسولكم سيشهد عليكم بأفعالكم، ولو آمنتم لشهد لكم بهذا الإيمان.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:م/١٠

المفردات :

أخذا وبيلا : شديدا ثقيلا، وخيم العقبى.

التفسير :

١٥، ١٦- إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا* فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا.
من شأن القرآن أن يلوّن القول ويصرّفه، وقد كانت آيات سابقة تتحدث عن ألوان العذاب في الآخرة، وعن أهوال القيامة، وهنا جابه القرآن أهل مكة وكل من كذّب الرسل.
والمعنى : لقد أرسلنا إليكم رسولا كريما، هو خاتم المرسلين، وإمام المتقين، وصاحب الخلق العظيم، وسيشهد عليكم يوم القيامة بأنه بلغكم الرسالة، وأدى الأمانة، وقدّم النصيحة، وقد قابلتموه بالتكذيب والإيذاء، مع أنه ولد بينكم، وعرفتم صدقه وأمانته، ثم استكثرتم عليه الرسالة والنبوة، لأنه يتيم فقير.
وقد أرسلنا رسولا سابقا إلى فرعون ملك مصر، فعصى فرعون الرسول، وكذّب موسى واستكبر، فأغرقه الله في الماء، وانتقم منه انتقاما مريعا، وعذبه عذابا ثقيلا غليظا وبيلا.
وستكون عاقبتكم أشد وأنكى من فرعون، ورسولكم سيشهد عليكم بأفعالكم، ولو آمنتم لشهد لكم بهذا الإيمان.

١٧-فكيف تتّقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا.
لقد حذّرهم القرآن وأنذرهم، ووضع أمام أبصارهم مشاهد القيامة التي يشيب منها الوليد، من طول ذلك اليوم وشدة هوله، فالآلام والأحزان تشيّب الإنسان قبل أوان شيبه.
قال أبو الطيب المتنبي :
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وفي وصايا قدماه المصريين، يقول أبي لابنه :( يا بني، تخيّر امرأة بسيطة، صغيرة في آمالها وتطلعاتها، فالمرأة التي لا تقنع تشيّبك قبل المشيب ).
تمهيد :
ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والهجر الجميل، ثم ذكر سبحانه وتعالى أهوال يوم القيامة وشدائده التي يشيب الولدان من هولها، وتتشقّق السماء منها.
المفردات :
السماء منفطر به : شيء منشق في ذلك اليوم لهوله.
كان عوده مفعولا : إن وعده تعالى بمجئ ذلك اليوم كائن لا محالة.
التفسير :
١٨- السماء منفطر به كان وعده مفعولا.
إن أهوال ذلك اليوم تصيب البشر، فيشيب الصبي من هول هذا اليوم، فكيف بالكافر الفاجر ؟
والسماء القوية المتماسكة تنشقّ على غلظها، وتنفطر وتتشقق بسبب القيامة.
قال تعالى : ويوم تشقّق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلا* الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا. ( الفرقان : ٢٥، ٢٦ ).
كان وعده مفعولا.
كان وعد الله واقعا لا خلف فيه، فما شاء الله فعل، وما أراده كان مفعولا وواقعا لا محالة.
قال المفسرون : أي كان وعد ربك نافذا ومفعولا، لأنه سبحانه لا يخلف موعوده.
( وبينما تزلزل هذه الآيات قوائم المكذبين، تنزل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة المستضعفة بردا وسلاما. إذ يحسّون أن ربهم معهم، وأن الله لا يدع أولياءه لأعدائه، ولو أمهل أعداءه إلى حين )vii.
تمهيد :
ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والهجر الجميل، ثم ذكر سبحانه وتعالى أهوال يوم القيامة وشدائده التي يشيب الولدان من هولها، وتتشقّق السماء منها.
١٩- إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا.
إن هذه الآيات التي سبقت، والمواعظ التي اشتملت عليها، ومشاهد القيامة فيها تذكرة للناس، وتنبيه للأفئدة، وإيقاظ للضمائر، وتوجيه للقلوب حتى تتجه إلى ربها، وتتذكّر آخرتها، وتفيق من غفلتها، فمن شاء الهداية فباب الله مفتوح، والطريق إليه واسع، فمن تحرك في قلبه الإيمان فليطرق باب الله تعالى.
قال تعالى : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ( النساء : ١١٠ ).
ختام سورة المزمل
﴿ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدّر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ٢٠ ﴾
المفردات :
أدنى : أقل.
والله يقدّر الليل والنهار : يعلم مقادير ساعاتهما.
أن لن تحصوه : لا يمكنكم الإحصاء، وضبط الساعات.
فتاب عليكم : بالترخيص في ترك القيام المقدّر، ورفع التبعة عنكم.
فاقرؤوا ما تيسر من القرآن : فصلّوا ما تيسر لكم من صلاة الليل.
يضربون في الأرض : يسافرون فيها للتجارة ونحوها.
وأقرضوا الله : أنفقوا في سبيل الخير عن طيب نفس.
تمهيد :
بدأت السورة بالأمر بقيام الليل، واستمر هذا الأمر مدة سنة، يقوم فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبعد مرور سنة نزلت الآية الأخيرة من سورة المزمّل، ترخص لهم في ترك القيام لمدة واجبة كالثلث أو النصف أو ثلثي الليل، وتترك لهم قيام الليل ندبا واستحسانا، أو تلاوة شيء من القرآن ليلا بدل صلاة الليل، وظلت صلاة الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم، في أرجح الأقوال، ونسخت فرضية قيام جزء من الليل على أصحابه، وأمروا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقة.
التفسير :
٢٠- إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدّر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
تمثّل هذه الآية الحنان واللطف والفضل الإلهي، والرحمة والتربية المثلى، فقد شاء الله أن يأمر الأمّة بقيام الليل في أول الإسلام، ليغرس في قلوبها الإيمان والصفاء والمناجاة والجهاد، والاستعداد لتحمل تبعات الدعوة.
وبعد عام من قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه، نسخ الله ذلك عنهم والتمس لهم العذر، لأنهم لا يسهل عليهم إحصاء الثلث أو النصف أو الثلثين، فربما زادوا وأقاموا الليل كله أو جلّه، كنوع من الاحتياط، والله تعالى هو الذي يحصى ساعات الليل والنهار.
وقد علم الله شاهد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة من أصحابه يقومون جانبا من الليل، لا يقل عن الثلث وربما زاد إلى النصف، أو قريبا من الثلثين، وسجّل الله لهم هذه العبادة، والامتثال لأمر الله العلي الكريم كما سجل لهم صعوبة إحصاء ساعات الليل، فقبل عملهم وتاب عليهم، وأسقط عنهم وجوب قيام جزء من الليل، وندب لهم قراءة ما تيسر من القرآن، أو صلاة ما تيسر من الصلاة، أيا كانت الصلاة، فيمكن أن تكون صلاتي المغرب والعشاء، أو صلاة ناشئة الليل بعد صلاة المغرب، أو صلاة ركعتين فقط، أي افعلوا أي عبادة متيسرة من الصلاة.
وبيّن حيثيات الحكم فيما يأتي :
( أ‌ ) وجود بعض المرضى الذين يشق عليهم قيام الليل.
( ب‌ ) وجود بعض التجار الذين يشغلون نهارهم بالبيع والشراء والسفر، وتحضير ما يلزم للتجارة وشئونها.
( ج ) وجود بعض المجاهدين الذين يقاتلون أعداء الإسلام، رغبة في ثواب الله، ولإزاحة طواغيت الفكر من وجه الإسلام.
من أجل هؤلاء، الذين يشقّ عليهم قيام الليل، مع وجود المرض أو التجارة أو الجهاد، يسر الله عليهم بقراءة ما تيسر من القرآن، وإقامة الصلاة المكتوبة في أوقاتها، بشروطها وخشوعها ونوافلها، وأداء الزكاة المفروضة، وإخراج الصدقة والتطوع بمساعدة الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات، وكل ما يفعله الإنسان من خير أو معروف، أو عبادة أو صلح بين اثنين، أو صلة رحم، أو أي عمل يؤدّي إلى رفع شأن الإسلام، أو نفع المسلمين، يلقى ثواب هذا الخير عند الله يوم القيامة، أعظم أجرا وأوفى ثوابا، وعليكم أن تستغفروا الله وتتوبوا إليه، لتكفير ذنوبكم، ولرفع درجاتكم، فإن الله غفور للمستغفرين، رحيم بالمؤمنين.
قال القرطبي :
غفور. لما كان قبل التوبة رحيم. بكم بعدها.
وفي ختام السورة دعوة للمتعبّدين والمنفقين ومقدمي الخير أن يستغفروا الله، وأن يطلبوا منه الصفح والعفو، إذ ربما كانوا يخلصوا النيّة في الإنفاق، أو لم يحسنوا العمل في الإقراض، وربما تدخلت شهوة خفيّة من حبّ المحمدة، أو التظاهر بالخير بين الناس، فالاستغفار لمحو السيئات ولإخلاص النيّات ولذكر الله وتصحيح العبادات.
نسأل الله أن يرزقنا إصلاح النية، وإخلاص العبادة، وأن يغفر لنا ويرحمنا، كما قال سبحانه وتعالى : واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. ( البقرة : ٢٨٦ ).
وصل اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. آمين.
تم تفسير سورة ( المزمل ) بعد منتصف ليلة الجمعة ٥ من المحرم ١٤٢٢ ه، الموافق ٣٠ من مارس ٢٠٠١، والحمد لله رب العالمين.
i ورد ذلك المعنى في الصحيحين.
ii ليسن منا من لم يتغن بالقرآن :
رواه البخاري في التوحيد ( ٧٥٢٧ ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ). وزاد غيره :( يجهر به ). ورواه أبو داود في الصلاة ( ١٤٦٩، ١٤٧١ ) والدارمي في الصلاة ( ١٤٩٠ ) وفي فضائل القرآن ( ٣٤٨٨ ) وأحمد في مسنده ( ١٤٧٩ ) من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ).
iii لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود :
رواه البخاري في فضائل القرآن ( ٥٠٤٨ ) ومسلم في صلاة المسافرين ( ٧٩٣ ) والترمذي في المناقب ( ٣٨٥٥ ) من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :( يا أبا موسى، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ).
iv ينزل عليك الوحي في اليوم الشديد البرد :
رواه البخاري في بدء الوحي ( ٢ ) والترمذي في المناقب ( ٣٦٣٤ ) من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ). قالت عائشة رضي الله عنها : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
v ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة :
رواه البخاري في الجمعة ( ١١٤٥ )، وفي الدعوات ( ٦٣٢١ )، وفي التوحيد ( ٧٤٩٤ )، ومسلم في صلاة المسافرين ( ٧٥٨ )، ومالك في الموطأ، كتاب النداء إلى الصلاة ( ٤٩٦ )، وأبو داود في الصلاة ( ١٣١٥ ) وفي السنة ( ٤٧٣٣ )، والترمذي في الصلاة ( ٤٦٦ ) وفي الدعوات ( ٣٤٩٨ )، والدارمي في الصلاة ( ١٤٧٨، ١٤٧٩، ١٤٨٤ )، وابن ماجه في إقامة الصلاة ( ١٣٦٦ )، وأحمد ( ٧٤٥٧، ٧٥٣٨، ٧٥٦٧، ٣٧٣٣، ٨٧٥١، ٩٩٤٠، ١٠١٦٦، ١٠١٧٧، ١٠٣٧٧، ١٠٩٠٢، ١١٤٨٢، ٢٧٦٢٠ ) من حديث أبي هريرة. ورواه الدارمي في الصلاة ( ١٤٨٠ )، وأحمد ( ١٦٣٠٣، ١٦٣٠٥ ) من حديث جبير بن مطعم. ورواه أحمد ( ١٥٧٨٢، ١٥٧٨٥ ) من حديث رفاعة الجهني. ورواه أحمد ( ٣٦٦٤، ٣٨١١، ٤٢٥٦ ) من حديث ابن مسعود. ورواه الدارمي في الصلاة ( ١٤٨٣ ) من حديث علي.
vi عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم :
رواه الترمذي في الدعوات ( ٣٥٤٩ )، من حديث بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد ).
قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث بلال إلا من هذا الوجه ولا يصح من قبل إسناده، قال : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : محمد القرشي هو محمد بن سعيد الشامي وهو ابن أبي قيس وهو محمد بن حسان وقد ترك حديثه، وقد روى هذا الحديث معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة للإثم ). قال أبو عيسى : وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال.
vii في ظلال القرآن، بتصرف واختصار.
Icon